تفسير سورة الكهف

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية، إلا ﴿ واصبر نفسك ﴾ الآية وهي مائة وعشر آيات وألف وخمسمائة وسبع وسبعون كلمة وعدد حروفها ستة آلاف وثلاثمائة وستون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي لا كفء له ولا شريك ﴿ الرحمن ﴾ الذي أقام عباده على أوضح الطرق بإنزال هذا الكتاب ﴿ الرحيم ﴾ بتفضيل من اختصه بالصواب وهو قوله تعالى :﴿ الحمد لله ﴾.

﴿ الحمد لله ﴾ تقدّم الكلام عليه مستقصى في أوّل الفاتحة :﴿ الذي أنزل على عبده الكتاب ﴾، أي : القرآن رتب تعالى استحقاق الحمد على إنزاله تنبيهاً على أنه أعظم إنعامه وخص رسوله صلى الله عليه وسلم بالذكر لأن إنزال القرآن نعمة عليه على الخصوص وعلى سائر الناس على العموم، أمّا كونه نعمة عليه فلأنّ الله تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علوم التوحيد والتنزيه. وصفات الجلال والإكرام وأسرار أحوال الملائكة والأنبياء وأحوال القضاء والقدر وتعلق أحوال العالم السفليّ بأحوال العالم العلويّ، وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا، وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب، وكيفية ارتباط عالم الجسمانيات بعالم الروحانيات، ولا شكّ أنّ ذلك من أعظم النعم. وأمّا كون هذا الكتاب نعمة علينا فلأنه مشتمل على التكاليف والأحكام والوعد والوعيد والعقاب. وبالجملة فهو كتاب كامل في أقصى الدرجات فكل أحد ينتفع به بمقدار طاقته وفهمه فوجب عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمّته أن يحمدوه على هذه النعم الجزيلة. وقال تعالى :﴿ على عبده ﴾ لما في كل من الوصف بالعبودية والإضافة إليه سبحانه وتعالى من الإعلام بتشريفه وإشارة إلى أنه الذي أسرى به إلى حضرات مجده ليريه من آياته. ثم إنه تعالى وصف الكتاب بوصفين الأوّل قوله تعالى :﴿ ولم يجعل له ﴾، أي : فيه ﴿ عوجاً ﴾، أي : اختلافاً وتناقضاً كما قال تعالى :﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ﴾ [ النساء ٨٢ ] والجملة حال من الكتاب.
الوصف الثاني : قوله تعالى :﴿ قيماً ﴾ قال ابن عباس : يريد مستقيما، أي : معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط. قال الرازي : وهذا عندي مشكل لأنه لا معنى لنفي الاعوجاج إلا حصول الاستقامة فتفسير القيم بالمستقيم يوجب التكرار بل الحق أنّ المراد من كونه قيما كونه سبباً لهداية الخلق وأنه يجري مجرى من يكون قيماً للأطفال فالأرواح البشرية كالأطفال والقرآن كالقيم المشفق القائم بمصالحهم وقال قبل ذلك أنّ الشيء يجب أن يكون كاملاً في ذاته ثم يكون مكملاً لغيره، ويجب أن يكون تامّاً في ذاته ثم يكون فوق التمام بأن يفيض عنه كمال الغير فقوله تعالى :﴿ ولم يجعل له عوجاً ﴾ إشارة إلى كونه كاملاً في ذاته.
وقوله :﴿ قيماً ﴾ إشارة إلى كونه مكملاً لغيره. ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة في صفة الكتاب :﴿ لا ريب فيه هدى للمتقين ﴾ [ البقرة، ٢ ] فقوله :﴿ لا ريب فيه ﴾ إشارة إلى كونه في نفسه بالغاً في الصحة وعدم الإخلال إلى حيث يجب على العاقل أن لا يرتاب فيه، وقوله :﴿ هدى للمتقين ﴾ إشارة إلى كونه سبباً لهداية الخلق ولكمال حالهم فقوله تعالى :﴿ ولم يجعل له عوجاً ﴾ قائم مقام قوله تعالى :﴿ لا ريب فيه ﴾ قوله تعالى :﴿ قيماً ﴾ قائم مقام قوله تعالى :﴿ هدى للمتقين ﴾.
واختلف النحويون في نصب قوله تعالى :﴿ قيماً ﴾ على أوجه : الأوّل قال في «الكشاف » : لا يجوز جعله حالاً من الكتاب لأنّ قوله تعالى :﴿ ولم يجعل له عوجاً ﴾ معطوف على قوله تعالى :﴿ أنزل ﴾ فهو داخل في حيز الصلة وأنه لا يجوز. قال : ولما بطل هذا وجب أن ينتصب بمضمر والتقدير ولم يجعل له عوجاً جعله قيماً لأنه تعالى إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة. قال : فإن قلت فما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة وفي أحدهما غنى عن الآخر ؟ قلت : فائدته التأكيد ورب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح.
الوجه الثاني : أنه حال ثانية والجملة المنفية قبله حال أيضاً كما مرّ وتعدّد الحال الذي حال واحد جائز، والتقدير أنزله غير جاعل له عوجاً قيماً.
الوجه الثالث : أنه حال أيضاً ولكنه بدل من الجملة قبله لأنها حال وإبدال المفرد من الجملة إذا كانت بتقدير مفرد جائز.
ولما ذكر تعالى أنه أنزل على عبده هذا الكتاب الموصوف بما ذكر أردفه ببيان ما لأجله أنزله بقوله عز وجلّ :﴿ لينذر ﴾، أي : يخوّف الكتاب الكافرين ﴿ بأساً ﴾، أي : عذاباً ﴿ شديداً من لدنه ﴾، أي : صادراً من عنده، وقرأ شعبة بإسكان الدال وكسر النون والهاء وصلة الهاء بياء والباقون بضم الدال وسكون النون وضم الهاء، وابن كثير على أصله بضم الهاء في الوصل بواو. ﴿ ويبشر المؤمنين ﴾، أي : الراسخين في هذا الوصف، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء التحتية وسكون الموحدة، وضم الشين مخففة والباقون بضم التحتية وفتح الموحدة وكسر الشين مشدّدة. ﴿ الذين يعملون الصالحات ﴾ وهي ما أمر به خالصاً له وذانك الشيئان مفتاح الإيمان. ﴿ أنّ لهم ﴾، أي : بسبب أعمالهم ﴿ أجراً حسناً ﴾ هو الجنة حال كونهم.
﴿ ماكثين فيه أبداً ﴾ بلا انقطاع أصلاً فإنّ الأبد زمان لا آخر له.
وقوله تعالى :﴿ وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً ﴾ معطوف على قوله تعالى :﴿ لينذر بأساً شديداً من لدنه ﴾ والمعطوف يجب كونه مغايراً للمعطوف عليه، فالأوّل عام في حق كل كافر، والثاني خاص بمن أثبت لله ولداً. وعادة القرآن جارية بأنه إذاذكر قضية كلية عطف عليها بعض جزئياتها تنبيهاً على كونه أعظم جزئيات ذلك الكلي كقوله تعالى :﴿ وملائكته ورسله وجبريل وميكال ﴾ [ البقرة، ٩٨ ] فكذا هاهنا هذا العطف يدل على أنّ أقبح أنواع الكفر إثبات الولد لله تعالى.
تنبيه : الذين أثبتوا لله ولداً ثلاث طوائف الأولى : كفار العرب الذين قالوا الملائكة بنات الله. الثانية : النصارى الذين قالوا المسيح ابن الله. الثالثة : اليهود الذين قالوا عزير ابن الله. ثم إنه تعالى أنكر على القائلين ذلك من وجهين الأوّل : قوله تعالى :﴿ ما لهم به ﴾، أي : القول. ﴿ من علم ﴾، أي : أصلاً لأنه مما لا يمكن أن يتعلق العلم به لأنه لا وجود له ولا يمكن وجوده، ثم قرّر تعالى هذا المعنى وأكده بقوله :﴿ ولا لآبائهم ﴾ الذين يغتبطون بتقليدهم في الدين حتى في هذا الذي لا يتخيله عاقل ولو أخطؤوا في تصرف دنيوي لم يتبعوهم فيه. فإن قيل : اتخاذ الله ولداً محال في نفسه فكيف قيل ما لهم به من علم ؟ أجيب : بأن انتفاء العلم بالشيء قد يكن للجهل بالطريق الموصل إليه وقد لا يكون لأنه في نفسه محال لا يمكن تعلق العلم به، ونظيره قوله تعالى :﴿ ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به ﴾ [ المؤمنين، ١١٧ ]. الوجه الثاني :﴿ كبرت ﴾، أي : مقالتهم ﴿ كلمة ﴾، أي : ما أكبرها من كلمة وصور فظاظة اجترائهم على النطق بهابقوله تعالى :﴿ تخرج من أفواههم ﴾، أي : لم يكفهم خطورها في أنفسهم وتردّدها في صدورهم حتى تلفظوا بها وكان صدورهم بها على وجه التكرير كما يشير إليه التعبير بالمضارع.
تنبيه : سميت هذه كلمة كما يسمون القصيدة كلمة. ثم بين تعالى ما أفهمه الكلام من أنه كما أنهم لا علم لهم بذلك لا علم لأحد به أصلاً لأنه لا وجود له فقال تعالى :﴿ إن ﴾، أي : ما ﴿ يقولون إلا كذباً ﴾، أي : قولاً لا حقيقة له بوجه من الوجوه.
ولما كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إيمان قومه شفقة عليهم وغيرة على المقام الإلهي الذي ملأ قلبه تعظيماً خفض عليه سبحانه وتعالى بقوله تعالى :
﴿ فلعلك باخع ﴾، أي : قاتل ﴿ نفسك ﴾ من شدّة الغمّ والوجد وأشار تعالى إلى شدّة نفرتهم وسرعة مفارقتهم وعظيم مباعدتهم بقوله عز من قائل :﴿ على آثارهم ﴾، أي : حين تولوا عن التوحيد وعن إجابتك ﴿ إن لم يؤمنوا بهذا الحديث ﴾، أي : القرآن المتجدّد تنزيله على حسب التدريج ﴿ أسفاً ﴾ منك على ذلك والأسف شدّة الحزن والغضب. فإن قيل : ذلك يدل على حدوث القرآن ؟ أجيب : بأنه محمول على الألفاظ وهي حادثة. ثم بين سبحانه وتعالى علة إرشاده إلى الإعراض عنهم بغير ما يقدر عليه من التبليغ للبشارة والنذارة بأنهم لم يخرجوا عن مراده تعالى، وأنّ الإيمان لا يقدر على إدخاله قلوبهم غيره بقوله عز وجل :﴿ إنّا ﴾.
﴿ إنّا ﴾، أي : إنا لا نفعل ذلك لأنا ﴿ جعلنا ما على الأرض ﴾ من الحيوان والنبات والشجر والأنهار والمعادن وغير ذلك. وقال بعضهم : بل المراد الناس فهم زينة الأرض، وبالجملة فليس في الأرض إلا المواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات الشامل للشجر والحيوان وأشرف أنواع الحيوان الإنسان. ﴿ زينة لها ﴾، أي : الأرض قيل المراد أهلها، أي : زينة لأهلها. قال الرازي : ولا يمتنع أن يكون ما تحسن به الأرض زينة لها كما جعل الله السماء مزينة بالكواكب. ولما أخبر تعالى بزينتها أخبر تعالى بعلته بقوله تعالى :﴿ لنبلوهم ﴾، أي : نعاملهم معاملة المختبر ﴿ أيهم أحسن عملاً ﴾ بإخلاص الخدمة لربه فيصير ما كنا نعلمه منهم ظاهراً فإنّ الله تعالى يعلم السرّ وأخفى، لتقام به عليهم الحجة على ما يتعارفونه بينهم بأن من أظهر موافقة الأمر فيما نال من الزينة حاز المثوبة ومن اجترأ على مخالفة الأمر بما آتاه منها استحق العقوبة فكأنه تعالى يقول : يا محمد إني خلقت الأرض وزينتها وأخرجت منها أنواع المنافع والمصالح والمقصود من خلقها بما فيها من المنافع ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ثم إنهم يكفرون ويتمرّدون ومع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم فأنت أيضاً يا محمد لا ينبغي أن تنتهي في الحزن بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدين الحق.
ثم إنه تعالى لما بين أنه إنما زين الأرض لأجل الامتحان والابتلاء لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعماً بها أبداً، زهد فيها بقوله تعالى :﴿ وإنا لجاعلون ما عليها ﴾ من جميع تلك الزينة لا يصعب علينا شيء منه ﴿ صعيداً ﴾، أي : فتاتاً ﴿ جزراً ﴾، أي : يابساً لا ينبت ونظيره قوله تعالى :﴿ كل من عليها فان ﴾ [ الرحمن، ٢٦ ]. وقوله تعالى :﴿ فيذرها قاعاً صفصفاً ١٠٦ لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ﴾ [ طه : ١٠٦، ١٠٧ ]. وتخصيص الإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض إلا أنّ سائر الآيات على أنّ الأرض أيضاً لا تبقى كما قال تعالى :﴿ يوم تبدّل الأرض غير الأرض ﴾ [ إبراهيم، ٤٨ ].
ولما أنّ القوم تعجبوا في قصة أصحاب الكهف وسألوها النبيّ صلى الله عليه وسلم على سبيل الامتحان قال تعالى :﴿ أم حسبت ﴾، أي : ظننت على ما لك من العقل الرزين والرأي الرصين ﴿ أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً ﴾ على ما لزم من تهويل السائلين من الكفرة من اليهود والعرب والواقع أنهم كانوا من العجائب ليسوا بعجب بالنسبة إلى كثرة آياتنا فإنّ من كان قادراً على تخليق السماوات والأرض كيف يستبعد من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة مدّة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم والكهف الغار الواسع في الجبل، واختلف في الرقيم فقيل هو اسم كلبهم قال أمية بن أبي الصلت :
وليس بها إلا الرقيم مجاورا ***
وصيدهم ؛ وهو بكسر الصاد مفعول مجاورا، أي : فناءهم. والقوم في الكهف هجد ؛، أي : نوّم، وقيل هو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم وقصصهم جعل على باب الكهف. قال البغويّ : وهذا أظهر الأقاويل. وقيل : إنّ الناس رقموا حديثهم نقراً في الجبل وقيل هو الوادي الذي فيه الكهف، وقيل الجبل وقيل قريتهم، وقيل أصحاب الرقيم قوم آخرون غير أصحاب الكهف كانوا ثلاثة يطلبون الكلأ أو نحوه لأهلهم فأخذهم المطر فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة وسدّت عليهم بابه فقال أحدهم : اذكروا أيكم عمل حسنة لعلّ الله يرحمنا ببركته فقال واحد : استعملت أجراء ذات يوم فجاء رجل منهم وسط النهار وعمل في بقيته مثل عملهم فأعطيته مثل أجرهم فغضب أحدهم وترك أجره فوضعته في جانب البيت فمرّ بي بقر فاشتريت فصيلة والفصيلة ولد الناقة إذا انفصل عن أمّه فبلغت ما شاء الله فرجع إليّ بعد حين شيخاً ضعيفاً لا أعرفه وقال : إنّ لي عندك حقاً وذكره حتى عرفته فدفعتها إليه جميعاً اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فأفرج عنا فانصدع عنهم الجبل حتى رأوا الضوء والصدع الشق والصداع وجع الرأس. وقال آخر : كان في فضل وأصاب الناس شدّة فجاءتني امرأة تطلب مني معروفاً فقلت : والله ما هو دون نفسك فأبت وعادت ثم رجعت ثلاثاً ثم ذكرت ذلك لزوجها فقال : أجيبي له وأعيني عيالك فأتت وسلمت إليّ نفسها فلما كشفتها وهممت بها ارتعدت فقلت لها : ما لك ؟ فقالت : أخاف الله تعالى : فقلت لها : خفتيه في الشدّة ولم أخفه في الرخاء فتركتها وأعطيتها ملتمسها اللهمّ إن كنت فعلته لوجهك فأفرج عنا فانصدع حتى تعارفوا. وقال الثالث : كان لي أبوان هرمان وكان لي غنم وكنت أطعمهما وأسقيهما ثم أرجع إلى غنمي فحبسني ذات يوم غيم فلم أرجع حتى أمسيت فأتيت أهلي وأخذت محلبي فحلبت فيه ومضيت إليهما فوجدتهما نائمين فشقّ عليّ أنّ أوقظهما فوقفت حابساً محلبي على يديّ حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما اللهمّ إن كنت فعلت ذلك لوجهك الكريم فأفرج عنا ففرج
الله عنهم فخرجوا وقد رفع ذلك النعمان بن بشير وقد قدّمنا سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن الروح ﴾ [ الإسراء، ٨٥ ].
وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مشروحاً فقال : كان النضر بن الحرث من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث رستم واسفنديار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلساً ذكر فيه الله تعالى وحذر قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم، وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام وقال : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه فهلموا فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه ثم يحدّثهم عن ملوك فارس ثم قال : إنّ قريشاً بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفته فإنهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار اليهود عن أحوال محمد فقال لهم اليهود سلوه عن ثلاثة ؛ عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل فإن حديثهم عجيب. وعن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها. وسلوه عن الروح وما هي فإن أخبركم فهو نبيّ وإلا فهو متقول، فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد وأخبراهم بما قالته اليهود، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخبركم بما سألتم عنه غداً »، ولم يستثن فانصرفوا عنه فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لم ينزل عليه وحي وشق عليه ذلك ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله بسورة أهل الكهف وفيها معاتبة الله تعالى إياه على جراءته عليهم وفيها خبر أولئك الفتية وخبر الرجل الطوّاف ثم بدأ بالفتية فقال :﴿ إذ ﴾.
﴿ إذ ﴾، أي : واذكر إذ ﴿ أوى الفتية ﴾ وهم أصحاب الكهف المسؤول عنهم جميع فتى وهو الشاب الكامل والشباب أقبل إلى الحق وأهدى للسبيل من الشيوخ ﴿ إلى الكهف ﴾ خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار واختلفوا في سبب مصيرهم إلى الكهف، فقال محمد بن إسحاق بن يسار : مرج أهل الإنجيل وكثرت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكين بعبادة الله وتوحيده وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقيانوس عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه وكان ينزل قرى الروم فلا يترك في قرية نزلها أحد إلا فتنه عن دينه حتى يعبد الأصنام أو يقتله ثم نزل مدينة أهل الكهف وهي أفسوس فلما نزل بها كبر على أهل الإيمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه واتخذ شرطاً من الكفار وأمرهم أن يتبعوهم في أماكنهم ويخرجوهم إليه فيخيروهم بين القتل وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله تعالى فيقتل فلما رأى ذلك أهل الشدّة في الإيمان جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل فيقتلون ويقطعون ثم جعل ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها وعلى كل باب من أبوابها حتى عظمت الفتنة فلما رأى ذلك الفتية حزنوا حزناً شديداً فقاموا واشتغلوا بالصلاة والصيام والدعاء والتسبيح وكانوا من أشراف المدينة ومن أشراف الروم وكانوا ثمانية نفر بكوا وتضرّعوا إلى الله تعالى وجعلوا يقولون ربنا اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وارفع عنهم هذا البلاء حتى يعلنوا عبادتك فبينما هم على ذلك وقد دخلوا مصلى لهم أدركهم الشرط فوجدوهم سجوداً على وجوههم يبكون ويتضرعون إلى الله تعالى فقالوا لهم : ما خلفكم عن أمر الملك انطلقوا إليه ثم خرجوا فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس فقالوا : نجمع الناس للذبح لآلهتك وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يستهزؤون بك ويعصون أمرك فلما سمع ذلك بعث إليهم فأتى بهم تفيض أعينهم من الدمع معفرة وجوههم في التراب فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلوا أنفسكم بأسوة سراة أهل مدينتكم ؟ اختاروا إمّا إن تذبحوا لآلهتنا وإمّا أن أقتلكم فقال له كبيرهم : واسمه مكسلمينا إنّ لنا إلهاً ملء السماوات والأرض عظمته لن ندعو من دونه إلهاً أبداً له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصاً أبداً إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير، وأمّا الطواغيت فلن نعبدها أبداً، اصنع ما بدا لك وقال أصحابه مثل ما قال، فلما قالوا ذلك أمر الملك بنزع لباسهم، وحلية كانت عليهم من الذهب والفضة، وقال : سأفرغ لكم وأنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يمنعني أن أعجل لكم ذلك إلا أني أراكم شباباً حديثة أسنانكم فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلاً تذكرون فيه وترجعون إلى عقولكم ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده وانطلق إلى مدينة أخرى قريبة منهم لبعض أموره فلما رأى الفتية خروجه بادروا قدومه وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم فائتمروا بينهم أن يأخذ كل واحد منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدّقوا منها ويتزوّدوا بما بقي ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة فمكثوا فيه ويعبدوا الله تعالى حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما يشاء فلما قال ذلك بعضهم لبعض عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه فاخذ نفقة فتصدق منها وانطلقوا بما بقي معهم واتبعهم كلب كان لهم حتى إذا أتوا ذلك الكهف فلبثوا فيه.
وقال كعب الأحبار : مرّوا بكلب فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مراراً فقال لهم الكلب ما تريدون مني لا تخشوا جنايتي أنا أحب أحباب الله عز وجل فناموا حتى أحرسكم.
وقال ابن عباس : هربوا ليلاً من دقيانوس وكانوا سبعة، فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم وتبعه كلبه فخرجوا من البلد إلى الكهف وهو قريب من البلد قال ابن اسحق فلبثوا فيه ليس لهم عمل غير الصلاة و الصيام والتسبيح والتمجيد ابتغاء وجه الله تعالى وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له تمليخا فكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سراً وكان من أجملهم وأجلدهم وكان إذا دخل المدينة يضع ثياباً كانت عليه حساناً ويأخذ ثياباً كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها ثم يأخذ وَرِقه وينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاماً وشراباً ويتجسس لهم الخبر هل ذكروا أصحابه بشيء ثم يرجع إلى أصحابه فلبثوا في ذلك ما شاء الله أن يلبثوا ثم قدم دقيانوس المدينة وأمر عظماء أهلها أن يذبحوا للطواغيت ففزع من ذلك أهل الإيمان وكان تمليخا يشتري لأصحابه طعامهم فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل أخبرهم أنّ الجبار قد دخل المدينة وأنهم قد ذكروا والتمسوا من عظماء المدينة ففزعوا ووقعوا سجوداً يدعون ويتضرعون ويتعوذون من الفتنة ثم إن تمليخا قال لهم : يا إخوتاه ارفعوا رؤوسكم واطعموا وتوكلوا على ربكم، فرفعوا رؤوسهم وأعينهم تفيض من الدمع فطعموا ذلك مع غروب الشمس ثم جعلوا يتحدثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضاً فينما هم كذلك إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رؤوسهم فلما كان الغد تفقدهم دقيانوس فالتمسهم فلم يجدهم فقال لبعض عظمائه وعظماء المدينة لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا، لقد كانوا ظنوا أن بي غضباً عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري ما كنت لأجهل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتي.
فقال عظماء المدينة : ما أنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة، فقد كنت أجلت لهم أجلاً ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ولكنهم لم يتوبوا فلما قالوا ذلك غضب غضباً شديداً ثم أرسل إلى آبائهم فأتي بهم فسألهم وقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني فقالوا له : أمّا نحن فلم نعصك فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة ثم انطلقوا فارتقوا إلى جبل يدعى بنجلوس فلما قالوا ذلك خلا سبيلهم وجعل ما يدري ما يصنع بالفتية، فألقى الله تعالى في قلبه أن يسدّ باب الكهف عليهم وأراد الله تعالى أن يكرمهم بذلك ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم وأن يبين لهم ﴿ أنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور ﴾ [ الحج، ٧ ]، فأمر دقيانوس بالكهف أن يسدّ عليهم وقال : دعوهم كما هم في الكهف يموتون جوعاً وعطشاً ويكون كهفهم الذي اختاروه قبراً لهم وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال، ثم إنّ رجلين مؤمنين في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وخبرهم في لوحين من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ويجعلا التابوت في البنيان وقالا : لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من يفتح عليهم خبرهم حين يقرأ الكتاب ففعلا ذلك وبنيا عليه وبقي دقيانوس ما بقي ثم مات وقومه وقرون بعده كثيرة.
وقد حكى الله تعالى عنهم أنهم لما أووا إلى الكهف ﴿ فقالوا ﴾، أي : عقب استقرارهم فيه ﴿ ربنا آتنا من لدنك ﴾، أي : من عندك ﴿ رحمة ﴾ توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من عدوّك ﴿ وهيئ لنا من أمرنا ﴾، أي : من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار ﴿ رشداً ﴾ الرشد والرشد والرشاد نقيض الضلال وفي تفسير اللفظ وجهان : الأوّل : أنّ التقدير هيئ لنا أمراً ذا رشد، أي : حتى نصير بسببه راشدين مهتدين. الثاني : اجعل أمرنا رشداً كله كقولك رأيت منك رشداً. ولما أجابهم سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بقوله تعالى :﴿ فضربنا ﴾.
﴿ فضربنا ﴾، أي : عقب هذا القول وبسببه ﴿ على آذانهم ﴾ حجاباً يمنع السماع، أي : أنمناهم نومة لا تنبههم الأصوات الموقظة فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة. ثم بين تعالى أنه إنما ضرب على آذانهم ﴿ في الكهف ﴾، أي : المعهود وهو ظرف مكان وقوله تعالى :﴿ سنين ﴾ ظرف زمان وقوله تعالى :﴿ عدداً ﴾، أي : ذوات عدد يحتمل التكثير والتقليل فإنّ مدّة لبثهم كبعض يوم عنده كقوله تعالى :﴿ لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ﴾ [ الأحقاف، ٣٥ ].
وقال الزجاج : إذا قل الشيء فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى أن يعدّ وإذا كثر أحتاج إلى أن يعدّ ﴿ ثم بعثناهم ﴾، أي : أيقظناهم من ذلك النوم ﴿ لنعلم ﴾، أي : علم مشاهدة وقد سبق نظير هذه الآية في القرآن كثيراً منها ما سبق في سورة البقرة ﴿ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ﴾ [ البقرة، ١٤٣ ]. وفي آل عمران :﴿ يعلم الله الذين جاهدوا منكم ﴾ [ آل عمران، ١٤٢ ] وقد نبهنا على ذلك في محله ﴿ أيّ الحزبين ﴾، أي : الفريقين المختلفين في مدّة لبثهم ﴿ أحصى لما لبثوا أمداً ﴾ واختلفوا في الحزبين المختلفين فقال عطاء عن ابن عباس : المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك وأصحاب الكهف. وقال مجاهد : الحزبان من الفتية أصحاب الكهف لما تيقظوا اختلفوا في أنهم كم لبثوا ويدل له قوله تعالى :﴿ قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ﴾ [ الكهف، ١٩ ] فالحزبان هما هذان وكان الذين ﴿ قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ﴾ هم الذين علموا أنّ لبثهم قد تطاول. وقال الفرّاء : إنّ طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدّة لبثهم.
تنبيه : أحصى فعل ماض، أي : أيهم ضبط أمر أوقات لبثهم وأمّا من جعله أفعل تفضيل فقال في «الكشاف » : ليس بالوجه السديد وذلك أنّ بناءه من غير الثلاثي المجرّد ليس بقياس ونحو أعدى من الجرب وأفلس من ابن المذلق شاذ والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به.
ثم قال الله تعالى :﴿ نحن ﴾، أي : بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة ﴿ نقص عليك ﴾ يا أشرف الخلق ﴿ نبأهم ﴾، أي : خبرهم العظيم قصاً ملتبساً ﴿ بالحق ﴾، أي : الصدق ﴿ إنهم فتية ﴾، أي : شبان ﴿ آمنوا بربهم ﴾، أي : المحسن إليهم الذي تفرد بخلقهم ورزقهم، ثم وصفهم الله تعالى بقوله :﴿ وزنادهم ﴾ بعد أن آمنوا ﴿ هدى ﴾ بما قذفناه في قلوبهم من المعارف.
﴿ وربطنا على قلوبهم ﴾، أي : قويناها فصار ما فيها من القوى مجتمعاً غير مبدد فكانت حالهم في الجلوة حالهم في الخلوة. ﴿ إذ قاموا ﴾، أي : وقت قيامهم بين يدي الجبار دقيانوس من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام ﴿ فقالوا ربنا رب السماوات والأرض ﴾ وذلك لأنه كان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت فثبت الله تعالى هؤلاء الفتية حتى عصوا ذلك الجبار وأقروا بربوبية الله تعالى وصرحوا بالبراءة من الشرك والأنداد بقولهم :﴿ لن ندعو من دونه إلهاً ﴾ لأنّ ما سواه عاجز والله ﴿ لقد قلنا إذاً ﴾، أي : إذا دعونا من دونه غيره ﴿ شططاً ﴾، أي : قولاً ذا بعد عن الحق جداً. وقال مجاهد : كانوا أبناء عظماء مدينتهم فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد فقال رجل منهم هو أكبر القوم : إني لأجد في نفسي شيئاً ما أظن أنّ أحداً يجده قالوا : ما تجد ؟ قال : أجد في نفسي أنّ ربي رب السماوات والأرض. قالوا : نحن كذلك في أنفسنا فقاموا جميعاً فقالوا :﴿ ربنا رب السماوات والأرض ﴾. وقال عطاء : قالوا ذلك عند قيامهم من النوم. قال الرازي : وهو بعيد لأنّ الله تعالى استأنف قصتهم بقوله تعالى :﴿ نحن نقص عليك ﴾.
وقال عبيد بن عمير : كان أصحاب الكهف فتياناً مطوّقين مسورين ذوي ذوائب، وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها وقد قذف الله تعالى في قلوب الفتية الإيمان، وكان أحدهم وزير الملك فآمنوا وأخفى كل واحد إيمانه فقالوا في أنفسهم : نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم فخرج شابة منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه ثم خرج آخر فرآه جالساً وحده فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك ثم خرج آخر فخرجوا كلهم جميعاً فاجتمعوا فقال بعضهم لبعض : ما جمعكم وكل واحد يكتم صاحبه مخافة على نفسه ثم قالوا : ليخرج كل فتيين فيخلوا ثم يفشي كل واحد سرّه إلى صاحبه ففعلوا فإذا هم جميعاً على الإيمان، وإذا بكهف في الجبل قريب منهم فقال بعضهم لبعض :﴿ هؤلاء قومنا ﴾.
