تفسير سورة الكهف

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ ﴾؛ أي الذي أنزلَ على عبدهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ؛ ﴿ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ﴾؛ أي لَم يجعلْهُ مُلْتَبساً لا يُفْهَمُ، ومِعْوَجَاً لا يَسْتَقِيْمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَيِّماً ﴾؛ أي مُستقيماً عَدْلاً؛ أي مُستوياً قيما على الكُتُب كلِّها ناسخاً لشرائعِها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ ﴾؛ أي لِيُنْذِرَ العبدُ الذي أَنزل عليه الكتابُ بَأْساً شَدِيداً؛ أي لينذرَ الكفَّارَ عذاباً شديداً من عندِ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ﴾ أي ثَواباً حَسَناً في الجنة؛ ﴿ مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ﴾؛ أي مُقيمين في ذلك الأجْرِ خالدين فيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً ﴾؛ وهم قريشٌ واليهودُ والنصارى، فإنَّ قُريشاً قالوا: الملائكةُ بناتُ اللهِ، واليهودُ قالوا: عُزَيْرٌ ابنُ الله، والنصارى قالوا: المسيحُ ابن الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ ﴾؛ أي هم وآباؤهم كلُّهم مقلِّدين ليس لَهم على ذلك بيانٌ ولا حُجَّةٌ، بل قالوا جَهْلاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾؛ أي كَبُرَتْ مقالتُهم تلكَ كلمةً تخرجُ من أفواهِهم ما؛ ﴿ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً ﴾؛ و ﴿ كلمةً ﴾ نَصْبٌ على التمييزِ، وإنَّما كَبُرَتْ هذه الكلمةُ؛ لأن صاحبَها يستحقُّ بها العذابَ، ومِن ذلك سُميت الكبيرةُ كبيرةً؛ لأن عقابَها يزيدُ على استطاعة صاحبها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ ﴾؛ فيه نَهْيٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم من إهلاكِ نفسه حُزناً عليهم بسبب إعراضِهم عن الإيْمان لشدَّة شفقتهِ عليهم، وحقيقةُ الأسفِ الحزنُ على من فاتَ. ومعنى الآية: فَلعلَّكَ قاتلٌ نفسَكَ، يقال بَخَعَ الرجلُ نفسَهُ إذا قتلَها غيظاً من شدَّةِ حُزنه على الشيءِ أو وَجْدِهِ بالشيءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَلَىٰ آثَارِهِمْ ﴾ أي مِن بعدهم، يعني مِن بعدِ تولِّهم وإعراضهم عنكَ إن لَم يؤمنوا.
﴿ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ ﴾؛ يعني القُرْآنَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَسَفاً ﴾؛ أي حُزناً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا ﴾؛ أي جعلنا جميعَ ما على الأرضِ مِن الأشجارِ والثِّمار والنباتِ والمياه والذهب والفضةِ والحيوان لهم منها زينةً للأرض، وجعلناها محفوفةً بالشَّهواتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾؛ أي لنأمرَهم فننظُرَ أيُّهُم أعملُ بطاعةِ الله هذا أم هذا. قال الحسنُ: (أيُّهُمْ أزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَأتْرَكُ لَهَا). وقال مقاتلُ: (أيُّهُمْ أصْلَحُ فِيْمَا أُوْتِيَ مِنَ الْمَالِ، وَيُحْسِنُ الْعَمَلَ، وَيَزْهَدُ فِي مَا زُيِّنَ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا). ثُم بيَّن اللهُ تعالى أنه يعني ذلكَ كلَّه؛ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ﴾؛ أي يجعلُ ما عليها من الحيوانِ والنَّبات تُراباً يابساً مستوياً على الأرضِ، والْجُرُزُ الأرضُ التي لا ماءَ فيها ولا نباتَ، ويقالُ: سَنَةٌ جُرُزاً إذا كانت حرَّة. قال عطاءُ: (يُرِيْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْعَلُ اللهُ الأَرْضَ جُرُزاً لاَ مَاءَ فِيْهَا وَلاَ نَبَاتَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ﴾؛ أي لَم يكونوا بأعجبَ، فقد كان مِن آياتنا ما هو أعجبُ من ذلك. قال الزجَّاجُ: (أعْلَمَ اللهُ أنَّ قِصَّةَ أهْلَ الْكَهْفِ لَيْسَتْ بعَجِيْبَةٍ؛ لأَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا أعْجَبُ مِنْ قِصَّةِ أصْحَاب الْكَهْفِ). والكهفُ: الغَارُ فِي الْجَبَلِ، والرَّقِيْمُ: قِيْلَ: هو وادٍ دونَ فلسطين، وهو الوادي الذي فيه أصحابُ الكهفِ، وَقِيْلَ: الرقيمُ لوحٌ من حجارةٍ، وَقِيْلَ: من رصاصٍ كتبوا فيه أسماءَ أهلِ الكهف وقصَّتَهم ثُم وضعوهُ على باب الكهفِ وهو على هذا التأويل بمعنى الْمَرْقُومِ؛ أي المكتوب، والرقيمُ: الْخَطُّ والعلامةُ، والرقيمُ: الكتابةُ. قال ابنُ عبَّاس: (وَذلِكَ أنَّ قُرَيْشاً بَعَثُوا خَمْسَةَ رَهْطٍ إلَى الْيَهُودِ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ أمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لَهُمْ: إنَّهُ يَزْعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَاسْمُهُ مَحَمَّدٌ، وَهُوَ فَقِيرٌ يَتِيمٌ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمٌ، وَإنَّا نَزْعُمُ أنَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنْ مُسَيْلَمَةَ، فَإنَّهُ يَقُولُ: أنَا مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ، وَنَحْنُ لاَ نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إلاَّ رَحْمَنَ الْيَمَامَةِ - يَعْنُونَ مُسَيْلَمَةَ -. فَلَمَّا أتَى هَؤُلاَءِ الرَّهْطُ الْمَدِيْنَةَ، أتَوا أحْبَارَ الْيَهُودِ وَعُلَمَائَهُمْ فَسَأَلُوا عَنْهُ وَوَصَفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ وَخَاتَمَهُ، قَالُوا: نَحْنُ نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ كَمَا وَصَفْتُمُوهُ، وَلَكِنْ سَلُوهُ عَنْ ثَلاَثِ خِصَالٍ، فَإنْ كَانَ نَبيّاً أخْبَرَكُمْ بِخصْلَتَيْنِ، وَلَمْ يُخْبرْكُمْ بالثَّالِثَةِ؟ فَإنَّا سَأَلْنَا مُسَيْلَمَةَ عَنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَلَمْ يَدْرِ مَا هِيَ، وَأنْتُمُ سَلُوهُ عَنْ خَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَعَنِ الرُّوحِ، وَعَنْ أصْحَاب الْكَهْفِ. فَرَجَعُوا وَأخْبَرُوا قُرَيْشاً بذلِكَ، فَسَأَلُوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سَأُخْبرُكُمْ غَداً، وَلَمْ يَقُلْ إنْ شَاءَ اللهُ. فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيْلُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَشُقَّ ذلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ نَزَلَ جِبْرِيْلُ بهَذِهِ الآيَةِ﴿ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾[الكهف: ٢٣ - ٢٤].
ثُم أخبرَهُ عن أصحاب الكهف وحديثِ ذي القرنين وخبرِ أمر الرُّوح، وحدَّثهُ أن مدينةً بالروم كان فيها ملكٌ كافر يدعو إلى عبادةِ الأوثان والنِّيران، ويقتلُ مَن خَالَفَهُ، وفي المدينةِ شابٌّ يدعو إلى الإسلامِ سرّاً، فتابعهُ فتيةٌ من أهلِ المدينة، فَفَطِنَ بهم الملكُ فأخذهم، ودفعَهم الى آبائهم يحفظونَهم، فمرُّوا بغلامٍ راع، فبايَعَهم ومعهُ كلبُهم حتى إذا أتَوا غاراً فدخلوهُ، وألقَى اللهُ عليهم النَّومَ سنين عدداً، والملكُ طالبٌ لَهم لَم يقِفْ على أمرِهم، وَعمِيَ عليه خبرُهم، فسدُّوا بابَ الكهف ليموتوا فيه إن كانوا هنالكَ. ثُم عَمَدَ رجلٌ إلى لوحِ رصاص، فكتبَ فيه أسماءَهم وأسماءَ آبائهم ومدينتَهم، وأنَّهم خرجُوا فراراً من دِين ملكِهم في شهرِ كذا في سنة كذا وألزقَهُ بالسدِّ، وكان السدُّ في داخل الكهفِ، وذكر القصةَ إلى آخرِها، فهذا اللوحُ الرصاص هو الرَّقِيْمُ. فأخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قُريشاً بذلك، فلما أتَوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قولَ اليهودِ أخبرَهم بخصلَتين ولَم يخبرهم بالثالثةِ، قال كفارُ قريشٍ:﴿ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ﴾[القصص: ٤٨].
وقال محمَّدُ ابن اسحاق: (كَثُرَتْ في أهلِ الإنجيلِ الخطايا، وَطَغَتِ الملوكُ حتى عبدُوا الأصنامَ والأوثان، وفيهم بقايا على دينِ المسيحِ بن مريم متمسِّكون بعبادةِ الله وتوحيده. وكان ممن فعلَ ذلك ملكٌ مِن ملوكهم يقالُ له دقيانوس، وكان قد عَبَدَ الأصنامَ وذبَحَ للطواغيت، فسارَ حتى دخل مدينةَ أهلِ الكهف وهي أقسوس. فلما دخلَها عَظُمَ على أهلِ الإيْمان، واسْتَخْفَوْا منهُ وهربوا إلى كلِّ ناحيةٍ، فأراد دقيانوسُ أن يُجْمَعَ له أهلُ الإسلام، واتخذ شُرَطاً من الكُفَّارِ من أهلها وأمرَهم باتباعِ المسلمين، وأحصَرَهم فجعلوا يتبَعُون المسلمين حتى أخذوهم ومَضَوا بهم الى دقيانوس، فخيَّرهم بين القتلِ وبين عبادة الأوثان، فمنهم مَن رَغِبَ في الحياةِ، ومنهم من قالَ: لا أعبدُ غيرَ الله؛ فَقَتَلهُ. فلما رأى ذلك أهلُ الإيْمانِ جعلوا يصبرون للعذاب والقتل، فقتلَهم وقطعَ لحومَهم، وربطها على سورِ المدينة ونواحيها كلِّها، وعلى كلِّ بابٍ من أبوابها حتى عَظُمَتِ الْمِحْنَةُ على المسلمين. فلما رأى الفتيةُ ذلكَ قاموا وصَلَّوا واشتغلوا بالتسبيحِ والدُّعاءِ إلى اللهِ، وكانوا من أشرافِ الرُّوم، وكانوا ثَمانية نَفَرٍ، فَبَكَوا وتضرَّعوا وجعلوا يقولون: رَبُّنَا ربُّ السماواتِ والأرض لن ندعوَ من دونه إلَهاً لقد قُلنا إذاً شَطَطاً، اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنةِ وارفعها عنهم. فبينَا هم كذلكَ إذ دخلوا عليهم الشُّرَطُ إلى مُصَلاَّهُمْ فوجدوهم سُجوداً يبكون ويتضرَّعون إلى اللهِ ويسألونَهُ أن ينجيَهم من دقيانوس وفِتْنَتِهِ، فقالوا لَهم: ما خلفكم من أمرِ الملك، انطلِقُوا اليه. ثُم خرجوا مِن عندهم الى دقيانوس وأخبروهُ بخبرهم، وقالوا: أنتَ تجمعُ الجمعَ وهؤلاء الفتية يعصونَ أمرك، فأرسَلَ إليهم الشُّرَطَ فأتوا بهم تفيضُ أعينُهم من الدَّمعِ، معفورةً وجوهُهم بالتراب، فقال دقيانوس: ما منعَكُم أن تشهدوا الذبحَ للأصنامِ، وتعبدُوها وتجعلوا أنفسَكم كغيرِكم، إختاروا إمَّا تعبدوا الأصنامَ مثل الناسِ، وإما أن نَقْتُلَكُمْ. فقال مكسلمينا: إن لَنَا إلَهاً تَملأُ السماوات والأرضِ عظمتهُ، لن ندعوَ من دونهِ إلَهاً أبداً، ولن نفعلَ هذا الذي تدعونا إليهِ، ولكنَّا نعبدُ اللهَ ونسبحهُ ونحمدهُ خالصاً من أنفسنا، إياهُ نعبدُ وإياه نسأل النجاةَ، وأما الأصنامَ فلا نعبدُها أبداً، إصنَعْ بنا ما بدَا لكَ). وقال الضحاك: (قال أصحابُ مكسلمينا كلهم لدقيانوس مثل هذه المقالة، فقال دقيانوسُ: إنِّي سأؤخِّرُكم، وأمهلِكُم حتى تراجعوا عقولَكُم، واجعلُ لكم مدَّة تتشاورون فيها، فإن أبيتُمْ طاعتي وخالفتم أمرِي وقعَتْ بكم العقوبةُ، وما منعَنِي أن أُعَجِّلَ قتلَكم إلاّ أنِّي أراكم شَبَاباً جديداً شبابكم، فلا أحبُّ أن أُهلِكَكم حتى أجعلَ لكم مدَّة تنظرون فيها ما يصلحُ لكم، ثم أمَرَ بحليةٍ كانت عليهم مِن ذهب وفضة فَنُزِعَتْ عنهم وأمرَ بإخراجهم من عنده. فعَمَدَ كلُّ واحدٍ منهم إلى بيتِ أبيه واخذ له منه زاداً، وخرجوا هاربينَ فمرُّوا بكلبٍ، فتبعَهم فطردوهُ ثُم تبعهم، ففعلوا ذلك مِراراً، فقال لَهم الكلبُ: ما تَخشونَ منِّي أنا أحبُّ أحبابَ الله، فمتى نِمتُم كنتُ أحرسُكم). وقال ابنُ عباس: (كانوا سبعةً هربوا ليلاً، فمرُّوا براعٍ ومعهُ كلبٌ، فتَبعَهم على دِينهم، فوصلوا إلى كهفٍ قريب من البلد فلبثوا فيه، ليس لَهم عملٌ إلاَّ الصلاةُ والصيام والتسبيحُ والتكبير والتحميدُ، وجعلوا نفقتَهم على يدِ واحد منهم يقالُ له: يَمليخا، فكان يشتري لَهم متاعَهم من المدينة سرّاً، وكان مِن أجمَلِهم وأجلدِهم، وكان إذا أرادَ أن يدخل المدينة يضعُ ثياباً كانت عليه حِسَاناً، ويأخذ ثياباً كثياب المساكين الذين يسألونَ الناس، ثُم يأخذ ورقةً ويشتري طعاماً، ويتجسَّسُ الأخبارُ، ويسمعُ هل يُذْكَرُ هو وأصحابهُ، ثُم يعودُ إلى أصحابهِ، فلَبثُوا كذلكَ ما لبثوا. ثُم إنَّ دقيانوس الجبار شدَّدَ على مَن بقي من المسلمين، وأمَرهم بالذبحِ للطواغيت، وكان يَمليخا حينئذ هناك متنكِّراً، فسمعَ بأنَّ دقيانوس يطلبُ الفتيةَ ويسألُ عنهم، فرجعَ يَمليخا هارباً إلى أصحابهِ وهو يبكي ومعهُ طعامٌ قليل، فأخبرَهم أنَّ دقيانوس يسألُ عنهم، ففَزِعُوا ووقفوا سُجُوداً يتضرَّعون إلى اللهِ، يتعوَّذون به مِن فِتْنَتِهِمْ، وذلكَ عند غروب الشَّمس فبينا هم كذلكَ إذ ضربَ اللهُ على