ﰡ
قوله تعالى :﴿ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى المَدِينَةِ ﴾ الآية، يدل على جواز خَلْطِ دراهم الجماعة والشّرَى بها والأكل من الطعام الذي بينهم بالشركة وإن كان بعضهم قد يأكل أكثر مما يأكل غيره، وهذا الذي يسميه الناس المناهدة ويفعلونه في الأسفار ؛ وذلك لأنهم قالوا : فابعثوا أحدكم بوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة، فأضاف الوَرِقَ إلى الجماعة ؛ ونحوه قوله تعالى :﴿ وإن تخالطوهم فإخوانكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ] فأباح لهم بذلك خلط طعام اليتيم بطعامهم وأن تكون يده مع أيديهم مع جواز أن يكون بعضهم أكثر أكلاً من غيره. وفي هذه الآية دلالة على جواز الوكالة بالشّرَى ؛ لأن الذي بعثوا به كان وكيلاً لهم.
باب الاستثناء في اليمين
قال الله تعالى :﴿ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله ﴾. قال أبو بكر : هذا الضَّرْبُ من الاستثناء يدخل لرفع حكم الكلام حتى يكون وجوده وعدمه سواء ؛ وذلك لأن الله تعالى نَدَبَهُ إلى الاستثناء بمشيئة الله تعالى لئلا يصير كاذباً بالحلف، فدلّ على أن حكمه ما وصفنا. ويدل عليه أيضاً قوله عز وجل حاكياً عن موسى عليه السلام :﴿ ستجدني إن شاء الله صابراً ﴾ [ الكهف : ٦٩ ] فلم يصبر ولم يَكُ كاذباً لوجود الاستثناء في كلامه، فدل على أن معناه ما وصفنا من دخوله في الكلام لرفع حكمه فوجب أن لا يختلف حكمه في دخوله على اليمين أو على إيقاع الطلاق أو على العتاق. وقد روى أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إِنْ شَاءَ الله فلا حِنْثَ عَلَيْهِ " وفي بعض الألفاظ :" فَقَدِ اسْتَثْنَى ". قال أبو بكر : ولم يفرق بين شيء من الأيمان، فهو على جميعها. وعن عبدالله بن مسعود من قوله مثله. وعن عطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم قالوا :" الاستثناء في كل شيء ". وقد روى إسماعيل بن عياش عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ إِنْ شاءَ الله فَهُوَ حُرٌّ، وإِذَا قَالَ لامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شاءَ الله فَلَيْسَتْ بطَالِقٍ "، وهذا حديث شاذٌّ واهي السند غير معمول عليه عند أهل العلم.
وقد اختلف أهل العلم بعد اتفاقهم على صحة الاستثناء في الوقت الذي يصح فيه الاستثناء على ثلاثة أنحاء، فقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو العالية :" إذا استثنى بعد سَنَةٍ صَحَّ استثناؤه ". وقال الحسن وطاوس :" يجوز الاستثناء ما دام في المجلس ". وقال إبراهيم وعطاء والشعبيّ :" لا يصح الاستثناء إلا موصولاً بالكلام ". ورُوي عن إبراهيم في الرجل يحلف ويستثني في نفسه قال :" لا، حتى يجهر بالاستثناء كما جهر بيمينه "، وهذا محمول عندنا على أنه لا يُصَدَّق في القضاء إذا ادَّعَى أنه كان استثنى ولم يُسمع منه وقد سُمع منه اليمين. وقال أصحابنا وسائر الفقهاء :" لا يصح الاستثناء إلا موصولاً بالكلام " وذلك لأن الاستثناء بمنزلة الشرط والشرطُ لا يصحّ ولا يثبت حكمه إلا موصولاً بالكلام من غير فصل، مثل قوله :" أنتِ طالق إن دخلتِ الدارَ "، فلو قال :" أنت طالق "، ثم قال :" إن دخلت الدار " بعدما سَكَتَ، لم يوجب ذلك تعلق الطلاق بالدخول، ولو جاز هذا لجاز أن يقول لامرأته : أنتِ طالق ثلاثاً، ثم يقول بعد سنة : إنْ شاء الله، فيبطل الطلاق ولا تحتاج إلى زوج ثانٍ في إباحتها للأوّل ؛ وفي تحريم الله تعالى إياها عليه بالطلاق الثلاث إلا بعد زوج دلالةٌ على بطلان الاستثناء بعد السكوت ؛ ولما صح ذلك في الإيقاع في أنه لا يصحّ الاستثناء إلا موصولاً بالكلام كان كذلك حكم اليمين. وأيضاً قال الله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أنه إن برأ ضربها، فأمره الله تعالى أن يأخذ بيده ضِغْثاً ويضرب به ولا يحنث ؛ ولو صح الاستثناء متراخياً عن اليمين لأمره بالاستثناء فيستغني به عن ضربها بالضغث وغيره. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَها خَيْراً مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ "، ولو جاز الاستثناء متراخياً عن اليمين لأمره بالاستثناء واستغنى عن الكفارة. وقال صلى الله عليه وسلم :" إنّي إِنْ شَاءَ الله لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا إِلاّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي "، ولم يقل إلا قلت إن شاء الله.
