مدنية، وقيل : إلا ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ الآيات السبع فمكية، وهي خمس أو ست أو سبع وسبعون آية، وألف وخمس وسبعون كلمة، وخمسة آلاف وثمانون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي له العظمة الظاهرة والحكمة الباهرة ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم جميع خلقه بنعمه المتواترة ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص من أراد من عباده بما يرضيه فكان حامده وشاكره.
بسم الله الرحمان الرحيم
ﰡ
واختلفوا هل هذه الآية منسوخة أو لا ؟ فقال مجاهد وعكرمة : هي منسوخة بقوله تعالى :﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فإنّ خمسه وللرسول ﴾ ( الأنفال، ٤١ ) الآية فكانت الغنائم يومئذٍ للنبيّ صلى الله عليه وسلم فنسخها الله تعالى بالخمس، وقال بعضهم : هي ناسخة من وجه ومنسوخة من وجه وذلك أن الغنائم كانت حراماً على الأمم الذين من قبلنا في شرائع أنبيائهم، وأباحها الله تعالى بهذه الآية لهذه الأمة، وجعلها ناسخة لشرع من قبلنا، ثم نسخت بآية الخمس، وقال عبد الله بن زيد بن أسلم : هي ثابتة غير منسوخة، ومعنى الآية : قل الأنفال لله وللرسول يضعها حيث أمره الله تعالى، وقد بيّن الله تعالى مصارفها في قوله :﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فإنّ خمسه ﴾ الآية.
فإن قيل : ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول ؟ أجيب : بأنّ معناه أن حكم الغنيمة مختص بالله ورسوله بأمر الله يقسمها على ما تقتضيه حكمته، ويمتثل الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الله تعالى فيها وليس الأمر في قسمها مفوّضاً إلى رأي أحد ﴿ فاتقوا الله ﴾ بطاعته، واتركوا مخالفته واتركوا المخاصمة والمنازعة في الغنائم ﴿ وأصلحوا ذات بينكم ﴾ أي : وأصلحوا الحال فيما بينكم بالمودّة وترك النزاع وتسليم أمر الغنائم إلى الله ورسوله ﴿ وأطيعوا الله ورسوله ﴾ فيما يأمركم به وينهاكم عنه ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ حقاً، فإنّ الإيمان يقتضي ذلك.
فإن قيل : إنه تعالى قال هنا :﴿ وجلت قلوبهم ﴾ وفي آية أخرى ﴿ وتطمئن قلوبهم بذكر الله ﴾ ( الرعد، ٢٨ ) فكيف الجمع بينهما ؟ أجيب : بأنه لا منافاة بينهما ؛ لأنّ الوجل هو خوف العقاب، والاطمئنان إنما يكون من اليقين وشرح الصدر بمعرفة التوحيد، وهذا مقام الخوف والرجاء، وقد اجتمعا في آية واحدة وهي قوله تعالى :﴿ تقشعر منه جلود الذين يخشون ريهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ﴾ ( الزمر، ٢٣ ) عند رجاء ثواب الله.
قال أهل التحقيق : الخوف على قسمين : خوف العقاب وهو خوف العصاة، وخوف الجلال والعظمة، وهو خوف الخواص ؛ لأنه تعالى غني بذاته عن كل الموجودات وما سواه من المخلوقات محتاجون إليه، والمحتاج إذا حضر عند الملك الغني هابه وخافه، وليست تلك الهيبة من العقاب بل مجرد علمه بكونه غنياً عنه وكونه محتاجاً إليه يوجب تلك المهابة وذلك الخوف، وأما العصاة فيخافون عقابه، والمؤمن إذا ذكر الله وجل قلبه وخافه على قدر مرتبته ﴿ وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ﴾ أي : تصديقاً ويقيناً ؛ لأن زيادة الإيمان بزيادة التصديق وذلك على وجهين :
الوجه الأوّل : وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه الواحدي إن كل من كانت عنده الدلائل أكثر وأقوى كان أزيد إيماناً ؛ لأنّ عند حصول كثرة الدلائل وقوّتها يزول الشك ويقوى اليقين، فتكون معرفته بالله أقوى، فيزداد إيمانه، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام :( لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح ).
الوجه الثاني : وهو أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند الله، ولما كانت التكاليف متوالية في زمنه صلى الله عليه وسلم فكلما تجدد تكليف كانوا يزدادون تصديقاً وإقراراً، ومن المعلوم أن من صدّق إنساناً في شيئين كان أكثر ممن يصدّقه في شيء واحد، فقوله تعالى :﴿ وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ﴾ معناه : أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد، فكان ذلك زيادة في الإيمان والتصديق.
فإن قيل : إن تلك الآيات لا توجب الزيادة وإنما الموجب هو سماعها أو معرفتها أجيب : بأن ذلك هو المراد من الآية، واختلفوا هل الإيمان يقبل الزيادة والنقصان أو لا ؟ فالذين قالوا : إن الإيمان عبارة عن التصديق القلبي قالوا : لا يقبل الزيادة ولا النقصان، والذين قالوا : إنه مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل قالوا : يقبل الزيادة والنقصان، واحتجوا بهذه الآية من وجهين :
الأوّل : أنّ قوله تعالى :﴿ زادتهم إيماناً ﴾ يدل على أنّ الإيمان يقبل الزيادة، ولو كان عبارة عن التصديق فقط لما قبل الزيادة، وإذا قبل الزيادة فقد قبل النقص.
الوجه الثاني : أنه تعالى ذكر في هذه الآية أوصافاً متعدّدة من أحوال المؤمنين، ثم قال بعد ذلك :﴿ أولئك هم المؤمنون حقاً ﴾ وذلك يدل على أنّ تلك الأوصاف داخلة في مسمى الإيمان، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ) ففي الحديث دليل على أنّ للإيمان أدنى وأعلى، فيكون قابلاً للزيادة والنقص، وقال عمير بن حبيب : إن للإيمان زيادة ونقصاناً، قيل له : فما زيادته وما نقصانه فقال : إذا ذكرنا الله وحمدناه، فذلك زيادته، وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي : إنّ للإيمان فرائض وشرائط وحدوداً وسنناً فمن استكملها فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، ثم وصف الله تعالى المؤمنين الكاملين بصفة أخرى ثالثة، وهي الاتكال عليه بقوله تعالى :﴿ وعلى ربهم يتوكلون ﴾ أي : يفوّضون جميع أمورهم إليه لا يرجون غيره، ولا يخافون سواه ؛ لأنّ المؤمن إذا كان واثقاً بوعد الله تعالى ووعيده كان من المتوكلين عليه لا على غيره، وهذا الحال مرتبة عالية ودرجة شريفة، وهي أنّ الإنسان بحيث يصير لا يبقى له اعتماد في أمر من الأمور إلا على الله تعالى، وهذه الصفات الثلاث مرتبة على أحسن صفات الترتيب، فإنّ المرتبة الأولى هي الوجل عند ذكر الله، والمرتبة الثانية هي الانقياد لمقامات تكاليفه، والمرتبة الأخيرة الانقطاع بالكلية عما سوى الله والاعتماد بالكلية على فضل الله بل الغنى بالكلية عما سوى الله، ثم إنّ هذه المراتب الثلاث أحوال معتبرة في القلوب والبواطن.
﴿ الذين يقيمون الصلاة ﴾ أي : الذين يؤدّونها بحقوقها ﴿ ومما رزقناهم ﴾ أي : أعطيناهم ﴿ ينفقون ﴾ في طاعة الله ؛ لأنّ رأس الطاعات المعتبرة في الظاهر ورئيسها بذل النفس في الصلاة، وبذل المال في مرضاة الله، ويدخل في ذلك صلاة الفرض والنفل والزكاة والصدقات والإنفاق في الجهاد والإنفاق على المساجد والقناطر، ثم قال تعالى :
تنبيه : اختلف العلماء في أنه هل للشخص أن يقول : أنا مؤمن حقاً، أو لا ؟ فقال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه : الأولى أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، ولا يقول : أنا مؤمن حقاً، وقال أصحاب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه : الأولى أن يقول : أنا مؤمن حقاً، ولا يجوز أن يقول : إن شاء الله تعالى، واستدل للأوّل بوجوه :
الأوّل أن قوله : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ليس على سبيل الشك، ولكن الشخص إذا قال : أنا مؤمن فقد مدح نفسه بأعظم المدائح فربما حصل له بذلك عجب، فإذا قال : إن شاء الله تعالى زال ذلك العجب، وحصل الانكسار له.
الثاني إنّ الله تعالى ذكر في أوّل الآية ما يدل على الحصر وهو قوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون ﴾ هم كذا وكذا وكلمة إنما تفيد الحصر، وذكر في آخر الآية قوله تعالى :﴿ أولئك هم المؤمنون حقاً ﴾ وهذا أيضاً يفيد الحصر، فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى، ثم إنّ الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس، فكان الأولى له أن يقول : إن شاء الله تعالى، وعن الحسن أنّ رجلاً سأله : أمؤمن أنت ؟ فقال : الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا مؤمن بها، وإن كنت تسألني عن قوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ﴾ الآية فلا أدري أنا منهم أم لا ؟ وقال سفيان الثورّي : من زعم أنه مؤمن حقاً عند الله، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية، وهذا إلزام منه أي : كما لا نقطع أنه من أهل الجنة قطعاً، فلا نقطع أنه مؤمن حقاً.
الثالث : أنّ قوله : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى للتبرّك، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم :( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ) مع العلم القطعيّ بأنه لاحق بأهل القبور.
الرابع : أنّ المؤمن لا يكون مؤمناً حقاً إلا إذا ختم له بالإيمان، ومات عليه، وهذا لا يحصل إلا عند الموت، فلهذا السبب حسن أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، فالمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة.
الخامس : أنّ ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع ألا ترى أنه تعالى قال :﴿ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ﴾ ( الفتح، ٢٧ ) وهو تعالى منزه عن الشك والريب، فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليماً منه لعباده فالأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى الله تعالى حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان، واستدلّ الثاني بوجهين :
الأول : أنّ المتحرك يجوز أن يقول : أنا متحرّك، ولا يجوز أن يقول أنا متحرّك إن شاء الله تعالى، وكذا في القول في القائم والقاعد فكذا هنا.
الثاني : أنه تعالى قال :﴿ أولئك هم المؤمنون حقاً ﴾ فقد حكم الله لهم بكونهم مؤمنين حقاً، فكان قوله : إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله تعالى لهم به، وذلك لا يجوز، وأجاب الأوّل عن قولهم : المتحرّك لا يجوز أن يقول : أنا متحرك إن شاء الله تعالى بالفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمناً وبين وصفه بكونه متحركاً إذ الإيمان يتوقف حاله على الخاتمة، والحركة فعل للإنسان نفسي، فحصل الفرق بينهما، وعن قولهم : إنه تعالى قال :﴿ أولئك هم المؤمنون حقاً ﴾ فحكم لهم بكونهم مؤمنين حقاً إذا أتوا بتلك الأوصاف الخمسة على الحقيقة، ونحن لا نعلم ذلك، فثبت حينئذ أنّ الصواب مع أصحاب القول الأوّل :﴿ لهم ﴾ أي : للموصوفين بتلك الصفات ﴿ درجات ﴾ أي : منازل في الجنة ﴿ عند ربهم ﴾ بعضها أعلى من بعض ؛ لأنّ المؤمنين تتفاوت أحوالهم في الأخذ بتلك الأوصاف المذكورة، فلهذا تتفاوت منازلهم في الجنة على قدر أعمالهم. قال عطاء : درجات الجنة يرتفعون فيها بأعمالهم، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنّ في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام )، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :( في الجنة مائة درجة لو أنّ العالمين اجتمعوا في إحداهنّ لوسعتهم ) ﴿ ومغفرة ﴾ أي : لما فرط منهم ﴿ ورزق كريم ﴾ أعدّ لهم في الجنة لا ينقطع عدده ولا ينتهي أمده.
