ﰡ
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ مستوجب الحمد ﴿الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ محمد ﴿الْكِتَابُ﴾ القرآن ﴿وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾ اختلافاً، أو تناقضاً
﴿قَيِّماً﴾ مستقيماً ﴿لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً﴾ ليحذر عذاباً أليماً ﴿مِّن لَّدُنْهُ﴾ من عنده تعالى
﴿كَبُرَتْ﴾ عظمت في الافتراء والكفر
﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ﴾ قاتلها غماً وحزناً ﴿عَلَى آثَارِهِمْ﴾ بعد توليهم عنك، وامتناعهم عن الإيمان بك ﴿إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ﴾ القرآن
-[٣٥٢]- ﴿أَسَفاً﴾ حزناً وكمداً
﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ﴾ من أشجار وحفيف ورقها، وأزهار وأريج نشرها، وثمار ولذيذ طعمها، وأنهار وسلسبيل مائها، وبحار وعظيم موجها، وجبال وشامخ بنيانها، ورمال وبديع ألوانها؛ وغير ذلك مما يدهش العقول، ويحير الألباب كل ذلك خلقه المبدع الحكيم ﴿زِينَةً لَّهَا﴾ أي للدنيا؛ ليستمتع به أهلها ﴿لِنَبْلُوَهُمْ﴾ نختبرهم ﴿أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ بالزهد في الدنيا، وعدم الإقبال عليها، والرغبة في الآخرة، والحرص على كل ما يوصل إليها
﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا﴾ أي ما على الأرض من زينة ﴿صَعِيداً جُرُزاً﴾ يابساً لا ينبت.
والأرض الجرز: التي لا نبات عليها، ولا بنيان؛ كأن ما عليها قد اجتث
﴿أَمْ حَسِبْتَ﴾ يا محمد ﴿أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ﴾ وهو الغار الواسع في الجبل ﴿وَالرَّقِيمِ﴾ لوح مكتوب عليه أسماء أصحاب الكهف وأنسابهم، ولعله كتاب مرقوم؛ أنزل لهم لتعليمهم الشرائع. وقيل: إنه اسم كلبهم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما أدري ما الرقيم؛ أكتاب هو أم بنيان؟ ﴿كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً﴾ أي لا تحسب أن العجب في قصة أصحاب الكهف؛ وإنما العجب كل العجب فيما خلقناه من سموات وأرضين، وما جعلناه على الأرض زينة لها ولمن فيها
﴿وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً﴾ توفيقاً للرشاد والسداد
﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ﴾ أي أنمناهم إنامة ثقيلة؛ لا تنبههم الأصوات ﴿سِنِينَ عَدَداً﴾ كناية عن التكثير؛ أي سنين كثيرة معدودة؛ وذلك لأن القليل يعلم من غير عد
﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ﴾ أيقظناهم من نومهم؛ كما نبعث أهل القبور من موتهم ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ﴾ المختلفين في مدة لبثهم ﴿أَحْصَى﴾ أضبط ﴿لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً﴾ مدة وغاية
﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ قويناها على تحمل المكروه في نصرة الدين ﴿إِذْ قَامُواْ﴾ بين قومهم، وأمام ملكهم؛ وقد عكفوا جميعاً على عبادة الأصنام ﴿فَقَالُواْ﴾ مجاهدين ﴿رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ لن نؤمن بغيره، و ﴿لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلهاً﴾ آخر ﴿لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً﴾ إذا دعونا من دونه ﴿شَطَطاً﴾ قولاً ذا شطط؛ أي بعيداً عن الحق
﴿لَّوْلاَ﴾ هلا ﴿بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ﴾ بحجة ظاهرة على صحة عبادتهم لها
﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ﴾ خطاب لأهل الكهف؛ أي وإذ جانبتم هؤلاء الكفار ﴿وَمَا يَعْبُدُونَ﴾ أي واعتزلتم الذين يعبدونه من الآلهة ﴿إَلاَّ اللَّهَ﴾ سوىالله. وقرأ ابن مسعود «وما يعبدون من دون الله» وعلى ذلك مصحفه؛ وذهب قتادة إلى أنه تفسيرها ﴿فَأْوُوا﴾ الجأوا ﴿يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ﴾ يبسطها لكم ﴿وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً﴾ وهو ما ينتفع به؛ من بناء، وغذاء، وكساء
﴿تَّزَاوَرُ﴾ تميل تقطعهم؛ أي تتركهم وتعدل عنهم ﴿وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ﴾ متسع من الكهف. والفجوة: الفرجة ﴿ذَلِكَ﴾ أي ميل الشمس وتركها لمكانهم؛ مع مخالفة ذلك للنظام الكوني ﴿مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ الدالة على وجوده وقدرته ﴿فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً﴾ يلي أمره، ويقوم بمعونته ﴿مُّرْشِداً﴾ له إلى الهدى وطريق الصواب