﴿ هؤلاء قومنا ﴾ وإن كانوا أسنّ منا وأقوى وأجل في الدنيا ﴿ اتخذوا من دونه آلهة ﴾ أشركوهم معه تعالى لشبهة واهية ﴿ لولا ﴾، أي : هلا ﴿ يأتون عليهم بسلطان ﴾، أي : دليل ﴿ بين ﴾، أي : ظاهر مثل ما نأتي نحن على تقرير معبودنا بالأدلة الظاهرة فتسبب عن عجزهم عن دليل أنهم أظلم الظالمين فلذلك قالوا :﴿ فمن أظلم ﴾، أي : لا أحد أظلم ﴿ ممن افترى ﴾، أي : تعمد ﴿ على الله ﴾، أي : الملك الأعظم ﴿ كذباً ﴾ بنسبة الشريك إليه تعالى.
ثم قال بعض الفتية لبعض :﴿ وإذ ﴾، أي : وحين ﴿ اعتزلتموهم ﴾، أي : قومكم ﴿ وما يعبدون ﴾، أي : واعتزلتم معبودهم وقولهم :﴿ إلا الله ﴾ يجوز أن يكون استثناء منه متصلاً على ما روي أنهم كانوا يقرّون بالخالق ويشركون معه كما كان أهل مكة، وأن يكون منقطعاً وقيل هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية بأنهم لم يعبدوا غير الله تعالى :﴿ فأووا إلى الكهف ﴾، أي : الغار الذي في الجبل ﴿ ينشر ﴾، أي : يبسط ﴿ لكم ﴾ ويوسع عليكم ﴿ ربكم ﴾، أي : المحسن إليكم ﴿ من رحمته ﴾ ما يكفيكم به المهم من أمركم في الدارين ﴿ ويهيئ لكم من أمركم ﴾، أي : الذي من شأنه أن يهمكم ﴿ مرفقاً ﴾، أي : ما ترتفقون به وتنتفعون وجزمهم بذلك لخلوص نيتهم وقوّة وثوقهم بفضل الله. وقرأ نافع وابن عامر بفتح الميم وكسر الفاء والباقون بكسر الميم وفتح الفاء. قال الفراء : وهما لغتان واشتقاقهما من الارتفاق، وكان الكسائي لا يذكر في مرفق الإنسان الذي في اليد إلا كسر الميم وفتح الفاء، والفراء يجيزه في الأمر وفي اليد وقيل هما لغتان إلا أنّ الفتح أقيس والكسر أكثر.
والخطاب في قوله تعالى :﴿ وترى الشمس ﴾ للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد وليس المراد أنّ من خوطب بهذا يرى هذا المعنى ولكن العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو ومعناه أنك لو رأيته على هذه الصورة ﴿ إذا طلعت تزاور ﴾، أي : تميل ﴿ عن كهفهم ذات اليمين ﴾، أي : ناحيته ﴿ وإذا غربت تقرضهم ﴾، أي : تعدل في سيرها عنهم ﴿ ذات الشمال ﴾، أي : فلا يقع شعاعها عليهم فيؤذيهم لأنّ الله تعالى زواها عنهم. وقيل إنّ باب ذلك الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف وإذا غربت كانت على شماله. وقرأ السوسي بإمالة ألف ترى المنقلبة بعد الراء في الأصل بخلاف عنه، والباقون بالفتح في الوصل وهم على أصولهم في الوقف وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين، والباقون بالفتح، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ﴿ وتزاور ﴾ بتشديد الزاي وتخفيف الراء مضمومة، وابن عامر بسكون الزاي ولا ألف بعدها وتشديد الواو على وزن تحمرّ، والباقون وهم عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الزاي والواو ولا خلاف في ضم الراء.
ولما بين أنه تعالى حفظهم من حرّ الشمس بيّن أنه أنعشهم بروح الهواء وألطفهم بسعة الموضع في فضاء الغار فقال تعالى :﴿ وهم في فجوة منه ﴾، أي : في وسط الكهف ومتسعه ينالهم برد الريح ونسيمها، ثم بيّن تعالى نتيجة هذا الأمر الغريب في النبأ العجيب بقوله تعالى :﴿ ذلك ﴾، أي : المذكور العظيم ﴿ من آيات الله ﴾، أي : دلائل قدرته ﴿ من يهد الله ﴾، أي : الذي له الملك كله يخلق هذه الهداية في قلبه كأصحاب الكهف ﴿ فهو المهتد ﴾ في، أي : زمان كان فلن تجد له مضلاً مغويا ففي ذلك إشارة إلى أنّ أهل الكهف جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم فلطف بهم وأعانهم وأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية والاختصاص بالآية العظيمة، وأنّ كل من سلك طريق المهتدين الراشدين فهو الذي أصاب الفلاح واهتدى إلى السعادة، وقرأ نافع وأبو عمرو بزيادة ياء بعد الدال في الوصل دون الوقف والباقون بحذفها وقفاً ووصلاً. ﴿ ومن يضلل ﴾، أي : يضله الله تعالى ولم يرشده كدقيانوس وأصحابه ﴿ فلن تجد له ولياً ﴾، أي : معيناً ﴿ مرشداً ﴾، أي : يرشده للحق.
ثم إنه تعالى عطف على ما مضى بقية أمرهم بقوله تعالى :﴿ وتحسبهم ﴾، أي : لو رأيتهم أيها المخاطب ﴿ أيقاظاً ﴾، أي : منتبهين لأنّ أعينهم مفتحة للهواء لأنه يكون أبقى لها، جمع يقظ بكسر القاف ﴿ وهم رقود ﴾، أي : نيام جمع راقد قال الزجاج : لكثرة تقلبهم يظنّ أنهم أيقاظ والدليل عليه قوله تعالى :﴿ ونقلبهم ﴾، أي : في ذلك حال نومهم تقلباً كثيراً بحسب ما ينفعهم كما يكون النائم ﴿ ذات ﴾، أي : في الجهة التي هي صاحبة ﴿ اليمين ﴾ منهم ﴿ وذات الشمال ﴾ لينال روح النسيم جميع أبدانهم ولا يتأثر ما يلي الأرض منها بطول المكث.
تنبيه : اختلف في مقدار مدّة التقليب، فعن أبي هريرة أنّ لهم في كل عام تقليبتين. وعن مجاهد يمكثون رقوداً على أيمانهم تسع سنين ثم ينقلبون على شمائلهم فيمكثون رقوداً تسع سنين وقيل لهم تقليبة واحدة يوم عاشوراء. قال الرازي : وهذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ولفظ القرآن لا يدل عليها وما جاء فيه خبر صحيح فكيف يعرف انتهى. ولهذا قلت بحسب ما ينفعهم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فائدة تقلبهم لئلا تأكل الأرض لحومهم ولا ثيابهم اه. قال الرازي : وهذا أعجب من ذلك لأنه تعالى لما قدر على أن يمسك حياتهم ثلاثمائة سنة وأكثر أفلا يقدر على حفظ أجسادهم من غير تقليب اه. وهذا ليس بعجيب لأنّ القدرة صالحة لذلك وأكثر بحسب العادة، وأمّا إمساك أرواحهم فهو خرق للعادة فلا يقاس عليه. ﴿ وكلبهم باسط ذراعيه ﴾، أي : يديه، أي : ملقيهما على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :" اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب ".
وقال المفسرون : كان الكلب قد بسط ذراعيه وجعل وجهه عليهما.
تنبيه : باسط اسم فاعل ماض وإنما عمل على حكاية الحال والكسائيّ يعمله ويستشهد بالآية الكريمة وأكثر المفسرين على أنّ الكلب من جنس الكلاب. وروي عن ابن جريج أنه كان أسداً ويسمى الأسد كلباً فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال :«اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فافترسه الأسد ». وقال ابن عباس : كان كلباً أغزّ واسمه قطمير وعن عليّ اسمه ريان واختلف في قوله تعالى :﴿ بالوصيد ﴾ فقال ابن عباس : هو باب الكهف وقيل العتبة. قال السدي : والكهف لا يكون له باب ولا عتبة، وإنما أراد موضع الباب والعتبة وقال الزجاج : الوصيد فناء البيت وفناء الدار، قال الشاعر :
بأرض فضاء لا يسدّ وصيدها عليّ ومعروفي بها غير منكر
وقال مجاهد والضحاك : الوصيد الكهف. ﴿ لو اطلعت عليهم ﴾ بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين، أي : وهم على تلك الحالة ﴿ لوليت منهم ﴾ حال وقوع بصرك عليهم ﴿ فراراً ﴾ لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة وجعل لهم من الجلالة تدبيراً منه لما أراد منهم حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله. ﴿ ولملئت منهم رعباً ﴾، أي : فزعاً، واختلف في ذلك الرعب كان لماذا ؟ فقال الكلبيّ : لأنّ أعينهم مفتتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام، وقيل من وحشة الكلام وقيل لكثرة شعورهم وطول أظفارهم وتقلبهم من غير حس كالمستيقظ وقيل : إنّ الله تعالى منعهم بالرعب حتى لا يراهم أحد.
وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : غزونا مع معاوية نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس قد منع ذلك من هو خير منك ﴿ لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ﴾، فبعث معاوية ناساً فقال : اذهبوا فانظروا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً فأخرجتهم. وقرأ نافع وابن كثير بتشديد اللام بعد الميم، والباقون بتخفيفها والسوسي بإبدال الهمزة ياء على أصله وقفاً ووصلاً وحمزة في الوقف فقط. وقرأ ابن عامر والكسائي رعباً بضم العين والباقون بسكونها.
﴿ وكذلك ﴾، أي : كما فعلنا بهم ما ذكرنا آية ﴿ بعثناهم ﴾، أي : أيقظناهم آية ﴿ ليتساءلوا بينهم ﴾، أي : ليسأل بعضهم بعضاً عن أحوالهم في نومهم ويقظتهم فيتعرّفوا حالهم وما صنع الله تعالى بهم فيزدادوا يقيناً على كمال قدرة الله تعالى وليستبصروا به أمر البعث ويشكروا ما أنعم الله به عليهم. ﴿ قال قائل منهم ﴾ مستفهماً من إخوانه :﴿ كم لبثتم ﴾ نائمين في ذا الكهف من ليلة أو يوم ؟ وهذا يدل على أنّ هذا القائل استشعر طول لبثهم مما رأى من هيئتهم أو بغير ذلك من الأمارات ﴿ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم ﴾ لأنهم دخلوا الكهف طلوع الشمس وبعثوا آخر النهار فلما رأوا الشمس باقية قالوا :﴿ أو بعض يوم ﴾ فلما نظروا إلى طول أظفارهم وشعورهم ﴿ قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ﴾ فأحالوا العلم على الله تعالى قال ابن عباس القائل ذلك هو رئيسهم تمليخا رد علم ذلك إلى الله تعالى، وعلم أن مثل هذا التغيير لا يحصل إلا في الأيام الطويلة، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند المثناة والباقون بالإدغام، ثم لما علموا أنّ الأمر ملتبس عليهم لا طريق لهم إلى علمه أخذوا فيما يهمهم وقالوا :﴿ فابعثوا أحدكم بورقكم هذه ﴾، أي : بفضتكم، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة بسكون الراء والباقون بكسرها والورق اسم للفضة سواء كانت مضروبة أم لا ويدل عليه ما روي أن غرفجة اتخذ أنفاً من ورق ويقال لها الرقة وفي الحديث «في الرقة ربع العشر ». ﴿ إلى المدينة ﴾، أي : التي خرجتم منها وهي مدينة طرسوس وهذه الآية تدل على أنّ السعي في إمساك الزاد أمر مهمّ مشروع وأنه لا يبطل التوكل على الله تعالى إذ حقيقة التوكل على الله تعالى تهيئة الأسباب واعتقاد أن لا مسبب للأسباب إلا الله تعالى، فحمل النفقة وما يصلح المسافر هو رأي المتوكلين على الله دون المتوكلين على الإنفاقات على ما في أوعية القوم من النفقات. ومنه قول عائشة رضي الله تعالى عنها لمن سألها عن محرم يشدّ عليه هميانه أوثق عليك نفقتك. وما حكي عن بعض صعاليك العلماء أنه كان شديد الحب إلى أن يرزق حج بيت الله الحرام وعلم منه ذلك فكانت مياسير أهل بلده كلما عزم قوم على حج أتوه أن يحجوا به وألحوا عليه فيعتذر إليهم ويحمد إليهم بذلهم فإذا انفضوا عنه قال لمن عنده ما لهذا السفر إلا شيئان شدّ الهميان والتوكل على الرحمن ﴿ فلينظر أيها أزكى طعاماً ﴾ قال ابن عباس : يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوساً وفيهم قوم يخفون إيمانهم وقال مجاهد : كان ملكهم ظالماً فقولهم :﴿ أيها أزكى طعاماً ﴾ أي : أيها أبعد عن الغصب وكل سبب حرام، وقيل : أيها أطيب وألذ وقيل أيها أرخص. قال الزجاج : قولهم :﴿ أيها ﴾ رفع بالابتداء و﴿ أزكى ﴾ خبره وطعاماً تمييز ولا بدّ هنا من حذف، أي : أيّ أهلها أزكى، أي : أحل، وقيل لا حذف والضمير عائد على الأطعمة المدلول عليها من السياق. ﴿ فليأتكم ﴾ ذلك الأحد ﴿ برزق منه ﴾ لنأكل ﴿ وليتلطف ﴾، أي : وليكن في ستر وكتمان في دخول المدينة وشراء الأطعمة حتى لا يعرف ﴿ ولا يشعرنّ ﴾، أي : ولا يخبرنّ ﴿ بكم أحداً ﴾ من أهل المدينة.
﴿ إنهم ﴾، أي : أهل المدينة ﴿ إن يظهروا ﴾، أي : يطلعوا عالين ﴿ عليكم يرجموكم ﴾، أي : يقتلوكم والرجم بمعنى القتل كثير في القرآن كقوله تعالى :﴿ ولولا رهطك لرجمناك ﴾ [ هود، ٩١ ] وقوله :﴿ لأرجمنك ﴾ [ مريم، ٤٦ ]
وقوله :﴿ أن ترجمون ﴾ [ الدخان، ٢٠ ] وقال الزجاج : ، أي : يقتلوكم بالرجم والرجم أخبث أنواع القتل. ﴿ أو يعيدوكم في ملتهم ﴾ إن لنتم لهم ﴿ ولن تفلحوا إذاً ﴾، أي : إن رجعتم إلى ملتهم ﴿ أبداً ﴾ بل تكونوا خاسرين. قال بعض العلماء : ولا خوف على المؤمن الفارّ بدينه أعظم من هذين الأمرين أحدهما ما فيه هلاك النفس وهو الرجم الذي هو أخبث أنواع القتل والآخر هلاك الدين. فإن قيل : أليس أنهم لو أكرهوا على الكفر حتى أظهروا الكفر لم يكن عليهم مضرة فكيف قالوا ﴿ ولن تفلحوا إذاً أبداً ﴾ أجيب : بأنهم خافوا أنهم لو بقوا على الكفر مظهرين له فقد يميل بهم ذلك إلى الكفر الحقيقي فكان خوفهم بسبب هذا الاحتمال. فإن قيل : ما النكتة في العدول عن واحدكم إلى أحدكم وكل ذلك دال على الوحدة ؟ أجيب : بأنّ النكتة فيه أنّ العرب إذا قالوا أحد القوم أرادوا به فرداً منهم وإذا قالوا واحد القوم أرادوا رئيسهم والمراد في القصة، أي : واحد كان والقرآن الكريم أنزل بلغتهم فراعى ما راعوا.
﴿ وكذلك ﴾، أي : ومثل ما فعلنا بهم ذلك الأمر العظيم من الربط على قلوبهم والستر والحماية من الطالبين لهم والحفظ لأجسادهم على ممرّ الزمان وتعاقب الحدثان وغير ذلك ﴿ أعثرنا ﴾، أي : أطلعنا غيرهم ﴿ عليهم ﴾ يقال عثرت على كذا علمته وأصله أنّ من كان غافلاً عن شيء فعثر به نظر إليه فعرفه فكان العثر سبباً لحصول العلم فأطلق السبب على السبب بقوله تعالى :﴿ ليعلموا ﴾ متعلق بأعثرنا والضمير قيل يعود على مفعول أعثرنا المحذوف تقديره أعثرنا الناس وقيل يعود إلى أهل الكهف وهذا هو الظاهر ﴿ أنّ وعد الله ﴾ الذي له صفات الكمال بالبعث للروح والجثة معاً ﴿ حق ﴾ لأنّ قيامهم بعد نومهم يتقلبون نيفاً وثلاثمائة سنة مثل من مات ثم بعث.
قال بعض العارفين : علامة اليقظة بعد النوم علامة البعث بعد الموت. ولما كان من الحق ما قد يداخله شك قال تعالى :﴿ وأنّ ﴾، أي : وليعلموا أنّ ﴿ الساعة ﴾، أي : آتية ﴿ لا ريب ﴾، أي : لا شك ﴿ فيها ﴾.
تنبيه : اختلف في السبب الذي عرف الناس واقعة أصحاب الكهف، فقال محمد بن إسحاق : إنّ ملك تلك البلاد رجل صالح يقال له تندوسيس، فلما ملك بقي في ملكه ثمانية وستين سنة فتحزب الناس في مملكته فكانوا أحزاباً ؛ منهم من يؤمن بالله ويعلم أنّ الساعة حق، ومنهم من يكذب بها فكبر ذلك على الملك الصالح فبكى وتضرّع إلى الله تعالى وحزن حزناً شديداً لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون : لا حياة إلا الدنيا وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، وجعل الملك يرسل إلى من يظن فيهم خيراً وأنهم أئمة في الخلق فلم يقبلوا منه، وجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يخرجون الناس عن الحق وملة الحواريين، فلما رأى ذلك الملك دخل بيته وأغلق بابه عليه ولبس مسحاً وجعل تحته رماداً، فجلس عليه ودأب ليله ونهاره زماناً يتضرّع إلى الله تعالى ويبكي، أي : رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم.
ثم إنّ الله تعالى الذي يكره هلكة عباده أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية وحجة عليهم ليعلموا أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، ويستجيب لعبده تندوسيس ويتم نعمته عليه، وأن يجمع من كان تبدّد من المؤمنين وألقى الله في نفس رجل من تلك البلد الذي فيه الكهف أن يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف، فيبني به حظيرة لغنمه فاستأجر غلامين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان تلك الحظيرة حتى إذا نزعا ما على فم الكهف وفتحا باب الكهف أذن الله تعالى ذو القدرة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهري الكهف فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون لها إذا أصبحوا من ليلتهم ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون لا يرى في وجوههم ولا في ألوانهم شيء يكرهونه كهيئتم حين رقدوا وهم يرون أنّ ملكهم دقيانوس في طلبهم فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم ائتنا بما قال الناس في شأننا عشية أمس عند الجبار وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون وقد تخيل لهم أنهم قد ناموا أطول ما كانوا ينامون حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض كم لبثتم نياماً ؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم.
قالوا ربكم أعلم بما لبثتم، وكل ذلك في أنفسهم يسير فقال لهم تمليخا : ألتمستم بالمدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحون للطواغيت أو يقتلكم فما شاء الله بعد ذلك فعل فقال لهم مكلمينا : يا إخواتاه اعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدوّ الله ثم قالوا لتمليخا انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال لنا بها وما الذي يذكر عند دقيانوس وتلطف ولا تشعرنّ بك أحداً وابتع لنا طعاماً وائتنا به وزدنا على الطعام الذي جئتنا به فقد أصبحنا جياعاً ففعل تمليخا كما كان يفعل ووضع ثيابه وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها وأخذ ورقاً من نفقتهم التي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس وكانت كخفاف الربع فانطلق تمليخا خارجاً فلما مر بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ثم مرّ ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفياً يصدّ عن الطريق متخوّفاً أن يراه أحد من أهلها فيعرفه ولا يشعر أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة فلما أتى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان إذا كان أمر الإيمان ظاهراً فلما رأى عجب وجعل ينظر إليها مستخفياً وينظر يميناً وشمالاً ثم ترك الباب وتحوّل لباب آخر من أبوابها فرأى مثل ذلك، فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرفها ورأى ناساً كثيراً محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك فجعل يمشي ويتعجب ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه فجعل يتعجب بينه وبين نفسه، ويقول : يا ليت شعري ما هذا أمّا عشية أمس فكان المسلمون يخبؤون هذه العلامة ويستخفون بها، وأما اليوم فإنها ظاهرة لعلي حالم ثم يرى أنه ليس بنائم فأخذ بكسائه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة، فجعل يمشي بين ظهري سوقها فيسمع ناساً يحلفون باسم عيسى بن مريم فزاده فرقاً ورأى أنه حيران فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدران المدينة ويقول في نفسه : والله ما أدري ما هذا عشية أمس فليس على وجه الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلا قتل، وأمّا اليوم فأسمع كل إنسان يذكر عيسى ولا يخاف ثم قال في نفسه : لعل هذه ليست المدينة التي أعرف، ووالله ما أعلم مدينة بقرب مدينتنا فقام كالحيران ثم لقي فتى فقال له : ما اسم هذه المدينة يا فتى ؟ فقال : اسمها أفسوس. فقال في نفسه : لعل بي مساً أو أمراً أذهب عقلي والله يحق لي أن أسرع الخروج منها قبل أن أخزى فيها أو يصيبني شرّ فأهلك ثم أنه أفاق فقال : والله لو عجلت الخروج من هذه المدينة قبل أن يفطن بي لكان أكيس فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلاً منهم فقال : بعني بهذا الورق طعاماً فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها فعجب منها ثم طرحها إلى رجل من أصحابه فنظر إليها ثم إلى آخر، ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل ويتعجبون منها، ثم جعلوا يتشاورون بينهم ويقول بعضهم لبعض :
إنّ هذا أصاب كنزاً مخبأ في الأرض منذ زمان ودهر طويل فلما رآهم تمليخا يتشاورون من أجله فرق فرقاً شديداً، وجعل يرتعد ويظنّ أنهم فطنوا به وعرفوه وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرّفونه فقال لهم : وهو شديد الفرق أفضلوا عليّ قد أخذتم ورقي فأمسكوها، وأمّا طعامكم فليس لي حاجة به.
فقالوا : من أنت يا فتى ؟ وما شأنك ؟ والله لقد وجدت كنزاً من كنوز الأوّلين وأنت تريد أن تخفيه انطلق معنا وأرنا وشاركنا فيه نخف عليك ما وجدت وإنك إن لم تفعل نأت بك السلطان فنسلمك إليه فيقتلك، فلما سمع قولهم قال : ما وجدت شيئاً وقال قد وقعت في كل شيء أحذر منه قالوا : يا فتى إنك والله لا تستطيع أن تكتم ما وجدت فجعل تمليخا لا يدري ما يقول لهم وخاف حتى إنه لم يردّ إليهم جواباً، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه وطرحوه في عنقه وجعلوا يقودونه في سكك المدينة حتى سمع من فيها فقيل أخذ رجل عنده كنز واجتمع عليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم فجعلوا ينظرون إليه ويقولون : والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة وما رأيناه قط، وما نعرفه فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم، فلما اجتمع عليه أهل المدينة وكان متيقناً أنّ أباه وإخوته في المدينة وأنه من عظماء أهلها وأنهم سيأتونه إذا سمعوا به، فبينما هو قائم كالحيران ينظر متى يأتيه بعض أهله فيخلصه من بين أيديهم إذ اختطفوه وانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أريوس واسم الآخر أسطيوس، فلما انطلقوا به إليهما ظنّ تمليخا أنه ينطلق به إلى دقيانوس الجبار فجعل يلتفت يميناً وشمالاً وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون وجعل تمليخا يبكي ويرفع رأسه إلى السماء.
وقال : اللهمّ إله السماء وإله الأرض أفرغ اليوم عليّ صبراً وأولج معي روحاً منك تؤيدني بها عند هذا الجبار وجعل يقول في نفسه : فرّق ما بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ويا ليتهم يأتوني فنقوم جميعاً بين يدي هذا الجبار فإنا كنا توافقنا على الإيمان بالله سبحانه وتعالى وأنّ لا نشرك به شيئاً ولا نفترق في حياة ولا موت، فلما انتهى به إلى الرجلين الصالحين ورأى أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء فأخذ أريوس وأسطيوس الورق فنظرا إليها وعجبا منها ثم قال أحدهما : أين الكنز الذي وجدت يا فتى ؟ فقال تمليخا : ما وجدت كنزاً ولكن هذا ورق أبائي ونقش المدينة وضربها ولكن والله ما أدري ما شأني وما أقول لكم فقال أحدهما : ممن أنت ؟ فقال تمليخا : أمّا أنا فكنت أرى أني من أهل هذه المدينة قالوا : فمن أبوك ؟ ومن يعرفك بها ؟ فأنبأهم باسم أبيه فلم يجدوا أحداً يعرفه ولا أباه فقال له : أحدهما أنت رجل كذاب لا تأتينا بالحق فلم يدر تمليخا ما يقول لهم غير أنه نكس بصره إلى الأرض، فقال بعض من حوله : هذا رجل مجنون. وقال بعضهم : ليس بمجنون ولكنه يحمق نفسه عمداً حتى ينفلت منكم.
فقال له أحدهما ونظر إليه نظراً شديداً : أتظنّ انا نرسلك ونصدّقك بأن هذا مال أبيك ونقش هذه الورق وضربها أكثر من ثلاثمائة سنة، وأنت غلام شاب وتظنّ أنك تأفكنا وتسخر بنا ونحن شيوخ وشمط كما ترى وحولك سراة هذه المدنية وولاة أمرها وخزائن هذه البلدة بأيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار وإني لأظنني سآمر بك فتعذب عذاباً شديداً ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدته، فلما قال ذلك قال لهم تمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه فإن فعلتم صدّقتكم عما عندي فقالوا : سل لا نكتمك شيئاً.
قال : ما فعل الملك دقيانوس ؟ قالوا : ليس نعرف اليوم على وجه الأرض ملكاً يسمى دقيانوس ولم يكن إلا ملكاً هلك منذ زمان ودهر طويل، وهلكت بعده قرون كثيرة. فقال تمليخا : إني إذا لحيران وما هو بمصدّقي أحد من الناس بما أقول لقد كنا فتية وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا فلما انتبهنا خرجت لأشتري طعاماً وأتجسس الأخبار فإذا أنا كما ترون فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس أريكم أصحابي فلما سمع أريوس ما يقول تمليخا قال : يا قوم لعلّ هذه آية من آيات الله تعالى جعلها الله تعالى لكم على يد هذا الغلام فانطلقوا بنا معه ليرينا أصحابه فانطلق معه أريوس وأسطيوس ومعهما جميع أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصخاب الكهف لينظروا إليهم فلما رأى الفتية أصحاب الكهف تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي فيه فظنوا أنه قد أخذ وذهب به إلى ملكهم دقيانوس فبينما هم يظنون ذلك ويتحققونه إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة عندهم فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث إليهم ليأتوا بهم فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض وأوصى بعضهم بعضاً.
وقالوا : انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا فإنه الآن بين يدي الجبار وهو ينتظرنا حتى نأتيه فبينما هم يقولون ذلك وهم جلوس على هذه الحالة إذا هم بأريوس وأصحابه وقوف عل
ولما ذكر أصحاب الكهف عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وقع الاختلاف في عددهم كما قال تعالى :﴿ سيقولون ﴾ أي : الخائضون في قصتهم من أهل الكتاب والمؤمنين فقال بعض أهل الكتاب :﴿ ثلاثة رابعهم كلبهم ﴾، أي : هم ثلاثة رجال ورابعهم كلبهم بانضمامه إليهم ﴿ ويقولون ﴾، أي : بعضهم ﴿ خمسة سادسهم كلبهم ﴾ فهذان القولان لنصارى نجران وقيل الأوّل قول اليهود والثاني قول النصارى. فإن قيل : لم جاءت سين الاستقبال في الأوّل دون الأخيرين ؟ أجيب : بانّ في ذلك وجهين أن تدخل الأخيرين في حكم السين كما تقول قد أكرم وأنعم تريد معنى التوقع في الفعلين وأن تريد بيفعل معنى الاستقبال الذي هو صالح له.
ولما كان قولهم ذلك بغير علم كان ﴿ رجماً بالغيب ﴾، أي : ظناً في الغيبة عنهم فهو راجع إلى القولين معاً ونصب على المفعول له، أي : لظنهم ذلك ﴿ ويقولون ﴾، أي : المؤمنون ﴿ سبعة وثامنهم كلبهم ﴾ قال أكثر المفسرين : هذا الأخير هو الحق ويدل عليه وجوه الأوّل أنه تعالى لما حكى قوله ﴿ ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ﴾ قال بعده :﴿ قل ربي أعلم بعدّتهم ما يعلمهم إلا قليل ﴾ وأتبع القولين الأوّلين بقوله تعالى :﴿ رجماً بالغيب ﴾ وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أنّ الحال في الباقي بخلافه أن يكون المخصوص بالظنّ الباطل هو القولان الأوّلان، وأن يكون القول الثالث مخالفاً لهما في كونه رجماً بالغيب.
الوجه الثاني : أنّ الواو في قوله تعالى :﴿ وثامنهم ﴾ هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً من المعرفة في نحو قولك جاءني رجل ومعه آخر توكيد للصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أنّ اتصافه بها أمر ثابت مستقرّ فكانت هذه الواو دالة على أنّ الذين كانوا في الكهف كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، وقول محمد بن إسحاق : إنهم كانوا ثمانية مردود فكأنّ الله تعالى حكى اختلافهم وتم الكلام عند قوله :﴿ ويقولون سبعة ﴾ ثم حقق هذا القول بقوله تعالى :﴿ وثامنهم كلبهم ﴾ والثامن لا يكون إلا بعد السبع وهذه الواو يسمونها واو الثمانية لأنّ العرب تعد فتقول واحد اثنين ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية لأنّ العقد كان عندهم سبعة كما هو اليوم عندنا عشرة ونظير هذه الآية في ثلاث آيات وهو قوله تعالى :﴿ والناهون عن المنكر ﴾ [ التوبة، ١١٢ ] وقوله تعالى :﴿ حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها ﴾ [ الزمر، ٧١ ] لأنّ أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة. وقوله تعالى :﴿ ثيّبات وأبكاراً ﴾ [ التحريم، ٥ ]. قال القفال : وقولهم : واو الثمانية ليس بشيء بدليل قوله تعالى :﴿ هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ﴾ [ الحشر، ٢٣ ] ولم يذكروا الواو في النعت الثامن اه. وقد يجاب بأنّ ذلك جرى على الغالب.