فإن قيل : أليس المفضول إذا علم حصول الدرجات العالية للفاضل، وحرمانه منها فإنه يتألم قلبه ويتنغص عيشه وذلك يحيل كون الثواب رزقاً حسناً ؟ أجيب : بأنّ استغراق كل أحد في سعادته الحاضرة تمنعه من حصول النظر إلى غيره، وبالجملة فأحوال الآخرة لا تناسب أحوال الدنيا إلا بالاسم.
﴿ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ﴾ يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج واختلفوا في تقدير ذلك، فقال المبرد : تقديره الأنفال لله والرسول وإن كرهوا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق إلى القتال وإن كانوا كارهين له.
قال الرازي : وهذا الوجه أحسن الوجوه المذكورة في هذا الموضع، وقال عكرمة : تقديره فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فإنّ ذلك خير لكم كما أنّ إخراج محمد من بيته خير لكم، وإن كرهه فريق منكم، وقال الكسائيّ : الكاف متعلق بما بعده، وهو قوله :﴿ يجادلونك في الحق ﴾، والتقدير كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه، وقيل : الكاف بمعنى على تقديره امض على الذي أخرجك ربك، وقيل : الكاف بمعنى إذ تقديره واذكر إذ أخرجك ربك من بيتك بالحق ﴿ وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون ﴾ الخروج والجملة حال من كاف أخرجك، وقيل : كما خبر مبتدأ محذوف أي : هذه الحالة في كراهتهم لها مثل إخراجك في حال كراهتهم، وقد كان خيراً لهم، فكذلك هذه أيضاً، وذلك أنّ أبا سفيان قدم بعير من الشام في أربعين راكباً منهم عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل الزهريّ، وفيها تجارة كثيرة، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم لقيّ العير لكثرة المال وقلة العدوّ، فلما سمع أبو سفيان بمسير النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه استأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ وبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم ويخبرهم أنّ محمداً وأصحابه قد خرجوا لعيرهم، فخرج ضمضم سريعاً إلى مكة، وكانت عاتكة أخت العباس بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رأت رؤيا فقالت لأخيها العباس : إني رأيت عجباً رأيت راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس قد اجتمعوا عليه، ورأيت كأنّ ملكاً نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها ورمى أي : رمى بها إلى فوق فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة، فقال العباس : اكتميها فلا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان صديقاً له، فذكرها له واستكتمه فذكرها الوليد لأبيه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش، قال العباس : فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال : يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل علينا قال : فلما فرغت من طوافي أقبلت حتى جلست معهم فقال أبو جهل : يا بني عبد المطلب متى حدثت هذه الفتنة فيكم ؟ قلت : وما ذاك، قال : الرؤيا التي رأت عاتكة، قلت : وما رأت ؟ قال : يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث فنتربص بكم الثلاث فإن بك ما قالت حقاً فسيكون وإن تمض الثلاث، ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب، قال العباس : فوالله ما كان مني إليه كبير أمر إلا أني جحدت ذلك وأنكرته أن لا تكون عاتكة رأت شيئاً، ثم تفرقنا، فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت، قال : قلت : والله ما كان مني إليه من شيء وايم الله تعالى لأتعرّضن له فإن عاد لأكفينكنه، قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب أرى أنّ قد فاتني منه أمر أحبّ أن أدركه منه قال : فدخلت المسجد، فرأيته قال : فوالله إني لأمشي نحوه لأتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به، وكان أبو جهل رجلاً خفيفاً حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر إذ خرج نحو باب المسجد يشتدّ قال : قلت : ماله لعنه الله أكان هذا فرقاً مني أن أشاتمه قال : فإذا هو سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره، وقد حوّل رحله وشق قميصه، وهو يقول : يا معشر قريش هذه أموالكم مع أبي سفيان، وقد عرض لها محمد وأصحابه، فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء، وهو بالمدّ : الإسراع منصوب على الإغراء أي : الزموا الإسراع على كل صعب وذلول أي : أسرعوا مجتمعين ولا تقفنّ لأن تختاروا للركوب ذلولاً دون صعب عيركم أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير في المثل لا في العير ولا في النفير فقيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس، فقال : والله لا يكون ذلك أبداً حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ونقيم القينات والمعازف ببدر فيتسامع جميع العرب بمخرجنا وأن محمداً لم يصب العير فإنا قد أعضضناه فمضى بهم إلى بدر، وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة، ونزل جبريل عليه السلام وقال : يا محمد إنّ الله وعدكم إحدى الطائفتين إمّا العير وإمّا قريشاً، فاستشار النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقال : ما تقولون ؟ إنّ القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحبّ إليكم أم النفير ؟ قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ردّد عليهم، وقال : إنّ العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدّو فقام عند غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا الكلام وأمالاه إلى المضيّ إلى العدوّ، ثم قام سعد بن عبادة، فقال : انظر أمرك فاقض فوالله لو سرت إلى عدن أبين، وهي مدينة معروفة باليمن، وأبين بوزن أبيض اسم رجل من حمير عدن بها أي : أقام، ما تخلف عنك رجل من الأنصار.
ثم قال المقداد بن عمرو : يا رسول الله امض لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال :( أشيروا عليّ أيها الناس ) وهو يريد الأنصار ؛ لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة : إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلى ديارنا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتخوّف أن تكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة فقام سعد بن معاذ فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال :«أجل »، قال : قد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالله الذي بعثك بالحق نبياً لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقي بنا عدوّنا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعلّ الله تعالى يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسطه قول سعد رضي الله عنه، قال : سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا، فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حدّثه عن أهل بدر قال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول :( هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله تعالى، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله تعالى ) قال عمر فوالذي بعثه بالحق نبياً ما أخطأ الحدود التي حدّها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال :( يا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقاً فإني وجدت ما وعدني الله حقاً ) فقال عمر : كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها، فقال :( ما أنتم أسمع لما أقول لهم منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ شيئاً ).
وروي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء، فناداه العباس وهو في وثاقه أي : قيده وكان العباس حينئذ مأسوراً مقيداً لا يصلح، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ؟ قال : لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك فكانت الكراهة من بعضهم لقوله تعالى :﴿ وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون ﴾.
وقرأ أبو عمرو بإدغام التاء في التاء بخلاف عنه ﴿ ويريد الله أن يحق الحق ﴾ أي : يظهره ﴿ بكلماته ﴾ أي : بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر ﴿ ويقطع دابر الكافرين ﴾ أي : يستأصلهم، والمعنى أنكم تريدون أن تصيبوا مالاً، ولا تلقوا مكروهاً والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق، وما يحصل لكم من فوز الدارين.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ ليحق الحق ﴾ بعد قوله :﴿ أن يحق الحق ﴾ يشبه التكرار أجيب : بأنّ المعنيين متباينان وذلك أنّ الأوّل لبيان المراد وما بينه وبين مرادهم من التفاوت، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول على اختيار ذات الشوكة على غيرها ونصره عليها.
وعن عمر رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة أي وبضعة عشر، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو اللّهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه، وأخذه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه، وقال : يا نبيّ الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.
وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار ذال إذ عند التاء، والباقون بالإدغام، ﴿ فاستجاب لكم أني ﴾ أي : بأني فحذف الجارّ وسلط عليه استجاب فغصب محله ﴿ ممدّكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ أي : متتابعين يردف بعضهم بعضاً، وقرأ نافع بفتح الدال، وقيل : بالفتح والكسر، والباقون بالكسر، وعدهم بالألف أوّلاً، ثم صارت ثلاثة آلاف، ثم خمسة آلاف كما في آل عمران، فقيل : نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة، وفيها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وميكائيل عليه السلام على الميسرة، وفيها عليّ رضي الله تعالى عنه في صور الرجال عليهم عمائم بيض وثياب بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم، فقاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ويوم حنين.
وروي أنّ أبا جهل قال لابن مسعود من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصاً ؟ قال : من الملائكة، فقال أبو جهل : هم غلبونا لا أنتم.
وروي أنّ رجلاً من المسلمين بينما هو يشتدّ في طلب رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه، فنظر إلى المشرك وقد خرّ مستلقياً وشق وجهه، فحدّث الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( صدقت ذاك من مدد السماء الثالثة، فقتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين )، وعن أبي داود المازنيّ تبعت رجلاً من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي.
وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال :( قال لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فتقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف ).
وقيل : إنهم لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم، فإنّ جبريل عليه السلام أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح عليه السلام بصيحة واحدة.
﴿ وما جعله الله إلا بشرى ﴾ لكم أي : وما جعل الإرداف بالملائكة إلا بشرى لكم ﴿ ولتطمئن به قلوبكم ﴾ فيزول ما بها من الوجل لقلتكم وذلتكم، والصحيح أنهم قاتلوا يوم بدر، ولم يقاتلوا فيما سواه لما تقدّم ﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾ أي : لا من عند غيره، وأما إمداد الملائكة وكثرة العدد والأهب ونحوها فهي وسايط لا تأثير لها، فلا تحسبوا أن النصر منها ولا تيأسوا منه بفقدها، وفي ذلك تنبيه على أنّ الواجب على المسلم أن لا يتوكل إلا على الله تعالى في جميع أحواله، ولا يثق بغيره، فإنّ الله تعالى بيده النصر والإعانة. ﴿ إنّ الله عزيز ﴾ أي : إنه تعالى قويّ منيع لا يقهره شيء ولا يغلبه غالب بل هو يقهر كلّ شيء ويغلبه ﴿ حكيم ﴾ في تدبيره ونصره ينصر من يشاء ويخذل من يشاء من عباده.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : النعاس في القتال أمنة من الله تعالى، وفي الصلاة وسوسة من الشيطان، وقرأ نافع بضم الياء وكسر الشين مخففة وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والشين مع التخفيف فيهما، والباقون بضم الياء وكسر الشين مشدّدة، ورفع السين من النعاس ابن كثير وأبو عمرو ونصبها الباقون على أن الله تعالى هو الفاعل ﴿ وينزل عليكم من السماء ماء ﴾ أي : مطراً ﴿ ليطهركم به ﴾ أي : من الأحداث والجنابات، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي، وذلك أنّ المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب رمل أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، فناموا فاحتلم أكثرهم، وكان المشركون قد سبقوهم على ماء بدر، فنزلوا عليه وأصبح المسلمون على غير ماء وبعضهم محدث وبعضهم جنب وأصابهم العطش، فوسوس إليهم الشيطان، أو قال لهم المنافقون : تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأنتم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون محدثين، فكيف ترجون أن تظهروا على عدوّكم وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة ؟ فحزنوا حزناً شديداً وأشفقوا، فأنزل الله تعالى مطراً أسال منه الوادي، فشرب منه المؤمنون واغتسلوا وتوضؤوا وسقوا الدواب وملؤوا الأسقية وطفئ الغبار وعظمت النعمة من الله عليهم بذلك، وكان دليلاً على حصول النصر والظفر وزالت عنهم وسوسة الشيطان كما قال تعالى :﴿ ويذهب عنكم رجز الشيطان ﴾ أي : وسوسة الشيطان التي ألقاها في قلوبكم، وقيل : الجنابة ؛ لأنها من تخييله.
