تفسير سورة الجاثية

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ حـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ ﴾؛ ﴿ حـمۤ ﴾ مبتدأٌ وخبرهُ ﴿ تَنزِيلُ ﴾، وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لأيَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي لدَلالاَتٍ على الحقِّ تدلُّ بخلقِها على أنَّ لها خالقاً قَديماً لا أوَّلَ له، ويدلُّ تعظِيمُها وبقاؤها من غيرِ علاقةٍ فوقَها ولا عِمَادٍ تحتَها على قادرٍ لا يُعجِزهُ شيءٌ. وقولهُ تعالى ﴿ لأيَٰتٍ ﴾ في موضعِ نصبٍ؛ لأنه اسمُ (إنَّ)، كما يقالُ: إنَّ في الدار لزيداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٌْ ﴾؛ أي وفي خلقِكم حَالاً بعد حالٍ من نُطفةٍ إلى أن يصيرَ إنساناً ثم يصيرَ فيه العقلُ ثم الحواسُّ، وما يبُثُّ من دابَّةٍ على وجهِ الأرض على اختلافِ أجناسِ الدواب ومنافعِها وصُوَرها، وما يقصرُ من منافعِها في ذلك دلالاتٌ واضحة على وحدانيَّة اللهِ تعالى: ﴿ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾؛ يطلُبون علمَ اليقينِ، ويوقِنُون أنَّه لاَ إلهَ غيرهُ. وقرأ حمزةُ (آيَاتٍ) (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) بالكسرِ على أنَّهما منصُوبان نَسَقاً على قولهِ تعالى﴿ إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾[الجاثية: ٣] على معنى وإنَّ في خلقِكم آياتٍ، ومَن رفعَ فعلى الاستئنافِ بعدَ أنْ، تقولُ العرب: إنَّ لِي عليكم مَالاً وعلى أخِيكَ مالٌ، ينصبُون الثاني ويرفعونَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ ﴾؛ أي وفِي ذهابهما ومجيئِهما، وما يحدثُ في كلِّ واحدٍ منهما من الزيادةِ والنُّقصان من غير أنْ يكونا جَميعاً أزيدَ من أربعٍ وعشرين ساعةً.
﴿ وَمَآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ ﴾، وفيما أنزلَ اللهُ من السَّماءِ من المطرِ فأحيَا به الأرضَ بعد يُبسِها، وفي تقَلُّب الرياحِ شمالاً وجَنُوباً وقُبُولاً ودُبُوراً وعَذاباً ورحمةً.
﴿ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾؛ الدلالةَ ويتدبَّرونَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ ﴾؛ أي تلكَ التي سبقَ ذِكرُها دلائلُ اللهِ لعبادهِ يتلُوهَا عليكَ جبريلُ بأَمرِنا بقصصنا عليك بالحقِّ.
﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ﴾، كتاب.
﴿ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾؛ إنْ لم يُؤمِنُوا بهذا القرآنِ. ومَن قرأ بالتاءِ فعلى تأويلِ: قُل لَهم يا مُحَمَّدُ: فبأَيِّ حديثٍ تؤمنون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾؛ يعني النضرَ بن الحارثِ، كان يروي من أحاديثِ العجَمِ للمشركين فيستَملِحُونَ حديثَهُ، وكان إذا سمعَ آياتِ القرآن استهزأ بها، فجعلَ اللهُ له العذابَ مرَّتين، مرَّةً ألِيماً ومرَّة مُهِيناً، وقد ذكرنا تفسيرَ الآيةِ في سُورةِ لقمان. ومعنى الآية: ويلٌ لكلِّ كذابٍ فاجرٍ كثيرِ الإثمِ، يسمعُ القرآنَ يُقرَأُ عليهِ ولا يتدبَّرهُ، ولا يخشعُ لاستماعهِ، بل يُقِيمُ على كُفرهِ مُتَعَظِّماً عن الإيمانِ بالله، كأنْ لَمْ يسمَعْ آياتِ الله، فخَوِّفْهُ يا مُحَمَّدُ بعذابٍ وجيعٍ يَخلُصُ وجعهُ إليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَٰتِنَا شَيْئاً ٱتَّخَذَهَا هُزُواً ﴾؛ أي إذا سمعَ من آياتِ القرآن شَيئاً اتَّخذها هُزُواً.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ ﴾؛ أي لَهم من بعدِ موتِهم جهنَّمُ.
﴿ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً ﴾؛ ولا ينفَعُهم ما كسَبُوا من الأموالِ والأولادِ شيئاً.
﴿ وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ ﴾؛ أربَاباً في دفعِ شيء من عذاب الله.