﴿وَتَحْسَبُهُمْ﴾ إذا رأيتهم ﴿أَيْقَاظاً﴾ منتبهين؛ لأن أعينهم منفتحة ﴿وَهُمْ رُقُودٌ﴾ نيام ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ﴾ أثناء نومهم ﴿ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ﴾ لئلا تأكل الأرض لحومهم؛ وقد يكون التقليب بواسطة ملك يأمره الله تعالى به، أو بفعلهم هم - بتوفيق من الله تعالى - كما يفعل النائم حال نومه؛ ولذا يحسبهم الرائي أيقاظاً؛ لتقلبهم وانفتاح أعينهم ﴿بِالوَصِيدِ﴾ عتبة الكهف. والباب الموصد: المغلق ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً﴾ لما حفهم الله تعالى به من الهيبة، وأحاطهم به من العظمة؛ وقد منعهم الله تعالى من الناس بالرعب: لئلا يقربوا منهم، ويعبثوا بهم؛ فصاروا بحيث لا يستطيع أحد قربهم أو الدنو منهم. أما من قال: إن الفرار منهم والرعب بسبب طول شعورهم وأظفارهم؛ فليس بشيء: لأنهم حين استيقظوا قال بعضهم لبعض ﴿لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾
﴿وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ﴾ أيقظناهم من نومهم ﴿لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ﴾ ليسأل بعضهم بعضاً ﴿فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ﴾ الورق: الفضة. والمراد بها: النقود التي كانت متداولة بينهم ﴿فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى﴾ أحل وأطيب ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ﴾ في دخول المدينة، وشراء الطعام
﴿إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ﴾ يطلعوا عليكم، ويعلموا مكانكم
﴿وَكَذلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ أطلعنا عليهم ﴿لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ أي ليعلم الناس أن وعد الله تعالى بالبعث حق: لأن القادر على بعث أهل الكهف - بعد نومهم ثلاثمائة عام - قادر على بعث الخلق بعد مماتهم. وبعث الناس يوم القيامة سيكون بأجسادهم؛ وقد أقام الله تعالى الدليل على ذلك بإحياء حمار عزير قال تعالى له ﴿وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً﴾ (انظر آية ٢٥٩ من سورة البقرة) ﴿إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ﴾ أي يتنازع المؤمنون والكفار في شأنهم؛ فقال الكفار: نبني فوقهم بيعة، وقال المسلمون؛ وكانوا كثرة غالبة ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً﴾ واتخذوه فعلاً فوق كهفهم؛ وفي هذا الدليل القاطع على جواز اتخاذ المساجد فوق القبور - خلافاً لما يقول به بعض الغلاة - ولا يدفع ذلك ما رواه أبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم؛ قال: «لعن رسولالله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» فهو حديث - إن صح - يجب تأويله بالنهي عن السجود إلى القبور، أو الصلاة عليها؛ يدل على ذلك قوله «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» وذلك لأن الحديث لا يدفع صريح القرآن: «لنتخذن عليهم مسجداً» وعلة النهي في الحديث: أن اتخاذ القبور مساجد قد يؤدي إلى عبادة من فيها؛ كما اتخذت الأصنام من قبل
﴿سَيَقُولُونَ﴾ أي يقول المختلفون في شأن أهل الكهف وعدتهم؛ وذلك في زمن النبي ﴿رَجْماً بِالْغَيْبِ﴾ الرجم بالغيب: القول بالظن؛ وهو دليل على بطلان السابق، وصحة اللاحق؛ وهو قوله تعالى:
﴿وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ ولم يقدح فيه بشيء ﴿فَلاَ تُمَارِ﴾ فلا تجادل ﴿فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً﴾ إلا جدالاً في حدود ما ظهر لك مما أنزلناه عليك ﴿وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ﴾ أي في شأن أهل الكهف ﴿مِّنْهُمْ﴾ أي من اليهود وغيرهم من المشركين
﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ﴾ الشيء ﴿غَداً﴾ أي فيما يستقبل من الزمان
﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ﴾ أن تفعله؛ فوجب إذاً الاستثناء؛ لأنك إن قلت: إني فاعل كذا. ولم تفعل؛ كنت كاذباً. أما إن استثنيت وقلت: لأفعلن كذا إن شاءالله؛ ولم يقدرك الله تعالى على فعله: كنت صادقاً ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ أي اذكره إذا نسيته فعصيته، واستغفره وتب إليه والعصيان لا يكون إلا عند نسيان الله تعالى ﴿وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً﴾ أي أحسن عملاً، وأقرب منفعة وهداية
﴿وَلَبِثُواْ﴾ مكثوا
-[٣٥٥]- ﴿فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً﴾ قال بعضهم: إن مدة لبثهم في الكهف «ثلاثمائة سنين» شمسية «وازدادوا تسعاً» وهي السنين القمرية؛ لأنها تزيد ثلاث سنين في كل مائة عام. وهو قول فيه الكثير من التكلف، ويتنافى مع لغة العرب - التي جاء بها القرآن - قال الشاعر:
كانوا ثمانين وازدادوا ثمانية
يعني أنهم ثمانية وثمانون؛ ولا يعقل أن يكون مقصد الشاعر: أنهم ثمانون بالحساب الشمسي، وثمانية وثمانون بالحساب القمري والذي أراه - من صريح لفظ القرآن الكريم - أن أصحاب الكهف مكثوا في كهفهم ﴿ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ﴾ ثم بعثهم الله تعالى ﴿وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ﴾ وكان ما كان من أمرهم - الذي قصه الله تعالى على رسوله عليه الصلاة والسلام - ثم أنامهم الله تسع سنين؛ يدل عليه قوله تعالى ﴿وَازْدَادُواْ تِسْعاً﴾ ثم أماتهم بعد ذلك، وتم بناء المسجد فوقهم. وقيل: إنهم أحياء في نومهم حتى ينفخ في الصور؛ والله تعالى أعلم.