فإن قيل : يلزم على هذا التكرار فإنّ هذا تقدّم في قوله تعالى :﴿ ليطهركم به ﴾ وأجيب عنه : بأنّ المراد من قوله تعالى :﴿ ليطهركم به ﴾ حصول الطهارة الشرعية ومن قوله تعالى ﴿ ويذهب عنكم رجز الشيطان ﴾ أن الرجز هو عين المنيّ، فإنه شيء مستخبث، وطابت أنفسهم كما قال تعالى :﴿ وليربط ﴾ أي : يحبس ﴿ على قلوبكم ﴾ باليقين والصبر ولبدت الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام كما قال تعالى :﴿ ويثبت به الأقدام ﴾ أي : أن تسوخ في الرمل، والضمير في «به » للماء ويجوز كما قال الزمخشريّ أن يكون للربط ؛ لأنّ القلب إذا تمكن فيه الصبر والجراءة ثبتت الأقدام في مواطن القتال.
﴿ إذ يوحي ربك ﴾ متعلق بيثبت أو بدل من ﴿ إذ يعدكم ﴾ ﴿ إلى الملائكة ﴾ أي : الذين أمدّ بهم المسلمين وقوله تعالى :﴿ إني ﴾ أي بأني﴿ معكم ﴾ أي : بالعون والنصرة مفعول يوحي ﴿ فثبتوا الذين آمنوا ﴾ أي : قوّوا قلوبهم بأن تقاتلوا المشركين معهم، وقيل : بالتبشير والإعانة، فكان الملك يمشي في صورة رجل أمام الصف ويقول : أبشروا فإنّ الله تعالى ناصركم عليهم فإنكم تعبدونه وهؤلاء لا يعبدونه، وقيل : بإلقاء الإلهام في قلوبهم كما أنّ للشيطان قوّة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم بالشر ويسمى ما يلقيه الشيطان وسوسة وما يلقيه الملك إلهاماً.
ثم بين تعالى المعية بقوله تعالى :﴿ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ أي : الخوف فلا يكون لهم ثبات وكان ذلك نعمة من الله تعالى على المؤمنين حيث ألقى الخوف في قلوب المشركين، وقرأ ابن عامر والكسائي برفع العين، والباقون بالسكون وقوله تعالى :﴿ فاضربوا ﴾ خطاب للمؤمنين وللملائكة ﴿ فوق الأعناق ﴾ أي : أعاليها التي هي المذابح والمفاصل والرؤوس، فإنها فوق الأعناق وقيل : المراد الأعناق، وفوق صلة، أو بمعنى على أي : اضربوا على الأعناق ﴿ واضربوا منهم كل بنان ﴾ قال ابن عطية : يعني : كل مفصل، وقال ابن عباس : يعني : الأطراف، والبنان جمع بنانة وهي أطراف الأصابع من اليدين والرجلين، وقال ابن الأنباري : كانت الملائكة لا تعلم كيف تقاتل بني آدم فعلمهم الله تعالى : قيل : إنما خصت الرأس والبنان بالذكر ؛ لأنّ الرأس أعلى الجسد وأشرف الأعضاء، والبنان أضعف الأعضاء، فيدخل في ذلك كل عضو في الجسد.
وقيل : أمرهم بضرب الرأس وبه هلاك الإنسان وبضرب البنان وبه تبطل حركته عن القتال ؛ لأنّ بالبنان يتمكن من مسك السيف والسلاح وحمله والضرب به فإذا قطع بنانه تعطل ذلك كله.
﴿ ذلكم ﴾ خطاب للكفرة على طريق الالتفات من الغيبة في شاقوا أي : ذلكم الذي عجل لكم ببدر من القتل والأسر ﴿ فذوقوه ﴾ عاجلاً ﴿ وأنّ للكافرين ﴾ آجلاً في الآخرة ﴿ عذاب النار ﴾ ووضع الظاهر فيه موضع المضمر للدلالة على أنّ الكفر سبب للعاجل والآجل.
ومنهم من لا يعتبر القرب لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان في سرية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرّوا إلى المدينة فقلت : يا رسول الله نحن الفرارون، فقال :«بل أنتم العكارون » وفي رواية «الكرارون » أي : المتعاطفون إلى الحرب، وأنا فئتكم.
وانهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف، فقال عمر : أنا فئتك ﴿ فقد باء ﴾ أي : رجع ﴿ بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ﴾ أي : المرجع هي، وعن ابن عباس أنّ الفرار من الزحف من أكبر الكبائر هذا إذا لم يزد العدد على الضعف لقوله تعالى :﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً ﴾ ( الأنفال، ٦٦ ) وقيل : هذا في أهل بدر خاصة ؛ لأنه ما كان يجوز لهم الانهزام يوم بدر ؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان معهم قاله مجاهد.
﴿ فلم تقتلوهم ﴾ أي : بقوّتكم ﴿ ولكنّ الله قتلهم ﴾ أي : بنصره إياكم بأن هزمهم لكم.
قال البيضاوي تبعاً للزمخشريّ : والفاء جواب شرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم، فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم، اه. ورده ابن هشام بأنّ الجواب المنفي بلم لا تدخل عليه الفاء، واختلف في سبب نزول قوله تعالى :﴿ وما رميت ﴾ يا محمد ﴿ إذ رميت ولكنّ الله رمى ﴾ على ثلاثة أقوال : الأوّل وهو قول أكثر المفسرين نزلت في يوم بدر، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ندب إلى قتال بدر نزلوا بدراً ووردت عليهم روّاد قريش وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج وأبو يسار غلام لبني العاصي بن سعد، فأتوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما : أين قريش ؟ فقالا : هم وراء هذا الكثيب الذي بالعدوة القصوى الكثيب العقنقل، وهو الكثيب العظيم المتداخل الرمل، قاله الجوهريّ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «كم القوم ؟ » قالا : كثير، قال : ما عدّتهم، قالا : لا ندري، قال :«كم ينحرون كل يوم ؟ » قالا : يوماً عشرة ويوماً تسعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( القوم ما بين التسعمائة إلى الألف، ثم قال لهما :«فمن فيهم من أشراف قريش ؟ » قالا : عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وأبو جهل بن هشام وعدّا جماعة أخرى، فقال صلى الله عليه وسلم «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها » فلما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة والسلام :«هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهمّ إني أسألك ما وعدتني » فأتاه جبريل عليه السلام، وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال لعليّ رضي الله عنه :«أعطني قبضة من حصباء الوادي » فرمى بها في وجوههم وقال :«شاهت الوجوه » أي : قبحت، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه وفمه ومنخره، فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، والمعنى إنّ الرمية التي رميتها بلغ أثرها إلى ما لا يبلغه أثر البشر لكونها كانت برمي الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم ؛ لأن كفاً من الحصباء لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية البشر فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ صورتها وجدت منه ونفاها عنه ؛ لأنّ أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله تعالى، فكان الله تعالى هو فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من الرسول صلى الله عليه وسلم أصلاً.
القول الثاني : إنها نزلت يوم خيبر، روي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ قوساً وهو على باب خيبر، فرمى سهماً، فأقبل السهم حتى قتل لبابة بن أبي الحقيق وهو على فرسه فنزلت.
القول الثالث : إنها نزلت في يوم أحد في قتل أبيّ بن خلف، وذلك إنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعظم رميم وفتته وقال : يا محمد من يحيي هذه وهي رميم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :( يحييه الله، ثم يميتك، ثم يحييك ثم يدخلك النار ) فأسر يوم بدر، فلما افتدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ عندي فرساً أعلفها كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى » فلما كان يوم أحد أقبل أبيّ يركض على ذلك الفرس حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «استأخروا » ورماه بحربة كسر ضلعاً من أضلاعه، فمات ببعض الطريق فنزلت، والأصح الأوّل وإلا أدخل في أثناء القصة كلاماً أجنبياً عنها، وذلك لا يليق، وقال الرازي : لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع ؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي :﴿ ولكن الله قتلهم ﴾، ﴿ ولكن الله رمى ﴾ بكسر النون مخففة ورفع الهاء من اسم الله فيهما والباقون بفتح النون مشدّدة ونصب الهاء وقوله تعالى :﴿ وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً ﴾ معطوف على قوله تعالى :﴿ ولكن الله رمى ﴾ أي : ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة، ثم ختم الله تعالى هذه الآية بقوله تعالى :﴿ إنّ الله سميع ﴾ لأقوالكم ﴿ عليم ﴾ بأحوال قلوبكم وهذا جرى مجرى التحذير والترهيب ؛ لئلا يغترّ العبد بظواهر الأمور ويعلم أنّ الخالق تعالى يطلع على ما في الضمائر والقلوب.
﴿ ذلكم ﴾ إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع أي : الغرض ذلكم، وقوله تعالى :﴿ وإنّ الله موهن كيد الكافرين ﴾ معطوف على «ذلكم » أي : المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الواو وتشديد الهاء وتنوين النون ونصب الدال، وقرأ حفص بسكون الواو وتخفيف الهاء وعدم تنوين النون وخفض الدال والباقون بسكون الواو وتخفيف الهاء مع تنوين النون ونصب الدال.
﴿ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ﴾ أكثر المفسرين على أنه خطاب للكفار.
روي أنّ أبا جهل لعنه الله قال يوم بدر : اللهمّ أينا كان أقطع للرحم وأفجر فأهلكه الغداة، وقال السدي : إنّ المشركين لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهمّ انصر أعلى الجندين وأهدى القبيلتين وأكرم الحزبين بأفضل الدين، فأنزل الله تعالى هذه الآية أي : إن تستنصروا لأهدى القبلتين وتستقضوا، فقد جاءكم النصر والقضاء بهلاك من هو كذلك، وهو أبو جهل، ومن قتل معه دون النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وقيل : خطاب للمؤمنين وذلك إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى المشركين وكثرة عددهم وعددهم استغاث بالله تعالى وطلب ما وعده الله تعالى به من إحدى الطائفتين، وتضرع إلى الله تعالى، وكذلك الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقال تعالى :﴿ إن تستفتحوا ﴾ أي : إن تطلبوا النصر الذي تقدّم به الوعد فقد جاءكم الفتح أي : حصل ما وعدتم فاشكروا الله تعالى والزموا الطاعة.