آذانِهم في الكهفِ، وكلبُهم باسطٌ ذراعيهِ بباب الكهف، فأصابَهم ما أصابَهم وهم مؤمنونَ موقنون، ونفقتُهم عندَ رؤوسهم. فلما كان من الغدِ إلتمسَهُم دقيانوس فلم يجدهم فغَضِبَ غضباً شديداً، وأرسلَ إلى آبائهم فسألَهم عنهم، وقالَ: أخبرونِي عن أبنائِكم الْمَرَدَةَ الذين عَصَونِي، فقالوا: ما ندري أينَ ذهبوا، ولقد أخذُوا أموالَنا وهربوا، وليس لنا في ذلك ذنبٌ لأنَّا لَم نعصِكَ فلا تُعاقِبْنا فيهم. فخلَّى سبيلَهم وجعلَ لا يدري ما يصنعُ بالفتية، فبلغَهُ الخبرُ أنَّهم ارتفعوا الجبلَ فالتمَسَهم هناك حتى وجدُوا الكهفَ، فألقَى اللهُ في نفسهِ أن يَأْمُرَ بالكهفِ فيُسَدَّ عليهم. قال دقيانوس: سدُّوا بابَ الكهفِ، ودعوهم فيه يَموتون جُوعاً وعطشاً، وليكن كهفُهم الذي اختاروه قَبْراً لَهم، وهو يظنُّ أنَّهم أيقاظٌ يعلمون ما يُصْنَعُ بهم، وقد توفَّى اللهُ أرواحَهم في النومِ وكلبُهم باسطٌ ذراعيه بباب الكهف وقد غَشِيَهُ ما غشِيَهم، يُقَلَّبُونَ ذاتَ اليمين وذاتَ الشِّمال، وبقيَ دقيانوس ما بقِيَ، ثُم ماتَ وقرونٌ بعده كثيرة وجاءت ملوكٌ بعدَ ملوكٍ). وقيلَ: إنَّ دقيانوس لَمَّا أتى إلى كهفِهم يطلبُهم كان كلَّما أرادَ رَجُلٌ أن يدخُلَ عليهم الكهفَ أُرْعِبَ، فلم يُطِقِ الدخولَ، فجعلوا يقولون لو قدرنا أن ندخلَ عليهم لقِينَاهُم فلم يستطِعْ أحدٌ الدخولَ إليهم، قال: سُدُّوا عليهم بابَ الكهف فيموتُون جوعاً وعطشاً، ففعلوا ذلك. فلما مضَى على ذلكَ قرونٌ وأزمان جاءَ راعي غَنَمٍ إلى الكهفِ بغَنَمِهِ فأدركهُ المطرُ عندَ الكهفِ، ففتحَ الكهفَ ليدخل غنمه فيه مِن المطرِ فوجدهم هناك، فَرَدَّ اللهُ عليهم أرواحَهم، فجلسُوا فرحينَ مستبشرين، وظنُّوا أنَّهم أصبحُوا مِن ليلتهم، فقاموا إلى الصَّلاة فصلَّوا، لا تُرى في ألوانِهم ولا في أجسامهم شيء يكرهونَهُ، وهم يحسبونَ أنَّ دقيانوس في طلبهم. ثُم قالوا ليمليخا: ما الذي قالَ الناسُ في شأننا بالأمسِ؟ فقالَ: سمعتُ أنَّهم يلتمسونَكُم، فقال مكسلمينا: يا إخوتاهُ؛ إعلمُوا أنَّكم ملاقُو اللهَ فلا تكفروهُ بعد إيْمانِكم إذا طلبَكم غداً، فقالوا ليمليخا: إذهب إلى المدينة استمِعُ لنا الأخبارَ، وما الذي يذكرهُ الناسُ فينا عندَ دقيانوس. فدخلَ المدينةَ مُستخفياً يصدُّ عن الطريقِ؛ لئلاَّ يراهُ من الناس أحدٌ يعرفه فيُعلِمَ دقيانوس، ولَم يعلمْ يَمليخا أنَّ دقيانوس وقومَهُ قد هلَكُوا منذُ ثلاثِمائة سنة، فرأى يَمليخا على باب المدينة علامةَ أهل الإيْمان فعَجِبَ، وجعلَ ينظرُ يَميناً وشِمالاً مُستخفياً، ثُم ذهبَ إلى الباب الثانِي فرأى عليه كذلكَ، فخُيِّلَ إليه أنَّ المدينة ليست بالتي كانَ يعرفُ. ثُم رأى أُناساً كثيراً يتحدَّثون لَم يكن يراهم قبلَ ذلك، فخُيِّلَ إليه أنه حيرانٌ، وجعل يقولُ لعلَّ هذه غشيةٌ، ثُم سَمع الناسَ يتحدَّثون بحديث أهلِ الإسلام، ويحلِفُون بالله، ويذكرون عيسَى بن مريَم، فقال: لعلَّ هذه مدينةٌ أخرى، فقامَ كالحيران، فرآهُ إنسانٌ فسألَهُ ما هذه المدينة؟ فقالَ: هذه أفسوسُ، فقال: ذاهبُ العقل. ثُم دخلَ السُّوق ليشتري طَعاماً فأخرجَ الوَرِقَ الذي معهُ فأعطاها رَجُلاً وقال: بعنِي بهذه طعاماً، فعجِبَ الرجلُ من نقشِها وضربها، ثُم أعطاها رجلاً مِن أصحابهِ لينظرَ إليها، ثُم جعلوا يتطارحونَها بينَهم من رجلٍ إلى رجل، فقالوا: هذا أصابَ كنْزاً من كُنوز الأوَّلين، فإما أنْ تُشاركنا فيه، ونُخفِي أمركَ وإلاَّ سلَّمناك إلى السُّلطان يقتلُكَ؟فقال في نفسهِ: قد وقعتُ في الذي كنت احذرُ منه، فجعل يَمليخا لا يدري ما يقولُ لَهم، وفَزِعَ حتى أنهُ ما أطاقَ يخبرهم بشيءٍ، فلمَّا رأوهُ لا يتكلَّمُ أشاعوا خبرَهُ، وجعلوا يقودونَهُ في سِكَكِ المدينة وهم يقولون: هذا رجلٌ وجدَ كنْزًا، فاجتمعَ عليه أهلُ المدينة فجعلوا ينظرونَ إليه ويتعجبون، ويقولون: ما هذا الرجلُ مِن أهل المدينة، وما رأيناهُ فيها قط ولا نعرفهُ؟ ولو قال لَهم: أنا مِن هذه المدينة لَم يصدِّقوه، وكان متيقِّناً أنَّ أباهُ وإخوته في المدينةِ، وأنه يسألونه مِن جملةِ الناس إذا سَمعوا بخبرهِ. ثُم إنَّهم انطلقُوا به إلى رئيسِ المدينة ومدبري أمرِها وهما رجلان صالحان، اسمُ أحدهما آرنوس والآخر أسطوس، وظنَّ يَمليخا حين مَضَوا به أنَّهم يَمضون به إلى دقيانوس، فرفعَ رأسَهُ إلى السماءِ وقال: اللَّهُمَّ إلهَ السماءِ والأرض أفْرِغِ اليومَ عليَّ صبراً، وأولِج معي رُوحاً تؤيِّدُنِي به عندَ هذا الجبَّار. فلما انتهوا به إلى الرَّجُلين الصالحينِ سَكَنَ خوفهُ، فأخذ الرجلان الوَرِقَ، فنظرا إليه وعَجِبَا منهُ، وقالاَ: يا فَتَى أينَ الكَنْزُ الذي وجدتَهُ؟ هذا الوَرقُ يشهدُ عليكَ أنك وجدت كَنْزاً، فقال يَمليخا: واللهِ ما وجدتُ كَنْزاً، ولكن هذا وَرِِقُ آبائي، ونقشُ هذه المدينة وضربُها، ولكن لا أدري ما شأْنِي ولا أدري ما أقولُ لكم. فقال أحدُهما: مِمن أنتَ؟ فقال: أمَّا أنا فكنتُ أرى أنِّي مِن أهلِ هذه المدينة، فقال لهُ: مَن أبوكَ؟ ومَن يعرفُكَ بها؟ فأتاهم باسمِ لأبيه فلم يعرفوهُ، فقال لهُ أحدهما: أنتَ رجلٌ كذاب لا تُخبر بالحقِّ، فلم يدر يَمليخا ما يقولُ، فقال رجلٌ: هذا مجنونٌ، وقال آخرُ: إنه ليس بمجنون يجنِّنُ نفسَهُ حتى تطلقوهُ، ونظرَ اليه آخر شِزْراً وقال: أتظنُّ أنَّا نصدِّقُكَ ونطلِقُكَ؟ فإن هذه الوَرِقَ لضربهُ أكثرُ من ثلاثِمائة سنةٍ، وأنت غلامٌ شاب وليس عندنا مِن هذا الضرب درهمٌ ولا دينار. فقال يَمليخا: أتعرِفُونَ شيئاً أسألُكم عنه؟ قالوا: سَلْ؛ قال: ما فعلَ دقيانوس، قالوا لا نعرفُ اليومَ على وجه الأرضِ ملكٌ يسمَّى دقيانوس، ولَم يكن إلاّ ملكٌ قد هَلَكَ منذُ زمان طويلٍ، وهلكَتْ بعده قرونٌ كثيرة، فقال يَمليخا: واللهِ لقد كُنا فِتْيَةً وإنهُ أكرَهَنا على عبادةِ الأوثان، فهربنا منهُ عشيَّةَ أمس فَنِمْنَا، فلما انْتَبَهْنَا خرجتُ لأشتريَ لأصحابي طعاماً وأتجسَّسُ الأخبارَ، فإذا أنا كما تَرَوْنَ، فانطلِقُوا معي إلى الكهفِ أُريكم أصحابي. فلما سَمع أرنوس ما يقولُ يَِمليخا قالَ: يا قومِ لعلَّ هذا آيةٌ من آياتِ اللهِ جعلَها اللهُ لنا على يَدي هذا الفتى، فَامْضُوا بنا معهُ يُرينا أصحابَهُ. فمَضَوا معَهُ ومضى جميعُ أهلِ المدينة، فلمَّا سَمع الفتيةُ الذين في الكهفِ الأصواتَ وجَلَبَةَ الخيلِ مصعدة نَحوهم، وقد كان أبطأ عليهم يَمليخا، ظنُّوا أنه دقيانوس جاءَ في طلبهم، فسبَقَ يَمليخا القومَ وجاءَ إليهم فسألوهُ عن شأنهِ فأخبرَهم بالخبر كله، فعرفوا أنَّهم كانوا نِيَاماً بأمرِ الله ذلك الزَّمان كله، وإنَّما أُوْقِضُوا؛ ليكونُوا آيةً للناس وتصديقاً للبعثِ، وليعلمُوا أنَّ الساعةَ لا ريبَ فيها، فلما فَرَغَ يَمليخا من كلامهِ قَبَضَ اللهُ رُوحَهُ وأرواحَهم، وعَمِيَ على أولئكَ القومِ بابُ الكهفِ فلم يهتدوا إليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ ﴾؛ أي اذْكُرْ لقومِكَ إذْ أوَى الْفِتْيَةُ يعني الشبابُ؛ ﴿ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ﴾؛ نَنْجُوا بها مِن قومنا.
﴿ وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً ﴾، أي اجْعَلْ لنا طريقاً ومَخرجاً يوفِّقُنا إليكَ، وارشِدْنا إلى ما يقرِّبنا إليكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ﴾؛ أي أنَمنَاهُم في الكهفِ سنين معدودةً وهم أحياء يتعشَّون.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ﴾؛ أي أيقظناهم من نومهم؛ ﴿ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً ﴾؛ أي ليعرف غيرُهم أنه ليس فيهم من يعرفُ مقدارَ السِّنين التي نَامُوا فيها؛ والمرادُ بأحدِ الحِزْبَين: الفتيةُ، والآخرُ ناسُ ذلك الزمانِ، وقيلَ: أراد بأحدِ الحزبين: المؤمنينَ، والحزبُ الآخر: الكافرين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ ﴾؛ أي نُبَيِّنُ لكَ خبرَهم بالصِّدق؛ ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ﴾؛ أي شبابٌ؛ ﴿ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾؛ أي ثَبَّتْنَاهُمْ على الإيْمانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ ﴾؛ أي ألْهَمْنَا قلوبَهم الصبرَ، وشجَّعناها حين قاموا بحضرة الكفَّار؛ يعني بين يَدَي دقيانوس الذي كان يَفْتِنُ أهلَ الإيْمان حتى قالوا بين يديه؛ ﴿ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً ﴾؛ أي كَذِباً وجُوراً، والمعنى إنْ عَبَدْنَا غيرَ الله ودَعَوْنَا معهُ إلَهاً آخر، قُلْنا قَوْلاً ذا شَطَطٍ؛ أي مُتَجَاوِزاً للحقِّ في غايةِ البُطلان.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ﴾؛ أي قالُوا: هؤلاء قومُنا عَبَدُوا مِن دونِ الله؛ ﴿ آلِهَةً ﴾؛ أي عبدُوا الأصنامَ؛ يَعْنُونَ الذين كانوا في زَمَنِ دقيانوس، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ﴾؛ أي هَلاَّ يأتون على عبادتِهم لَها ببُرْهَانٍ واضحٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً ﴾؛ أي فمَنْ أظلمُ لنفسهِ ممن اختلقَ على اللهِ كَذِباً بأن جعلَ معه شريكاً في العبادةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ ﴾؛ أي قال بعضُهم لبعضٍ، قيلَ: إن القائلَ بهذا يَمليخا وهو رئيسُ أصحاب الكهف؛ قال لأصحابهِ: إذ فارقْتُموهم وتَنَحَّيْتُمْ عنهُم جانباً؛ أي عن عبادةِ الأصنام ﴿ وَمَا يَعْبُدُونَ ﴾؛ وهذا آخرُ الكلام ثُم قال: ﴿ إِلاَّ ٱللَّهَ ﴾؛ يعنِي إلاَّ الله فلا تعتزلوهُ أي فلا تعتزلوا عبادتَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ ﴾؛ أي فصيرُوا إلى الكهفِ، واجعلوهُ مأواكم؛ ﴿ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم ﴾؛ أي يبسِطْ لكم؛ ﴿ مِّن رَّحْمَتِهِ ﴾؛ نعمتهِ؛ ﴿ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً ﴾؛ ما تَرْفِقُونَ به هناك في معايشِكم يكون مخلِّصاً لكم مِن ظُلم هؤلاء الكفَّار. قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: وَيُسَهِّلْ عَلَيْكُمْ مَا تَخَافُونَ مِنَ الْمَلِكِ وَظُلْمِهِ). يقال: فيه (مَرْفَقاً) بكسر الميم وفتح القاف، وفتحِ الميم وكسرِ الفاء، وكذلكَ في مِرفق اليدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ﴾؛ الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، قرأ أهلُ الكوفة (تَزَاوَرُ) بالتخفيف على حذفِ إحدَى التَّائين، وقرأ أهلُ الشام ويعقوبُ (تَزْوَرُّ) بوزن تَحْمَرُّ، وكلُّها بمعنى واحد أي تَمِيْلُ، وفيه بيانُ أن الكهفَ الذي أوَوا إليه كان بابهُ نحوَ القُطْب الذي يقربُ بباب نعشٍ، وكانت الشمسُ تَطْلُعُ مزوارةً على باب الكهف عند الطلوعِ وعند الغروب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ ﴾؛ أي ناحيةَ اليمين، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ ﴾؛ أي تَعْدِلُ عنهم. قال الكلبيُّ: (إذا طَلَعَتْ مَالَتْ عَنْ كَهْفِهْمْ ذاتَ يَمِيْنِ الْكَهْفِ، وَإذا غَرَبَتْ تَمُرُّ بهِمْ ذاتَ الشِّمَالِ يَعْنِي شِمَالَ الْكَهْفِ لاَ تُصِيْبُهُ، وكَانَ كَهْفُهُمْ فِي أرْضِ الرُّومِ، أعْلَمَ اللهُ أنَّهُ يُمِيْلُ عَنْهُمْ الشَّمْسَ طَالِعَةً وَغَاربَةً، لاَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فَتُؤْذِيَهُمْ بحَرِّهَا وَتُغَيِّرَ ألْوَانَهُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ﴾؛ أي في مُتَّسَعٍ من الكهفِ، هَيَّأَ اللهُ لَهم مكاناً واسعاً لا يصيبُهم فيه حَرٌّ ولا سَمومٌ، ولا يتغيرُ لَهم ثوبٌ ولا لون ولا رائحةٌ، ولكن كان ينالُهم فيه نسيمُ الرِّيح وبردُها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ ﴾ القَرْضُ من قولِهم: قَرَضْتُهُ بالْمِقْرَاضِ؛ إذا قَطَعْتُهُ، كأنهُ قال: تقطعُهم ذاتَ الشمالِ. وَقِيْلَ: تعطيهم اليسيرَ مِن شُعاعها عند الغروب، كأنه شبَّهَهُ بقرضِ الدراهم التي تُعطى ثُم تستردُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ ﴾؛ أي إبقاؤُهم طولَ السنين التي ذكرَها اللهُ نياماً لا يستطيعون يستيقظون من دون طعامٍ ولا شَراب.
﴿ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ ﴾.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً ﴾ ظاهر المعنى.