﴿ وَلَهُمْ ﴾؛ في الآخرةِ؛ ﴿ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾؛ كلُّ ذلك للنَّضرِ بن الحارث وأمثالهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هَـٰذَا هُدًى ﴾؛ أي هذا القرآنُ بيانٌ للحقِّ من الباطلِ في كلِّ ما يحتاجُ إليهِ من أمرِ الدِّين والدُّنيا.
﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِ رَبِّهِمْ ﴾؛ اللهِ أي جحَدُوا دلائلَ اللهِ.
﴿ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾؛ أي عذابٌ من عذابٍ وجيعٍ يخلصُ وجعهُ إلى قلوبهم، وقرئ (ألِيمٌ) بالرفعِ على نعت العذاب، وبالكسرِ على نعتِ الرِّجْزِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ﴾؛ أي هو الذي ذلَّلَ لكم البحرَ بتسهيلِ السبيلِ إلى سُلوكِها باتِّخاذِ السُّفنِ وإصلاحِها.
﴿ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾، وباقي الآيةِ قد تقدَّم تفسيرُها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾؛ من شَمسٍ وقمرٍ ونجوم ومطرٍ وثلج وبَرَدٍ.
﴿ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ من دابَّةٍ وشجَرٍ ونبات وثمارٍ وأنْهَارٍ، ومعنى سَخَّرَهُ لنا: هو أنَّهُ خلَقَها لانتفاعِنا بها على الوجهِ الذي يريدهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ جَمِيعاً مِّنْهُ ﴾؛ أي الكلُّ رحمةٌ منه وبفضلهِ ومَنِّهِ.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾؛ في صُنعِ الله وإحسانهِ، فيُوَحِّدُونَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ ﴾؛ نزَلت في عُمر رضي الله عنه: شَتَمَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ بمَكَّةَ، فَهَمَّ أنْ يَبْطُشَ بهِ، فَأَمَرَهُ اللهُ بالْعَفْوِ وَالتَّجَاوُز. والمعنى: قُل للَّذين آمَنُوا اغْفِرُوا، ولكنه شَبَّهَهُ بالشرطِ والجزاء كقوله تعالى:﴿ قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾[إبراهيم: ٣١].
وقولهُ: ﴿ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ ﴾ أي لا يَخَافُونَ عذابَ اللهِ من إيذائِكُم، فتجاوَزُوا عنهم ليُوَفِّيَهُمُ اللهُ عقابَ سيِّئاتِهم بما عمِلُوا. ويجوزُ أن يكون المعنى: تجاوَزُوا عن الذين لا يَرجُونَ ثوابَ اللهِ للمؤمنين.
﴿ لِيَجْزِيَ ﴾؛ اللهُ.
﴿ قَوْماً ﴾، المؤمنينَ يومَ الجزاءِ.
﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾؛ بما كَانُوا يعملون من الخيراتِ. وَقِيْلَ: إن الآية نزلت في أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كانوا في أذَى شديدٍ من أهلِ مكَّة قبلَ أن يُؤمَرُوا بقتالِهم، فأمرَ اللهُ المؤمنين بتركِ مكافَأَتِهم، ثم نُسخت بقولهِ تعالى﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ﴾[الحج: ٣٩].
وقالَ الحسَنُ: (لَمْ تُنْسَخْ هَذِهِ الآيَةُ، وَهِيَ عَلَى الاسْتِحْبَاب فِي الْعَفْوِ مَا لَمْ يُؤَدُّواْ إلَى الإخْلاَلِ بحَقِّ اللهِ أوْ إلَى إذْلاَلِ الدِّينِ). ﴿ مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ ﴾؛ يعني التوراةَ والإنجيلَ.
﴿ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ﴾؛ أي الفهمَ في الكتاب وفصْلَ الأمرِ، وجَعلنا فيهم الأنبياءَ والرُّسلَ.
﴿ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ ﴾؛ أي من الحلالِ ومِن لذيذِ الأطعمةِ كالْمَنِّ والسَّلوَى وغيرِهما.
﴿ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ ﴾؛ أي على عالَمي زمانِهم بكثرةِ النبيِّين فيهم، وفضَّلَ اللهُ أُمَّةَ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم بكثرةِ العُلماءِ فيهم، والقائمِين بالحقِّ منهم كما قالَ تعالى:﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾[آل عمران: ١١٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ ﴾؛ يعني العلمَ بمبعَثِ النبيِّ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وما بَيَّنَ لَهم من الأمرِ.
﴿ فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾؛ الآيةُ قد تقدَّمَ تفسيرُها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا ﴾؛ أي ثُم أكرَمناكَ يا مُحَمَّدُ بعدَ اختلافِهم فجعلناكَ على طريقةٍ مستقرَّةٍ من الدِّين، فاستقِمْ عليها وادْعُ الخلقَ إليها، ولا تعمَلْ بأهواءِ الذين يخالِفونكَ في أمرِ الدِّين والقِبلة، وهو قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، توحيدَ اللهِ؛ قيل: يعني كفَّارَ قريش.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً ﴾؛ أي لن يدفَعُوا عنكَ من عذاب الله شيئاً إن اتَّبعتَ أهواءَهم.