﴿أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ﴾ وهي صيغة تعجب؛ أي ما أبصره تعالى بكل موجود، وما أسمعه لكل مسموع
﴿لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ التي ذكرها في كتابه الكريم: فقد وعد تعالى بحفظه من التبديل والتغيير، وبالتالي فإن ما فيه من قصص، وعبر، وترغيب، وترهيب، كله حق، وكله واقع لا محالة ﴿وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ﴾ غيره ﴿مُلْتَحَداً﴾ ملجأ
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ احبسها ﴿﴾ صباحاً ﴿وَالْعَشِيِّ﴾ مساء ﴿يُرِيدُونَ﴾ بعبادتهم ﴿وَجْهَهُ﴾ أي لا يريدون بطاعتهم الدنيا - مع حاجتهم إليها - بل يريدون عبادته تعالى ورضاءه ﴿وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ﴾ لا تجاوز، ولا تنصرف ﴿عَنْهُمْ﴾ عن هؤلاء الطائعين؛ ولو كانوا من المعدمين ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي لا تصرف وجهك عن الفقراء - الذين لا يجدون ما يأكلون، أو يلبسون، أو يركبون - إلى الأغنياء الذين طعموا أحسن الطعام، ولبسوا فاخر الثياب، وركبوا فاره المركب؛ وجميع ذلك من زينة الحياة الدنيا. أما في الآخرة فقد يعري الكاسي، ويكسي العاري، ويركب الماشي، ويحفي الراكب ﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا﴾ عقوبة له، وانتقاماً منه؛ لاتباعه هواه، وعصيانه مولاه ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ (انظر آية ١٧٦ من سورة الأعراف) ﴿وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾
مجاوزاً عن الحق، ومسرفاً في العصيان والكفر
﴿وَقُلِ الْحَقُّ﴾ الإسلام والقرآن ﴿مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ﴾ منكم ﴿فَلْيُؤْمِن﴾ باختياره ﴿وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ بإرادته؛ فقد خير الله تعالى الإنسان، بين الكفر والإيمان؛ بعد أن بين له عاقبة الإيمان، ومغبة الكفران ﴿إِنَّآ أَعْتَدْنَا﴾ هيأنا
-[٣٥٦]- وأعددنا ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾ الكافرين ﴿نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾ أي تحيط بهم يوم القيامة إحاطة السرادق بمن فيه من الجموع ويقال للدخان، إذا ارتفع وأحاط بالمكان: سرادق ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُواْ﴾ من العطش ﴿يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ﴾ وهو المعدن المذاب، أو القطران، أو عكر الزيت ﴿وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً﴾ المرتفق: المتكأ، وهو ما يستند إليه بمرفق اليد: كالمخدة، ونحوها. والمعنى: انعدام الراحة فيها. أو هو كل ما ينتفع به، وليس في جهنم ما ينتفع به إطلاقاً؛ وإنما سيقت للمقابلة مع قوله تعالى عن الجنة «وحسنت مرتفقاً» كما سيأتي
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ جنات الإقامة؛ من عدن بالمكان: إذا أقام فيه ﴿سُنْدُسٍ﴾ ما رق من الديباج ﴿وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ ما غلظ منه ﴿الأَرَآئِكِ﴾ السرر
﴿وَاضْرِبْ لَهُم﴾ يا محمد ﴿مَّثَلاً﴾ للكافر والمؤمن، أو لمن يعتز بالدنيا ويترك الآخرة وراء ظهره، ومن يرغب في الآخرة ولا يحرص على الدنيا؛ فمثلها كمثل ﴿رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا﴾ وهو المقبل على الدنيا، المنصرف عن الآخرة ﴿جَنَّتَيْنِ﴾ بساتين ﴿مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ﴾ والبستان إذا أحيط بالنخيل: ضم إلى حسن المخبر؛ جمال المنظر (انظر آية ٢٦٦ من سورة البقرة)
﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا﴾ أعطت ثمرها كاملاً ﴿وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً﴾ أي لم تنقص من ثمارها شيئاً: أينعت كأحسن ما يكون الينع، وأثمرت كأحسن ما يكون الثمار
﴿وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً﴾ إمعاناً في حسنهما وزيادة في خصوبتهما
﴿وَكَانَ لَهُ﴾ أي لصاحب الجنتين ﴿ثَمَرٌ﴾ مال وافر مثمر؛ مما حازه من جنتيه في سابق أيامه ﴿فَقَالَ لَصَاحِبِهِ﴾ المقبل على الآخرة، المنصرف عن الدنيا ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾ أي وأعظم عشيرة. والنفر: الرهط؛ وهو ما دون العشرة. وترك صاحبه
﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ﴾ دخل أحد بستانيه ﴿وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ بالكفر، وعدم الشكر وبالغرور والكبر؛ وحين رأى كثرة ثماره، وجريان أنهاره، وأوحى إليه الشيطان أن توافر المال والماء موجب لتوافر المحصول والثراء و ﴿قَالَ﴾ في نفسه ﴿مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ﴾ الجنة
﴿وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾ كما يزعمون ﴿وَلَئِن﴾ كانت قائمة، و ﴿رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ﴾ عنده ﴿خَيْراً مِّنْهَا﴾ أي خيراً من جنتي هذه ﴿مُنْقَلَباً﴾ مرجعاً وعاقبة؛ وذلك كقول نظائره من الكافرين ﴿وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً﴾
﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ﴾ المؤمن؛ رداً على ما قاله: كيف تقول ما قلت؟ وكيف تنكر البعث والقيامة؟ ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ﴾ أي خلق آدم - وهو أصل البشرية - خلقه الله تعالى ﴿مِن تُرَابٍ ثُمَّ﴾ خلق أبناءه جميعاً ﴿مِن نُّطْفَةٍ﴾ مني ﴿ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً﴾ سميعاً، بصيراً، عاقلاً (انظر آية ٢١ من سورة الذاريات)
﴿لَّكِنَّ﴾ أصلها
-[٣٥٧]- «لكن أنا» ﴿هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾ أي أنا شأني أن أقول: «الله ربي» ﴿وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً﴾ ولا أكفر بنعمته تعالى؛ كما كفرت أنت
﴿وَلَوْلا﴾ وهلا ﴿إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ﴾ عند إعجابك بها، وسرورك من منظرها ﴿مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ﴾ ولم تقل «ما أظن أن تبيد هذه أبداً» إنك ﴿إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً﴾ في هذه الدنيا الفانية
﴿فعسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ﴾ في الآخرة الباقية ﴿خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ﴾ التي تعجب بها وتفخر ﴿وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً﴾ صواعق ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ والحسبان أيضاً: العذاب؛ وهو يشمل كل آفة تنزل من السماء؛ فتهلك الزرع ﴿فَتُصْبِحَ﴾ جنتك الزاهية الزاهرة، المثمرة الناضرة ﴿صَعِيداً زَلَقاً﴾ أرضاً جرداء ملساء؛ لا تثبت عليها قدم
﴿أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا﴾ الذي يتوقف عليه إثمارها وازدهارها ﴿غَوْراً﴾ غائراً: أي ذاهباً في الأرض ﴿فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً﴾ وكيف يطلب مالا وجود له أصلاً؟ وقد حقق الله تعالى ما قاله المؤمن في جنة الكافر: فأنزل الله من السماء ما أتلفها أو نحوها
﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ هو كناية عن إهلاك الثمار عن آخرها ﴿فَأَصْبَحَ﴾ الكافر ﴿يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ﴾ يضرب إحداهما على الأخرى؛ ندماً وتحسراً ﴿عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا﴾ أي في الجنة: من جهد، ووقت، ومال ﴿وَيَقُولُ يلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً﴾ بعد أن علم أن كفره كان سبباً لما حل به من المصائب
﴿وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ فيمنعون عنه ما نزل به، ويحولون دون ما أراده الله تعالى به من خزي وخسران {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً *
هُنَالِكَ} عند حلول انتقام العزيز الجبار ﴿الْوَلاَيَةُ﴾ السلطان، والملك، والقدرة والنصرة ﴿لِلَّهِ الْحَقِّ﴾ لا لغيره أو «هنالك» يوم القيامة؛ عند معاقبة العاصين، وإثابة الطائعين
﴿هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً﴾ أي خير من يثيب على الإيمان والطاعة ﴿وَخَيْرٌ عُقْباً﴾ أي عاقبة للمؤمنين
﴿وَاضْرِبْ لَهُم﴾ يا محمد ﴿مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وحسنها وبهجتها؛ مع سرعة زوالها وانقضائها ﴿كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ بيسر وسهولة ﴿فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ﴾ أي شرب منه، ونما وازدهر بسببه؛ غير أنه ذبل بعد ذلك ﴿فَأَصْبَحَ هَشِيماً﴾ يابساً متكسراً ﴿تَذْرُوهُ الرِّياحُ﴾ تنسفه وتطيره
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فبهما الغنى والسعة، واليسر والعون - في هذه الدنيا المحتقرة - فلا تجعلوا المال مأربكم، والبنين مطلبكم: تجمعون المال وتنسون المآل، وتخصون بنيكم بالخير، وتغفلون الغير؛ مع أن الله تعالى قد وعد منفقاً خَلَفاً، وأوعد ممسكاً تلفاً
-[٣٥٨]- ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ﴾ أعمال الخير والبر ﴿خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً﴾ وأجراً؛ من الدنيا وما فيها، ومن فيها ﴿وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾ أي أفضل أملاً من ذي المال والبنين، بغير عمل صالح
﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ﴾ في الجو، أو نذهب بها؛ بأن نجعلها هباء منثوراً ﴿وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً﴾ ظاهرة؛ لا يسترها شيء مما كان عليها؛ من الجبال والأشجار ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ﴾ أي جمعنا الخلائق في المحشر للحساب ﴿فَلَمْ نُغَادِرْ﴾ لم نترك
﴿وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً﴾ أي مصطفين؛ بحيث لا يخفى أحد منهم، أو يستتر بغيره؛ ويقال لهم وقت عرضهم ﴿لَقَدْ﴾ بعثناكم بعد موتكم، وأعدناكم بعد بلاء أجسادكم؛ وها أنتم أولاء ﴿جِئْتُمُونَا﴾ بأجسادكم وأرواحكم ﴿كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وقد ذكرنا لكم ذلك - على لسان رسلنا - فكذبتم وعصيتم و ﴿زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً﴾
نحاسبكم فيه
﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾ الذي فيه أعمال الخلائق؛ منذ ولادتهم حتى موتهم ﴿فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ﴾ الكافرين ﴿مُشْفِقِينَ﴾ خائفين ﴿مِمَّا فِيهِ﴾ من أعمال سيئة عملوها، وجرائم بغيضة ارتكبوها ﴿لاَ يُغَادِرُ﴾ لا يترك ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ﴾ في الدنيا ﴿حَاضِراً﴾ مثبتاً في الصحف، واضحاً. أو وجدوا جزاء ما عملوا معداً لهم
﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ خرج عن طاعته ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ﴾ ومن ذرية إبليس اللعين: من يوسوس في الصلاة، ومن يحض على الزنا، ومن يأكل مع من لم يسمالله، ومن يزعج عند المصيبة ويحض على عدم الصبر إلى ما لا نهاية من الإضلال والإفساد ﴿وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ ألا ترون أنهم ينصبون لكم الأحابيل، ويزينون لكم الأباطيل ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ﴾ الكافرين ﴿بَدَلاً﴾ أن يستبدلوا طاعة الله تعالى ورسله؛ بطاعة إبليس وذريته
﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ﴾ أي ما أشهدت إبليس وذريته ﴿خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وما استعنت بهم ﴿وَلاَ﴾ أشهدتهم ﴿خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي ولم أشهد بعضهم خلق بعض؛ بل خلقت الجميع بإرادتي وقدرتي؛ ولم أستعن بأحد منهم فكيف تطيعونهم وتتبعونهم ﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾ أي أعواناً أعتضد بهم وأستعين
﴿وَيَوْمَ يَقُولُ﴾ الله تعالى
-[٣٥٩]- ﴿نَادُواْ شُرَكَآئِيَ﴾ الذين أشركتموهم معي في العبادة ﴿فَدَعَوْهُمْ﴾ فنادوهم، أو استغاثوا بهم ﴿فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ﴾ وكيف يجيب من لا يجد له مستجيب؟ أو كيف يغيث من ليس له مغيث؟ ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم﴾ أي بين العابدين والمعبودين ﴿مَّوْبِقاً﴾ مهلكاً؛ وهو جهنم: يهلكون فيها جميعاً. وقيل «موبقاً» حاجزاً بينهم وبين من عبدوا؛ من الملائكة، وعزير، وعيسى؛ إذ أنهم في أعالي الجنات، وعابديهم في أحط الدركات
﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ﴾ تيقنوا وتأكدوا؛ والظن يأتي في القرآن الكريم دائماً بمعنى اليقين؛ ما لم تدل قرينة السياق على خلافه؛ كقوله تعالى: ﴿إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ ﴿مُّوَاقِعُوهَا﴾ مخالطوها وواقعون فيها
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا﴾ بيّنا ﴿مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ ضربناه للناس: تقريباً لأفهامهم، وكل عظة تسلك في قلوبهم، وكل حجة تدخل في عقولهم: ليتذكروا، ويتعظوا، وينزجروا، وينيبوا ﴿وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ أي أكثر مراء، وخصومة: لا يرجع عن باطله، ولا يثوب إلى رشده ولعل المراد بالإنسان: الكافر فحسب؛ فقد وصفه الله تعالى بالجدال في غير موضع من كتابه الكريم: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ﴾ ﴿وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ﴾ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾
﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى﴾ أي أيّ مانع يمنع الناس عن الإيمان؛ بعد نزول القرآن؟ ولا حجة لمن ألحد بزعمه أن الله تعالى منعهم عن الإيمان، وصرفهم عن الإيقان؛ بل وسلك في قلوبهم الكفران؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً (انظر آية ٢٠٠ من سورة الشعراء) ﴿إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ﴾ أي إن المانع لهم من الإيمان: بالغ جهلهم، ومزيد حمقهم؛ وطلبهم معاينة الهلاك الذي حل بأمثالهم من الأمم السابقة؛ كقولهم «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً﴾ مقابلة وعياناً
﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ﴾ من آمن بالجنة ﴿وَمُنذِرِينَ﴾ من كفر بالنار ﴿لِيُدْحِضُواْ﴾ يبطلوا ﴿وَاتَّخَذُواْ آيَاتِي﴾ القرآن ﴿وَمَا أُنْذِرُواْ﴾ به من الحساب والعذاب ﴿هُزُواً﴾ سخرية
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ أي لا أحد أظلم ﴿مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ﴾ المنذرة له بسوء المنقلب ﴿وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ من كفر وعصيان؛ فلم يرجع عن كفره، ولم يتب من عصيانه ﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾
أغطية ﴿أَن يَفْقَهُوهُ﴾ أن يفهموا هذا القرآن: عقوبة لهم. قال تعالى: «ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون» جعلنا ﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً﴾ صمماً أن يسمعوه ذلك لأنهم ﴿وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً﴾ كفراً منهم وعناداً
﴿لَوْ يُؤَاخِذُهُم﴾ الله ﴿بِمَا كَسَبُواْ﴾ عملوا من سيئات ﴿لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ﴾ في الدنيا ﴿بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ﴾ يعذبون فيه: وهو يوم القيامة ﴿لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاٍ﴾ ملجأ
﴿وَتِلْكَ الْقُرَى﴾ أي أهلها: كقرى عاد، وثمود، وقوم لوط، وغيرهم ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ﴾ لما كفروا؛ كما كفر هؤلاء ﴿وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم﴾ لإهلاكهم ﴿مَّوْعِداً﴾ وهو إقامة الحجة عليهم، واليأس من إيمانهم
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى﴾ ابن عمران ﴿لِفَتَاهُ﴾ يوشعبن نون؛ وكان تابعاً له يخدمه، ويتلقى منه العلم ﴿لا أَبْرَحُ﴾ أي لا أزال سائراً ﴿حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ﴾ ملتقى بحر فارس والروم؛ مما يلي المشرق ﴿أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً﴾ زماناً طويلاً
﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا﴾ أي بين البحرين ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً﴾ يعني دخل في الماء واستتر به؛ والمراد أن الحوت اتخذ سرباً في البحر لطريقه.
والسرب: الشق الطويل
﴿فَلَمَّا جَاوَزَا﴾ أي جاوز موسى وفتاه ذلك المكان - الذي تسرب فيه الحوت من حيث لا يدريان - وسارا في طريقهما المرسوم، وبلغ منهما الجوع مبلغه؛ وحل وقت الغداء من اليوم الثاني لتسرب الحوت ﴿قَالَ﴾ موسى ﴿لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا﴾ والغداء: ما يؤكل في الغدوة؛ وهي أول النهار؛ وليس كما يتوهمه الأكثرون من أنه وقت الظهيرة ﴿لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً﴾ تعباً، ومشقة، وجوعاً
﴿قَالَ﴾ له فتاه ﴿أَرَأَيْتَ﴾ أي أتذكر ﴿إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ﴾ لنستريح عليها؛ عند مجمع البحرين ﴿فَإِنِّي﴾ عند ذاك ﴿نَسِيتُ الْحُوتَ﴾ أي نسيت أن أتفقده ﴿أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ أن أتذكره وأحتفظ به
﴿قَالَ﴾ له موسى ﴿ذَلِكَ﴾ الذي حدث ﴿مَا كُنَّا نَبْغِ﴾ هو الذي كنا نطلبه ﴿فَارْتَدَّا﴾ رجعا ﴿عَلَى آثَارِهِمَا﴾ من حيث جاءا ﴿قَصَصاً﴾ يتتبعان طريقهما الذي أتيا منه
﴿فَوَجَدَا﴾ عند الصخرة: التي استراحا عليها، ونسيا الحوت عندها ﴿عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ﴾ هو الخضر عليه السلام ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً﴾ الرحمة: الوحي، والنبوة؛ يدل عليه قوله تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ وقوله تعالى في نهاية هذه القصة؛ على لسان الخضر عليه السلام ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ أي إنما فعلت ما فعلت بوحي من الله تعالى. وأكثر المفسرين على أنها - في هذه الآية التي نحن بصددها - الولاية، وكشف الحجب؛ والذي أراه ويقتضيه السياق: أنها النبوة قولاً واحداً: إذ لا يعقل أن يوجد في زمن أي نبي من هو أعلم وأحكم منه: لأن النبي - في كل زمان - خيرة الله تعالى من أهل ذلك الزمان
﴿رَشَداً﴾ أي صواباً استرشد به
﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ أي على ما لم تعلم حقيقة خبره
﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾ عظيماً منكراً
﴿وَلاَ تُرْهِقْنِي﴾ تكلفني ﴿مِنْ أَمْرِي عُسْراً﴾ مشقة؛ بل عاملني بالعفو واليسر
﴿قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً﴾ طاهرة، بريئة من الذنب ﴿لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً﴾ عظيماً منكراً.
﴿قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً﴾ أي قد قام عذرك في مطالبتي بعدم مصاحبتك؛ كما قطعت على نفسي
﴿اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا﴾ طلبا منهم أن يطعماهما على سبيل الضيافة
-[٣٦٢]- ﴿فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا﴾ لبخل فاش فيهم. والبخل من أحط الصفات المذمومة؛ خاصة إذا كان بالطعام لقوم جياع قد طلبوه بأنفسهم والبخل: يمحو سائر الحسنات، كما أن السخاء يمحو السيئات} أي جداراً آيلاً للسقوط فبناه. من هنا يعلم أن الإحسان يجب على المحسن؛ لمن أحسن أو أساء، وأنه يبذل من غير مقابل ومن عجب أنا نرى النفوس الشريرة تقابل الإحسان بالإساءة، وتجزي الخير بالشر ﴿قَالَ﴾ موسى للخضر عليهما السلام ﴿لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ﴾ أي على بناء الجدار ﴿أَجْراً﴾ نطعم به؛ لأنهم أبوا مجاملتنا بقليل الطعام؛ فكيف نجاملهم بهذا العمل الكبير الخطير؟
﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ﴾ والمسكين: أحسن حالاً من الفقير؛ لأن الفقير: هو الذي لا يجد القوت، والمسكين: الذي يجد الكفاف؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ﴾ فوصفهم تعالى بالمسكنة؛ مع أنهم يملكون سفينة تؤجر للركوب والحمل؟ وقال قوم بأن المسكين أشد بؤساً من الفقير. والقول الذي قلناه أولى؛ يظاهره المعقول والمنقول؛ وقد كان رسولالله يتعوذ من الفقر، وكان يقول: «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً» ويستحيل عقلاً أن يتعوذ عليه الصَّلاة والسَّلام من الفقر؛ ثم يسأل ما هو أسوأ حالاً منه. وقد قيده تعالى بقوله: ﴿أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ أي ذا فقر ﴿وَكَانَ وَرَآءَهُم﴾ أي في طلبهم. وقيل: «وراءهم» أي أمامهم في سيرهم
﴿فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ إذا عاش وبلغ مبلغ الرجال؛ لأن الله تعالى علم عنه ذلك، وأمرني بما هنالك
﴿فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا﴾ من الأبناء الصلحاء ﴿خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً﴾ أي إيماناً وصلاحاً وتقى ﴿وَأَقْرَبَ رُحْماً﴾
أي رحمة بوالديه، وبراً بهما فانظر يا رعاكالله، إلى حكمةالله: لقد فرح الأبوان بابنهما حين ولد، وحزنا عليه حين قتل؛ ولو بقي لخسرا بسببه الدنيا والآخرة فارض هداكالله، بقضاءالله؛ فإن قضاءه للمؤمن فيما يكره؛ خير له من قضائه فيما يحب
﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً﴾ يؤخذ من هذا: أن صلاح الآباء، ينفع الأبناء؛ حتى قيام الساعة ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا﴾ أي رشدهما. وبلوغ الأشد: اكتمال القوة؛ وهو ما بين ثماني عشرة، إلى ثلاثين سنة ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ وإنما فعلته بوحي من ربي؛ وهذا أيضاً دليل على نبوة الخضر عليه السلام؛ كما قدمنا
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾ قيل: إنه الاسكندر الأكبر الرومي المقدوني. وقيل: إنه غيره. وذهب قوم إلى أنه نبي، أو رجل صالح؛ أرسله الله تعالى لإحداث أحداث كونية، روحية؛ وقد مدحه الله تعالى في القرآن. وسبب تسميته بذي القرنين:
-[٣٦٣]- أنه بلغ قطري الأرض؛ من مشرقها إلى مغربها. وقيل: سمي بذلك لأن له ضفيرتان كالقرنين. وقيل: لأنه عاش قرنين من الزمان؛ والله تعالى أعلم وأحكم
﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ﴾ أي جعلنا له مكانة فيها، وملكناها له، وسهلنا سيره فيها ﴿وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ أراده ﴿سَبَباً﴾ أي وسيلة توصله إلى ذلك الشيء الذي أراده وقدرنا وقوعه
﴿فَأَتْبَعَ سَبَباً﴾ فسلك طريقاً نحو المغرب ﴿وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ أي ذات حمأة. والحمأة: الطين الأسود المنتن. وقرىء «عين حامية» بمعنى حارة؛ والمراد عين سوداء لا ضوء فيها، وذلك رأي العين. أما الشمس فالثابت أنها أعظم وأكبر من الأرض؛ وقد قدروا أنها أكبر من حجم الأرض بأكثر من مليون وأربعمائة وأربعة آلاف مرة ﴿وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً﴾ كافرين، جبارين، معتدين ﴿قُلْنَا يذَا الْقَرْنَيْنِ﴾ يؤخذ من هذه الآية أنه كان نبياً يوحى إليه؛ وإن لم يكنه فهو عبد صالح أوحى الله تعالى إليه وحي إلهام ﴿إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ﴾ هؤلاء القوم؛ على كفرهم وبغيهم وطغيانهم
﴿وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾ بإسداء النصح والإرشاد. وقيل: ﴿إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ﴾ بالقتل والفتك ﴿وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾ بالأسر حتى المتاب ﴿ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ﴾ يوم القيامة ﴿فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً﴾ شديداً: تنكره الطاقة، ولا تحتمله القوة
﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ﴾ ب الله تعالى ﴿وَعَمِلَ﴾ عملاً ﴿صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى﴾ أي الجنة ﴿وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً﴾ أي لا نأمره إلا بما يسهل عليه ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ أو سنعلمه ما يقربه إلينا، وييسر له كل صعب
﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً﴾ سلك طريقاً آخر - غير الطريق الأول - نحو المشرق
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً﴾ أي أبنية تسترهم؛ لأن أرضهم لا تحتمل البناء، أو أنهم عرايا؛ لا يلبسون ثياباً تسترهم. قيل: إنهم الزنج ﴿كَذَلِكَ﴾ أي الأمر كما ذكرنا
﴿وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ﴾ أي بما عند ذي القرنين من الجند والآلة، والميرة والذخيرة، وغير ذلك
﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً﴾ سلك طريقاً آخر غير الذي سلكه نحو المغرب والمشرق
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾ الجبلين؛ من قبل أرمينية وأذربيجان ﴿وَجَدَ مِن دُونِهِمَا﴾ أي أمام السدين. وقيل: من ورائهما ﴿قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً﴾ أي لا يفهمون ما يقال لهم، ولا يستطيعون أن يفهموا غيرهم؛ يؤيده قراءة من قرأ «يفقهون»
﴿قَالُواْ﴾ أي قال له الناس الصالحون، القاطنون في هذه الجهات ﴿إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ﴾ قبيلتان اشتهرتا بالفساد والإفساد ﴿مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ﴾
قيل: إنهم كانوا من أكلة لحوم البشر. وقيل: إنهم كانوا يفسدون بالقتل، والظلم، والبغي، والفساد ﴿فَهَلْ
-[٣٦٤]- نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً﴾ جعلا. وفي قراءة «خراجاً»
﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي﴾ أي ما جعلني متمكناً فيه: من القوة، والحيلة، والمال والعتاد ﴿خَيْرٌ﴾ مما تعرضونه عليَّ من الخراج ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾ أي بقوتكم البدنية، ومعونتكم الجسمانية ﴿أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً﴾ جداراً، وحاجزاً حصيناً
﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾ وهي القطع الكبيرة من الحديد ﴿حَتَّى إِذَا سَاوَى﴾ بذلك الحديد ﴿بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾ جانبي الجبلين؛ وسد الفرجة التي بين السدين، والتي يتسرب منها يأجوج ومأجوج إلى الذين لجأوا إلى الإسكندر واستصرخوا به؛ وقد سدها بقطع كبيرة متفرقة من الحديد، ووضع حول القطع ناراً؛ ثم ﴿قَالَ انفُخُواْ﴾ على النار ﴿حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً﴾ أي صهر الحديد وجعله كالنار ﴿قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً﴾ نحاساً مذاباً بين ثنايا قطع الحديد
﴿فَمَا اسْطَاعُواْ﴾ أي فما استطاع يأجوج ومأجوج ﴿أَن يَظْهَرُوهُ﴾ أن يعلوا السد؛ لمزيد ارتفاعه وملاسته ﴿وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً﴾ لعظمه وصلابته؛ فلما أتم السد
﴿قَالَ هَذَا﴾ أي القدرة على بناء هذا السد وإتمامه ﴿رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي﴾ بالعباد والبلاد؛ إذ كف بالسد أذى يأجوج ومأجوج عنهم ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي﴾ بالقيامة، وخروجهم قبيلها ﴿جَعَلَهُ دَكَّآءَ﴾ أي هدمه وحطمه وأزاله وجعله مستوياً بالأرض
﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ﴾ أي يوم خروجهم ﴿يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾ يختلطون ويضطربون لكثرتهم ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ القرن: ينفخ فيه إسرائيل عليه السلام، بأمر ربه تعالى ﴿فَجَمَعْنَاهُمْ﴾ أي الخلائق أجمعين، في مكان واحد
﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي﴾ أي عن القرآن؛ فهم عمي لا يهتدون به ﴿وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً﴾ ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾
﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي﴾ من الملائكة، وعيسى، وعزير ﴿مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ﴾ يوالونهم بالعبادة؛ مع مساواتهم لهم في الحاجة والعجز ﴿إِنَّآ أَعْتَدْنَا﴾ هيأنا وأعددنا ﴿جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً﴾ النزل: المكان المعد لنزول الضيف وإكرامه، أي أن نهاية إكرامهم أن تكون جهنم نزلاً لهم
﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ كتبه ﴿وَلِقَائِهِ﴾ أي وكفروا أيضاً بالبعث والحساب، والثواب والعقاب ﴿فَحَبِطَتْ﴾ بطلت ﴿أَعْمَالُهُمْ﴾ الصالحة، التي عملوها في الدنيا ﴿فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ﴾ ولا لأعمالهم ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً﴾ بل نتركهم في نهاية الذلة، وغاية المهانة؛ غير ما أعددناه لهم من عذاب أليم، وشر مقيم
﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ﴾ بمائه الكثير الوفير
﴿مِدَاداً﴾ المداد: الذي يكتب به
﴿لِّكَلِمَاتِ رَبِّي﴾ الدالة على عظمته وربوبيته، وعلمه وحكمته
﴿لَنَفِدَ الْبَحْرُ﴾ فرغ ماؤه في الكتابة
﴿قَبْلَ أَن تَنفَدَ﴾ تنتهي
﴿لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ﴾ بمثل البحر
﴿مَدَداً﴾ لنفد أيضاً ذلك المدد، قبل أن تنفد كلمات الله تعالى وهو تصوير لقدرته تعالى، ومزيد سلطانه وليس المراد حقيقة الكلام؛ من مداد وأقلام؛ إذ أن كلماته تعالى - في تكوينها - لا هجائية؛ بل إرادية، فالمخلوقات الربانية؛ والمبدعات الإلهية: إن هي إلا كلمات بليغة؛ ينطق بها لسان الحال، بما هو أفصح من لسان المقال. وإنلله تعالى كتابين دالين على وجوده وشهوده؛ يقوم كلاهما بالهداية إليه، والتعريف به: أحدهما: كتاباً مخلوقاً؛ وهو الكون وما فيه من عجائب تجل عن الحصر، وغرائب تعز عن الوصف. وثانيهما: كتاباً قديماً محدثاً منزلاً وهو القرآن؛ وفيه ما فيه من لآلىء المعاني، وينابيع الحكم، وبليغ الكلم (انظر آية ٢٧ من سورة القمان).
365
سورة مريم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
366