قال القاضي عياض : وهذا القول أولى ؛ لأنّ قوله تعالى :﴿ فقد جاءكم الفتح ﴾ لا يليق إلا بالمؤمنين، اه.
وقال البيضاوي إنه خطاب لأهل مكة عن سبيل التهكم اه. ويدل له قوله تعالى :﴿ وإن تنتهوا ﴾ أي : عن الكفر ومعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ فهو خير لكم ﴾ أي : لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلتين ﴿ وإن تعودوا ﴾ أي : لقتال النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ نعد ﴾ أي : لنصرته عليكم ﴿ ولن تغني ﴾ أي : تدفع ﴿ عنكم فئتكم ﴾ أي : جماعتكم ﴿ شيئاً ﴾ ؛ لأنّ الله تعالى على الكافرين فيخذلهم ﴿ ولو كثرت ﴾ فئتكم ﴿ وإنّ الله مع المؤمنين ﴾ بالنصر والمعونة، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح الهمزة على ولأنّ الله تعالى والباقون بالكسر على الاستئناف.
روى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم مرّ على أبيّ بن كعب وهو يصلي فدعاه، فعجل في صلاته ثم جاء، فقال له صلى الله عليه وسلم :«ما منعك عن إجابتي ؟ » قال : كنت أصلي، قال :( ألم تجد فيما أوحي إليّ ﴿ استجيبوا وللرسول ﴾ ؟ ويؤخذ من ذلك أنّ إجابته صلى الله عليه وسلم بالقول : لا تقطع الصلاة، وهو كذلك، بل ولا بالفعل الكثير كما قاله بعض أصحابنا، وهو ظاهر الحديث أيضاً.
ولما كان اجتناء ثمرة الطاعة في غاية القرب منه نبه على ذلك باللام دون إلى فقال :﴿ لما يحييكم ﴾ من العلوم الدينية فإنها حياة القلوب والجهل موتها، قال أبو الطيب :
لا تعجبنّ الجهول حليته *** فذاك ميت وثوبه كفن
أو مما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد، وقال السدي : هو الإيمان ؛ لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان، وقال ابن إسحق : هو الجهاد أعزكم الله تعالى به بعد الذل، وقال العتبي : هو الشهادة لقوله تعالى :﴿ بل أحياء عند ربهم يرزقون ﴾ ( آل عمران، ١٦٩ )
﴿ واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه ﴾ أي : إنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليماً كما يردّه الله تعالى، فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله.
وقال الضحاك : يحول بين المرء المؤمن والمعصية وبين الكافر والطاعة، وقال السدي : يحول بين المرء وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه، وقال مجاهد : يحول بين المرء وقلبه، فلا يعقل ولا يدري ما يعمل.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول :( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) قالوا : يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا ؟ قال :( القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء ) ﴿ وإنه ﴾ أي : واعلموا أنه تعالى :﴿ إليه تحشرون ﴾ لا إلى غيره فلا تتركوا مهملين معطلين فيجازيكم بأعمالكم وفي هذا تشديد في العمل وتحذير عن الكسل والغفلة.
فإن قيل : كيف جاز أن تدخل النون المؤكدة في جواب الأمر ؟ أجيب : بأنّ فيه معنى النهي كقولك : انزل عن الدابة لا تطرحك ولا تطرحنك، وكقوله تعالى :﴿ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان ﴾ ( النمل، ١٨ )
﴿ واعلموا أنّ الله شديد العقاب ﴾ لمن خالفه.
روي أنه صلى الله عليه وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحا من الشام فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة واسمه رفاعة، أو مروان بن عبد المنذر وكان مناصحاً لهم ؛ لأنّ ماله وعياله عندهم، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقالوا : يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه إنه الذبح أي : حكم سعد هو القتل، فلا تفعلوا، فقال أبو لبابة : والله ما زالت قدماي من مكانهما حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدّ نفسه على سارية من سواري المسجد وقال : والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أما لو جاءني لاستغفرت له، وأمّا إذ فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله تعالى عليه، فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خرّ مغشياً عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له : قد تيب عليك فحل نفسك، فقال : لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده فقال : إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي، فقال له صلى الله عليه وسلم :( يجزيك الثلث أن تتصدّق به ) فنزلت هذه الآية.
وعن المغيرة نزلت في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعن جابر بن عبد الله أنّ أبا سفيان خرج من مكة، فعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم خروجه وعزم الذهاب إليه، فكتب رجل من المنافقين إليه : إنّ محمداً يريدكم فخذوا حذركم، فنزلت، وقيل : معنى لا تخونوا الله بأن لا تعطلوا فرائضه، ورسوله بأن لا تستنوا به، وأصل الخون النقص كما أنّ أصل الوفاء التمام، واستعماله في ضدّ الأمانة لتضمنه إياه، وقوله تعالى :﴿ وتخونوا أماناتكم ﴾ أي : ما ائتمنتم عليه من الدين وغيره مجزوم بالعطف على الأوّل أي : ولا تخونوا، أو منصوب بأن مضمرة بعد الواو على جواب النهي أي : لا تجمعوا بين الخيانتين كقوله :
لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله ***. . .
﴿ وأنتم تعلمون ﴾ أنكم تخونون أي : وأنتم علماء مميزون الحسن من القبيح
ثم إنه تعالى نبه بقوله تعالى :﴿ وإنّ الله عنده أجر عظيم ﴾ على أنّ سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا ؛ لأنها أعظم في الشرف، وأعظم في القوّة، وأعظم في المدّة ؛ لأنها تبقى بقاء لا نهاية له فهذا هو المراد من وصف الله الأجر الذي عنده بالعظم.
قال الرازي : ويمكن أن يتمسك بهذه الآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح ؛ لأنّ الاشتغال بالنوافل يفيد الأجر العظيم عند الله، والاشتغال بالنكاح يفيد الولد، ويوجب الحاجة إلى المال، وذلك فتنة، ومعلوم أنّ ما يفضي إلى الأجر العظيم عند الله هو خير مما يفضي إلى الفتنة، اه. لكن محله في غير المحتاج إلى النكاح الواجد أهبته، وإلا فالنكاح حينئذٍ أفضل وأولى من التخلي للعبادة.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله ﴾ أي : بالأمانة وغيرها ﴿ يجعل لكم فرقاناً ﴾ أي : هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل ﴿ ويكفر عنكم سيئاتكم ﴾ أي : يسترها ما دمتم على التقوى ﴿ ويغفر لكم ﴾ أي : يمح ما كان منكم غير صالح عيناً وأثراً، وقيل : السيآت الصغائر، والذنوب الكبائر، وقيل : المراد ما تقدّم وما تأخر ؛ لأنها في أهل بدر، وقد غفر الله تعالى لهم، وقوله تعالى :﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان، وإنه ليس مما توجبه تقواهم عليه كالسيد إذا وعد عبده إنعاماً على عمله.
قال البيضاوي : وإسناد أمثال هذا إنما يحسن للمزاوجة، ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم، اه.
واعترض عليه بأنه لا يتعين في مثل ذلك المشاكلة بل يجوز أن يكون ذلك استعارة ؛ لأنّ إطلاق المكر على إخفاء الله تعالى ما أوعده لمن استوجبه إن جعل باعتبار أنّ صورته تشبه صورة المكر فاستعارة، أو باعتبار الوقوع في صحبة مكر العبد فمشاكلة، وعلى هذا لا يحتاج كما قال الطيبي إلى وقوعه في صحبة مكر العبد قال : ومنه قول عليّ رضي الله عنه : من وسع الله تعالى عليه في دنياه ولم يعلم إنه مكر به فهو مخدوع في عقله.
ما كان ضرك لو مننت وربما | منّ الفتى وهو المغيظ المحنق |
وعن معاوية رضي الله عنه أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة قال : أجهل من قومي قومك قالوا :﴿ اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك ﴾ الآية، وما قالوا : إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه.
فإن قيل : قد حكى الله تعالى هذه المقالة عن الكفار، وهي من حسن نظم القرآن، فقد حصلت المعارضة في هذا القدر، وأيضاً حكي عنهم أنهم قالوا في سورة بني إسرائيل، ﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ﴾ ( الإسراء، ٩٠ ) الآية، وذلك أيضاً كلام الكفار، فقد حصل من كلامهم ما يشبه نظم القرآن وذلك يدل على حصول المعارضة، أجيب : بأنّ الإتيان بهذا القدر لا يكفي في حصول المعارضة ؛ لأنه كلام قليل لا تظهر فيه وجوه المعارضة والفصاحة والبلاغة ؛ لأنّ أقل ما وقع به التحدي سورة أو قدرها.
﴿ وما كان الله ليعذبهم ﴾ أي : بما سألوه ﴿ وأنت فيهم ﴾ أي : لأنّ العذاب إذا نزل عمّ، ولم يعذب أمّة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها ﴿ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾ أي : وفيهم من يستغفر، وهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كان في هذه الأمّة أمانان أما النبيّ صلى الله عليه وسلم فقد مضى وأمّا الاستغفار فهو كائن فيكم إلى يوم القيامة، فاللفظ وإن كان عامّاً إلا أنّ المراد بعضهم كما يقال قدم أهل البلدة الفلانية على القتال والمراد بعضهم.
وقال مجاهد : كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبيّ صلى الله عليه وسلم في الطواف ويستهزؤون به، ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون، ويخلطون عليه طوافه وصلاته، فالمكاء جعل الأصابع في الشدق، والتصدية الصفير، وقال مقاتل : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد الحرام قام رجلان عن يمينه ورجلان عن يساره يصفران ويصفقان ليخلطوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاته ﴿ فذوقوا العذاب ﴾ أي : عذاب القتل والأسر ببدر في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة ﴿ بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ كنتم تكفرون ﴾ اعتقاداً وعملاً.
﴿ إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم ﴾ في حرب النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ ليصدّوا عن سبيل الله ﴾ أي : ليصرفوا عن دين الله تعالى نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلاً منهم : أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وكلهم من قريش، وكان يطعم كل واحد منهم أيام بدر عشر جزائر، أو في أبي سفيان استأجر يوم أحد ألفين من العرب سوى من استجاش أي : اتخذه جيشاً، وأنفق عليهم أربعين أوقية، والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً، أو في أصحاب العير، فإنه لما أصيب قريش ببدر قيل لهم : أعينوا بهذا المال على حرب محمد لعلنا ندرك ثأرنا ففعلوا ﴿ فسينفقونها ثم تكون ﴾ أي : عاقبة الأمر ﴿ عليهم حسرة ﴾ أي : ندامة لفواتها وفوات ما قصدوه ﴿ ثم يغلبون ﴾ أي : آخر الأمر وإن كان الحرب بينهم سجالاً قبل ذلك كما اتفق لهم في بدر، فإنهم أنفقوا مع الكثرة والقوّة، ولم يغن عنهم شيء من ذلك بل كان وبالاً عليهم فإنه كان سبباً لجراءتهم حتى قدموا فما كان في الحقيقة إلا قوّة للمؤمنين ﴿ والذين كفروا ﴾ أي : ثبتوا على الكفر ﴿ إلى جهنم يحشرون ﴾ أي : يساقون إليها يوم القيامة فهم في خزي في الدنيا والآخرة.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل تعالى : وإلى جهنم يحشرون ؟ أجيب : بأنه أسلم منهم جماعة كأبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وحكيم بن حزام، بل ذكر أن الذين ثبتوا على الكفر يكونون كذلك.