﴿ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾، يعني المشرِكين أنصارُ بعضِهم بعضاً.
﴿ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾؛ أي ناصرُ المؤمنين المتَّقين الشركَ وهم أُمة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هَـٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ﴾؛ أي هذا القرآنُ عِظَاتٌ للناسِ وعبرةٌ وبيان لهم من الضَّلالةِ ونجاةٌ من العذاب.
﴿ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾؛ أنه من اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾؛ قِيْلَ: إنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ في ثلاثِ نَفَرٍ من المشرِكين؛ وهم عُتبَةُ وشَيبَةُ والوَلِيدُ بنُ عُتبَةَ، بارَزُوا علِيّاً وحمزةَ وعبيدةَ بن الحارث رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يومَ بدرٍ، كانوا يقُولون لَهم: لئِنْ كان مُحَمَّدٌ حقّاً في الآخرةِ لتَفضَّلَ عليكم في الآخرةِ كما فضَّلَنا عليكم في الدُّنيا. ومعنى الآيةِ: أحَسِبَ الذين ﴿ ٱجْتَرَحُواْ ﴾ اكتسَبُوا ﴿ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ المعاصِي ﴿ أَن نَّجْعَلَهُمْ ﴾ فِي الآخرةِ ﴿ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقُرآنِ ﴿ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ من الصَّلاة والزكاةِ. وتَمَّ الكلامُ، ثم قالَ: ﴿ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ﴾، ارتفعَ (سَوَاءٌ) على أنه خبرُ مبتدأ مقدَّمٍ، تقديرهُ: محياهُم ومماتُهم سواءٌ، والضميرُ فيهما يعودُ إلى القبيلتين المؤمنين والكافرين، يقولُ المؤمِنُ مؤمنٌ في محياهُ ومؤمنٌ في مماتهِ، والكافرُ كافرٌ في حياتهِ ومماتهِ. والمعنى: إنَّ المؤمن يموتُ على إيمانهِ ويُبعَثُ عليه، والكافرُ يموت على كُفرهِ ويبعَثُ عليه، يريد مَحيَا القبيلتَين ومَماتَهم سواءٌ. ومَن قرأ (سَوَاءً) بالنصب جعلَهُ مفعولاً ثانياً، فجعلَهُ على تقديرِ: فجعلَ محيَاهم ومماتَهم سواءً، يعني أحَسِبُوا أنَّ حياتَهم وموتَهم كحياةِ المؤمنين وموتِهم؛ كَلاّ؛ وقولهُ تعالى: ﴿ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾؛ أي بئْسَ ما يَقضُونَ حين يرَون أنَّ لهم في الآخرةِ ما للمؤمنين.
﴿ وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ ﴾؛ وذلك أنَّ أهلَ مكَّة كانوا يعبُدون الحجَرَ والخشبَ، فإذا رأوْا ما هو أحسنُ منه، رَمَوا بالأوَّلِ وعبَدُوا الثانِي، فهُم يعبدون ما تَهوَاهُ أنفسُهم، قال قتادةُ: (هُوَ الْكَافِرُ لاَ يَهْوَى مَا شَاءَ إلاَّ رَكِبَهُ، يَبْنُونَ الْعِبَادَةَ عَلَى الْهَوَى لاَ عَلَى الْحُجَّةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ ﴾ ). قال الحسنُ: (اتَّخَذ إلَهَهُ هَوَاهُ لاَ يَعْرِفُ إلَهَهُ بعَقْلِهِ وَإنَّمَا يَعْرِفُهُ بهَوَاهُ). وقولهُ تعالى: ﴿ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ﴾؛ أي خذلَهُ على ما سبقَ في عمَلهِ أنه ضَالٌّ قبلَ أن يخلقَهُ.
﴿ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ ﴾؛ فلم يسمَعِ الهدَى، وعلى ﴿ وَقَلْبِهِ ﴾؛ فلم يعقل الهدى.
﴿ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً ﴾؛ أي ظُلمةً فهو لا يُبصِرُ الهدَى بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي مَن يَهديهِ مِن بعدِ إضلالِ اللهِ لَهُ.
﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾؛ فتعرِفُوا قدرتَهُ على ما يشاءُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا ﴾؛ أي نموتُ نحنُ ويحيَى آخَرُون مِمَّن يأتُون بعدَنا، وقال الزجَّاجُ: (مَعْنَاهُ نُحيي وَنُمِيتُ، وَالْوَاوُ لِلاجْتِمَاعِ) وَالْقَائِلُونَ بهَذا زَنَادِقَةُ قُرَيْشٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ ﴾؛ أي إلاَّ طُولُ الْعُمُرِ واختلافُ الليلِ والنهار.