الوجه الثالث : أنه تعالى قال :﴿ ما يعلمهم إلا قليل ﴾ وهذا يقتضي أنه حصل العلم بعدّتهم لذلك القليل. وكان ابن عباس يقول : أنا من أولئك العدد القليل وكان يقول : إنهم سبعة وثامنهم كلبهم. وكان عليّ رضي الله تعالى عنه يقول : كانوا سبعة. وقال الرازي : وأسماؤهم تمليخا مكسلمينا مشلينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك وعن يساره مرنوش ودبرنوش وشاذنوش وكان الملك يستشير هؤلاء الستة ليتصرّفوا في مهماته، والسابع كشفططيوش وهو الراعي الذي وافقهم لما هربوا من ملكهم. وروي عن ابن عباس أنه قال : هم مكشلمينا وتمليخا ومرطونس ويدنونس ودونواقس وكقشططونس وهو الراعي واسم كلبهم قطمير واسم مدينتهم أفسوس.
تنبيه : في الآية حذف والتقدير سيقولون هم ثلاثة كما تقدّم تقديره فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه وقيل : الأقوال الثلاثة لأهل الكتاب والقليل منهم، أي : ولا علم بذلك إلا في قليل منهم وأكثرهم على الظنّ.
ثم إنه تعالى لما ذكر هذه القصة أتبعها بأن نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن شيئين عن المراء وعن الاستفتاء أمّا النهي عن المراء فبقوله تعالى :﴿ فلا تمار ﴾، أي : تجادل ﴿ فيهم ﴾، أي : في شأن الفتية ﴿ إلا مراء ﴾، أي : جدالاً ﴿ ظاهراً ﴾، أي : غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما في القرآن من غير أن تكذبهم في تعيين ذلك العدد ونظيره قوله تعالى :﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ﴾ [ العنكبوت، ٤٦ ]، وأمّا النهي عن الاستفتاء فقوله تعالى :﴿ ولا تستفت فيهم ﴾، أي : ولا تسأل ﴿ منهم ﴾، أي : من أهل الكتاب اليهود ﴿ أحداً ﴾ عن قصتهم سؤال مسترشد لأنه لما ثبت أنه ليس عندهم علم في هذا الباب وجب المنع من استفتائهم وفيما أوحى إليك مندوحة عن غيره ولا سؤال متعنت تريد تفضيح المسؤول عنه وتزييف ما عنده فإنه يخل بمكارم الأخلاق.
ولما سأل أهل مكة عن خبر أهل الكهف فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبركم به غداً ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوماً وفي رواية أخرى أربعين يوماً نزل :﴿ ولا تقولنّ لشيء ﴾، أي : لأجل شيء تعزم عليه ﴿ إني فاعل ذلك ﴾ الشيء ﴿ غداً ﴾، أي : فيما يستقبل من الزمان ولم يرد الغد خاصة.
﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ الله إلا متلبساً بمشيئته بأن تقول : إن شاء الله والسبب في ذلك أنّ الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غداً لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد ولم يبعد أيضاً إن بقي حياً أن يعيقه عن ذلك الفعل سائر العوائق فإذا لم يقل إن شاء الله صار كاذباً في ذلك الوعد والكذب منفر لا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلهذا السبب وجب عليه أن يقول : إن شاء الله حتى إذا تعذر عليه الوفاء بذلك الوعد لم يصر كاذباً ولم يحصل التنفير.
تنبيه : قال كثير من الفقهاء : إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم يقع عليه الطلاق لأنه لما علق وقوع الطلاق على مشيئته تعالى لم يقع عليه الطلاق إلا إذا علمنا حصول المشيئة ومشيئة الله تعالى غيب لا سبيل لنا إلى العلم بحصولها إلا إذا علمنا أن متعلق المشيئة وقع وهو الطلاق، وعلى هذا لا يعرف حصول المشيئة إلا إذا وقع الطلاق ولا يعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفت المشيئة فيتوقف العلم بكل واحد منهما على العلم بالآخر وهو دور فلهذا لا يقع الطلاق وقيل المراد إلا أن يشاء الله، أي : إلا أن يأذن لك الله تعالى في ذلك القول والمعنى أنه ليس لك أن تخبر عن نفسك بأنك تفعل الفعل الفلاني إلا أن يأذن لك الله تعالى في ذلك الإخبار، وقد احتج القائلون بأنّ المعدوم شيء بهذه الآية لأنّ الشيء الذي سيفعله غداً معدوم في الحال فوجب تسمية المعدوم بأنه شيء. وأجيب : بأنّ هذا الاستدلال لا يفيد إلا أنّ المعدوم يسمى بكونه شيئاً وعندنا أنّ السبب فيما سيصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال كما قال تعالى :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه ﴾ [ النحل، ١ ] والمراد سيأتي أمر الله.
واختلف في معنى قوله تعالى :﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ فقال ابن عباس ومجاهد والحسن : معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن وعند هذا اختلفوا فقال ابن عباس : لو لم يحصل التذكر إلا بعد مدّة طويلة ثم ذكر إن شاء الله كفى في رفع الحنث. وعن سعيد بن جبير بعد سنة أو شهر أو أسبوع أو يوم، وعن طاوس لا يقدر على الاستثناء إلا في مجلسه. وعن عطاء يستثنى على مقدار حلب ناقة غزيرة وعند عامّة الفقهاء أنه لا أثر له في الكلام ما لم يكن موصولاً واحتج ابن عباس بأنّ قوله :﴿ إذا نسيت ﴾ غير مختص بوقت غير معين بل هو متناول لكل الأوقات وظاهره أنّ الاستثناء لا يجب أن يكون متصلاً أمّا عامّة الفقهاء فقالوا : لو جوّزنا ذلك للزم أن لا يستقرّ شيء من العقود والإيمان يحكى أنّ المنصور بلغه أنّ أبا حنيفة خالف ابن عباس في الاستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال له الإمام أبو حنيفة : هذا يرجع عليك لأنك تأخذ البيعة بالإيمان أترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن المنصور كلامه ورضي الله عنه واستدلّ بأنّ الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعقد والعهد. قال تعالى :﴿ أوفوا بالعقود ﴾ [ المائدة، ١ ] وقال تعالى :﴿ وأوفوا بالعهد ﴾ [ الإسراء، ٣٤ ] فإذا أتى بالعقد أو العهد وجب عليه الوفاء بمقتضاه لأجل هذه الآيات خالفنا الدليل فيما إذا كان الاستثناء متصلاً لأنّ الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد بدليل أنّ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً فهو جار مجرى بعض الكلمة الواحدة فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة، فإذا لم يكن متصلاً أفاد الالتزام التامّ فوجب الوفاء بذلك الملتزم، وقيل أنّ قوله تعالى :﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله. قال عكرمة : واذكر ربك إذا غضبت وقال وهب : مكتوب في الإنجيل ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب. وقال الضحاك والسدي هذا في الصلاة المنسية. قال الرازيّ : وتعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القصة وجعله مستأنفاً يصير الكلام مبتدأ منقطعاً وذلك لا يجوز.
وفي قوله تعالى :﴿ وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً ﴾ وجوه الأوّل : أن يكون قوله تعالى :﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ ليس يحسن تركه وذكره أولى من تركه وهو قوله :﴿ لأقرب من هذا رشداً ﴾ والمراد منه ذكر هذه الجملة. الثاني : أنه لما وعدهم بشيء وقال معه إن شاء الله فيقول وعسى أن يهدين ربي لشيء أحسن وأكمل مما وعدتكم به. الثالث : أنّ قوله :﴿ عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً ﴾ إشارة إلى قصة أصحاب الكهف، أي : لعلّ الله يوفقني من البينات والدلائل على صحة نبوّتي وصدقي في ادعاء النبوّة ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشداً من قصة أصحاب الكهف، وقد فعل الله تعالى ذلك حين آتاه من قصص الأنبياء والأخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك.
ثم شرع تعالى في آية هي آخر الآيات المذكورة في قصة أصحاب الكهف بقوله تعالى :﴿ ولبثوا في كهفهم ﴾، أي : نياماً ﴿ ثلاثمائة ﴾، أي : مدّة ثلاثمائة ﴿ سنين ﴾ قال بعضهم : وهذه السنون الثلاثمائة عند أهل الكتاب شمسية وتزيد القمرية عليها تسع سنين وقد ذكرت في قوله :﴿ وازدادوا تسعاً ﴾، أي : تسع سنين لأنّ التفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مائة سنة ثلاث سنين لأنّ السنة الشمسية تزيد على السنة القمرية عشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة وخمس ساعة فالثلاثمائة سنة الشمسية ثلاثمائة وتسع قمرية قال الرازي : وهذا مشكل لأنه لا يصح بالحساب هذا القول ويمكن أن يقال لعلهم لما استكملوا ثلاثمائة سنة قرب أمرهم من الانتباه ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين وقرأ حمزة والكسائي بغير تنوين في الوصل والباقون بالتنوين فسنين عطف بيان لثلاثمائة لأنه لما قال :﴿ ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة ﴾ لم يعرف أنها أيام أو شهور أو سنون، فلما قال :﴿ سنين ﴾ صار هذا بياناً لقوله :﴿ ثلاثمائة ﴾ فكان ذلك عطف بيان له وقيل هو على التقديم والتأخير، أي : لبثوا سنين ثلاثمائة. وأمّا وجه القراءة الأولى فهو أنّ الواجب في الإضافة أن يقال ثلاثمائة سنة إلا أنه يجوز وضع الجمع موضع الواحد في التمييز، كقوله تعالى :﴿ بالأخسرين أعمالاً ﴾ [ الكهف، ١٠٣ ] وحذف مميز تسع لدلالة ما تقدّم عليه إذ لا يقال عندي ثلاثمائة درهم وتسعة إلا و أنت تعني تسعة دراهم، ولو أردت ثياباً أو نحوها لم يجز لأنه ألغاز.
ثم إنّ الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم إذا نازعوه في مدّة لبثهم في الكهف بقوله تعالى :﴿ قل الله أعلم بما لبثوا ﴾، أي : فهو أعلم منكم وقد أخبر بمدّة لبثهم، وقيل إنّ أهل الكتاب قالوا إنّ المدّة من حين دخلوا الكهف إلى يومنا هذا وهو اجتماعهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسع سنين، فرد الله تعالى عليهم ذلك وقال :﴿ الله أعلم بما لبثوا ﴾ يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلمه إلا الله ﴿ له غيب السماوات والأرض ﴾، أي : ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما فالغيب ما يغيب عن إدراكك والله عز ذكره لا يغيب عن إدراكه شيء فيكون عالماً بهذه الواقعة لا محالة وقوله تعالى :﴿ أبصر به وأسمع ﴾ كلمة تذكر في التعجب، أي : ما أبصر الله تعالى بكل موجود وما أسمعه بكل بمسموع ﴿ ما لهم ﴾، أي : أهل السماوات والأرض ﴿ من دونه ﴾، أي : الله ﴿ من وليّ ﴾، أي : ناصر ﴿ ولا يشرك في حكمه ﴾، أي : في قضائه ﴿ أحداً ﴾ منهم ولا يجعل له فيه مدخلاً لأنه غني بذاته عن كل أحد، وقيل الحكم هنا علم الغيب، أي : لا يشرك في علم غيبه أحداً. وقرأ ابن عامر بالمثناة فوق قبل الشين وبسكون الكاف على نهي كل أحد عن الإشراك، والباقون بالتحتية وضمّ الكاف.
تنبيه : احتج أصحابنا رحمهم الله تعالى بهذه القصة على صحة القول بالكرامة للأولياء وقد قدمنا معرفة الوليّ في سورة يونس عند قوله تعالى :﴿ إلا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ [ يونس، ٦٢ ] فمما يدل على جواز كرامات الأولياء القرآن والأخبار والآثار والمعقول، أمّا القرآن فالمعتمد فيه عندنا آيات الحجة الأولى قصة مريم عليها السلام وقد شرحناها في سورة آل عمران فلا نعيدها. الحجة الثانية : قصة أصحاب الكهف وبقاؤهم في النوم سالمين من الآفات مدّة ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وأنّ الله تعالى كان يعصمهم من حرّ الشمس، ومن الناس من تمسك أيضاً في هذه المسألة بقوله تعالى :﴿ قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك ﴾ [ النمل، ٤٠ ] على أنه غير السيد سليمان والسيد جبريل.
وأما الأخبار فكثيرة منها ما أخرج في الصحيح عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ؛ عيسى بن مريم وصبيّ في زمن جريج وصبيّ آخر ؛ وأمّا عيسى فقد عرفتموه، وأمّا جريج فكان رجلاً عابداً في بني إسرائيل وكانت له أمّ فكان يوماً يصلي إذ اشتاقت إليه أمّه فقالت : يا جريج فقال : يا رب أمّي وصلاتي الصلاة خير أم رؤيتها ثم يصلي فدعته ثانياً فقال : مثل ذلك حتى تم ثلاث مرّات وكان يصلي ويدعها فاشتدّ ذلك على أمّه فقالت : اللهمّ لا تمته حتى تريه المومسات. وكانت زانية في بني إسرائيل فقالت لهم : أنا أفتن جريجاً حتى يزني بي فأتته فلم تقدر على شيء، وكان هناك راع يأوي بالليل إلى صومعته فلما أعياها جريج راودّت الراعي على نفسها فأتاها فولدت ثم قالت : ولدي هذا من جريج، فأتاه بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه ثم نخس الغلام قال أبو هريرة : كأني أنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قال بيده : يا غلام من أبوك ؟ فقال : الراعي. فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب أو فضة فأبى عليهم وبناها كما كانت. وأمّا الصبيّ الآخر فإنّ امرأة كان معها صبيّ لها ترضعه إذ مرّ بها شاب جميل ذو شارة فقالت : اللهمّ اجعل ابني مثل هذا. فقال الصبيّ : اللهمّ لا تجعلني مثله، ثم مرّ بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت فقالت : اللهمّ لا تجعل ابني مثل هذه. فقال الصبيّ : اللهمّ اجعلني مثلها. فقالت له أمّه في ذلك، فقال : إنّ الراكب جبار من الجبابرة فكرهت أن أكون مثله وإنّ هذه قيل لها زنيت ولم تزن وقيل له سرقت ولم تسرق وهي تقول : حسبي الله فأحببت أن أكون مثلها ".
ومنها خبر الغار وهو مشهور في الصحيح عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدّت عليهم باب الغار » وقد ذكرت ذلك عند قوله تعالى :﴿ كانوا من آياتنا عجباً ﴾ [ الكهف، ٩ ]. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم :«ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره ». ولم يفرق من شيء وشيء فيما يقسم به على الله تعالى. ومنها ما روي عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«بينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها التفتت البقرة، وقالت : إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال الناس : سبحان الله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنت بهذا وأبو بكر وعمر ». ومنها ما روي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«بينا رجل سمع رعداً أو صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان قال : فغدوت إلى تلك الحديقة فإذا رجل قائم فيها فقلت له : ما اسمك ؟ قال : فلان ابن فلان قلت : فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها ؟ قال : ولم تسأل عن ذلك. قلت : لأني سمعت صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان قال : أمّا إذ قلت فإني أجعلها أثلاثاً فأجعل لنفسي ولأهلي ثلثاً وأجعل للمساكين وأبناء السبيل ثلثاً وأنفق عليها ثلثاً ».
وأمّا الآثار فكثيرة أيضاً ولنبدأ منها ببعض ما نقل أنه ظهر على يد الخلفاء الراشدين من الكرامات ثم ببعض ما ظهر على يد بعض الصحابة. أمّا أبو بكر رضي الله تعالى عنه فمن كراماته أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ونودي السلام عليك يا رسول الله، هذا أبو بكر بالباب فإذا بالباب قد فتح وإذا بهاتف يهتف من القبر أدخلوا الحبيب إلى الحبيب، وأمّا عمر رضي الله تعالى عنه فقد ظهرت أنواع كثيرة من كراماته النوع الأوّل ما روي أنه لما بعث جيشاً وأمرّ عليهم رجلاً يدعى سارية بن الحصين فبينما عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته وهو على المنبر يا سارية الجبل الجبل. قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كتبت تاريخ هذه الكلمة فلما قدم رسول ذلك الجيش فقال : يا أمير المؤمنين غدونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فهزمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل فأسندنا ظهرنا إلى الجبل فهزم الله تعالى الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة ببركة ذلك الصوت. قال الرازي : قلت سمعت بعض المذكرين قال : كان ذلك معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه قال لأبي بكر وعمر :«أنتما بمنزلة السمع والبصر »، فلما كان عمر بمنزلة البصر لمحمد صلى الله عليه وسلم لا جرم قدر على أن يرى من ذلك البعد العظيم.
النوع الثاني : ما روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة فكان لا يجري حتى تلقى فيه جارية حسناء فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص إلى عمر فكتب عمر على خرقة أيها النيل إن كنت تجري بأمر الله فاجر وإن كنت إنما تجري بأمرك لا حاجة بنا إليك فألقيت تلك الخرقة في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك.
النوع الثالث : لما وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر بالدرّة على الأرض وقال : اسكني بأذن الله فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك الوقت.
النوع الرابع : وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خرقة يا نار اسكني بأذن الله فألقوها في النار فانطفأت في الحال.
النوع الخامس : ما روي أنّ رسول ملك الروم جاء إلى عمر وطلب داره فظنّ أن داره مثل قصور الملوك فقالوا ليس له ذلك وإنما هو في الصحراء يضرب اللبن فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر وضع درّته تحت رأسه ونام على التراب فتعجب الرسول من ذلك وقال أهل المشرق والمغرب يخافون هذا الإنسان وهو على هذه الصفة ثم قال في نفسه إن وجدته خالياً فاقتله وأخلص الناس منه فلما رفع السيف أخرج الله تعالى من الأرض أسدين فقصداه فخاف وألقى السيف من يده وانتبه عمر ولم ير شيئاً فسأله عن الحال فذكر له الواقعة وأسلم. قال الرازي : وأقول هذه الواقعة رويت بالآحاد وهاهنا ما هو معلوم بالتواتر وهو أنه مع بعده عن زينة الدنيا واحترازه عن التكلفات والتهويلات ساس الشرق والغرب وغلب الممالك والدول ولو نظرت في كتب التواريخ علمت أنه لم يتفق لأحد من أوّل عهد عمر إلى الآن ما تيسر له، فإنه مع غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات ولا شك أنّ هذا من أعظم الكرامات.
وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فأشياء كثيرة، منها ما روي عن أنس قال : سرت في الطريق فوقعت عيني على امرأة ثم دخلتُ على عثمان فقال : ما لي أراكم تدخلون عليّ وآثار الزنا ظاهرة عليكم فقلت أجاء الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا ولكن فراسة صادقة، ومنها أنه لما طعن بالسيف فأوّل قطرة من دمه سقطت وقعت على المصحف على قوله تعالى :﴿ فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ﴾ [ البقرة، ١٣٧ ]. ومنها أنّ جهجاها الغفاري انتزع العصا من يد عثمان فكسرها على ركبته فوقعت الأكلة في ركبته.
وأما علي رضي الله تعالى عنه فأشياء كثيرة أيضاً، منها ما روي أنّ واحداً من محبيه سرق وكان عبداً أسود فأتي به إلى عليّ فقال : أسرقت ؟ فقال : بلى. فقطع يده فانصرف من عند علي فلقيه سلمان الفارسي وابن الكواء. فقال ابن الكواء : من قطع يدك ؟ فقال له : أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول. فقال له سلمان : قطع يدك وتمدحه. فقال : ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النار، فسمع سلمان ذلك فأخبر به علياً فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل، ودعا بدعوات فسمعنا صوتاً من السماء : ارفع الرداء عن اليد فرفعناه فإذا اليد قد برئت.
وأما ما روي عن بعض الصحابة فشيء كثير، ونذكر منها شيئاً قليلاً، منها ما روى محمد بن المنكدر عن سفينة قال : ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها، وركبت لوحاً من ألواحها فطرحني اللوح في خيسة فيها أسد فخرج الأسد إليّ يريدني فقلت : يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فتقدّم الأسد إليّ ودلني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودّعني ورجع.
ومنها ما روى ثابت عن أنس أنّ أسيد بن حضير ورجلاً آخر من الأنصار تحدّثا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة لهما حتى ذهب من الليل زمان ثم خرجا من عنده وكانت الليلة شديدة الظلمة وكان في يد كل واحد منهما عصا فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها فلما افترقت بينهما الطريق أضاءت للآخر عصاه فمشى حتى بلغ منزله. ومنها ما روي أنه قيل لخالد بن الوليد أنّ في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلة فطاف بالعسكر فلقي رجلاً على فرس ومعه خمر فقال : ما هذا ؟ قال : خل. فقال خالد : اللهم اجعله خلاً فذهب الرجل إلى أصحابه فقال : أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثله فلما فتحوا فإذا هو خل فقالوا : والله ما جئتنا إلا بخل فقال : والله هذا دعاء خالد. ومنها الواقعة المشهورة وهي أنّ خالد بن الوليد أكل كفاً من السم على اسم الله وما ضرّه.
ومنها ما روي أنّ ابن عمر كان في بعض أسفاره فلقي جماعة وقفوا على الطريق من خوف السبع فطرد السبع من طريقهم، ثم قال : إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء. ومنها ما روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث العلاء الحضرمي في غزاة فحال بينهم وبين المطلوب قطعة من البحر فد
ثم لما دل اشتمال القرآن على قصة أصحاب الكهف من حيث أنها من المغيبات بالإضافة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنه وحي معجز أمره أن يداوم درسه ويلازم أصحابه بقوله تعالى :﴿ واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك ﴾، أي : القرآن واتبع ما فيه واعمل بما فيه ﴿ لا مبدّل لكلماته ﴾، أي : لا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره، وقال بعضهم : مقتضى هذا أن لا يتطرق النسخ إليه وأجاب بأنّ النسخ في الحقيقة ليس تبديلاً لأنّ المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلاً وهذا لا يحتاج إليه مع التفسير المذكور ﴿ ولن تجد من دونه ﴾، أي : الله ﴿ ملتحداً ﴾، أي : ملجأً في البيان والإرشاد وقيل إن لم تتبع القرآن. ونزل في عيينة بن حصن الفزاري لما أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء فيهم سلمان الفارسي وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوص يشقه ثم ينسجه فقال له : أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء، أي : كما قال قوم نوح :﴿ أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ﴾ [ الشعراء، ١١١ ] فنحهم حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلساً واجعل لهم مجلساً.
﴿ واصبر نفسك ﴾، أي : احبسها وثبتها ﴿ مع الذين يدعون ربهم ﴾ ونظير هذه الآية قد سبق في سورة الأنعام وهو قوله تعالى :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ﴾ [ الأنعام، ٥٢ ] ففي تلك الآية نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن طردهم، وفي هذه الآية أمره بمجالستهم والمصابرة معهم وفي قوله تعالى :﴿ بالغداة والعشيّ ﴾ وجوه الأوّل : أنهم مواظبون على هذا العمل في كل الأوقات كقول القائل ليس لفلان عمل بالغداة والعشيّ إلا شتم الناس. الثاني : المراد صلاة الفجر والعصر. الثالث : أنّ المراد الغداة وهو الوقت الذي ينتقل فيه الإنسان من النوم إلى اليقظة، وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من الموت إلى الحياة، والعشيّ هو الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من الحياة إلى الموت ومن اليقظة إلى النوم، والإنسان العاقل يكون في هذين الوقتين كثير الذكر لله تعالى عظيم الشكر لآلاء الله ونعمائه وقرأ ابن عامر بضم الغين المعجمة وسكون الدال وبعدها واو مفتوحة والباقون بفتح الغين والدال وألف بعدها والرسم في المصحف بالواو هنا وفي سورة الأنعام.
﴿ يريدون ﴾ بعبادتهم ﴿ وجهه ﴾ تعالى، أي : رضاه وطاعته لا شيئاً من أعراض الدنيا ﴿ ولا تعد ﴾، أي : تنصرف ﴿ عيناك عنهم ﴾ إلى غيرهم وعبر بالعينين عن صاحبهما فنهى صلى الله عليه وسلم أن يصرف بصره ونفسه عنهم لأجل رغبته في مجالسة الأغنياء لعلهم يؤمنون وقوله تعالى :﴿ تريد زينة الحياة الدنيا ﴾ في موضع الحال، أي : إنك إن فعلت ذلك لم يكن إقدامك عليه إلا لرغبتك في زينة الحياة الدنيا. ولما بالغ تعالى في أمره في مجالسة الفقراء من المسلمين بالغ في النهي عن الالتفات إلى أقوال الأغنياء والمتكبرين بقوله تعالى :﴿ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ﴾، أي : جعلنا قلبه غافلاً عن ذكرنا، أي : عيينة بن حصن وقيل أمية بن خلف ﴿ واتبع هواه ﴾، أي : في طلب الشهوات ﴿ وكان أمره فرطاً ﴾، أي : إسرافاً وباطلاً، وهذا يدل على أنّ أشرّ أحوال الإنسان أن يكون قلبه خالياً عن ذكر الحق ويكون مملوءاً من الهوى الداعي إلى الاشتغال بالخلق، لأنّ ذكر الله تعالى نور وذكر غيره ظلمة لأنّ الوجود طبيعة النور والعدم منبع الظلمة والحق تعالى واجب الوجود لذاته فكان النور الحق هو الله تعالى وما سواه فهو ممكن الوجود لذاته والإمكان طبيعة عدمية فكان منبع الظلمة فالقلب إذا أشرق فيه ذكر الله تعالى فقد حصل فيه النور والضوء والإشراق وإذا توجه القلب إلى الخلق فقد حصل فيه الظلم والظلمة بل الظلمات فلهذا السبب إذا أعرض القلب عن الحق وأقبل على الخلق فهو الظلمة الخالصة التامّة والإعراض عن الحق هو المراد بقوله تعالى :﴿ أغفلنا قلبه عن ذكرنا ﴾ والإقبال على الخلق هو المراد بقوله تعالى :﴿ واتبع هواه ﴾.
روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كنت جالساً في عصابة من ضعفاء المهاجرين وأنّ بعضهم ليستتر ببعض من العري وقارئ يقرأ من القرآن فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :«ما الذي كنتم تصنعون ؟ قلنا : يا رسول الله كان واحد يقرأ من القرآن ونحن نسمع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي جعل من أمّتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم ثم جلس وسطنا وقال : أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التامّ يوم القيامة فتدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار خمسمائة سنة ». ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يلتفت إلى أولئك الأغنياء الذين قالوا : إن طردت الفقراء آمنا بك. قال تعالى بعده :﴿ وقل الحق ﴾.
﴿ وقل الحق ﴾ أي : وقل لهؤلاء ولغيرهم هذا الذي جئتكم به في أمر أهل الكهف وغيرهم من هذا الوجه العربي المعرى عن العوج الظاهر الإعجاز الباهر الحجج الحق كائناً ﴿ من ربكم ﴾ المحسن إليكم في أمر أهل الكهف وغيرهم من صبر نفسي مع المؤمنين والإعراض عمن سواهم وغير ذلك لا ما قلتموه في أمرهم، ويجوز أن يكون الحق مبتدأ وخبره الجار بعده ﴿ فمن شاء ﴾، أي : منكم ومن غيركم ﴿ فليؤمن ﴾ بهذا الذي قصصناه فيهم وفي غيرهم فهو مقبول مرغوب فيه وإن كان فقيراً رث الهيئة ولم ينفع إلا نفسه ﴿ ومن شاء ﴾ منكم ومن غيركم ﴿ فليكفر ﴾ فهو أهل لأن يعرض عنه ولا يلتفت إليه وإن كان أغنى الناس وأحسنهم هيئة وإن تعاظمت هيئته وهذا لا يقتضي استقلال العبد بفعله كما تقول المعتزلة، فعن ابن عباس في معنى الآية من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر ونقل عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : هذه الصيغة تهديد ووعيد، أي : فهي كقوله تعالى :﴿ اعملوا ما شئتم ﴾ [ فصلت، ٤٠ ] فإن الله تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضرّ بكفر الكافرين بل نفع الإيمان يعود على المؤمن وضرر الكفر بعود على الكافر كما قال تعالى :﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ﴾ [ الإسراء، ٧ ].
ولما هدد السامعين بما حاصله ليختار كل امرئ لنفسه ما يجده غداً عند الله أتبعه بذلك الوعيد والأفعال الباطلة، وبذكر الوعد على الإيمان والأعمال الصالحة، أمّا الوعيد فقوله تعالى :﴿ إنا أعتدنا ﴾، أي : هيأنا بما لنا من العظمة والقدرة ﴿ للظالمين ﴾، أي : لمن أنف عن قبول الحق لأجل أنّ الذين قبلوه فقراء ومساكين وكذا كل من لم يؤمن ﴿ ناراً ﴾ وهي الجحيم ثم وصف الله تعالى تلك النار بصفتين ؛ الأولى قوله تعالى :﴿ أحاط بهم ﴾ كلهم ﴿ سرادقها ﴾، أي : فسطاطها شبه به ما يحيط بهم من النار وقيل هو الحجرة التي تكون حول الفسطاط وقيل حائط من نار والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرجة يتفرّجون بالنظر إلى ما وراءها من غير النار بل هي محيطة من كل الجوانب، وقيل هو دخان يغشاهم قبل دخولهم النار يحيط بهم كالسرداق حول الفسطاط. الصفة الثانية قوله تعالى :﴿ وإن يستغيثوا ﴾، أي : يطلبوا الغوث ﴿ يغاثوا بماء ﴾ ووصف هذا الماء بصفتين ؛ الأولى قوله تعالى :﴿ كالمهل ﴾ وهو كما في حديث مرفوع دردي الزيت، وعن ابن مسعود أنه دخل بيت المال وأخرج نقاعة كانت فيه وأوقد عليها النار حتى تلألأت ثم قال : هذا هو المهل. وقال أبو عبيدة والأخفش : كل شيء أذبته من نحاس أو ذهب أو فضة فهو المهل. وقيل إنه الصديد والقيح وقيل إنه ضرب من القطران ثم يحتمل أن تكون هذه الاستغاثة لأنهم طلبوا ماء للشرب فيعطون هذا المهل قال تعالى :﴿ تصلى ناراً حامية ٤ تسقى من عين آنية ﴾ [ الغاشية : ٤، ٥ ] ويحتمل أن يستغيثوا من حرّ جهنم فيطلبوا ما يصبونه على أنفسهم للتبريد فيعطون هذا الماء قال تعالى حكاية عنهم :﴿ أفيضوا علينا من الماء ﴾ [ الأعراف، ٥٠ ]. وقال تعالى في آية أخرى :﴿ سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ﴾ [ إبراهيم، ٥٠ ]. فإذا استغاثوا من حرّ جهنم صب عليهم القطران الذي يعمّ كل أبدانهم كالقميص. والصفة الثانية للماء : قوله تعالى :﴿ يشوي الوجوه ﴾، أي : إذا قرب إلى الفم ليشرب فكيف بالفم والجوف ثم وصل تعالى بذلك ذمّه فقال تعالى :﴿ بئس الشراب ﴾، أي : ذلك الماء الذي هو كالمهل لأنّ المقصود من شرب الشراب تسكين الحرارة وهذا يبلغ في إحراق الإنسان مبلغاً عظيماً ثم عطف عليه ذمّ النار المعدّة لهم بقوله تعالى :﴿ وساءت ﴾، أي : النار وقوله تعالى :﴿ مرتفقاً ﴾ تمييز منقول من الفاعل، أي : قبح مرتفقها وهو مقابل لقوله تعالى الآتي في الجنة :﴿ وحسنت مرتفقاً ﴾ وإلا فأي ارتفاق في النار.
ولما ذكر تعالى وعيد المبطلين أردفه بوعد المحقين فقال تعالى :﴿ إنّ الذين آمنوا ﴾ ولما كان الإيمان هو الإذعان للأوامر عطف عليه ما يحقق ذلك بقوله تعالى :﴿ وعملوا الصالحات ﴾ ثم عظم جزاءهم بقوله تعالى :﴿ إنا لا نضيع ﴾، أي : بوجه من الوجوه ﴿ أجر من أحسن عملاً ﴾ وهذه الجملة خبر إن الذين وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر والمعنى أجرهم، أي : نثيبهم بما تضمنه.
﴿ أولئك لهم جنات عدن ﴾، أي : إقامة فكأنه قيل فما لهم فيها فقيل :﴿ تجري من تحتهم ﴾، أي : من تحت منازلهم ﴿ الأنهار ﴾ وذلك لأنّ أفضل المساكن ما كان تجري فيه الأنهار أو الماء فكأنه قيل ثم ماذا فقيل :﴿ يحلون فيها ﴾ وبنى الفعل المجهول لأنّ المقصود وجود التحلية وهي لعزتها إنما يؤتى بها من الغيب فضلاً من الله تعالى.
ولما كانت نعم الله لا تحصى نوع منها قال تعالى مبعضاً :﴿ من أساور ﴾ جمع أسورة كأحمرة جمع سوار كما يلبس ذلك ملوك الدنيا من جبابرة الكفرة في بعض الأقاليم كأهل فارس وقيل من زائدة، وقيل للابتداء ومن في قوله تعالى :﴿ من ذهب ﴾ للبيان صفة لأساور وتنكيرها لتعظيم جنسها عن الإحاطة به. وقيل للتبعيض. ولما كان اللباس جزاء العمل فكان موجوداً عندهم أسند الفعل إليهم فقال :﴿ ويلبسون ثياباً خضراً ﴾ لأنّ الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة ثم وصفها بقوله تعالى :﴿ من سندس ﴾ وهو ما رقّ من الديباج ﴿ وإستبرق ﴾ وهو ما غلظ منه جمع بين النوعين للدلالة على أنّ فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وفي آية أخرى ﴿ بطائنها من إستبرق ﴾ [ الرحمن، ٥٤ ] فيكون الغليظ بطانة للرقيق، ثم استأنف الوصف عن حال جلوسهم فيها بأنه جلوس الملوك المتمكنين من النعيم فقال تعالى :﴿ متكئين فيها ﴾، أي : لأنهم في غاية الراحة ﴿ على الأرائك ﴾ جمع أريكة وهي السرير في الحجلة وهي بيت يزين بالثياب والستور للعروس ثم مدح هذا بقوله تعالى :﴿ نعم الثواب ﴾، أي : الجزاء الجنة لو لم يكن لها وصف غير ما سمعتم فكيف ولها من الأوصاف ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى وإلى ذلك أشار بقوله تعالى :﴿ وحسنت ﴾، أي : الجنة كلها وبين ذلك بقوله تعالى :﴿ مرتفقاً ﴾، أي : مقرّاً ومرتفقاً ومجلساً.
ولما افتخر الكفار بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين بيّن الله تعالى أنّ ذلك مما لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الفقير غنياً والغنيّ فقيراً وأمّا الذي يجب الافتخار به فطاعة الله تعالى وعبادته وهي حاصلة لفقراء المؤمنين وبيّن ذلك بضرب هذا المثل المذكور بقوله تعالى :﴿ واضرب لهم ﴾، أي : لهؤلاء الأغنياء المتجبرين الذين يستكبرون على المؤمنين ويطلبون طردهم لضعفهم وفقرهم ﴿ مثلاً ﴾ لما آتاهم الله من زينة الحياة والدنيا واعتمدوا عليه وركنوا إليه ولم يشكروا من آتاهم إياه عليه بل أدّاهم إلى الافتخار والتكبر على من زوي ذلك عنه إكراماً له وصيانة عنه ﴿ رجلين ﴾ إلى آخر الآية. واختلف في سبب نزولها فقيل نزلت في رجلين من أهل مكة من بني مخزوم أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة وكان زوج أمّ سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر كافر وهو الأسود بن عبد ياليل، وهما ابنا عبد الأسد بن عبد ياليل.
وقيل مثال لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وأصحابه شبههما برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا في قول ابن عباس، وقال مقاتل : تمليخا والآخر كافر واسمه فطروس وقال وهب قطفر، وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة والصافات وكانت قصتهما على ما حكى عبد الله بن المبارك عن معمر عن عطاء الخراساني قال : كانا رجلين شركين لهما ثمانية آلاف دينار وقيل كانا أخوين ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فاشترى أحدهما أرضاً بألف دينار فقال صاحبه : اللهمّ إنّ فلاناً قد اشترى أرضاً بألف دينار وإني مشتر منك أرضاً في الجنة بألف دينار فتصدّق بها، ثم إن صاحبه بنى داراً بألف دينار فقال صاحبه : اللهمّ إنّ فلاناً بنى داراً بألف دينار وإني اشتريت منك داراً في الجنة بألف دينار فتصدّق بها، ثم تزوّج صاحبه امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال هذا : اللهمّ إني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار فتصدّق بها ثم إنّ صاحبه اشترى خدماً ومتاعاً بألف دينار فقال هذا : اللهمّ إني أشتري خدماً ومتاعاً من الجنة بألف دينار فتصدّق بها، ثم أصابته حاجة شديدة فقال : لو أتيت صاحبي لعل ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مرّ به في حشمه فقام إليه فنظر إليه الآخر فعرفه فقال له : فلان ؟ قال : نعم. قال : ما شأنك ؟ قال : أصابتني حاجة بعدك فأتيت لتعينني بخير قال : فما فعل مالك وقد اقتسمنا مالاً وأخذت شطره فقص عليه قصته فقال : وإنك لمن المصدّقين بهذا اذهب فلا أعطيك شيئاً فطرده. وروي أنه لما أتاه أخذ بيده فجعل يطوف به ويريه أموال نفسه فنزل فيهما ﴿ واضرب لهم مثلاً رجلين ﴾، أي : اذكر لهم خبر رجلين ؛ ﴿ جعلنا لأحدهما جنتين ﴾، أي : بستانين يسر ما فيهما من الأشجار من يدخلهما ﴿ من أعناب ﴾ لأنها من أشجار البلاد الباردة وتصبر على الحر وهي فاكهة وقوت بالعنب والزبيب والخل وغيرها، ثم إنه تعالى وصف الجنتين بصفات الصفة الأولى قوله تعالى :﴿ وحففناهما ﴾، أي : اطفناهما من جوانبهما ﴿ بنخل ﴾ لأنها من أشجار البلاد الحارّة، وتصبر على الحرور بما منعت عن الأعناب بعض أسباب العاهات وثمرها فاكهة بالبسر والرطب وقوت بالتمر والخلّ، فكان النخل كالأكليل من وراء العنب.
تنبيه : الحفاف الجانب وجمعه أحفة يقال : أحف به القوم، أي : أطافوا بجوانبه. الصفة الثانية قوله تعالى :﴿ وجعلنا بينهما ﴾، أي : أرضي الجنتين ﴿ زرعاً ﴾ لبعد شمول الآفة للكل لأنّ زمان الزرع ومكانه غير زمان ثمار الشجر ومكانه وذلك هو العمدة في القوت فكانت الجنتان أرضاً جامعة لخير الفاكهة وأفضل الأقوات وعمارتهما متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعهما ويفصل بينهما مع سعة الأطراف وتباعد الأكتاف وحسن الهيئات والأوصاف.
الصفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ كلتا ﴾، أي : كل واحدة من ﴿ الجنتين ﴾ المذكورتين ﴿ آتت أكلها ﴾، أي : ما يطلب منها ويؤكل من ثمر وحب كاملاً غير منسوب شيء منهما إلى نقص ولا رداءة وهو بمعنى ﴿ ولم تظلم ﴾، أي : ولم تنقص ﴿ منه شيئاً ﴾ يعهد في سائر البساتين فإن الثمار تتم في عام وتنقص في عام غالباً والظلم النقصان تقول الرجل ظلمني حقي أي نقصني.
تنبيه : كلا اسم مفرد معرفة يؤكد به مذكران معرفتان وكلتا اسم مفرد ومعرفة يؤكد به مؤنثان معرفتان وإنما إذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة كقولك جاءني كلا أخويك ورأيت كلا أخويك ومررت بكلا أخويك وجاءني كلتا أختيك ورأيت كلتا أختيك ومررت بكلتا أختيك. وإذا أضيفا إلى المضمر كانا في الرفع بالألف وفي الجرّ والنصب بالياء وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضاً فقوله تعالى :﴿ آتت أكلها ﴾ حمل على اللفظ لأنّ كلتا لفظ مفرد ولو قيل آتتا على المعنى لجاز.
الصفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ وفجرنا خلالهما نهراً ﴾، أي : وسطهما وبينهما ومنه قوله تعالى :﴿ ولأوضعوا خلالكم ﴾ [ التوبة، ٤٧ ] ومنه يقال : خللت القوم، أي : دخلت القوم وذلك ليدوم شربهما ويستغنيا عن المطر عند القحط ويزيد بهاؤهما.
الصفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ وكان له ﴾، أي : صاحب الجنتين ﴿ ثمر ﴾، أي : أنواع من المال سوى الجنتين قال ابن عباس : من ذهب وفضة وغير ذلك من أثمر ماله إذا كثر وعن مجاهد الذهب والفضة خاصة، أي : كان مع الجنتين أشياء من الأموال ليكون متمكناً من العمار بالأعوان والآلات وجميع ما يريد وقرأ أبو عمرو وثمر هنا وثمره الآتي بسكون الميم فيهما بعد ضم الثاء المثلثة، وقرأ عاصم بفتح المثلثة والميم فيهما والباقون بضم المثلثة والميم فيهما ذكر أهل اللغة أنّ الضم أنواع المال من الذهب والفضة وغيرهما وبالفتح حمل الشجر قال قطرب : وكان أبو عمرو بن العلاء يقول الثمر المال والولد وأنشد للحرث بن حلزة :
ولقد رأيت معاشراً *** قد أثمروا مالاً وولدا
وقال النابغة :
مهلاً فداء لك الأقوام كلهم *** وما أثمر من مال ومن ولد
﴿ فقال ﴾، أي : هذا الكافر ﴿ لصاحبه ﴾، أي : المسلم المجعول مثلاً للفقراء المؤمنين ﴿ وهو ﴾، أي : صاحب الجنتين ﴿ يحاوره ﴾، أي : يراجعه الكلام من حار يحور إذا رجع افتخاراً عليه وتقبيحاً لحاله بالنسبة إليه والمسلم يحاوره بالوعظ وتقبيح الركون إلى الدنيا ﴿ أنا أكثر منك مالاً ﴾ لما ترى من جناتي وثماري، وقرأ نافع بمد الألف بعد النون والباقون بالقصر هذا في الوصل، وأمّا في الوقف فبالألف للجميع، وسكن قالون وأبو عمرو والكسائي هاء ﴿ وهو ﴾ وضمها الباقون ورقق ورش راء ﴿ يحاوره ﴾ ﴿ وأعز نفراً ﴾، أي : ناساً يقومون معي في المهمات وينفعون عند الضرورات لأنّ ذلك لازم لكثرة المال غالباً وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بمثل هذا ألسنتهم فإنّ ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه.
﴿ ودخل جنته ﴾ بصاحبه يطوف به فيها ويفاخرهُ بها وأفرد الجنة لإرادة الجنس ودلالة ما أفاده الكلام من أنهما لاتصالهما كالجنة الواحدة وإشارة إلى أنه لا جنة له غيرها لأنه لا حظّ له في الآخرة ﴿ وهو ﴾، أي : والحال أنه ﴿ ظالم لنفسه ﴾ لاعتماده على ماله والإعراض عن ربه، ثم استأنف بيان ظلمه بقوله تعالى :﴿ قال ما أظنّ أن تبيد ﴾، أي : تنعدم ﴿ هذه ﴾، أي : الجنة ﴿ أبداً ﴾ لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بجهله.
ثم زاد في الطغيان والبطر بقصر النظر على الحاضر فأنكر البعث بقوله :﴿ وما أظنّ الساعة قائمة ﴾، أي : كائنة استلذاذاً بما هو فيه وإخلاداً إليه واعتماداً عليه وقوله :﴿ ولئن رددت إلى ربي ﴾ المحسن إليّ في هذه الدار في الساعة إقسام منه على أنه إن ردّ إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وعلى ما يزعم صاحبه أنّ الساعة قائمة ﴿ لأجدنّ خيراً منها ﴾، أي : من هذه الجنة ﴿ منقلباً ﴾، أي : مرجعاً لأنه لم يعطني الجنة في الدنيا إلا ليعطيني في الآخرة أفضل منها قال ذلك طمعاً وتمنياً على الله وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده، وأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله وأنّ معه هذا الاستحقاق أينما توجه كقوله : أنّ لي عنده الحسنى لأوتين مالاً وولداً.
﴿ قال له صاحبه ﴾، أي : المؤمن ﴿ وهو ﴾، أي : والحال أنّ ذلك الصاحب ﴿ يحاوره ﴾، أي : يراجعه منكراً عليه ﴿ أكفرت بالذي خلقك من تراب ﴾، أي : خلق أصلك آدم من تراب لأنّ خلق أصله سبب في خلقه فكان خلقه خلقاً له ﴿ ثم من نطفة ﴾ متولدة من أغذية أصلها تراب هي مادّتك القريبة ﴿ ثم سوّاك ﴾، أي : عدلك بعد أن أولدك وطورك في أطوار النشأة ﴿ رجلاً ﴾، أي : كملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال جعل كفره بالبعث كفراً بالله تعالى لأنّ منشأه الشك في كمال قدرة الله تعالى ولذلك ترتب الإنكار على خلقه إياه من التراب، فإنّ من قدر على بدء خلقه مرّة قدر على أن يعيده منه.
ولما أنكر على صاحبه أخبر عن اعتقاده بما يضاد اعتقاد صاحبه، فقال مؤكداً لأجل إنكار صاحبه مستدركاً لأجل كفرانه ﴿ لكنا ﴾ أصله لكن أنا نقلت حركة الهمزة إلى النون وحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في مثلها كما قال القائل :
وترمينني بالطرف أي : أنت مذنب *** وتقلينني لكنّ إياك لا أقلي
أي لكن أنا لا أقليك. ولما كان سبحانه وتعالى لا شيء أظهر منه ولا شيء أبطن منه أشار إلى ذلك جميعاً بإضماره قبل الذكر فقال :﴿ هو ﴾، أي : الظاهر أتم ظهور فلا يخفى أصلاً ويجوز أن يكون الضمير للذي خلقك ﴿ الله ﴾، أي : المحيط بصفات الكمال ﴿ ربي ﴾ وحده لم يحسن إليّ خلقاً ورزقاً أحد غيره وهذا اعتقادي في الماضي والحال. وقرأ ابن عامر بإثبات الألف بعد النون وقفاً ووصلاً لاتباع المرسوم والباقون بإثبات الألف بعد النون وقفاً وحذفها وصلاً. فإن قيل : قوله :﴿ لكنا ﴾ استدراك لماذا ؟ أجيب : بأنه لقوله ﴿ أكفرت ﴾ فكأنه قال لأخيه : أكفرت بالله لكني مؤمن موحد، كما تقول زيد غائب لكن عمرو حاضر.
وذكر القفال في قول المؤمن :﴿ ولا أشرك بربي ﴾، أي : المحسن إليّ في عبادتي ﴿ أحداً ﴾ وجوهاً أحدها : أني لا أرى الفقر والغنى إلا منه فأحمده إذا أعطى وأصبر إذا ابتلى، ولا أكفر عندما ينعم عليّ ولا أرى كثرة الأموال والأعوان من نفسي وذلك لأنّ الكافر لما اغتر بكثرة المال والجاه فكأنه قد أثبت لله شريكاً في إعطاء العز والغنى. وثانيها : لعل ذلك الكافر مع كونه منكراً للبعث كان عابد صنم فبيّن هذا المؤمن فساد قوله بإثبات الشركاء. وثالثها : أنّ هذا الكافر لما عجز الله تعالى عن البعث والحشر فقد جعله مساوياً للخلق في هذا العجز، وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك.
ثم قال المؤمن للكافر :﴿ ولولا إذ ﴾، أي : وهلا حين ﴿ دخلت جنتك قلت ﴾ عند إعجابك بها ما يدل على تفويضك الأمر فيها وفي غيرها إلى الله تعالى وهو ﴿ ما شاء الله ﴾، أي : الأمر ما شاء الله أو ما شاء الله كائن على أنّ ما موصولة، أي : وأي شيء شاء الله كان على أنها شرطية والجواب محذوف، أي : إقراراً بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أهلكها، وقرأ ابن ذكوان وحمزة بالإمالة والباقون بالفتح وإذا وقف حمزة وهشام على شاء أبدل الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر، وأظهر إذ عند الدال نافع وابن كثير وعاصم والباقون بالإدغام وهلا قلت :﴿ لا قوّة إلا بالله ﴾ اعترافاً بالعجز على نفسك والقدرة لله وأنّ ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها فبمعونة الله تعالى وإقداره أو لا يقوى أحد في بدنه ولا في غير ذلك إلا بالله. وفي الحديث «من أعطى خيراً من أهل أو مال فيقول عند ذلك ما شاء الله لا قوّة إلا بالله لم ير فيه مكروهاً » ثم إنّ المؤمن لما أعلم الكافر بالإيمان أجابه عن افتخاره بالمال والنفس فقال :﴿ إن ترني أنا أقلّ منك مالاً وولداً ﴾ أي : من جهة المال والولد، ويحتمل أن يكون ﴿ أنا ﴾ فصلاً وأن يكون تأكيداً للمفعول الأوّل. وقرأ قالون وأبو عمرو بإثبات الياء وصلاً وحذفها وقفاً، وابن كثير بإثباتها وصلاً ووقفاً، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً.
وقوله تعالى :﴿ فعسى ربي ﴾، أي : المحسن إليّ ﴿ أن يؤتيني ﴾ من خزائن رزقه ﴿ خيراً من جنتك ﴾ إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة لإيماني جواب الشرط ﴿ ويرسل عليها ﴾، أي : جنتك ﴿ حسباناً ﴾ جمع حسبانة، أي : صواعق ﴿ من السماء فتصبح ﴾ بعد كونها قرّة للعين بما تهتز به من الأشجار والزروع ﴿ صعيداً زلقاً ﴾، أي : أرضاً ملساء باستئصال بنيانها وأشجارها فلا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم.
وقوله :﴿ أو يصبح ماؤها غوراً ﴾، أي : غائراً في الأرض لا تناله الأيدي والدلاء مصدر وصف به كالزلق ﴿ فلن تستطيع ﴾ أنت ﴿ له ﴾، أي : للماء الغائر ﴿ طلباً ﴾ يصير بحيث لا تقدر على ردّه إلى موضعه.
ثم إنه أخبر الله تعالى أنه حقق ما قدّره هذا المؤمن فقال :﴿ وأحيط ﴾، أي : وقعت الإحاطة بالهلاك وبني للمفعول لأنّ النكد حاصل بإحاطة الهلاك من غير نظر إلى فاعل مخصوص والدلالة على سهولته ﴿ بثمره ﴾، أي : الرجل المشرك كله واستؤصل هالكاً ما في السهل منه وما في الجبل وما يصبر منه على البرد والحر وما لا يصبر. قال بعض المفسرين : إنّ الله تعالى أرسل عليها ناراً فأهلكتها وغار ماؤها ﴿ فأصبح يقلب كفيه ﴾ ندماً ويضرب أحداهما على الأخرى تحسراً فتقلب الكفين كناية عن الندم والتحسر لأنّ النادم يقلب كفيه ظهراً لبطن كما يكنى عن ذلك بعض الكف والسقوط في اليد لأنه في معنى الندم فعدى تعديته كأنه قيل فأصبح يندم ﴿ على ما أنفق فيها ﴾، أي : في عمارتها ونمائها ﴿ وهي خاوية ﴾، أي : ساقطة ﴿ على عروشها ﴾، أي : دعائمها التي كانت تحتها فسقطت على الأرض وسقطت هي فوقها. وقوله تعالى :﴿ ويقول ﴾ عطف على يقلب أو حال من ضميره ﴿ يا ﴾ للتنبيه ﴿ ليتني ﴾ تمنياً لرد ما فاته لحيرته وذهول عقله ودهشته وعدم اعتماده على الله تعالى من غير إشراك بالاعتماد على الفاني ﴿ لم أشرك بربي أحداً ﴾ كما قال له صاحبه فندم حيث لا ينفعه الندم على ما فرّط في الماضي لأجل ما فاته على الدنيا لا حرصاً على الإيمان لحصول الفوز في العقبى لقصور عقله ووقوفه مع المحسوسات المشاهدة. فإن قيل : إنّ هذا الكلام يوهم أن جنته إنما هلكت بشؤم شركه وليس مراداً لأنّ أنواع البلاء أكثرها إنما يقع للمؤمنين قال تعالى :﴿ ولولا أن يكون الناس أمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ﴾ [ الزخرف، ٣٣ ]. وقال صلى الله عليه وسلم :«خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ». وأيضاً لما قال :﴿ يا ليتني لم أشرك بربي أحداً ﴾ فقد ندم على الشرك ورغب في التوحيد فوجب أن يصير مؤمناً فلم قال تعالى بعده :﴿ ولم تكن له فئة ﴾.
﴿ ولم تكن له فئة ﴾، أي : جماعة من نفره الذين اغتر بهم ولا من غيرهم ﴿ ينصرونه ﴾ مما وقع فيه ﴿ من دون الله ﴾ عند هلاكها ﴿ وما كان ﴾ هو ﴿ منتصراً ﴾ بنفسه بل ليس الأمر في ذلك إلا لله وحده. أجيب : عن الأوّل بأنه لما عظمت حسراته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا وكان معرضاً في عمره كله عن طلب الدين فلما ضاعت الدنيا بالكلية بقي محروماً من الدنيا والدين، وعن الثاني بأنه إنما ندم على الشرك لاعتقاده أنه لو كان موحداً غير مشرك لبقيت عليه جنته فهو إنما رغب في ذلك لأجل طلب الدنيا فلذلك لم يقبل الله توحيده. وقرأ حمزة والكسائي يكن بالتحتيتة على التذكير والباقون بالفوقية على التأنيث. ولما أنتج هذا المثل قطعاً أنه لا أمر لغير الله تعالى المرجو لنصر أوليائه بعد ذلهم ولإغنائهم بعد فقرهم ولإذلال أعدائهم بعد عزهم وكبرهم وإفقارهم بعد إغنائهم وحده وإن غيره إنما هو كالخيال لا حقيقة له، صرّح بذلك في قوله تعالى :﴿ هنالك ﴾.
﴿ هنالك ﴾، أي : في مثل هذه الشدائد العظيمة ﴿ الولاية لله ﴾، أي : الذي له الكمال كله، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الواو وأي الملك والباقون بفتحها، أي : النصرة وقوله تعالى :﴿ الحق ﴾ قرأه أبو عمرو والكسائي برفع القاف على الاستئناف والقطع تعليلاً تنبيهاً على أنّ فزعهم في مثل هذه الأزمان إليه تعالى دون غيره برهان قاطع على أنه الحق وما سواه باطل وأنّ الفخر بالعرض الزائل من أجهل الجهل، وأنّ المؤمنين لا يصيبهم فقر ولا يسوغ طردهم لأجله وأنه يوشك أن يعود فقرهم غنى وضعفهم قوّة وقرأه الباقون بخفضها على الوصف، أي : الثابت الذي لا يحول يوماً ولا يزول ولا يغفل ساعة ولا ينام ولا ولاية لغيره بوجه ﴿ هو خير ثواباً ﴾ من ثواب غيره لو كان يثيب ﴿ وخير عقباً ﴾، أي : عاقبة للمؤمنين، وقرأ عاصم وحمزة بسكون القاف والباقون بضمها ونصب على التمييز.
ولما تمّ المثل لدنياهم الخاصة بهم التي أنظرتهم فكانت سبباً لشقاوتهم وهم يحسبون أنها عين إسعادهم ضرب لدار الدنيا العامّة لجميع الناس في قلة ثوابها وسرعة فنائها وأنّ من تكبر كان أخس منها فقال :﴿ واضرب ﴾، أي : صير ﴿ لهم ﴾، أي : لهؤلاء الكفار المغترّين بالعرض الفاني المفتخرين بكثرة ذكر الأموال والأولاد وعزة النفر. وقوله تعالى :﴿ مثل الحياة الدنيا ﴾ مفعول أوّل ثم ذكر المثل بقوله تعالى :﴿ كماء ﴾ وهو المفعول الثاني ﴿ أنزلناه ﴾ بعظمتنا وقدرتنا وقال تعالى :﴿ من السماء ﴾ تنبيهاً على بليغ القدرة في إمساكه في العلو وإنزاله في وقت الحاجة ﴿ فاختلط ﴾، أي : فتعقب وتسبب عن إنزاله أنه اختلط ﴿ به نبات الأرض ﴾، أي : التف بسببه حتى خالط بعضه بعضاً من كثرته وتكاثفه كما قال تعالى :﴿ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ﴾ [ الحج، ٥ ]. وقيل : اختلط ذلك الماء بالنبات حتى روى واهتز ونما وكان حق اللفظ على هذا التفسير فاختلط بنبات الأرض لكن لما كان كل من المختلطين موصوفاً بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته ثم إذا انقطع ذلك بالمطر مدّة جف ذلك النبات ﴿ فأصبح هشيماً ﴾أي يابساً متفرّقة أجزاؤه ﴿ تذروه ﴾، أي : تنثره وتفرّقه ﴿ الرياح ﴾ فتذهب به والمعنى أنه تعالى شبه الدنيا بنبات حسن فيبس فتكسر ففرّقته الرياح حتى يصير عما قليل كأنه بقدرة الله تعالى لم يكن وقرأ حمزة والكسائي بالتوحيد والباقون بالجمع ﴿ وكان الله ﴾، أي : المختص بصفات الكمال ﴿ على كل شيء ﴾ من دون ذلك وغيره إنشاءً وإفناءً وإعادةً. ﴿ مقتدراً ﴾ أزلاً وأبداً بتكوينه أوّلا وتنميته وسطاً وإبطاله آخراً فأحوال الدنيا أيضاً كذلك تظهر أوّلاً في غاية الحسن والنضارة ثم تتزايد قليلاً قليلاً ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن ينتهي إلى الهلاك والفناء ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ فأصبح ﴾ يجوز أن يكون على بابه فإنّ أكثر ما يطرق من الآفات صباحاً كقوله تعالى :﴿ فأصبح يقلب كفيه ﴾ [ الكهف، ٤٢ ] ويجوز أن يكون بمعنى صار من غير تقييد كقول القائل :
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
ولما بيّن سبحانه وتعالى أنّ الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزوال والبوار والفناء بيّن بقوله تعالى :﴿ المال والبنون زينة الحياة الدنيا ﴾ إدخال هذا الجزئيّ تحت هذا الكلي فينعقد به قياس بين الإنتاج وهو أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا ولما كانت زينة الحياة الدنيا سريعة الانقضاء والانقراض أنتج إنتاجاً بديهياً أنّ المال والبنون سريع الانقضاء والانقراض وما كان كذلك فإنه ينتج بالعقل أن لا يفتخر به أو يفرح بسببه أو يقيم له في نظره وزناً وهذا برهان ظاهر باهر على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال. ثم ذكر تعالى ما يدل على رجحان أولئك الفقراء على أولئك الكفار من الأغنياء فقال :﴿ والباقيات الصالحات خير ﴾، أي : من الزينة الفانية لأنّ خيرات الدنيا منقرضة منقضية وخيرات الآخرة دائمة باقية والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي وهذا معلوم بالضرورة لاسيما وقد ثبت أنّ خيرات الدنيا حقيرة خسيسة وأنّ خيرات الآخرة رفيعة شريفة.
والمفسرون ذكروا في الباقيات الصالحات أقوالاً أحدها أنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وزاد بعضهم ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وللغزالي في تفسير وجه لطيف فقال : روي أنّ من قال : سبحان الله حصل له من الثواب عشر حسنات فإذا قال : الحمد لله صارت عشرين فإذا قال : ولا إله إلا الله صارت ثلاثين فإذا قال : والله أكبر صارت أربعين وتحقيق القول فيه أنّ مراتب الثواب أعظمها هو الاستغراق في معرفة الله تعالى وفي محبته فإذا قال : سبحان الله فقد عرف كونه تعالى منزهاً عن كل ما لا يليق به وكل ما لا ينبغي فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة فإذا قال مع ذلك الحمد لله فقد أقرّ بأنّ الحق سبحانه وتعالى مع كونه منزهاً عن كل ما لا ينبغي فهو المبتدئ لكل ما ينبغي ولإفاضة كل [ الخيرات ].
فقد تضاعفت درجات المعرفة فلا جرم قلنا بمضاعفة الثواب فإذا قال مع ذلك : لا إله إلا اللّه فقد أقر بأن الذي تنزه عن كل ما لا ينبغي وهو المبتدئ لكل ما ينبغي ليس في الوجود موجود هكذا إلا هو الواحد فقد صارت مراتب المعرفة ثلاثة فلا جرم صارت درجات الثواب ثلاثة فإذا قال العبد : واللّه أكبر فمعنى أنه أكبر أنه أعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله فقد صارت مراتب المعرفة أربعة فلا جرم صارت درجات الثواب أربعة. وعن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «لأن أقول سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس ». وعن أبي سعيد الخدري أنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل : وما هنّ يا رسول اللّه قال : التكبير والتهليل والتسبيح والحمد للّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه ».