أي : لفرط ازدحامهم، وقيل : ليميز المال الخبيث الذي أنفقه الكافر على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم من المال الطيب الذي أنفقه المؤمن في جهاد الكفار كإنفاق أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما في نصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم فيركمه جميعاً ﴿ فيجعله في جهنم ﴾ في جملة ما يعذبون به كقوله تعالى :﴿ فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ﴾ ( التوبة، ٣٥ )
الآية، واللام على هذا متعلقة بتكون من قوله تعالى :﴿ ثم تكون عليهم حسرة ﴾ وعلى الأوّل متعلقة بيحشرون أو يغلبون.
وقرأ ﴿ ليميز ﴾ حمزة والكسائيّ بضم الياء الأولى وفتح الميم وتشديد الياء الثانية مع الكسر والباقون بفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الثانية، وقوله تعالى :﴿ أولئك ﴾ إشارة إلى الذين كفروا ﴿ هم الخاسرون ﴾ أي : الكاملون في الخسران ؛ لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم.
فقال :﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ للذين كفروا ﴾ كأبي سفيان وأصحابه ﴿ إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ أي : قل لأجلهم هذا القول وهو أن ينتهوا عن الكفر وقتال النبيّ صلى الله عليه وسلم يغفر لهم ما قد سلف من ذلك ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل : إن تنتهوا يغفر لكم ﴿ وإن يعودوا ﴾ أي : إلى الكفر ومعاداة النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ فقد مضت سنة الأوّلين ﴾ أي : بإهلاك أعدائه ونصر أنبيائه وأوليائه وأجمع العلماء على أنّ الإسلام يجبّ ما قبله، واختلفوا هل الكافر الأصلي مخاطب بفروع الشريعة ؟ وهل يسقط عن المرتدّ ما مضى في حال ردّته كالكافر الأصلي كما هو ظاهر الآية ؟ وهل الردّة تحبط ما مضى من العبادات قبلها، ذهب أصحاب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه إلى أنه مخاطب بدليل قوله تعالى :﴿ ما سلككم في سقر ٤٢ قالوا لم نك من المصلين ﴾ ( المدثر، الآيات : ٤٢ ٤٣ ) الآية، وأنّ المرتدّ لا تسقط عنه العبادات الفائتة في الردّة تغليظاً عليه، وأنّ الردّة لا تحبط ما مضى، وقد تقدّم الكلام على ذلك في المائدة، وعن يحيى بن معاذ أنه قال : توحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.
﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ أي : شرك كما قاله ابن عباس، وقال الربيع : حتى لا يفتن أحدكم عن دينه ؛ لأنّ المؤمنين كانوا يفتنون عن دين الله في مبدأ الدعوة، فافتتن من المسلمين بعضهم، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى الحبشة، وفتنة ثانية وهو أنه لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة توامرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم، فأصاب المؤمنين جهد شديد، فأمر الله تعالى بقتالهم حتى تزول هذه الفتنة ﴿ ويكون الدين كله ﴾ خالصاً ﴿ لله ﴾ تعالى وحده لا يعبد غيره ﴿ فإن انتهوا ﴾ عن الكفر ﴿ فإن الله بما يعملون بصير ﴾ أي : فيجازيهم به.
واعلم أنّ الغنيمة والفيء اسمان لما يصيبه المسلمون من الحربيين والصحيح أنهما مختلفان، فالفيء ما حصل لنا مما هو لهم بلا إيجاف كجزية وعشر تجارة وما جلوا عنه ولو لغير خوف كضرّ أصابهم، وتركه مرتدّ وكافر معصوم بلا وارث، وكذا الفاضل عن وارث له غير حائز وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى :﴿ ما أفاء الله على رسوله ﴾ ( الحشر، ٧ )، وأمّا الغنيمة فهي ما حصل لنا منهم مما هو لهم بإيجاف أو سرقة أو التقاط، وكذا ما انهزموا عنه عند التقاء الصفين، ولو قبل شهر السلاح، أو أهداه الكافر لنا والحرب قائمة، ولم تحلّ الغنائم لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالاً جمعوه، فتأتي نار من السماء تأخذه، ثم أحلت للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكانت في صدر الإسلام له خاصة ؛ لأنه كالمقاتلين كلهم نصرة وشجاعة بل أعظم، ثم نسخ ذلك واستقل الأمر على أنها تجعل خمسة أقسام متساوية، ويؤخذ خمس رقاع ويكتب على واحدة لله أو للمصالح وعلى أربع للغانمين، ثم تدرج في بنادق مستوية، ويخرج لكل خمس رقعة، فما خرج لله أو للمصالح جعل بين أهل الخمس على خمسة أصناف، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه وذكر الله تعالى في الآية للتبرك، وأما ما كان له صلى الله عليه وسلم فهو لمصالح المسلمين كسد الثغور وأرزاق علماء بعلوم تتعلق بمصالحنا كتفسير وفقه وحديث، والصنف الثاني : ما ذكره الله تعالى بقوله :﴿ ولذي القربى ﴾ أي : قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب دون من عداهم لاقتصاره صلى الله عليه وسلم في القسم عليهم مع سؤال غيرهم من بني عمهم نوفل وعبد شمس له لقوله صلى الله عليه وسلم :( إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه ) فيعطون ولو أغنياء، ويفضل الذكر على الأنثى كالإرث ؛ لأنه عطية من الله تعالى تستحق بقرابة الأب كالإرث، فلا يعطي أولاد البنات من بني هاشم والمطلب شيئاً ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعط الزبير وعثمان مع أنّ أمّ كل واحد منهما كانت هاشمية.
والصنف الثالث : ما ذكره الله تعالى بقوله :﴿ واليتامى ﴾ اليتيم صغير ولو أنثى لخبر :«لا يتم بعد احتلام » لا أب له وإن كان له أمّ وجد، ومن فقد أمّه فقط يقال له : منقطع، واليتيم في البهائم من فقد أمّه، وفي الطير من فقد أباه وأمّه.
والصنف الرابع : ما ذكره الله تعالى بقوله :﴿ والمساكين ﴾ الصادقين بالفقراء والمسكين من له مال أو كسب لائق به يقع موقعاً من كفايته ولا يكفيه العمر الغالب، وقيل : سنة كمن يملك أو يكسب سبعة أو ثمانية ولا يكفيه إلا عشرة، والفقير من لا مال له أو له ذلك ولا يقع موقعاً من كفايته كمن يحتاج إلى عشرة، ولا يملك أو لا يكتسب إلا درهمين أو ثلاثة.
والصنف الخامس : ما ذكره الله تعالى بقوله :﴿ وابن السبيل ﴾ وهو المسافر المحتاج، ولا معصية بسفره والأخماس الأربعة الباقية للغانمين، وهم من حضر القتال ولو في أثنائه بنية القتال وإن لم يقاتل أو حضر بلا نية وقاتل كأجير لحفظ أمتعة وتاجر ومحترف، وقوله تعالى :﴿ إن كنتم آمنتم بالله ﴾ متعلق بمحذوف دل عليه واعلموا أي : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء فسلموه إليهم واقنعوا بالأخماس الأربعة الباقية، فإنّ العلم العملي إذا أمر به لم يرد منه العلم المجرد ؛ لأنه مقصود بالعرض، والمقصود بالذات هو العمل وقوله تعالى :﴿ وما ﴾ عطف على بالله ﴿ أنزلنا على عبدنا ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات والملائكة والنصر ﴿ يوم الفرقان ﴾ أي : يوم بدر، فإنه فرق به بين الحق والباطل ﴿ يوم التقى الجمعان ﴾ أي : جمع المؤمنين وجمع الكافرين، وهو يوم بدر وهو أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة، فالتقوا يوم الجمعة لتسعة عشر أو لسبعة عشر من رمضان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً والمشركون ما بين الألف والتسعمائة فهزم الله تعالى المشركين، وقتل منهم سبعون، وأسر منهم مثل ذلك { وا
على كلّ شيء قدير } فيقدر على نصر القليل على الكثير، والدليل على العزيز كما فعل ذلك بكم ذلك اليوم.
﴿ إذ أنتم بالعدوة الدنيا ﴾ أي : القربى من المدينة، بدل من يوم الفرقان أو من يوم التقى الجمعان، أو منصوب باذكروا مقدّراً، والعدوة الدنيا مما يلي المدينة ﴿ وهم بالعدوة القصوى ﴾ أي : البعدى من المدينة، وهي مما يلي مكة وكان الماء بها، وكان استظهار المشركين من هذا الوجه أشدّ.
والقصوى تأنيث الأقصى، وكان قياسه قلب الواو كالدنيا والعليا، ولكن لم تغلب تفرقة بين الاسم والصفة، فإنها تقلب في الاسم دون الصفة على الأكثر وقيل : بالعكس وعلى الأوّل القصوى وإن كان صفة للعدوة في الآية كالدنيا لكن غلب عليها الاسمية لترك الوصف بها في أكثر الاستعمالات كما قاله ابن جني، فالقصوى بالواو على القولين شاذ بالنظر إلى اسميتها في الأوّل وإلى وصفيتها في الثاني، ومثال الصفة الخالصة حلوى تأنيث الأحلى فهي بالواو مقيسة على الأوّل شاذة على الثاني، ومثال الاسم الخالص حزوى اسم مكان فهو بالواو شاذ على الأوّل مقيس على الثاني، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو العدوّة وهي شط الوادي بكسر العين فيهما، والباقون بضمّ العين فيهما، وأمّا الدنيا والقصوى فأمالهما حمزة والكسائي محضة، وأبو عمرو بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين ﴿ والركب ﴾ أي : العير التي خرجوا لها التي يقودها أبو سفيان ﴿ أسفل منكم ﴾ أي : أسفل منكم على ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر، وأسفل نصب على الظرفية معناه مكاناً أسفل من مكانكم، وهو مرفوع المحل ؛ لأنه خبر المبتدأ ﴿ ولو تواعدتم ﴾ أنتم والنفير للقتال ﴿ لاختلفتم في الميعاد ﴾ وذلك أنّ المسلمين خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج، وخرج الكفار مرعوبين مما بلغهم من تعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم فيمنعوها من المسلمين، فالتقوا على غير ميعاد لقلتهم وكثرة عدوّهم ﴿ ولكن ﴾ جمع الله تعالى بينهم على هذه الحالة من غير ميعاد ﴿ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ﴾ في علمه وهو نصر أوليائه وإعزاز دينه وإعلاء كلمته وقهر أعدائه، وقوله تعالى :﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة ﴾ بدل من ليقضي أو متعلق بقوله :﴿ مفعولاً ﴾ واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام أي : ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالطة شبهة حتى لا يبقى له على الله حجة، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به، فإنّ وقعة بدر من الآيات الواضحة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها.