قولهِ تعالى: ﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ ﴾؛ تظنُّهم يا مُحَمَّدُ منتَبهين وهو نائمونَ، وإنَّما كان يحسَبُهم الرَّائي منتبهينَ؛ لأنَّّهم كانوا نياماً وهم مفتوحُو الأعيُنِ، وكانوا يتنفَّسُون. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ ﴾؛ قرا الحسنُ (وَنُقْلِبُهُمْ) بالتخفيفِ، والمعنى نقلبُهم تارةً عن اليمين إلى الشمال؛ وتارةً عن الشمالِ إلى اليمين، كما نقلبُ النائمُ؛ لئَلاَّ تأكُلَ الأرضُ أجسامَهم. ذكرَ قتادةُ: (أنَّ لَهُمْ فِي عَامٍ تَقْلِيْبَيْنِ)، وعن ابنِ عبَّاس: (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ ﴾؛ أي على باب الفجوة أنامَهُ الله كذلكَ، والوَصِيْدُ مِن قولِهم: أوْصَدْتُ البَابَ، وَأصَدْتُهُ إذا أغلقتهُ، وقد يقالُ لذلكَ الأصِيْدُ أيضاً، وَقِيْلَ: الوَصِيْدُ فناءُ الكهفِ. وقال سعيدُ بن جُبير: (الْوَصِيْدُ: التُّرَابُ). وقال السديُّ: (الْوَصِيْدُ: الْبَابُ). وقال عطاءُ: (عَتَبَةُ الْبَاب). وكان لونُ الكلب أحمرَ، كذا قال ابنُ عبَّاس، وقال مقاتلُ: (كَانَ أصْفَرَ يَضْرِبُ إلَى الْحُمْرَةِ) وَقِيْلَ: كان كلونِ الحجَرِ، وَقِيْلَ: كلونِ السَّماء. قال عليٌّ رضي الله عنه: (كَانَ اسْمُهُ رَيَّان). وقال ابنُ عبَّاس: (قِطَمِيْرُ). وقال سفيانُ: (اسْمُهُ حِمْرَانُ). وقال عبدُالله بن سلام: (لسْمُهُ نَشِيْطٌ). روي عن بعضِهم أنه مما أخذ على الكلب أن لا يضرَّ بأحدٍ يقرأُ: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالْوَصِيدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً ﴾؛ أي لو اطَّلَعْتَ عليهم يا مُحَمَّدُ لَوَلَّيْتَ منهم فِراراً لِما ألبَسَهم اللهُ تعالى من الْهَيْبَةِ حتى لا يصلَ إليهم أحدٌ حتى يبلغَ الكتابُ أجَلَهُ فيهم وينتبهوا من رقدتِهم. وَقِيْلَ: لأنَّهم كانوا في مكانٍ مُوحِشٍ من الكهفِ، وَقِيْلَ: لأن أعيُنَهم مفتحةً كالمستيقظ الذي يريدُ أن يتكلَّمَ وهم نيامٌ. وعن ابنِ عبَّاس قال: (غَزَوْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ نَحْوَ الرُّومِ فَمَرَرْنَا بالْكَهْفِ الَّذِي فِيهِ أصْحَابُ الْكَهْفِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ كَشَفَ لَنَا عَنْ هَؤُلاَءِ فَنَظَرْنَا إلَيْهِمْ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ لَكَ؛ قَدْ مَنَعَ اللهُ ذلِكَ عَنْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، فَقَالَ: لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً؛ ﴿ وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ﴾؛ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لاَ أنْتَهِي حَتَّى أعْلَمَ عِلْمَهُمْ، فَبَعَثَ أُنَاساً فَقَالَ: اذْهَبُوا وَانْظُرُواْ، فَفَعَلُوا فَلَمَّا دَخَلُواْ الْكَهْفَ بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ ريْحاً فَأَخْرَجَتْهُمْ مِنَ الْكَهْفِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ ﴾؛ أي وكذلكَ أيقظناهُم، كما أنَمناهُم ليتحدَّثوا ويسألوا بعضَهم بعضاً.
﴿ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ ﴾؛ وهو رئيسُهم وسُمِّي مكسلميا: ﴿ كَم لَبِثْتُمْ ﴾؛ في نومِكم في الكهفِ؛ ﴿ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً ﴾؛ فلما نظَرُوا إلى الشَّمسِ، وقد بَقِيَ منها شيءٌ؛ قالوا: ﴿ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾؛ تَوَقِّياً من الكذب، فلما نظَرُوا إلى أظفارِهم وأشعارِهم علموا أنَّهم لبثُوا أكثرَ من يومٍ؛ فـ؛ ﴿ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ ﴾؛ أي فابعثوا يَمليخا، والوَرقُ الفِضَّةُ مضروبةً كانت أو غيرَ مضروبةٍ، وأما المدينةُ فهي أفسوس، وَقِيْلَ: طرسوسُ، كان اسْمُها في الجاهلية: أقسوس، فلما جاءَ الإسلامُ سَمَّوها طرسوسُ. ومعنى الآيةِ: فابعثُوا أحدَكُم بدراهمكم هذه إلى السُّوق؛ ﴿ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً ﴾؛ أي أحَلَّ ذِبْحَةً؛ لأن عامَّتَهم كانوا مَجُوساً، وفيهم مؤمنون يُخفون إيْمانَهم، وَقِيْلَ: أطيبَ خُبزاً وأبعدَ عن الشُّبهة، لأن مَلِكَهم كان يظلمُ الناسَ في طعامهم، وكانوا يحسبون أن ملكَهم دقيانوس الكافرُ. وقال عكرمةُ معناه: (أكْثَرَ وَأفْضَلَ) في معنى أنَّ الزكاةَ هو الزيادةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ ﴾؛ أي بقُوتٍ وطعام. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلْيَتَلَطَّفْ ﴾؛ أي يتوقَّف في الذهاب والْمَجيءِ، وفي دخولِه المدينة حتى لا تعرفَهُ الكفارُ؛ ﴿ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ﴾؛ أي لا يخبرنَ أحدٌ من أهلِ المدينة بمكانكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ﴾؛ أي إنهم إنْ علِمُوا مكانَكم رجموكُم بالحجارةِ حتى يقتلوكم، وَقِيْلَ: يشتموكُم ويؤذوكم، وكان من عادتِهم القتلُ بالرَّجمِ وهو أخبثُ القتل. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ﴾؛ أي إلى دِينهم وهو الكفرُ؛ ﴿ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً ﴾؛ إن عُدْتُمْ إلى دِينهم، وَلم تظفَرُوا الخيرَ في الدُّنيا والآخرة. فإن قيلَ: أليسَ لو أكرهوهم، وأظهَرُوا الكفرَ لَم يكن في ذلك مَضَرَّةً عليهم؟ قِيْلَ: يجوزُ أنه لَم يكن في شريعةِ الإسلام جوازُ إظهار كلمة الكفر على وجه التُّقيةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ﴾؛ أي أطْلَعْنَا عليهم، وذلك أنَّهم لَمَّا بَعَثُوا بورقِهم على يدِ يَمليخا ومضَى إلى السُّوق، فإذا ملكُهم مسلمٌ قد أظهرَ علامات الإسلامِ فتعجَّبَ من تغيُّرِ الأمرِ، وقال لخبَّازٍ: بعني من طعامِكَ بهذا الوَرِقِ، فلما رأى الخبازُ دراهمَه أنكرَها وقال: مِن أينَ لك هذه وقد ضُربت منذ ثلاثِمائة سنةٍ؟ فإما أن تعطيَني من هذا الكَنْزِ، أو أرفعُكَ إلى الْمَلِكِ؟ فأنتَ وجدْتَ كَنْزاً. فحملَهُ إلى الملكِ فلم يجِدْ بُداً من أن يذكرَ للملكِ قصَّتَهم، فجاءَ الناسُ معهُ إلى باب الكهف، فدخل هُوَ قَبْلَهم، وأخبَرَ أصحابَهُ بأنَّ الملِكَ أتاهُم إذ ظهرَ القومُ عليهم فسألوهُ عن أمرِهم، فقَصُّوا عليهم قصَّتَهم، فَنَظَرُوا فإذا اللوحُ الرَّصاصُ وفيه أسماؤُهم وفرارُهم من دقيانوسِ. فقالَ الملكُ: هؤلاء قومٌ هلَكُوا في زمانِ الكافرِ، فأحياهُم اللهُ في زمانِي، وحَسَبُوا المدَّةَ، فوجدُوها ثلاثَمائة سنةٍ وتسعَ سنين، فبينا هم كذلكَ يحدِّثونَهم إذ دخلُوا المكانَ، وقد ضربَ اللهُ على آذانِهم بالنَّومِ، هكذا رويَ عنِ ابن عبَّاس. وذهبَ عكرمةُ إلى أنَّ القومَ دخلُوا المكانَ وقد ضربَ اللهُ على آذانِهم، فهذا معنى قولهِ ﴿ وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ وقولهِ تعالَى: ﴿ لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ﴾ أي ليعلَمَ الملكُ وقومه وغيرُهم أن البعثَ بعد الموتِ كائنٌ.
﴿ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ﴾؛ القيامة.
﴿ لاَ رَيْبَ فِيهَا ﴾؛ لا شك فيها. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ﴾؛ قِيْلَ: كان التنازعُ في أنْ قالَ بعضُهم لبعضٍ إنَّهم قد ماتوا في الكهفِ، وقال بعضُهم: بل ناموا كما نامُوا مِن قبلُ، وسيوقظُهم اللهُ من بعد. وَقِيْلَ: كانوا يتنازعون في البنَاءِ كما قالَ تعالَى: ﴿ فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً ﴾؛ أي قال بعضُهم: نَبْنِي عليهم بُنياناً كما تُبْنَى المقابرُ؛ كي يستُرُوهم عن الناسِ، وقال بعضُهم: بل نَبْنِي في هذا الموضعِ مَسْجِداً يُعْبَدُ اللهُ فيه، وهو قولُ الذين غَلَبُوا على أمرِهم وهم رؤساؤُهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً ﴾؛ أي أعْلَمُ بلَبْثِهِمْ ورُقادِهم وأحوالِهم؛ لأنَّ قومَ الملكِ تنازَعُوا في قدر مَكْثِهم في الكهفِ، وفي عددهم وفي ما يفعلونَ بعدَ ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾؛ أي وذلكَ أنَّ أهل الكتاب الذين سأَلُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن أهلِ هذه الصفةِ يختلفون في عدَدِهم. رويَ أنَّ السيدَ والعاقبَ وأصحابَهما من النَّصَارَى وأهلِ نجرانَ كانوا عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا أصحابَ الكهفِ، فقال السيدُ: كانوا ثلاثةً رابعُهم كلبُهم، وقال العاقبُ: كانوا خمسةً سادسُهم كلبهم.
﴿ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ ﴾؛ أي ظَنّاً من غيرِ يقينٍ كأنَّهم يرجُمون بالغيب بالقول فَهُمْ بالغيبةِ عنهم، وقال المسلمونَ: كانوا سبعةً وثامِنُهم كلبُهم. ﴿ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾وقال بعضُهم: هذه الواوُ واو الثَّمانية، وذلك أن العربَ تقولُ: واحدٌ اثنانِ ثلاثةً أربعة ستَّة سبعة وثَمانية؛ لأن العددَ عندهم سبعةٌ، كما هو اليومُ عندنا عشرة، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ﴾[التوبة: ١١٢] إلى قولهِ﴿ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ﴾[التوبة: ١١٢] وقولهُ في صفةِ أهلِ الجنَّة﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾[الزمر: ٧٣] وقولهُ في أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم﴿ وَأَبْكَاراً ﴾[التحريم: ٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم ﴾؛ أي قُل ربي أعلمُ كَمْ كان عددهُم، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً ﴾؛ عَنَى به رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تعالَى أخبرَهُ بعدَّتِهم، وأمرَهُ أن لا يُمَارِ في معرفةِ مَن أدَّعى عددَهم إلاّ بأن بيَّن لهُ أنه يقولهُ بغيرِ حُجَّةٍ، ولا خبرَ عنده من اللهِ، فإنَّ هذا العلمَ ليس عند أهلِ الكتاب، وهذا هو المرادُ الظاهر. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً ﴾؛ أي لا تَسْتَفْتِ في أصحاب الكهف من اليهود وأهل الكتاب أحداً، فالخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمرادُ به أُمَّتُهُ، فإنهُ مستغنياً بإخبارِ الله إياه عن أن يستَفْتِيهم. وعن ابنِ عبَّاس أنهُ قال: (أنَا مِنَ الْقَلِيْلِ الَّذِي يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ كَانُوا سَبْعَةً وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)، وَإْنَّمَا عَرَفَهُ سَمَاعاً مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾؛ أي لا تَقُلْ إنِّي فاعلٌ شيئاً حتى تَقْرُنَ به قولَكَ إنْ شاءَ اللهُ، فلعلَّكَ لا تبقَى إلى الغدِ، ولا تقدرُ عليه من الغدِ. قال المفسِّرون: لَمَّا سألَ اليهودُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن خبرِ الفِتْيَةِ وَعَدَهُمْ أن يُخبرَهُمْ غداً، ولَم يقُلْ إن شاءَ اللهُ، فحُبسَ عنه الوحيُ حتى شُقَّ عليه، وأنزل هذه الآية يأمرهُ بالاستثناءِ بمشيئة اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس ومجاهدُ: (مَعْنَاهُ إذا نَسِيْتَ الاسْتِثْنَاءَ ثُمَّ ذكَرْتَهُ فَاسْتَثْنِ)، وقال سعيدُ بن جبير: (إذا قُلْتَ لِشَيْءٍ: إنِّي فَاعِلُهُ غَداً؛ وَنَسِيْتَ الاسْتِثْنَاءَ بمَشِيْئَةِ اللهِ، ثُمَّ تَذكَّرْتَ، فَقُلْ: إنْ شَاءَ اللهُ، وَإنْ كَانَ بَعْدَ يَوْمٍ أوْ بَعْدَ شَهْرٍ أوْ سَنَةٍ). وعن ابنِ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: إذا حَلَفْتَ عَلَى شَيْءٍ وَنَسِيْتَ الاسْتِثْنَاءَ، ثُمَّ ذكَرْتَ فَاسْتَثْنِ مَكَانَكَ وَقُلْ: إنْ شَاءَ اللهُ وَلَوْ كَانَ إلَى سَنَةٍ مَا لَمْ تَحْنَثْ). وقال الحسنُ: (لَهُ أنْ يَسْتَثْنِيَ فِي الْيَمِيْنِ مَا لَمْ يَقُمْ مِنَ الْمَجْلِسِ). وقال إبراهيمُ وعطاء والشعبيُّ: (لاَ يَصِحُّ الاسْتِثْنَاءُ إلاَّ مَوْصُولاً بالْكَلاَمِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذا الْقَوْلِ: وَإذا ذكَرْتَ إذا نَسِيْتَ شَيْئاً فَادْعُ اللهَ حَتَّى يُذكِّرُكَ). وقال عكرمةُ: (مَعْنَاهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذا غَضِبْتَ). قال وهبُ: (مكتوبٌ في الإنجيلِ: يا ابنَ آدمَ اذكرونِي حين تغضبُ أذكُرْكَ حين أغضبُ). وقال الضحَّاك والسُّدي: هَذا فِي الصَّلاَةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أوْ نَامَ عَنْهَا؛ فَلْيُصَلِّهَا إذا ذكَرَهَا "قَوْلُهُ: ﴿ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً ﴾؛ أي قُلْ عسى أن يعطيَنِي ربي مِن الآيات والدلالاتِ على النبوَّة ما يكونُ أقربَ في الرَّشد، وأدلَّ من قصَّة أصحاب الكهف.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً ﴾ يعني مِن يوم دخلُوا الكهفَ إلى أنْ بعثَهم اللهُ وأطَلَعَ عليهم الخلقَ. قال الفرَّاء والزجَّاج والكسائيُّ: (التَّقْدِيْرُ: سِنِيْنَ ثَلاَثَمِائَةٍ؛ لأنَّ التَّفْسِيْرَ لاَ يَكُونُ بلَفْظِ الْجَمَعِ). وقال أبو عليِّ الفارسي: (سِنِيْنَ بَدَلٌ مِنْ ثَلاَثَمِائَةٍ). وقرأ حمزةُ: (ثَلاَثَمِائَةِ سِنِيْنَ) مُضَافَةً غير مُنَوَّنَةٍ. وقال الضحَّاكُ: (نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَبثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَمِائَةٍ، فَقَالُوا: أيَّاماً أوْ شُهُوراً أوْ سِنِيْنَ؟ فَقِيْلَ: سِنِيْنَ) ولذلكَ لَم يقُلْ سنةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ﴾؛أي لقَدْرِ ما لبثوا؛ ﴿ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ أي لهُ العلمُ بكلِّ مستورٍ عن الخلق في السَّماواتِ والأرضِ وفي قعرِ البحار. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ﴾؛ أي أذْكُرْ بذلكَ الناسَ فهو مِن خَفِيِّ صفاتهِ: وَقِيْلَ: معناهُ: ما أبصرَ اللهُ بكلِّ موجودٍ! وما أبصرَهُ بكلِّ مسموعٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ ﴾؛ أي ما لأهلِ السَّماوات والأرضِ مِن دون اللهِ مِن ولِيٍّ ولا ناصرٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾؛ أي لا يشركُ في حُكمهِ أحداً غيرَهُ. وقرأ ابنُ عامرٍ: (وَلاَ تُشْرَكُ) على المخاطبةِ: أي لا تُشْرِكْ أيُّها الإنسانُ على النَّهي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ﴾؛ أي اقْرَأ عليهم القُرْآنَ وعرِّفْهم أنهُ الحقُّ؛ ﴿ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾؛ ولا خَلَفَ لخبرهِ ولا مغيِّرَ لهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً ﴾؛ أي مَلْجَأً أو مَعْدَلاً تَهربُ إليه، مِن قولِهم: لَحَدْتُ إلَى كَذا؛ إذا مِلْتَ إليه، ومنهُ اللَّحْدُ؛ لأنهُ يُمال به إلى ناحيةِ القبرِ، ومنه الإلحادُ في الدِّين الْمَيَلاَنُ عليهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾؛ نزلَتْ هذه الآيةُ في سَلمان الفارسيِّ وصهيب بن سِنان وعمَّار بن ياسر وخبَّاب وعامرِ بن فُهيرة وغيرِهم من الفقراءِ، كانوا عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكان مع سَلمان شَمْلَةٌ قد عَرِقَ فيها إذ دخلَ عُيينة بن حصنٍ الفزَاريِّ، فقال: يا مُحَمَّدُ إنْ رؤوسَ مُضَرَ وأشرافَها، وإنهُ والله ما يَمنعُنا من الدُّخول عليكَ إلاّ هذا - يعني سلمانَ وأصحابهُ - ولو أنَّا إذا دخلنا عليكَ أخرَجْتَهم عنا لاتَّبعناكَ، إنه ليؤذِينا ريحهُ أما يؤذيكَ ريحهُ؟ فأنزلَ اللهُ في سلمان وأصحابهِ هذه الآية. ومعناها: واحبسْ نفسكَ أيُّها النبيُّ مع الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وتعظيمَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾؛ أي لا تَصْرِفْ بصرَكَ عنهم لفقرهِم إلى غيرِهم من ذوي الهيئاتِ والزِّينة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ أي مجالسةِ أهل الشَّرف والغِنَى (تريدُ) هاهنا في موضعِ الحال أي مُريداً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾؛ يريدُ عُيَيْنةَ وأبناءَهُ، أي لا تطِعْهم في تنحيةِ الفُقراءِ عنكَ ليجلسوا إليك، ومعنى: ﴿ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا ﴾ أي جعلنَاهُ غافلاً عن القُرْآنِ والإسلام. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾ أي ضَيَاعاً ونَدَماً، وَقِيْلَ: هلاكاً، وَقِيْلَ: مُخالفاً للحق، وَقِيْلَ: بَاطلاً، وَقِيْلَ: معناه: ضَيَّعَ أمرَهُ وبطلَ أيامه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ﴾؛ أي قُلِ القُرْآنُ والدلالاتُ على وحدانيَّة الله ونبوَّة رسولهِ هو الحقُّ من ربكم، و(الحقُّ) مرفوعٌ على الحكاية، وَقِيْلَ: خبرُ مبتدأ مُضْمَرٍ؛ أي هو الحقُّ؛ والمعنى: وقُلْ يا مُحَمَّدُ لِهؤلاء الذي أغفَلْنا قلوبَهم عن ذِكرنا: أيُّها الناس الذي أُنذركم به (الْحَقُّ مِنْ رَبكُمْ)، لَم أتكلَّمْ به مِن قِبَلِ نفسِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾؛ تَهديدٌ بلفظِ الخبر، والمعنى: فمَن شاءَ فيؤمن، ومن شاء فيكفرُ.
﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾؛ فقد أعدَّ لكم ناراً على كُفركم أحاطَ بكم سرادقها؛ قال ابنُ عبَّاس: (السُّرَادِقُ: حَائِطٌ مِنَ النَّار يُحِيْطُ بهِمْ). وَقِيْلَ: دخانٌ يحيطُ بهِمْ قَبْلَ أن يَصِلْوا إلى النار. وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ قال: (سُرَادِقُ النَّارِ أرْبَعَةُ جُدُرٍ، غِلَظُ كُلِّ جِدَارٍ مَسِيْرَةُ أرْبَعِيْنَ سَنَةَ، فَهَذِهِ الْجُدُرُ مُحِيْطَةٌ بهِمْ). وقال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَى الآيَةِ: فَمَنْ شَاءَ اللهُ لَهُ الإيْمَانَ آمَنَ، وَمَنْ شَاءَ لَهُ الْكُفْرَ كَفَرَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ ﴾؛ معناهُ: وإنْ يستَغيثُوا من شدَّة الحرارةِ يُغاثوا بماءٍ كَعَكَرِ الزَّيت أسودَ غليظ، وَقِيْلَ: إن الْمُهْلَ هو الصُّفُرُ المذابُ، ويقالُ: هو القيحُ والدم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ ﴾؛ أي إذا قَرُبَ البشر منه أنضجَ الوجهَ بحرارتهِ، وأسقطَ فَرْوَةَ وجههِ ولحمَهُ فيه.
﴿ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ ﴾؛ النارُ؛ ﴿ مُرْتَفَقاً ﴾؛ أي ساءَتْ مُتَّكَأً لَهم، مأخوذٌ من المرْفَقِ؛ لأنَّهم يتَّكِؤنَ على مرافِقِهم، وَقِيْلَ: معناهُ: وساءَتْ مَنْزلاً ومَقَرّاً، وَقِيْلَ: مُجتمعاً مأخوذٌ من المرافقةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾؛ أي لا يبطلُ ثوابُ من أخلصَ للهِ، ويجوزُ أن يكون معناهُ: إنا لا نضيعُ أجرَ مَن أحسنَ منهم، بل يجازيهم. ثُم ذكرَ جَزَاءَهُمْ فقالَ: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ ﴾؛ أي بساتينُ إقامةٍ، وقد ذكرَنا صفات جنَّات عَدْنٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ ﴾؛ أي يُلْبَسُونَ في الجِنَانِ ذلك. قال الزجَّاج: (أسَاوِرُ: جَمْعُ أسْوِرَةٍ، وَأسْوِرَةٌ جَمْعُ سِوَارٍ)؛ وَهُوَ زيْنَةٌ يُلْبَسُ فِي الزَّنْدِ مِنَ الْيَدِ، مِنْ زيْنَةَ الْمُلُوكِ يُسَوُّرُ فِي الْيَدِ وَيُتَوَّجُ عَلَى الرَّأسِ. قال ابنُ جبير: (عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلاَثَةٌ مِنَ الأَسَاوِر، وَاحِدٌ مِنْ فِضَّةٍ وَوَاحِدٌ مِنْ ذهَبٍ وَوَاحِدٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَيَاقُوتٍ). وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:" لَوْ أنَّ أدْنَى أهْلِ الْجَنَّةِ حِلْيَةً عُدِلَتْ حِلْيَتُهُ بحِلْيَةِ أهْلِ الدُّنْيَا جَمِيْعِهَا لَكَانَ مَا يُحَلِّيهْ اللهُ بهِ فِي الآخِرَةِ أفْضَلَ مِنْ حِلْيَةِ أهْلِ الدُّنْيَا جَمِيْعِهَا ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ﴾؛ الْخُضْرُ: جمعُ أخضرَ، وهو أحسنُ ما يكون من الثِّياب، والسُّنْدُسُ: الدِّيْبَاجُ الرقيقُ الفاخر، وَقِيْلَ: هو الحريرُ؛ وواحدُ السُّندس سُنْدُسَةٌ، والاسْتَبْرَقُ الدِّيباجُ الغليظُ الذي له بريقٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا ﴾؛ أي في الجِنَانِ؛ ﴿ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ ﴾؛ أي على السُّرُرِ في الْحِجَالِ وهي من ذهَبٍ مكَلَّلٍ بالدُّرِّ والياقوتِ؛ ﴿ نِعْمَ ٱلثَّوَابُ ﴾؛ جزاءُ أعمالِهم؛ ﴿ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ﴾؛ أي مُتَّكَأً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً ﴾؛ الآيةُ، هذا مثلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لعبادهِ؛ ليستدعيَهم إلى طاعتهِ، ويزجرَهم عن كُفران نعمتهِ، والمعنى: واضرِبْ لَهم مثلاً رَجُلين. قال ابنُ عبَّاس: (كَانُوا أخَوَيْنِ فِي بَنِي إسْرَائِيْلَ؛ تُوُفِّيَ أبُوهُمَا وَتَرَكَ ثَمَانِيَةَ آلافِ دِيْنَارٍ، وَكَانَ أحَدُهُمَا مُسْلِماً وَالآخَرُ كَافِراً، وَأصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أرْبَعَةَ آلاَفِ دِينَارٍ، فاَلْمُسْلِمُ أنْفَقَهَا فِي سَبيْلٍ حَتَّى أنْفَدَهَا فَأَوْجَبَ اللهُ لَهُ الْجَنَّةَ، وَالْكَافِرُ اشْتَرَى بهَا بَسَاتِيْنَ، فَاحْتَاجَ الْمُسْلِمُ إلَيْهِ فَأَتَاهُ يَتَعَرَّضُ إلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: أيْنَ مَالُكَ؟ فَقَالَ لَهُ: أنْفَقْتُهُ فِي سَبيْلِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ الْكَافِرُ: لاَ أُعْطِيْكَ حَتَّى تَتَّبعَ دِيْنِي، ثُمَّ أخَذ بيَدِ أخِيْهِ فَأَدْخَلَهُ بَسَاتِيْنَهُ، وَجَعَلَ يَطُوفُ بهِ فِيْهَا وَيَقُولُ لَهُ: مَا أظُنُّ أنْ تَبيدَ هَذِهِ أبَداً، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ ﴾ أي جعلَ للكافرِ منهُما بساتينَ من كُرُومٍ، وجعلَ حَوْلَ البساتينِ نَخيلاً وجعلنا بينَ البساتينِ زَرْعاً؛ أي يزرعهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً ﴾؛ أي كِلاَ البساتين أخرجَتْ ثَمرها ولَم تنقُصْ منه شيئاً كأنْ ما أن يذهبُ صنفٌ من الثمار إلاّ أثْمرَ صنفٌ آخر، وإنَّما قال: آتَتْ؛ ولَم يقل آتَتَا؛ لأن المعنى أعطَتْ كلُّ واحدةٍ من الجنَّتين، ولفظُ كِلْتَا واحدةٌ؛ لأن الألِفَ في كلتا ليسَتْ ألِفَ تثنيةٍ، كأنه قالَ: كلُّ واحدةٍ منهُما آتَتْ أكُلها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً ﴾؛ أي فجَّرنا وسطَ البساتين نَهراً نَسقيها.
﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ﴾؛ أي كان لِهذا الكافرِ ذهبٌ وفضة ومن كل المال، وقيل: من قرأ: (ثُمُرٌ) بضم الثاء، فمعناه صنوف من الأموال: الذهب والفضة وغيرهما، يقالُ: أثْمَرَ الرجلُ إذا كَثُرَ مالهُ. ومن قرأ بنصب الثَّاء كان معناهُ ثَمرة البساتينِ، والأولُ هو الأقربُ لأن قولَهُ ﴿ كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ﴾ يدلُّ على الثِّمار، فاقتضَى أن يكون الثمرُ غير ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ ﴾؛ أي لأخيهِ المسلم؛ ﴿ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ﴾؛ أي يراجعهُ بالكلامِ ويفاخرهُ: ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ﴾؛ يعني خَدَماً وحَشَماً وولداً، يتطاولُ بذلك على أخيهِ، ورأى تلك النعمةَ مِن قِبَلِ نفسهِ لا من قِبَلِ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ﴾؛ أي دخلَ الكافرُ بستانَهُ وهو ظالِم لنفسهِ بالكفر وتركِ الشُّكر؛ ﴿ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً ﴾؛ أي ما أظنُّ أن تَفْنَى هذه أبداً. قال المفسِّرون: أخذ بيد أخيهِ المسلم فأدخلَهُ جنَّته، وطافَ به فيها، وأراهُ إياها وجعلَ يعجبه منها، ويقولُ ما أظنُّ أنْ تَفْنَى هذه أبداً.
﴿ وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً ﴾؛ أنكرَ البعثَ والثواب والعقابَ، وأخبرَ أخاهُ بكفرهِ وإنكاره للقيامةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً ﴾؛ يعني لَئِنْ كان البعثُ حقّاً، ورُدِدْتُ إلَى ربي على زعمِكَ لأجدنَّ في الآخرةِ خيراً منها مرجِعاً ومنْزِلاً، ولَم يعطني اللهُ هذه في الدُّنيا إلاّ ولي عنده أفضلُ منها لكرامتِي عليه، فمعناه الجنَّتين التي تقدَّم ذِكرُهما، وفي هذا بيانُ أن هذا الكافرَ لَم يكن قاطعاً لنْفِي الْمَعَادِ ولكن كان شَاكّاً فيه، والشاكُّ في الْمَعَادِ كافرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ﴾؛ أي أجابَهُ صاحبه المسلمُ مُنكراً بما قالَ وهو يخاطبهُ: ﴿ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ﴾؛ أي بالذي خلقَ أصْلَكَ من ترابٍ؛ ﴿ ثُمَّ ﴾؛ خَلَقَكَ؛ ﴿ مِن نُّطْفَةٍ ﴾؛ أبيْكَ؛ ﴿ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ﴾؛ أي أكْمَلكَ وجعلَكَ معتدلَ الخلقِ والقامَة، وجعلكَ بشراً سويّاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّٰكِنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي ﴾؛ معناهُ: أمَّا أنا فلا أكفرُ بربي، لكن هو اللهُ ربي؛ تقديرهُ: لَكِنْ أنَا هو اللهُ ربي، وَقِيْلَ: فيه تقديمٌ وتأخير تقديرهُ: لكنَّ اللهَ هو ربي؛ أعلَمَ بذلك أخاهُ الكافر بأنه مُوَحِّدٌ مسلمٌ. ومن قرأ: (لَّكِنَّا) فالمعنى لكِنْ أنا؛ إلاَّ أنهُ حُذفت الهمزةُ، وأُبقيت حركتها على السَّاكن الذي قبلَها، فالتقى نُونانِ فأُدغمت إحداهُما في الأُخرى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ﴾؛ ظاهرُ المرادِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْلاۤ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ ﴾؛ معناه: أنَّ المسلمَ قال للكافرِ: هَلاَّ قُلْتَ حين دخلتَ ما شاءَ اللهُ! أي الأمرُ بمشيئة اللهِ، وما شاءَ اللهُ كانَ يعني إنَّ شاءَ اللهُ خرابَ هذه الجنَّة وإهلاكَها كان ذلك بمشيئة الله.
﴿ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ ﴾؛ أي لا يَقْوَى أحدٌ على ما في يدهِ من مُلْكٍ ونعمة إلاّ باللهِ، ولا يكون له ما شاءَ الله، ولا قوةَ في بدنهِ ومُلْكِهِ إلاّ باللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً ﴾؛ معناهُ: أن المسلمَ قال للكافرِ: إن كنتُ أنا أقلَّ منك مالاً وعشيرةً فأنا راضٍ بما قُسِمَ لِي، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أقَلَّ ﴾ منصوبٌ؛ لأنه مفعولُ (تَرَنِي). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أنَا ﴾ عمادٌ، ومَن قرأ (أقَلُّ) بالرفع فعلَى معنى (أنَا) مبتدأ و(أقَلُّ) خبرٌ في موضعِ المفعول.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فعسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ ﴾؛ أي لعلَّ الله يؤتيَنِي في دار البقاء بُستاناً خيراً من بستانِكَ في الدُّنيا.
﴿ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا ﴾؛ على بستانِكَ؛ ﴿ حُسْبَاناً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾؛ أي ناراً مِن السَّماء فتُحرِقها، وسُمِّي العذابُ حُسْبَاناً على معنى أنه يرسل عليها بحساب ما كسبت يدك. وقال النضرُ بن شميل: (الْحُسْبَانُ الْمَرَامِي) أي يرسلُ عليها مَرَامِي عذابهِ إما بردٌ، وإما حجارةٌ وغيرهما بما شاء مِن أنواعِ العذاب.
﴿ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ﴾؛ أي أرْضاً ملساءَ لا نباتَ عليها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً ﴾؛ أي غَائِراً في الأرضِ يعني النهرَ الذي في خلالِها.
﴿ فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ﴾؛ أي لا يَبْقَى لهُ أثرٌ يطلبهُ بوجهٍ من الوجوه، لا تنالهُ الأيدي ولا الأرشيةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ﴾؛ أي هَلَكَ مالهُ وبستانه، يقالُ: أُحِيْطَ القومُ إذا هَلَكْوا.