ثانيها أنها الصلاة الخمس.
ثالثها أنها الطيب من القول.
رابعها وهو أعمها، وأولاها أنها أعمال الخيرات التي تبقى ثمراتها أبد الآباد فيندرج في ذلك الصلاة وأعمال الحج وصيام رمضان وسبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللّه والكلام الطيب وغير ذلك من كل عمل وقول دعاك لمحبة اللّه تعالى ومعرفته وخدمته، وأما ما دعاك من قول أو عمل إلى الاشتغال بأحوال الخلق فهو خارج عن ذلك لأن كل ما سوى الحق فهو فانٍ لذاته فكان الاشتغال به والإنفاق عليه باطلاً وسعياً ضائعاً، وأما الحق لذاته فهو الباقي الذي لا يقبل الزوال، لا جرم كان الاشتغال بمحبته ومعرفته وطاعته وخدمته هو الذي يبقى بقاء لا يزول ولما كان أهم ما إلي من حصل البقاء ليس لكفايته بل لمن يحفظها له لوقت حاجته قال تعالى :﴿ عند ربك ﴾ أي : الجليل المواهب العالم بالعواقب وخير من المال والبنين في العاجل والآجل ﴿ ثواباً وخير ﴾ من ذلك كله ﴿ أملاً ﴾ أي : من جملة ما يرجوه فيها من الثواب
ويرجوه فيها من الأمل لأن ثوابها إلى بقاء آمالها كل ساعة في تحقق وعلوّ وارتقاء وآمل المال والبنين يخان أحوج ما يكون إليهما، وعن قتادة كل ما أريد به وجه اللّه تعالى خير ثواباً أي : ما يتعلق بها من الثواب وما يتعلق بها من الأمل لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب اللّه ونصيبه في الآخرة.
ولما بيّن سبحانه وتعالى خساسة الدنيا وشرف الآخرة أردفه بأحوال يوم القيامة وذكر منها أنواعاً النوع الأوّل قوله تعالى :﴿ ويوم ﴾ أي : واذكر لهم يوم ﴿ نسير ﴾ بأيسر أمر ﴿ الجبال ﴾ عن وجه الأرض بعواصف القدرة كما نسير نبات الأرض بعد أن صار هشيماً بالرياح كما قال تعالى :﴿ وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب ﴾ [ النمل، ٨٨ ].
تنبيه : ليس في لفظ الآية ما يدل إلى أين تسير، قال الرازي : ويحتمل أن يقال : إن الله يسيرها إلى الموضع الذي يريده ولم يبين ذلك لخلقه، والحق أنّ المراد أنّ اللّه تعالى يسيرها إلى العدم لقوله تعالى :﴿ ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً ١٠٥ فيذرها قاعاً صفصفاً ١٠٦ لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ﴾ [ طه، ١٠٥، ١٠٦ ] ولقوله :﴿ وبست الجبال بساً ٥ فكانت هباء منبثاً ﴾ [ الواقعة، ٥، ٦ ] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم التاء الفوقية وفتح الياء التحتية بعد السين على فعل ما لم يسم فاعله ورفع الجبال بإسناد تسير إليها كما في قوله تعالى :﴿ وإذا الجبال سيرت ﴾ [ التكوير، ٣ ] والباقون بالنون المضمومة وكسر الياء التحتية بعد السين بإسناد فعل التسيير إليه تعالى نفسه ونصب الجبال لكونه مفعول نسير والمعنى نحن نفعل بها ذلك اعتباراً بقوله تعالى :﴿ وحشرناهم ﴾ والمعنى واحد لأنها إذا سيرت فمسيرها ليس إلا اللّه تعالى.
النوع الثاني قوله تعالى :﴿ وترى الأرض ﴾ بكمالها ﴿ بارزة ﴾ لا غار فيها ولا صدع ولا جبل ولا نبت ولا شجر ولا ظل فبقيت بارزة ظاهرة ليس عليها ما يسترها وهو المراد من قوله تعالى :﴿ لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ﴾ [ طه، ١٠٦ ] وقيل : إنها أبرزت ما في بطنها وقذفت الموتى المقبورين فيها فإذا هي بارزة الجوف والبطن فحذف ذكر الجوف كما قال تعالى :﴿ وألقت ما فيها وتخلت ﴾ [ الانشقاق، ٤ ] وقال تعالى :﴿ وأخرجت الأرض أثقالها ﴾ [ الزلزلة، ٢ ].
النوع الثالث قوله تعالى :﴿ وحشرناهم ﴾ أي : الخلائق قهراً إلى الوقت الذي تنكشف فيه المخبآت وتظهر القبائح والمغيبات ويقع الحساب فيه على النقير والقطمير والناقد فيه بصير ﴿ فلم نغادر ﴾ أن نترك ﴿ منهم ﴾ أي : الأوّلين والآخرين ﴿ أحداً ﴾ لأنه لا ذهول ولا عجز، ونظيره قوله تعالى :﴿ قل إن الأولين والآخرين ٤٩ لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ﴾ [ الواقعة : ٤٩، ٥٠ ] فإن قيل : لم جيء فحشرناهم ماضياً بعد نسير وترى ؟ أجيب : بأن ذلك يقال للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال العظائم، كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك.
ولما ذكر تعالى حشرهم وكان من المعلوم أنه للعرض ذكر كيفية ذلك العرض فقال بانياً الفعل للمفعول على طريقة كلام القادرين ولأن المخوف العرض لا لكونه من معين :﴿ وعرضوا على ربك ﴾ المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك، وقوله تعالى :﴿ صفاً ﴾ حال أي : مصطفين واختلف في تفسيره على وجوه ؛ الأوّل : أن تعرض الخلق كلهم صفاً واحداً لاتساع الأرض ظاهرين لا يحجب بعضهم بعضاً، ثانيها : لا يبعد أن يكونوا صفاً يقف بعضهم وراء بعض مثل الصفوف المحيطة بالكعبة التي تكون بعضها خلف بعض وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى :﴿ صفاً ﴾ صفوفاً كقوله تعالى :﴿ يخرجكم طفلاً ﴾ [ غافر، ٦٧ ] أي : أطفالاً، ثالثها : المراد بالصف القيام كما في قوله تعالى :﴿ فاذكروا اسم اللّه عليها صواف ﴾ [ الحج، ٣٦ ] أي : قياماً وقيل : كل أمّة صف ويقال لهم :﴿ لقد جئتمونا كما خلقناكم أوّل مرّة ﴾ أي : فرادى حفاةً عراةً غرلاً وليس المراد حصول المساواة من كل وجه لأنهم خلقوا صغاراً ولا عقل لهم ولا تكليف عليهم بل المراد ما مرّ ويقال لمنكري البعث :﴿ بل زعمتم أن ﴾ أي : أنّا ﴿ لن نجعل لكم موعداً ﴾ أي : مكاناً ووقتاً نجمعكم فيه هذا الجمع فننجز لكم ما وعدناكم به على ألسنة رسلنا فكنتم مع التعزز على المؤمنين بالأموال والأنصار منكرين البعث والقيامة فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا وشاهدتم أن القيامة والبعث حق. وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : قام فينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال :«أيها الناس إنكم تحشرون إلى اللّه حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أوّل خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ألا وإن أوّل خلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح :﴿ وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ﴾ [ المائدة : ١١٧ ] إلى قوله :﴿ العزيز الحكيم ﴾ [ المائدة : ١١٨ ] قال : فيقال لي إنهم لم يزالوا مدبرين على أعقابهم منذ فارقتهم » وفي رواية فأقول :«سحقاً سحقاً » وقوله : غرلاً أي : قلفا الغرلة القلفة التي تنقطع من جلد الذكر وهو موضع الختان وقوله : سحقاً أي : بعداً. قال بعض العلماء : المراد بهؤلاء الذين ارتدوا من العرب بعده، وعن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول :«يحشر الناس حفاة عراة غرلاً، فقلت : الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض، فقال : الأمر أشدّ من أن يهمهم ذلك » زاد النسائي في رواية " لكم امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ". وعن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال : قال رسول اللّه :«يحشر الناس على ثلاث طوائف راغبين راهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا ».
﴿ ووضع ﴾ بعد العرض المستعقب للجمع بأدنى إشارة ﴿ الكتاب ﴾ المضبوط فيه دقائق الأعمال وجلائلها على وجه بيّن لا يخفي على قارئ ولا غيره شيء منه، فيوضع كتاب كل إنسان في يده، إما في اليمن وإما في الشمال والمراد الجنس وهو صحف الأعمال ﴿ فترى المجرمين مشفقين ﴾ أي : خائفين خوف العقاب من الحق وخوف الفضيحة من الخلق ﴿ مما فيه ﴾ من قبائح أعمالهم وسيء أفعالهم وأقوالهم ﴿ ويقولون ﴾ عند معاينتهم ما فيه من السيئات وقولهم ﴿ يا ﴾ للتنبيه ﴿ ويلتنا ﴾ أي : هلكتنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه كناية عن أنه لا نديم لهم إذ ذاك إلا الهلاك ﴿ مال هذا الكتاب ﴾ أي : أيّ شيء له حال كونه على غير حال الكتب في الدنيا ﴿ لا يغادر ﴾ أي : لا يترك ﴿ صغيرة ولا كبيرة ﴾ من ذنوبنا وقال ابن عباس الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة، وقال سعيد بن جبير الصغيرة اللمم والمسيس والقبلة والكبيرة الزنا ﴿ إلا أحصاها ﴾ أي : عدّها وأثبتها في هذا الكتاب، ونظيره قوله تعالى :﴿ وإنّ عليكم لحافظين ١٠ كراماً كاتبين ١١ يعلمون ما تفعلون ﴾ [ الانفطار : ١٠، ١١، ١٢ ] وقوله تعالى :﴿ إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ﴾ [ الجاثية، ٢٩ ].
تنبيه : إدخال التاء في الصغيرة والكبيرة على تقدير أنّ المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة، قال بعض العلماء : احتجبوا من الصغائر قبل الكبائر لأن الصغائر هي التي جرتهم إلى الكبائر واحترزوا من الصغائر حذراً من أن تقعوا في الكبائر، وعن سهل بن سعد قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :«إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء هذا بعود فطبخوا خبزهم وإن محقرات الذنوب لموبقات ﴿ ووجدوا ما عملوا حاضراً ﴾ أي : مثبتاً في كتابهم ﴿ ولا يظلم ربك ﴾ أي : الذي رباك بخلق القرآن ﴿ أحداً ﴾ منهم ولا من غيرهم في كتاب ولا عقاب ولا ثواب بل يجازي الأعداء بما يستحقونه تعذيباً لهم ويجازي أولياءه الذين عادوهم بما يستحقون تنعيماً لهم، روى الإمام أحمد في المسند عن جابر بن عبد اللّه أنه سافر إلى عبد اللّه بن أنيس مسيرة شهر يستأذن فاستأذن عليه قال : فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته قلت حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في القصاص فخشيت أن تموت قبل أن أسمعه فقال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول :«يحشر اللّه عز وجل الناس أو قال العباد حفاة عراة بهما قلت : وما بهما قال : ليس معهم شيء ثم ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عليه حق حتى أقتص منه حتى اللطمة، قال : فقلنا كيف وإنا نأتي حفاة عراة بهما قال : بالحسنات والسيئات » وروى الرازي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال :«يحاسب اللّه الناس في القيامة على ملة يوسف وأيوب وسليمان فيدعوا المملوك فيقال : ما شغلك عني فيقول : جعلتني عبداً لآدمي فلم يفرغني فيدعو يوسف فيقول : كان هذا عبداً مثلك فلم يمنعه ذلك أن عبدني فيؤمر به إلى النار ثم يدعو المبتلى، فإذا قال : شغلتني بالبلاء دعا أيوب فيقول : قد ابتليت هذا بأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك من عبادتي، ثم يؤتى بالملك في الدنيا مع ما آتاه اللّه تعالى من الغنى والسعة فيقول : ما عملت فيما آتيتك ؟ فيقول : شغلني الملك عن ذلك فيدعي سليمان فيقول : هذا عبدي آتيته أكثر مما آتيتك فلم يشغله ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك ويؤمر به إلى النار »، وعن معاذ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال :«لن يزول قدم العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ؛ عن جسده فيم أبلاه وعن عمره فيم أفناه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه كيف عمل به ».
ولما كان المقصود من ذكر الآيات المتقدمة الرد على القوم الذين افتخروا بأموالهم وأعوانهم على فقراء المسلمين وهذه الآية المذكورة في قوله تعالى :﴿ وإذ ﴾ أي : واذكر إذ ﴿ قلنا للملائكة ﴾ الذين هم أطوع شيء لأوامرنا المقصود من ذكرها عين هذا المعنى وذلك لأن إبليس إنما تكبر على آدم لأنه افتخر بأصله ونسبه وقال : خلقتني من نار وخلقته من طين وأنا أشرف منه في الأصل والنسب فكيف أسجد له وكيف أتواضع له، وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المسلمين بمعنى هذه المعاملة فقالوا : كيف نجالس هؤلاء الفقراء مع أنّا أناس من أنساب شريفة وهم من أنساب باذلة ونحن أغنياء وهم فقراء، ذكر اللّه تعالى هذه القصة تنبيهاً على أن هذه الطريقة هي نفسها طريقة إبليس حين أمره اللّه تعالى في جملة الملائكة بقوله تعالى :﴿ اسجدوا لآدم ﴾ سجود انحناء بلا وضع جبهة تحية له ﴿ فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ﴾ قيل : هم نوع من الملائكة فالاستثناء متصل، وقيل : هو منقطع وإبليس أبو الجن فله ذرّية ذكرت معه بعد، والملائكة لا ذرّية لهم وكرّرت هذه القصة لهذا المقصود المذكور. قال البيضاوي : وهكذا مذهب كل تكرير في القرآن أي : إنما يكرّر لمناسبة ذلك المحل الذي يذكر فيه ﴿ ففسق ﴾ أي : خرج بتركه السجود ﴿ عن أمر ربه ﴾ أي : سيده ومالكه المحسن إليه والفاء للسببية وفيه دليل على أنّ الملك لا يعصي البتة ورنما عصى إبليس لأنه كان خبيثاً في أصله والكلام المستقصى فيه تقدّم في سورة البقرة ثم أنه تعالى حذر عن أتباعه بقوله تعالى :﴿ أفتتخذونه ﴾ الخطاب لآدم وذريته والهاء هنا وفيما سيأتي لإبليس والهمزة للإنكار والتعجب أي : يفسق باستحقاركم فنطرده لأجلكم فيكون ذلك سبباً لأن تتخذوه ﴿ وذريته ﴾ شركاء لي ﴿ أولياء ﴾ لكم ﴿ من دوني ﴾ تطيعونهم بدل طاعتي وقوله تعالى :﴿ وهم لكم عدوّ ﴾ أي : أعداء حال ولما كان هذا الفعل أجدر شيء بالذم وصل به قوله تعالى :﴿ بئس للظالمين بدلاً ﴾ من اللّه إبليس وذريته، وكان الأصل لكم ولكنه أبرز الضمير ليعلق الفعل بالوصف لإفادة التعميم. روى مجاهد عن الشعبي قال : إني لقاعد يوماً إذ أقبل جمال فقال : أخبروني هل لإبليس زوجة قلت : إنّ ذلك لعرس ما شهدته ثم ذكرت قوله تعالى :﴿ أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ﴾ فعلمت أن لا تكون ذرّية إلا من زوجة فقلت : نعم وقال قتادة : يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، وقيل : إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض البيضة فتنفلق عن جماعة من الشياطين، قال مجاهد من ذرية إبليس لاقيس وولهان وهما صاحبا الطهارة والصلاة والهفاف ومرة وبه يكنى وزلنيور وهو صاحب الأسواق يزين اللغو والأيمان الكاذبة ومدح السلع ونبز وهو صاحب المصائب يزين خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب، والأعور وهو صاحب الزنا ينفخ في إحليل الرجل وعجز المرأة، ومطوس وهو صاحب الأخبار الكاذبة يلقيها في أفواه الناس لا يجدون لها أصلاً، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسم اللّه ولم يذكر اللّه دخل معه، وإذا أكل ولم يسم اللّه أكل معه، قال الأعمش : ربما دخلت البيت ولم أذكر اللّه ولم أسلم فرأيت مطهرة فقلت : ارفعوا وخاصمتهم ثم اذكر فأقول داسم داسم. وعن عثمان بن أبي العاص قال : قلت يا رسول اللّه إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليّ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :«ذلك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوّذ باللّه واتفل عن يسارك ثلاثاً قال ففعلت ذلك فأذهبه اللّه عني »، وعن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«للوضوء شيطان يقال له الولهان فاتقوا وساوس الماء »، وعن جابر قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا، فيقول : ما صنعت شيئاً قال : ثم يجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال : فيدنيه منه ويقول : نعم أنت »، قال الأعمش : أراه قال : فيلتزمه.
واختلفوا في عود الضمير في قوله تعالى :﴿ ما أشهدتهم ﴾ على وجوه ؛ أحدها وهو الذي ذهب إليه الأكثرون أن المعنى ما أشهدت الذين اتخذوهم أولياء ﴿ خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ﴾ أي : ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله تعالى :﴿ اقتلوا أنفسكم ﴾ [ النساء، ٦٦ ] نفى إحضار إبليس وذريته خلق السماوات والأرض وإحضار بعضهم خلق بعض ليدل على نفي الاعتضاد بهم في ذلك كما صرح به بقوله تعالى :﴿ وما كنت متخذ المضلين ﴾ أي : الذين يضلون الناس ووضع الظاهر موضع المضمر إظهاراً لإضلالهم وذمّاً لهم ﴿ عضداً ﴾ أي : أعواناً، وثانيها قال الرازي : وهو الأقوى عندي إن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء من عندك فلا تؤمن بك فكأنه تعالى قال : إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم قوم كسائر الخلق فلم أقدموا على الاقتراح الفاسد قال : والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات فالأقرب في هذه الآية هو أولئك الكفار وهو قوله تعالى :﴿ بئس للظالمين بدلاً ﴾ والمراد بالظالمين أولئك الكفار، وثالثها أن يكون المراد من قوله :﴿ ما أشهدتهم ﴾ إلى آخره دون هؤلاء الكفار جاهلين بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة والشقاوة فكأنه قيل لهم السعيد من حكم اللّه بسعادته والشقي من حكم اللّه بشقاوته في الأزل وأنتم غافلون عن أحوال الأزل فإنه تعالى قال :﴿ ما أشهدتهم ﴾ إلى آخره وإذا جهلتم هذه الحالة فكيف يمكنكم أن تحكموا لأنفسكم بالرفعة والعلوّ والكمال ولغيركم بالذل والدناءة بل ربما صار الأمر في الدنيا والآخرة على العكس مما حكمتم به.
ولما قرّر تعالى أن القول الذي قالوه في الافتخار على الفقراء اقتدوا فيه بإبليس عاد بعده إلى التهويل بأهوال القيامة فقال :﴿ ويوم ﴾ التقدير واذكر لهم يا محمد يوم عطفاً على قوله :﴿ وإذ قلنا للملائكة ﴾ ﴿ يقول ﴾ أي : اللّه يوم القيامة لهؤلاء الكفار تهكماً بهم وقرأ حمزة بالنون والباقون بالياء ﴿ نادوا شركائي ﴾ أي : ما عبد من دوني وقيل : إبليس وذرّيته ثم بيّن تعالى أن الإضافة ليست على حقيقتها بل توبيخ لهم فقال تعالى :﴿ الذين زعمتم ﴾ أنهم شركائي أو شفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي ﴿ فدعوهم ﴾ تمادياً في الجهل والضلال ﴿ فلم يستجيبوا لهم ﴾ أي : فلم يغيثوهم استهانة بهم واشتغالاً بأنفسهم فضلاً عن أن يعينوهم ﴿ وجعلنا بينهم ﴾ أي : المشركين والشركاء ﴿ موبقاً ﴾ أي : وادياً من أودية جهنم يهلكون فيه جميعاً، وهو من وبق بالفتح هلك، نقل ابن كثير عن عبد اللّه بن عمر أنه قال : هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلال، وقال الحسن البصري : عداوة أي : يؤل بهم إلى الهلاك والتلف كقول عمر رضي اللّه تعالى عنه : لا يكون حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً أي : لا يكن حبك يجر إلى الكلف ولا بغضك يجر إلى التلف، وقيل : الموبق البرزخ البعيد أي : وجعلنا بين هؤلاء الكفار وبين الملائكة وعيسى برزخاً بعيداً يهلك فيه الساري لفرط بعده لأنهم في قعر جهم وهم في أعلى الجنان.
ولما قرر سبحانه وتعالى ما لهم مع شركائهم ذكر حالهم في استمرار جهلهم فقال تعالى :﴿ ورأى المجرمون ﴾ أي : العريقون في الإجرام ﴿ النار ﴾ من مكان بعيد ﴿ فظنوا ﴾ ظناً ﴿ أنهم مواقعوها ﴾ أي : مخالطوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة لشدّة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها كما قال تعالى :﴿ إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً ﴾ [ الفرقان، ١٢ ] فإن مخالطة الشيء لغيره إذا كانت قوية تامّة يقال لها : مواقعة ﴿ ولم ﴾ أي : والحال أنهم لم ﴿ يجدوا عنها مصرفاً ﴾ أي : مكاناً ينصرفون إليه لأن الملائكة تسوقهم إليها والموضع موضع التحقق ولكن ظنهم جرياً على عادتهم في الجهل كما قالوا :﴿ اتخذوا اللّه ولداً ﴾ بغير علم ﴿ وما أظن أن تبيد هذه أبداً ﴾ ﴿ وما أظن الساعة قائمة ﴾ إن نظنّ إلا ظناً وما نحن بمستيقنين مع قيام الأدلة التي لا شك فيها، وقيل : الظن هنا بمعنى العلم واليقين.
ولما افتخر هؤلاء الكفار على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم وبيّن اللّه تعالى الوجوه الكثيرة أن قولهم فاسد وشبههم باطلة ذكر فيه المثلين المتقدّمين ثم قال بعده :﴿ ولقد صرّفنا ﴾ وأظهر نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم الدال وأدغمها الباقون ﴿ في هذا القرآن ﴾ أي : القيم الذي لا عوج فيه مع جمعه للمعاني ﴿ للناس ﴾ أي : المزلزلين والثابتين وقوله :﴿ من كل مثل ﴾ صفة لمحذوف أي : مثلاً من جنس كل مثل ليتعظوا أو أنّا حولنا الكلام وصرّفناه في كل وجه من وجوه المعاني وألبسناه من العبارات الرائقة والأساليب المتناسقة ما صار بها في غرابته كالمثل يقبله كل من سمعه وتضرب به آباط الأبل في سائر البلاد بين العباد فتسر به قلوبهم وتلهج به ألسنتهم فلم يقبلوه ولم يتركوا المجادلة الباطلة كما قال تعالى :﴿ وكان الإنسان أكثر شيء ﴾ يتأتى منه الجدال وميز الأكثرية بقوله تعالى :﴿ جدلاً ﴾ أي : خصومة، قال بعض المحققين والآية دالة على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جادلوهم في الدين لأنّ المجادلة لا تحصل إلا من الطرفين ولهذا قيل : أراد بالإنسان الكافر، وقيل الآية على العموم، قال ابن الخازن : وهو الأصح وكذا قال البغوي فعن عليّ رضي اللّه تعالى عنه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورضي اللّه تعالى عنها ليلة فقال : ألا تصليان ؟ فقلت : يا رسول اللّه أنفسنا بيد اللّه فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول :﴿ وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً ﴾ وقال ابن عباس : أراد النضر بن الحارث وجداًله في القرآن، وقال الكلبي : أراد به خلفاً الجمحي.
ولما بيّن سبحانه وتعالى إعراضهم بيّن موجبه عندهم فقال تعالى :﴿ وما منع الناس ﴾ أي : الذين جادلوا بالباطل الإيمان هكذا كان الأصل ولكنه عبر عن هذا المفعول الثاني بقوله :﴿ أن يؤمنوا ﴾ ليفيد التجديد وذمّهم على الترك ﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ جاءهم الهدى ﴾ أي : القرآن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وعطف على المفعول الثاني معبراً بمثل ما مضى لما مضى قوله تعالى :﴿ ويستغفروا ربهم ﴾ أي : لا مانع لهم من الإيمان ولا من الاستغفار والتوبة.
ولما كان الاستثناء مفرغاً أتى بالفاعل فقال :﴿ إلا أن ﴾ أي : طلب أن ﴿ تأتيهم سنة الأوّلين ﴾ أي : سنتنا فيهم وهي الإهلاك المقدّر عليهم ﴿ أو ﴾ طلب أن ﴿ يأتيهم العذاب قبلاً ﴾ أي : مقابلة وعياناً وهو القتل يوم بدر، وقيل عذاب الآخرة وقرأ الكوفيون برفع القاف والباء الموحدة والباقون بكسر القاف وفتح الباء الموحدة.
ولما كان ذلك ليس إلى الرسول وإنما هو إلى اللّه تعالى نبه بقوله تعالى :﴿ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ﴾ بالثواب على أفعال الطاعة ﴿ ومنذرين ﴾ بالعقاب على أفعال المعصية فيطلب منهم الظالمون من أممهم ما ليس إليهم ﴿ ويجادل الذين كفروا ﴾ أي : يجدّدون الجدال كلما أتاهم أمر من قبلنا ﴿ بالباطل ﴾ من قولهم :﴿ ما أنتم إلا بشر مثلنا ﴾ [ يس، ١٥ ] ولو كنتم صادقين لأتيتم بما يطلب منكم مع أن ذلك ليس كذلك إذ ليس لأحد غير اللّه من الأمر شيء ﴿ ليدحضوا به ﴾ أي : ليبطلوا بجدالهم ﴿ الحق ﴾ أي : القرآن والمعجزات المثبتة لصدقهم ﴿ واتخذوا آياتي ﴾ أي : القرآن ﴿ وما أنذروا ﴾ أي : وإنذارهم أو والذي أنذروا به من العقاب ﴿ هزوا ﴾ أي : استهزاء وقرأ حفص بالواو وقفاً ووصلاً وحمزة بالواو ووقفاً لا وصلاً وسكن الزاي حمزة ورفعها الباقون ولحمزة في الوقف أيضاً النقل.
ولما حكى اللّه تعالى عن الكفار أحوالهم الخبيثة وصفهم بما يوجب الخزي بقوله تعالى :﴿ ومن أظلم ﴾ أي : لا أحد أظلم وهو استفهام على سبيل التقرير ﴿ ممن ذكر بآيات ربه ﴾ أي : المحسن إليه بها وهي القرآن ﴿ فأعرض عنها ﴾ تاركاً لما يعرف من تلك العلامات العجيبة وما يوجب ذلك الإحسان من الشاكر ﴿ ونسي ما قدّمت يداه ﴾ من الكفر والمعاصي فلم يتفكر في عاقبتها ثم علل تعالى ذلك الإعراض بقوله تعالى :﴿ إنا جعلنا على قلوبهم ﴾ فجمع رجوعاً إلى أسلوب ﴿ واتخذوا آياتي ﴾ لأنه أنص على ذم كل واحد ﴿ أكنة ﴾ أي : أغطية مستعلية عليها استعلاء يدل سياق العظمة على أنه لا يدع شيئاً من الخير يصل إليها فهي لا تعي شيئاً من آياتنا، ودلّ تذكير الضمير وإفراده على أنّ المراد بالآيات القرآن فقال :﴿ أن ﴾ أي : كراهة أن ﴿ يفقهوه ﴾ أي : يفهموه ﴿ وفي آذانهم وقراً ﴾ أي : ثقلاً فهم لا يسمعون حق السمع ولا يعون حق الوعي ﴿ وإن تدعهم ﴾ أي : تكرّر دعاءهم كل وقت ﴿ إلى الهدى ﴾ لتنجيهم بما عندك من الحرص والجد على ذلك ﴿ فلن يهتدوا ﴾ أي : بسبب دعائك ﴿ إذا ﴾ أي : إذا دعوتهم ﴿ أبداً ﴾ لأن اللّه تعالى حكم عليهم بالضلال فلا يقع منهم إيمان.
ثم قال تعالى :﴿ وربك ﴾ مشيراً بهذا الاسم إلى ما اقتضاه حال الوصف من الإحسان ﴿ الغفور ﴾ أي : البليغ المغفرة الذي يستر الذنوب إمّا بمحوها وإما بالحلم عنها إلى وقت آخر ﴿ ذو الرحمة ﴾ أي : الموصوف بالرحمة الذي يعامل وهو قادر مع موجبات الغضب معاملة الراحم بالإكرام، ثم استشهد تعالى على ذلك بقوله تعالى :﴿ لو يؤاخذهم ﴾ أي : هؤلاء الذين عادوك وهو عالم أنهم لا يؤمنون أو يعاملهم معاملة المؤاخذة ﴿ بما كسبوا ﴾ من الذنوب ﴿ لعجل لهم العذاب ﴾ أي : في الدنيا ﴿ بل لهم موعد ﴾ وهو إمّا يوم القيامة وإمّا في الدنيا وهو يوم بدر وسائر أيام الفتح ﴿ لن يجدوا من دونه ﴾ أي : الموعد ﴿ موئلاً ﴾ أي : ملجأ ينجيهم منه فإذا جاء موعدهم أهلكناهم فيه بأوّل ظلمهم وآخره.
وقوله تعالى :﴿ وتلك ﴾ مبتدأ وقوله تعالى :﴿ القرى ﴾ أي : الماضية من عاد وثمود ومدين وقوم لوط وأشكالهم صفته لأنّ أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس والخبر ﴿ أهلكناهم ﴾ والمعنى وتلك أصحاب القرى أهلكناهم ﴿ لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً ﴾ أي : وقتاً معلوماً لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، وقرأ شعبة بفتح الميم واللام أي : لهلاكهم، وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام والباقون بضم الميم وفتح اللام أي : لإهلاكهم، ثم عطف سبحانه وتعالى على قوله تعالى :﴿ وإذ قلنا للملائكة ﴾ [ الكهف، ٥٠ ].
﴿ وإذ ﴾ أي : واذكر لهم حين ﴿ قال موسى لفتاه ﴾ يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف عليهم الصلاة والسلام وإنما قال فتاه لأنه كان يخدمه ويتبعه، وقيل : كان يأخذ منه العلم وقيل فتاه عبده، وفي الحديث :«ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي ».
تنبيه : أكثر العلماء على أن موسى المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران صاحب المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة، وعن كعب الأحبار أنه موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب وهو قد كان نبياً قبل موسى بن عمران، قال البغوي : والأول أصح واحتج له القفال بأن اللّه تعالى لم يذكر في كتابه موسى إلا أراد به صاحب التوراة فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه، ولو كان المراد شخصاً آخر يسمى موسى غيره لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز وإزالة الشبهة كما أنه لما كان المشهور في العرف عن أبي حنيفة هذا الرجل المعين، فلو ذكرنا هذا الاسم وأردنا به رجلاً سواه لقيدناه مثل أن نقول : قال أبو حنيفة الدينوري.
وعن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، فقال ابن عباس : كذب عدوّ اللّه ونوف البكالي هو نوف بن فضالة الحميريّ الشامي البكالي، ويقال : إنه دمشقي وكانت أمه زوجة كعب الأحبار نقله ابن كثير، وحجة الذين قالوا : موسى هذا غير صاحب التوراة أنه يقال بعد أن أنزل عليه التوراة وكلمه بلا واسطة وخصه بالمعجزات الباهرة العظيمة التي لم يتفق مثلها لأكبر أكابر الأنبياء يبعد أن يبعثه بعد ذلك إلى التعلم والاستفادة وأجيب : بأنه لا يبعد أن يكون العالم الكامل في كثرة العلوم يجهل بعض العلوم فيحتاج في تعلمها إلى من هو دونه وهو أمر متعارف.
روى البخاري حديث أن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي : الناس أعلم قال : أنا فعتب اللّه تعالى عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى اللّه تعالى إليه أنّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك قال : يا رب فكيف لي به قال : تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم قال :﴿ لا أبرح ﴾ أي : لا أزال أسير في طلب العبد الذي أعلمني ربي بفضله ﴿ حتى أبلغ مجمع البحرين ﴾ أي : ملتقى بحر الروم وبحر فارس مما يلي الشرق قاله قتادة أي : المكان الجامع لذلك فألقاه هناك ﴿ أو أمضي حقباً ﴾ أي : دهراً طويلاً في بلوغه إن لم أظفر به بمجمع البحرين الذي جعله ربي موعد إليّ في لقائه والحقب، قال في «القاموس » ثمانون سنة أو أكثر والدهر والسنة والسنون انتهى فسارا وتزوّدا حوتاً مشوياً في مكتل كما أمر به فكانا يأكلان منه إلى أن بلغا المجمع كما قال تعالى :﴿ فلما بلغا مجمع بينهما ﴾.
﴿ فلما بلغا مجمع بينهما ﴾ أي : بين البحرين قال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني وناما واضطرب الحوت في المكتل وخرج وسقط في البحر فلما استيقظا ﴿ نسيا حوتهما ﴾ أي : نسي يوشع حمله عند الرحيل ونسي موسى عليه السلام تذكيره وقيل : الناسي يوشع فقط وهو على حذف مضاف أي : نسي أحدهما كقوله تعالى :﴿ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ﴾ [ الرحمن، ٢٢ ] ﴿ فاتخذ ﴾ الحوت ﴿ سبيله في البحر ﴾ أي : جعله بجعل اللّه ﴿ سرباً ﴾ أي : مثل السرب وهو الشق الطويل لا نفاذ له وذلك أنّ اللّه تعالى أمسك عن الحوت جري الماء فانجاب عنه فبقي كالكوة لم يلتئم وجمد ما تحته، وقد ورد في حديثه في الصحيح أنّ اللّه تعالى أحياه وأمسك عن موضع جريه في الماء فصار طاقاً لا يلتئم وكأنّ المجمع كان ممتداً فظن عليه السلام أنّ المطلوب أمامه أو ظنّ المراد مجمع البحرين آخراً فسارا.
﴿ فلما جاوزا ﴾ ذلك المكان بالسير بقية يومهما وليلتهما واستمرّا إلى وقت الغداء من ثاني يوم ﴿ قال ﴾ موسى عليه السلام ﴿ لفتاه آتنا ﴾ أي : أحضر لنا ﴿ غداءنا ﴾ وهو ما يؤكل أوّل النهار لنقوى به على ما حصل لنا من الإعياء ولذلك وصل به قوله :﴿ لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ﴾ أي : تعباً ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره اللّه تعالى به فقوله هذا إشارة إلى السفر الذي وقع بعد مجاوزتهما الموعد أو مجمع البحرين ونصبا مفعول بلقينا.
﴿ قال ﴾ له فتاه ﴿ أرأيت ﴾ أي : ما دهاني وقرأ نافع بتسهيل الهمزة التي هي عين الكلمة ولورش وجه آخر وهو إبدالها حرف مدّ وأسقطها الكسائي والباقون بالتحقيق ﴿ إذ أوينا إلى الصخرة ﴾ التي بمجمع البحرين ﴿ فإني نسيت الحوت ﴾ أي : نسيت أن أذكر لك أمره ثم علل عدم ذكره بقوله :﴿ وما أنسانيه إلا الشيطان ﴾ بوسواسه، وقرأ حفص بضم الهاء وأمال الألف الكسائي محضة وورش بين بين وبالفتح والباقون بالفتح وقوله :﴿ أن أذكره ﴾ لك في محل نصب على البدل من هاء أنسانيه بدل اشتمال أي : أنساني ذكره ﴿ واتخذ سبيله ﴾ أي : طريقه الذي ذهب فيه ﴿ في البحر عجباً ﴾ وهو كونه كالسرب معجزة لموسى أو الخضر وذكره له الآن مانع من أن يكون للشيطان عليه سلطان على أن هذا النسيان ليس مفوتاً لطاعة بل فيه ترقية لهما في معراج المقامات العالية لوجدان التعب بعد المكان الذي فيه البغية وحفظ الماء منجاباً على طول الزمان وغير ذلك من الآيات الظاهرة وقوله تعالى :﴿ إنما سلطانه على الذين يتولونه ﴾ [ النحل، ١٠٠ ] مبين، أن السلطان الحمل على المعاصي وقوله :﴿ وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ﴾ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وقد كان في هذه القصة خوارق منها حياة الحوت ومنها إيجاد ما كان أكل منه ومنها إمساك الماء عن مدخله وقد اتفق لنبينا صلى الله عليه وسلم نفسه وأتباعه ببركته مثل ذلك، أمّا إعادة ما أكل من الحوت المشوي وهو جنبه، فقد روى البيهقي في أواخر دلائل النبوّة عن أسامة بن زيد رضي اللّه تعالى عنه «أنه صلى الله عليه وسلم أتي بشاة مشوية فقال لبعض أصحابه :«ناولني ذراعها » وكان أحب الشاة إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقدّمها ثم قال :«ناولني ذراعها » فناوله ثم قال :«ناولني ذراعها » فقال : يا رسول اللّه إنما هما ذراعان وقد ناولتك فقال صلى الله عليه وسلم :«والذي نفسي بيده لو سكت ما زلت تناولني ذراعاً ما قلت لك ناولني ذراعاً » فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لو سكت أوجد اللّه تعالى ذراعاً ثم ذراعاً وهكذا، وأمّا حياة الحوت المشوي ففي قصة الشاة المشوية المسمومة أنّ ذراعها أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسموم فهذا أعظم من عود الحياة من غير نطق وكذا حنين الجذع وتسليم الحجر وتسبيح الحصى ونحو ذلك أعظم من عود الحياة إلى ما كان حياً.
وروى البيهقي في «الدلائل » عن عمرو بن سواد قال : قال الشافعي : ما أعطى اللّه تعالى نبياً ما أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم قلت : أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى، فقال : أعطى محمد صلى الله عليه وسلم إحياء الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حين هيئ له المنبر وحنّ الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك انتهى، وقد ورد أشياء كثيرة من إحياء الموتى له صلى الله عليه وسلم ولبعض أمّته، وروي عن أنس رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : كنا في الصفة عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأتته امرأة ومعها ابن لها فأضاف المرأة إلى النساء وأضاف ابنها إلينا فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياماً ثم قبض فغمضه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بجهازه فلما أردنا أن نغسله قال :«ائت أمّه فأعلمها » فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ثم قالت : اللهم إني أسلمت لك تطوّعاً وخلعت الأوثان زهداً وهاجرت إليك رغبة، اللهم لا تشمت بي عبدة الأوثان ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها، قال : فواللّه ما انقضى كلام المرأة حتى حرّك قدميه وألقى الثوب عن وجهه وعاش حتى قبض اللّه رسول صلى الله عليه وسلم وحتى هلكت أمّه، وأمّا آية الماء فمرجعها إلى صلابته ولا فرق بين جموده بعدم الالتئام بعد الانخراق وبين جموده وصلابته بالامتناع من الانخراق، وقد جهز عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه جيشاً واستعمل عليه العلاء بن الحضرمي فحصل لهم حرّ شديد وجهدهم العطش، قال بعض الجيش : فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين ثم مدّ يده وما نرى في السماء شيئاً فواللّه ما حط يده حتى بعث اللّه تعالى ريحاً وأنشأ سحاباً فأفرغت حتى ملأت القدور والشعاب فشربنا وسقينا واستقينا ثم أتينا عدوّنا وقد جاوزنا خليجاً في البحر إلى جزيرة فوقف على الخليج وقال :«يا عليّ يا عظيم يا حليم يا كريم » ثم قال :«أجيزوا بسم اللّه » فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا فأصبنا العدوّ عليه فقتلنا وأسرنا وسبينا ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته فأجزنا وما بل الماء حوافر دوابنا والأخبار في ذلك كثيرة.
ولما قال فتاه ذلك كأنه قيل فما قال موسى عليه السلام حينئذٍ ؟ ﴿ قال ﴾ له ﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم من فقد الحوت ﴿ ما كنا نبغ ﴾ أي : نريد من هذا الأمر المغيب عنا فإن اللّه تعالى جعله موعداً في لقاء الخضر، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء وصلا لا وقفاً وابن كثير يثبتها وصلاً ووقفاً والباقون بالحذف ﴿ فارتدّا على آثارهما ﴾ أي : فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه يقصانها ﴿ قصصاً ﴾ أي : يتبعان أثرهما إتباعاً أو مقتصين حتى يأتيا الصخرة، قال البقاعي : يدل على أنّ الأرض كانت رملاً لا علم فيها فالظاهر واللّه أعلم أنه مجمع النيل والملح عند دمياط أو رشيد من بلاد مصر ويؤيده نقر العصفور في البحر الذي ركب في سفينته للتعدية كما في الحديث، فإن الطير لا يشرب من الملح ومن المشهور في بلاد رشيد أنّ الأمر كان عندهم وأن عندهم سمكاً ذاهب الشق يقولون : إنه من نسل تلك السمكة واللّه أعلم انتهى. وتقدم عن قتادة أنه ملتقى بحر فارس والروم، وقال محمد بن كعب طنجة، وقال أبيّ بن كعب : إفريقية، وقيل : البحران موسى والخضر لأنهما كانا بحري علم، قال ابن عادل : وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين فإن صح في الخبر الصحيح شيء فذاك وإلا فالأولى السكوت عنه انتهى. ثم استمرا يقصان حتى انتهيا إلى موضع فقد الحوت.
﴿ فوجدا عبداً من عبادنا ﴾ مضافاً إلى حضرة عظمتنا قيل : كان ملكاً من الملائكة والصحيح الذي جاء في التواريخ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان وكنيته أبو العباس، قيل : كان من بني إسرائيل وقيل : من أبناء الملوك الذين تنزهوا وتركوا الدنيا، والخضر لقب سمي بذلك لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء والفروة قطعة نبات مجتمعة يابسة، وقيل : سمي خضراً لأنه كان إذا صلى اخضرّ ما حوله، روي أن موسى عليه السلام رأى الخضر مسجى موكأ فسلم عليه فقال الخضر : وأني بأرضك السلام، قال : أنا موسى أتيتك تعلمني مما علمت رشداً، وفي رواية لقيه وهو مسجى بثوب مستلقياً على قفاه بعض الثوب تحت رأسه وبعضه تحت رجليه، وفي رواية لقيه وهو يصلي، ويروى لقيه وهو على طنفسة خضراء على كبد البحر، وروي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال : السلام عليك، فقال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى : ما عرّفك هذا ؟ فقال : الذي بعثك إليّ، وكان الخضر في أيام أفريدون وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى، وقيل : إن موسى سأل ربه أيّ عبادك أحب إليك ؟ قال :«الذي يذكرني ولا ينساني »، قال : فأي عبادك أقضى ؟ قال :«الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى » فقال : فأي عبادك أعلم ؟ قال :«الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى »، فقال : إن كان في عبادك أفضل مني فادللني عليه قال : أعلم منك الخضر، قال : أين أطلبه ؟ قال : على ساحل عند الصخرة، قال كيف لي به ؟ قال : تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك ﴿ آتيناه ﴾ بعظمتنا ﴿ رحمة من عندنا ﴾ أي : وحياً ونبوة وكونه نبياً هو قول الجمهور، وقيل : إنه ليس بنبي. قال البغوي : عند أهل العلم أي : فعندهم أنه وليّ ﴿ وعلمناه من لدنا ﴾ أي : مما لم يجر على قوانين العادات على أنه ليس بمستغرب عند أهل الاصطفاء ﴿ علماً ﴾ قذفناه في قلبه بغير واسطة، وأهل التصوّف سموا العلم بطريق المكاشفة العلم اللدني فإذا سعى العبد في الرياضات بتزين الظاهر بالعبادات وتخلي النفس عن العلائق وعن الأخلاق الرذيلة بتحليتها بالأخلاق الجميلة صارت القوى الحسية والخيالية ضعيفة فإذا ضعفت قويت القوى العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية في جوهرة العقل وحصلت المعارف وكملت العلوم من غير واسطة سعي وطلب في التفكر والتأمّل وهذا هو المسمى بالعلوم اللدنية، ثم أورد سبحانه وتعالى القصة على طريق الاستئناف على تقدير سؤال سائل عن كل كلام يرشد إليه ما قبله وذلك أنه من المعلوم أنّ الطالب للشخص إذا لقيه كمله لكن لا يعرف عين ذلك الكلام فقال : لمن ؟ كأنه سأل عن ذلك
﴿ قال له موسى ﴾ طالباً منه على سبيل التأدّب والتلطف بإظهار ذلك في قالب الاستئذان ﴿ هل أتبعك ﴾ أي : اتباعاً بليغاً حيث توجهت والاتباع الإتيان بمثل فعل الغير لمجرّد كونه آتياً به وبين أنه لا يطلب منه غير العلم بقوله :﴿ على أن تعلمني ﴾ أثبت الياء نافع وأبو عمرو وصلاً لا وقفاً وابن كثير وصلاً ووقفاً والباقون بالحذف وزاد في التعطف بالإشارة إلى أنه لا يطلب جميع ما عنده ليطول عليه الزمان بل جوامع منه يسترشد بها إلى باقيه فقال :﴿ مما علمت ﴾ وبناه للمفعول لعلم المتخاطبين لكونهما من المخلصين بأن الفاعل هو اللّه تعالى وللإشارة إلى سهولة كل أمر إلى اللّه تعالى ﴿ رشداً ﴾ أي : علماً يرشدني إلى الصواب فيما أقصده، وقرأ أبو عمرو بفتح الراء والشين والباقون بضم الراء وسكون الشين.
ولما أتم موسى العبارة عن السؤال :﴿ قال ﴾ له الخضر عليه السلام ﴿ إنك ﴾ يا موسى ﴿ لن تستطيع معي صبراً ﴾ نفى عنه استطاعة الصبر معه على وجوه من التأكيد كأنها لا تصح ولا تستقيم وفتح الياء من معي صبراً في المواضع الثلاثة هنا حفص وسكنها الباقون ثم علل عدم الصبر معه واعتذر عنه بقوله :﴿ وكيف تصبر ﴾.
﴿ وكيف تصبر ﴾ يا موسى ﴿ على ما لم تحط به خبراً ﴾ أي : وكيف تصبر على أمور وأنت نبيّ ظاهرها مناكير والرجل الصالح لا يتمالك أن يصبر إذا رأى ذلك بل يبادر ويأخذ في الإنكار وخبراً مصدر لمعنى لم تحط به أي : لم تخبر حقيقته.
﴿ قال ﴾ له موسى عليه السلام آتياً بنهاية التواضع لمن هو أعلم منه إرشاداً لما ينبغي في طلب العلم رجاء تسهيل اللّه تعالى له النفع به ﴿ ستجدني ﴾ فأكد الوعد بالسين ثم أخبر تعالى أنه قوّي تأكيده بالتبرك بذكر الله تعالى لعلمه بصعوبة الأمر على الوجه الذي تقدّم الحق عليه في هذه السورة في قوله تعالى :﴿ ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء اللّه ﴾ ليعلم أنه منهاج الأنبياء فقال :﴿ إن شاء اللّه ﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿ صابراً ﴾ على ما يجوز الصبر عليه ثم زاد التأكيد بقوله : عطفاً بالواو على صابراً لبيان التمكن في كل من الموضعين ﴿ ولا أعصي ﴾ أي : وغير عاص ﴿ لك أمراً ﴾ تأمرني به غير مخالف لظاهر أمر اللّه تعالى.
تنبيه : دلت هذه الآية الكريمة على أنّ موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر، منها أنه جعل نفسه تبعاً له بقوله :﴿ هل أتبعك ﴾ ومنها أنه استأذن في إثبات هذه التبعية كأنه قال : هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك ؟ وهذه مبالغة عظيمة في التواضع، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم :﴿ على أن تعلمني ﴾ وهذا إقرار منه على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم، ومنها قوله :﴿ مما علمت ﴾ وصيغة من للتبعيض وطلب منه تعليم بعض ما علم، وهذا أيضاً إقرار بالتواضع كأنه يقول : لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً لك في العلم بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من أجزاء ما علمت، ومنها أن قوله :﴿ مما علمت ﴾ اعتراف منه بأن اللّه تعالى علمه ذلك العلم، ومنها قوله :﴿ رشداً ﴾ طلب منه الإرشاد والهداية، ومنها قوله :﴿ ستجدني إن شاء اللّه صابراً ولا أعصي لك أمراً ﴾، ومنها أنه ثبت بالأخبار أن الخضر عرف أولاً أن موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه اللّه من غير واسطة وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع، وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أبواب المبالغة في التواضع وذلك يدل على أن هذا هو اللائق به، لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم التي علم ما فيها من البهجة والسعادة أكثر كان طلبه لها أشدّ، فكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأرشد، وكل ذلك يدل على أنّ الواجب على المتعلم إظهار التواضع بكل الغايات، وأمّا المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيد نفعاً وإرشاداً إلى الخير فالواجب عليه ذكره فإنّ السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور وذلك يمنعه من التعلم. وروي أن موسى لما قال :﴿ هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً ﴾ قال له الخضر : كفى بالتوراة علماً وببني إسرائيل شغلاً، فقال له موسى : اللّه أمرني بهذا.
﴿ قال ﴾ له الخضر :﴿ فإن اتبعتني ﴾ أي : صحبتني ولم يقل اتبعني ولكن جعل الاختيار إليه إلا أنه شرط عليه شرطاً فقال :﴿ فلا تسألني عن شيء ﴾ أقوله أو أفعله ﴿ حتى أحدث لك ﴾ خاصة ﴿ منه ذكراً ﴾ أي : حتى أبدأك بوجه صوابه فإني لا أقدم على شيء إلا وهو صواب جائز في نفس الأمر، وإن كان ظاهره غير ذلك فقبل موسى شرطه رعاية لأدب المتعلم من العالم،
ولما تشارطا وتراضيا على الشرط تسبب عن ذلك قوله تعالى :﴿ فانطلقا ﴾. أي : موسى والخضر عليهما السلام على الساحل فانتهيا إلى موضع احتاجا فيه إلى ركوب السفينة فما زالا يطلبان سفينة يركبان فيها واستمرّا ﴿ حتى إذا ركبا في السفينة ﴾ التي مرت بهما وأجاب الشرط بقوله :﴿ خرقها ﴾ أي : أخذ الخضر فأساً فخرق السفينة بأن قلع لوحاً أو لوحين من ألواحها من جهة البحر لما بلغت اللجة ولم يقترن خرق بالفاء لأنه لم يكن مسبباً عن الركوب، ثم استأنف قوله :﴿ قال ﴾ أي : موسى عليه السلام منكراً لذلك لما في ظاهره من الفساد بإتلاف المال المفضي إلى فساد أكبر منه بإهلاك النفوس ناسياً لما عقد على نفسه على أنه لو لم ينسَ لم يترك الإنكار كما فعل عند قتل الغلام لأن مثل ذلك غير داخل في الوعد، لأنّ المستثنى شرعاً كالمستثنى وضعاً ﴿ أخرقتها ﴾ وبين عذره في الإنكار لما في غاية الخرق من الفظاعة فقال :﴿ لتغرق أهلها ﴾ فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها المفضي إلى غرق أهلها، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية مفتوحة وفتح الراء ورفع اللام من أهلها والباقون بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الراء ونصب لام أهلها، ثم قال له موسى : واللّه ﴿ لقد جئت شيئاً أمراً ﴾ أي : عظيماً منكراً.
﴿ قال ﴾ الخضر :﴿ ألم أقل إنك ﴾ يا موسى ﴿ لن تستطيع معي صبراً ﴾ فذكره بما قال له عند الشرط.
﴿ قال ﴾ موسى :﴿ لا تؤاخذني ﴾ يا خضر ﴿ بما نسيت ﴾ أي : غفلت عن التسليم لك وترك الإنكار عليك، قال ابن عباس : إنه لم ينس ولكنه من معاريض الكلام أي : وهي التورية بالشيء عن الشيء، وفي المثل :" إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب "، أي : سعة فكأنه نسي شيئاً آخر وقيل معناه بما تركت من عهدك والنسيان الترك. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«كانت الأولى من موسى نسياناً والوسطى شرطاً والثالثة عمداً » ﴿ ولا ترهقني من أمري عسراً ﴾ أي : لا تكلفني مشقة يقال : أرهقه عسراً وأرهقته عسراً أي : كلفته ذلك، يقول : لا تضيق علي أمري ولا تعسر متابعتك علي ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة وعاملني باليسر ولا تعاملني بالعسر، وعسراً مفعول ثان لترهقني من أرهقه كذا إذا حمله إياه وغشاه به وما في ﴿ بما نسيت ﴾ مصدرية أو بمعنى الذي والعائد محذوف. وروي أن الخضر لما خرق السفينة لم يدخلها الماء، وروي أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فحشا به الخرق، وروي أن الخضر أخذ قدحاً من زجاج ورقع به خرق السفينة فإن قيل : قول موسى عليه السلام أخرقتها لتغرق أهلها إن كان صادقاً في هذا دل ذلك على صدور ذنب عظيم من الخضر إن كان نبياً، وإن كان كاذباً دل ذلك على صدور الذنب من موسى وأيضاً فقد التزم موسى أن لا يعترض عليه وجرت العهود المذكورة بذلك ثم إنه خالف تلك العهود وذلك ذنب أجيب : بأن كلاً منهما صادق فيما قال موف بحسب ما عنده، أما موسى عليه السلام فإنه ما خطر له قط أن يعاهد على أن لا ينهى بما يعتقده منكراً، وأما الخضر فإنه عقد على ما في نفس الأمر أنه لا يقدم على منكر.
﴿ فانطلقا ﴾ بعد نزولهما من السفينة وسلامتهما من الغرق والعطب ﴿ حتى إذا لقيا غلاماً ﴾ قال ابن عباس : لم يبلغ الحنث ﴿ فقتله ﴾ حين لقيه كما دلت عليه الفاء العاطفة على الشرط، قال البغوي في القصة : إنهما خرجا من البحر يمشيان فمرّ بغلمان يلعبون فأخذ غلاماً ظريفاً وضيء الوجه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، قال السدي : كان أحسنهم وجهاً كان وجهه يتوقد حسناً، قال البغوي : وروينا أنه أخذ رأسه فاقتلعه بيده، وروى عبد الرزاق هذا الخبر وأشار بيده بأصابعه الثلاثة الإبهام والسبابة والوسطى وقلع رأسه، وروي أنه رضخ رأسه بالحجارة، وقيل : ضرب رأسه بالجدار فقتله وكونه لم يبلغ الحنث هو قول الأكثرين. وقال الحسن : كان رجلاً، قال شعيب الحياني : وكان اسمه جيسور، وقال الكلبي : كان فتى يقطع الطريق ويأخذ المتاع ويلتجئ إلى أبويه، وقال الضحاك : كان غلاماً يعمل بالفساد ويتأذى منه أبواه، وعن أبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً ». قال الرازي : وليس في القرآن كيف لقياه، هل كان يلعب مع جمع من الغلمان أو كان منفرداً ؟ وهل كان مسلماً أو كافراً ؟ وهل كان بالغاً أو صغيراً ؟ وكان اسم الغلام بالصغير أليق وإن احتمل الكبير إلا أن قوله :﴿ بغير نفس ﴾ أليق بالبالغ منه بالصبيّ لأن الصبي لا يقتل وإن قتل، قال البقاعي : إلا أن يكون شرعهم لا يشترط البلوغ، وقال ابن عباس : ولم يكن نبي اللّه يقول : أقتلت نفساً زاكية بغير نفس إلا وهو صبيّ، قال الرازي أيضاً : وكيفية قتله هل قتله بأن حزّ رأسه أو بأن ضرب رأسه بالجدار أو بطريق آخر فليس في القرآن ما يدل على شيء من هذه الأقسام انتهى. ثم أجاب الشرط بقوله مشعراً بأن شروعه في الإنكار في هذه أسرع ﴿ قال ﴾ موسى :﴿ أقتلت ﴾ يا خضر ﴿ نفساً زاكية بغير نفس ﴾ قتلتها ليكون قتلها لها قوداً، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بألف بعد الزاي وتخفيف الياء التحتية والباقون بغير ألف بعد الزاي وتشديد التحتية، قال الكسائي : الزاكية والزكية لغتان ومعنى هذه الطهارة، وقال أبو عمرو : الزاكية التي لم تذنب والزكية التي أذنبت ثم تابت ثم استأنف قوله :﴿ لقد ﴾ أظهر الدال نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم وأدغمها الباقون ﴿ جئت ﴾ في قتلك إياها ﴿ شيئاً ﴾ وصرح بالإنكار في قوله :﴿ نكراً ﴾ لأن مباشرة الخرق سبب، ولهذا قال بعضهم : النكر أعظم من الأمر في القبح لأن قتل الغلام أعظم من خرق السفينة لأنه يمكن أن لا يحصل الغرق، وأمّا هنا فقد حصل الإتلاف قطعاً، والنكر ما أنكرته العقول ونفرت منه النفوس فهو أبلغ في القبح من الأمر، وقيل : الأمر أعظم لأن خرق السفينة يؤدي إلى إتلاف نفوس كثيرة وهذا القتل ليس إلا إتلاف شخص واحد، وقرأ نافع وابن ذكوان وشعبة برفع الكاف والباقون بسكونها.
ولما كانت هذه ثانية. ﴿ قال ﴾ له الخضر :﴿ ألم أقل لك إنك ﴾ يا موسى ﴿ لن تستطيع معي صبراً ﴾ وهذا عين ما ذكره في المسألة الأولى إلا أنه هنا زاد لفظة لك ﴿ فإن قيل ﴾ لم زادها هنا ؟ أجيب : بأنه زادها مكافحة بالعقاب على رفض الوصية ووسماً بقلة الصبر والثبات لما تكرر منه الاشمئزاز والاستكبار ولم يرعو بالتذكير أول مرّة، قال ابن الأثير : المكافحة المدافعة والمضاربة والاشمئزاز من اشمأز الرجل أي : انقبض قلبه، قال البغوي : وفي القصة أن يوشع كان يقول لموسى يا نبيّ اللّه اذكر العهد الذي أنت عليه.
﴿ قال ﴾ موسى حياءً منه لما أفاق بتذكيره ما حصل من فرط الوجد لأمر اللّه تعالى فذكر أنه ما تبعه إلا بأمر اللّه تعالى ﴿ إن سألتك عن شيء بعدها ﴾ أي : بعد هذه المرّة وأعلم بشدّة ندمه على الإنكار بقوله :﴿ فلا تصاحبني ﴾ أي : لا تتركني أتبعك بل فارقني ثم علل ذلك بقوله :﴿ قد بلغت ﴾ وأشار إلى أن ما وقع منه من الإخلال بالشرط من أعظم الخوارق التي اضطر إليها فقال :﴿ من لدني ﴾ أي : من قبلي ﴿ عذراً ﴾ باعتراضي مرّتين واحتمالك لي فيهما، وقد أخبر اللّه بحسن حالك في غزارة عملك فمدحه بهذه الطريقة من حيث أنه احتمله مرّتين أوّلاً وثانياً مع قرب المدّة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«رحم اللّه أخي موسى استحيا فقال ذلك، ولو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب » وعن أبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «رحمة اللّه علينا وعلى موسى وكان إذا ذكر أحداً من الأنبياء بدأ بنفسه لولا أن عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة أي : حياء وإشفاق، فقال : إن سألتك إلى آخره »، وقرأ نافع بضم الدال وتخفيف النون، وقرأ شعبة كذلك إلا أنه يشم الدال فتصير ساكنة قريبة من الضم والباقون بضم الدال وتشديد النون.
﴿ فانطلقا ﴾ أي : موسى والخضر يمشيان لينظر الخضر أمراً ينفذ فيه ما عنده من علمه وورش يغلظ اللام في لفظ انطلقا على أصله بعد قتل الغلام ﴿ حتى إذا أتيا أهل قرية ﴾، قال ابن عباس : هي أنطاكية، وقال ابن سيرين : هي الأيلة وهي أبعد أرض اللّه من السماء وعبر عنها بالقرية دون المدينة لأنه أدل على الذمّ، وقيل : برقة، وعن أبي هريرة بلدة بالأندلس ﴿ استطعما أهلها ﴾ أي : طلبا من أهل القرية أن يطعموهما، وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم ﴿ فأبوا أن يضيفوهما ﴾ أي : أن ينزلوهما ويطعموهما يقال ضافه إذا كان له ضيفاً وحقيقته مال إليه من ضاف السهم عن الغرض وضيفه وأضافه أنزله وجعله ضيفاً فإن قيل : الاستطعام ليس من عادة الكرام وكيف قدم عليه موسى والخضر وقد حكى اللّه تعالى عن موسى أنه قال عند ورود ماء مدين ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ؟ أجيب : بأن إقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كل الشرائع بل ربما وجب ذلك عند الخوف من الضرر الشديد فإن قيل : لم قال :﴿ حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها ﴾ ولم يقل : استطعماهم ؟ أجيب : بأن التكرير قد يكون للتأكيد كقول الشاعر :
ليت الغراب غداة يبعث دائباً *** كان الغراب مقطع الأوداج
وعن قتادة شر القرى التي لا تضيف الضيف.
فائدة : قال الرازي : وفي كتب الحكايات أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بحمل من الذهب وقالوا : يا رسول اللّه جئناك بهذا الذهب لتجعل الباء تاء حتى تصير القراءة هكذا فأتوا أن يضيفوهما أي : أتيناهم لأجل الضيافة حتى يندفع عنا هذا اللوم فامتنع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال :«تغيير هذه النقطة يوجب دخول الكذب في كلام اللّه تعالى وذلك يوجب القدح في الإلهية » فعلمنا أن تغيير النقطة الواحدة من القرآن يوجب بطلان الربوبية والعبودية. ولما أبوا أن يضيفوهما انصرفا ﴿ فوجدا فيها ﴾ أي : القرية ولم يقل فيهم إيذاناً بأن المراد وصف القرية بسوء الطبع ﴿ جداراً ﴾ أي : حائطاً مائلاً مشرفاً على السقوط ولذا قال : مستعيراً لما لم يعقل صفة من يعقل ﴿ يريد أن ينقص ﴾ أي : يسقط وهذا من مجاز كلام العرب لأنّ الجدار لا إرادة له وإنما معناه قرب ودنا من السقوط كما تقول العرب داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها فاستعير الإرادة للمشارفة كما استعير لها الهم والعزم في قوله :
يريد الرمح صدر أبي براء *** ويعدل عن دماء بني عقيل
وقول الآخر :
إنّ دهراً يلف صدري بجمل *** لزمان يهم بالإحسان
ففي البيت الأوّل دليل على استعارة الإرادة للمشارفة، وفي الثاني دليل على استعارة الهم لها وجمل اسم محبوبته يقول : إن دهراً يجمع بيني وبينها زمان قصده الإحسان لا الإساءة ونظير ذلك من القرآن قوله تعالى :﴿ ولما سكت عن موسى الغضب ﴾ [ الأعراف، ١٥٤ ] وقوله تعالى :﴿ أن يقول له كن فيكون ﴾ [ يس، ٨٢ ]
وقوله تعالى :﴿ قالتا أتينا طائعين ﴾ [ فصلت، ١١ ]، قال الزمخشري ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام اللّه تعالى ممن لا يعلم كان يجعل الضمير للخضر، وقيل : إن اللّه تعالى خلق للجدار حياة وإرادة كالحيوان ﴿ فأقامه ﴾ أي : سواه، وفي حديث أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم «فقال الخضر بيده فأقامه »، وقال ابن عباس : هدمه وقعد يبنيه، وقال سعيد بن جبير : مسح الجدار بيده فاستقام وذلك من معجزاته، وقال السدي : بلّ طيناً وجعل يبني الحائط فشق ذلك على موسى عليه السلام فإن قيل : الضيافة من المندوبات فتركها ترك مندوب وذلك غير منكر فكيف يجوز من موسى عليه السلام مع علو منصبه أنه غضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه في قوله :﴿ إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني ﴾ وأيضاً مثل الغضب لأجل ترك الأكل في ليلة واحدة لا يليق بأدون الناس فضلاً عن كليم اللّه تعالى أجيب : بأن تلك الحالة كانت حالة افتقار واضطرار إلى الطعام فلأجل تلك الضرورة نسي موسى عليه السلام ما قاله فلا جرم ﴿ قال ﴾ موسى :﴿ لو شئت لاتخذت عليه أجراً ﴾ أي : لطلبت على عملك أجرة تصرفها في تحصيل المطعوم وتحصيل سائر المهمات، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف التاء بعد اللام وكسر الخاء، وأظهر ابن كثير الذال عند التاء على أصلها، وأدغمها أبو عمرو والباقون بتشديد التاء وفتح الخاء، وأظهر حفص الذال على أصله وأدغمها الباقون.
ولما كان كلام موسى هذا متضمناً للسؤال. ﴿ قال ﴾ له الخضر :﴿ هذا ﴾ أي : هذا الإنكار على ترك الأجر ﴿ فراق بيني وبينك ﴾ وقيل : إن موسى عليه السلام لما شرط أنه إن سأله بعد ذلك سؤالاً آخر حصل به الفراق حيث قال :﴿ إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني ﴾ فلما ذكر هذا السؤال فارقه وهذا فراق بيني وبينك أي : هذا الفراق المعهود الموعود فإن قيل : كيف ساغ إضافة بين إلى غير متعدّد ؟ أجيب : بأنّ مسوّغ ذلك تكريره بالعطف بالواو، ألا ترى أنك لو اقتصرت على قولك المال بيني لم يكن كلاماً حتى تقول : بيننا أو بيني وبين فلان ثم قال له الخضر :﴿ سأنبئك ﴾ أي : سأخبرك يا موسى قبل فراقي لك ﴿ بتأويل ﴾ أي : بتفسير ﴿ ما لم تستطع عليه صبراً ﴾ لأن هذه المسائل الثلاثة مشتركة في شيء واحد وهو أن أحكام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مبنية على الظواهر كما قال صلى الله عليه وسلم :«نحن نحكم بالظواهر واللّه يتولى السرائر » والخضر ما كانت أموره وأحكامه مبنية على ظواهر الأمور بل كانت مبنية على الأسباب الخفية الواقعة في نفس الأمر، وذلك لأن الظاهر في أموال الناس وفي أرواحهم أنه يحرم التصرّف فيها، والخضر تصرف في أموال الناس وفي أرواحهم في المسألة الأولى وفي الثانية من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف لأن الإقدام على خرق السفينة وقتل الإنسان من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف محرّم، والإقدام على إقامة ذلك الجدار المائل في المسألة الثالثة تحمل للتعب والمشقة من غير سبب ظاهر.
ثم أخذ الخضر في تأويل ذلك مبتدئاً بالمسألة الأولى بقوله :﴿ أما السفينة ﴾ أي : التي أحسن إلينا أهلها فخرقتها ﴿ فكانت لمساكين ﴾ عشرة إخوة خمسة زمني وخمسة ﴿ يعملون في البحر ﴾ أي : يؤاجرون ويكتسبون، واحتج الشافعي رضي اللّه عنه بهذه الآية على أن حال الفقير أشدّ في الحاجة والضرر من حال المسكين لأن اللّه تعالى سماهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة ﴿ فأردت أن أعيبها ﴾ أي : أن أجعلها ذات عيب بأن تفوت منفعتها بذلك ساعة من نهار وتكلف أهلها لوحاً أو لوحين يسدونها بذلك أخف عليهم من أن تفوتهم منفعتها بالكلية كما يعلم من قوله :﴿ وكان وراءهم ﴾ أي : أمامهم كقوله تعالى :﴿ ومن ورائهم برزخ ﴾ [ المؤمنين، ١٠٠ ] وقيل خلفهم، وكان طريقهم في رجوعهم عليه ﴿ ملك ﴾ كان كافراً واسمه الجلندي، وقال محمد بن إسحاق : اسمه سولة بن خليد الأزدي، وقيل : اسمه هدد بن بدد ﴿ يأخذ كل سفينة ﴾ أي : صالحة وحذف التقييد بذلك للعلم به ﴿ غصباً ﴾ من أصحابها ولم يكن عند أصحابها علم به فإذا مرّت به تركها لعيبها فإذا جاوزته أصلحوها فانتفعوا بها قيل : سدوها بقارورة وقيل : بالفار فإن قيل : قوله : فأردت أن أعيبها مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب فلم قدّم عليه ؟ أجيب : بأن النية به التأخير وإنما قدم للعناية ولأنّ خوف الغصب ليس هو السبب وحده ولكن مع كونها للمساكين، فلما كان كل من الغصب والمسكنة سبب الفعل قدمها على الغصب إشارة إلى أن أقوى السببين الحاملين على فعله الرأفة بالمساكين.
ثم شرع في تأويل المسألة الثانية بقوله :﴿ وأمّا الغلام ﴾ الذي قتلته ﴿ فكان أبواه مؤمنين ﴾ التثنية للتغليب يريد أباه وأمه فغلب المذكر وهو شائع ومثله العمران، قيل : إن ذلك الغلام كان بالغاً وكان يقطع الطريق ويقدم على الأفعال المنكرة، وكان أبواه يحتاجان إلى دفع شر الناس عنه والتعصب له وتكذيب من يرميه بشيء من المنكرات وكان يصير سبباً لوقوعهما في الفسق وربما قاد ذلك الفسق إلى الكفر، وقيل : إنه كان صبياً إلا أنه علم منه أنه لو صار بالغاً لحصلت فيه هذه المفاسد، وفي الحديث " أنه طبع كافراً ولو عاش لأرهقهما " ذلك كما قال ﴿ فخشينا ﴾ أي : خفنا، والخشية خوف يشوبه تعظيم ﴿ أن يرهقهما ﴾ أي : يغشيهما ويلحقهما ﴿ طغياناً وكفراً ﴾ أي : لمحبتهما له يتبعانه في ذلك فإن قيل : هل يجوز الإقدام على قتل الإنسان بمثل ذلك ؟ أجيب : بأنه إذا تأكد ذلك بوحي من اللّه تعالى جاز، وعن ابن عباس أن نجدة الحروري كتب إليه كيف قتله أي : كيف قتل الخضر الغلام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان فكتب إليه :" إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل ". رواه بمعناه مسلم.
ولما ذكر ما يلزم على تقدير بقائه من الفساد تسبب عنه قوله :﴿ فأردنا ﴾ أي : بقتله وإراحتهما من شره ﴿ أن يبدلهما ربهما ﴾ أي : المحسن إليهما بإعطائه وأخذه، قال مطرف : فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ولو بقي كان فيه هلاكهما، فليرض كل امرئ بقضاء اللّه تعالى فإن قضاء الله تعالى للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب ولهذا أبدلهما اللّه تعالى ﴿ خيراً منه زكاة ﴾ أي : طهارة وبركة من الذنوب والأخلاق الرديئة وصلاحاً وتقوى ﴿ وأقرب رحماً ﴾ أي : رحمة وعطفاً عليهما، وقيل : هو من الرحم والقرابة، قال قتادة : أي : أوصل للرحم وأبرّ للوالدين، قال الكلبي : أبدلهما اللّه تعالى جارية فتزوجها نبيّ من الأنبياء فولدت له نبياً فهدى اللّه تعالى على يديه أمّة من الأمم، وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال : أبدلهما اللّه تعالى جارية ولدت سبعين نبياً، وقال ابن جريج : أبدلهما بغلام مسلم، وقرأ نافع وأبو عمرو ﴿ أن يبدّلهما ﴾ بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال والباقون بسكون الموحدة وتخفيف الدال، وقرأ ابن عامر ﴿ رحماً ﴾ برفع الحاء والباقون بالسكون.
ثم شرع في تأويل المسألة الثالثة بقوله :﴿ وأما الجدار ﴾ أي : الذي أشرت بأخذ الأجر عليه ﴿ فكان لغلامين ﴾ ودل على كونهما دون البلوغ بقوله :﴿ يتيمين ﴾ وكان اسم أحدهما أصرم والآخر صريماً. ولما كانت القرية لا تنافي التسمية بالمدينة وكان التعبير بالقرية أولاً أليق عبر بها لأنها مشتقة من معنى الجمع فكان أليق بالذم في ترك الضيافة، ولما كانت المدينة بمعنى محل الإقامة عبر بها فقال :﴿ في المدينة ﴾ فكان التعبير بها أليق للإشارة به إلى أن الناس يعملون فيها فينهدم الجدار وهم مقيمون فيأخذون الكنز كما قال، ﴿ وكان تحته كنز لهما ﴾ فلذلك أقمته احتساباً، واختلف في ذلك الكنز كما قال :﴿ وكان تحته كنز لهما ﴾ فلذلك أقمته احتساباً واختلف في ذلك الكنز فعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كان ذهباً وفضة » رواه البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححه والذم على كنزهما في قوله تعالى :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ﴾ [ التوبة، ٣٤ ] لمن لا يؤدي زكاتهما وما يتعلق بهما من الحقوق، وعن سعيد بن جبير قال : كان الكنز صحفاً فيها علم رواه الحاكم وصححه، وعن ابن عباس قال : كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه عجباً لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجباً لمن أيقن بالقدر كيف يغضب عجباً لمن أيقن بالرزق كيف يتعب عجباً لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجباً لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، وفي الجانب الآخر مكتوب أنا اللّه لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل كل الويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه، قال البغوي : وهذا قول أكثر أهل التفسير وروي أيضاً ذلك مرفوعاً. قال الزجاج : الكنز إذا أطلق ينصرف إلى كنز المال ويجوز عند التقييد أن يقال عنه كنز علم وهذا اللوح كان جامعاً لهما، وقوله :﴿ وكان أبوهما صالحاً ﴾ فيه تنبيه على أن سعيه في ذلك كان لصلاحه فيراعى وتراعى ذريته، وكان سياحاً واسمه كاسح، قال ابن عباس : حفظا لصلاح أبيهما وقيل : كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء، قال محمد بن المنكدر : إن اللّه تعالى يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعشيرته وأهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ اللّه ما دام فيهم، قال سعيد بن المسيب : إني أصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي، وعن الحسن أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما : بم حفظ اللّه الغلامين قال : بصلاح أبيهما، قال : فأبي وجدي خير منه، قال : قد أنبأنا اللّه أنكم قوم خصمون وذكروا أيضاً أن ذلك الأب الصالح كان من الذين تضع الناس الودائع عنده فيردها إليهم ﴿ فأراد ربك أن يبلغا ﴾ أي : الغلامان ﴿ أشدّهما ﴾ أي : الحلم وكمال الرأي ﴿ ويستخرجا كنزهما ﴾ لينتفعا به وينفعا الصالحين.
تنبيه : أسند الإرادة في قوله :﴿ فأردت أن أعيبها ﴾ إلى نفسه لأنه المباشر للتعييب، وثانياً في قوله : فأردنا إلى اللّه وإلى نفسه لأنّ التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد اللّه تعالى بدله، وثالثاً في قوله : فأراد ربك إلى اللّه وحده لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين، أو لأن الأول في نفسه شرّ والثالث خير والثاني ممتزج، أو لأنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه، ولما ذكر القتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيهاً على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية، ولما ذكر رعاية مصالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى اللّه تعالى لأنّ التكفل بصلاح الأبناء لرعاية حق الآباء ليس إلا للّه تعالى أو لاختلاف حال العارف في الالتفات إلى الوسايط فإن قيل : اليتيمان هل أحد منهما عرف حصول ذلك الكنز تحت ذلك الجدار أم لا فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار، وإن كان الثاني فكيف يمكنهم بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز ومعرفته والانتفاع به ؟ وأجيب : لعلهما كانا جاهلين به إلا أن وصيهما كان عالماً به ثم إن ذلك الوصي غاب وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السقوط، ولما قرّر الخضر هذه الجوابات قال :﴿ رحمة من ربك ﴾ أي : إنما فعلت هذه الأفعال لغرض أن تظهر رحمة اللّه لأنها بأسرها ترجع إلى حرف واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى كما تقرّر ﴿ وما فعلته ﴾ أي : شيئاً من ذلك ﴿ عن أمري ﴾ أي : عن اجتهادي ورأيي بل بأمر من له الأمر وهو اللّه تعالى.
تنبيه : احتج من ادعى نبوّة الخضر بأمور أحدها قوله تعالى :﴿ آتيناه رحمة من عندنا ﴾ والرحمة هي النبوّة، قال تعالى :﴿ وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ﴾ [ القصص، ٨٦ ] والمراد من هذه الرحمة النبوة، قال الرازي : ولقائل أن يقول مسلم : إنّ النبوة رحمة ولكن لا يلزم أن تكون كل رحمة نبوة، الثاني : قوله تعالى :﴿ وعلمناه من لدنا علماً ﴾ وهذا يقتضي أن اللّه تعالى علمه بلا واسطة تعليم معلم ولا إرشاد مرشد وكل من علمه اللّه تعالى بلا واسطة البشر وجب أن يكون نبياً يعلم الأمور بالوحي من اللّه تعالى، قال الرازي : وهذا الاستدلال ضعيف لأنّ العلوم الضرورية تحصل ابتداء من اللّه وذلك لا يدل على النبوّة، الثالث : أن موسى عليه السلام قال :﴿ هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت ﴾ والنبي لا يتبع غير نبي في التعلم ؟ قال الرازي : وهذا أيضاً ضعيف لأن النبي لا يتبع غير نبي في العلوم التي باعتبارها صار نبياً أما غير تلك العلوم فلا، الرابع : أنه أظهر على موسى الترفع حيث قال :﴿ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً ﴾، وأما موسى فإنه أظهر له التواضع حيث قال : ولا أعصي لك أمراً، وهذا يدل على أنه كان فوق موسى ومن لا يكون نبياً لا يكون فوق نبي. قال الرازي : وهذا أيضاً ضعيف لأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها، الخامس : قوله :﴿ وما فعلته عن أمري ﴾ وفي المعنى : أني فعلته بوحي من اللّه وهذا يدل على النبوة. قال الرازي : وهذا أيضاً ضعيف ظاهر الحجة، السادس : ما روي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال : السلام عليك، قال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى : من عرّفك هذا ؟ قال : الذي بعثك إليّ، وهذا يدل على أنه إنما عرف ذلك بالوحي والوحي لا يكون إلا مع النبوة، قال الرازي : ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات والإلهامات انتهى. وبالجملة فالجمهور على أنه نبي كما مرّ واختلفوا هل هو حيّ أو ميت ؟ فقيل : إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم، قال البغوي : وكان سبب حياته فيما يحكى أنه شرب من عين الحياة وذلك أن ذا القرنين دخل الظلمة ليطلب عين الحياة وكان الخضر على مقدّمته فوقع الخضر على العين فنزل فاغتسل وشرب وشكر اللّه تعالى وأخطأ ذو القرنين الطريق، وذهب آخرون إلى أنه ميت لقوله تعالى :﴿ وما جعلنا البشر من قبلك الخلد ﴾ [ الأنبياء، ٣٤ ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى العشاء ليلة :«أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد » ولو كان الخضر حياً لكان لا يعيش بعده. ولما بيّن لموسى سر تلك القضايا قال له :﴿ ذلك ﴾ أي : هذا التأويل العظيم ﴿ تأويل ما لم تسطع ﴾ يا موسى ﴿ عليه صبراً ﴾ وحذف تاء الاستطاعة هنا تخفيفاً فإنّ استطاع واسطاع بمعنى واحد.
تنبيه : من فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعمله ولا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه فلعل فيه سراً لا يعرفه وأن يداوم على التعلم ويتذلل للعلماء ويراعي الأحب في المقال، وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حين يتحقق إصراره ثم يهاجره، روي أن موسى لما أراد أن يفارق الخضر قال له : أوصني ؟ قال : لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه للعمل به.
ولما فرغ من هذه القصة التي حاصلها أنها طواف في الأرض لطلب العلم عقبها بقصة من طاف الأرض لطلب الجهاد وقدم الأول إشارة إلى علوّ درجة العلم لأنه أساس كل سعادة وقوام كل امرئ فقال عاطفاً على ﴿ ويجادل الذين كفروا بالباطل ﴾ [ الكهف، ٥٦ ].
﴿ ويسألونك ﴾ أي : اليهود وقيل : مشركو مكة يا أشرف الخلق ﴿ عن ذي القرنين ﴾ وذكروا في سبب تسميته بذلك وجوهاً، الأول : قال أبو الطفيل سئل علي رضي اللّه عنه عن ذي القرنين أكان نبياً أم ملكاً ؟ قال : لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان عبداً صالحاً أمر قومه بتقوى اللّه تعالى فضربوه على قرنه الأيمن فمات، ثم بعثه اللّه تعالى فأمرهم بتقوى اللّه تعالى فضربوه على قرنه الأيسر فمات، ثم بعثه اللّه تعالى فسمي ذا القرنين، فيكم مثله يعني نفسه، الثاني : أنه انقرض في وقته قرنان من الناس، الثالث : أنه كان صفحتا رأسه من نحاس، الرابع : كان على رأسه ما يشبه القرنين، الخامس : كان لتاجه قرنان، السادس : أنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها، السابع : كان له قرنان أي : ضفيرتان، الثامن : أنّ اللّه تعالى سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهدي النور من أمامه وتمتدّ الظلمة من ورائه، التاسع : أنه لقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً لأنه ينطح أقرانه، العاشر : أنه رأى في المنام كأنه صعد الفلك وتعلق بطرفي الشمس وقرنيها أي : جانبيها فسمي بذلك لهذا السبب، الحادي عشر : أنه كان له قرنان تواريهما العمامة، الثاني عشر : أنه دخل النور والظلمة، وذكروا في اسمه أيضاً وجوهاً الأول : اسمه مرزبان اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح، الثاني : اسمه اسكندر بن فيلفوس الرومي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه أقصى المشرق والمغرب وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر وبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه، الثالث : شمر بن عمر بن أفريقيس الحميري وهو الذي بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وافتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال :
قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً ملكاً علا في الأرض غير مفند
بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسباب ملك من كريم سيد
واختلفوا في نبوّته مع الاتفاق على إيمانه فقال بعضهم : كان نبياً واحتجوا على ذلك بوجوه، الأول : قوله تعالى :﴿ إنا مكنا له في الأرض ﴾ وحمل على التمكين في الدنيا والتمكين الكامل في الدين هو النبوّة، الثاني : قوله تعالى :﴿ وآتيناه من كل شيء سبباً ﴾ وهذا يدل على أنه تعالى آتاه من النبوّة سبباً، الثالث : قوله تعالى :﴿ يا ذا القرنين إما أن تعذب ﴾ الخ والذي يتكلم اللّه معه لا بد أن يكون نبياً ومنهم من قال : إنه كان عبداً صالحاً ملكه اللّه تعالى الأرض وأعطاه اللّه سبحانه وتعالى الملك والحكمة وألبسه الهيبة وقد قالوا : ملك الأرض مؤمنان ذو القرنين وسليمان وكافران نمروذ وبختنصر ومنهم من قال : إنه كان ملكاً من الملائكة، عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه سمع رجلاً يقول : يا ذا القرنين فقال : اللهم غفراً أما رضيتم أن تتسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة، والأكثر على القول الثاني، ويدل له قول عليّ رضي اللّه تعالى عنه المتقدم.
تنبيه : قد قدّمنا أنّ اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وعن الروح، والمراد من قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن ذي القرنين ﴾ هو ذلك السؤال، ثم قال اللّه تعالى :﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء المتعنتين ﴿ سأتلو ﴾ أي : أقص قصاً متتابعاً في مستقبل الزمان أعلمني اللّه تعالى به ﴿ عليكم ﴾ أي : أيها البعداء، والضمير في قوله تعالى :﴿ منه ﴾ لذي القرنين وقيل للّه تعالى ﴿ ذكراً ﴾ أي : خبراً كافياً لكم في تعرّف أمره جامعاً لمجامع ذكره
﴿ إنا مكنا له في الأرض ﴾ أي : مكنا له أمره من التصرّف فيها مكنة يصل بها إلى جميع مسالكها ويظهر بها على سائر ملوكها ﴿ وآتيناه ﴾ بعظمتنا ﴿ من كل شيء ﴾ يحتاج إليه في ذلك ﴿ سبباً ﴾ أي : وصله توصله إليه من العلم والقدرة والآلة.
﴿ فأتبع سبباً ﴾ أي : سلك طريقاً نحو المغرب قال البقاعي : ولعله بدأ به لأن باب التوبة فيه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر ﴿ واتبع ﴾ في المواضع الثلاثة بتشديد التاء الفوقية ووصل الهمزة قبل الفوقية والباقون بقطع الهمزة وسكون التاء الفوقية واستمرّ متبعاً له.
﴿ حتى إذا بلغ ﴾ في ذلك السير ﴿ مغرب الشمس ﴾ أي : موضع غروبها ﴿ وجدها تغرب في عين حمئة ﴾ أي : ذات حمأة وهي الطين الأسود أي : بلغ موضعاً في الغرب لم يبق بعده شيء من العمران وجد الشمس كأنها تغرب في وهدة مظلمة وغروبها في رأي العين كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغرب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر وإلا فهي أكبر من الأرض مرّات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض، قال البيضاوي : ولعله بلغ ساحل المحيط فرأى ذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء ولذلك قال :﴿ وجدها تغرب ﴾ ولم يقل كانت تغرب، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي وابن عامر بألف بعد الحاء وياء مفتوحة بعد الميم. عن أبي درّ قال : كنت رديف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال :" أتدري يا أبا ذرّ أين تغرب هذه ؟ " قلت : اللّه ورسوله أعلم قال :" فإنها تغرب في عين حمئة "، وقرأ الباقون بغير ألف بعد الحاء وبعد الميم همزة مفتوحة، واتفق أن ابن عباس كان عند معاوية فقرأ معاوية حامية فقال ابن عباس : حمئة فقال معاوية لعبد الله بن عمر : كيف تقرأ قال : كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار وسأله كيف تجد الشمس تغرب ؟ قال : في ماء وطين كذلك نجده في التوراة ﴿ ووجد عندها ﴾ أي : عند تلك العين على الساحل المتصل بها ﴿ قوماً ﴾ أي : أمة، قال ابن جريج : مدينة لها اثنا عشر ألف باب لولا ضجيج أهلها لسمعت وجبة الشمس حين تجب أي : تغرب، قيل : كان لباسهم جلود الوحش وطعامهم ما يلفظه البحر كانوا كفاراً فخيره اللّه تعالى بين أن يعذبهم أو يدعوهم إلى الإيمان كما حكى ذلك بقوله تعالى :﴿ قلنا يا ذا القرنين ﴾ إما بوّاسطة الملك إن كان نبياً أو بواسطة نبي زمانه إن لم يكن أو باجتهاد في شريعته ﴿ إمّا أن تعذب ﴾ بالقتل على كفرهم ﴿ وإمّا أن تتخذ ﴾ أي : بغاية جهدك ﴿ فيهم حسناً ﴾ بالإرشاد وتعليم الشرائع، وقيل : خيره بين القتل والأسر وسماه حسناً في مقابلة القتل ويؤيد الأوّل قوله :﴿ قال أمّا من ظلم ﴾.
﴿ قال أمّا من ظلم ﴾ باستمراره على الكفر فإنا نرفق به حتى نيأس منه ثم نقتله وإلى ذلك أشار بقوله :﴿ فسوف نعذبه ﴾ بوعد لا خلف فيه بعد طول الدعاء والترفق، وقال قتادة كان يطبخ من كفر في القدور وهو العذاب المنكر ﴿ ثم يردّ إلى ربه ﴾ في الآخرة ﴿ فيعذبه عذاباً نكراً ﴾ أي : شديداً جداً في النار وتقدّم في نكراً سكون الكاف وضمها.
﴿ وأما من آمن وعمل صالحاً ﴾ تصديقاً لما أخبر به من تصديقه ﴿ فله ﴾ في الدارين ﴿ جزاء الحسنى ﴾ أي : الجنة، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بفتح الهمزة بعد الزاي منوّنة وتكسر في الوصل لالتقاء الساكنين، قال الفراء : نصبه على التفسير أي : لجهة النسبة، وقيل : منصوب على الحال أي : فله المثوبة الحسنى مجزياً بها، والباقون بضم الهمزة من غير تنوين فالإضافة للبيان، قال المفسرون : والمعنى على قراءة النصب فله الحسنى جزاء كما تقول له هذا الثوب هبة، وعلى قراءة الرفع وجهان، الأول : فله جزاء الفعلة الحسنى والفعلة الحسنى هي الإيمان والعمل الصالح، والثاني : فله جزاء المثوبة الحسنى وإضافة الموصوف إلى الصفة مشهورة كقوله :﴿ ولدار الآخرة ﴾ [ يوسف، ١٠٩ ] وأمال ألف الحسنى حمزة والكسائي محضة وأبو عمرو بين بين وورش بالفتح والإمالة بين بين ﴿ وسنقول ﴾ بوعد لا خلف فيه بعد اختباره بالأعمال الصالحة ﴿ له ﴾ أي : لأجله ﴿ من أمرنا ﴾ أي : ما نأمره به ﴿ يسراً ﴾ أي : قولاً غير شاق من الصلاة والزكاة والخراج والجهاد وغيرها وهو ما يطيقه ولا يشق عليه مشقة كثيرة
﴿ ثم أتبع ﴾ لإرادة طلوع مشرق الشمس ﴿ سبباً ﴾ من جهة الجنوب يوصله إلى المشرق واستمر فيه لا يمل ولا تغلبه أمة مرّ عليها.
﴿ حتى إذا بلغ ﴾ في مسيره ذلك ﴿ مطلع الشمس ﴾ أي : الموضع الذي تطلع عليه أولاً من المعمور من الأرض ﴿ وجدها تطلع على قوم ﴾، قال الجلال المحلى : هم الزنج وقوله تعالى :﴿ لم نجعل لهم من دونها ﴾ أي : الشمس ﴿ ستراً ﴾ فيه قولان، الأول : أنه لا شيء لهم من سقف ولا جبل يمنع من وقوع شعاع الشمس عليهم لأن أرضهم لا تحمل بنياناً، قال الرازي : ولهم سروب يغيبون فيها عند طلوع الشمس ويظهرون عند غروبها فيكونون عند طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرّف في المعاش وعند غروبها يشتغلون بتحصيل مهمات المعاش وأحوالهم بالضدّ من أحوال سائر الخلق، وقال قتادة : يكونون في أسراب لهم حتى إذا زالت الشمس عنهم خرجوا فرعوا كالبهائم، والثاني : أن معناه لا ثياب لهم ويكونون كسائر الحيوانات عراة أبداً وفي كتب الهيئة أن أكثر حال الزنج كذلك وحال كل من سكن البلاد القريبة من خط الاستواء، كذلك قال الكلبي : هم عراة يفرش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، وقال الزمخشري وعن بعضهم قال : خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء القوم فقيل : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم وإذا أحدهم يفرش إحدى أذنيه ويلبس الأخرى، فلما قرب طلوع الشمس سمعت صوتاً كهيئة الصلصلة فغشى عليّ ثم أفقت فلما طلعت الشمس فإذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلوني سربالهم فلما ارتفع النهار جعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم، وعن مجاهد من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض.
وقوله تعالى :﴿ كذلك ﴾ فيه وجوه ؛ الأول : أن معناه كما بلغ مغرب الشمس كذلك بلغ مطلعها، الثاني : أن أمره كما وصفناه من رفعة المكان وبسطة الملك، قال البغوي : والصحيح أن معناه كما حكم في القوم الذين هم عند غروب الشمس كذلك في القوم الذين هم عند مطلعها ﴿ وقد أحطنا بما لديه ﴾ أي : عند ذي القرنين من الآلات والجند وغيرهما ﴿ خبراً ﴾ أي : علماً تعلق بظواهره وخفاياه والمعنى أن كثرة ذلك بلغت مبلغاً لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير.
﴿ ثم ﴾ إن ذا القرنين لما بلغ المغرب والمشرق ﴿ أتبع سبباً ﴾ آخر من جهة الشمال في إرادة ناحية السدّ مخرج يأجوج ومأجوج واستمر آخذاً فيه.
﴿ حتى إذا بلغ ﴾ في مسيره ذلك ﴿ بين السدّين ﴾ أي : بين الجبلين وهما جبلا أرمينية وأذربيجان وقيل : جبلان في أواخر الشمال، وقيل : هذا المكان في منقطع بلاد الترك من ورائهما يأجوج ومأجوج، قال الرازي : والأظهر أن موضع السد في ناحية الشمال سد الإسكندر ما بينهما كما سيأتي، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بفتح السين والباقون بضمها وهما لغتان معناهما واحد، وقال عكرمة : ما كان من صنع بني آدم فهو السد بالفتح وما كان من صنع اللّه فهو بالضم وقاله أبو عمرو وقيل بالعكس ﴿ وجد من دونهما ﴾ أي : بقربهما من الجانب الذي هو أدنى منهما إلى الجهة التي أتى منها ذو القرنين ﴿ قوماً ﴾ أي : أمة من الناس لغتهم في غاية البعد من لغات بقية الناس لبعد بلادهم عن بقية البلاد فهم كذلك ﴿ لا يكادون ﴾ أي : لا يقربون ﴿ يفقهون ﴾ أي : يفهمون ﴿ قولاً ﴾ ممن مع ذي القرنين فهماً جيداً كما يفهم غيرهم لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم، وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر القاف والباقون بفتحهما، وقال ابن عباس : لا يفقهون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم واستشكل بقولهم :﴿ قالوا يا ذا القرنين ﴾.
﴿ قالوا يا ذا القرنين ﴾ وأجيب بأنه تكلم عنهم مترجم ممن هو مجاورهم ويفهم كلامهم ﴿ إن يأجوج ومأجوج ﴾ وهما اسمان أعجميان لقبيلتين فلم ينصرفا، وقرأ عاصم بهمزة ساكنة بعد الياء والميم والباقون بالألف فيهما وهما لغتان أصلهما من أجيج النار وهو ضوءها وشررها شبهوا به لكثرتهم وشدتهم وهم من أولاد يافث بن نوح عليه السلام، قال الضحاك : هم جيل من الترك، قال السدي : الترك سرية من يأجوج ومأجوج خرجت فضرب ذو القرنين السدّ فبقيت خارجة فجميع الترك منهم، وعن قتادة أنهم اثنان وعشرون قبيلة بنى ذو القرنين السدّ على إحدى وعشرين قبيلة وبقيت قبيلة واحدة فهم الترك سموا الترك لأنهم تركوا خارجين، قال : أهل التواريخ أولاد نوح عليه السلام ثلاثة : سام وحام ويافث، فسام أبو العرب والعجم والروم، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة، ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وقال ابن عباس في رواية عطاء هم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء، وروي عن حذيفة مرفوعاً أن يأجوج أمة ومأجوج أمة وكل أمة أربعمائة ألف أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح وهم من ولد آدم يسيرون في خراب الأرض، وقال : هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز شجر بالشام طوله عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم طوله وعرضه سواء عشرون ومائة وهؤلاء لا تقوم لهم الجبال ولا الحديد، وصنف منهم يفرش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية، ومنهم أن ثبت لهم مخالب في أظفارهم وأضراسهم كأضراس السباع، وعن علي رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : منهم من طوله شبر ومنهم من هو مفرط في الطول، وقال كعب : هم نادرة في ولد آدم وذلك أن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب فخلق اللّه من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم يتصلون بنا من جهة الأب دون الأم، وذكر وهب بن منبه أن ذا القرنين كان رجلاً من الروم ابن عجوز فلما بلغ كان عبداً صالحاً قال اللّه تعالى : إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها : ناويل وأمم في وسط الأرض منهم الجن والأنس ويأجوج ومأجوج، فقال ذو القرنين : بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم، قال اللّه تعالى : إني سأطوقك وأبسط لك لسانك وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يروعنك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحفظك الظلمة من ورائك فانطلق حتى أتي مغرب الشمس فوجد جمعاً وعدداً لا يحصيه إلا اللّه تعالى فكاثرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد فدعاهم إلى اللّه تعالى وإلى عبادته فمنهم من آمن ومنهم من كفر ومنهم من صدّ عنه فعمد إلى الذين تولوا عنه وأدخل عليهم الظلمة فدخلت أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب جنداً عظيماً فانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم حتى أتى هاويل فعمل فيهم كعمله في ناسك ثم مضى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجند منها جنوداً كفعله في الأمتين ثم أخذ بناحية الأرض اليسرى فأتى ناويل فعمل فيها كعمله فيما قبلها ثم عمد إلى الأمم التي وسط الأرض فلما كان مما يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس : يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقاً أشباه البهائم أي : وهم يأجوج ومأجوج ﴿ مفسدون في الأرض ﴾ يفترسون الدواب والوحوش والسباع ويأكلون الحيات والعقارب وكل ذي روح خلقه اللّه في الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم فلا يشك أنهم سيملكون الأرض ويظهرون عليها ويفسدون فيها، وقال الكلبي : فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلا أكلوه
ولا يابساً إلا احتملوه وأدخلوه أرضهم وقد بالغوا ولقوا منهم أذى شديداً وقتلاً، وقيل : فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس، وقيل : معناه أنهم سيفسدون في الأرض بعد خروجهم ﴿ فهل نجعل لك خرجاً ﴾ أي : جعلا من المال، وقرأ حمزة والكسائى بفتح الراء وألف بعدها والباقون بسكون الراء ولا ألف بعدها فقيل : هما بمعنى، وقيل : الخرج ما تبرّعت به والخراج ما لزمك ﴿ على أن تجعل ﴾ في جميع ما ﴿ بيننا وبينهم ﴾ من الأرض التي يمكن توصلهم إلينا منها بما آتاك اللّه من المكنة ﴿ سدّاً ﴾ أي : حاجزاً بين هذين الجبلين فلا يصلون إلينا، وقرأ نافع وابن عامر وشعبة برفع السين والباقون بالنصب.
﴿ قال ﴾ لهم ذو القرنين ﴿ ما مكّنى فيه ربي ﴾ أي : المحسن إليّ مما ترونه من الأموال والرجال والتوصل إلى جميع الممكن للمخلوق ﴿ خير ﴾ من خراجكم الذي تريدون بذله كما قال سليمان عليه السلام :﴿ فما آتاني اللّه خير مما آتاكم ﴾ [ النمل، ٣٦ ]، وقرأ ابن كثير بنون مفتوحة بعد الكاف وبعدها نون مكسورة والباقون بنون واحدة مكسورة مشدّدة ﴿ فأعينوني بقوّة ﴾ أي : أني لا أريد المال بل أعينوني بأيديكم وقوّتكم وبالآلات التي أتقوّى بها في فعل ذلك فإن ما معي إنما هو للقتال وما يكون من أسبابه لا لمثل هذا ﴿ أجعل بينكم ﴾ أي : بين ما تختصون به ﴿ وبينهم ردماً ﴾ أي : حاجزاً حصيناً موثقاً بعضه فوق بعض من التلاصق والتلاحم وهو أعظم من السد من قولهم ثوب ردم إذا كان رقاعاِ فوق رقاع قالوا : وما تلك القوة ؟ قال : فعلة وصناع يحسنون البناء،
قالوا : وما تلك الآلات ؟ قال :﴿ آتوني ﴾. أي : أعطوني ﴿ زبر الحديد ﴾ أي : قطعة وهو جمع زبرة كغرفة وغرف، قال الخليل : الزبرة من الحديد القطعة الضخمة فأتوه به وبالحطب حفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم ﴿ حتى إذا ساوى ﴾ أي : بذلك البناء ﴿ بين الصدفين ﴾ أي : بين جانبي الجبلين أي : سوى بين طرفي الجبلين سميا بذلك لأنهما يتصادفان أي : يتقابلان من قولهم : صادفت الرجل لاقيته وقابلته، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر برفع الصاد والدال وشعبة برفع الصاد وسكون الدال والباقون بنصب الصاد والدال، ثم وضع المنافخ وأطلق النار في الحطب والفحم و﴿ قال ﴾ أي : للعملة ﴿ انفخوا ﴾ فنفخوا ﴿ حتى إذا جعله ﴾ أي : الحديد ﴿ ناراً ﴾ أي : كالنار ﴿ قال آتوني ﴾ أي : أعطوني ﴿ أفرغ عليه قطراً ﴾ أي : أصب النحاس المذاب على الحديد المحمى فصبه عليه فدخل في خلال الحديد مكان الحطب لأن النار أكلت الحطب حتى لزم الحديد النحاس فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً، قال الزمخشري : قيل ما بين السدين مائة فرسخ، وروي أن عرضه كان خمسين ذراعاً وارتفاعه مائتي ذراع، وعن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلاً «وفي رواية عن رجل من أهل المدينة قال : يا رسول اللّه قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال : انعته لي قال : كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء » وهذه معجزة عظيمة إن كان نبياً أو كرامة إن لم يكن ؛ لأنّ هذه الزبرة الكبيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر الحيوان أن يقرب منها والنفخ عليها لا يكون إلا بالقرب منها فكأنه تعالى صرف تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين عليها حتى تمكنوا من العمل فيها.
تنبيه : قطراً هو المتنازع فيه وهذه الآية أشهر أمثلة النحاة في باب التنازع وبها تمسك البصريون على أن أعمال الثاني من العاملين المتوجهين نحو معمول واحد أولى إذ لو كان ﴿ قطراً ﴾ مفعول ﴿ آتوني ﴾ لأضمر مفعول ﴿ أفرغ ﴾ حذراً من الإلباس.
ثم قال تعالى :﴿ فما ﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنه لما أكمل عمل الردم وأحكمه ما ﴿ اسطاعوا ﴾ أي : يأجوج ومأجوج وغيرهم ﴿ أن يظهروه ﴾ أي : يعلوا ظهره لعلوّه وملاسته، وقرأ حمزة بتشديد الظاء والباقون بالتخفيف ﴿ وما استطاعوا له نقباً ﴾ أي : خرقاً لصلابته وسمكه وزيادة التاء هنا تدل على أنّ العلوّ عليه أصعب من نقبه لارتفاعه وصلابته والتحام بعضه ببعض حتى صار سبيكة واحدة من حديد ونحاس في علوّ الجبل فإنهم ولو احتالوا ببناء درج من جانبهم أو وضع تراب حتى ظهروا عليه لم ينفعهم ذلك لأنهم لا حيلة لهم على النزول من الجانب الآخر، ويؤيده أنهم إنما يخرجون في آخر الزمان بنقبه لا بظهورهم عليه ولا ينافي نفي الاستطاعة لنقبه ما رواه الإمام أحمد والترمذي في التفسير وابن ماجه في الفتن «عن أبي رافع عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال :«إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غداً فيعودون إليه كأشدّ ما كان حتى إذا بلغت مدّتهم وأراد اللّه تعالى أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء اللّه تعالى فيستثني فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس » الحديث، وفي حديث الصحيحين عن زينب بنت جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم :" فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلق " رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وروياه عن أبي هريرة وفيه مثل هذا وعقد تسعين لأن هذا في آخر الزمان.
ثم إنه قيل فما قال حين فراغه قيل :﴿ قال هذا ﴾ أي : السد يعني الإقدار عليه ﴿ رحمة ﴾ أي : نعمة ﴿ من ربي ﴾ أي : المحسن إليّ بإقداري عليه ومنع العادية ﴿ فإذا جاء وعد ربي ﴾ بقرب قيام الساعة أو بوقت خروجهم ﴿ جعله دكاً ﴾ أي : مدكوكاً مبسوطاً، روي أنهم يخرجون على الناس فيتبعون المياه ويتحصن الناس في حصونهم منهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع مخضبة بالدماء فيقولون : قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسوة وعلواً، فيبعث اللّه تعالى عليهم نغفاً في رقابهم، وفي رواية في آذانهم فيهلكون، قال صلى الله عليه وسلم «فو الذي نفسي بيده إنّ دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكراً » أخرجه الترمذي، قوله قسوة وعلواً أي : غلظة وفظاظة وتكبراً، والنغف دود يخرج في أنوف الإبل والغنم، وقوله : وتشكر من لحومهم شكراً يقال : شكرت الشاة شكراً حين امتلأ ضرعها لبناً، والمعنى أنها تمتلئ أجسادها لحماً وتسمن، وعن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة من النخل فلما رحلنا إليه عرف ذلك فينا فقال :" ما شأنكم " قلنا : يا رسول اللّه ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال :" غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه واللّه خليفتي على كل مسلم وإنه شاب قطط أي : شديد الجعودة، وقيل : حسن الجعودة عينه طافية أي : بارزة، وقيل : مخسوفة كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارج من حلة بين الشام والعراق فعاث أي : أفسد يميناً وعاث شمالاً يا عباد اللّه فاثبتوا " قلنا : يا رسول اللّه وما مكثه في الأرض قال :" أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيام كأيامكم " قلنا : يا رسول اللّه فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : لا أقدروا له قدره أي : واليوم الثاني والثالث كذلك، وسكت عن ذلك للعلم به من الأوّل، قلنا : يا رسول اللّه وما إسراعه في الأرض قال :«كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت وتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت درّاً واسعة ضروعها وأملأها خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردّون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمرّ بالخربة فيقول لها : أخرجي كنزك فيتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شاباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ بعث اللّه المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء في دمشق بين مهرودتين أي : حلتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه حتى يدركه بباب لد قرية بالشام قريبة من الرملة فيقتله ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم اللّه منه فيمسح عن وجوههم ويخبرهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى اللّه تعالى إلى عيسى عليه السلام إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فجوّز عبادي إلى الطور ويبعث يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمرّ آخرهم فيقول : لقد كان بهذه مرّة ماء ويحصر نبي اللّه وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي اللّه عيسى وأصحابه إلى اللّه تعالى فيرسل اللّه تعالى عليهم النغف في رقابهم وهو بالتحريك دود يكون في أنوف الإبل والغنم كما مرّ واحدتها نغفة فيصبحون فرساً أي : قتلى الواحد فريس، ثم يهبط نبي اللّه عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه رممهم ونتنهم فيرغب نبيّ اللّه عيسى وأصحابه إلى اللّه فيرسل اللّه تعالى عليهم طيراً كأعناق البخت فتحملهم حيث شاء اللّه تعالى، ثم يرسل اللّه تعالى مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة وهي بالتحريك جمعها زلف مصانع الماء، ويجمع على المزالف أيضاً أي : فتصير الأرض كأنها مصنعة من مصانع الماء، وقيل كالمرآة، وقيل الزلفة الروضة، وقيل بالقاف أيضاً ثم يقال للأرض انبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل وهو بتحريك الراء والسين من الإبل والغنم من عشرة إلى خمسة وعشرين حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس وهو مهموز الجماعة الكثيرة واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث اللّه تعالى عليهم ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيهاتهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة ﴿ وكان وعد ربي ﴾ الذي وعد به في خروج يأجوج ومأجوج وإحراقهم الأرض وإفسادهم لها قرب قيام الساعة ﴿ حقاً ﴾ كائناً لا محالة فلذلك أعان تعالى على هدمه " هذا آخر حكاية ذي القرنين. وفي القصة أن ذا القرنين دخل الظلمة فلما رجع توفي بشيرزور وذكر بعضهم أنّ عمره كان نيفاً وثلاثين سنة، سبحان من يدوم عزه وبقاؤه، ثم إنه تعالى قال عاطفاً على ما تقديره فقد بان أمر ذي القرنين أيّ بيان وصدق في قوله :﴿ فإذا جاء وعد ربي ﴾ فإنه إذا جاء وعدنا جعلناه بقدرتنا التي نؤتيها ليأجوج ومأجوج دكاً فأخرجناهم على الناس بعد خروج الدجال.
﴿ وتركنا بعضهم ﴾ أي : يأجوج ومأجوج ﴿ يومئذٍ ﴾ أي : حين يخرجون ﴿ يموج ﴾ أي : يضطرب ﴿ في بعض ﴾ كموج البحر أو يموج بعض الخلق في بعض فيضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم حيارى ويؤيده ﴿ ونفخ في الصور ﴾ أي : القرن النفخة الثانية لقوله تعالى :﴿ فجمعناهم ﴾ أي : الخلائق في مكان واحد يوم القيامة، قال البقاعي : ويجوز أن تكون هذه الفاء فاء الفصيحة فيكون المراد النفخة الأولى أي : ونفخ فمات الخلائق كلهم فبليت أجسامهم وتفتت عظامهم كما كان من تقدّمهم، ثم نفخ الثانية فجمعناهم من التراب بعد تمزقهم فيه وتفرّقهم في أقطار الأرض بالسيول والرياح وغير ذلك ﴿ جمعاً ﴾ فأمتناهم دفعة واحدة كلمح البصر وحشرناهم إلى الموقف للحساب ثم للثواب والعقاب.
﴿ وعرضنا ﴾ أي : أظهرنا ﴿ جهنم يومئذٍ ﴾ أي : إذ جمعناهم لذلك ﴿ للكافرين عرضاً ﴾ ظاهرة لهم بكل ما فيها من الأهوال وهم لا يجدون لهم عنها مصرفاً.
ثم وصفهم بما أوجب لهم ذلك بقوله تعالى :﴿ الذين كانت ﴾ كوناً كأنه جبلة لهم ﴿ أعينهم ﴾ وهو بدل من الكافرين ﴿ في غطاء عن ذكري ﴾ أي : عن القرآن فهم لا يهتدون به وعما جعلنا على الأرض من زينة دليلاً على الساعة بإفنائه ثم إحيائه وإعادته بعد إبداده ﴿ وكانوا ﴾ بما جعلناهم عليه ﴿ لا يستطيعون سمعاً ﴾ أي : لا يقدرون أن يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما يتلو عليهم بغضاله فلا يؤمنون به.
ولما بيّن تعالى أمر الكافرين أنهم أعرضوا عن الذكر وعن استماع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أتبعه بقوله تعالى :﴿ أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي ﴾ من الأحياء كالملائكة وعزير والمسيح والأموات كالأصنام ﴿ من دوني ﴾ وقوله تعالى :﴿ أولياء ﴾ أي : أرباباً مفعول ثان ليتخذوا، والمفعول الثاني لحسب محذوف والمعنى أظنوا أنّ الاتخاذ المذكور ينفعهم ولا يغضبني ولا أعاقبهم عليه كلا، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بسكونها وهم على مراتبهم في المدّ. ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري ليس الأمر كذلك حسن جداً قوله تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم ﴿ إنا أعتدنا جهنم ﴾ التي تقدم أنا عرضناها لهم ﴿ للكافرين ﴾ أي : هؤلاء وغيرهم ﴿ نزلاً ﴾ أي : هي معدة لهم كالمنزل المعد للضعيف وهذا على سبيل التهكم ونظيره قوله تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [ آل عمران، ٢١ ].
ثم ذكر تعالى ما فيه تنبيه على جهل القوم فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ﴾ لهم ﴿ هل ننبئكم ﴾ أي : نخبركم وأدغم الكسائي لام هل في النون والباقون بالإظهار ﴿ بالأخسرين أعمالاً ﴾ أي : الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يرجون به فضلاً ونوالاً فنالوا هلاكاً وبواراً، واختلفوا فيهم فقال ابن عباس وسعد بن أبي وقاص : هم اليهود والنصارى وهو قول مجاهد، قال سعد بن أبي وقاص : أما اليهود فكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأما النصارى فكفروا بالجنة فقالوا : لا طعام فيها ولا شراب انتهى. قال البقاعي : وكذا قال اليهود لأن الفريقين أنكروا الحشر الجسماني وخصوه بالروحاني، وقيل : هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع.
تنبيه :﴿ أعمالاً ﴾ تمييز للأخسرين جمع عمل وإن كان مصدر التنوع أعمالهم، ثم وصفهم تعالى بضدّ ما يدّعونه لأنفسهم من نجاح السعي وإحسان الصنع فقال تعالى :﴿ الذين ضلّ ﴾ أي : ضاع وبطل ﴿ سعيهم في الحياة الدنيا ﴾ لكفرهم.
تنبيه : محل الموصول الجر نعتاً أو بدلاً أو بياناً أو النصب على الذم أو الرفع على الخبر المحذوف فإنه جواب السؤال، ومعنى خسرانهم أنه مثلهم بمن يشتري سلعة يرجو فيها ربحاً فخسر وخاب سعيه كذلك أعمال هؤلاء الذين أتعبوا أنفسهم مع ضلالهم فبطل جدّهم واجتهادهم في الحياة الدنيا ﴿ وهم يحسبون ﴾ أي : يظنون، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بالكسر ﴿ أنهم يحسنون صنعاً ﴾ أي : عملاً يجازون عليه لاعتقادهم أنهم على الحق.
ثم بيّن تعالى السبب في بطلان سعيهم بقوله تعالى :﴿ أولئك ﴾ أي : البعداء البغضاء ﴿ الذين كفروا بآيات ربهم ﴾ أي : بدلائل توحيده من القرآن وغيره ﴿ ولقائه ﴾ أي : رؤيته لأنه يقال : لقيت فلاناً أي : رأيته فإن قيل : اللقاء عبارة عن الوصول قال تعالى :﴿ فالتقى الماء على أمر قد قدر ﴾ [ القمر، ١٢ ] وذلك في حق اللّه تعالى محال فوجب حملة على لقاء ثواب اللّه تعالى كما قال بعض المفسرين أجيب : بأنّ لفظ اللقاء، وإن كان عبارة عن الوصول إلا أن استعماله في الرؤية مجاز ظاهر مشهور والذي يقول : إن المراد لقاء ثواب اللّه قال : لا يتم إلا بالإضمار وحمل اللفظ على المجاز المتعارف المشهور أولى من حمله على ما يحتاج إلى الإضمار، ثم قال تعالى :﴿ فحبطت ﴾ أي : فبسبب جحدهم الدلائل بطلت ﴿ أعمالهم ﴾ فصارت هباءً منثوراً فلا يثابون عليها، وفي قوله تعالى :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ﴾ قولان ؛ أحدهما : أنا نزدري بهم وليس لهم عندنا وزن ومقدار، تقول العرب : ما لفلان عندي وزن أي : قدر لخسته، وروى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال :«ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند اللّه جناح بعوضة »، وقال : اقرؤوا إن شئتم ﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ﴾ »، الثاني : لا نقيم لهم ميزاناً لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ليتميز مقدار الطاعات ومقدار السيئات، وقال أبو سعيد الخدري : تأتي ناس بأعمالهم يوم القيامة عندهم في التعظيم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئاً فذلك قوله تعالى :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ﴾.
ولما كان هذا السياق في الدلالة على أنّ لهم جهنم أوضح من الشمس قال تعالى :﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم الذي بيّناه من وعيدهم ﴿ جزاؤهم ﴾ ثم بيّن ذلك الجزاء بقوله تعالى :﴿ جهنم ﴾ وصرّح بالسببية بقوله تعالى :﴿ بما كفروا ﴾ أي : بما أوقعوا التغطية للدلائل ﴿ واتخذوا آياتي ﴾ الدالة على وحدانيتنا ﴿ ورسلي ﴾ المؤيدين بالمعجزات الظاهرات ﴿ هزوا ﴾ أي : مهزوءاً بهما فلم يكتفوا بالكفر الذي هو طعن في الإلهية حتى ضموا إليه الهزو الذي هو أعظم احتقاراً.
ولما بيّن سبحانه وتعالى ما لا حد قسمي أهل الجمع تنفيراً عنهم بيّن ما للآخرين على تقدير الجواب لسؤال يقتضيه الحال ترغيباً في اتباعهم والاقتداء بهم بقوله :﴿ إن الذين آمنوا ﴾ أي : باشروا الإيمان ﴿ وعملوا ﴾ تصديقاً لإيمانهم ﴿ الصالحات ﴾ من الخصال ﴿ كانت لهم ﴾ أي : في علم اللّه قبل أن يخلقوا البناء أعمالهم على الأساس ﴿ جنات ﴾ أي : بساتين ﴿ الفردوس ﴾ أي : أعلى الجنة وأوسطها والإضافة إليه للبيان، روي عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إذا سألتم اللّه تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة » وقال كعب : ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وقال قتادة : الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها، وقال كعب : الفردوس هو بستان الجنة الذي فيه الأعناب، وقال مجاهد : هو البستان بالرومية، وقال الزجاج : هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية، وقال عكرمة : هي الجنة بلسان الحبش، وقال الضحاك : هي الجنة الملتفة الأشجار ﴿ نزلاً ﴾ أي : منزلاً كما كان السعير والأغلال لأولئك نزلاً.
وقوله تعالى :﴿ خالدين فيها ﴾ حال مقدرة ﴿ لا يبغون ﴾ أي : لا يريدون أدنى إرادة ﴿ عنها حولاً ﴾ أي : تحويلاً إلى غيرها، قال ابن عباس : لا يريدون أن يتحوّلوا عنها كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى.
ولما ذكر تعالى في هذه السورة أنواع الدلائل والبيّنات وشرح فيها أقاصيص الأوّلين والآخرين نبه على حال كمال القرآن بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ﴾ يا أشرف الخلق للخلق ﴿ لو كان البحر ﴾ أي : ماؤه على عظمته عندكم ﴿ مداداً ﴾ وهو اسم لما يمدّ به الشيء كالحبر للدواة والسليط للسراج ﴿ لكلمات ﴾ أي : لكتب كلمات ﴿ ربي ﴾ أي : المحسن إليّ ﴿ لنفد ﴾ أي : فني مع الضعف فناء لا تدارك له ﴿ البحر ﴾ لأنه جسم متناه ﴿ قبل أن تنفذ ﴾ أي : تفنى وتفرغ ﴿ كلمات ربي ﴾ لأنّ معلوماته تعالى غير متناهية والمتناهي لا يفي البتة بغير المتناهي، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية على التذكير والباقون بالفوقية على التأنيث. ولما لم يكن أحد غيره يقدر على إمداد البحر قال تعالى :﴿ ولو جئنا بمثله ﴾ أي : بمثل البحر الموجود ﴿ مدداً ﴾ أي : زيادة ومعونة ونظيره قوله تعالى :﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللّه ﴾ [ لقمان، ٢٧ ]، واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال البغوي وابن عباس : قالت اليهود : تزعم يا محمد أنا قد أوتينا الحكمة، وفي كتابك ﴿ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ﴾ [ البقرة، ٢٦٩ ]، ثم تقول :﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ﴾ [ الإسراء، ٨٥ ] فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وقال البيضاوي : وسبب نزولها أن اليهود قالوا : في كتابكم ﴿ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ﴾ وتقرؤون ﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ﴾ انتهى. وقال في «الكشاف » يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات اللّه، وقيل : لما نزل ﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ﴾ قالت اليهود : أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
ولما كانوا ربما قالوا : مالك لا تحدّث من هذه الكلمات بكل ما سألنا عنه قال اللّه تعالى :﴿ قل ﴾ يا خير الخلق لهم ﴿ إنما أنا بشر ﴾ في استبداد القدرة على إيجاد المعدوم والإخبار بالغيب ﴿ مثلكم ﴾ أي : لا أمر لي ولا قدرة إلا ما يقدرني ربي عليه ولكن ﴿ يوحى إليّ ﴾ أي : من اللّه تعالى الذي خصني بالرسالة كالوحي إلى الرسل قبلي ﴿ أنما إلهكم ﴾ الذي يجب أن يعبد ﴿ إله واحد ﴾ لا ينقسم بمجانسة ولا غيرها قادر على ما يريد، لا منازع له لم يؤخر جواب ما سألتموني عنه من عجز ولا من جهل هذا الذي يعني كل أحد علمه، وأما ما سألتم عنه في أمر الروح والقصتين تعنتا لي فأمر لو جهلتموه ما ضرّكم جهله ﴿ فمن ﴾ أي : فتسبب عن وحدته المستلزمة لقدرته أنه من ﴿ كان يرجو لقاء ربه ﴾ أي : يخاف المصير إليه وقيل يأمل رؤية ربه والرجاء يكون بمعنى الخوف والأمل جميعاً قال الشاعر :
فلا كل ما ترجو من الخير كائن ولا كل ما ترجو من الشر واقع
فجمع بين المعنيين ﴿ فليعمل عملاً ﴾ ولو قليلاً ﴿ صالحاً ﴾ يرتضيه اللّه ﴿ ولا يشرك ﴾ أي : وليكن ذلك العمل مبنياً على الأساس وهو أن لا يشرك ولو بالرياء ﴿ بعبادة ربه أحداً ﴾ فإذا عمل ذلك حاز فخار علوم الدنيا والآخرة، روي أن جندب بن زهير قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم إني لأعمل العمل للّه فإذا اطلع عليه سرّني فقال :«إن اللّه لا يقبل ما شورك فيه فنزلت تصديقاً »، وروي أنه قال له :«لك أجران أجر السر وأجر العلانية » وذلك إذا قصد أن يقتدي به، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«اتقوا الشرك الأصغر قالوا : وما الشرك الأصغر ؟ قال : الرياء » وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول عن اللّه تعالى :«أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء هو للذي عمله »، وعن سعيد بن فضالة قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول :«إذا جمع اللّه تبارك وتعالى الناس ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان يشرك في عمل عمله للّه فليطلب ثوابه منه فإن اللّه تعالى أغنى الشركاء عن الشرك » والآية جامعة لخلاصتي العلم والعمل وهما التوحيد والإخلاص في الطاعة.
Icon