وقرأ نافع والبزيّ وشعبة بياءين : الأولى مكسورة والثانية مفتوحة، والباقون بياء واحدة مشدّدة، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله :﴿ وإنّ الله لسميع عليم ﴾ أي : يسمع دعاءكم ويعلم حاجتكم وضعفكم لا تخفى عليه خافية.
فإن قيل : رؤيا الكثير قليلاً غلط، فكيف يجوز على الله تعالى ؟ أجيب : بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يسأل عما يفعل، أو أنه تعالى أراه بعضهم دون بعض، فحكم صلى الله عليه وسلم على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون، وقال الحسن : إنّ هذه الإراءة كانت في اليقظة قال : والمراد من المنام العين التي هي موضع النوم ﴿ ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ﴾ أي : ولو أراكم كثيراً لذكرته للقوم ولو سمعوا ذلك لفشلوا أي : جبنوا ﴿ ولتنازعتم ﴾ أي : اختلفتم ﴿ في الأمر ﴾ أي : أمر القتال وتفرّقت آراؤكم بين الفرار والقتال ﴿ ولكنّ الله سلم ﴾ أي : سلمكم من الفشل والتنازع فيما بينكم، وقيل : سلمكم من الهزيمة والقتل ﴿ إنه ﴾ تعالى ﴿ عليم ﴾ أي : بالغ العلم ﴿ بذات الصدور ﴾ أي : بما في القلوب من الجراءة والجبن والجزع وغير ذلك.
قال ابن مسعود : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفاً، والضميران مفعولا يرى، وقليلاً حال من الثاني ﴿ ويقللكم في أعينهم ﴾ أي : ويقللكم يا معشر المؤمنين في أعينهم أي : المشركين ؛ لئلا يهربوا وإذا استقلوا عدد المسلمين لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب لقتالهم، فيكون ذلك سبباً لظهور المؤمنين.
قال السدّيّ : قال ناس من المشركين : إنّ العير قد انصرفت، فارجعوا، فقال أبو جهل : الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه، فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم إنما محمد وأصحابه أكلة جزور يعني جمع آكل أي : قليل يشبعهم جزور واحد، يضرب مثلاً في القلة والأمر الذي لا يعبأ به، ثم قال : فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال، أراد بقوله ذلك القدرة والقوّة.
فإن قيل : كيف يمكن تقليل الكثير وتكثير القليل ؟ أجيب : بأنّ ذلك ممكن في قدرة الله تعالى، وإنّ الله تعالى على ما يشاء قدير، ويكون ذلك معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمعجزة هي من خوارق العادات، فلا ينكر ذلك، أو أنّ الله تعالى يستر عنهم بعضه بساتر، أو يحدث في أعينهم ما يستقلون له الكثير كما أحدث في عيون الحول ما يرون له الواحد اثنين، قيل لبعضهم : إنّ الأحول يرى الواحد اثنين، وكان بين يديه ديك قال : فمالي أرى هذين الديكين أربعة، وهذا قبل : التحام القتال فلما التحم أراهم إياهم مثليهم كما في آل عمران ﴿ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ﴾ أي : في علمه، وهو إعلاء كلمة الإسلام ونصر أهله.
فإن قيل : قد تقدّم ذلك في الآية المتقدّمة، فكان ذكره هنا محض تكرار أجيب : بأنّ المقصود من ذكره في الآية المتقدّمة هو أنه تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على الكافرين على وجه يكون معجزة دالة على صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمقصود من ذكره هنا ليس هو ذلك المعنى بل المقصود أنه تعالى ذكر هنا أنه قلل عدد المؤمنين في أعين الكفار، فبين تعالى أنه إنما فعل ذلك ليصير ذلك سبباً ؛ لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر فيصير ذلك سبباً لانكسارهم ﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ كلها فلا ينفذ إلا ما يريد إنفاذه فلا تجري الأمور على ما يظنه العباد، وفي هذا تنبيه على أنّ أمور الدنيا غير مقصودة وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاد اليوم المعاد.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم ﴾ أي : قاتلتم ؛ لأنّ اللقاء سبب للقتال غالباً ﴿ فئة ﴾ أي : جماعة كافرة ﴿ فاثبتوا ﴾ لقتالهم كما ثبتم في بدر ولا تحدثوا أنفسكم بفرار هذا هو النوع الأوّل ﴿ واذكروا الله كثيراً ﴾ بقلوبكم وألسنتكم قال ابن عباس : أمر الله تعالى أولياءه بذكره في أشدّ أحوالهم تنبيهاً على أنّ الإنسان لا يجوز له أن يخلو قلبه ولسانه عن ذكر الله، ولو أنّ رجلاً أقبل من المشرق إلى المغرب على أن ينفق الأموال سخاء والآخر من المغرب إلى المشرق يضرب بسيفه في سبيل الله لكان الذاكر لله أعظم أجراً، وقيل : المراد من هذا الذكر الدعاء بالنصر والظفر ؛ لأنّ ذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ أي : تظفرون بمرادكم من النصر والثبوت.
فإن قيل : هذه الآية توجب الثبات على كل حال وذلك يوهم أنها ناسخة لآية التحرّف والتحيز. أجيب : بأنّ المراد من الثبات الجدّ في المحاربة بل كان الثبات في هذا المقصود لا يحصل إلا بذلك التحرّف والتحيز.
﴿ وأطيعوا الله ورسوله ﴾ في سائر ما يأمران به ؛ لأنّ الجهاد لا ينفع إلا مع التمسك بسائر الطاعات ﴿ ولا تنازعوا ﴾ أي : تختلفوا فيما بينكم ﴿ فتفشلوا ﴾ أي : تجبنوا ﴿ وتذهب ريحكم ﴾ أي : قوّتكم ودولتكم، والريح مستعارة للدولة شبهها في نفوذ أثرها بالريح، ثم أدخل المشبه في جنس المشبه به ادعاء، وأطلق اسم المشبه به على المشبه، وقيل : المراد بها الحقيقة ؛ لأنه لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله تعالى، وفي حديث الشيخين «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور »، وعن النعمان بن مقرن قال :«شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا لم يقاتل من أوّل النهار أخر القتال حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر » أخرجه أبو داود ﴿ واصبروا ﴾ أي : عند لقاء العدوّ ولا تنهزموا عنه ﴿ إنّ الله مع الصابرين ﴾ بالنصر والمعونة.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أنّ الجنة تحت ظلال السيوف ) ثم قال صلى الله عليه وسلم :( اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم ).
ولما انهزموا وبلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة، فبلغه ذلك فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان، وقوله تعالى :﴿ والله شديد العقاب ﴾ يجوز أن يكون من كلام إبليس أي : إني أخاف الله ؛ لأنه شديد العقاب وأن يكون مستأنفاً أي : والله شديد العقاب لمن خالفه وكفر به.
فإن قيل : كيف يقدر إبليس أن يتصوّر بصورة البشر وإذا تشكل بصورة البشر فكيف يسمى شيطاناً ؟ أجيب : بأنّ الله تعالى أعطاه قوّة، وأقدره على فعل ذلك كما أعطى الملائكة قوّة وأقدرهم على أن يتشكلوا بصورة البشر لكن النفس الباطنية لم تتغير، فلم يلزم من تغير الصورة تغير الحقيقة.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( ما رؤي إبليس يوماً فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة ) وما ذاك إلا لما يرى من نزول الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما كان من يوم بدر.
﴿ ولو ترى ﴾ أي : عاينت وشاهدت يا محمد ﴿ إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة ﴾ أي : بقبض أرواحهم عند الموت ﴿ يضربون وجوههم وأدبارهم ﴾ أي : ظهورهم وأستاههم، قال البيضاويّ : ولعلّ المراد تعميم الضرب أي : يضربون ما أقبل منهم وما أدبر بمقامع من حديد ﴿ و ﴾ يقولون لهم :﴿ ذوقوا عذاب الحريق ﴾ أي : النار.
قال ابن عباس : كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف، وإذا ولوا ضربوا أدبارهم، فلا جرم قابلهم الله بمثله في وقت نزع الروح، وجواب لو محذوف، والتقدير لرأيت منظراً هائلاً وأمراً فظيعاً وعقاباً شديداً، والملائكة مرفوع بالفعل ويضربون حال منهم ويجوز أن يكون في قوله : يتوفى ضمير الله تعالى والملائكة مرفوعة بالابتداء ويضربون خبر.
﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ما حلّ بهم من العقاب ﴿ بأن ﴾ أي : بسبب أن ﴿ الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم ﴾ أي : مبدلاً لها بالنقمة ﴿ حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ أي : بأن يبدّلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوأ منه.
فإن قيل : فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة حتى غير الله تعالى نعمته عليهم، ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة أجيب : بأنه تعالى كما يغير الحال المرضية إلى المسخوطة يغير الحال المسخوطة ؟ إلى أسخط منها، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كفرة عبدة أوثان فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت عليه فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب ﴿ وإنّ الله سميع ﴾ لما يقولون ﴿ عليم ﴾ بما يفعلون.
فإن قيل : ما فائدة تكرير هذه الآية مرّة ثانية ؟ أجيب : بأنّ فيها فوائد :
منها : إنّ الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأوّل ؛ لأن الكلام الأوّل فيه ذكر أخذهم، وفي الثاني ذكر إغراقهم وذلك تفصيل.
ومنها : أنه ذكر في الآية الأولى أنهم كفروا بآيات الله، وفي الآية الثانية أنهم كذبوا بآيات ربهم ففي الآية الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها مع جحودهم لها وكفرهم بها.
ومنها : أنّ تكرير هذه القصة للتأكيد، ولما نيط به من الدلالة على كفران النعم بقوله :﴿ بآيات ربهم ﴾ وبيان ما أخذ به آل فرعون.
ومنها : أنّ الأولى لسببية الكفر، والثانية لسببية التغيير، والنقمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم ﴿ وكل ﴾ أي : من الفرق المكذبة أو من غرقى القبط وقتلى قريش ﴿ كانوا ظالمين ﴾ أنفسهم بالكفر والمعاصي وغيرهم بالإضلال واضعين الآيات في غير موضعها وهم يظنون بأنفسهم العدل، ولما وصف تعالى كل الكفار بقوله تعالى :﴿ وكل كانوا ظالمين ﴾.
﴿ إنّ شرّ الدواب عند الله ﴾ في حكمه وعلمه ﴿ الذين كفروا ﴾ أي : أصرّوا على الكفر ﴿ فهم لا يؤمنون ﴾ أي : لا يتوقع منهم إيمان.
﴿ الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرّة ﴾ بدل البعض من الذين كفروا، وهم يهود قريظة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا أي : يساعدوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح، وقالوا : نسينا وأخطأنا ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤوا معهم يوم الخندق وانطلق كعب بن الأشرف إلى أهل مكة فحالفهم، وإنما جعلهم الله تعالى شر الدواب ؛ لأنّ شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم وشر المصرين الناكثون العهود ﴿ وهم لا يتقون ﴾ الله في حذرهم.