﴿ فَأَصْبَحَ ﴾؛ الكافرُ.
﴿ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ﴾؛ أي يضربُ بإحْدَى يديهِ على الأخرى، وتقليبُ الكفَّين يفعلهُ النادمُ كثيراً، وصارَ عبارةً عن النَّدَمِ.
﴿ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا ﴾؛ أي في جنَّته.
﴿ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ﴾؛ أي ساقطةٌ على سقوفِها؛ ﴿ وَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ﴾؛ فَنَدِمَ حيث لا ينفعهُ الندم، ولَم يكن تندُّمه على إشراكهِ إيْماناً منهُ؛ لأنه لَم يَقُلْهُ تحقيقاً للتَّوبة، ولكن كان يتأسفُ على هلاكِ مالهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي لَم تَنْصُرْهُ الفئةُ الذين افتخرَ بهم في قولهِ﴿ وَأَعَزُّ نَفَراً ﴾[الكهف: ٣٤] ﴿ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً ﴾؛ بأن استَرَدَّ بدلَ ما ذهبَ منه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُنَالِكَ ٱلْوَلاَيَةُ لِلَّهِ ٱلْحَقِّ ﴾؛ في ذلك الموطنِ عَلِمَ الكافرُ أن الوَلاَيَةَ بالنصرِ لله الحقِّ، فهو الذي يَملكُ النصرَ، هذا معنى قراءةِ (الوِلاَيَةُ) بخفضِ الواو، وأما (الْوَلاَيَةُ) بفتحِ الواو فهو نقيضُ العداوةِ، وَقِيْلَ: إن معنى قراءةِ (الْوِلاَيَةُ) بالكسرِ: الإمارةُ والسُّلطانُ، يعني في يومِ القيامة الولايةُ لله. ومن قرأ بفتحِها فهو مِن الْمُوَالاَةِ كقولهِ تعالى﴿ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾[البقرة: ٢٥٧] يعني: إنَّهم يؤمنونَ بالله يومئذٍ، ويتبرَّءُون مما كانوا يعبدونَ من دونِ الله. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (الْحَقِّ) مَن قرأ بالكسرِ فهو نعتٌ لله، ومَن رفعَهُ فهو نعتٌ للولايةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً ﴾؛ أي خيرُ مَن أثابَ وجازى على العملِ؛ ﴿ وَخَيْرٌ عُقْباً ﴾؛ أي خيرُ مَن أعقبَ عاقبةً، وَقِيْلَ: عاقبةُ طاعتهِ خيرٌ من عاقبةِ غيره. قال ابنُ عبَّاس: (هَذانِ الرَّجُلاَنِ ذكَرَهُمَا اللهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إن﴿ لِي قَرِينٌ ﴾[الصافات: ٥١] إلَى قولهِ تعالَى﴿ فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ ﴾[الصافات: ٥٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ ﴾؛ أي اضرِبْ يا مُحَمَّدُ لِهؤلاء المتكبرين المترَفين مِن قومِكَ الذين سألوكَ طردَ فقراءِ المؤمنين صفةَ الحياة الدُّنيا في بقائها وفنائِها؛ كَمَاءٍ أنزَلْنَاهُ ﴿ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ ﴾؛ فَنَجَعَ في النَّباتِ حتى خالطَهُ، وأخذ النباتُ زُخْرُفَهُ فصار أجناساً مختلفةً بعضُها مخلَّطٌ ببعضٍ؛ ﴿ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ ﴾؛ متفتِّتاً، والهشيمُ ما تَكَسَّرَ وَانْحَطَمَ، ثم فرَّقتْهُ الرياحُ، وطارت به كما يطيرُ بأشياءٍ خفيفة فلا يبقَى له أثرٌ، كذلك الدُّنيا يفنى منها كلُّ شيء كما لا يبقَى من الهشيمِ شيءٌ؛ ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً ﴾؛ أي لَم يزل قادراً على خَلْقِ الأشياء. قالتِ الحكماءُ: شبَّهَ اللهُ الدنيا بالماءِ؛ لأن الماءَ لا يستقرُّ في موضعٍ، كذلك الدُّنيا لا تُبقِي على أحدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ أي مما ينتفعُ به في الدُّنيا لا في الآخرةِ؛ ﴿ وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾ قِيْلَ: إنَّها الصلواتُ الخمسُ، وَقِيْلَ: جميعُ الطاعاتِ. وسُمِّيت الباقياتُ لبقاء ثوابها للإنسانِ، بخلاف الأموالِ والأولاد التي لا تبقَى. وقال ابنُ عبَّاس وعكرمةُ ومجاهد: (هِيَ قَوْلُ الْعَبْدِ: سُبْحَانَ اللهِ؛ وَالْحَمْدُ للهِ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ؛ وَاللهُ أكْبَرُ). يدلُ عليه ما رُويَ عن أبي الدَّرداءِ:" أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أخَذ غُصْناً فحرَّكَهُ حتى سقطَ ورَقهُ، فقالَ: " إنَّ الْمُسْلِمَ إذا قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ؛ وَالْحَمْدُ للهِ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ؛ وَاللهُ أكْبَرُ، تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتَّ هَذا، خُذْهُنَّ إلَيْكَ يَا أبَا الدَّرْدَاءِ قَبْلَ أنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنَّ، فإنَّهنَّ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ". وعن أنسٍ رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:" خُذُوا حَسْبَكُمْ مِنَ النَّارِ، قُولُوا: سُبْحَانَ اللهِ؛ وَالْحَمْدُ للهِ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ؛ وَاللهُ أكْبَرُ؛ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ، فَإنَّهُنَّ الْمُقَدِّمَاتُ؛ وَهُنْ الْمُنْجِيَاتُ؛ وَهُنَّ الْمُعَقِّبَاتُ؛ وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ "وقال عثمانُ بن عفَّان وابنُ عمرَ وسعيدُ بن المسيَّب: (هُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ؛ وَالْحَمْدُ للهِ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ؛ وَاللهُ أكْبَرُ؛ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيْمِ). وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" " اسْتَكْثِرُواْ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ " قِيْلَ: مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " التَّكْبيْرُ؛ وَالتَّهْلِيْلُ؛ وَالتَّسْبيْحُ؛ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيْمِ " "وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" إنْ عَجَزْتُمْ عَنِ اللَّيْلِ أنْ تُكَابدُوهُ، وَعَنِ الْعَدُوِّ أنْ تُجَاهِدُوهُ، فَلاَ تَعْجَزُواْ عَنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ اللهِ؛ وَالْحَمْدُ للهِ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ؛ وَاللهُ أكْبَرُ. فإنَّهَا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ ". وَقِيْلَ: هِيَ كلُّ عملٍ صالح يُثاب عليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾ أي أفضلُ ثواباً، وأفضلُ أملاً من المالِ والبنين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً ﴾؛ أي واذكر يومَ نُسَيِّرُ الجبالَ، ويجوزُ أن يكونَ المعنى وخيرٌ أمَلاً يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ، وتَسَيُّرُ الجبالِ وتسييرُها: قلعُها، فإنَّ الله تعالى يقلعها عن وجهِ الأرضِ يومئذٍ، فيسيِّرُها في الهوَاء، كما يسيِّرُ السحابَ في الدُّنيا، ثم يَجْعلُها هباءً منثوراً فتعودُ في الأرضِ حتى لا يبقَى شيءٌ، ولذلك قالَ تعالَى ﴿ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً ﴾ أي ظاهرةً مستويةً لا يسترُ شيءٌ شيئاً، ولو كان يبقَى شيءٌ من الجبالِ والأشجار والنبات لَم تكن الأرضُ بارزةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ ﴾؛ يعني المؤمنينَ والكافرين، أي بعثناهُم من قبورِهم.
﴿ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾؛ أي لَم نترُكْ منهم أحداً في قبرهِ نسياناً ولا غفلةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَّاً ﴾؛ أي معناهُ: أن الناسَ كلَّهم يعرضون على اللهِ تعالى مصفُوفِين، كلُّ زُمرةٍ وأمَّة صَفٌّ، فيكونون صَفّاً بعد صفٍّ كصفوفِ الصلاة إلاَ أنَّهم صفٌّ واحد. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾؛ أي أعدنَاكم كما خلقنَاكم أوَّلَ مرة. وقال ابنُ عبَّاس: معناه (حُفَاةٌ عُرَاةٌ لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِمَّا اكْتَسَبُوهُ فِي الدُّنْيَا كَمَا فِي أوَّلِ الْخَلْقِ). قال صلى الله عليه وسلم:" " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قٌُبُورِهِمْ حُفَاةٌ عُرَاةٌ غُرْلاً " فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاسَوْأتَاهُ يَا رَسُولَ اللهِ! أمَا يَسْتَحْيي بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيْهِ " "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً ﴾؛ أي بل زعمتُم في الدُّنيا أن لن نجعلَ لكُم أجَلاً للبعثِ، وهذا خطابٌ لِمنكري البعثِ خاصَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ ﴾؛ أي كتابُ كلِّ إنسانٍ في يده، بعضُهم في اليمينِ وبعضُهم الشِّمالِ.
﴿ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾؛ أي المذنبينَ وهم المشركونَ؛ ﴿ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ﴾؛ أي خائفينَ مما في الكتاب، يَدْعُونَ على أنفسِهم بالويلِ والثُّبور؛ ﴿ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (الصَّغِيْرَةُ التَّبَسُّمُ، وَالْكَبيْرَةُ الضَّحِكُ). وقال ابنُ جُبيرٍ: (الصَّغِيْرَةُ الْمَسِيْسُ وَالتَّقْبيْلُ، وَالْكَبيْرَةُ الزِّنَا). والمعنى لا يتركُ صغيرةً ولا كبيرة من أعمالِنا إلاَّ أثبتَها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً ﴾؛ أي وجدُوا جُزْءَ ما عملُوا مكتوباً مثَّبتاً في الكتاب.
﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾؛ أي لا ينقصُ من حسناتِ أحدٍ، ولا يزيدُ في سيِّئات أحدٍ، ولا يعاقبُ بغير جُرْمٍ. وروي أنَّ الفضيلَ بن عيَاضٍ كان إذا قرأ هذه الآيةَ قال: (صَحَوا واللهِ مِنَ الصِّغَارِ قَبْلَ الْكِبَارِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾؛ قد تقدَّم تفسيرهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ ﴾؛ تقدَّم أيضاً، الخلافُ في أنه من الملائكةِ أم من الجنِّ، بَنِي الجانِ، والصحيحُ أنهُ من بَنِي الجانِّ جنسٌ غير جنسِ الملائكة؛ لأنَّ الملائكةَ رُسُلُ اللهِ، ولا يجوزُ على رسولِ مِن رُسُلِ اللهِ أن يكفرَ.
﴿ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾؛ أي خرجَ عن طاعةِ ربهِ، وَقِيْلَ: ردَّ أمرَ ربهِ.
﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي ﴾؛ هذا استفهامٌ بمعنى الإنكارِ، يقولُ: كيفَ تطيعونَهُ وقد فَسَقَ.
﴿ وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ﴾؛ وهو اليومُ عدوٌّ لكم.
﴿ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾؛ ما استبدلَ الظَّالِمون عن رب العزَّة إبليسَ لَعَنَهُ اللهُ حيث تركوا طاعةَ مَن خَلَقَهم، وأنعمَ عليهم، ويجازيهم جنةَ الْخُلْدِ، وأطاعوا مَن يؤدِّيهم إلى العقاب الدائم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَذُرِّيَّتَهُ ﴾.
قال قتادةُ والحسن: (يَعْنِي أوْلاَدَ إبْلِيْسَ؛ وَهُمْ يَتَوَالَدُونَ، كَمَا يَتَوَالَدُ بَنُو آدَمَ)، قال مجاهدُ: (فَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْلِيْسَ وَلْهَانُ؛ وَهُوَ صَاحِبُ الطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ، وَزَلْيَِنُورُ صَاحِبُ رَايَةِ إبْليْسَ لِكُلِّ سُوقٍ، وَدِثِّيْرُ صَاحِبُ الْمَصَائِب يَأْمُرُ بضَرْب الْوَجْهِ وَالدُّعَاءِ بالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَغَيْرِ ذلِكَ، وَالأَعْوَرُ وَهُوَ صَاحِبُ أبْوَاب الزِّيَادَةِ، وَمَنْيُوطُ وَهُوَ صَاحِبُ الأَخْبَار يَأْتِي بهَا فَيُلْقِيَهَا فِي أفْوَاهِ النَّاسِ فَلاَ يُوجَدُ لَهَا أصْلٌ، وَدَاسِمُ هُوَ الَّذِي إذا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَلَمْ يُسَلِّمْ وَلَمْ يَذْكِرِ اسْمَ اللهِ ضَرَّهُ فِي الْمَتَاعِ مَا لَمْ يُرْفَعْ وَلَمْ يُوضَعْ فِي مَوْضِعِهِ، وَإذا أكَلَ وَلَمْ يَذْكِرِ اسْمَ اللهِ أكَلَ مَعَهُ. وَمِنْ أوْلاَدِ إبْلِيْسَ الْهَفَّافُ وَمُرَّةُ، وَبهِ كَانَ يُكْنَى أبَا مُرَّةَ). وقال ابنُ زيدٍ: (إنَّ إبْلِيْسَ أبُو الْْجِنِّ، كَمَا أنَّ آدَمَ أبُو الإنْسِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لإبْلِيْسَ: إنِّي لاَ أخْلُقُ لآدَمَ ذُرِّيَّةً إلاَّ جَعَلْتُ لَكَ مِثْلَهَا، فَلَيْسَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ أحَدٌ إلاَّ بشَيْطَانٍ قُرِنَ بهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ﴾؛ يعني إبليسَ وذريَّته، والمعنى: ما اطْلَعْتُهُمْ على خلقِ السَّماوات والأرضِ، ولا أحضرتُهم، ولَم يكونوا موجودينَ يوم خَلَقْتُ السَّماواتِ والأرض، ولا أشهدتُ بعضَهم خلقَ بعضٍ، ولا أعطيتُهم العلمَ وكيفيَّة خلقِ الأشياء، ولو كنتُ مِمن يستعينُ بأحدٍ لما أستعنتُ بالمضِلِّين، فكيفَ والاستعانةُ عليَّ مستحيلةٌ إذا أردتُ خلقَ شيء كانَ. والمعنى أنَّكم اتبعتُم الشيطانَ، كاتِّباع مَن يكونُ عنده عِلمُ باطن الأشياءِ، وأنا ما أشهدتُهم خلقَ السَّماوات والأرضِ ولا خلقَ أنفُسِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً ﴾؛ أي ما كنتُ مُتَّخِذ الشياطينِ الذين يُضِلُونَ الناسَ أعواناً يعضِدُونني. ومَن قرأ (وَمَا كُنْتَ) بالفتحِ، فالمعنى: وما كنتَ يا مُحَمَّدُ لِتَتَّخِذ المضلِّين أنصاراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ ﴾؛ معناهُ: يومَ القيامةِ يقولُ الله للمشركين: نَادُوا شُرَكَائِي الَذِينَ زَعَمْتُمْ أنَّهم شُركاؤهم للأصنامِ والشياطين وذريَّته؛ ليدفعُوا عنكم العذابَ.
﴿ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً ﴾؛ أي جعلنا بينَ العابدِ والمعبود من العذاب ما يُوبقُهُمْ؛ أي ما يُهِلِكُهم، وَقِيْلَ: معناهُ: وجعلنا بينَهم وبين المؤمنين؛ أي بين أهلِ الْهُدى وأهلِ الضَّلالة مَوْبقاً. قال عبدُالله بنُ عمرَ: (هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ مِنَ الصَّدِيْدِ وَالْقَيْحِ وَالدَّمِ، يُفَرِّقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهِ وَمَنْ سِوَاهُمْ). وقال عكرمةُ: (هُوَ نَهْرٌ مِنَ النَّارِ يَسِيْلُ نَاراً، عَلَى حَافَّتَيْهِ حَيَّاتٌ مِثْلَ الْبغَالِ). وقال الضحَّاكُ: (مَعْنَاهُ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَهْلِكاً)، وقال الحسنُ: (عَدَاوَةً)، ويقالُ: أوْبَقَهُ اللهُ؛ أي أهْلَكَهُ، وَوَبقَ أي هَلَكَ. قرأ حمزةُ (وَيَوْمَ نَقُولُ) بالنُّونِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا ﴾؛ أي ورأى المشركونَ النارَ مسيرةَ أربعين سنةٍ، وايقنُوا أنَّهم داخلُوها.
﴿ وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً ﴾؛ مَعْدِلاً يعدلون إليه، لأنَّها أحاطَتْ بهم من كلِّ جانب، والمواقعةُ مُلاَمَسَةُ الشَّيءِ بشدَّةٍ، ومنه وقائعُ الحروب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ﴾؛ أي بَيَّنَّا لَهم من كلِّ مثَلٍ يحتاجون إليه في أمرِ دينهم.