فإن قيل : روى قيس عن سماك عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" وَالله لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً ! والله لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً ! " ثم سكت ساعة فقال :" إِنْ شَاءَ الله " فقد استثنى بعد السكوت. قيل له : رواه شريك عن سماك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" والله لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً " ثلاثاً ؛ ثم قال في آخرهن :" إِنْ شاءَ الله " فأخبر أنه استثنى في آخرهن، وذلك يقتضي اتصاله باليمين، وهو أولى لما ذكرنا. وفي هذا الخبر دلالة أيضاً على أنه إذا حلف بأيمان كثيرة ثم استثنى في آخرهن كان الاستثناء راجعاً إلى الجميع.
واحتج ابن عباس ومن تابعه في إجازة الاستثناء متراخياً عن اليمين بقوله تعالى :﴿ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاّ أَنْ يَشَاءَ الله وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ فتأوّلوا قوله :﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ على الاستثناء، وهذا غير واجب ؛ لأن قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ يصح أن يكون كلاماً مبتدأً مستقلاّ بنفسه من غير تضمين له بما قبله، وغير جائز فيما كان هذا سبيله تضمينه بغيره. وقد روى ثابت عن عكرمة في قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ قال :" إذا غضبت "، فثبت بذلك أنه إنما أراد الأمر بذكر الله تعالى وأن يفزع إليه عند السهو والغفلة، وقد رُوي في التفسير أن قوله تعالى :﴿ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله ﴾ : إنما نزل فيما سألت قريش عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين، فقال :" سأُخْبِرُكُمْ " فأبطأ عنه جبريل عليهما السلام أياماً، ثم أتاه يخبرهم، وأمره الله تعالى بعد ذلك بأن لا يطلق القول على فِعْلٍ يفعله في المستقبل إلا مقروناً بذكر مشيئة الله تعالى. وفي نحو ذلك ما رَوَى هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ : والله لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائِةَ امْرَأَةٍ فَتَلِد كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلاماً يَضْرِبُ بالسَّيْفِ في سَبِيلِ الله، ولم يَقُلْ إِنْ شَاءَ الله، فلم تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلا وَاحِدَةٌ وَلَدَتْ نِصْفَ إِنْسَانٍ ".
قال الله تعالى :﴿ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله ﴾. قال أبو بكر : هذا الضَّرْبُ من الاستثناء يدخل لرفع حكم الكلام حتى يكون وجوده وعدمه سواء ؛ وذلك لأن الله تعالى نَدَبَهُ إلى الاستثناء بمشيئة الله تعالى لئلا يصير كاذباً بالحلف، فدلّ على أن حكمه ما وصفنا. ويدل عليه أيضاً قوله عز وجل حاكياً عن موسى عليه السلام :﴿ ستجدني إن شاء الله صابراً ﴾ [ الكهف : ٦٩ ] فلم يصبر ولم يَكُ كاذباً لوجود الاستثناء في كلامه، فدل على أن معناه ما وصفنا من دخوله في الكلام لرفع حكمه فوجب أن لا يختلف حكمه في دخوله على اليمين أو على إيقاع الطلاق أو على العتاق. وقد روى أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إِنْ شَاءَ الله فلا حِنْثَ عَلَيْهِ " وفي بعض الألفاظ :" فَقَدِ اسْتَثْنَى ". قال أبو بكر : ولم يفرق بين شيء من الأيمان، فهو على جميعها. وعن عبدالله بن مسعود من قوله مثله. وعن عطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم قالوا :" الاستثناء في كل شيء ". وقد روى إسماعيل بن عياش عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ إِنْ شاءَ الله فَهُوَ حُرٌّ، وإِذَا قَالَ لامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شاءَ الله فَلَيْسَتْ بطَالِقٍ "، وهذا حديث شاذٌّ واهي السند غير معمول عليه عند أهل العلم.