﴿ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ﴾؛ أي لَمْ يقولوهُ على علمٍ عَلِموهُ، بل قالُوا ضُلاَّلاً شَاكِّين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾؛ وكان هذا القولُ من زنادِقَتهم الذين كانُوا يُنكِرُونَ الصانعَ الحكيمَ، ويزعمُون أنَّ الزمانَ ومُضِيَّ الأوقاتِ هو الذي يُحدِثُ هذه الحوادثَ، يَمُوتُ قومٌ ويحيَا قومٌ.
فيه بيانُ أنَّهم كانوا يتعلَّقون بالْحُجَجِ الباطلةِ، ولو تأَمَّلوا لعَلِمُوا أنَّ دلائلَ معجزاتِ النبيَِّ صلى الله عليه وسلم أوكدُ مما كانوا يطلبُون.
قَوْلُهُُ تَعَالَى: ﴿ وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ﴾؛ أي وترَى أهلَ كلِّ دينٍ باركةً على الرُّكَب متهيِّئةً للحساب والجزاءِ، مُترقِبةً لِمَا يُصنَعُ بها، كما يَنحَنِي بين يدَي الحاكمِ ينتظرُ القضاءَ.
﴿ كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا ﴾؛ أي إلى صحائفِ أعمَالِها، يقالُ لَهم: ﴿ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾؛ في دار الدُّنيا من الخيرِ والشرِّ.
قَوْلُهُُ تَعَالَى: ﴿ هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾؛ يعني كتابَ الحفظِ يقرَؤُونَهُ فيدُلُّهم على ما عَمِلوا، فكأنَّهُ ينطقُ كما يقالُ: نطقَ الكتابُ بتحريمِ الخمرِ، وقولهُ ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ أي بالعدلِ، فيه حسناتُهم وسيِّئاتُهم، وقولهُ تعالى ﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ ﴾ أي نأمرُ الملائكةَ بنَسخِ ما عمِلتُم وتَبيينهِ بياناً شافياً وتثبيتهِ عليكم. وما بعدَها هذا ظاهرُ المعنى: ﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ﴾؛ لبعثٍ.
﴿ وَٱلسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا ﴾؛ أي القيامةُ كائنةٌ من غيرِ شكٍّ.
﴿ قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا ٱلسَّاعَةُ ﴾؛ أنْكَرتُموهم وأظهرتُم الشكَّ فقلتم: ﴿ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾؛ ومَن قرأ (وَالسَّاعَةَ) بالنصب فهو عطفٌ على (وَعْدَ) ﴿ وَبَدَا لَهُمْ ﴾؛ في الآخرةِ.
﴿ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾؛ في الدُّنيا؛ أي ظَهَرَ لهم قَبائِحُ أعمالهم حين عايَنُوا ذلكَ في كتابهم الذي أحْصَى عليهم كلَّ قليلٍ وكثير.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾؛ أي نترُكم في النار، ونتركُ مراعاتَكم وحِفظَكم، ولا نحفظُكم من العذاب كما لم تحفَظُوا حقَّ اللهِ، وتركتُم الإيمانَ والعملَ بلقاءِ هذا اليوم. والنسيانُ ضِدُّ الحفظِ، وقد يكون للتَّركِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ ٱتَّخَذْتُمْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُواً ﴾؛ أي ذلك العذابُ عليكم بسبب أنَّكم اتَّخذتُم كتابَ اللهِ ورسولَهُ استهزاءً.
﴿ وَغَرَّتْكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ حتى قُلتم لا بعثَ ولا حسابَ.
﴿ فَٱلْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ ﴾ أي لا يُطلَبُ رضاهُم، ولا يقالُون؛ لأنه لا يقبل في ذلك اليوم استقالة وقد انقطعتِ المعايَنةُ فلا يُجابون، ولا يُقبَلُ لَهم في " ذلك " اليومِ عُذرٌ ولا توبةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلِلَّهِ ٱلْحَمْدُ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ ٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي للهِ الشُّكر على عظيمِ نَعمائهِ على الخلائقِ كلِّهم.
﴿ وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ وهو المختصُّ بالكبرياءِ في السَّماوات والأرضِ، وله العظَمةُ والجبَروتُ فيهما.
﴿ وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ ﴾؛ في مُلكهِ وسُلطانهِ.
﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾؛ في قضائهِ وأمرهِ لَهُ وَحْدَهُ فِي أعْلَى مَرَاتِب التَّعْظِيمِ لأنه سبحانَهُ لا يجوزُ عليه صفةُ النقصِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" يَقُولُ اللهُ: الْْكِبْرِيَاءُ ردَائِي، وَالْعَظَمَةُ إزَاري، مَنْ نَازَعَنِي وَاحِدَةً مِنْهَا ألْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ ".
Icon