﴿ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ ﴾؛ أي الكافرُ.
﴿ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ﴾؛ في تكذيب الرُّسل، وما جاءُوا به من الآياتِ. قِيْل: َ أرادَ بالإنسانِ النضرَ بنِ الحارثِ وجدالَهُ في القُرْآنِ. وقال الكلِبيُّ: (يَعْنِي أُبَي بْنَ خَلَفٍ) ويقالُ: معناه: ما ليسَ بشيءٍ مِن الملائكة والجنِّ والشياطينِ، وسائرِ الأصناف أجدَلُ من الإنسانِ. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ:" مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدىً كاَنُواْ عَلَيْهِ إلاَّ أُعْطُواْ الْجَدَلَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً ﴾؛ أي ما منعَ أهلُ مكة أن يُؤمِنوا ﴿ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ ﴾ يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم جاءَهم مِن اللهِ بالرَّشَادِ.
﴿ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ ﴾ أي يتوبُوا من الكفرِ، ما منعَهم من ذلك إلاّ طلبُ أن يأتيَهم سُنَّةُ الأَوَّلِيْنَ؛ وهو أنَّهم إذا لَم يؤمنوا جاءَهم العذابُ مِن حيث لا يشعرونَ، أو مقابلةً من حيث يَرَوْنَ. وهذه الآيةُ فِيمَنْ قُتِلَ من المشركين ببَدْرٍ وأُحُدٍ؛ وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً ﴾ أي عَيَاناً مقابلةً. وقرأ أهلُ الكوفة (قُبُلاً) بضمِّ القافِ والباء، جمعُ قَبيْلٍ؛ أي صنوفٍ من العذاب، وضُروبٍ منه مختلفةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾؛ ظاهرُ المعنى.
﴿ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ ﴾؛ أي يخاصِمُ الذين كفرُوا بالكتاب والرُّسل بالحجَّة الباطلةِ.
﴿ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ ﴾؛ أي ليُبْطِلُوا بها الإسلامَ القُرْآنَ. قال ابنُ عبَّاس: (يَعْنِي الْمُسْتَهْزِئِيْنَ وَالْمُقْتَسِمِيْنَ وَأتْبَاعَهُمْ)، يقالُ: دُحِضَتْ حُجَّتُهُ إذا بَطَلَتْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً ﴾؛ أي اتَّخذُوا القُرْآنَ وما خوِّفوا به مِن النار يومَ القيامة هُزُواً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ ﴾؛ أي ليسَ أحدٌ أظلمَ ممن وَعِظَ بالقُرْآنِ، وما فيه مِن الوعيدِ.
﴿ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ﴾؛ أي تَهاون بها ولَم يتفكَّرْ فيها. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾؛ أي ونَسِيَ ذِكْرَ ما عملت يداهُ وتغافلَ عن ذكرهِ.
﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ﴾؛ أي أغْطِيَةً؛ لئلاَّ يفَقَهُوا الْهُدَى، وَجعلنا ﴿ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً ﴾؛ لئَلاَّ يستَمِعوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً ﴾؛ أي إن تَدْعُهُمْ إلى الْقُرْآنِ وإلى الرحمةِ وإلى الإيْمَانِ فلن يهتدُوا، أخبرَ اللهُ أن هؤلاءِ طَبَعَ اللهُ على قلوبهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ ﴾؛ أي الغافرُ السَّاتِرُ على عبادهِ، والرحمةُ حين لا يُعَجِّلُهُمْ بالعقوبةِ.
﴿ لَوْ يُؤَاخِذُهُم ﴾ بعقاب.
﴿ بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ ﴾؛ في الحالِ؛ ﴿ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ ﴾؛ أي لعذابهم أجْلٌ ضَرَبَهُ اللهُ.
﴿ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً ﴾؛ أي مَلْجَأً وَمَنْجاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ ﴾؛ أي القُرَى الماضية، قُرى عَادٍ وثَمود لَمَّا أشركوا، والمرادُ أهلُ القرى.
﴿ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً ﴾؛ أي لوقتِ إهلاكهم أجَلاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لاۤ أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾؛ أي وَاذْكُرْ إذ قالَ موسى لفتاهُ يوشعَ بنَ نونٍ، قال ابنُ عبَّاس: (وقصَّةُ ذلكَ: أن موسى عليه السلام قامَ خطيباً في بنِي إسرائيلَ، فسُئِلَ أيُّ الناسِ أعلمُ؟ فقال: أنَا، فبعثَ اللهُ عليه فقالَ: إن لِي عبداً بمجمع البحرينِ هو أعلمُ منكَ، قال موسى: يا رب كيفَ لِي بهِ، يا رب دُلَّنِي عليه. فقال: تأخذُ معكَ حُوتاً وتَمضي إلى شَاطِئ البحرِ، فحيث ما فقدتَ الحوتَ فهو ثَمَّ، فأخذ حوتاً من السَّمكِ، وجعلهُ في مكتلٍ وانطلقَ معه بفتاهُ يوشعَ بن نون إلى شاطئِ البحرِ، فأَوَيَا إلى صخرةٍ عندَها ماءٌ يسمى ماءُ عينِ الحياة، فجلسَ يوشعُ يتوضَّأُ من تلكَ العينِ، فانتضحَ من ذلك الماءِ على الحوتِ فحَييَ، فوثبَ في الماءِ، وَاتَّخَذ سَبيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً؛ أي اتخذ الحوتُ طريقاً في البحرِ مسْلَكاً يَابساً). وَقِيْلَ: معنى قولهِ (سَرَباً) أي ذاهِباً، فقامَ يوشعُ حين رأى ذلك مِن الحوت، وذهبَ إلى موسى ليخبرَهُ بذلكَ، وذهبَا يومَهُما ذلكَ حتى صلَّيا الظهرَ مِن الغدِ، فتَعِبَ موسى، فقَالَ لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقْدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذا نَصَباً؛ أي تَعَباً. ومعنى الآية: وإذ قالَ موسى لفتاهُ لا أزالُ أمضِي حتى أبلُغَ مجمع البحرين الموضعَ الذي يلتقِي فيه بحرُ فارسَ والرومِ أو أمضِيَ سنينَ كثيرة، والْحُقَبُ جمعُ أحْقَابٍ، والأحقابُ جمع الحِقْبِ، والْحِقْبُ ثَمَانُونَ سنةً، وَقِيْلَ: سبعونَ سنةً بلُغة قريشٍ، وسُمي يوشعُ فَتَاهُ؛ لأنه كان يخدمهُ ويلازمهُ في الْحَضَرِ والسَّفرِ للتعلُّم منه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ﴾ أي الموضعَ الذي يجتمعُ فيه ماء البحرينِ نَسِيَ صاحبُ موسى أن يخبرَهُ بخبرِ الحوت. قال المفسِّرون: وكان حُوتاً في زَنْبيْلٍ، وكانا يأكُلانِ منه عندَ الغدَاءِ والعشاءِ، فلما أتَيَا إلى الصخرةِ على ساحلِ البحر وضعَ فتاهُ الزنبيلَ فأصابَ الحوتَ من الماءِ الذي ذكرناهُ شيءٌ فتحرَّكَ في الزنبيلِ فانسربَ في البحرِ، قد قيلَ لِموسى: تزوَّدْ معكَ حُوتاً مالِحاً فحيثُ تفقدُ الحوتَ فهناك تجدُ الرجلَ العالِمَ. فلما انتهيَا إلى الصخرةِ، قال موسَى لفتاهُ: امْكُثْ هنا، وانطلقَ لحاجتهِ فجرى الحوتُ في البحرِ، فقال فتاهُ: إذا جاء نبيُّ اللهِ أخبرتهُ بذلكَ، فأنساهُ الشيطان، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ نَسِيَا حُوتَهُمَا ﴾؛ وإنَّما نَسِيَ يوشعُ أن يذكرَ قصَّتَهُ لِموسى، وأضافَ النسيانَ إليهما توسُّعاً لأنَّهما تزوَّدا، فصارَ كما يقالُ: نسيَ القومُ زادَهم، وإنَّما نسيَهُ أحدُهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَباً ﴾؛ أي جعلَ الحوتُ يضرِبُ بذنبهِ في البحرِ فلا يضربُ شيئاً وهو ذاهبٌ إلاّ يَبسَ موضعهُ كهيأة السَّرَب. قال قتادةُ: (جَعَلَ لاَ يَسْلِكَ فِيهِ طَرِيْقاً إلاَّ صَارَ الْمَاءُ جَامِداً)، وقال الربيعُ: (انْجَابَ الْمَاءُ عَلَى مَسْلَكِ الْحُوتِ فِي الْمَاءِ فَصَارَ كُوَّةً لَمْ يَلْتَمَّ). والسَّرْبُ في اللُّغة: الْمَحْفُورُ في الأرضِ، وعن أُبَيِّ بنِ كعبٍ قالَ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" انْجَابَ الْمَاءُ عَنْ مَسْلَكِ الْحُوتِ، فَصَارَ كُوَّةً لَمْ يَلْتَمَّ، فَدَخَلَ مُوسَى الْكُوَّةَ عَلَى إثرِ الْحُوتِ، فَإذا بالْخَضِرِ "وَقَالَ ابنُ عبَّاس: (جَعَلَ الْحُوتُ لاَ يَمَسُّ شَيْئاً مِنَ الْمَاءِ إلاَّ يَبسَ حَتَّى صَارَ صَخْرَةً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا ﴾؛ أي لَمَّا جاوزَ بين البحرينِ، قال موسَى ليوشع: آتِنَا بما نتغدَّى بهِ.
﴿ لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً ﴾؛ أي تَعَباً ومَشَقَّةً، فلما قال لهُ موسى ذلكَ؛ تَذكَّرَ قصَّة الحوتِ؛ فـ ﴿ قَالَ ﴾؛ له: ﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ ﴾؛ عند رأسِ البحر؛ ﴿ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ ﴾؛ ما رأيتُ هناكَ من أمرِ الحوت أنْ أذكرَهُ لك يا نبيَّ اللهِ ﴿ وَمَآ أَنْسَانِيهُ ﴾؛ أي وما شَغَلَنِي عن ذكرهِ لكَ.
﴿ إِلاَّ ﴾، وَسْوَسَةُ.
﴿ ٱلشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾، الحوتُ.
﴿ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ عَجَباً ﴾؛ أي شيئاً عَجَباً وهو أن الماءَ إنْجَابَ عنهُ، وبقيَ كالكوَّةِ لَم يَلْتَمَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ﴾؛ أي قال موسَى: ذلكَ الذي كُنَّا نطلبُ دلالةً لنا مِن اللهِ تعالى على موضعِ الْخَضِرِ ومرتدَّة من العلامةِ.
﴿ فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً ﴾؛ أي رَجَعَا وعادَا في الطريقِ الذي جاءَ منه يقُصَّانِ آثارَهما قَصَصاً، والقَصُّ اتِّباعُ الأثرِ، ومنهُ قوله﴿ قُصِّيهِ ﴾[القصص: ١١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ ﴾؛ وهو الْخَضِرُ. قال ابنُ عبَّاس: (وَذلِكَ أنَّهُمَا لَمَّا انْتَهَيَا إلَى الصَّخْرَةِ جَعَلَ يُوشُعُ يُرِي مُوسَى مَكَانَ الْحُوتِ وَأثَرَهُ فِي الْمَاءِ، وَكَانَ مُوسَى يَتَعَجَّبُ مِنْ ذلِكَ إذ وَقَعَ مُوسَى عَلَى رَجُلٍ قَائِمٍ يُصَلِّي، فَانْتَظَرَ حَتَّى فَرَغَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ). وإنَّما سُمي الْخَضِرُ؛ لأنَّهُ إذا صلَّى في مكانٍ أخْضَرَّ ما حولهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا ﴾؛ أي أكرَمْناه بالنبوَّةِ.
﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ﴾ ببواطنِ الأمُور. قال ابنُ عبَّاس: (أعْطَاهُ عِلْماً مِنْ عِلْمِ الْغَيْب).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ﴾؛ أي مِمَّا يهديني إلى الصواب، ويجوزُ أن يكونَ معنى رشداً يُرْشِدُنِي به، والرُّشْدُ والرَّشَدُ لُغتان. قال قتادةُ: (لَوْ كَانَ أحَدٌ مُكْتَفِياً عَنِ الْعِلْمِ لاكْتَفَى نَبيُّ اللهِ مُوسَى عليه السلام، وَلَكِنَّهُ قَالَ: هَلْ أتَّبعُكَ عَلَى أنْ تُعَلِّمَنِي). قال الزجَّاجُ: (فِي فِعْلِ مُوسَى عليه السلام - وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الأَنْبيَاءِ - مِنْ طَلَب الْعِلْمِ وَالرِّحْلَةِ دَلِيْلٌ عَلَى أنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أنْ يَتْرُكَ طَلَبَ الْعِلْمِ، وَإنْ كَانَ قَدْ بَلَغَ نِهَايَتَهُ، وَأنْ يَتَوَاضَعَ لِمَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾؛ أي قال الْخَضِرُ لِموسى: إنَّكَ ترى منِّي شيئاً لا تصبرُ عليه.
﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ﴾؛ ظاهرهُ مُنْكَراً، والأنبياءُ والصالحون لا يصبرونَ على ما يرونَهُ منكراً.
﴿ قَالَ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً ﴾؛ على ما أراهُ منكَ.
﴿ وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً ﴾؛ تأمُرنِي بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ﴾؛ أي قال الخضرُ لِموسى فإنْ اتَّبعتَنِي فلا تسألنَّ عن شيءٍ أنكرتَ فعلَهُ، ولا تعجَلْ في المسألةِ عنهُ حتى أُبَيِّنَ لك الوجهَ فيه وأفسرَهُ لك، لأنه قد غابَ علمهُ عنكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱنْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَا ﴾؛ أي فمَضَيا حتى إذا رَكِبَا في السفينةِ خَرَقَهَا الخضرُ، وذلك أنَّهما لَمَّا مشَيَا على الساحلِ مرَّت بهما سفينةٌ، فكلَّمُوهم أن يحملوهما بغيرِ أُجرة. قال ابنُ عبَّاس: (فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِيْنَةِ أخَذ الْخَضِرُ بِيَدِهِ فَأْساً، أوْ مِنْقَاراً وَأكَبَّ عَلَى السَّفِيْنَةِ يَخْرِقُهَا، فَقَالَ لَهُ أهْلُ السَّفِيْنَةِ: نَنْشُدُكَ اللهَ أنْ لاَ تَخْرِقَهَا، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْداللهِ لاَ يَحِلُّ لَكَ هَذا، فَإنَّكَ تُغْرِقُهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ الْخَضِرُ حَتَّى خَرَقَ السَّفِيْنَةَ). قِيْلَ: إنهُ قَلَعَ لوحين مما يلِي الماءَ، فحشَاهما موسى بثوبهِ و ﴿ قَالَ ﴾؛ منكراً عليهِ: ﴿ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ﴾؛ أي مُنْكَراً، ثم تَنَحَّى موسى فجلسَ، وقالَ: ما أصنعُ في اتِّباع هذا الرجلِ الذي يظلمُ الناسَ؟! كنتُ في بني اسرائيلَ أقرأُ عليهم التوراةَ بُكْرَةً وعشيَّة ويقبَلُون منِّي، فتركتُ ذلكَ وصَحِبْتُ هذا الظالِمَ... فقال له الخضرُ بعد ما أخرجَ أهلُ السفينةِ متاعهم إلى الساحل: أتدري ما تحدث به نفسك؟ قال: ما هو؟ فأخبره بما حدَّث به نفسه، ثُم ﴿ قَالَ ﴾؛ له الخضرُ: ﴿ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ﴾؛ أي لِمَا تركتُ من عهدِك ووصيَّتِك، وَقِيْلَ: أرادَ به النسيانَ الذي هو ضدُّ الذِّكر. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ﴾ أي لا تُكلِّفْني مشقَّةً، وعامِلني باليُسْرِ لا بالعسرِ، ولا تضيِّقْ عليَّ في صُحبتِي إياكَ. وأصلُ الرَّهَقِ: الْغَشَيَانُ، يقالُ: رَهَقَ الفارسُ فلاناً إذا غَشِيَهُ فأدركَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱنْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ ﴾؛ قال سعيدُ بن جبير: (وَجَدَ الْخَضِرُ غُلْمَاناً، فَأَخَذ غُلاَماً وَضِيْءَ الْوَجْهِ). قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ مِنْ أحْسَنِهمْ وَأصْبَحِهمْ، فَأَخَذهُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَأصْرَعَهُ وَأضْجَعَهُ، ثُمَّ ذبَحَهُ بالسِّكِّيْنِ، وَكَانَ غُلاَماً لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ). وَقِيْلَ: إنهُ اجتذبَ رأسَهُ فقلعَهُ، وَقِيْلَ: نزعَ رأسَهُ من جسدهِ، وَقِيْلَ: رفصَهُ برجلهِ فقتلَهُ، وَقِيْلَ: ضربَ رأسَهُ فقتلَهُ، وكان اسمُ الغلامِ خشيود، وَقِيْلَ: جيشور. و ﴿ قَالَ ﴾ لهُ موسى حين رأى ذلكَ منهُ: ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾؛ أي أقَتَلْتَ نفساً بريئةً من الذُّنوب، لَم تجب ما يوجبُ قتلَها. ومن قرأ (زَاكِيَةً) فمعناهُ: طاهرةً من الذُّنوب لَم تبلغِ الْحُلُمَ.