وقد اختلف أهل العلم بعد اتفاقهم على صحة الاستثناء في الوقت الذي يصح فيه الاستثناء على ثلاثة أنحاء، فقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو العالية :" إذا استثنى بعد سَنَةٍ صَحَّ استثناؤه ". وقال الحسن وطاوس :" يجوز الاستثناء ما دام في المجلس ". وقال إبراهيم وعطاء والشعبيّ :" لا يصح الاستثناء إلا موصولاً بالكلام ". ورُوي عن إبراهيم في الرجل يحلف ويستثني في نفسه قال :" لا، حتى يجهر بالاستثناء كما جهر بيمينه "، وهذا محمول عندنا على أنه لا يُصَدَّق في القضاء إذا ادَّعَى أنه كان استثنى ولم يُسمع منه وقد سُمع منه اليمين. وقال أصحابنا وسائر الفقهاء :" لا يصح الاستثناء إلا موصولاً بالكلام " وذلك لأن الاستثناء بمنزلة الشرط والشرطُ لا يصحّ ولا يثبت حكمه إلا موصولاً بالكلام من غير فصل، مثل قوله :" أنتِ طالق إن دخلتِ الدارَ "، فلو قال :" أنت طالق "، ثم قال :" إن دخلت الدار " بعدما سَكَتَ، لم يوجب ذلك تعلق الطلاق بالدخول، ولو جاز هذا لجاز أن يقول لامرأته : أنتِ طالق ثلاثاً، ثم يقول بعد سنة : إنْ شاء الله، فيبطل الطلاق ولا تحتاج إلى زوج ثانٍ في إباحتها للأوّل ؛ وفي تحريم الله تعالى إياها عليه بالطلاق الثلاث إلا بعد زوج دلالةٌ على بطلان الاستثناء بعد السكوت ؛ ولما صح ذلك في الإيقاع في أنه لا يصحّ الاستثناء إلا موصولاً بالكلام كان كذلك حكم اليمين. وأيضاً قال الله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أنه إن برأ ضربها، فأمره الله تعالى أن يأخذ بيده ضِغْثاً ويضرب به ولا يحنث ؛ ولو صح الاستثناء متراخياً عن اليمين لأمره بالاستثناء فيستغني به عن ضربها بالضغث وغيره. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَها خَيْراً مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ "، ولو جاز الاستثناء متراخياً عن اليمين لأمره بالاستثناء واستغنى عن الكفارة. وقال صلى الله عليه وسلم :" إنّي إِنْ شَاءَ الله لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا إِلاّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي "، ولم يقل إلا قلت إن شاء الله.
فإن قيل : روى قيس عن سماك عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" وَالله لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً ! والله لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً ! " ثم سكت ساعة فقال :" إِنْ شَاءَ الله " فقد استثنى بعد السكوت. قيل له : رواه شريك عن سماك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" والله لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً " ثلاثاً ؛ ثم قال في آخرهن :" إِنْ شاءَ الله " فأخبر أنه استثنى في آخرهن، وذلك يقتضي اتصاله باليمين، وهو أولى لما ذكرنا. وفي هذا الخبر دلالة أيضاً على أنه إذا حلف بأيمان كثيرة ثم استثنى في آخرهن كان الاستثناء راجعاً إلى الجميع.