روي أنّ معاوية كان بينه وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول : الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدراً، فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية يسأله فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذ عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء ) فرجع معاوية، قال الرازي : حاصل الكلام في هذه الآية أنه تعالى أمره بقتل من ينقض العهد على أقبح الوجوه، وأمره أن يتباعد على أقصى الوجوه، من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه، قال أهل العلم : إذا ظهرت آثار نقض العهد ممن عاهدهم الإمام من المشركين بأمر ظاهر مستفيض، إمّا أن يظهر ظهوراً محتملاً أو ظهوراً مقطوعاً به، فإن كان الأوّل وجب الإعلام عليه على ما هو مذكور في هذه الآية، وذلك أن قريظة عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فحصل للنبيّ صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء، ويعلمهم بالحرب، وأمّا إذا ظهر نقض العهد ظهوراً مقطوعاً به فههنا لا حاجة إلى نبذ العهد بل يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة، وهم في ذمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يرعهم إلا وجيش النبيّ صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، وذلك على أربعة فراسخ من مكة.
﴿ ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا ﴾ أي : خلصوا من القتل والأسر يوم بدر ﴿ إنهم لا يعجزون ﴾ الله أي : لا يفوتونه بهذا السبق في الانتقام منهم، إمّا في الدنيا، وإمّا في الآخرة بعذاب النار، وفيه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيمن، فاته من المشركين ولم ينتقم منه، فأعلمه الله تعالى أنهم لا يعجزونه، وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص يحسبن بالياء على الغيبة على أن الفعل للذين كفروا، والباقون بالتاء على الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
﴿ وأعدوا لهم ﴾ أي : لقتالهم ﴿ ما استطعتم من قوّة ﴾ الإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة إليه، وفي المراد بالقوّة أقوال.
الأوّل : الرمي وقد جاءت مفسرة به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول :«وأعدوا لهم ما استطعتم ألا إن القوّة الرمي ثلاثاً » أخرجه مسلم، وعن أبي أسيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا :«إذا كبسوكم فعليكم بالنبل »، وفي رواية :( ليس من اللهو محمود إلا ثلاثة : تأديب الرجل فرسه، وملاعبة أهله، ورميه بقوسه أي : نبله، فإنهنّ من الحق ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه، فإنها نعمة تركها أو كفرها ) أخرجه الترمذي.
والثاني : إنها الحصون.
والثالث : إنها جميع الأسلحة والآلات التي تكون لكم قوّة في الحرب على قتال عدوّكم وقوله تعالى :﴿ ومن رباط الخيل ﴾ مصدر بمعنى حبسها في سبيل الله سواء كانت ذكوراً أو إناثاً، وقال عكرمة : المراد الإناث.
وروي عن خالد بن الوليد أنه قال : لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها، وعن أبي محيريز أنه قال : كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف، وإناث الخيل عند البيات والغارات، وقيل : ربط الفحول أولى ؛ لأنها أقوى على الكرّ والفرّ، ويدلّ للأوّل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده، فإنّ شبعه وريه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة ) يعني حسناته، وعن عروة البارقيّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم )، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال :( ما أنزل عليّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة ﴿ فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ٧ ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره ﴾ ( الزلزلة : ٧- ٨ ) ﴿ ترهبون ﴾ أي : تخوفون ﴿ به ﴾ أي : بتلك القوّة أو بذلك الرباط ﴿ عدوّ الله وعدوّكم ﴾ أي : الكفار من أهل مكة وغيرهم، وذلك إنّ الكفار إذا علموا أنّ المسلمين متأهبون للجهاد مستعدون له مستكملون لجميع الأسلحة وآلات الحرب وإعداد الخيل مربوطة للجهاد خافوهم، فلا يقصدون دخول دار الإسلام بل يصير ذلك سبباً لدخول الكفار في الإسلام أو بذل الجزية للمسلمين ﴿ و ﴾ ترهبون ﴿ آخرين من دونهم ﴾ أي : غيرهم وهم المنافقون لقوله تعالى :﴿ لا تعلمونهم ﴾ ؛ لأنهم معكم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ﴿ الله يعلمهم ﴾ أي : إنهم منافقون.
فإن قيل : المنافقون لا يخافون القتال فكيف يوجب ما ذكر الإرهاب ؟ أجيب : بأنّ المنافقين إذا شاهدوا قوّة المسلمين، وكثرة آلاتهم وأسلحتهم كان ذلك مما يخوفهم ويقطع طمعهم من أن يصيروا غالبين، فيحملهم ذلك على أن يتركوا الكفر من قلوبهم، وبواطنهم ويصيروا مخلصين في الإيمان، وقيل : هم اليهود، وقيل : الفرس ﴿ وما تنفقوا من شيء ﴾ وإن قل ﴿ في سبيل الله ﴾ أي : طاعته جهاداً كان أو غيره ﴿ يُوفّ إليكم ﴾ قال ابن عباس : أجره، أي : لا يضيع في الآخرة أجره ويعجل الله عوضه في الدنيا ﴿ وأنتم لا تظلمون ﴾ أي : لا تنقصون من الثواب، ولما سئل ابن عباس عن هذا التفسير تلا قوله تعالى :﴿ آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ﴾ ( الكهف، ٣٣ ).
﴿ وإن جنحوا ﴾ أي : مالوا ﴿ للسلم ﴾ أي : الصلح ﴿ فاجنح ﴾ أي : فمل ﴿ لها ﴾ وعاهدهم، وتأنيث الضمير في لها لحمل السلم مع أنه مذكر على ضدّه وهو الحرب قال الشاعر :
السلم تأخذ منها ما رضيت به | والحرب يكفيك من أنفاسها جُرَعُ |
وعن مجاهد بقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ ( التوبة، ٥ )
وقال غيرهما : الصحيح إنّ الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام، وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً أو يجابوا إلى الهدنة أبداً وهذا ظاهر.
وقرأ شعبة بكسر السين، والباقون بالفتح ﴿ وتوكل على الله ﴾ أي : فوض أمرك إليه فيما عقدته معهم ؛ ليكون عوناً لك في جميع أحوالك ﴿ إنه هو السميع ﴾ ؛ لأقوالهم فهو يسمع كل ما أبرموه في ذلك، وفي غيره كما يسمعه علانية ﴿ العليم ﴾ بنياتهم فهو يعلم كل ما أخفوه كما إنه يعلم كل ما أعلنوه.
فإن قيل : فإذا كان الله تعالى مؤيده بنصره، فأيّ حاجة مع نصره تعالى إلى المؤمنين ؟ أجيب : بأن التأييد ليس إلا من الله تعالى دائماً لكنه على قسمين : أحدهما : ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة، والثاني ما يحصل بذلك فالأوّل هو المراد من قوله تعالى :﴿ أيدك بنصره ﴾، والثاني : هو المراد من قوله تعالى :﴿ وبالمؤمنين ﴾ والله تعالى هو مسبب الأسباب، وهو الذي أقامهم بنصره.
﴿ وألف ﴾ أي : جمع ﴿ بين قلوبهم ﴾ وذلك إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث إلى قوم أنفتهم شديدة، وحميتهم عظيمة حتى لو أنّ رجلاً من قبيلة لطم لطمةً واحدة، قاتلت عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره، ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أباه وأخاه وابنه، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصاراً دعاة، فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية، مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا قال تعالى :﴿ لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ﴾ أي : تناهت عداوتهم إلى حد لو أنفقت في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم تقدر على الألفة والصلاح بينهم ﴿ ولكن الله ألف بينهم ﴾ بقدرته البالغة، فإنه تعالى المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء ﴿ إنه ﴾ أي : الله تعالى ﴿ عزيز ﴾ أي : غالب على أمره لا يعصى عليه ما يريد ﴿ حكيم ﴾ لا يخرج شيء عن حكمته، وقيل : الآية نزلت في الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم فأنساهم الله تعالى ذلك، وألف بين قلوبهم بالإسلام حتى تصادقوا وصاروا أنصاراً، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته.
فإن قيل : هذا مكرّر، أجيب : بأنه تعالى لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقاً على جميع التقديرات، فلا يلزم حصول التكرار ؛ لأنّ المعنى في الآية الأولى : إن أرادوا خداعك كفاك الله تعالى أمرهم، والمعنى في هذه الآية عام في كل ما يحتاج إليه في الدين وقوله تعالى :﴿ ومن اتبعك من المؤمنين ﴾ إمّا في محل نصب على المفعول معه كقول الشاعر :
فحسبك والضحاك سيف مهند ***. . .
يروي الضحاك بالنصب على أنه مفعول معه، والمعنى : كفاك وكفى أتباعك المؤمنين الله ناصراً، أو رفع عطفاً على اسم الله تعالى أي : كفاك الله وكفى المؤمنين، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، وعن سعيد بن جبير أسلم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فتمم الله تعالى به الأربعين فنزلت هذه الآية.
تنبيه : تقييد ذلك بالصبر يدلّ على أنه تعالى ما أوجب هذا الحكم إلا بشرط كونه صابراً قادراً على ذلك، وإنما يحصل هذا الشرط عند حصول أشياء منها : أن يكون شديد الأعضاء قوياً جلداً، ومنها : أن يكون قويّ القلب شديد البأس شجاعاً غير جبان، ومنها : أن يكون غير متحرف لقتال أو متحيز إلى فئة، فإنّ الله تعالى استثنى هاتين الحالتين في الآيات المتقدّمة فعند حصول هذه الشروط كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة.
فإن قيل : حاصل هذه العبارة المطولة إنّ الواحد يثبت للعشرة فما الفائدة في العدول إلى هذه العبارة المطولة ؟ أجيب : بأنّ هذا إنما ورد على وفق الواقعة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث السرايا والغالب أن تلك السرايا ما كان ينقص عددها عن العشرين، وما كانت تزيد على المائة فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذين العددين.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بالتاء على التأنيث والباقون بالياء على التذكير ﴿ بأنهم ﴾ أي : بسبب أنهم ﴿ قوم لا يفقهون ﴾ أي : جهلة بالله تعالى واليوم الآخر، فلا يقاتلوا لطلب ثواب وخوف عقاب إنما يقاتلون حمية، فإذا صدقتموهم في القتال لا يثبتون معكم، وكان هذا يوم بدر فرض الله تعالى على الرجل الواحد من المسلمين قتال عشرة من الكافرين فثقلت على المؤمنين.
﴿ الآن خفف الله عنكم ﴾ أيها المؤمنون ﴿ وعلم أن فيكم ضعفاً ﴾ أي : في قتال الواحد للعشرة ﴿ فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ﴾ منهم ﴿ وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ﴾ منهم ﴿ بإذن الله ﴾ أي : بإرادته تعالى، فردّوا من العشرة إلى اثنين، فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوّهم لا يجوز أن يفروا، وقال عكرمة : إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين، فلما كثروا خفف الله تعالى عنهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر، فإن فر من اثنين فقد فر ﴿ والله مع الصابرين ﴾ بالنصر والمعونة فكيف لا يغلبون، قال سفيان بن شبرمة : وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل ذلك ونزل لما أخذوا الفداء من أسرى بدر.
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى | حتى يراق على جوانبه الدم |
ومثل عيسى في قوله :﴿ وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ ( المائدة، ١١٨ ).
ومثلك يا عمر مثل نوح قال :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ﴾ ( نوح، ٢٦ ) ومثل موسى حيث قال :﴿ ربنا اطمس على أموالهم ﴾ ( يونس، ٨٨ ) ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قول أبي بكر.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر :( يا أبا حفص، وكان ذلك أوّل ما كناه، أتأمرني أن أقتل العباس ؟ ) فجعل عمر يقول : ويل لعمر ثلكته أمه، ثم قال لأصحابه : أنتم اليوم عالة ولا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق، فقال ابن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتدّ خوفي فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إلا سهيل بن بيضاء »، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للقوم :«إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم » فقالوا : بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد وكان فداء الأسارى عشرين أوقية، والأوقية أربعون درهماً، فيكون مجموع ذلك ألفاً وستمائة درهم، وقال قتادة : كان الفداء يومئذٍ لكل أسير أربعة آلاف.
قال عمر رضي الله تعالى عنه : فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله تعالى عنه يبكيان قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ) لشجرة قريبة منه ﴿ تريدون ﴾ أيها المؤمنون ﴿ عرض الدنيا ﴾ بأخذ فداء من المشركين، وإنما سمي منافع الدنيا عرضاً، لأنها لا ثبات لها ولا دوام، فكأنها تعرض ثم تزول بخلاف منافع الآخرة ﴿ والله يريد ﴾ لكم ﴿ الآخرة ﴾ أي : ثوابها بقهركم المشركين ونصركم الدين ﴿ والله عزيز ﴾ لا يقهر ولا يغلب ﴿ حكيم ﴾ أي : لا يصدر منه فعل إلا وهو في غاية الإتقان، قال ابن عباس : كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذٍ قليل، فلما كثروا واشتدّ سلطانهم، أنزل الله تعالى في الأسرى ﴿ فإمّا مناً بعد وإما فداء ﴾ ( محمد، ٤ ) فجعل الله تعالى نبيه والمؤمنين في أمر الأسرى بالخيار إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا فادوهم، وإن شاءوا أعتقوهم أي : فهذه الآية نسخت تلك، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كانت الغنائم حراماً على الأنبياء والأمم، وكانوا إذا أصابوا مغنماً جعلوه للقربان وكانت تنزل نار من السماء فتأكله فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون وأخذوا الفداء فأنزل الله تعالى.
﴿ فكلوا مما غنمتم ﴾ أي : من الفداء، فإنه من جملة الغنائم ﴿ حلالاً طيباً ﴾ فأحل الله الغنائم بهذه الآية لهذه الأمة وقال صلى الله عليه وسلم :( أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( لم تحل الغنائم لأحد قبلنا، ثم أحل لنا الغنائم ذلك بأنّ الله رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا ).
فإن قيل : ما معنى الفاء في قوله تعالى :﴿ فكلوا ﴾ ؟ أجيب : بأنها سببية والمسبب محذوف تقديره أبحت لكم الغنائم فكلوا، وبنحوه تشبث من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، وحلالاً حال من المغنوم أو صفة للمصدر أي : أكلاً حلالاً، وفائدته إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة، ولذلك وصفه بقوله :﴿ طيباً ﴾. ﴿ واتقوا الله ﴾ في مخالفته ﴿ إنّ الله غفور ﴾ غفر ذنوبكم ﴿ رحيم ﴾ أباح لكم ما أخذتم، وقوله تعالى :﴿ واتقوا الله ﴾ إشارة إلى المستقبل، وقوله تعالى :﴿ إنّ الله غفور رحيم ﴾ إشارة إلى الحالة الماضية.
﴿ يا أيها النبيّ قل لمن في أيديكم من الأسرى ﴾ قرأ أبو عمرو بضم الهمزة وفتح السين بعدها ألف، والباقون بفتح الهمزة وسكون السين ولا ألف بعدها، وأمال الألف بعد الراء أبو عمرو وحمزة والكسائي محضة، وورش بين بين ﴿ إن يعلم الله في قلوبكم خيراً ﴾ أي : خلوص إيمان وصحة نية ﴿ يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ﴾ من الفداء، قال ابن عباس : نزلت في العباس وعقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحرث كان العباس أسيراً يوم بدر، ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس فكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر، فلم تبلغه النوبة حتى أسر، فقال العباس : كنت مسلماً إلا أنهم ألزموني فقال صلى الله عليه وسلم :( إن يكن ما تذكره حقاً فالله يجزيك وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا ) قال العباس : وكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترك ذلك الذهب لي فقال :( أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا ) قال : فكلفني فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن الحارث فقال العباس : تركتني يا محمد أتكفف قريشاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( فأين ما دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة، وقلت لها ما أدري ما يصيبني، فإن حدث بي ما حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم فقال العباس : وما يدريك يا ابن أخي ؟ قال :«أخبرني به ربي » فقال العباس : أنا أشهد أنك صادق وأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب، قال العباس : فأبدلني الله خيراً من ذلك لي الآن عشرون عبداً وإن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي ).
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفاً فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه، وأمره العباس أن يأخذ منه فأخذ منه ما قدر على حمله وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو المغفرة من ربكم يعني الدعوة بقوله تعالى :﴿ ويغفر لكم والله غفور رحيم ﴾ واختلف المفسرون في أنّ الآية نزلت في العباس خاصة أو في جملة الأسارى قال بعضهم : إنها نزلت في الكل قال الرازي : وهذا أولى ؛ لأنّ ظاهر الآية يقتضي العموم من ستة أوجه :
أحدها : قوله تعالى :﴿ قل لمن في أيديكم ﴾.
وثانيها : قوله تعالى :﴿ من الأسرى ﴾.
وثالثها : قوله تعالى :﴿ إن يعلم الله في قلوبكم خيراً ﴾.
ورابعها : قوله تعالى :﴿ يؤتكم خيراً ﴾.
وخامسها : قوله تعالى :﴿ مما أخذ منكم ﴾.
وسادسها : قوله تعالى :﴿ ويغفر لكم ﴾ فدلت هذه الألفاظ الستة على العموم فما الموجب للتخصيص أقصى ما في الباب أن يقال : سبب نزول هذه الآية هو العباس إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وأشار تعالى إلى القسمين بأداة البعد لعلوّ مقامهم فقال :﴿ أولئك ﴾ أي : العالو الرتبة ﴿ بعضهم أولى ببعض ﴾ أي : دون أقاربهم من الكفار قال ابن عباس في الميراث فكانوا يتوارثون بالهجرة فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوي الأرحام وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة انقطعت الهجرة وتوارثوا بالأرحام حيث كانوا وصار ذلك منسوخاً بقول تعالى ﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾ ﴿ والذين آمنوا ولم يهاجروا ﴾ أي : آمنوا وأقاموا بمكة ﴿ ما لكم من ولايتهم من شيء ﴾ أي : فلا إرث بينكم وبينهم ولا نصيب لهم في الغنيمة ﴿ حتى يهاجروا ﴾ أي : إلى المدينة ﴿ وإن استنصروكم في الدين ﴾ أي : ولم يهاجروا ﴿ فعليكم النصر ﴾ أي : فيجب عليكم أن تنصروهم على المشركين ﴿ إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾ أي : عهد فلا تنصروهم عليهم وتنقضوا عهدهم ﴿ وا بما تعملون بصير ﴾ في ذلك ترغيب في العمل بما حث عليه من الإيمان والهجرة وغير ذلك مما تقدّم وترهيب من العمل بأضدادها، وفي البصير إشارة إلى العلم بما يكون من ذلك خالصاً أو مشوباً، ففيه مزيد حث على الإخلاص.
﴿ والذين آمنوا ﴾ أي : بالله ورسوله وما أتى به ﴿ وهاجروا ﴾ في الله تعالى من يعادي نبيه صلى الله عليه وسلم سابقين ﴿ وجاهدوا في سبيل الله ﴾ بما تقدّم من المال والنفس وغيرهما، فبذلوا الجهد في إذلال الكفار ولم يذكر آلة الجهاد ؛ لأنها مع تقدّم ذكرها لازمة ﴿ والذين أووا ﴾ أي : من هاجر إليهم ﴿ ونصروا ﴾ أي : حزب الله ﴿ أولئك هم المؤمنون ﴾ أي : الكاملون في الإيمان ﴿ حقاً ﴾ أي : لأنهم حققوا إيمانهم بتحقيق مقتضاه من الهجرة والجهاد وبذل المال ونصرة الحق ثم وعدهم الموعد الكريم بقوله تعالى :﴿ لهم مغفرة ﴾ أي : لزلاتهم وهفواتهم ؛ لأن مبنى الآدمي على العجز اللازم عند التقصير وإن اجتهد ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه.
ولما ذكر تطهيرهم بالمغفرة ذكر تزكيتهم بالرحمة بقوله تعالى :﴿ ورزق ﴾ أي : من الغنائم وغيرها في الدنيا والآخرة ﴿ كريم ﴾ أي : لا تبعة ولا منة فيه.
﴿ والذين آمنوا من بعد ﴾ أي : بعد السابقين إلى الإيمان والهجرة ﴿ وهاجروا ﴾ أي : لاحقين للسابقين، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم من هاجر بعد الحديبية قال : وهي الهجرة الثانية ﴿ وجاهدوا معكم ﴾ أي : من تجاهدونه من حزب الشيطان ﴿ فأولئك منكم ﴾ أي : من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار فلهم ما لكم وعليهم ما عليكم من المواريث والمغانم وغيرها لأنّ الوصف الجامع هو المدار للأحكام وإن تأخرت رتبتهم عنكم بما أفهمته أداة البعد ﴿ وأولوا الأرحام ﴾ أي : ذووا القرابات ﴿ بعضهم أولى ببعض ﴾ قال ابن عباس : كانوا يتوارثون بالهجرة والإخاء حتى نزلت هذه الآية فبين الله تعالى بها أن سبب القرابة أقوى وأولى من سبب الهجرة والإخاء ونسخ بها ذلك التوارث وقوله تعالى :﴿ في كتاب الله ﴾ أي : في حكمه في اللوح المحفوظ أو القرآن وتمسك أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى بهذه على توريث ذوي الأرحام وأجاب عنه الشافعي رضي الله تعالى عنه بأنه لما قال في كتاب الله كان معناه في حكم الله الذي بينه في سورة النساء، فصارت هذه السورة مقيدة بالأحكام التي ذكرها في سورة النساء في قسمة المواريث وإعطاء أهل الفروض فروضهم وما بقي فللعصبات فوجب أن يكون المراد من هذا هو ذاك فقط فلا يتعدّى إلى توريث ذوي الأرحام ثم قال تعالى في ختم السورة ﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾ أي : إن هذه الأرحام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكمة وصواب وصلاح وليس فيها شيء من العبث والباطل لأنّ العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب ونظيره أنّ الملائكة لما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء قال الله تعالى مجيباً لهم :﴿ إني أعلم ما لا تعلمون ﴾ أي : كما علمتم بكوني عالماً بكل المعلومات فاعلموا أنّ حكمي يكون منزهاً عن الغلط فكذا هنا وقول البيضاوي في بعض النسخ تبعاً للزمخشريّ.