﴿ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ﴾؛ أي قَطِيعاً مُنْكَراً لا يعرفُ في شَرْعٍ. وقد اختلفُوا في هذا الغلامِ أنَّهُ كان بالِغاً أم لَم يكن بالغاً، إلاّ أن قولَهُ (بغيرِ نفسٍ) فيه دليلٌ على أنه بالغاً، لأن غيرَ البالغِ لا يُقْتَلُ، وإن قَتَلَ غيرَهُ، وكان هذا الغلامُ يقطعُ الطريقَ، ويلجأُ إلى أبويهِ فيحلفان دونَهُ، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" إنَّ الْغُلاَمَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبعَ كَافِراً ". وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ﴾ أي مُنْكَراً عظيماً. قال القتيبي: (النُّكُرُ أبْلَغُ مِنَ الإمْرِ فِي الإنْكَارِ؛ لأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ أشَدُّ مِنْ خَرْقِ السَّفِيْنَةِ)، وقالَ الزجَّاجُ: (الإمْرُ أبْلَغُ فِي الإنْكَارِ؛ لأَنَّ خَرْقَ السَّفِيْنَةِ يُوجِبُ غَرَقَ أهْلِهَا، وَذلِكَ أعْظَمُ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا ﴾؛ أي بعدَ هذه الكرَّةِ.
﴿ فَلاَ تُصَاحِبْنِي ﴾؛ إنْ طلبتُ صحبتَكَ.
﴿ قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً ﴾؛ أي بَلغْتَ من عندي إلى وقتِ العُذْرِ. رويَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" رَحِمَ اللهُ أخِي مُوسَى اسْتَحْيَا، فَقَالَ إنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي، وَلَوْ ثَبَتَ مَعَ صَاحِبه لأَبْصَرَ الأَعَاجِيْبَ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِن لَّدُنِّي ﴾ قرأ العامَّةُ بتشديدِ النونِ وهو الأجودُ؛ لأنَّ أصلَ (لَدُنْ) الإسكانُ، فإذا أضفتَها إلى نفسِكَ رُدَّتْ نوناً ليسلمَ سكونُ النون الأُولَى، كما يقولُ عن زيدٍ وَعَنِّي. ومَن قرأ بتخفيفِها قال (لَدُنِ) اسمٌ غير متمكّن، فيجوزُ حذفُ النونِ منه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا ﴾؛ قيل هي قريةُ أنطاكيَّة، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا ﴾ أي سَأَلاَ لَهم الطعامَ.
﴿ فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا ﴾؛ قال صلى الله عليه وسلم:" وَكَانُوا أهْلَ قَرْيَةٍ لِئَاماً ". وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ﴾؛ أي جِدَاراً مَائِلاً مُشْرِفاً على الانْهِدامِ يكادُ يسقطُ بسرعةٍ. قال وهبُ: (كان جِداراً طولهُ في السَّماءِ مائةُ ذراعٍ) وأمَّا قولهُ ﴿ يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ ﴾ هذا من مَجَازِ كلام العرب؛ لأن الجدارَ لا إرادةَ لهُ، وإنَّما معناه: قَرُبَ وَدَنَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَقَامَهُ ﴾.
قال ابنُ عبَّاس: (هَدَمَهُ ثُمَّ أعَادَ بنَاءَهُ). وقال ابنُ جبير: (مَسَحَ الْجِدَارَ وَرَفَعَهُ بيَدِهِ فَاسْتَقَامَ). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا ﴾ قرأ أبو رجاءٍ (يُضِيْفُوهُمَا) مخفَّفة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" كَانُوا أهْلَ قَرْيَةٍ لِئَاماً "، وقال قتادةُ في هذه الآية: (شَرُّ الْقُرَى الَّتِي لا تُضَيِّفُ الضَّيْفَ، وَلاَ تَعْرِفُ لابْنِ السَّبيْلِ حَقَّهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾؛ أي قالَ لهُ موسى: لاتَّخذتَ على إقامتِكَ للجدار جُعلاً. وقُرِئَ (لتَخِذْتَ) ومعناهُ معنى الأول.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ﴾؛ أي هذا الكلامُ والإنكارُ على تركِ الأجر هو الْمُفَرِّقُ بينَنا، لأنَّكَ قد حكمتَ على نفسكَ، وَقِيْلَ: معناهُ هذا فراقٌ بينَنا؛ أي فراقُ إيصالنا، والبَيْنُ مِن الأضدادِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾؛ أي سأخبرُكَ بتأويلِ الأشياء التي رأيتَها منِّي فلم تصبرُ علَيْها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ ﴾؛ يعني السفينةَ التي كانت لفقراءٍ يعملونَ في البحرِ لَم يكن لَهم مالٌ غيرُها، وكانوا يعملونَ عليها، ويأخذونَ إجرَتَها.
﴿ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾؛ بالخرقِ.
﴿ وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ ﴾؛ يقال له جَلَنْدُ.
﴿ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ ﴾؛ صحيحةٍ.
﴿ غَصْباً ﴾؛ وقد يذكرُ (وَرَاءَ) بمعنى أمامَ، وفيه دليلٌ أن للوصيِّ أنّ يعيبَ مالَ اليتيمِ إذا رأى فيه مصلحةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ وَأَمَّا ٱلْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ﴾؛ أي الغلامُ الذي قَتَلَهُ كان كافراً، وكان أبواهُ مؤمنين.
﴿ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾؛ فلذلكَ قَتَلَهُ، وكان قد أعلمَهُ اللهُ بذلك، قال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ الْغُلاَمَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبعَ كَافِراً، وَلَوْ عَاشَ لأَرْهَقَ أبَوَيْهِ طُغْيَاناً وَكُفْراً ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً ﴾؛ أي فأرادَ اللهُ أن يبدلَهما ولَداً خيراً منهُ صلاحاً وطهارةً، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَقْرَبَ رُحْماً ﴾ أي وأوْصَلَ للرَّحمِ وأبرَّ بوالديهِ. قال ابنُ عبَّاس: (أبدَلَهُمَا اللهُ بهِ جَاريَةً تَزَوَّجَهَا نَبيٌّ مِنَ الأَنْبيَاءِ فَوَلَدَتْ سَبْعِيْنَ نَبيّاً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ ﴾؛ أي في القريةِ المذكورة، وكان اسمُ اليتيمين: أصْرَماً وَصَرِيْماً.
﴿ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا ﴾؛ قِيْلَ: إنه كان مَالاً، وَقِيْلَ: كان عِلماً. وعن ابنِ عبَّاس: (أنه كانَ لَوحاً من ذهبٍ وفيهِ: بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ؛ لاَ إلَهَ إلاّ اللهُ؛ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، عَجِبْتُ لِمن أيقنَ بالموتِ كيف يفرحُ، ولِمن أيقنَ بالنارِ كيف يضحكُ، وعجبْتُ لِمن أيقنَ بالقَدَر كيف يحزنُ، وعجبتُ لِمن يرى الدُّنيا وتقلُّبَها بأهلِها كيف يطمئنُّ إليها). وَقِيْلَ: كان ذهباً وفضَّةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ﴾؛ أي كان ذا أمانةٍ، كان يقالُ له: كاشح، وَقِيْلَ: إنه مِن الأنبياءِ. قال سعيدُ بن جُبير عن ابنِ عبَّاس: (حُفِظا بصَلاَحِ أبيهِمَا وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهُمَا صَلاَحاً). قال جعفرُ بن محمَّد: (كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الأَب الصَّالِحِ سَبْعَةُ آبَاءٍ). وعن محمَّد بنِ المنكدرِ قال: (إنَّ اللهَ تَعَالَى لَيَحْفَظُ بالرَّجُلِ الصَّالِحِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَأهْلَ دُوَيْرَتِهِ، وَأهْلَ دُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ وَأُسْرَتِهِ الَّتِي هُوَ فِيْهَا، فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللهِ مَا دَامَ فِيْهِمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا ﴾؛ أي فأرادَ ربُّكَ بالأمرِ تسويةِ الجدار إلى أن يَكْبُرَا ويعقلاَ.
﴿ وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً ﴾؛ أي نعمةً؛ ﴿ مِّن رَّبِّكَ ﴾؛ وهذا نُصِبَ على المصدريَّة؛ أي رَحِمَهما اللهُ بذلك رحمةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾؛ وإنَّما فعلتهُ بأمرِ الله تعالى.
﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾؛ وأصلهُ تَسْتَطِعْ؛ إلاّ أن الطاءَ والتاء من مخرجٍ واحد، فحذفَ التاء لَمَّا اجتمعا لتخفيفِ اللفظ. ورويَ أن الخضرَ لَمَّا أرادَ أن يُفارقَ موسى أوصاهُ، قال يا موسَى: أفْرِغ عن اللَّجَاجَةِ ولا تَمشِ في غيرِ حاجة، ولا تضحَكْ من غير عجبٍ، ولا تعيِّرِ المذنبين بخطاياهم، وابْكِ على خطيئتك يا ابنَ عمرانَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً ﴾؛ يعني يسألُكَ اليهودُ يا مُحَمَّدُ عن خبرِ ذي القَرنَين ﴿ قُلْ سَأَتْلُواْ ﴾ سأقرأ عليكم خبرَهُ. قال مجاهدُ: (مَلَكَ الأَرْضَ أرْبَعةً: مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ، فَالْمُؤْمِنَانِ سُلَيْمَانُ وَذُو الْقَرْنَيْنِ، وَالْكَافِرَانِ النَّمْرُودُ وَبَخِتْنَصِّرُ). واختلفُوا في تسميتهِ بذِي القرنَين، فقال بعضُهم: لأنه مَلَكَ فارسَ والرُّوم، وَقِيْلَ: لأنه دَعَا قومَهُ إلى التوحيدِ، فضربوهُ على قرنهِ الأيسر، وَقِيْلَ: على قَرْنَيْهِ، وَقِيْلَ: لأنه دخلَ النورَ والظلمة، وَقِيْلَ: لأنه بَلَغَ قُطْرَي الأرضِ، وكان اسمهُ اسْكَنْدَرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي مَكَّنَّاهُ في الأرضِ.
﴿ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ﴾؛ أي من كلِّ شيء تستعينُ به الملوكُ على فتحِ المدائن ومحاربةِ الأعداء.
﴿ سَبَباً ﴾ أي بلاداً إلى حيث أرادَ، وَقِيْلَ: قَرَّبْنَا له أقطارَ الأرضِ، كما سَخَّرْنَا الريحَ لسليمان. وقال عليٌّ رضي الله عنه: (سَخَرَ اللهُ لِهُ السَّحَابَ فَحَمَلَهُ عَلَيْهَا وَمَدَّ لَهُ فِي الأَسْبَاب، وَبَسَطَ لَهُ النُّورَ، وَكَانَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ) وهذا معنى تَمَكُّنِهِ في الأرضِ، وهو أنه سَهَّلَ عليه المسيرَ فيها، وذلَّلَ له طُرُقَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَتْبَعَ سَبَباً ﴾؛ أي طريقاً تؤدِّيه إلى مغرب الشَّمس. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ ﴾؛ أي إلَى قومٍ لَم يكن بينَهم وبين مغرب الشَّمس أحدٌ؛ لأنه لا يُمكنه أن يبلُغَ موضعَ غروب الشَّمس. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾؛ أي رآها تغربُ في الماءِ، وَقِيْلَ: في عينٍ ذات حَمَأَةٍ وهي الطينُ الأسودُ الْمُنْتَنُ. وتقرأ (حَامِيَةٍ) أي حارَّةٍ، وهي قراءةُ العبادلةِ الثلاثةِ - عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُاللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ - وابنُ عامرٍ وأهلُ الكوفةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً ﴾؛ أي عند العينِ.
﴿ قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ ﴾؛ قِيْلَ: في هذا دليلٌ أن ذا القرنين كان نبيّاً؛ لأن الانسانَ لا يعلمُ أمرَ الله إلاّ بالوحيِ، ولا يجوزُ الوحيُ إلاّ إلى الأنبياءِ، وَقِيْلَ: كان معه نبيٌّ، فأوحَى اللهُ إلى ذلك النبيِّ، وفي الجملةِ لا يُمكن إثباتُ النبوَّة إلاّ بدليلٍ مقطوع به. ورويَ" عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سُئِلَ عن ذي القرنينِ قال: " هُوَ مَلِكٌ يَسِيْحُ فِي الأَرْضِ " "قال ابنُ الأنباريِّ: (إنَّهُ كَانَ نَبيّاً، فَإنَّ اللهَ قَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لِلأنْبيَاءِ، إمَّا بتَكْلِيْمٍ أوْ بوَحْيٍ، وَمَنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ نَبيّاً، قَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ ألْهَمْنَا كقولهِ﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ ﴾[القصص: ٧] أي ألْهَمْنَاها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ﴾؛ أي قُلنا له إما أن تَقْتُلَهُمْ على الكفرِ إن أبَوا الإسلامَ، وإما أن تأسِرَهم فتعلِّمَهم الهدى وتبصِّرَهم الرشادَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ ﴾؛ أي من أسرفَ.
﴿ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ﴾؛ أي نقتلهُ، وكلُّ مَن أشركَ فقد ظلمَ نفسه.
﴿ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ ﴾؛ في الآخرةِ بعد قتلي إيَّاهُ.
﴿ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً ﴾؛ يعني في النارِ أنكَى من القتلِ وأعظم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ ﴾؛ أي فلَهُ في الآخرة جزاءَ الْحُسنَى أي الجنةَ بالطاعةِ التي عمِلَها في الدنيا. وقرأ أهلُ الكوفةِ (جَزَاءً) نصباً وهو مصدرٌ وقعَ موقعَ الحالِ؛ أي فلهُ الْحُسْنَى مَجْزِيّاً بها. قال ابنُ الأنباريِّ: (جَزَاءً نصباً على المصدر؛ أي فيُجْزَى الْحُسْنَى جَزَاءً). قولهُ: ﴿ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ﴾؛ أي سنأمرهُ في الدُّنيا بما نُيَسِّرُ عليهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ﴾؛ أي سَلَكَ طريقاً آخرَ نحو المشرقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً ﴾؛ أي حتى إذا انتهىَ إلى آخرِ العمارة من جهةِ المشرق وجدَ عند الشمسِ قوماً لَم يكن لَهم جبلٌ ولا شجرٌ ولا شيء يسترُهم عن الشمسِ. قال لكلبيُّ: (مَعْنَاهُ حُفَاةً عُرَاةً يَفْتَرِشُ أحَدُهُمْ أُذُنَهُ وَيَلْبَسُ الأُخْرَى).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ﴾؛ أي وجدَ قوماً كذلك. قيلَ: الذين كانوا عند مغرب الشَّمسِ، وَقِيْلَ: معناهُ: كما بَلَغَ مغربَ الشمسِ وكذلك بَلَغَ مطلعَها، ثم استأنفَ وقال ﴿ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ﴾؛ أي عِلْماً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ﴾؛أي ثُم أتبعَ سبباً ثالثاً مما يبلغهُ قُطراً من أقطارِ الأرض، وَقِيْلَ: أتْبَعَ سَبَباً: حتى إذا بلغَ طريقاً من المشرقِ نحو الرُّومِ، وحتى إذا بلغَ بين الجبلين الذين جعلوا الرَّدْمَ بينهما، وهما السدَّانِ. قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو: (السَّدَّيْنِ) بفتحِ السِّين، وقرأ الباقون بضمِّها، وهما لُغتان.
﴿ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا ﴾؛ الجبلينِ.
﴿ قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ﴾؛ أي لا يكادون يفقهونَ قولَ غيرِهم، ولا يعرفون لُغة غيرهم. قرأ حمزةُ والكسائيُ وخلف (يُفْقَهُونَ) بضمِّ الياء وكسرِ القاف، ومعناهُ: لا يكادون يفقهونَ أحداً قولاً. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (لاَ يَفْقَهُونَ كَلاَمَ أحَدٍ، وَلاَ أحَدٌ يَفْهَمُ كَلاَمَهُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي قالوا بإشارةٍ أو ترجُمانٍ؛ لأنه قد تقدَّم أنَّهم لا يفقهونَ قولاً، إن يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وهما قبيلتان من أولادِ يافث بنِ نوحٍ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ؛ أي يفسدونَ أموالَ الناسِ؛ لأنَّهم كانوا أهلَ بغيٍ وظُلْمٍ. قال الكلبيُّ: (كَانُواْ يَخْرُجُونَ إلَى أرْضِ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ شَكَوهُمْ إلَى ذِي الْقَرْنَيْنِ أيَّامَ الرَّبيْعِ فَلاَ يَدَعُونَ فِيْهَا شَيْئاً أخْضَرَ إلاّ أكَلُوهُ، وَلاَ يَابساً إلاَّ احْتَمَلُوهُ)." وعن عبدِالله قالَ: سَأَلْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، قَالَ: " يَأْجُوجُ أُمَّةٌ وَمَأْجُوجُ أُمَّةٌ، كُلُّ أُمَّةٍ أرْبَعُمِائَةِ ألْفٍ، لاَ يَمُوتُ أحَدُهُمْ حَتَّى يَنْظُرَ إلَى ألْفِ ذكَرِ مِنْ صُلْبهِ كُلُّهُمْ قَدْ حَمَلَ السِّلاَحَ " قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! صِفْهُمْ لَنَا؟ قَالَ: " هُمْ ثَلاَثَةُ أصْنَافٍ: صِنْفٌ مِنْهُمْ طُولُ الرَّجُلِ مِنْهُمْ مِائَةٌ وَعُشْرُونَ ذِرَاعاً، وَصِنْفٌ طُولُهُ وَعِرْضُهُ سَوَاءٌ عُشْرُونَ وَمِائَةُ ذِرَاعٍ أيْضاً، وَهُمُ الَّذِيْنَ لاَ يَقُومُ لَهُمْ جَبَلٌ وَلاَ حَدِيْدٌ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يَفْتَرِشُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إحْدَى أذُنَيْهِ وَيَلْتَحِفُ بالأُخْرَى لاَ يَمُرُّونَ بفِيْلٍ وَلاَ جَمَلٍ وَلاَ وَحْشٍ وَلاَ خِنْزِيْرٍ إلاَّ أكْلُوهُ، لَهُمْ مَخَالِبُ فِي أيْدِيْهِمْ وَأضْرَاسٌ كَأَضْرَاسِ السِّبَاعِ، وَأنْيَابٌ يُسْمَعُ لَهَا حَرَكَةٌ كَحَرَكَةِ الْجَرَسِ فِي حُلُوقِ الإبلِ، وَلَهُمْ مِنَ الشَّعْرِ فِي أجْسَادِهِمْ مَا يُوَارِيْهِمْ، وَمَا يُتَّقَى مِنْهُ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ، يَعْوُونَ عَوِيَّ الذِّئَاب، وَيَتَسَافَدُونَ كَتَسَافُدِ الْبَهَائِمِ إذا الْتَقَوْا " ". قال وهبُ: (يَشْرَبُونَ مَاءَ الْبَحْرِ وَيَأْكُلُونَ دَوَابَّهَا، وَيَأْكُلُونَ الْخَشَبَ وَالشَّجَرَ، وَمَنْ ظَفَرُواْ بهِ مِنَ النَّاسِ أكَلُوهُ). وقال كعبٌ: (هُمْ زيَادَةٌ فِي وَلِدِ آدَمَ، وَذلِكَ أنَّ آدَمَ احْتَلَمَ ذاتَ يَوْمٍ فَامْتَزَجَتْ نُطْفَتُهُ فِي التُّرَاب، فَخَلَقَ اللهُ مِنْ ذلِكَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، فَهُمْ مُتَّصِلُونَ بنَا مِنْ جِهَةِ الأَب دُونَ الأُمِّ). وقال ابنُ عبَّاس: (هُمْ عَشْرَةُ أجْزَاءٍ وَوَلَدُ آدَمَ كُلُّهُمْ جُزْءٌ). وَقِيْلَ: إن التُّرْكَ منهم إلاّ أن أولئكَ أشدُّ فساداً من التُّركِ، فتباعدُوا عن الناسِ، كما ينعزلُ اللُّصوصُ. ويأجوجُ ومأجوج اسْمانِ أعجميَّان لا ينصرفان؛ لأنَّهما معرفةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً ﴾؛ أي قالوا هل نجعلُ لك بعضاً من أموالِنا ضربتهُ في كلِّ سنةٍ على أن تجعلَ بيننا وبينهم حاجزاً وسدّاً. والرَّدْمُ هو السدُّ. وردمْتُ البابَ؛ أي سَدَدْتُهُ، والْخَرْجُ والخراجُ واحدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ﴾؛ أي قال لَهم ذو القَرنين: مَا مَكَّنْي اللهُ مِن الإتساعِ في الدُّنيا خيرٌ من خَراجِكم الذي تبذلونه لِي، يريدُ ما أعطانِي اللهُ وملَّكَني أفضلُ من عطيَّتِكم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ﴾؛ أي الرِّجالِ والآلاتِ.
﴿ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ﴾؛ الرَّدْمُ أشدُّ الحجاب، وهو أكبرُ من السدِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ ﴾؛ والزُّبَرَةُ القطعةُ العظيمة، فأتَوهُ بها فبناهُ.
﴿ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ ﴾؛ أي حتى إذا مَلأَ ما بين الجبلينِ، وسَمَّاهُما صَدَفَيْنِ؛ لأنَّهما يتصادفان، أي يتقابَلان، فلما وضعَ بينهما الحديدَ وجعلَ " بين " كلَّ قطعتَي حديدِ حطباً حتى ملأَ ما بين الجبلين، فأمرَ بالنارِ فأُرسِلت فيه، و ﴿ قَالَ ﴾؛ للحدَّادين: ﴿ ٱنفُخُواْ ﴾؛ بالمنافيخ.
﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً ﴾؛ أي حتى إذا صارَ الحديدُ كالنارِ.
﴿ قَالَ آتُونِيۤ ﴾؛ أي أعطونِي قِطْراً.
﴿ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ﴾؛ وهو النحاسُ الذائب أصبُّهُ على الحديدِ والحطب فيتقطَّرُ كما يتقطرُ الماء، ففعلَ حتى إذا جعلَ بعضه في بعضٍ، فصارَ الجميعُ شيئاً واحداً جبلاً صَلْداً من حديدٍ ونُحاس. قيل إنه حفر له الأساس حتى بلغ الماء، ثم جعل عرضه خمسين فرسخًا ثم ملأه وشرفه.
قولهُ تعالى: ﴿ فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً ﴾؛ أي ما قدَرُوا أن يَعْلُوهُ لارتفاعهِ ومَلاسَتِهِ، وما قدَرُوا أن ينقِبُوهُ من أصلهِ؛ لشدَّتهِ وصلابتهِ. وعن أبي هريرةَ:" أنَّّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَحْفُرُونَ كُلَّ يَوْمٍ، ثُمَّ يَقُولُونَ: نَرْجِعُ إلَى غَدٍ وَنِجِيْءُ أيْضاً نَحْفِرُهُ، فَيَأْتُونَهُ غَداً وَقَدْ أعَادَهُ اللهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ أنْ يَحْفِرُوهُ "
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ﴾؛ أي قال لَهم ذُو القرنينِ لَمَّا فَرَغَ من بنائهِ، هذا التمكينُ الذي أدركتُ به السدَّ رحمةٌ مِن ربي من حيثُ ألْهَمني وقوَّانِي، ونعمةٌ مِن ربي عليكم.
﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ ﴾؛ أي وقتُ اشتراطِ السَّاعة جعلَ السدَّ كَسْراً. ومن قرأ (دَكّاً) فمعناهُ أرْضاً منبسطةً، يقالُ: نَاقَةٌ دَكَّاءٌ إذا لَم يكن لَها سِنَامٌ.
﴿ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ﴾؛ أي كان تقديرهُ لِخروجهم صِدْقاً كائناً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ﴾؛ أي تركنا يأجوجَ ومأجوجَ يومَ انقضاءِ أمر السدِّ يَموجُونَ في الدُّنيا مختلطِين لكثرَتِهم، يقالُ: مَاجَ الناسُ إذا دخلَ بعضُهم في بعضٍ حيَارَى كمَوْجِ الماءِ، فيخرجون على الناسِ فيشرَبُون الماءَ، يأكلونَ الدوابَّ، ومَن ظَفَرُوا به من الناسِ أكلوهُ، فاذا كَثُرَ فسادُهم في الأرضِ بعثَ اللهُ عليهم بعثاً فيقتلهم فيموتون كموتِ الجرادِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً ﴾؛ يعني النفخةَ الثانيةَ التي تكون للحَشْرِ يُحْشَرُ بها الناسُ من قبورِهم، ويُجمَعُون جَمعاً في الموقفِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً ﴾؛ أي وأظْهَرْنَا جهنَّمَ يومَ القيامةِ للكافرينَ حتى يَرَوا فيها جزاءَ أعمالِهم مُعَايَنَةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي ﴾؛ أي أظْهَرْنَا جهنَّمَ حتى شاهَدَها الناسُ الذين كانت أعينُ قلوبهم فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي لِما تراءى لها من الرَّين والغشاوةِ.
﴿ وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ﴾؛ أي كان يثقلُ عليهم ذِكْرُ اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيۤ أَوْلِيَآءَ ﴾؛ أي أيَحْسَبُ الكفارُ أن ينفعَهم اتِّخاذُهم عبادي مثلَ المسيحِ والملائكة الذين عبدُوهم مِن دونِي أرْبَاباً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً ﴾؛ أي جعلناها مَنْزِلاً ومَأْوىً لَهم، ومعدَّةً عندنا، كما يُهَيَّأُ المنْزِل للضَّيف.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾؛ أي قل لَهم يا مُحَمَّدُ: هل نُخبرُكم بالآخْسَرِيْنَ أعْمَالاً في الآخرةِ يعني كفار أهل الكتاب واليهودَ والنصارى؟ وقال عليٌّ رضي الله عنه: (هُمُ الرُّهْبَانُ وَالْقِسِّيْسُونَ حَبَسُواْ أنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ) وَقِيْلَ: هم جميعُ اليهودِ والنَّصارى.
﴿ ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ أي بَطَلَ عملُهم واجتهادُهم في الدِّين.
﴿ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾؛ أي وهم يظنُّونَ أنَّهم يعملون صالِحاً. ثُم بَيَّنَ مَن هم فقال: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ﴾؛ أي جَحَدُوا دلائلَ توحيدهِ، وأنكَرُوا البعثَ بعد الموتِ.
﴿ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾؛ أي بَطَلَتْ حسناتُهم التي عَمِلُوها مثل صِلَةِ الرَّحمِ، والإحسانِ إلى الناس، فلا يَرَوْنَ سعيَهم مع الكفرِ شيئاً.
﴿ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ ﴾؛ ولا يكون لَهم عند اللهِ.
﴿ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً ﴾؛ قَدْراً ولا مَنْزِلَةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ ﴾؛ أي ذلك الإحباطُ جزاؤهم.
﴿ وَٱتَّخَذُوۤاْ آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ﴾؛ أي واتِّخاذهم القُرْآنَ ونبوَّة أنبيائي هُزُواً؛ يستهزؤن بها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ﴾؛ الْفرْدَوْسُ في اللُّغة: جَنَّةٌ ذاتُ كُرُومٍ. قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، الْفِرْدَوْسُ أعْلاَهَا، مِنْهَا تَتَفَجَّرُ الأَنْهَارُ الأَرْبَعَةُ، فَإذا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ "وقال صلى الله عليه وسلم:" جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ أرْبَعٌ: جَنَّتَان مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيْهِمَا مِنْ فِضَّةٍ، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيْهِمَا مِنْ ذهَبٍ ". وَقِيْلَ: خلقَ اللهُ الفردوسَ بيدهِ يفتحُها كلَّ يومٍ خمسَ مرَّات، فيقولُ: ازْدَادِيَ حُسْناً وَطِيْباً لأَوْلِيَائِي. وقال قتادةُ: (الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأفْضَلُهَا وَأرْفَعُهَا) وقال أبو أُسَامَةَ: (الْفِرْدَوْسُ سُرَّةُ الْجَنَّةِ). وقال كعبٌ: (لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ جَنَّةٌ أرْفَعُ مِنَ الْفِرْدَوْسِ، فِيْهَا الآمِرُونَ بالْمَعْرُوفِ، والنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ﴾ أي مُقيمين فيها لا يطلبونَ عنها تِحوِيلاً. قال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ الْفِرْدَوْسَ أرْفَعُ مَوْضِعٍ فِي الْجَنَّةِ وَأحْسَنُهُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي ﴾؛ الآيةُ، وذلكَ أنه لَمَّا نزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾[الاسراء: ٨٥] وقالَتِ اليهودُ والنصارى: أوْتِيْنَا عِلماً كثيراً، أوْتِيْنَا التوراةَ فيها عِلْمُ كلِّ شيء، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ؛ أي لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِعِلْمِ ربي وحكمتهِ، فيكتبُ من البحرِ كما يكتبُ من المدادِ.
﴿ لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ ﴾؛ وتكسَّرَتِ الأقلامُ.
﴿ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ ﴾؛ أي بمثل البحر.
﴿ مَدَداً ﴾؛ لِهذا البحرِ. ويقالُ أرادَ بـ (كَلِمَاتِ رَبي) معانِيَ القُرْآنِ والأحكامِ المستنبطةِ منه، والْمَدَدُ شيءٌ بعدَ شيءٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾؛ أي قُلْ يا مُحَمَّدُ: إنَّمَا أنَا بَشَرٌ آدَمِيٌّ مثلُكم. قال ابنُ عبَّاس: (عَلَّمَ اللهُ نَبيَّهُ التَّوَاضُعَ لِئَلاَّ يَتَبَاهَى عَلَى خَلْقِهِ، فَأَمَرَهُ اللهُ أنْ يُقِرَّ عَلَى نَفِسِهِ بأَنَّهُ آدَمِيٌّ كَغَيْرِهِ إلاَّ أنَّهُ أكْرِمَ بالْوَحْيِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ﴾؛ لا شريك له.
﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ ﴾؛ أي يَخْشَى لقاءَ ربه ويخافُ البعثَ في المصيرِ إليه.
﴿ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾؛ أي خالِصاً لا يرَى في عبادةِ الله أحداً.
﴿ وَلاَ يُشْرِكْ ﴾؛ مع اللهِ غيرَهُ في العبادةِ. وقال سعيدُ بن جبير: معناه (وَلاَ يَرَى) ﴿ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً ﴾؛ وعن عطاء عن ابن عباس قال: (قال: وَلاَ يُشْرِكْ بعِبَادَةِ رَبهِ أحَداً، ولَم يقُلْ: ولا يشركْ بهِ؛ لأنه أرادَ العملَ الذي يعملهُ للهِ، ويحبُّ أن يُحمدَ عليهِ). قال الحسنُ: (هَذا فِي مَنْ أشْرَكَ بعَمَلِهِ يُرِيْدُ اللهَ بهِ وَالنَّاسَ). وعن عُبادة بن الصامتِ: قال سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:" " مَنْ صَلَّى صَلاَةً يُرَائِي بهَا فَقَدْ أشْرَكَ، وَمَنْ صَامَ صَوْماً يُرَائِي بهِ فَقَدْ أشْرَكَ " وقرأ هذه الآية ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً ﴾ "وعَن أبي هريرةَ وأُبَيِّ بنِ كعب عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" مَنْ قَرَأ سُورَةَ الكَهْفِ فَهُوَ مَعْصُومٌ إلَى ثَمَانِيَةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ يَكُونُ فِيْهَا، وَمَنْ قَرَأ الآيَةَ الَّتِي فِي آخِرِهَا حِينَ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ كَانَ لَهُ نُورٌ يَتَلأْلأُ إلَى مَكَّةَ، حِشْوُ ذلِكَ النُّورِ مَلاَئِكَةٌ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ مَضْجَعِهِ. وَإنْ كَانَ مَضْجُعُهُ بمَكَّةَ فَتَلاَهَا كَانَ لَهُ نُورٌ يَتَلأْلأُ مِنْ مَضْجَعِهِ إلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، حِشْوُ ذلِكَ النُّورِ مَلاَئِكَةٌ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ". وقال صلى الله عليه وسلم:" وَمَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ ثُمَّ أدْرَكَ الدَّجَّالَ لَمْ يَضُرَّهُ ". وقال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَهْوَ مَعْصُومٌ إلَى سِتَّةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ تَكُونُ، فَإنْ خَرَجَ الدَّجَّالُ عُصِمَ مِنْهُ ".
Icon