واحتج ابن عباس ومن تابعه في إجازة الاستثناء متراخياً عن اليمين بقوله تعالى :﴿ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاّ أَنْ يَشَاءَ الله وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ فتأوّلوا قوله :﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ على الاستثناء، وهذا غير واجب ؛ لأن قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ يصح أن يكون كلاماً مبتدأً مستقلاّ بنفسه من غير تضمين له بما قبله، وغير جائز فيما كان هذا سبيله تضمينه بغيره. وقد روى ثابت عن عكرمة في قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ قال :" إذا غضبت "، فثبت بذلك أنه إنما أراد الأمر بذكر الله تعالى وأن يفزع إليه عند السهو والغفلة، وقد رُوي في التفسير أن قوله تعالى :﴿ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله ﴾ : إنما نزل فيما سألت قريش عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين، فقال :" سأُخْبِرُكُمْ " فأبطأ عنه جبريل عليهما السلام أياماً، ثم أتاه يخبرهم، وأمره الله تعالى بعد ذلك بأن لا يطلق القول على فِعْلٍ يفعله في المستقبل إلا مقروناً بذكر مشيئة الله تعالى. وفي نحو ذلك ما رَوَى هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ : والله لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائِةَ امْرَأَةٍ فَتَلِد كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلاماً يَضْرِبُ بالسَّيْفِ في سَبِيلِ الله، ولم يَقُلْ إِنْ شَاءَ الله، فلم تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلا وَاحِدَةٌ وَلَدَتْ نِصْفَ إِنْسَانٍ ".
مطلب : فعل الحكيم للضرر لا يجوز أن يستنكر
وما ذكره الله تعالى في قصة موسى عليه السلام مع الخضر فيه بيان أن فعل الحكيم للضرر لا يجوز أن يستنكر إذا كان فيه تجويز فعله على وجه الحكمة المؤدية إلى المصلحة، وأن ما يقع من الحكيم من ذلك بخلاف ما يقع من السفيه ؛ وهو مثل الصبي الذي إذا حُجِمَ أو سُقي الدواء استنكر ظاهره وهو غير عالم بحقيقة معنى النفع والحكمة فيه، فكذلك ما يفعل الله من الضرر أو ما يأمر به غير جائز استنكاره بعد قيام الدلالة أنه لا يفعل إلا ما هو صواب وحكمة ؛ وهذا أصل كبير في هذا الباب. والخضر عليه السلام لم يحتمل موسى أكثر من ثلاث مرات، فدل على أنه جائز للعالم احتمال من يتعلم منه المرتين والثلاث على مخالفة أمره، وأنه جائز له بعد الثلاث ترك احتماله.
قال الله تعالى :﴿ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا ﴾. قال سعيد بن جبير :" عِلْم ". وقال عكرمة :" مالٌ ". وقال ابن عباس :" ما كان بذهب ولا فضة وإنما كان عِلْماً صُحُفاً ". وقال مجاهد :" صحف من علم ". وقد رُوي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا ﴾ قال :" ذَهَبٌ وفِضَّةٌ ". ولما تأولوه على الصحف وعلى العلم وعلى الذهب وعلى الفضة دل على أن اسم الكنز يعق على الجميع، لولاه لم يتأولوه عليه. وقال الله تعالى :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ﴾ [ التوبة : ٣٤ ]، فخص الذهب والفضة بالذكر ؛ لأن سائر الأشياء إذا كثرت لا تجب فيها الزكاة وإنما تجب فيها الزكاة إذا كانت مرصدة للنَّماء والذهب والفضة تجب فيهما وإن كانا مَكْنوزيْن غير مُرْصَدَيْنِ للنماء.
قوله تعالى :﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ﴾ الآية ؛ فيه دلالة على أن الله يحفظ الأولاد لصلاح الآباء، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إنّ الله لَيَحْفَظُ المُؤْمِنَ في أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وفي الدُّوَيْرَاتِ حَوْلَهُ "، ونحوه قوله تعالى :﴿ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً ﴾ [ الفتح : ٢٥ ]، فأخبر بدفع العذاب عن الكفار لكون المؤمنين فيهم، ونحوه قوله تعالى :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ].