تفسير سورة الأنفال

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

وسرد أحداث معركة بدر الكبرى، ثمّ بيان إحباط مكائد المشركين ومؤامراتهم على قتل النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أو حبسه أو إخراجه من مكّة.
السؤال عن حكم قسمة الغنائم وبيان أوصاف المؤمنين
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
الإعراب:
ذاتَ بَيْنِكُمْ ذات: مفعول به، وهو مضاف، وبينكم: مضاف إليه، وأصل ذات:
ذوية، فحذفوا اللام التي هي الياء، كما حذفت من المذكر في «ذو» فإن أصله: ذو، فلما حذفت الياء من ذوية، فتحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار ذات. والوقف عليها بالتاء عند أكثر العلماء والقراء.
البلاغة:
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ذكر الاسم الجليل في هذا وفي قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ لتربية المهابة وتعليل الحكم.
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الإشارة بالبعيد لعلو رتبتهم وشرف منزلتهم.
حَقًّا صفة لمصدر محذوف تقديره: أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا، أو هو مصدر مؤكد لجملة التي هي: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ.
لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ الدرجات مستعارة لمراتب الجنة ومنازلها العالية.
240
المفردات اللغوية:
يَسْئَلُونَكَ يا محمد، والسؤال بمعنى طلب العلم يتعدى إلى مفعولين ثانيهما ب عن، وقد يتعدى بنفسه، وإذا كان بمعنى طلب المال فيتعدى إلى مفعولين بنفسه، نحو سألت زيدا مالا، وقد يتعدى بمن مثل: سألت محمدا من ماله. والسؤال هنا سؤال استفتاء لا استعطاء، وموجه ممن حضر معركة بدر. عَنِ الْأَنْفالِ غنائم بدر، والمراد بها هنا الغنائم الحربية، وهي ما حصل مستغنما من العدو، بتعب كان أو بغير تعب، قبل الظفر أو بعده. وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك وقتادة وعكرمة. قال الزمخشري: النفل: الغنيمة لأنها من فضل الله تعالى. وقد يراد بالأنفال جمع نفل: ما يشترطه الإمام للمجاهد، زيادة على سهمه. لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي أن حكمها لله يجعلها حيث شاء، والرسول يقسمها بأمر الله، فقسمها صلّى الله عليه وآله وسلم بينهم على السواء، كما رواه الحاكم في المستدرك.
ذاتَ بَيْنِكُمْ حقيقة ما بينكم بالمودة وترك النزاع، وذات البين: الصلة التي تربط بين شيئين. أي الحال والصلة التي بينكم، وتربط بعضكم ببعض وهي رابطة الإسلام، وإصلاحها يكون بالوفاق والتعاون والمواساة والإيثار، وترك الأثرة أو حب الذات. وقيل: إن ذات بمعنى صفة لمفعول محذوف، أي أحوالا ذات بينكم يحصل بها اجتماعكم.
وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح.
والبين في أصل اللغة: يطلق على الاتصال والافتراق وكل ما بين طرفين، كما قال تعالى:
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام ٦/ ٩٤] برفع بين بمعنى الوصل، وبنصبه على الظرفية بمعنى وقع التقطع بينكم. ومن استعمال البين بمعنى الافتراق والوصل قول الشاعر:
فوالله لولا البين لم يكن الهوى ولولا الهوى ما حنّ للبين آلف
البين أولا: هو البعد، والثاني: هو الوصل.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الغنائم وفي كل أمر ونهي وقضاء وحكم. وذكر الاسم الجليل في هذا وما قبله لتربية المهابة وتعليل الحكم. وذكر الرسول مع الله تعالى لتعظيم شأنه والاعلام بأن طاعته طاعة لله تعالى.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ متعلق بالأوامر الثلاثة، والجواب محذوف لدلالة ما تقدم عليه، أي فامتثلوا الأوامر الثلاثة. والمراد بالإيمان: التصديق، وقد يراد به كمال الإيمان.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الكاملو الإيمان. ذُكِرَ اللَّهُ أي وعيده. وَجِلَتْ خافت وفزعت.
زادَتْهُمْ إِيماناً تصديقا. وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ به يثقون لا بغيره وعليه يعتمدون وإليه
241
يفوضون. يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يأتون بها كاملة بحقوقها. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أعطيناهم.
يُنْفِقُونَ في طاعة الله. أُولئِكَ الموصوف بما ذكر. حَقًّا صدقا بلا شك. لَهُمْ دَرَجاتٌ منازل عالية رفيعة في الجنة. عِنْدَ رَبِّهِمْ في الجنة.
سبب النزول: نزول الآية (١) :
أخرج أحمد وابن حبان والحاكم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، كيف تقسم، ولمن الحكم فيها، أهي للمهاجرين، أم للأنصار، أم لهم جميعا؟ فنزلت.
وأخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النّفل، وساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا، وجعله إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقسمه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين عن بواء، أي عن سواء.
وروى أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا، فتسارع في ذلك شبان القوم، وبقي الشيوخ تحت الرايات، فلما كانت المغانم، جاؤوا يطلبون الذي جعل لهم، فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا ردءا لكم، لو انكشفتم لفئتم إلينا، فتنازعوا، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ- إلى قوله- وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقاص أنه قتل سعيد بن العاص، وأخذ سيفه، واستوهبه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فمنعه إياه، وأن الآية نزلت في ذلك، فأعطاه إياه لأن الأمر كله إليه صلّى الله عليه وآله وسلم.
ولا تعارض بين هذه الروايات، فالآية نزلت في شأن قسمة غنائم بدر، لما اختلف المسلمون في قسمتها، إلا أن بعض الروايات تذكر سببا عاما للخلاف،
242
وبعضها تذكر سببا خاصا، ولا مانع من وقوع الأمرين معا. قال الجصاص:
والصحيح أنه لم يتقدم من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قول في الغنائم قبل القتال، فلما فرغوا من القتال، تنازعوا في الغنائم، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ فجعل أمرها إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في أن يجعلها لمن شاء، فقسمها بينهم على السواء «١».
وإحلال الغنائم مما اختص الله به الأمة الإسلامية، فهي من خصائص الإسلام بدليل ما ثبت
في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي- فذكر الحديث إلى أن قال- وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي».
قال أبو عبيد: ولهذا سمي ما جعل الإمام للمقاتلة نفلا: وهو تفضيله بعض الجيش على بعض بشيء سوى سهامهم، يفعل ذلك بهم على قدر الغناء (النفع) عن الإسلام، والنكاية في العدو.
وفي التنفيل (إعطاء النفل لبعض المقاتلين تشجيعا على القتال) سنن أربع لكل منها موضع:
١- لا خمس في النفل الذي هو السّلب، أي ما يكون مع القتيل من سلاح ومال ومتاع.
٢- النفل يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس المنصوص عليه في آية:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال ٨/ ٤١]. وهو أن يوجه الإمام السرايا في أرض الحرب، فتأتي بالغنائم، فيكون للسرية مما جاءت به الربع أو الثلث، بعد الخمس
الحديث رواه أحمد وأبو داود عن معن بن يزيد: «لا نفل إلا بعد الخمس».
٣- النفل الذي يكون من الخمس نفسه: هو ما يخرجه الإمام من حصته،
(١) أحكام القرآن: ٣/ ٤٥.
243
وهو أن تحاز الغنيمة كلها، ثم تخمس، فإذا صار الخمس في يدي الإمام، نفل منه على قدر ما يرى.
٤- النفل الخارج من جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شيء: هو أن يعطى الأدلاء ورعاة الماشية والسواق لها «١».
واختلف الفقهاء في هذه الأحوال الأربع، فقال الشافعي: الأنفال ألا يخرج من رأس الغنيمة قبل الخمس شيء غير السّلب. قال أبو عبيد: والوجه الثاني من النفل من خمس النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فإن له خمس الخمس من كل غنيمة. والوجه الثالث يعطى للسرية أو الجيش الذي بعثه الإمام على وفق ما شرطه لهم. ومذهب مالك وأبي حنيفة رحمهما الله كالشافعي أن الأنفال مواهب الإمام من الخمس، على ما يرى من الاجتهاد، وليس في الأربعة الأخماس نفل،
قال صلّى الله عليه وآله وسلم: «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم»
وقال المالكية: النفل قسمان:
جائز ومكروه، فالجائز بعد القتال، والمكروه أن يقال قبل القتل: من فعل كذا وكذا فله كذا. وإنما كره هذا لأن القتال فيه يكون للغنيمة.
التفسير والبيان:
يسألونك أيها الرسول عن حكم الأنفال أي الغنائم لمن هي، وكيف تقسم؟
فقل لهم: إن حكمها لله أولا يحكم فيها بما يريد، ثم للرسول يقسمها بينكم كما أمر الله، فأمرها مفوض إلى الله ورسوله. وهذه الآية محكمة مجملة، بيّن إجمالها وفصل مصارفها آية أخرى في السورة نفسها هي قوله تعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال ٨/ ٤١] فلا تكون هذه ناسخة لتلك، وإنما توزع الغنائم، الخمس لهؤلاء المذكورين في هذه الآية، والأربعة الأخماس الباقية للغانمين. أما
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٨٤.
244
اليوم بعد تنظيم الجيوش ومنح رواتب دائمة للجند فتؤول للدولة.
وللإمام بموجب هذا التفويض أن ينفل من شاء من المقاتلة تحريضا على القتال، كما
قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم حنين فيما أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي قتادة: «من قتل قتيلا فله سلبه».
وإذا كان أمر الغنائم لله ورسوله فاتقوا الله سبحانه في أقوالكم وأفعالكم، واجتنبوا ما كنتم فيه من التنازع والاختلاف فيها، الموجب لسخط الله وغضبه، والموقع في الفرقة والعداوة الضارة بكم حال الحرب وغيرها.
وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ من الأحوال، حتى تتأكد الرابطة الإسلامية بين بعضكم، وتشيع المحبة والمودة والوفاق والوئام بين صفوفكم، وبعبارة أخرى:
اجعلوا ما كان موصولا على أصله، فهو سبب الوصل.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الغنائم وفي كل ما أمر به ونهى عنه، وقضى به وحكم.
هذه الأمور الثلاثة (تقوى الله، وإصلاح ذات البين، وإطاعة أوامر الله والرسول) يتوقف عليها صلاح الجماعة الإسلامية لأنها توفر معنى الانضباط والالتزام في السر والعلن لأحكام الشرع، وتوحد الكلمة والصف، وتكفل طاعة القيادة المخلصة الحكيمة.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدّقين كلام الله وكاملي الإيمان، فامتثلوا هذه الأوامر الثلاثة، فإن التصديق الحق يقتضي الامتثال، وكمال الإيمان يوجب هذه الخصال الثلاثة: الاتقاء، والإصلاح، وإطاعة الله تعالى ورسوله، فالمؤمن بالله حقا يستحي من عصيانه، ويدفعه إيمانه إلى طاعة ربه، وإلى إصلاح ما بينه وبين الآخرين من خلاف.
وإذا كان الإيمان مستلزما للطاعة، فإن الله تعالى ذكر خمس صفات
245
للمؤمنين تدفعهم إلى تحقيق الخصال الثلاثة المتقدمة، فقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ... وهذه الصفات هي ما يأتي:
١- الخوف التام من الله: الذين إذا ذكروا الله بقلوبهم، وأحسوا بعظمته وجلاله، وتذكروا وعده ووعيده، خافوا منه أتم الخوف. كما قال تعالى في آية أخرى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ، الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...
[الحج ٢٢/ ٣٤- ٣٥].
٢- زيادة الإيمان بتلاوة القرآن: الذين إذا تليت عليهم آياته القرآنية، زادتهم إيمانا ويقينا وتصديقا، وإقبالا على العمل الصالح لأن كثرة الأدلة والتذكير بها، يوجب زيادة اليقين، وقوة الاعتقاد، فالرؤية البصرية أو الحسية مثلا تقوي القناعة الذاتية، كما حدث لإبراهيم عليه السّلام الذي كان مؤمنا، وطلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى: قالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى، وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة ٢/ ٢٦٠] وهذا يدل على أن منزلة الطمأنينة في الإيمان أقوى وأعلى من مجرد الإيمان. ونظير الآية قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح ٤٨/ ٤] وقوله:
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة ٩/ ١٢٤].
٣- التوكل على الله أي الاعتماد عليه والثقة به والتفويض إليه: الذين يتوكلون على ربهم وحده، وإليه يلجأون، ولا يرجون غيره، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، وذلك بعد اتخاذ الأسباب، فمن تعاطى الأسباب المطلوبة منه عقلا وعادة، ثم فوض الأمر لله، وأيقن أن الأمر كله بيد الله، فهو من أهل الإيمان. أما ترك الأسباب فهو جهل بمفهوم التوكل.
٤- إقامة الصلاة: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، أي يؤدونها كاملة الأركان
246
والشروط من قيام وركوع وسجود وتلاوة وأذكار في مواقيتها المعينة شرعا، مع خشوع القلب، ومناجاة الرحمن، وتدبر قراءة القرآن.
٥- الإنفاق في سبيل الله: الذين ينفقون بعض أموالهم في وجوه الخير بإخراج الزكاة المفروضة، وأداء الصدقات التطوعية، والنفقات الواجبة للأصول والأهل، والمندوبة للأقارب والمحتاجين وفي مصالح الأمة وجهاد العدو، فإن الأموال عواري وودائع عند الإنسان لا بد أن يفارقها.
وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها، لذا قال تعالى بعد بيانها: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أي أولئك الموصوفون: بما ذكرهم دون غيرهم المؤمنون حق الإيمان. وقد أشير إليهم بأولئك المفيد للبعد لبيان كمالهم وعلو منزلتهم.
روى الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري رضي الله عنه أنه مرّ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال له: «كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا، قال: انظر ماذا تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال:
عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون «١»
فيها، فقال: يا حارثة، عرفت فالزم- ثلاثا».
هذه صفات المؤمنين، أما المنافقون فقال ابن عباس عنهم: المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف الله المؤمنين، فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ....
(١) يصيحون ويبكون. [.....]
247
ثم ذكر الله جزاء المؤمنين الموصوفين بما ذكر، عند ربهم، فقال: لَهُمْ دَرَجاتٌ... أي لهم منازل ومقامات ودرجات في الجنات على حسب أعمالهم ونواياهم، كما قال تعالى: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ [آل عمران ٣/ ١٦٣]. ولهم مغفرة أي يغفر الله لهم السيئات، يشكر لهم الحسنات، ولهم رزق كريم: وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة. والكريم: وصف لكل شيء حسن.
قال الضحاك في قوله: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ: أهل الجنة بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه، ولا يرى الذي هو أسفل منه أنه فضل عليه أحد، ولهذا جاء
في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إن أهل عليين ليراهم من أسفل منهم، كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء» قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء، لا ينالها غيرهم، فقال: «بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين».
وفي الحديث الآخر الذي رواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد الخدري قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى، كما تراءون الكوكب الغابر في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم، وأنعما».
فالمؤمنون متفاوتو الدرجة في الآخرة، وكذلك الرسل درجات، بدليل قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة ٢/ ٢٥٣] وفضل الله المهاجرين المجاهدين على غيرهم، فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [التوبة ٩/ ٢٠].
وهناك تفاوت أيضا في درجات الدنيا، لقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ، إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام ٦/ ١٦٥].
248
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية:
١- ليس كل نزاع أو خلاف شرا، فقد يؤدي الخلاف إلى خير، وقد كان خلاف الصحابة سببا في بيان حكم الأنفال.
٢- كان الصحابة حريصين على السؤال عما يهم من أمور الدين.
٣- الله تعالى مصدر الأحكام الشرعية حقيقة، ومرجع إصدار الأحكام إلى الله أولا ثم إلى الرسول، لا إلى غيرهما، وقسمة الغنائم فعلا مفوض أمرها إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم. وقوله: لِلَّهِ استفتاح كلام، وابتداء بالحق الذي ليس وراءه مرمى، الكل لله. وقوله: وَالرَّسُولِ قيل وهو الأصح عند ابن العربي: أراد به ملكا، وقيل: أراد به ولاية قسم وبيان حكم. ودليل الأول
قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم»
فهو مالك له حقيقة، ثم يرده إلى المسلمين تفضلا.
٤- صلاح الجماعة وقوة الأمة وعزتها مرهون بأمور ثلاثة: تقوى الله في السر والعلن، وإصلاح ذات البين، أي الحال التي يقع بها الاجتماع، وطاعة الله والرسول.
٥- امتثال أمر الله تعالى من ثمرات الإيمان، وإن سبيل المؤمن أن يمتثل أوامر الله.
٦- آية:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ تحريض على إلزام طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم فيما أمر به من قسمة الغنائم.
٧- أوصاف المؤمنين الصحيحة:
249
أولا- الخوف من الله، لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه، فسبب الخوف: كمال المعرفة وثقة القلب.
ثانيا- زيادة الإيمان عند تلاوة آي القرآن وقد وصف الله أهل المعرفة عند تلاوة كتابه فقال: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة ٥/ ٨٣].
ثالثا- التوكل على ربهم أي لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب.
رابعا- إقامة الصلاة: قال قتادة: إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها.
خامسا- الإنفاق مما رزق الله في سبيل الله، أي طرق الخير والبر والإحسان.
٨- دل قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا على أن لكل شيء حقيقة، وأكد ذلك قصة حارثة. وسأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد أمؤمن أنت؟ فقال له: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا به مؤمن. وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ إلى قوله- أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فوالله ما أدري أنا منهم أم لا.
٩- زيادة الإيمان ونقصانه: استدل أكثر الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد والبخاري وغيرهم الذين يقولون: إن الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد
250
والإقرار والعمل، استدلوا بهذه الآية: زادَتْهُمْ إِيماناً وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب بزيادة الأعمال الصالحة، ولو كان الإيمان عبارة عن المعرفة والإقرار، لما قبل الزيادة. واستدلوا على أن الإيمان هو مجموع الأركان الثلاثة بقوله تعالى في تعداد أوصاف المؤمنين: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وهو يدل على أن كل تلك الخصال داخل في مسمى الإيمان. ويؤيده
الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان».
كراهية بعض المؤمنين قتال قريش في بدر
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥ الى ٨]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)
الإعراب:
كَما أَخْرَجَكَ الكاف للتشبيه، وفيها ثلاثة أوجه:
الأول- أنها في موضع نصب على أنه صفة لمصدر محذوف دلّ عليه الكلام، وتقديره: قل:
الأنفال ثابتة لله والرسول ثبوتا كما أخرجك ربك. فمحل الكاف صفة مصدر الفعل المقدر في قوله:
لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي الأنفال تثبت لله والرسول عليه الصلاة والسّلام مع كراهتهم، ثباتا مثل ثبات إخراجك رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ، يعني المدينة، مع كراهتهم.
الثاني- أن تكون صفة لمصدر محذوف، وتقديره: يجادلونك جدالا كما أخرجك.
251
الثالث- أن يكون وصفا لقوله: حَقًّا، وتقديره: أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك.
وذكر الزمخشري وجها آخر وهو أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره:
هذا الحال كحال إخراجك، يعنى أن حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهتهم خروجك للحرب. وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ الجملة حال من كاف:
أَخْرَجَكَ.
وَإِذْ يَعِدُكُمُ إذ: متعلق ومنصوب بفعل مقدر، تقديره: واذكر يا محمد إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم. وإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: مفعول ثان ليعد، والمفعول الأول كاف يَعِدُكُمُ. وأَنَّها لَكُمْ: بدل من قوله: إِحْدَى، وهو بدل اشتمال، تقديره: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ أن ملك إحدى الطائفتين لكم، ولا بد من تقدير حذف المضاف لأن الوعد إنما يقع على الأحداث لا على الأعيان. لِيُحِقَّ الْحَقَّ متعلق بمحذوف تقديره: يفعل ما فعل.
البلاغة:
كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ تشبيه تمثيلي.
أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بينهما جناس اشتقاق.
ذاتِ الشَّوْكَةِ استعارة، استعار الشوكة للسلاح بجامع الشدة والحدة والوخز بينهما.
وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ كناية عن استئصالهم بالهلاك.
المفردات اللغوية:
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ القتال. بَعْدَ ما تَبَيَّنَ ظهر لهم. وَهُمْ يَنْظُرُونَ إليه عيانا في كراهتهم له. إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ العير الآتية من الشام أو النفير التي جاءت من مكة للنجدة.
وَتَوَدُّونَ تريدون. الشَّوْكَةِ البأس والسلاح الذي فيه الحدة والقوة، وغَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ هي العير. تَكُونُ لَكُمْ لقلة عددها وعددها بخلاف النفير. يُحِقَّ الْحَقَّ يظهره.
بِكَلِماتِهِ السابقة، بظهور الإسلام. وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ يستأصل آخرهم الذي يأتي من ورائهم، لذا أمرهم بقتال النفير. ولِيُحِقَّ الْحَقَّ يعز الإسلام لأنه الحق. وَيُبْطِلَ الْباطِلَ يمحق الكفر والشرك ويزيله. وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ المشركون ذلك.
252
سبب النزول: نزول الآية (٥) :
كَما أَخْرَجَكَ:
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ونحن بالمدينة، وبلغه أن عير أبي سفيان قد أقبلت: ما ترون فيها، لعلّ الله يغنمناها ويسلمنا؟ فخرجنا، فسرنا يوما أو يومين، فقال: ما ترون فيهم؟ فقلنا: يا رسول الله، ما لنا طاقة بقتال القوم، إنما خرجنا للعير، فقال المقداد: لا تقولوا كما قال قوم موسى:
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، فأنزل الله: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ.
المناسبة:
تتضح المناسبة بين هذه الآيات وبين ما قبلها من الكاف في كَما أَخْرَجَكَ الذي يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج، وأحسن وجوه الربط تشبيه كراهية الصحابة لحكم الأنفال وإن رضوا به، بكراهيتهم لخروجك من بيتك بالحق إلى القتال في بدر، فهم رضوا بحكم الأنفال، ولكنهم كانوا كارهين له، كما أخرجك ربك من بيتك بالحق إلى القتال، وإن كانوا كارهين له.
وفي وجه آخر: الأنفال ثابتة لك، مثل إخراجك ربك من بيتك بالحق، والمعنى: امض لأمرك في الغنائم ونفّل من شئت، وإن كرهوا.
وقيل: كَما أَخْرَجَكَ متعلق بقوله: لَهُمْ دَرَجاتٌ والمعنى: هذا الوعد للمؤمنين حق في الآخرة، كما أخرجك ربك من بيتك بالحق الواجب له، فأنجزك وعده، وأظفرك بعدوك، وأوفى لك، فكما أنجز هذا الوعد في الدنيا، كذا ينجزكم ما وعدكم به في الآخرة.
253
أضواء من السيرة على موقعة بدر:
هاجر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وصحبه الذين آمنوا به من مكة إلى المدينة، بسبب اشتداد أذى قريش لهم، وترك المسلمون أموالهم وأرضهم وديارهم للمشركين في مكة.
فلما سمع رسول الله بأن قافلة لقريش محملة بالمؤن والأموال الكثيرة بزعامة أبي سفيان، قادمة من الشام، مع أربعين نفرا من قريش، انتدب المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعلّ الله أن ينفّلكموها. فخرج معه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، واتجهوا نحو ساحل البحر على طريق بدر.
وكان أبو سفيان قد بعث حين دنا من الحجاز من يتجسس الأخبار، فعلم بخروج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في طلبه، فبعث ضمضم بن عمرو الغفاري نذيرا إلى أهل مكة، يستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها مع أصحابه، فنهضوا قريبا من ألف، وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر (طريق الشاطئ) محاذيا له، فنجا بالعير والتجارة، وجاء النفير، فوردوا ماء بدر، وذلك بعد أن جمعوا جموعهم، واستنفر أبو جهل الناس من فوق الكعبة قائلا: النجاء، النجاء، على كل صعب وذلول، عيركم وأموالكم، إن أصابها محمد فلن تفلحوا أبدا.
وخرج أبو جهل على رأس النفير، وهم أهل مكة، ثم قيل له: إن العير أخذت طريق الساحل، ونجت، فارجع بالناس إلى مكة، فقال: لا، والله، لا يكون ذلك أبدا، حتى ننحر الجزور، ونشرب الخمور، وتعزف القيان ببدر، فيتسامع جميع العرب بنا، وبخروجنا، وأن محمدا لم يصب العير.
فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الناس بما حدث واستشارهم
، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال:
يا رسول الله، امض لما أمرك الله به، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت
254
بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة ٥/ ٢٤] ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد (مدينة باليمن) لجالدنا معك من دونه، حتى نبلغه.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خيرا، ودعا له بخير.
وقال الأنصار: فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد، أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم.
ثم قال الرسول: «أشيروا علي أيها الناس» وكأنه يريد الأنصار، إذ كانت بيعة العقبة معهم أن ينصروه ويدافعوا عنه في دارهم بالمدينة، وتخوّف ألا ينصرونه خارج المدينة، كما شرطوا ذلك في عهدهم، فقال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، فقال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق، لئن استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسرّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لقول سعد، ونشّطه ذلك ثم قال:
«سيروا على بركة الله، وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين: العير القادمة من الشام، وعلى رأسها أبو سفيان، أو النفير الآتي من مكة، لنجدتهم، وعلى رأسهم أبو جهل، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» «١».
(١) هذا ما رواه محمد بن إسحاق في سيرته عن عبد الله بن عباس (انظر تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٨٨ وما بعدها).
255
التفسير والبيان:
إن حال الصحابة في كراهة تنفيل المقاتلة وقسمة الغنائم بالسوية مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب من بيتك بالمدينة أو المدينة نفسها لأنها موضع هجرته ومسكنه، أو لأن بيته فيها، وكان إخراجا بالحق، أي متلبسا بالحكمة والصواب، وكان فريق من المؤمنين يكرهون الخروج، لعدم استعدادهم للقتال، لذا فإنه أخرجك في حال كراهيتهم الخروج، فالتشبيه بين الحالتين في مطلق الكراهة لأن بعض المسلمين في بدر كرهوا أمرين:
أولهما- كرهوا قسمة الغنيمة بينهم بالتساوي، وكانت تلك الكراهة من الشبان فقط لأنهم هم الذين قاتلوا وغنموا.
وثانيهما- كرهوا قتال قريش لأنهم خرجوا من المدينة بقصد الغنيمة ولم يستعدوا للقتال.
ولكن الله تعالى قال لهم في الأمرين: كما أنكم اختلفتم في المغانم وتنازعتم فيها، فانتزعها الله منكم، وجعل قسمتها على يد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، فقسمها على العدل والتسوية، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم، كذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء وقتال ذات الشوكة وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم وإحراز عيرهم، فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم، وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد، رشدا وهدى، ونصرا وفتحا.
والنتيجة من الأمرين: أن امتثال أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في كل منهما هو الخير والمصلحة والرشاد.
يجادلك المؤمنون في الحق والرأي السديد وهو تلقي النفير، لإيثارهم عليه أخذ العير، بسبب قلة الرجال وكثرة المال، والخوف من قتال المشركين الأكثر عددا وعددا، يجادلونك بعد ما تبين لهم الحق وظهر الصواب، بإخبارك أنهم
256
سينتصرون على كل حال، وأن الله وعدك إحدى الطائفتين: العير أو النفير، وبما أن العير قد نجت، فلم يبق إلا النفير، ولا داعي للقول بأننا لم نستعد للقتال، ولا وجه للجدل بعد ما تبين الحق وهو إعلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بأنهم ينصرون، وحينئذ لا عذر لهم إلا خوفهم من القتال وجبنهم عن مقابلة الأعداء.
ثم شبّه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم، وهم سائرون إلى الظفر والغنيمة بحال من يساق صاغرا إلى الموت المتيقن، وهو مشاهد أسبابه، ناظر إليها، لا يشك فيها.
لكن الله تعالى وعد رسوله والمؤمنين بالنصر، ووعده لا يتخلف، أما الحساب الظاهري لميزان القوى، فكثيرا ما يظهر عكسه، إذ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ.
واذكروا حين وعدكم الله ملك إحدى الطائفتين: العير أو النفير، لكي تكون السلطة والغلبة لكم.
وتتمنون أن تكون غير ذات الشوكة أي السلاح والقوة والمنعة وهي العير (القافلة) لكم لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا. وقد عبر عنها بذلك تعريضا لكراهتهم القتال وطمعهم في المال. والشوكة كانت في النفير لكثرة عددهم وتفوق عدتهم وأسلحتهم.
ويريد الله لكم غير هذا وهو مقابلة النفير الذي له الشوكة والقوة، لينهزم المشركون، وينتصر المؤمنون، ويثبت الله الحق ويعليه بكلماته، أي بآياته المنزلة على رسوله في محاربة المشركين ذوي الشوكة، وبما أمر الملائكة من نزولهم لنصرة المسلمين، وبما قضى من أسرهم وقتلهم، وطرحهم في قليب (بئر) بدر.
ويريد الله أن يهلك المعاندين، ويستأصل شأفة المشركين، ويمحق قوتهم، ويبدد آثارهم.
257
وقد فعل الله ما فعل، ووعد بما وعد، وأنجز النصر للمؤمنين، ليحق الحق، أي يثبت الإسلام ويظهره، ويبطل الباطل أي يمحق الكفر والشرك ويزيله، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ، أي المعتدون الطغاة. ولا يكون ذلك بمجرد الاستيلاء على العير، بل بقتل أئمة الكفر وزعماء الشرك.
وبما أن الحق حق لذاته، والباطل باطل لذاته، وما ثبت للشيء لذاته، فإنه يمتنع تحصيله بجعل جاعل، فيكون المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل إظهار كون ذلك الحق حقا، وإظهار كون ذلك الباطل باطلا، إما بإظهار الدلائل والبينات، وإما بتقوية رؤساء الحق، وقهر رؤساء الباطل.
وليس هذا تكريرا لما سبق من إحقاق الحق لأن المعنيين متباينان لأن الأول لبيان مراد الله وأن هناك تفاوتا بينه وبين مرادهم، أي الصحابة، والثاني بيان الداعي والغرض فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها، وأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك إلا لهذا الغرض، وهو التغلب على صاحبة القوة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- الخير والمصلحة فيما أمر الله به، وليس فيما يرى الإنسان، فقد يرى ما هو ضار نافعا، وما هو نافع ضارا.
٢- فعل العبد بخلق الله تعالى في رأي أهل السنة، بدليل قوله تعالى:
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ فإنه روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلم إنما خرج من بيته باختيار نفسه، ثم إنه تعالى أضاف ذلك الخروج إلى نفسه، ليدل على أنه خالق أفعال العباد.
258
والمعنى عند المعتزلة: أنه حصل ذلك الخروج بأمر الله تعالى وإلزامه، فأضيف إليه. لكن هذا مجاز، والأصل حمل الكلام على الحقيقة.
وتمسك أهل السنة أيضا في مسألة خلق الأفعال بقوله تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ أي أنه يوجد الحق ويكونه، والحق ليس إلا الدين والاعتقاد، فدلّ هذا على أن الاعتقاد الحق لا يحصل إلا بتكوين الله تعالى وخلقه.
وتمسك المعتزلة بعين هذه الآية على صحة مذهبهم، فقالوا: هذه الآية تدل على أنه تعالى إنما يريد أبدا تحقيق الحق وإبطال الباطل، وأنه لا صحة لقول من يقول: إنه لا باطل ولا كفر إلا والله تعالى مريد له.
وردّ أهل السنة على ذلك بأن المقرر في أصول الفقه أن المفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق، أي أنه تعالى أراد تحقيق الحق وإبطال الباطل في هذه الصورة.
٣- الحق حق أبدا، ولكن إظهاره تحقيق له لأنه إذا لم يظهر أشبه الباطل. والإسلام هو الحق، وهو الذي يريد الله إظهاره وإعزازه، كما قال تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الصف ٦١/ ٩] وقال: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء ٢١/ ١٨].
٤- لا قرار للباطل، ولكن لا بد من إبطاله وإعدامه، كما أن إحقاق الحق إظهاره، والكفر والشرك هو الباطل، فيريد الله استئصال أهله الكافرين بالهلاك.
٥- أراد الله في بدر أن يجمع بين المؤمنين القلّة وبين الكافرين الكثر أهل الشوكة والقتال، لينصرهم عليهم، ويظهر دينه، ويرفع كلمة الإسلام، ويجعله غالبا على الأديان، وهو أعلم بعواقب الأمور، وهو الذي يحسن التدبير لعباده
259
المؤمنين، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم، كقوله تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً، وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة ٢/ ٢١٦].
٦- دلّ خروج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ليلقى العير قبل معركة بدر على جواز النفير للغنيمة لأنها كسب حلال، والله وعد المؤمنين إحدى الطائفتين: العير أو النفير.
الإمداد بالملائكة في معركة بدر وإلقاء النعاس وإنزال المطر
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٩ الى ١٤]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣)
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
260
الإعراب:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ بدل من إِذْ في قوله: إِذْ يَعِدُكُمُ. بِأَلْفٍ منصوب بممدكم.
وقرئ «بآلاف» جمع ألف لأن فعلا يجمع على أفعل، نحو فلس وأفلس، وكلب وأكلب، ويؤيد هذه القراءة قوله تعالى: بِخَمْسَةِ آلافٍ [آل عمران ٣/ ١٢٥] وآلف: جمع ألف لما دون العشرة، ويقع على خمسة آلاف من الملائكة صفة للألف. مُرْدِفِينَ بالكسر: وصف لألف، على أنهم أردفوا غيرهم، أي أردف كل ملك ملكا. مُرْدِفِينَ بالفتح مع التخفيف: إما منصوب على الحال من الكاف والميم في مُمِدُّكُمْ وإما في موضع جر لأنه صفة لألف، أي متبعين بألف.
وقرئ مردفين.
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ بدل ثان من إِذْ يَعِدُكُمُ أو منصوب بكلمة النَّصْرُ أو بإضمار: اذكر. والفاعل هو الله عز وجل، والنُّعاسَ: مفعول به وأَمَنَةً مفعول لأجله، والمعنى إذ تنعسون أمنة بمعنى أمنا أي لأمنكم. وأَمَنَةً صفة لكلمة أَمَنَةً أي أمنة حاصلة لكم من الله عز وجل.
إِذْ يُوحِي بدل ثالث من: إِذْ يَعِدُكُمُ، ويجوز أن ينتصب بيثبت. وأَنِّي مَعَكُمْ: مفعول يوحي.
ِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ
لِكَ
: مبتدأ، أو خبر مبتدأ. وتقديره: ذلك الأمر، أو الأمر ذلك.
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ خبر مبتدأ مقدر، تقديره: والأمر ذلكم. وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عطف على ذلِكُمْ وتقديره: والأمر أن للكافرين عذاب النار.
البلاغة:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ أتى بصيغة المضارع عن الماضي لاستحضار الصورة في الذهن.
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً تقديم الجار والمجرور على المفعول به، للاهتمام بالمقدم، والتشويق إلى المؤخر.
المفردات اللغوية:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ تطلبون منه الغوث بالنصر عليهم. أَنِّي بأني. مُمِدُّكُمْ معينكم. مُرْدِفِينَ متتابعين، يردف بعضهم بعضا، مأخوذ من الإرداف: وهو الركوب وراءه، وعدهم أولا بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ، ثم صارت ثلاثة، ثم خمسة، كما ذكر في آل عمران [١٢٤، ١٢٥].
261
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي الإمداد. وَلِتَطْمَئِنَّ تسكن بعد ذلك الاضطراب والخوف الذي عرض لكم إجمالا. عَزِيزٌ غالب على أمره. حَكِيمٌ يضع الشيء في موضعه.
يُغَشِّيكُمُ يجعله عليكم كالغطاء، من حيث اشتماله عليكم. النُّعاسَ فتور في الحواس والأعصاب يعقبه النوم، فهو مقدمة له، وهو يضعف الإدارك، والنوم يزيله. أَمَنَةً أمنا مما حصل لكم من الخوف. أَمَنَةً من الله تعالى.
لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من الأحداث والجنابات. رِجْزَ الشَّيْطانِ وسوسته لكم بأنكم لو كنتم على الحق ما كنتم ظمأى محدثين، والمشركون على الماء. وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ يحبس، أي ليثبت القلوب ويحملها على الصبر واليقين. وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ أن تسوخ في الرمل.
فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا بالإعانة والتبشير. الرُّعْبَ الخوف الشديد. فَوْقَ الْأَعْناقِ أي الرؤوس. كُلَّ بَنانٍ أي أطراف الأصابع من اليدين والرجلين. لِكَ
العذاب الواقع بهم. أَنَّهُمْ شَاقُّوا
خالفوا وعادوا، وسميت العداوة مشاقة لأنها تجعل كل طرف في شق أو جانب غير الآخر. ذلِكُمْ العذاب. فَذُوقُوهُ أيها الكافرون في الدنيا. وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ في الآخرة.
سبب النزول:
روى أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه، وهم ثلاثمائة ونيف أو (وبضعة عشر رجلا)، ونظر إلى المشركين، فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، فلا تعبد في الأرض أبدا» قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فرداه (أو فألقاه على منكبيه) ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ.
فلما كان يومئذ، التقوا، فهزم الله المشركين، فقتل منهم سبعون رجلا،
262
وأسر منهم سبعون رجلا «١».
وروى البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد»
فأخذ أبو بكر بيده، فقال:
حسبك، فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر ٥٤/ ٤٥].
فعلى هذا كانت الاستغاثة من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو المشهور. ولما اصطف القوم، قال أبو جهل: «اللهم، أولانا بالحق فانصره» ورفع رسول الله يده بالدعاء المذكور.
وهناك قول ثان أن الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين لأن خوفهم كان أشد من خوف الرسول.
والأقرب أنه دعا عليه الصلاة والسّلام وتضرع، على ما روي، والقوم كانوا يؤمنون على دعائه، تابعين له في الدعاء في أنفسهم، فنقل دعاء الرسول ولم ينقل دعاء القوم.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى في الآية السابقة أنه يحق الحق ويبطل الباطل، بين أنه تعالى نصرهم عند الاستغاثة.
التفسير والبيان:
اذكروا أيها المؤمنون وقت استغاثتكم ربكم، لما علمتم أنه لا بد من القتال، داعين: «إي ربنا انصرنا على عدوك، يا غياث المستغيثين أغثنا». والمراد تذكيرهم بنعمة الله عليهم الذي أجاب دعاءهم، ليشكروا، وليعلموا مدى فضل الله عليهم، ورحمته بهم.
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ١٣٩، تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٨٩.
263
فاستجاب لكم، أي فأجاب دعاءكم بأني ممدكم بألف من أعيان الملائكة، مردفين أي يردف بعضهم بعضا ويتبعه، فيتقدم بعضهم ويعقبه الآخر، وهكذا تتابع الملائكة، وهذه هي الطليعة، ثم تبعها آخرون، فصاروا ثلاثة آلاف، ثم خمسة آلاف، كما قال تعالى في سورة آل عمران: بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [١٢٤] ثم قال: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [١٢٥].
وما جعل الله إرسال الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بشرى لكم بأنكم منصورون، ولتسكن به قلوبكم من الاضطراب الذي عرض لكم، وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم.
وليس النصر الحقيقي في الحروب إلا من عند الله، دون غيره من الملائكة أو سواهم من الأسباب الظاهرية، إن الله عزيز لا يغلب، حكيم لا يضع شيئا في غير موضعه، كما قال تعالى: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد ٤٧/ ٤].
وهل قاتلت الملائكة بالفعل يوم بدر؟ يرى بعضهم أن الملائكة لم يقاتلوا، وإنما كان لهم تقوية معنوية؟ فكانوا يكثرون السواد، ويثبّتون المؤمنين، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم، فإن جبريل أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح بصيحة واحدة. وقد أخذ بهذا الرأي الشيخ محمد عبده ومدرسته.
وقال جمهور العلماء: نزل جبريل في يوم بدر في خمسمائة ملك على الميمنة، وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة، وفيها علي بن أبي طالب في صور الرجال، عليهم ثياب بيض وعمائم بيض، وقد أرخوا أذنابها بين أكتافهم فقاتلت.
264
وهذا هو المشهور، المروي عن ابن عباس قال: وأمد الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنّبة، وميكائيل في خمسمائة مجنّبة.
وهذا هو الراجح المؤيد في السنة النبوية بالروايات الصحيحة، روى ابن جرير ومسلم عن ابن عباس عن عمر الحديث المتقدم. ورويت أحاديث أخرى. ولولا الأحاديث لكان للرأي الأول اعتبار واضح.
وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود: من أين كان الصوت الذي كنا نسمع، ولا نرى شخصا؟ قال: هو من الملائكة، فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم.
ومن المتفق عليه أن الملائكة لم يقاتلوا يوم أحد لأن الله وعدهم بالنصر وعدا معلقا على الصبر والتقوى، فلم يحققوا هذا الشرط.
وقتال الملائكة مع المؤمنين لا يقلل من أهمية قيام المؤمنين بواجبهم في القتال على أتم وجه وأكمله، فإنهم قاتلوا قتالا مستميتا استحقوا به كل تقدير، جاء
في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال لعمر- لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بلتعة: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال:
اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم»
.
وكان وقع المعركة على قريش شديدا جدا بسبب ما لا قوة من قتل زعمائهم بأسياف المسلمين ورماحهم وعلى يد شبانهم، مع أنهم الفرسان المشاهير، فكان هذا هو عقاب كفرهم وعنادهم، والله تعالى يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم الأمم المكذبة، كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعادا الأولى بالدبور (الريح الصرصر العاتية)، وثمود بالصيحة (الصوت الشديد المهلك) وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل (من جهنم) وقوم شعيب بيوم الظلة، وفرعون وقومه بالغرق في اليم.
265
فالنعمة الأولى التي يذكّر الله بها المسلمين يوم بدر: إمدادهم بالملائكة، ثم ذكّرهم بنعمتين أخريين هما إلقاء النعاس وإنزال المطر، فقال: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ.. أي اذكروا ما أنعم الله عليكم من إلقاء النعاس عليكم حتى غشيكم كالغطاء، أمانا أمّنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من رؤية كثرة عدوهم وقلة عددهم، وأراحهم من عناء السير، فمن غلب عليه النعاس لا يشعر بالخوف، ويرتاح ويجدد نشاطه وقوته،
روى البيهقي في الدلائل عن علي رضي الله عنه قال: «ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يصلي تحت شجرة، حتى أصبح».
وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها، فكان النوم للجمع العظيم في الخوف الشديد دفعة واحدة عجيبا وفي حكم المعجز الخارق للعادة، مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهمّ، ولكن الله ربط جأشهم.
قال الماوردي: وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:
أحدهما- أن قوّاهم بالاستراحة على القتال من الغد.
الثاني- أن أمّنهم بزوال الرعب من قلوبهم كما يقال: الأمن منيم، والخوف مسهر.
وكذلك فعل الله تعالى بهم فألقى النعاس عليهم يوم أحد، كما قال تعالى:
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً، يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران ٣/ ١٥٤].
وأنزل الله عليكم أيضا مطرا من السماء ليطهركم به من الحدث والجنابة، ويذهب عنكم وسوسة الشيطان إليكم وتخويفكم من العطش، وقيل: يذهب عنكم الجنابة التي أصابت بعضكم لأنها من تخييله، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ، أي بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء، وهو شجاعة الباطن، ويُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ، وهو
266
شجاعة الظاهر، أي أن إنزال المطر حقق أربع فوائد: التطهير الحسي بالنظافة والشرعي بالغسل من الجنابة والوضوء، وإذهاب وسوسة الشيطان، والربط على القلوب أي توطين النفس على الصبر، وتثبيت الأقدام به على الرمال.
وظاهر القرآن يدل على أن النعاس كان قبل المطر، وهي ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان. وقال مجاهد وابن أبي نجيح: كان المطر قبل النعاس.
والسبب في إنزال المطر: ما روى ابن المنذر من طريق ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه: أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء، فظمئ المسلمون، وصلوا مجنبين محدثين، وكان بينهم رمال، فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن، وقال: أتزعمون أن فيكم نبيا، وأنكم أولياء، وتصلّون مجنبين محدثين؟ فأنزل الله من السماء ماء، فسال عليهم الوادي ماء، فشرب المسلمون، وتطهروا، وثبتت أقدامهم (على الرمل المتلبد) وذهبت وسوسته. والضمير في بِهِ للماء أو المطر.
وسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء المتجمع من ماء المطر، فنزلوا عليه، وصنعوا الحياض، ثم غوّروا ما عداها من المياه، وبني لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عريش على تلّ مشرف على المعركة.
هذا ما دل عليه الخبر وهو
أن المشركين سبقوا إلى التجمع على الماء يوم بدر، والمعروف كما ذكر ابن إسحاق في سيرته وتبعه ابن هشام في سيرته: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لما سار إلى بدر، نزل على أدنى ماء هناك، أي أول ماء وجده، فتقدم إليه الحباب بن المنذر، فقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال:
بل هو الحرب والرأي والمكيدة، قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغوّر ما وراءه من القلب
267
(الآبار غير المبنية) ثم نبني عليها حوضا، فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لقد أشرت بالرأي، وفعلوا ذلك.
قال ابن كثير: وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي رحمه الله عن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء، وكان الوادي دهسا «١»، فأصاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ما لبّد لهم الأرض، ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه.
وأرى أن النص القرآني يوافق هذه الرواية التي استحسنها ابن كثير وسار عليها جمهور المفسرين كالطبري والزمخشري والرازي وغيرهم. وذكر البيضاوي رواية تؤيد ذلك فقال: روي أنهم نزلوا في كثيب أعفر تسوخ في الأقدام على غير ماء، وناموا، فاحتلم أكثرهم، وقد غلب المشركون على الماء، فوسوس إليهم الشيطان، وقال: كيف تنصرون، وقد غلبتم على الماء، وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله، وفيكم رسوله؟ فأشفقوا، فأنزل الله المطر، فمطروا ليلا، حتى جرى الوادي، واتخذوا الحياض على عدوته (جانبه) وسقوا الرّكاب، واغتسلوا وتوضؤوا، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو، حتى ثبتت عليه الأقدام، وزالت الوسوسة. ثم ذكر البيضاوي معنى قوله: لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي بالوثوق بلطف الله بهم، ويُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ أي بالمطر حتى لا تسوخ في الرمل، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في المعركة.
والأصح الذي ذكره القرطبي عن ابن إسحاق في سيرته وغيره، وهو الذي يوفق به بين الروايات: أن الأحوال التي صاحبت نزول المطر كانت قبل وصولهم إلى بدر «٢».
(١) الدهس: الرمل الذي تسوخ فيه الأرجل.
(٢) تفسير القرطبي: ٧/ ٣٧٣.
268
ومن النعم المذكورة أيضا على المؤمنين في بدر نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها وهي إلهام الله الملائكة أنه معهم معية إعانة ونصر وتأييد، فقال: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ... أي اذكروا إذ يوحي الله تعالى إلى الملائكة بأنه معهم حينما أرسلهم ردءا للمسلمين، أو يوحي إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم وثبتوهم، قال الرازي: وهذا الثاني أولى لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف، والملائكة ما كانوا يخافون الكفار، وإنما الخائف هم المسلمون «١».
والمراد بالمعية: معية الإعانة والنصر والتأييد في مواقف القتال الشديدة.
فثبتوا قلوب المؤمنين، وقووا عزائمهم، وذكّروهم وعد الله أنه ناصر رسوله والمؤمنين، والله لا يخلف الميعاد.
وقيل: إن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارف المؤمنين، وكانوا يمدونهم بالنصر والفتح والظفر. أخرج البيهقي في الدلائل: أن الملك كان يأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه، فيقول: أبشروا، فإنهم ليسوا بشيء، والله معكم، كرّوا عليهم.
وقيل بوجه ثالث في معنى التثبيت وهو منقول عن الزجاج: للملك قوة إلقاء الخير، وهو الإلهام، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر، وهو الوسوسة.
ثم ذكر الله تعالى المراد بقوله: أَنِّي مَعَكُمْ: وهو أني معكم في إعانتكم بإلقاء الرعب في قلوب الكفار، فمن أعظم نعم الله تعالى على المؤمنين زرع الخوف والرعب في نفوس الكفار.
فاضربوا رؤوسهم التي هي فوق الأعناق واقطعوها، واحتزوا الرقاب وقطّعوها، وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم ذات البنان. والبنان:
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ١٣٥
269
الأصابع، والمراد الأطراف. والمعنى أن الله أمرهم أن يضربوا المقاتل وغير المقاتل، ويجمعوا عليهم النوعين معا.
ثم بيّن الله تعالى سبب تأييده ونصره المؤمنين، فقال: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا...
أي أن ذلك المذكور من النصر والتأييد للنبي والمؤمنين بسبب أن المشركين شاقوا الله ورسوله، أي عادوهما وخالفوهما، فساروا في شق أو جانب وتركوا الشرع والإيمان به واتباعه في شق آخر.
مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
، أي ومن يخالف أمر الله ورسوله ويعاديهما فإن له عدا الهزيمة والخزي في الدنيا العذاب الشديد في الآخرة.
ذلكم العقاب الذي عجلته لكم أيها الكافرون المشاقون الله ورسوله في الدنيا من خزي وذل وهزيمة ونكال وما تبع ذلك من قتل وأسر، فذوقوه عاجلا، ولكم في الآخرة عذاب جهنم إن أصررتم على الكفر.
وعبر بالذوق الذي هو تعرف طعم اليسير لمعرفة حال الكثير عن تعجيل ما حصل لهم من الآلام في الدنيا، فكان المعجل كالذوق القليل بالنسبة إلى الأمر العظيم المعدّ لهم في الآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أمور ثلاثة: تعداد النعم، تعليم كيفية القتل، عقاب مشاقة الله والرسول أي معاداتهما.
أما النعم المذكورة التي أراد الله التذكير بها في معركة بدر فهي سبع:
الأولى- النصر عند الاستغاثة، وذلك بإمدادهم بأعيان الملائكة للمساعدة في القتال. ولا تعارض في تعداد الملائكة بين هذه السورة التي ذكر فيها ألف من الملائكة، وسورة آل عمران التي ذكر فيها ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف لأنه تعالى
270
جعل الإمداد متتابعا بقوله مُرْدِفِينَ فأمدهم أولا بألف ثم بثلاثة آلاف، ثم بخمسة حينما تذرعوا بالصبر والتقوى.
الثانية- إلقاء النعاس أي النوم عليهم ليلة اليوم الذي حدث فيه القتال.
الثالثة- إنزال المطر من السماء لتحقيق الطهارة الحسية بالنظافة والوضوء والغسل من الجنابة، والطهارة المعنوية بإذهاب وساوس الشيطان.
الرابعة- الربط على القلوب أي تقويتها وإزالة الخوف والفزع عنهم، وإفراغ الصبر عليهم وشد أزرهم لمجالدة الأعداء وقتالهم.
الخامسة- تثبيت الأقدام على الرمال التي تلبدت بالمطر. ودل هذا بدلالة المفهوم على أن حال الأعداء كانت بخلاف ذلك.
السادسة- الإيحاء إلى الملائكة أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فانصروهم وثبتوهم.
السابعة- إلقاء الرعب والخوف في قلوب الكافرين. وهذا من النعم الجليلة التي أنعم الله بها على المؤمنين.
وأما تعليم كيفية القتل: فهو أنه تعالى أمر المؤمنين بقتل الكفار في المقاتل بضرب الهامات والرؤوس التي هي محمولة فوق الأعناق، وبضربهم في غير المقاتل بتقطيع الأيدي والأرجل ذات البنان لأن الأصابع هي الآلات في أخذ السيوف والرماح وسائر الأسلحة، فإذا قطع بنانهم عجزوا عن المحاربة.
وأما عقاب مشاقة الله والرسول فهو الخزي والنكال والهزيمة في الدنيا، والعذاب الشديد في نار جهنم في القيامة. والمقصود من إيراد هذا العقاب الزجر عن الكفر والتهديد عليه وتوبيخ الكافرين، فالعقاب على ذلك نوعان: عاجل في الدنيا، ومؤجل في الآخرة.
وأما فضل أهل بدر فليس لذواتهم وإنما لأفعالهم،
قال مالك: بلغني أن
271
جبريل عليه السّلام قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم: كيف أهل بدر فيكم؟ قال: خيارنا، فقال: إنهم كذلك فينا. وذلك لجهادهم، وأفضل الجهاد يوم بدر لأن بناء الإسلام كان عليه.
وأوجب الإسلام دفن جثث القتلى ولو كانوا من الأعداء،
فقد أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بدفن قتلى المشركين السبعين في بدر في القليب وهي البئر العادية القديمة الكائنة في البراري.
روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا، ثم قام عليهم فناداهم فقال: «يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» فسمع عمر قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يسمعون وأني يجيبون وقد جيّفوا «١» ؟ قال: «والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا».
ثم أمر بهم، فسحبوا فألقوا في القليب، قليب بدر.
قال القرطبي: وفي هذا ما يدل على أن الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه: إنه ليسمع قرع نعالهم» الحديث، أخرجه الصحيح «٢».
(١) جيفوا: أنتنوا، فصاروا جيفا. وقول عمر: «يسمعون» استبعاد على ما جرت به العادة، فأجابه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بأنهم يسمعون كسمع الأحياء.
(٢) تفسير القرطبي: ٧/ ٣٧٧.
272
الفرار من الزحف والنصر من عند الله
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٥ الى ١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
الإعراب:
زَحْفاً منصوب على الحال أي متزاحفين، ويجوز أن يكون حالا للكفار.
إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ حال من فاعل: يُوَلِّهِمْ والاستثناء مفرغ، أو منصوب على الاستثناء أي ومن يولهم إلا رجلا متحرفا.
ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ ذلِكُمْ: خبر مبتدأ مقدر، تقديره: والأمر ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ عطف على ذلِكُمْ، وتقديره: والأمر أن الله موهن.
وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ عطف على ذلكم، وتقديره: والأمر أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. ومن قرأ «وإن» بالكسر فعلى الابتداء والاستئناف.
البلاغة:
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ الخطاب للمشركين على التهكم مثل: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان ٤٤/ ٤٩].
273
المفردات اللغوية:
زَحْفاً أي مجتمعين، كأنهم لكثرتهم يزحفون لأن الكل كجسم واحد متصل، فيظن أنه بطيء وهو في الواقع سريع، والمراد: جيشا زاحفين نحوكم لقتالكم. الْأَدْبارَ جمع دبر وهو الخلف، ويقابله القبل، ويكنى بهما عن السوأتين، والمراد من قوله: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ الهرب منهزمين. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم لقائهم مُتَحَرِّفاً منحرفا أو منعطفا إلى جانب آخر مظهرا الانهزام خدعة ثم يكر، بأن يريهم الفرار مكيدة، وهو يريد الكرة مُتَحَيِّزاً منحازا أو منضما إلى جماعة أخرى ليقاتل العدو معها، والفئة: الجماعة من المسلمين التي يستنجد بها. وأصل الفئة: الطائفة من الناس باءَ رجع متلبسا به وَمَأْواهُ المأوى: الملجأ الذي يأوي إليه الإنسان أو الحيوان وَبِئْسَ الْمَصِيرُ المرجع هي.
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ببدر بقوتكم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بنصره إياكم وَما رَمَيْتَ يا محمد أعين القوم إِذْ رَمَيْتَ بالحصى لأن كفا من الحصى لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى بإيصال ذلك إليهم، ليقهر الكافرين.
لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً ليختبر المؤمنين منه اختبارا حسنا بالغنيمة، والاختبار يكون بالنقم لمعرفة الصبر، وبالنعم لمعرفة الشكر، والمراد هنا الاختبار بالنعم إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالهم عَلِيمٌ بأحوالهم.
ذلِكُمْ الإبلاء حق وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ مضعف كَيْدِ الْكافِرِينَ تدبيرهم الذي يقصد به غير ظاهره إِنْ تَسْتَفْتِحُوا تطلبوا أيها الكفار الفتح والنصر في الحرب أي الفصل والقضاء في الأمر، حيث قال أبو جهل: «اللهم أينا كان أقطع للرحم، وأتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة» أي أهلكه فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ القضاء بهلاك من هو كذلك، وهو أبو جهل ومن قتل معه. وَإِنْ تَنْتَهُوا عن الكفر والحرب وَإِنْ تَعُودُوا لقتال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نَعُدْ لنصره عليكم وَلَنْ تُغْنِيَ تدفع فِئَتُكُمْ جماعتكم.
سبب النزول: نزول الآية (١٧) :
وَما رَمَيْتَ: المشهور عند أكثر المفسرين أن هذه الآية نزلت في رمي النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم بدر القبضة من حصباء الوادي، حين قال للمشركين: شاهت الوجوه، ورماهم بتلك القبضة، فلم يبق عين مشرك إلا دخلها منه شيء.
274
روى ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم والطبراني عن حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر، سمعنا صوتا وقع من السماء إلى الأرض، كأنه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بتلك الحصباء، فانهزمنا، فذلك قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى.
نزول الآية (١٩) :
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا: روى الحاكم عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير قال: كان المستفتح أبو جهل، فإنه قال حين التقى القوم: أيّنا كان أقطع للرحم، وأتى بما لا يعرف، فأحنه (أهلكه) الغداة، وكان ذلك استفتاحا، فأنزل الله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ إلى قوله: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية قال: قال أبو جهل: اللهم انصر أعز الفئتين، وأكرم الفرقتين، فنزلت.
وقال السدي والكلبي: كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال عكرمة: قال المشركون: اللهم لا نعرف ما جاء به محمد، فافتح بيننا وبينه بالحق، فأنزل الله تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا الآية.
المناسبة:
الآيات مرتبطة بما قبلها في تعليم المؤمنين قواعد القتال، بمناسبة قصة بدر، ففي الآية السابقة أمرهم بضرب الهامات والرؤوس، وتقطيع الأيدي والأرجل، وهنا ذكر الله حكما عاما أيضا في الحروب، وهو تحريم الفرار من الزحف في مواجهة الأعداء إلا لمصلحة حربية، مثل التحرف لقتال (إظهار الانهزام والفرار خدعة ثم الكرّ) والتحيز إلى فئة (الانضمام إليها لمقاتلة العدو معها).
275
التفسير والبيان:
يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، إذا اقتربتم من عدوكم ودنوتم منهم حال كونهم جيشا زاحفين نحوكم لقتالكم، فلا تفرّوا منهم، مهما كثر عددهم، وأنتم قلة، ولكن اثبتوا لهم وقاتلوهم، فالله معكم عليهم.
وهذا الانهزام أمامهم محرم إلا في حالتين:
إحداهما- أن يكون المقاتل متحرفا لقتال، أي مظهرا أنه منهزم، ثم ينعطف عليه، ويكر عليه ليقتله. وهو أحد مكايد الحرب وخدعها.
والثانية- أن يكون متحيزا إلى فئة أي منضما إلى جماعة أخرى من المسلمين لمقاتلة العدو معها، يعاونهم ويعاونونه. فيجوز له ذلك في هاتين الحالتين.
أما فيما عداهما، فمن فرّ أو انهزم وجبن عن القتال، فقد رجع متلبسا بغضب من الله، ومأواه الذي يلجأ إليه في الآخرة جهنم، وبئس المصير هي، وبئس المصير مصيره. قال البيضاوي: هذا إذا لم يزد العدو على الضعف، لقوله تعالى:
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الأنفال ٨/ ٦٦] وقال ابن عباس: من فرّ من ثلاثة لم يفر، ومن فرّ من اثنين فقد فرّ.
والآية تدل على تحريم الفرار من الزحف، وأنه من كبائر المعاصي، بدليل
ما روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا: «اجتنبوا السبع الموبقات- المهلكات- قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
ثم علل الله تعالى ضرورة الثبات والصبر أمام العدو بنصره على الأعداء، فقال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أي إن افتخرتم بقتلهم، فأنتم لم تقتلوهم بقوتكم وعدتكم،
276
وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بأيديكم لأنه هو الذي أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر، وقوى قلوبكم وأذهب عنها الفزع والجزع، كما قال تعالى:
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ، وَيُخْزِهِمْ، وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة ٩/ ١٤].
وذلك أن المسلمين لما كسروا أهل مكة، وقتلوا، وأسروا، أقبلوا على التفاخر، فكان القائل يقول: قتلت، وأسرت. ولما طلعت قريش،
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها، يكذبون رسولك، اللهم إني أسألك ما وعدتني» فأتاه جبريل عليه السّلام فقال: خذ قبضة من تراب، فارمهم بها، فقال لما التقى الجمعان لعلي رضي الله عنه: أعطني قبضة من حصباء الوادي، فرمى بها في وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه، فانهزموا، وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم.
فقيل لهم: إن افتخرتم بقتلهم، فأنتم لم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم، بتثبيته قلوبكم، وإلقائه الرعب في قلوبهم. وما رميت أيها الرسول إذ رميت المشركين في الظاهر بالقبضة من الحصباء التي رميتها، فأنت ما رميتها في الحقيقة لأن رميك لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه سائر البشر في العادة، ولكن الله رماها، حيث أوصل ذلك التراب إلى عيونهم، فصورة الرمي صدرت من الرسول عليه الصلاة والسّلام، وأثره إنما صدر من الله، والعبرة بإحداث الأثر فعلا، فالله هو الذي بلّغ أثر ذلك الرمي إليهم، وكبتهم بها، لا أنت.
وقد تكرر فعل الرمي من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم حنين.
ويكون الفرق بين فعله تعالى في القتل وبين فعل النبي والمؤمنين: أن الله هو المؤثر الحقيقي الفعال في تحقيق النتائج، وأما فعل البشر فهو القيام بالأسباب الظاهرة المقدورة لهم التي كلفهم بها ربهم، كما هو الحال في جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية، من كونها لا تستقل في تحقيق غاياتها إلا بفعل الله وتأثيره.
277
فعل الله ذلك كله ليكبت المشركين، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي ليعرّف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم، مع كثرة عدوهم وقلة عددهم، ليعرفوا حقه، ويشكروا بذلك نعمته، فهو منه تعالى اختبار للمؤمنين بالنصر والغنيمة وذيوع الصيت وحسن السمعة بين العرب.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لكل قول ومنه دعاؤهم واستغاثة الرسول والمؤمنين ربهم قبل القتال، عليم بأحوالهم ونياتهم وبمن يستحق النصر والغنيمة.
ثم أتى ببشارة أخرى مع ما حصل لهم من النصر، وهي أنه تعالى أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين في المستقبل، محبط مكرهم، مصغّر أمرهم، جاعل كل ما لهم في تبار ودمار.
ثم خاطب الله أهل مكة على سبيل التهكم قائلا لهم: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ، أي إن تستنصروا لأعلى الجندين وأهداهما، وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين، فقد جاءكم ما سألتم، وتم النصر للأعلى والأهدى، وحدث الهلاك والذلة للأدنى والأضل.
ثم أنذرهم الله، وحذرهم بقوله: إن تنتهوا عن الكفر والتكذيب بالله ولرسوله، وعداوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فهو خير لكم في الدنيا والآخرة وأجدى من الحرب التي جربتموها وما أحدثت من قتل وأسر وإن تعودوا لمحاربته وقتاله، وإلى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة، نعد إلى نصره وهزيمتكم، كما قال تعالى لبني إسرائيل: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الإسراء ١٧/ ٨] والخطاب هنا للكفار، وهو الظاهر من السياق، وقيل: الخطاب للمؤمنين لأن قوله: فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ لا يليق إلا بالمؤمنين، أما لو حملنا الفتح على البيان والحكم والقضاء، لم يمتنع أن يراد به الكفار.
ولن تفيدكم جماعتكم شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ، إذ ليست الكثرة دائما من وسائل
278
النصر أمام القلة، فقد يحدث العكس إذا اقترن فعل القلة بالصبر والثبات والإيمان والثقة بالله تعالى.
وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بالنصر والتأييد والتوفيق إلى النجاح، فلو جمعتم ما قدرتم من الجموع، فإن من كان الله معه، فلا غالب له، كما قال تعالى: إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
[الصافات ٣٧/ ١٧٣] وقال: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة ٥/ ٥٦] وقال: أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ [المجادلة ٥٨/ ١٩].
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام التالية:
١- تحريم الفرار من القتال أمام العدو إلا في حالتين: التحرف لقتال، أو التحيز إلى فئة. ولكن هذا الحكم مقيد عند الجمهور بألا يزيد عدد الأعداء عن ضعف المسلمين، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنين من المشركين، فالفرض ألا يفروا أمامهم، فمن فر من اثنين فهو فارّ من الزحف، ومن فرّ من ثلاثة فليس بفارّ من الزحف، ولا وعيد عليه، لقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال ٨/ ٦٦] فالمسلم مطالب بالثبات أمام اثنين من الأعداء، وهذا ما استقر عليه التشريع.
والفرار معصية كبيرة موبقة، بظاهر القرآن وإجماع أكثر الأئمة للحديث المتقدم عن السبع الموبقات، التي منها
«التولي يوم الزحف».
أما الهرب من الزحف إذا زاد عدد الأعداء عن ضعف المسلمين فهو مباح لما
رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فحاص الناس حيصة،
279
فكنت فيمن حاص- أي هرب-، فقلنا: كيف نصنع، وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة، ثم بتنا، ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: «من القوم؟» فقلنا: نحن الفرارون، فقال: «لا، بل أنتم العكّارون- الكرارون العطافون- أنا فئتكم، وأنا فئة المسلمين».
وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه- فيما رواه محمد بن سيرين- في أبي عبيدة، لما قتل على الجسر، بأرض فارس، لكثرة الجيش، من ناحية المجوس، فقال عمر: لو تحيّز إليّ لكنت له فئة» وقال مجاهد: قال عمر: «أنا فئة كل مسلم».
لكن وإن جاز الانهزام، فالصبر أحسن، بدليل أن جيش مؤتة، وهم ثلاثة آلاف، وقف في مقابلة مائتي ألف، منهم مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة من لخم وجذام.
ووقع في تاريخ الأندلس: أن طارقا مولى موسى بن نصير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس، وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة فالتقى وملك الأندلس: لذريق، وكان في سبعين ألف عنان- فرس- فزحف إليه طارق، وصبر له، فهزم الله الطاغية لذريق، وكان الفتح.
قال ابن وهب: سمعت مالكا يسأل عن القوم يلقون العدو، أو يكونون في محرس يحرسون، فيأتيهم العدو وهم يسير، أيقاتلون أو ينصرفون، فيؤذنون أصحابهم؟ قال: إن كانوا يقوون على قتالهم قاتلوهم، وإلا انصرفوا إلى أصحابهم فآذنوهم.
وحكم الفرار من الزحف ليس مختصا بمن كان انهزم يوم بدر، كما يرى بعض الصحابة والتابعين (أبي سعيد الخدري، والحسن البصري وقتادة والضحاك) وإنما
280
هذا الحكم عام في جميع الحروب، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهو عام، فيتناول جميع الحالات، كل ما في الأمر أنه نزل في واقعة بدر، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
والآية نزلت بعد القتال وانقضاء الحرب، وهذا رأي مالك والشافعي وأكثر العلماء.
قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة من فرّ من الزحف، ولا يجوز لهم الفرار، وإن فرّ إمامهم لقوله عز وجل: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ الآية: وفيها أنه استحق غضب الله ونار جهنم. وقال أيضا: ويجوز الفرار من أكثر من ضعفهم، وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا، فإن بلغ اثني عشر ألفا، لم يحل لهم الفرار، وإن زاد عدد المشركين على الضعف
لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو بشر وأبو سلمة العاملي: «ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلّة»
إلا أن فيه راويا متروكا.
فإن فرّ فليستغفر الله عز وجل،
لما رواه الترمذي عن بلال بن يسار بن زيد قال: حدثني أبي عن جدّي، سمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه، غفر الله له، وإن كان قد فرّ من الزحف».
٢- استدل أهل السنة بقوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنه تعالى قال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ومن المعلوم أنهم جرحوا الأعداء، فدل هذا على أن حدوث تلك الأفعال إنما حصل من الله. وقوله تعالى عن النبي عليه الصلاة والسّلام: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ أي وما رميت خلقا ولكن رميت كسبا. وعلى كل حال فمذهب أهل
281
السنة ثابت بصريح قوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر ٣٩/ ٦٢].
٣- المؤمن مطالب بتعاطي الأسباب الظاهرية، والقيام بالتكليف الذي كلفه الله، ثم يتوكل على الله ويفوض الأمر إليه، أما تحقيق النتائج والأهداف فهو متروك قطعا لله عز وجل، لا بقوة الإنسان وقدرته، لهذا صح النفي والإثبات في قوله: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي أن صورة الرمي صدرت من الرسول عليه الصلاة والسّلام، وأثرها إنما صدر من الله.
وحادثة رمي الأعداء بحفنة من الحصباء حدثت يوم بدر في الأصح كما قال ابن إسحاق لأن الآية نزلت عقيب بدر والسورة بدرية، وتكررت يوم أحد ويوم حنين.
٤- كان الإخلاص في الجهاد، وصدق اللقاء، والثقة بالله سبب رضوان الله على أهل بدر، وإعطائهم البلاء الحسن، أي الإنعام عليهم، أي ينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصرة والغنيمة والأجر والثواب.
٥- إن كل قوى الكفار تتبدد أمام قدرة الله وإرادته ونصره عباده المؤمنين، فأوهن الله كيدهم وألقى الرعب في قلوبهم، وفرّق كلمتهم، وأطلع المؤمنين على عوراتهم، وخزاهم وأذلهم، وهددهم بالعودة إلى خذلانهم إن عادوا لمحاربة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وأنبأهم بدحر قواتهم مهما كثرت، وأن الله مؤيد بنصره المؤمنين، ولكن مع كل هذا فتح الله باب الأمل أمامهم بالعودة عن الكفر والشرك والمعاداة إلى الإيمان والطاعة والإسلام واتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومؤازرته وتأييده، رحمة منه بعباده، والله رؤف بالعباد.
٦- لقد تحقق مطلب أبي جهل حينما قال: اللهم انصر أفضل الدينين وأحقه بالنصر، وقول المشركين حينما أرادوا الخروج إلى بدر، وأخذوا بأستار الكعبة:
282
اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، وأفضل الدينين.
وهو معنى قوله تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أي إن تستنصروا لأهدى الفئتين وأكرم الحزبين، فقد جاءكم النصر، على سبيل التهكم عليهم، ففي بدر فرق الله بين الحق والباطل لذا سميت الغزوة أو المعركة بيوم الفرقان، وأعز الإسلام وأهله، وهزم الكفر وأعوانه.
الأمر بطاعة الله والرسول والتحذير من المخالفة
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٠ الى ٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
الإعراب:
وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ أصلها: تتولوا، أدغمت إحدى التاءين بالأخرى. والضمير في عَنْهُ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لأن المعنى: وأطيعوا رسول الله، كقوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة ٩/ ٦٢] ولأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد.
البلاغة:
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ... شبه الكفار بالبهائم، وجعلهم من جنس البهائم، ثم جعلهم شرا منها، لتعطيلهم حواسهم عن سماع الحق والنطق به، فهو وجه الشبه، وأما أنهم شر من البهائم فلأنهم يضرون غيرهم والبهائم لا تضر.
283
المفردات اللغوية:
وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ تعرضوا عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، بمخالفة أمره وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ القرآن والمواعظ وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تدبر واتعاظ، وهم المنافقون أو المشركون الدَّوَابِّ جمع دابة: وهي ما تدب على الأرض الصُّمُّ عن سماع الحق، جمع أصم: وهو الأطرش الْبُكْمُ عن النطق بالحق، جمع أبكم: وهو الأخرس.
خَيْراً أي صلاحا بسماع الحق لَأَسْمَعَهُمْ سماع تفهم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ على سبيل الافتراض، وقد علم ألا خير فيهم لَتَوَلَّوْا أعرضوا عنه وَهُمْ مُعْرِضُونَ عن قبوله عنادا وجحودا.
المناسبة:
لما خاطب الله المشركين والكفار بقوله: وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أتبعه بتأديب المؤمنين بالأمر بطاعة الله والرسول إذا دعاهم للجهاد وغيره لأن الكلام من أول السورة إلى هنا في الجهاد. ومن عادة القرآن مقابلة الأشياء ببعضها، فلما حذر الكافرين، اقتضى تنبيه المؤمنين لئلا يتقاعسوا عن الدفاع عن الدين وإجابة دعوة النبي الكريم صلّى الله عليه وآله وسلم.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، ويزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين المعاندين له، فقال:
يا أيها المتصفون بالإيمان والتصديق أطيعوا الله ورسوله في الدعوة إلى الجهاد وترك المال، ولا تتركوا طاعته أي الرسول وامتثال أوامره وترك زواجره، فإذا أمر بالجهاد وبذل المال وغيرهما، امتثلتم، والحال أنكم تسمعون كلامه ومواعظه، وتعلمون ما دعاكم إليه. والمراد بالسماع: سماع تدبر وفهم وتأمل في المسموع، كما هو الشأن في المؤمنين أن يقولوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، غُفْرانَكَ رَبَّنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة ٢/ ٢٨٥].
284
واحذروا أن تكونوا مثل الذين قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون، وهم المنافقون والمشركون، فإنهم يتظاهرون بالسماع والاستجابة، وليسوا كذلك، والحال أنهم لا يسمعون أبدا.
ثم أخبر الله تعالى عن هؤلاء أنهم شر الخلق والخليقة، فقال: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ... أي إن شر المخلوقات التي تدب على الأرض عند الله الصم الذين لا يسمعون الحق فيتبعونه، ولا ينطقون بالحق ولا يفهمونه، ولا يعقلون الفرق بين الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، والإسلام والكفر، أي فكأنهم لتعطيلهم هذه الحواس فيما فيه المنفعة والفائدة والخير، فقدوا هذه القوى والمشاعر المدركة، وهم لو استخدموا عقولهم متجردين عن التقليد والعصبية الجاهلية، لاهتدوا إلى الحق والصواب، وأدركوا الصالح المفيد لهم وهو الإسلام، إلا أنهم في الواقع كالبهائم لا يعقلون الأمور، كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ، وَهُوَ شَهِيدٌ [ق ٥٠/ ٣٧].
ثم أخبر الله تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح، ولا قصد لهم صحيح، فلو علم الله في نفوسهم ميلا إلى الخير والاستعداد للإيمان والاهتداء بنور الإسلام والنبوة، لأفهمهم، وأسمعهم بتوفيقه كلام الله ورسوله سماع تدبر وتفهم واتعاظ ولكن لا خير فيهم لأنه يعلم أنه لو أسمعهم أي أفهمهم، لتولوا عن ذلك قصدا وعنادا بعد فهمهم ذلك، وهم معرضون عنه من قبل ذلك بقلوبهم عن قبوله والعمل به، فهم لا خير فيهم أصلا.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى شيئين: الأمر بطاعة الله والرسول، والتحذير من مخالفة أمرهما ونهيهما.
وشأن المؤمنين سماع الحق، والاهتداء بنوره، وإطاعة الأوامر، واجتناب
285
النواهي والزواجر. وهؤلاء هم فئة المؤمنين المصدقين، وأكمل الناس وأرشدهم.
وطاعة الله والرسول شيء واحد، وطاعة الرسول طاعة لله، ونظير الآية قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ [التوبة ٩/ ٦٢] وقول المؤمن: سمعت وأطعت لا فائدة منه ما لم يظهر أثر ذلك عليه بامتثال الفعل المأمور به، واجتناب المنهي عنه. أما من قصر في الأوامر واقتحم المعاصي فهو غير مطيع.
أما من ليسوا بمؤمنين ولا مصدقين كاليهود أو المنافقين أو المشركين، فهم لا يسمعون الحق سماع تدبر وتفهم وتأمل، لذا أخبر تعالى أن هؤلاء الكفار شر خلق الله، وشر ما دبّ على الأرض.
أما المنافق فيظهر الإيمان ويسرّ الكفر، فهو يتظاهر بالسماع، وهو في الحقيقة لا يتدبر ولا يفهم شيئا.
وأما اليهودي والنصراني فيجادل في الحق بعد ما تبين له، تمسكا بالموروث المتداول، فهو يصم الأذن، ويعطل العقل عن التفكير والتأمل في الدين الحق، إصرارا على ما توارثه.
وأما المشركون فهم معاندون لا يسمعون أبدا، ويصدون الناس أيضا عن سماع القرآن وكلام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، ويصمون آذانهم عن سماع الحق، ويتمسكون بتقليد الآباء والأجداد دون تأمل.
وكل هؤلاء لا يعقلون الفروق بين الحق والباطل، والخير والشر، والإسلام والكفر، لذا كانوا بحق شر خلق الله، وشرا من الدواب لأنهم يضرون، والبهائم لا تضر.
286
الاستجابة لما فيه الحياة الأبدية
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)
الإعراب:
لا تُصِيبَنَّ فيه واو محذوفة، تقديره: ولا تصيبن، مثل أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون أي وهم فيها خالدون، فحذف الواو. وذكر الزمخشري في ذلك ثلاثة أوجه: إما أن يكون جوابا للأمر، أو نهيا بعد أمر، أو صفة لفتنة، فإذا كان جوابا فالمعنى: إن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة، ولكنها تعمكم، وجاز أن تدخل النون الثقيلة المؤكدة في جواب الأمر أو الشرط، والنون لا تدخل إلا على فعل النهي أو جواب القسم لأن فيه معنى النهي، كما لو قلت:
«انزل عن الدابة لا تطرحك» يجوز: لا تطرحنّك. فكذلك هنا النهي للفتنة والمراد به الذين ظلموا. وإذا كانت نهيا بعد أمر، فكأنه قيل: واحذروا ذنبا أو عقابا، ثم قيل: لا تتعرضوا للظلم، فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول، كأنه قيل: واتقوا فتنة، مقولا فيها: لا تصيبن.
البلاغة:
يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ استعارة تمثيلية، شبه الله تعالى تمكنه من قلوب العباد وتصريفها كما يشاء بمن يحول بين الشيء والشيء.
المفردات اللغوية:
اسْتَجِيبُوا أجيبوا الله والرسول بالطاعة. لِما يُحْيِيكُمْ من أمر الدين ويصلحكم به
287
لأنه سبب الحياة الأبدية. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فلا يستطيع أن يؤمن أو يكفر إلا بإرادته، قال ابن عباس: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان. وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي إليه مصيركم ومرجعكم، فيجازيكم بأعمالكم.
وَاتَّقُوا فِتْنَةً احذروا بلاء ومحنة إن أصابتكم بإنكار موجبها من المنكر لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً بل تعمهم وغيرهم. شَدِيدُ الْعِقابِ شديد العذاب لمن خالفه وعصاه.
سبب النزول: نزول الآية (٢٥) :
وَاتَّقُوا فِتْنَةً: تأولها الزبير بن العوام والحسن البصري والسدي وغيرهما بأنها يوم وقعة الجمل سنة ست وثلاثين. قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها زمانا، وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها. وقال الحسن: نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير، وهو يوم الجمل خاصة. وقال السدي: نزلت في أهل بدر، فاقتتلوا يوم الجمل.
وروي أن «الزبير كان يساير النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوما إذ أقبل علي رضي الله عنه، فضحك إليه الزبير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: كيف حبّك لعليّ؟
فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إني أحبه كحبي لولدي، أو أشد حبا، قال: فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله؟»
«١».
وقال ابن عباس رضي الله عنه: نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقال: أمر الله المؤمنين ألا يقرّوا المنكر فيما بينهم، فيعمهم الله بالعذاب.
وعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «يكون بين ناس من أصحابي فتنة، يغفرها الله لهم بصحبتهم إياي، يستنّ بهم فيها ناس بعدهم، يدخلهم الله بها النار» «٢».
(١) الكشاف: ٢/ ١١
(٢) تفسير القرطبي: ٧/ ٣٩١.
288
وهذه التأويلات تعضدها الأحاديث الصحيحة،
ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث».
وفي صحيح الترمذي: «إن الناس إذا رأوا الظالم، ولم يأخذوا على يديه، أو شك أن يعمهم الله بعقاب من عنده».
وفي صحيح البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا «١» على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء، مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا».
ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى المؤمنين بطاعة الله والرسول في الجهاد وبذل المال وغيرهما، أردفه بالأمر بإجابة الله والرسول إذا دعاهم لما يحييهم حياة أبدية، ويصلحهم بهداية الدين وأحكامه، فكأن هذه الآيات بمثابة بيان العلة لطاعة الله والرسول، وهو تحقيق الصلاح والخير والسعادة الأبدية في الدنيا والآخرة بالتزام الدين.
التفسير والبيان:
كرر الله النداء بلفظ الذين آمنوا هذه الآيات وما قبلها، إشارة إلى أن وصف الإيمان موجب الامتثال والإجابة والإصغاء لما يرد بعده من الأوامر والنواهي.
(١) استهموا: اقترعوا.
289
والمعنى: أيها المؤمنون، أجيبوا دعوة الله، ودعوة الرسول إذا دعاكم لما يحييكم حياة طيبة أبدية مشتملة على سعادة الدنيا والآخرة، وفيها صلاحكم وخيركم، وفيها كل حق وصواب، وذلك شامل القرآن والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة. والمراد من قوله: لِما يُحْيِيكُمْ الحياة الطيبة الدائمة، قال تعالى:
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النحل ١٦/ ٩٧]. وقال البخاري: اسْتَجِيبُوا:
أجيبوا، لِما يُحْيِيكُمْ: لما يصلحكم.
وأكثر الفقهاء على أن ظاهر الأمر للوجوب، فالأمر هنا للوجوب حتى يكون له معنى وفائدة، صونا للنص عن التعطيل، ولأن قوله بعدئذ:
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جار مجرى التهديد والوعيد، وهو لا يليق إلا بالإيجاب.
فيجب بناء عليه امتثال ما أمر به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بجد وعزم ونشاط من أمور الدين عبادة وعقيدة ومعاملة. أما أمور العادات كاللباس والطعام والشرب والنوم، فليست من الدين الواجب الاقتداء به.
ومن أعرض عما أمر النبي به من الإيمان والقرآن والهدى والجهاد، فهو ميت لا حياة طيبة أو روحية فيه، كما قال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام ٦/ ١٢٢].
ومعنى قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ: بادروا إلى الاستجابة قبل ألا تتمكنوا منها بزوال العقل. والقلب: موضع الفكر. قال مجاهد في الآية: يَحُولُ... أي حتى يتركه لا يعقل، والمعنى: يحول بين المرء وعقله، حتى لا يدري ما يصنع. وفي التنزيل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق ٥٠/ ٣٧] أي عقل.
290
وقيل: يحول بينه وبين قلبه الموت، فلا يمكنه استدراك ما فات، قال في الكشاف: يعني أنه يميته فتفوته الفرصة. وقيل: المعنى يقلب الأمور من حال إلى حال، قال القرطبي: وهذا جامع.
روى الإمام أحمد بن حنبل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك» فقلنا: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: «نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها».
واختيار الطبري: أن يكون ذلك إخبارا من الله عز وجل بأنه أملك لقلوب العباد منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يدرك الإنسان شيئا إلا بمشيئة الله عز وجل.
وأرى أن اختيار الطبري والقرطبي في تفسير الآية أسلم الآراء، ومعناها أن الله مهيمن على قلب الإنسان وفكره وإرادته، يقلب الأمور بيده كيف شاء من حال إلى حال، وهو المتصرف في جميع الأشياء، يصرف القلوب بما لا يقدر عليه صاحبها، ويغير اتجاهاته ومقاصده ونياته وعزائمه حسبما يشاء. والمقصود من الآية الحث على الطاعة قبل وجود الموانع من مرض وموت مثلا.
وفسر بعضهم الآية بحسب الاختلاف في الجبر والقدر، فالقائلون بالجبر:
يرون أن الله يحول بين المرء الكافر وطاعته، ويحول بين المرء المطيع ومعصيته، فالسعيد من أسعده الله، والشقي من أضلّه الله. وكان فعل الله تعالى ذلك عدلا فيمن أضله وخذله، إذ لم يمنعهم حقا وجب عليه، فتزول صفة العدل حينئذ، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم، لا ما وجب لهم.
وقال الجبائي من المعتزلة: إن من حال الله بينه وبين الإيمان، فهو عاجز، وأمر العاجز سفه، ولو جاز ذلك لجاز أن يأمرنا الله بصعود السماء، وقد أجمعوا
291
على أن المريض الزّمن لا يؤمر بالصلاة قائما، فكيف يجوز ذلك على الله تعالى؟
وقد قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة ٢/ ٢٨٦] «١».
ومما يدل على أن المقصود من الآية الحث على الطاعة قبل فوات الأوان والفرصة ما ختمت به، وهو قوله: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي أسرعوا في العمل وأعدوا العدة ليوم الحشر، فإنكم إلى الله مرجعكم ومصيركم، فيجازيكم بأعمالكم.
وبعد أن حذر الله تعالى الإنسان أن يحال بينه وبين قلبه، حذره من الفتن، فقال: وَاتَّقُوا فِتْنَةً... أي احذروا الوقوع في الفتنة وهي الاختبار والمحنة التي يعمّ فيها البلاء المسيء وغيره، ولا يخص بها أهل المعاصي، ولا من ارتكب الذنب، بل يعمهما، حيث لم تدفع وترفع. وبعبارة أخرى: واحذروا فتنة، إن نزلت بكم، لم تقتصر على الظالمين خاصة، بل تتعدى إليكم جميعا، وتصل إلى الصالح والطالح.
وكانت فتنة عثمان أول الفتن التي ما زال أثرها قائما في التاريخ، وكانت سببا في اقتتال المسلمين في وقعة الجمل وصفين ومقتل الحسين وغيرها، وفي ظهور البدع والمنكرات، واستمرت الفتن بين المسلمين، وأخذت أشكالا متعددة، من قومية، وتفرق في الدين، وانقسام إلى أحزاب دينية، وأحزاب سياسية.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، أي أنه تعالى شديد العذاب في الدنيا والآخرة لمن عصاه من الأمم والأفراد، وخالف هدي دينه وشرعه.
وهذا التحذير عام يعمّ الصحابة وغيرهم، وإن كان الخطاب لهم أولا.
ومقتضى التحذير منع ما يؤدي إلى العذاب العام، والعمل على إزالته ورفعه إذا وقع، كإهمال الجهاد، وشيوع المنكر، وافتراق الكلمة، والالتواء في الأمر
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ١٤٧- ١٤٨.
292
بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد وردت أحاديث كثيرة تحذر من الفتن، منها:
ما رواه أحمد وأبو داود عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ما من قوم يعملون بالمعاصي، وفيهم رجل أعز منهم وأمنع لا يغيره إلا عمّهم الله بعقاب، أو أصابهم العقاب».
ثم نبّه الله تعالى عباده المؤمنين على نعمه وإحسانه عليهم، حيث كانوا قليلين فكثرهم، ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات، وهذا كان حال المؤمنين قبل الهجرة من مكة إلى المدينة، فبعد أن أمرهم بطاعة الله وطاعة الرسول، ثم أمرهم باتقاء المعصية، أكد ذلك التكليف بهذه الآية، فقال: واذكروا أيها المهاجرون، وقيل: الخطاب لجميع المؤمنين في عصر التنزيل، اذكروا وقت أن كنتم قلة مستضعفين في مكة، والمشركون أعزة كثرة يذيقونكم سوء العذاب، وكنتم خائفين غير مطمئنين، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ، أي يأخذكم مشركو العرب بسرعة خاطفة للقتل والسلب، كما كان يتخطف بعضهم بعضا خارج الحرم المكي، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت ٢٩/ ٦٧] وقال: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص ٢٨/ ٥٧].
فَآواكُمْ، أي جعل لكم مأوى تتحصنون به في المدينة، وأيّدكم، أي أعانكم وقواكم يوم بدر وغيره من الغزوات بنصره المؤزر وعونه، وسيؤيدكم بنصره على من سواكم من الروم والفرس وغيرهم، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ رزقا حسنا مباركا فيه وأحل لكم الغنائم، كي تشكروا هذه النعم الجليلة، والغرض التذكير بالنعمة لتكون حاملا لهم على إطاعة الله وشكر الفضل الإلهي.
أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله في قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ قال: كان هذا الحي من العرب أذلّ الناس ذلّا، وأشقاه عيشا، وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا، وأبينه ضلالا،
293
معكوفين على رأس حجر بين فارس والروم، لا والله ما في بلادهم ما يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردّي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشرّ منزلا منهم، حتى جاء الله بالإسلام، فمكّن به في البلاد، ووسّع به في الرزق، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من نعم الله عز وجل.
فقه الحياة أو الأحكام:
بان من الآيات العبر والعظات الكثيرة، بالإضافة إلى الأحكام الأساسية في الإسلام وهي ما يلي:
١- وجوب إجابة دعوة الله والرسول وإطاعتهما تأكيدا لما سبق، لما فيه الخير والصلاح والحياة الطيبة الدائمة السعيدة في الدنيا والآخرة. وسبيل ذلك الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد والهدى الإلهي.
ذكر الحافظ ابن كثير والبخاري عن أبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنه قال: كنت أصلي في المسجد، فمرّ بي النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فدعاني فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي. فقال: ألم يقل الله عز وجل:
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ثم قال: لأعلمنّك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج، فذهب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ليخرج فذكرت له ذلك، فقال:
الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».
قال الشافعي: هذا دليل على أن الفعل الفرض أو القول الفرض إذا أتي به في الصلاة لا تبطل لأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بالإجابة وإن كان في الصلاة.
٢- إن الله تعالى أملك لقلوب العباد منهم، وهو المتصرف في جميع الأشياء، سواء أكانت من أفعال القلوب والعقول أم من أفعال الأعضاء.
294
٣- وجوب تجنب أسباب الفتنة والبلاء والعذاب، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوحيد الكلمة، ومحاربة البدع، ومقاومة الانقسام، والمدعوة إلى الوحدة بين الأمة حكاما ومحكومين لأن وباء الفتنة لا يقتصر على الظالمين خاصة، وإنما يعمّ الجميع. لكن يجب الكف عن الخوض في خلافات الصحابة.
٤- الحث على لزوم الاستقامة خوفا من عقاب الله تعالى.
٥- تذكر النعم الجليلة التي أنعم الله بها على المؤمنين، والمبادرة إلى شكرها، والاعتبار والاتعاظ بها، فالله يحقق لمن امتثل أوامره سعادة الدنيا، وعزة السلطان، والتمكين في الأرض، والأمن من المخاوف، والنصر على الأعداء، ويمنحهم أيضا الفوز والنجاة والرضوان في الآخرة. فإن تنكروا للأوامر الإلهية ولم يشكروا النعم، كحال المسلمين اليوم، صاروا أذلة ضعافا. وسنة الله في ذلك هي: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف ٧/ ١٢٨].
خيانة الله والرسول وخيانة الأمانة
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)
الإعراب:
وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ فيه وجهان:
أحدهما- أن يكون مجزوما بالعطف على قوله تعالى: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ.
والثاني- أن يكون منصوبا بأن مضمرة بعد حتى، على جواب النهي بالواو، كقول الشاعر:
295
المفردات اللغوية:
لا تَخُونُوا الخيانة في الأصل: النقص وإخلاف المرتجى، ثم استعملت في الإخلال والنقص والغدر وإخفاء الشيء الذي هو ضدّ الأمانة والوفاء، وفيه معنى النقصان. أَماناتِكُمْ ما ائتمنتم عليه من الدّين وغيره من التكاليف الشرعية، والأمانة: كل حق يجب أداؤه إلى الغير.
فتنة اختبار وابتلاء بما يشق على النفس فعله أو تركه، وهي تكون في الاعتقاد والأقوال والأفعال والأشياء، فيمتحن الله المؤمن والكافر على السواء. وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
فلا تضيعوه بمراعاة مصالح الأموال والأولاد.
سبب النزول:
روى سعيد بن منصور وغيره عن عبد الله بن أبي قتادة قال: نزلت هذه الآية: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ في أبي لبابة بن عبد المنذر، سأله بنو قريظة يوم قريظة: ما هذا الأمر، فأشار إلى حلقه، يقول: الذبح، فنزلت، قال أبو لبابة: ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله.
فالآية نزلت في أبي لبابة مروان بن عبد المنذر- وكان حليفا لبني قريظة من اليهود-
وقد بعثه صلّى الله عليه وآله وسلم إلى بني قريظة، لينزلوا على حكمه، فاستشاروه
، فأشار إليهم أنه الذبح لأن عياله وماله وولده كانت عندهم. وذلك بعد أن حاصرهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إحدى وعشرين ليلة.
قال الزهري: فلما نزلت الآية شدّ نفسه على سارية من سواري المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي، فمكث تسعة أيام- وفي رواية: سبعة أيام- لا يذوق فيها طعاما حتى خرّ مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل: يا أبا لبابة قد تيب عليك، فقال: لا والله، لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم هو الذي يحلّني، فجاءه فحلّه بيده.
ثم قال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن انخلع من مالي،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: يجزيك الثلث أن تتصدق به.
296
وروى ابن جرير وغيره عن جابر بن عبد الله: أن أبا سفيان خرج من مكة، فأتى جبريل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه، واكتموا، فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان: إن محمدا يريدكم، فخذوا حذركم، فأنزل الله: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
لكنه حديث غريب جدا، مما يدل على أن الأصح نزول الآية في أبي لبابة.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى أنه رزق العباد من الطيبات وأنعم عليهم بالنعم الجليلة، منعهم هنا من الخيانة في الغنائم وغيرها من التكاليف الشرعية.
التفسير والبيان:
يوجب الله تعالى في هذه الآية أداء التكاليف الشرعية بأسرها على سبيل التمام والكمال، من غير نقص ولا إخلال.
يا أيها المؤمنون المصدقون بالله ورسله وقرآنه، لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه أو تتعدوا حدوده ومحارمه، ولا تخونوا الرسول بأن لا تستنوا به ولا تأتمروا بما أمركم به أو لا تنتهوا عما نهاكم عنه، وتتبعوا أهواءكم وتقاليد آبائكم الموروثة، ولا تخونوا أماناتكم التي تأتمنونها فيما بينكم، بأن لا تحفظوها، وذلك يشمل الودائع المادية، والأسرار العامة للأمة والخاصة بالأفراد، فتطلعوا على الأولى الأعداء، وتفشوا الثانية بين الناس. والأمانة: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد من الفرائض والحدود، وخيانتها: تعطيل فرائض الدين، والتحلل من أحكامه والاستنان بسنته، وتضييع حقوق الآخرين.
وأنتم تعلمون أنكم تخونون، وتعلمون تبعة ذلك ووباله، وتميزون بين الحسن
297
والقبيح وتعرفون مفاسد الخيانة، يعني أن الخيانة: هي التي توجد منكم عن تعمد، لا عن سهو.
والخيانة: تعمّ الذنوب الصغار والكبار الملازمة للإنسان والمتعدية الضرر إلى الآخرين.
والأمانة من صفات المؤمنين، والخيانة من صفات المنافقين،
روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: قلما خطب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلا قال: «لا إيمان لمن لا عهد له».
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم».
ثم إنه لما كان سبب الإقدام على الخيانة هو حبّ الأموال والأولاد، نبّه تعالى على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن مضار ذلك الحب، فقال: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
أي إن الأموال والأولاد محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده، وسبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب لأنها تشغل القلب بالدنيا، وتحجب عن عمل الآخرة. والسبب هو أن الإنسان مفطور على حب المال، طماع في كسبه وادخاره، فيبخل به، ولا يؤدي منه حقوق الله، ولا يحسن به إلى الفقراء ولا ينفقه في أعمال البر والخير والإحسان. وحب الأولاد مما فطر عليه الإنسان أيضا، وقد يحمل هذا الحب إلى كسب المال الحرام من أجلهم، لذا وجب على المؤمن الحذر من المال والولد، فيكسب المال الحلال، وينفقه في مستحقاته وفي سبيل البر والإحسان، ويطعم أولاده حلالا، حتى لا ينبت جسدهم من السحت والحرام، ولا يكون الولد سببا للجبن والبخل، ولا يقصر الوالد في تربية أولاده على الخلق الفاضل والالتزام بأحكام الدين، والبعد عن المعاصي والمحرمات.
298
ثم ختم الله تعالى الآية بخاتمة مؤثرة توقظ المقصر والمتورط فقال: وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
أي أن ثوابه وعطاءه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد، فإنه قد يوجد منهم عدو، وأكثرهم لا يغني عنك شيئا، والله سبحانه هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة، فعليكم أن تؤثروا ثواب ربكم، بمراعاة أحكام شرعه ودينه في الأموال والأولاد، وأن تزهدوا في الدنيا ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد، حتى تورطوا أنفسكم من أجلهما، كقوله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف ١٨/ ٤٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
تؤكد هذه الآيات مضمون المجموعتين السابقتين من الآيات التي تطالب بطاعة الله وطاعة الرسول، والاستجابة لدعوة الله والرسول، ثم يستمر التأكيد في الآية التي بعدها التي تطالب بتقوى الله أي العمل بالمأمورات واجتناب المنهيات.
وقد دلت هذه الآيات هنا على ما يلي:
١- تحريم الخيانة المتعمدة مطلقا، وإيجاب الأمانة: وهي أداء التكاليف الشرعية، والأعمال التي ائتمن الله عليها العباد، أي الفرائض والحدود. وأما الخيانة: فهي الإخلال بالواجبات، والتقصير في أداء الفرائض، وإفشاء الأسرار، وعدم ردّ الودائع والأمانات إلى أصحابها، وتضييع حقوق الآخرين.
٢- الأموال والأولاد فتنة واختبار يمتحن به المؤمن الصادق الإيمان، فإن كان كسب المال حلالا وإنفاقه في وجوه الخير، نجا صاحبه من إثمه وطغيانه، وإن ربي الوالد ولده تربية دينية خلقية، وأطعمه الحلال الطيب، خلص من الحساب يوم الآخرة. وإن كان العكس في كل ذلك عرّض نفسه للعقاب والإثم.
299
وقد عرف من سبب النزول أن وجود الأموال والأولاد لأبي لبابة في بني قريظة هو الذي حمله على ملاينتهم.
٣- قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
تنبيه على أن سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا لأنها أعظم شرفا، وأتم فوزا، وأخلد مدة وأثرا لأنها تبقى بقاء لا نهاية له، لذا وصف الله تعالى الأجر بالعظم.
٤- قال الرازي: يمكن الاستدلال بهذه الآية على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالزواج (النكاح) لأن الاشتغال بالنوافل يفيد الأجر العظيم عند الله، والاشتغال بالنكاح يفيد الولد، ويوجب الحاجة إلى المال، وذلك فتنة.
ولكن ذلك في تقديري حيث كان الإنسان في حال اعتدال، ثم لا شك بأن الزواج يساعد على التقوى والعفة.
تقوى الله وفضلها
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
المفردات اللغوية:
إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ التقوى: هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات وسميت بذلك لأنها تقي العبد من النار. فُرْقاناً نصرا ونجاة، تنجون مما تخافون، وسمي بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله، ومنه سمي يوم بدر في قوله تعالى:
يَوْمَ الْفُرْقانِ [الأنفال ٨/ ٤١] لأنه فصل بين الحق والباطل أو يجعل لكم بيانا وظهورا يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض. ورأى بعض العلماء الجدد: أنه العلم الصحيح والحكم
300
الراجح أو نور البصيرة والهداية الذي يفرق به بين الحق والباطل، وقد أطلق هذا اللفظ على التوراة والإنجيل والقرآن، وغلب على الكتاب الأخير، قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ، لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان ٢٥/ ١].
والخلاصة: إن الفرقان: هو الفارق الفاصل بين الحق والباطل، وهذا تفسير أعم مما ذكر، ويستلزم ما ذكر، فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره، وفّق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سبب نصره ونجاته في الدنيا وسعادته في الآخرة، وإثابته الثواب الجزيل.
وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ تكفير الذنوب: محوها. وَيَغْفِرْ لَكُمْ غفرها: سترها عن الناس.
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ واسع الفضل عظيم العطاء، يعطي الثواب الجزيل.
المناسبة:
لما حذر الله تعالى من الفتنة بالأموال والأولاد، رغب في التقوى التي توجب ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد.
التفسير والبيان:
يا أيها المؤمنون المصدقون إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ باتباع أوامره واجتناب نواهيه، يجعل لكم فارقا بين الحق والباطل وهداية ونورا ينور قلوبكم، وهذا النور في العلم القائم على التقوى هو الحكمة في قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة ٢/ ٢٦٩] وهو المشار إليه أيضا في قوله عز وجل: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ [الحديد ٥٧/ ٢٨].
فالمتقي الله يؤتيه فرقانا يميز به بين الرشد والغي وبين الحق والباطل وبين الإسلام الحق والكفر والضلال، ويكون بذلك ربانيا كما أمر الله بقوله:
وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ، وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران ٣/ ٧٩].
إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ أيضا يمح عنكم ذنوبكم وسيئاتكم السابقة، ويسترها عن الناس، ويؤتكم الثواب الجزيل، والله صاحب الفضل الواسع والعطاء العظيم،
301
ونظير الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد ٥٧/ ٢٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
تعددت الأوامر بالتقوى في القرآن الكريم، ولكن جاء الأمر هنا بلفظ الشرط لأنه تعالى خاطب العباد بما يخاطب بعضهم بعضا، فإذا اتقى العبد ربه- وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه- وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرّمات، وشحن قلبه بالنية الخالصة، وجوارحه بالأعمال الصالحة، وتحفّظ من شوائب الشرك الخفي والظاهر، بمراعاة غير الله في الأعمال، والركون إلى الدنيا بالعفة عن المال، جعل له بين الحق والباطل فرقانا، قال ابن إسحاق:
فُرْقاناً: فضلا بين الحق والباطل، وقال السدي: نجاة، وقال الفرّاء:
فتحا ونصرا، وقيل: في الآخرة فيدخلكم الجنة، ويدخل الكفار النار.
والآية ذكرت ثلاثة أنواع من الجزاء على التقوى:
النوع الأول:
يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً: وهو يشمل جميع الفروق الحاصلة بين المؤمنين وبين الكفار، ففي الدنيا: يخص تعالى المؤمنين بالهداية والمعرفة، ويخص صدورهم بالانشراح كما قال: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر ٣٩/ ٢٢]، ويزيل الغل والحقد والحسد عن قلوبهم، والمكر والخداع عن صدورهم، ويخصهم بالعلو والفتح والنصر والظفر، كما قال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون ٦٣/ ٨] وقال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الصف ٦١/ ٩]. وأمر الفاسق والكافر بالعكس من ذلك.
وفي الآخرة: يكون الثواب والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة.
302
النوع الثاني:
وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي أنه تعالى يزيل آثار جميع الذنوب والآثام الكبائر والصغائر ويمحوها ويسترها في الدنيا. ولا شك بأن التوبة أحد مظاهر التقوى.
النوع الثالث:
وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي ويزيلها يوم القيامة لأنه صاحب الفضل العظيم، ومن كان كذلك، فإنه إذا وعد بشيء وفّى به.
وفي الجملة: تكون التقوى نورا في الدنيا والآخرة، وسببا للسعادة فيهما، وتحقيق الآمال جميعها، والنجاة من كل سوء وشر، لذا قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى، وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ [البقرة ٢/ ١٩٧].
ألوان الكيد والمؤامرة من المشركين على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)
البلاغة:
وَيَمْكُرُ اللَّهُ برد مكرهم أو بمجازاتهم عليه، وإسناد أمثال هذا إلى الله إنما يحسن للمزاوجة، ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم. فإضافة المكر إليه تعالى على طريق (المشاكلة) بمعنى إحباط ما دبروا من كيد ومكر، والمشاكلة: أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ يَمْكُرُ أي واذكر يا محمد إذ اجتمع أهل مكة للمشاورة في شأنك بدار الندوة.
303
والتذكير بمكر قريش ليشكر نعمة الله عليه في خلاصه من مكرهم وتدبيرهم واستيلائه عليهم.
والمكر: التدبير الخفي لإيصال المكروه إلى آخر من حيث لا يشعر.
لِيُثْبِتُوكَ يوثقوك بالوثاق، ويحبسوك بالقيد، حتى لا تقدر على الحركة. أَوْ يَقْتُلُوكَ كلهم قتلة رجل واحد. أَوْ يُخْرِجُوكَ يطردوك من مكة. وَيَمْكُرُونَ بك.
ويمكر الله بهم بتدبير أمرك بأن أوحى إليك ما دبروه وأمرك بالخروج. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أعلمهم به، وأفضل المدبرين.
آياتُنا القرآن. قالُوا: قَدْ سَمِعْنا، لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا قاله النضر بن الحارث لأنه كان يأتي الحيرة يتّجر، فيشتري كتب أخبار الأعاجم ويحدث بها أهل مكة. إِنْ ما. هذا القرآن. إِلَّا أَساطِيرُ أكاذيب، جمع أسطورة: وهي القصص والأحاديث التي سطرت في الكتب القديمة الأولى بدون تمحيص ولا نظام.
سبب النزول:
نزول الآية (٣٠) :
وَإِذْ يَمْكُرُ: أخرج ابن أبي حاتم وابن إسحاق عن ابن عباس: أن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمعت بما اجتمعتم له، فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم مني رأي أو نصح، قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم، فقال: انظروا في شأن هذا الرجل، فقال قائل: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء: زهير ونابغة، فإنما هو كأحدهم.
فقال عدو الله الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، والله ليخرجن رائد من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم، ثم يمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، فانظروا في غير هذا الرأي.
304
فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم، واستريحوا منه، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع.
فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذه للقلوب بما تسمع من حديثه، والله لئن فعلتم، ثم استعرض العرب، ليجتمعنّ عليه، ثم ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، ويقتل أشرافكم.
قالوا: صدق والله، فانظروا غير هذا، فقال أبو جهل: والله لأشيرنّ عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، ما أرى غيره، قالوا: وما هذا؟ قال:
تأخذون من كل قبيلة وسيطا شابا جلدا- قويا- ثم نعطي كل غلام منهم سيفا صارما يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلتموه تفرّق دمه في القبائل كلها، فلا أظن أن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلهم، وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل- الدية- واسترحنا وقطعنا أذاه عنا.
فقال الشيخ النجدي: هذا والله، هو الرأي، القول ما قال الفتى، لا أرى غيره.
فتفرقوا على ذلك، وهم مجمعون له فأتى جبريل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في بيته تلك الليلة، وأذن الله له عند ذلك في الخروج، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة، يذكّره نعمته عليه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية. هذه أسباب الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.
نزول الآية (٣١) :
وَإِذا تُتْلى: أخرج ابن جرير الطبري عن سعيد بن جبير قال: قتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم بدر صبرا «١» عقبة بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنّضر بن
(١) القتل صبرا: أن يحبس ويرمى حتى يموت.
305
الحارث، وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله، أسيري؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول».
قال:
وفيه نزلت هذه الآية: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا: قَدْ سَمِعْنا الآية.
المناسبة:
لما ذكّر الله تعالى المؤمنين نعمه عليهم بقوله: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ كذلك ذكّر رسوله نعمه عليه، وهو دفع كيد المشركين، ومكر الماكرين عنه.
التفسير والبيان:
واذكر أيها النبي حينما اجتمع المشركون لتدبير مؤامرة خطيرة عليك وعلى دعوتك، فذلك أمر يستحق الشكر على النعمة، ويدعو للعبرة والعظة، ويدل على صدق دعوتك وتأييد ربك لك في وقت المحنة العصيبة.
لقد دبروا لك إحدى مكائد ثلاث: إما الحبس الذي يحول بينك وبين دعوة الناس، وإما القتل بطريق جميع القبائل، وإما الطرد والإخراج من البلاد.
إنهم يمكرون ويدبرون في السرّ أمرا مكروها لإيقاعه بك من حيث لا تحتسب، ولكن الله عزت قدرته يحبط مكرهم ويبطل تآمرهم ويذهب كيدهم هباء، فقد أخرجك مهاجرا سليما من بينهم دون أي أذى، من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، والله خير المدبرين وأعلمهم ولا خير في مكرهم. فمعنى قوله:
وَيَمْكُرُونَ: يخفون المكايد له، ومعنى: وَيَمْكُرُ اللَّهُ: ويخفي الله ما أعدّ لهم حتى يأتيهم بغتة، ومكر الله: هو جزاؤهم بالعذاب على مكرهم وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي مكره أنفذ من مكر غيره، وأبلغ تأثيرا، وأحق بالفعل المدبّر لأن تدبيره نصر للحق وعدل، ولا يفعل إلا ما هو مستوجب.
306
وفي هذا دلالة على أن موقف الكفار من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ودعوته موقف متميز دائما بالإساءة والأذى.
وبعد أن حكى الله مكرهم لذات محمد، حكى مكرهم لدينه وكتابه، فقال:
وَإِذا تُتْلى... أي إذا تليت آيات القرآن الواضحة، قالوا جهلا وعنادا وسفها واستكبارا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، وهو اعتراف ضمني بعجزهم عن الإتيان بمثل القرآن، وقد تحداهم للإتيان بأقصر سورة منه، ولكنه التمويه والخداع والإيهام، كما يفعل الضعيف الجبان أمام البطل الشجاع المغوار، يدعي أنه قادر على قتله، وهو مجرد كلام هراء.
وكان قائل هذا القول: هو النضر بن الحارث، روي أن النضر بن الحارث خرج إلى الحيرة تاجرا، واشترى أحاديث كليلة ودمنة، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم، فيقرأ عليهم أساطير الأولين، وكان يزعم أنها مثل ما يذكره محمد من قصص الأولين.
إنه كان يذهب إلى أرض فارس، فيسمع أخبارهم عن رستم وإسفنديار وكبار العجم، ويمرّ باليهود والنصارى، فيسمع منهم التوراة والإنجيل، ثم يأتي ليحدث أهل مكة بما سمع.
ثم عللوا قولهم الكاذب بما هو أكذب، فقال: ما هذا القرآن إلا أخبار وأكاذيب وأحاديث الأولين، مثل قصص الأمم السابقين. ونظير الآية قوله تعالى: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان ٢٥/ ٥] ومعنى أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي كتب المتقدمين اقتبسها، فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس. وهذا هو الكذب البحت، كما أخبر الله عنهم في الآية التالية: قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان ٢٥/ ٦].
307
والقائل: هو النضر بن الحارث الذي أنزل فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً [لقمان ٣١/ ٦] فقد اشترى قينة جميلة تغني الناس بأخبار الأمم، لصرفهم عن سماع القرآن.
ويلاحظ أنهم نسبوا آيات القرآن إلى قصص السابقين، ولكنهم لم يقولوا:
إن محمدا افتراها أو اختلقها إذ كانوا يعتقدون صدقه وأنه ليس كذابا، كما قال تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام ٦/ ٣٣].
وقد كان زعماء قريش كالنضر بن الحارث وأبي جهل والوليد بن المغيرة يصدون الناس عن سماع القرآن، ثم يحاولون التنصت على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ليلا، حتى إن الوليد بن المغيرة أعلن كلمته بعد تأثره بآيات القرآن: «إنه يعلو ولا يعلى عليه، وإنه يحطم ما تحته» ثم حاول إبطال هذه الكلمة كيلا تسمعها العرب بتأثير زعماء الشرك فقال: «إن هذا إلا سحر يؤثر».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى على أن حادث الهجرة كان معجزة ربانية لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فقد اجتمع المشركون في دار الندوة، واتفقوا على قتله، وانتدبوا من كل قبيلة شابا وسيطا جلدا قويا ليقتلوه بضربة رجل واحد، ليتفرق دمه على القبائل، فلا يستطيع قومه بنو هاشم محاربة القبائل كلها.
فأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله عز وجل أن يعمي عليهم أثره
، فطمس الله على أبصارهم، فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض.
فلما أصبحوا خرج عليهم علي، فأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فد فات ونجا. والقصة معروفة في السيرة.
308
والحاصل أنهم احتالوا على إبطال أمر محمد، والله تعالى نصره وقواه، فتبدد فعلهم، وظهر صنع الله تعالى.
والمراد من قوله: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ مع أنه لا خير في مكرهم أنه أقوى وأشد وأعلم، لينبه بذلك على أن كل مكر، فهو يبطل في مقابلة فعل الله تعالى. وفي الآية إيماء إلى أن شأن الكفار إيذاء دائم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومن تبعه.
وكما بدد الله مكرهم لشخص محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، بدد مكرهم لدينه وشرعه، فزعموا أنه أساطير الأولين، فردّ الله عليهم: أن الله الذي يعلم السر في السموات والأرض هو منزّل القرآن.
ودلّ قولهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا على أن معارضتهم للقرآن مجرد قول وادعاء، ولم يتمكنوا بالفعل من معارضته، ومجرد القول لا فائدة فيه.
وكان هذا وقاحة وكذبا، وقيل: إنهم توهموا أنهم يأتون بمثل القرآن، كما توهّمت سحرة موسى، ثم راموا ذلك فعجزوا عنه، وقالوا عنادا: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام ٦/ ٢٥ ومواضع أخرى]. وإلقاء مثل هذا الكلام والاتهام الباطل ينم عن الضعف والعجز، وسطحية الجاهل العامي، كما أنه موقف يدعو للسخرية والهزء من القائلين إذ لو كان لديهم دليل عقلي مقبول مفنّد لأعلنوه.
309
طلب المشركين الإتيان بالعذاب ومنع تعذيبهم إكراما للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأوضاع صلاتهم عند البيت الحرام
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)
الإعراب:
هُوَ الْحَقَّ خبر كانَ، وهو: ضمير فصل بين الوصف والخبر عند البصريين، وعماد عند الكوفيين. وعلى قراءة الرّفع يكون هُوَ مبتدأ، والْحَقَّ خبره، والجملة فيهما خبر كانَ.
وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ في موضع الحال.
أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ أن في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجرّ، وتقديره: من ألا يعذبهم الله. وقيل: تكون زائدة. والأول أوجه. وَهُمْ يَصُدُّونَ في موضع نصب على الحال من ضمير يُعَذِّبَهُمُ.
مُكاءً خبر كانَ وهو الصّفير، وأصله (مكاو) فلما وقعت الواو طرفا وقبلها ألف زائدة قلبت همزة.
وَتَصْدِيَةً معناها التّصفيق، وأصله (تصدده) من صدّى: إذا امتنع، فأبدلوا الدّال الثّانية ياء. وقد تكون من الصّدى: وهو الصّوت الذي يعارض الصّوت، فتكون الياء أصليّة.
310
البلاغة:
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً أي تصفيرا وتصفيقا، جعلوا صلاتهم عند البيت على هذا النحو، مما يدلّ على جهلهم بمعنى العبادة وعدم معرفة حرمة بيت الله، وكانوا أيضا يطوفون بالبيت عراة رجالا ونساء، وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في صلاته يخلطون عليه.
المفردات اللغوية:
ان كان هذا الذي يقرؤه محمد. هو الحق المنزل. أليم مؤلم على إنكاره. قاله النّضر بن الحارث وغيره استهزاء وإيهاما أنه على بصيرة وجزم ببطلانه. لِيُعَذِّبَهُمْ بما سألوه.
وَأَنْتَ فِيهِمْ لأنّ العذاب إذا نزل عمّ، ولم تعذّب أمّة إلا بعد خروج نبيّها والمؤمنين منها.
وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ حيث يقولون في طوافهم: غفرانك.
وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ بالسّيف بعد خروجك والمستضعفين، وقد عذّبهم الله ببدر وغيره.
وَهُمْ يَصُدُّونَ يمنعون النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمسلمين. عن المسجد الحرام أن يطوفوا به.
لا يَعْلَمُونَ ألا ولاية لهم عليه.
مُكاءً صفيرا. وَتَصْدِيَةً تصفيقا، أي جعلوا ذلك موضع صلاتهم التي أمروا بها.
سبب النّزول:
نزول الآية (٣٢) :
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ:
أخرج ابن جرير الطّبري عن سعيد بن جبير في قوله: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ قال: نزلت في النّضر بن الحارث، لما قال: إن هذا إلا أساطير الأولين، قال له النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «ويلك إنه كلام ربّ العالمين، فقال: اللهم إن كان هذا هو الحق».
نزول الآية (٣٣) :
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ: روى البخاري ومسلم عن أنس، قال: قال أبو جهل بن هشام: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا
311
حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ
فنزلت: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون: غفرانك غفرانك، فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ الآية.
والاستغفار وإن وقع من الفجّار يدفع به ضرب من الشّرور والإضرار.
والخلاصة: اختلف فيمن القائل: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ فقال مجاهد وسعيد بن جبير: قائل هذا هو النّضر بن الحارث. وقال أنس بن مالك فيما رواه البخاري ومسلم: قائله أبو جهل.
وروي أن معاوية قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة! فقال: بل أجهل من قومي قومك حين قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ الآية.
نزول الآية (٣٥) :
وَما كانَ صَلاتُهُمْ: أخرج الواحدي عن ابن عمر قال: كانوا يطوفون بالبيت ويصفّرون ويصفّقون، فنزلت هذه الآية «١».
وأخرج ابن جرير الطّبري عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش يعارضون النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الطّواف يستهزئون به، ويصفّرون ويصفّقون، فنزلت.
المناسبة:
الآيات متّصلة بما قبلها وهي قوله: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا فلما حكى تعالى مكر المشركين بمحمد ذاته، حتى اضطرّ إلى الهجرة، حكى مكرهم في دين
(١) أسباب النّزول: ص ١٣٥.
312
محمد، سواء بادّعاء القدرة على الإتيان بمثل القرآن، أو بوصفه بأنه أساطير الأولين أي قصص السابقين المسطورة في الكتب دون تمحيص ولا تثبّت من صحّتها.
التفسير والبيان:
واذكر يا محمد حين قالت قريش: اللهم إن كان هذا القرآن هو الحقّ المنزّل من عندك، فعاقبنا بإنزال حجارة ترجمنا بها من السّماء، كما عاقبت أصحاب الفيل، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ مؤلم سوى ذلك.
وهذا إخبار من الله تعالى عن كفر قريش وعتوّهم وتمرّدهم وعنادهم وادّعائهم الباطل حين سماع آيات الله تتلى عليهم أنهم قالوا كما بيّنا سابقا: لو شئنا لقلنا مثل قولهم: إن القرآن أساطير الأولين، وإن هذا مقطوع بكذبه واختلاقه، فلو كان حقّا لأنزل علينا الحجارة أو العذاب الأليم.
ومرادهم إنكار كونه حقّا منزلا من عند الله، وأنهم لا يتبعونه، وإن كان هو الحقّ المنزل من عند الله، بل يفضلون الهلاك، وأنهم يتهكّمون بقول من يقول:
القرآن حقّ، وهو غاية الجحود والإنكار، وهو من كثرة جهلهم وشدّة تكذيبهم وعنادهم وعتوّهم، ومثل من أمثال حماقتهم حين طلبوا تعجيل العذاب، وتقديم العقوبة، كقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٥٣]، وقوله:
وَقالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص ٣٨/ ١٦].
ثم ذكر الله تعالى سبب إمهالهم بالعذاب، فقال: وَما كانَ اللَّهُ... أي وما كان من مقتضى سنّة الله ورحمته وحكمته أن يعذّبهم، والرّسول موجود بينهم لأنه إنما أرسله رحمة للعالمين لا عذابا ونقمة، وما عذّب الله أمّة ونبيّها فيها، قال ابن عباس: لم يعذّب أهل قرية، حتى يخرج النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم منها والمؤمنون، ويلحقوا بحيث أمروا.
313
وما كان الله ليعذبهم عذاب الاستئصال في الدّنيا الذي عذّب بمثله بعض الأمم السّالفة، وهم يستغفرون. ومن هم المستغفرون؟ قال ابن عباس: هم الكفار، كانوا يقولون في الطّواف: غفرانك. والاستغفار، وإن وقع من الفجّار يدفع به ضروب من الشّرور والإضرار. وقيل: إن الاستغفار راجع إلى المسلمين المستضعفين الذين هم بين أظهرهم، أي وما كان الله معذبهم، وفيهم من يستغفر من المسلمين، فلما خرجوا عذّبهم الله يوم بدر وغيره.
وقيل: إن الاستغفار هنا يزاد به الإسلام، أي وهم يسلمون، أي يسلم بعضهم إثر بعض، أو يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه.
وبعد أن نفى الله عنهم عذاب الاستئصال في الدّنيا، أثبت احتمالا آخر، وهو إمكان تعذيبهم بعذاب دون عذاب الاستئصال عند وجود المقتضي وزوال المانع، فقال: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ... أي ولم لا يعذّبهم الله بعذاب آخر، وأي شيء يمنع من إنزال عذاب أخف من ذلك العذاب؟ بسبب أنهم يمنعون الناس عن المسجد الحرام ولو لأداء النّسك؟ فقد كانوا يمنعون المسلم من دخول المسجد الحرام، وأخرجوا النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم وصحبه من المسجد الحرام. فهم أهل لأن يعذّبهم الله، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم بين أظهرهم.
فمن كانت هذه حالته لم يكن وليّا للمسجد الحرام، فهم أهل للقتل بالسّيف والمحاربة، فقتلهم الله وعذّبهم يوم بدر، حيث قتل رؤوس الكفر كأبي جهل وأسر سراتهم، وأعزّ الإسلام بذلك.
وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ أي ولاة أمره وأربابه، فإنهم كانوا يقولون: نحن أولياء البيت الحرام، نصدّ من نشاء، وندخل من نشاء، فردّ الله عليهم بقوله:
وما كانوا مستحقّين للولاية والإشراف عليه، مع شركهم وعداوتهم للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
وما أولياؤه وحماته إلا المتّقون من المسلمين، فليس كلّ مسلم أيضا ممن يصلح
314
لأن يلي أمره، إنما يستأهل ولايته من كان برّا تقيّا، فكيف بالكفرة عبدة الأصنام؟! وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ بأن المتّقين أولياؤه، فهم الآمنون من عذابه.
ثم بيّن الله تعالى سبب عدم أهليتهم لأن يكونوا أولياء البيت، وهو أن صلاتهم عند البيت وتقرّبهم وعبادتهم إنما كان تصفيرا وتصفيقا، لا يحترمون حرمة البيت ولا يعظّمونه حقّ التّعظيم. قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفّر وتصفّق. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: كانوا يعارضون النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الطّواف، ويستهزئون به، ويصفّرون، ويخلطون عليه طوافه وصلاته.
وروي مثل ذلك عن مقاتل.
فعلى قول ابن عباس: كان المكاء والتّصدية نوع عبادة لهم، وعلى قول مجاهد ومقاتل وابن جبير: كان إيذاء للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم. قال الرّازي: والأوّل أقرب لقوله تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً.
فذوقوا القتل والأسر يوم بدر، بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة. وهذا هو العذاب الذي طلبتموه.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمّنت الآية بيان مدى الحماقة من المشركين، حين استعجلوا إنزال العذاب، وبيان كرامة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه حيث رفع عن الأمّة عذاب الاستئصال بسبب وجوده بينهم، أو بسبب الاستغفار الحاصل من بعض الناس، الكفار أو المؤمنين، قال المدائني عن بعض العلماء: كان رجل من العرب في زمن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم مسرفا على نفسه، لم يكن يتحرّج فلما أن توفّي النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم لبس الصّوف، ورجع عمّا كان عليه، وأظهر الدّين والنّسك. فقيل له: لو فعلت هذا والنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم حيّ لفرح بك. قال: كان لي أمانان، فمضى واحد وبقي الآخر
315
قال الله تبارك وتعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ فهذا أمان، والثاني: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
وقال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبيّ الله والاستغفار، أما النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقد مضى، وأمّا الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة.
ودلّت الآية على أنّ الاستغفار أمان وسلامة من العذاب. وأمّا وجود النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم بين القوم فهو حائل من العذاب، لا يختص ذلك بنبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلم، إلا بعد أن يخرج رسولهم منهم، كما كان في حقّ هود وصالح ولوط.
وتضمّنت الآية أيضا استحقاق كفار قريش عذابا دون عذاب الاستئصال لما ارتكبوا من القبائح والأسباب، ولكن لكل أجل كتاب، فعذّبهم الله بالقتل والأسر يوم بدر وغيره.
ثم أبان الله تعالى سلب الولاية والأهلية عن الكفار على المسجد الحرام، لكفرهم وعداوتهم للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وانتهاكهم حرمة البيت بالتّصفير والتّصفيق، والطّواف به عراة، رجالا ونساء.
إهدار ثواب الإنفاق للصّدّ عن سبيل الله
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)
316
البلاغة:
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ كناية عن المؤمن والكافر، وبين اللفظين طباق.
أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ إشارة بالبعيد إلى الفريق الخبيث، لبيان مدى خسارتهم الفادحة، وبعدهم عن الرّحمة الإلهيّة.
المفردات اللغوية:
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في حرب النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم. ثُمَّ تَكُونُ في عاقبة الأمر. عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ندامة وألما، لفواتها وتضييعها، وفوات ما قصدوه. ثُمَّ يُغْلَبُونَ في الدّنيا.
يُحْشَرُونَ يساقون. لِيَمِيزَ متعلّق ب تَكُونُ، ومعناه يفصل الْخَبِيثَ الكافر.
مِنَ الطَّيِّبِ المؤمن. فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً يجمعه متراكبا بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ.
سبب النّزول:
قال محمد بن إسحاق- فيما يرويه عن الزّهري وجماعة-: لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجعوا إلى مكّة، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أميّة، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم، فكلّموا أبا سفيان، ومن كان له في ذلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إنّ محمدا قد وتركم- نقصكم- وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال- أي مال العير الذي نجا- على حربه، فلعلنا أن ندرك منه ثأرا، ففعلوا. ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ إلى قوله يُحْشَرُونَ أي أنها نزلت في نفقاتهم لمعركة أحد.
روى عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن الآية نزلت في أبي سفيان، وما كان من إنفاقه على المشركين في بدر، ومن إعانته على ذلك في أحد، لقتال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن عتيبة قال: نزلت في أبي سفيان، أنفق
317
على المشركين أربعين أوقية من ذهب. والأوقية: أربعون مثقالا من الذّهب، والمثقال (٢٥، ٤ غم).
وأخرج ابن جرير عن ابن أبزى وسعيد بن جبير قالا: نزلت في أبي سفيان، استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش، ليقاتل بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، سوى من استجاب له من العرب.
وقال مقاتل والكلبي: نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا من كبار قريش «١».
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى حالة المشركين في الطاعات البدنية وهي الصّلاة بقوله:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ بيّن حالهم في الطاعات المالية، سواء في الإنفاق يوم بدر أو أحد.
التّفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسوله يقصدون من الإنفاق صدّ الناس عن اتّباع محمد، وهو سبيل الله تعالى.
وحين ينفقون تكون عاقبة هذا الإنفاق لحرب النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم والصّدّ عنه في النهاية ندما وحسرة، فكأن ذاتها تصير ندما، وتنقلب حسرة، أي أنها لا تحقّق المقصود، وإنما تؤدي إلى عكسه وهو الوقوع في الحسرة والنّدامة: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها [الكهف ١٨/ ٤٢]، لأنها مال ضائع في سبيل
(١) وهم أبو جهل بن هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، ونبيه ومنبه ابنا حجاج، وأبو البحتري بن هشام، والنضر بن الحارث، وحكيم بن حزام، وأبيّ بن خلف، وزمعة بن الأسود، والحارث بن عامر بن نوفل، والعباس بن عبد المطلب، وكلهم من قريش، وكان يطعم كلّ واحد منهم كل يوم عشرة من الجزور. [.....]
318
الشّيطان، ولا تؤدّي إلى النّصر، وإنما على العكس مصيرها إلى الهزيمة. فهم يغلبون وينكسرون، كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة ٥٨/ ٢١].
هذا عذابهم في الدّنيا: ضياع المال والهزيمة، وعذابهم في الآخرة أنهم يساقون إلى جهنّم، إذا أصرّوا على كفرهم وماتوا وهم كفار لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه.
أما المسلمون إذا أنفقوا أموالهم في سبيل الله، فتحقّق إما النّصر في الدّنيا، وإمّا الثّواب في الآخرة، أو الأمران معا وسعادة الدّارين.
وقد كتب الله النّصر للمؤمنين، والهزيمة للكافرين وضياع أموالهم، وإيقاع الحسرة والألم في قلوبهم، ليميز الفريق الخبيث من الفريق الطّيب، أي الكافر من المؤمن، فيميز أهل السعادة عن أهل الشّقاء، ويجعل الخبيث بعضه متراكما فوق بعض في جهنم، أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- لا يستفيد الكفار من بذلهم أموالهم في الإنفاق الذي يقصد به الصّدّ عن سبيل الله، أي منع الناس من دعوة الإسلام، إلا الحسرة والخيبة في الدّنيا، والعذاب الشّديد في الآخرة، وهو يوجب الزّجر العظيم عن ذلك الإنفاق.
٢- إن الغلبة والنّصر يكونان للمؤمنين، والهزيمة والخذلان للكافرين، وسيكون هؤلاء يوم القيامة مسوقين في حال من الذّل والصّغار إلى جهنم، وبئس المصير.
٣- إن تحقيق الغلبة للمؤمنين، وإيقاع الهزيمة بالكافرين إنما بقصد تمييز
319
الفريق الخبيث من الكفّار، عن الفريق الطّيّب من المؤمنين، فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض في جهنّم، فيركمه جميعا. ويكون قوله: لِيَمِيزَ متعلّقا بقوله يُحْشَرُونَ والمعنى: أنهم يحشرون ليميز الله الفريق الخبيث من الفريق الطّيّب.
وقيل: المراد تمييز نفقة الكافر على عداوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، عن نفقة المؤمن في جهاد الكفار، كإنفاق أبي بكر وعثمان في نصرة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، فيضمّ تعالى تلك الأمور الخبيثة بعضها إلى بعض، فيلقيها في جهنّم ويعذّبهم بها، ويكون قوله لِيَمِيزَ متعلّقا بقوله: ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً. ثم قال:
أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وهو إشارة إلى الذين كفروا.
المغفرة للكفّار إذا أسلموا وقتالهم إذا لم يسلموا لمنع الفتنة في الدّين
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
المفردات اللغوية:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني أبا سفيان وأصحابه، أي قل لأجلهم هذا القول وهو: إِنْ يَنْتَهُوا عن الكفر وقتال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومعاداته بالدّخول في الإسلام، وليس المراد أنك تخاطبهم به، وإلا لقيل: إن تنتهوا يغفر لكم. يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من أعمالهم، ويُغْفَرْ: فعل
320
مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل هو الله تعالى. وَإِنْ يَعُودُوا إلى قتاله. فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أي تقررت سنّتنا في الذين تحزّبوا على الأنبياء بالتّدمير والهلاك، فكذا نفعل بهم.
حَتَّى لا تَكُونَ توجد. فِتْنَةٌ لا يوجد فيهم شرك. وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وحده ولا يعبد غيره وتضمحلّ عنهم الأديان.
فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيهم به على انتهائهم عن الكفر وإسلامهم.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى صلاة المشركين وعباداتهم البدنيّة، ثم عباداتهم المالية، وصدّهم عن سبيل الله وقتال رسوله والمؤمنين، أرشدهم إلى طريق الصّواب، ورغّبهم في دخول الإسلام وفتح لهم باب الرّحمة الواسعة والفضل الكبير، فقال:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا الآية.
التفسير والبيان:
قل أيّها الرّسول لأجل الذين كفروا كأبي سفيان وأصحابه: إن ينتهوا عما هم فيه من الكفر والعناد ومعاداة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ويدخلوا في الإسلام والطّاعة والإنابة، يغفر لهم ما قد سلف، أي من كفرهم وذنوبهم وخطاياهم، كما
جاء في الصّحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «من أحسن في الإسلام، لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأوّل والآخر».
وفي الصحيح أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «الإسلام يجبّ ما قبله، والتوبة ما كان قبلها».
وروى مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: فلما جعل الله الإيمان في قلبي أتيت النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقلت: ابسط يدك أبايعك، فبسط يده فقبضت
321
يدي، قال: مالك؟ قلت: أردت أن أشترط. قال: ماذا تشترط؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحجّ يهدم ما كان قبله؟».
وإن يعودوا إلى حظيرة الكفار والصّدّ والعناد والقتال، أي يستمروا على ما هم عليه، أجريت عليهم سنّتي المطردة في تدمير وإهلاك المكذّبين السّابقين الذين كذّبوا أنبيائي وتحزّبوا ضدّهم، كما حدث لقريش يوم بدر وغيره، وظهر وعد الله القائل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر ٤٠/ ٥١].
وهذا وعيد شديد لهم بالدّمار إن لم يتركوا الكفر والعناد.
ثم بيّن الله تعالى حكم هؤلاء الكفار إن عادوا للكفر واستمروا عليه، فهم متوعّدون بسنّة الأولين، وحكمهم: أن الله أمر بقتالهم إذا أصرّوا فقال:
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي وقاتلوا أيها المسلمون قتالا عنيفا أعداءكم المشركين، حتى لا يبقى شرك أبدا، ولا يبعد إلا الله وحده، ولا يفتن مؤمن عن دينه، ويخلص التّوحيد لله، فيقال: لا إله إلا الله، وتضمحل الأديان الباطلة، ولا يبقى إلّا دين الإسلام، وذلك في أرض مكّة وما حواليها من جزيرة العرب،
لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه البيهقي من حديث مالك عن الزهري: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب»
، قال الرّازي: ولا يمكن حمله على جميع البلاد إذ لو كان ذلك مرادا لما بقي الكفر فيها، مع حصول القتال الذي أمر الله به «١».
فيكون الغرض من القتال هو التّمكين من حرية التّدين، فلا يكره أحد على ترك عقيدته، كما قال تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة ٢/ ٢٥٦].
(١) تفسير الرّازي: ١٥/ ١٦٤
322
فإن انتهوا عن الكفر وعن قتالكم، فكفّوا عنهم وإن لم تعلموا بواطنهم، فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، أي فإن الله عليم بأعمالهم، يجازيهم عليها بحسب علمه.
وإن تولوا وأعرضوا عن سماع دعوتكم، ولم ينتهوا عن كفرهم، فلا تهتموا بأمرهم، واعلموا أن الله متولّي أموركم وناصركم، فلا تبالوا بهم، ومن كان الله مولاه وناصره، فلا يخشى شيئا، إنه نعم المولى، ونعم النصير، فلا يضيع من تولاه، ولا يغلب من نصره الله.
ولكن نصر الله مرهون بأمرين: الإعداد المادي والمعنوي للجهاد كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال ٨/ ٦٠] ونصرة دين الله وتطبيق شرعه وتنفيذ أحكامه، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد ٤٧/ ٧].
أما الاتّكال على مجرد الاتّصاف بالإسلام قولا لا عملا، وطلب النّصر بخوارق العادات، والأدعية فقط، دون إعداد ولا تحقيق الصفة الإسلامية الحقّة التي اتّصف بها السّلف الصالح، فلا يحقق شيئا من النّصر المرتجى على العدو في فلسطين وغيرها من بلاد الإسلام المعتدى عليها، أو المحتلّة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآية الأولى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا على مزيد فضل الله وفتح باب رحمته أمام الكفار، فإنهم إن يسلموا يغفر الله لهم ما سلف من كفر، وما ارتكبوا من ذنوب، وما قصروا من أداء واجبات نحو ربّهم، فلا يطالبون بقضاء العبادات البدنيّة والماليّة، ويبدءون صفحة جديدة مشرقة بالإسلام النّقي الطّاهر،
لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه ابن سعد عن الزبير وعن جبير بن مطعم: «الإسلام يجبّ ما قبله».
323
قال مالك: من طلّق في الشّرك ثم أسلم، فلا طلاق له، ومن حلف فأسلم، فلا حنث عليه، فهو مغفور له. ولو زنى وأسلم، أو اغتصب مسلمة، ثم أسلم، سقط عنه الحدّ. ولا خلاف في إسقاط ما فعله الكافر الحربي في حال كفره في دار الحرب. أما لو دخل إلينا بأمان فقذف مسلما، فإنه يحدّ، وإن سرق قطع، وكذلك الذّمي إذا قذف، حدّ ثمانين جلدة، وإذا سرق قطع، وإن قتل قتل، ولا يسقط الإسلام ذلك عنه لنقضه العهد حال كفره.
أمّا المرتد إذا أسلم، وقد فاتته صلوات، وأصاب جنايات، وأتلف أموالا، فقال أبو حنيفة ومالك: ما كان لله يسقط، وما كان للآدمي لا يسقط لأن الله تعالى مستغن عن حقّه، والآدمي مفتقر إليه، ولأن إيجاب قضاء العبادات ينافي ظاهر هذه الآية. وفي قول الشافعي: يلزمه كلّ حقّ لله عزّ وجلّ وللآدمي بدليل أن حقوق الآدميين تلزمه، فوجب أن تلزمه حقوق الله تعالى.
فإن عاد الكفار إلى قتال المسلمين، قوتلوا.
والصّحيح- كما ذكر الرّازي- أن توبة الزّنديق مقبولة، لأن هذه الآية:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا.. تتناول جميع أنواع الكفر، ولقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [الشورى ٤٢/ ٢٥]. ولأن أحكام الشّرع مبنيّة على الظواهر لأن القاعدة تقول: «نحن نحكم بالظاهر، والله يتولّى السّرائر».
واحتجّ الحنفيّة بهذه الآية على أنّ الكفار حال كفرهم ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع، بدليل أنهم لا يؤاخذون بشيء مما ارتكبوه في زمان الكفر.
ودلّت آية: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ على وجوب القتال، حتى تزول فتنة المسلم عن دينه، وتتأكد حرية الاعتقاد والتّديّن. وأما قوله تعالى:
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فهو إما أن يقيّد في جزيرة العرب، فلا يجتمع فيها
324
دينان كما بيّنا، وإما أن يكون الغرض النّظري لا الفعلي هو إنهاء الكفر من جميع العالم، وهذا كما ذكر الرّازي مجرّد أمل وغرض أو هدف لأنه ليس كلّ ما كان غرضا للإنسان، فإنه يحصل، فسواء حصل أو لم يحصل، يكون الأمر بالقتال لتحصيل هذا الغرض، وإن لم يتحقق في الأمر نفسه.
نهاية الجزء التاسع ولله الحمد
325

[الجزء العاشر]

[تتمة سورة الأنفال]
التّفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج في آخر الكتاب فهرسة الفبائية شاملة الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلى رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق الجزء العاشر
3
كيفية قسمة الغنائم
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤١]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)
الإعراب:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ما: اسم موصول بمعنى الذي، وغَنِمْتُمْ: صلته، والعائد إليه محذوف، تقديره: غنمتموه. فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ: خبر مبتدأ محذوف تقديره: فحكمه أن لله خمسه.
البلاغة:
مِنْ شَيْءٍ التنكير للتقليل.
عَلى عَبْدِنا هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ذكر بلفظ العبودية وأضيف إلى الله للتشريف والتكريم.
المفردات اللغوية:
غَنِمْتُمْ أخذتم من الكفار قهرا، والغنيمة: ما أخذ من الكفار في الحرب قهرا وفيه الخمس.
أما الفيء: فهو ما أخذ من الأعداء بلا حرب أو صلحا كالجزية وعشر التجارة، وليس فيه الخمس.
وهذه التفرقة مبنية على العرف. وقال بعضهم: الغنيمة: ما أخذ من مال منقول، والفيء:
الأرضون. والنفل: ما يحصل للإنسان من الغنيمة قبل قسمتها. وقال قتادة: الغنيمة والفيء بمعنى واحد، وزعموا أن هذه الآية ناسخة لآية الحشر التي جعلت الفيء كله لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وهذه الآية جعلت لهم الخمس فقط. والظاهر أن الغنيمة والفيء مختلفان ولا نسخ، إذ لا ضرورة له، والنسخ يلجأ إليه عند الضرورة.
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ يأمر فيه بما يشاء. وَلِذِي الْقُرْبى قرابة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من بني هاشم
5
وبني المطلب. وَالْيَتامى أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم، وهم فقراء. وَالْمَساكِينِ ذوي الحاجة من المسلمين. وَابْنِ السَّبِيلِ المنقطع في سفره عن بلده من المسلمين، أي أن الخمس يستحقه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والأصناف الأربعة المذكورة، على ما كان يقسمه من أن لكل خمس الخمس.
يَوْمَ الْفُرْقانِ يوم بدر، الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل. يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ المسلمون والكفار. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ صاحب القدرة المطلقة على كل الأشياء، ومنها نصركم مع قلتكم وكثرتهم.
المناسبة:
لما أمر الله بمقاتلة الكفار في قوله: وَقاتِلُوهُمْ وكان القتال عادة مستتبعا إحراز الغنائم منهم، ذكر تعالى حكم الغنيمة وقد نزلت هذه الآية في غزوة بدر، وكان ابتداء فرض قسمة الغنائم فيها.
التفسير والبيان:
هذه الآية تفصيل لما أجمل حكمه في بدء سورة الأنفال: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ فأبان تعالى أن حكمها لله، ويقسمها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم على ما أمره الله به، وفي هذه الآية تفصيل لحكم الغنائم التي اختص الله هذه الأمة بإحلالها، وأنها تقسم أخماسا، فيجعل الخمس لمن ذكرتهم الآية، والأربعة الأخماس الباقية للغانمين كما أوضحت السنة، وهي أنها تقسم للجيش المقاتل: للراجل سهم، وللفارس سهمان أو ثلاثة أسهم، بدليل بيان هذا الخمس والسكوت عن الباقي في قوله تعالى:
غَنِمْتُمْ قال القرطبي: أضاف الله الغنيمة للغانمين، ثم عين الخمس لمن سمّى في كتابه، وسكت عن الأربعة الأخماس، فدل على أنها ملك للغانمين، كما سكت عن الثلثين في قوله: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فكان للأب الثلثان اتفاقا، وكذا الأربعة الأخماس للغانمين إجماعا «١».
(١) تفسير القرطبي: ٨/ ٣، ١٣
6
والغنيمة كما أوضحت: ما دخلت في أيدي المسلمين من أموال المشركين على سبيل القهر.
والأصناف المذكورة في الآية ستة، قيل عن أبي العالية: إن سهم الله يصرف في الكعبة، وأجيب بأن تعمير بيوت الله حق على المسلمين، والراجح المشهور أو المجمع عليه أن خمس الغنائم يقسم على خمسة أصناف، وقوله: لِلَّهِ خُمُسَهُ:
افتتاح كلام للتبرك بذكر اسم الله وتعظيمه، وافتتاح الأمور باسمه وبيان تفويض كل شيء إليه، فهو يحكم بما يشاء، ولله الدنيا والآخرة. والأصناف الخمسة هي:
١- سهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم يضعه حيث شاء. قال عمر بن عبد العزيز: قوله:
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ يعني في سبيل الله، قال ابن العربي: وهذا هو الصحيح كله.
٢- سهم ذوي القربى: أي قرابة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وهم على الراجح بنو هاشم وبنو المطلب، وهو رأى الشافعي وأحمد وآخرين
لما أخرجه البخاري والنسائي: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما قسم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبد المطلب قال: «إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطّلب شيء واحد» وشبك بين أصابعه.
قال البخاري: قال الليث: حدثني يونس، وزاد: ولم يقسم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئا. قال ابن إسحاق: وعبد شمس وهاشم والمطلب إخوة لأم، وأمّهم: عاتكة بنت مرّة، وكان نوفل أخاهم لأبيهم. وقال النسائي: وأسهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لذوي القربى، وهم بنو هاشم وبنو المطلب، بينهم الغني والفقير.
وتفصيل القصة
فيما أخرج ابن جرير الطبري عن جبير بن مطعم (من بني نوفل) قال: لما قسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم
7
وبني المطلب، مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه (من بني عبد شمس)، فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخوتك بنو هاشم، لا ننكر فضلهم، لمكانك الذي جعلك الله به منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا «١»، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال: «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» ثم شبّك رسول الله يديه، إحداهما بالأخرى.
وذلك أن بني هاشم وبني المطلب دخلوا في مقاطعة في شعب مكة بموجب الصحيفة التي كتبتها قريش، لحمايتهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم يدخل بنو عبد شمس وبنو نوفل. وكان بنو أمية بن عبد شمس في عداوة لبني هاشم في الجاهلية والإسلام.
وأما بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، فعند الشافعي رحمه الله، ورأيه مطابق لظاهر الآية: أنه يقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، يصرف إلى ما كان يصرف إليه من مصالح المسلمين، كالإعداد للجهاد من شراء السلاح والخيول ونحوها، وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم، يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، والباقي للأصناف الثلاثة: وهم اليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن سهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته ساقط بسبب موته، وكذلك سهم ذوي القربى، وإنما يعطون لفقرهم، ولا يعطى أغنياؤهم، فيقسم الخمس على ثلاثة أسهم، على اليتامى والمساكين وابن السبيل.
وقال مالك رحمه الله: الأمر في الخمس مفوض إلى رأي الإمام، ويجعل في بيت المال، إن رأى قسمته على هؤلاء المذكورين في الآية فعل، وإن رأى إعطاء بعضهم دون بعض، فله ذلك.
(١) أي أنهما من بني عبد شمس وبني نوفل.
8
وكأن مالكا والمالكية رأوا أن ذكر هذه الأصناف على سبيل المثال، وهو من باب الخاص أريد به العام. وأصحاب الأقوال المتقدمة رأوا أنه من باب الخاص أريد به الخاص.
واستدل المالكية بأخبار وردت في السيرة هي:
أ-
روي في الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعث سرية قبل نجد، فأصابوا في سهمانهم اثني عشر بعيرا، ونفّلوا بعيرا بعيرا.
ب-
قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في أسارى بدر: لو كان المطعم بن عديّ حيا، وكلّمني في هؤلاء النتنى، لتركتهم له.
ج- رد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سبي هوازن، وفيه الخمس.
د-
قال صلّى الله عليه وآله وسلم: «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم».
هـ-
روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: آثر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم حنين أناسا في الغنيمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل، وأعطى ناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله، إن هذه القسمة ما عدل فيها، أو: ما أريد بها وجه الله، فقلت: والله لأخبرن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فأخبرته، فقال: «يرحم الله أخي موسى لقد أوذى بأكثر من هذا، فصبر» «١».
وذكر النسائي عن عطاء قال: خمس الله وخمس رسوله واحد، كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يحمل منه، ويعطي منه، ويضعه حيث شاء، ويصنع به ما شاء.
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٢/ ٨٤٦
9
كل هذه الأدلة تدل على أن توزيع الخمس مفوض للإمام، وأن بيان المصارف في الآية بيان المصرف والمحل، لا بيان الاستحقاق والملك، كما ذكر القرطبي إذ لو كان استحقاقا وملكا، لما جعله رسول الله أحيانا في غيرهم.
٣- اليتامى: وهم أطفال المسلمين الذي هلك آباؤهم.
٤- المساكين: وهم أهل الحاجة من المسلمين.
٥- ابن السبيل: وهو المجتاز سفرا قد انقطع به.
ثم قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ... أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وما أنزل على رسوله، أو اعلموا أن ما غنمتم من شيء، فخمس الغنيمة مصروف إلى هذه الأصناف الخمسة، فاقطعوا عنه أطماعكم، واقنعوا بالأخماس الأربعة إن كنتم صدقتم بالله وبما أنزله على رسوله، يوم بدر: يوم الفرقان الذي فرقنا فيه بين الحق والباطل، فنصرنا المؤمنين على الكافرين، وذلك يوم التقى الجمعان، أي الفريقان من المسلمين والكافرين، لسبع عشرة خلت من رمضان، وهو أول قتال شهده الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، والله على ذلك وغيره قدير، يقدر على نصركم وأنتم قلّة، ولا يمتنع عليه شيء أراده، وينجز وعده لرسوله.
والمراد من الآية التحذير من تجاوز حدود الله في أي وقت، وليس المراد أخذ العلم فقط، بل العلم المقترن بالعمل والاعتقاد، والإيمان بالله والرسول والمنزل عليه واليوم الآخر من دواعي العلم بأن لله حق التصرف في الأشياء، وله تفويض القسمة إلى رسوله، يقسم الخمس بين هذه الأصناف لأن النصر من عند الله، وهو الذي أمدكم بالملائكة. وجواب الشرط دل عليه المذكور وهو: فاعملوا وانقادوا وسلّموا لأمر الله فيما أعلمكم به من القسمة، وقد عدل عن (اعلموا) لأن
10
المراد هو العمل، وليس العلم والاعتقاد، فقوله: وَاعْلَمُوا يتضمن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم.
فقه الحياة أو الأحكام:
الآية خطاب للمسلمين من غير خلاف، لا مدخل فيه للكفار ولا للنساء، خوطب به المقاتلون من المسلمين.
وقد أرشدت الآية إلى أن خمس الغنيمة يصرف لخمسة أصناف، ودلت دلالة ضمنية على أن الأربعة الأخماس الباقية ملك للغانمين، فذلك مفهوم من السكوت عن الأربعة الأخماس، فتقسم بين الغانمين «١».
وأرشدت الآية أيضا إلى أنه: إن كنتم آمنتم بالله، فاحكموا بهذه القسمة، وهو يدل على أنه متى لم يحصل الحكم بهذه القسمة، لم يحصل الإيمان بالله. وفي الآية تسمية يوم بدر بيوم الفرقان.
وهذه الآية مبيّنة لإجمال أول سورة الأنفال، وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين.
وجمهور العلماء على أن هذه الآية مخصوصة بأمور ثلاثة هي: أن سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمام، أي أعلن عنه قبل المعركة، وكذلك الأسارى، الاختيار فيهم إلى الإمام بلا خلاف، وكذلك الأرض غير داخلة في عموم هذه الآية في رأي الجمهور لما روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «لولا آخر الناس، ما فتحت قرية إلا قسمتها، كما قسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خيبر». وأما الذي يقسم فهو المنقول الذي ينقل من موضع إلى آخر.
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٥١
11
وقال الشافعي: كل ما حصل من الغنائم من أهل دار الحرب من شيء، قلّ أو كثر من دار أو أرض أو متاع أو غير ذلك، قسم إلا الرجال البالغين، فإن الإمام مخير فيهم بين أن يمنّ أو يقتل أو يسبي، واستدل بعموم هذه الآية، وقال: والأرض مغنومة لا محالة، فوجب أن تقسم كسائر الغنائم، وقد قسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ما افتتح عنوة من خيبر. ولو جاز أن يدّعى الخصوص في الأرض، جاز أن يدّعى في غير الأرض، فيبطل حكم الآية. وأما آية (الحشر) فلا حجة فيها لأن ذلك إنما هو في الفيء لا في الغنيمة. وقوله تعالى:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ استئناف كلام بالدعاء لمن سبقهم بالإيمان، لا لغير ذلك. وفعل عمر في وقف الأرض المفتوحة إما أن يكون ما وقفه فيئا، فلم يحتج إلى مراضاة أحد، وإما أن يكون غنيمة استطاب أنفس أهلها، وطابت بذلك فوقفها، روى جرير أن عمر استطاب أنفس أهلها، وكذلك صنع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في سبي هوازن، لما أتوه استطاب أنفس أصحابه عما كان في أيديهم.
وقال الحنفية: يخير الإمام في قسمة الأرض، أو إقرارها بيد أهلها، وتوظيف الخراج عليها، وتصير ملكا لهم كأرض الصلح.
وأما السّلب: فهو في رأي مالك وأبي حنيفة والثوري، ليس للقاتل، وحكمه حكم الغنيمة، إلا أن يقول الأمير: من قتل قتيلا فله سلبه، فيكون حينئذ له، أي أن هذا القول تصرف من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بطريق الإمامة والسياسة، فيحتاج إلى إذن متجدد من الحاكم.
وذهب الليث والأوزاعي والشافعي وآخرون إلى أن السلب للقاتل على كل حال، سواء قاله الإمام أو لم يقله، لكن يستحقه القاتل في رأي الشافعي إذا قتل قتيلا مقبلا عليه، غير مدبر عنه، أي أن هذا القول صادر من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بطريق التبليغ للوحي أو النبوة، فلا يحتاج إلى إذن أصلا من الحاكم.
12
ولا يخمس السلب في رأي الشافعي
لما رواه أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قضي في السلب للقاتل، ولم يخمّس السلب.
وذهب جمهور العلماء إلى أن السلب لا يعطى للقاتل، إلا أن يقيم البيّنة على قتله. وقال أكثرهم: يجزئ شاهد واحد عملا بحديث أبي قتادة، وقيل وهو رأي الشافعي: شاهدان أو شاهد ويمين،
لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أعطى السلب لأبي قتادة بشهادة الأسود بن خزاعيّ وعبد الله بن أنيس.
وقال الأوزاعي والليث: يعطاه بمجرد دعواه، وليست البيّنة شرطا في الاستحقاق
لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أعطى أبا قتادة سلب مقتوله من غير شهادة ولا يمين.
ولا يحتاج في مذهب المالكية إلى بيّنة لأنه من الإمام ابتداء عطية.
والسلب بالاتفاق يشمل السلاح وكل ما يحتاج للقتال. أما الفرس فقال أحمد: ليس من السلب. وأما ما معه من نقود أو جواهر فلا خلاف في أنه ليس من السلب. وأما ما يتزين به للحرب فهو من السلب في رأي الأوزاعي، وقال جماعة: ليس من السلب.
وليس في كتاب الله تعالى دلالة على تفضيل الفارس على الراجل، واختلف العلماء في ذلك، فذهب الجمهور إلى أنه يسهم للفارس سهمان، وللراجل سهم وهو الصحيح وذلك لكثرة العناء وعظم المنفعة، بدليل ما روى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما.
ولا يعطى في رأي مالك والشافعي لأكثر من فرس واحد، لأن القتال يكون على فرس واحد، والزائد رفاهية، وقال أبو حنيفة: يسهم لأكثر من فرس واحد لأنه أكثر غناء وأعظم منفعة.
13
وسبب استحقاق الجندي السهم هو شهود الوقعة، لنصر المسلمين، لقول عمر: «إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة» فلو شهد آخر الوقعة استحق، ولو حضر بعد انقضاء القتال فلا. ومن غاب أو حضر مريضا فلا سهم له
لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لم يسهم لغائب قط إلا يوم خيبر، فإنه أسهم لأهل الحديبية، من حضر منهم ومن غاب، لقوله تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها.
وأما المدد الذي يلحق الجيش في دار الحرب قبل إحراز الغنيمة، فقال الحنفية: إذا غنموا في دار الحرب، ثم لحقهم جيش آخر قبل إخراجها إلى دار الإسلام، فهم شركاء فيها. وقال الأئمة الآخرون: لا يشاركونهم «١».
تكثير المؤمنين ببدر في أعين المشركين وتقليل المشركين في أعين المؤمنين
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٥٦
14
الإعراب:
إِذْ أَنْتُمْ إِذْ: بدل من قوله: يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وبِالْعُدْوَةِ: بضم العين وكسرها، والْقُصْوى: حقها أن يقال: القصيا مثل الدنيا، إلا أنه جاء شاذا. والركب: (اسم جمع، وليس بجمع تكسير لراكب) بدليل تصغيره على ركيب، إذ لو كان جمع تكسير لقيل: رويكبون، كما يقال في تكسير شاعر: شويعرون، يرد إلى الواحد ثم يصغر، ثم يؤتى بعلامة الجمع. والرَّكْبُ: مبتدأ، وأَسْفَلَ: خبره، وهو وصف لظرف محذوف، تقديره: والركب مكانا أسفل منكم.
لِيَقْضِيَ متعلق بمحذوف، أي ليقضي أمرا كان واجبا أن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه. ولِيَهْلِكَ بدل منه.
حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ حي: فيه إدغام، أصله حيي وأدغم للزوم الحركة في آخره، وقرئ بالإظهار أي بفك الإدغام للحمل على المستقبل، أي لإجراء الماضي على المستقبل، والمستقبل لا يجوز فيه الإدغام، فلا يقال: يحيّا.
إِذْ يُرِيكَهُمُ إِذْ: في موضع نصب بفعل مقدر، تقديره: واذكر إذ يريكهم الله.
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذ: معطوف على إِذْ الأولى، وردّت الواو ميم الجمع مع الضمير.
والضميران مفعولان.
البلاغة:
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا بين الدنيا والقصوى طباق.
لِيَهْلِكَ ويَحْيى استعار الهلاك والحياة للكفر والإيمان أو الإسلام.
المفردات اللغوية:
إِذْ بدل من يوم في قوله يَوْمَ الْفُرْقانِ. أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا أي أنتم كائنون بشط الوادي أو جانبه، والدُّنْيا: القربى أي القريبة من المدينة. وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أي البعدى من المدينة وهي مؤنث الأقصى. وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي العير كائنون بمكان أسفل منكم أي مما يلي البحر. وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم والنفير للقتال. وَلكِنْ لِيَقْضِيَ جمعكم بغير ميعاد، ليحقق أمرا كان مفعولا في علمه، وهو نصر الإسلام ومحق الكفر. لِيَهْلِكَ فعل ذلك ليكفر من كفر بعد حجة ظاهرة قامت عليه، وهي نصر المؤمنين مع قلتهم على الجيش الكثير، أو ليموت من يموت عن بينة عاينها، وَيَحْيى أي ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها، لئلا
15
يكون له حجة ومعذرة، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة. أي إما أن يستعار الهلاك للكفر، والحياة للإسلام، بمعنى ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة، وإما أن يكون اللفظان على الحقيقة. والمراد بمن هلك ومن حيّ: المشارف للهلاك والحياة أو من هذا حاله في علم الله وقضائه.
فِي مَنامِكَ نومك. قَلِيلًا أي عددا قليلا، فأخبرت به أصحابك فسرّوا.
لَفَشِلْتُمْ جبنتم. وَلَتَنازَعْتُمْ اختلفتم. فِي الْأَمْرِ أمر القتال. وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أي سلمكم من الفشل والتنازع بِذاتِ الصُّدُورِ بما في القلوب.
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ أيها المؤمنون. قَلِيلًا نحو سبعين أو مائة، لتقدموا عليهم.
وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ليقدموا ولا يرجعوا عن القتال. وهذا قبل بدء المعركة، أما بعد بدئها فأراهم إياكم مثليهم، كما في آل عمران. تُرْجَعُ تصير.
المناسبة:
الحديث ما يزال عن وقعة بدر، فالله تعالى بعد أن أبان حكم قسمة الغنائم، وصف مشاهد من يوم الفرقان ومواقع الصفين، ومعسكر الجيشين، لتذكير المؤمنين بالنعم العظمى التي أنعم بها عليهم، وامتنانه عليهم حيث نصرهم على من هو أقوى منهم.
التفسير والبيان:
اذكروا أيها المؤمنون ذلك اللقاء الحاسم بينكم وبين المشركين، واشكروه على نصره إياكم فيه، حينما كنتم في مواجهة رهيبة مع الأعداء، إذ كنتم في جانب الوادي القريبة من المدينة وهي أرض رملية تسيخ فيها الأقدام، والمشركون نازلون في جانب الوادي الأخرى البعيدة من المدينة إلى ناحية مكة، وهي قريبة من الماء، والركب أي العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة أسفل منكم أي مما يلي جانب البحر أو ساحله، حينما كان أبو سفيان قادما بقافلته من الشام، في أربعين من قريش، وهم مع أهل مكة يدافعون عنه دفاع المستميت، مما يقوي روحهم المعنوية.
16
ولو تواعدتم أنتم والمشركون في مكان للقتال، لاختلفتم في الميعاد، خوفا من القتال لقلتكم وقوة عدد أعدائكم، ولأنهم كانوا يهابون قتال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
ولكن تلاقيكم عن غير موعد ولا رغبة في القتال، ليقضي الله ما أراد بقدرته وحكمته وعلمه من إعزاز الإسلام ونصر أهله، وإذلال الشرك وخذلان أهله، ولينفذ أو يحقق أمرا كان مبرما وواجبا أن يفعل، وهو نصر أوليائه المؤمنين، وقهر أعدائه الكافرين بعد ذلك اللقاء، فيزداد المؤمنون إيمانا، وامتثالا لأمر الله ويظهروا الشكر له.
وكان لهذا اللقاء أثر آخر على المدى البعيد، وهو أن يموت من يموت من الكفار عن حجة بيّنة عاينها بالبصر تثبت حقيقة الإسلام، ويعيش من يعيش من المؤمنين عن حجة شاهدها بإعزاز الله دينه، لئلا يكون له حجة ومعذرة، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة التي ترسخ الإيمان، وتدفع إلى صالح الأعمال، وتحقق قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر ٥٤/ ٤٥].
ويصح تفسير لِيَهْلِكَ ويَحْيى بالاستعارة، وهي استعارة الهلاك والحياة للكفر والإسلام، والمعنى: ليكفر من كفر بعد قيام الحجة عليه وظهور الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك، أي بعد الحجة لما رأي من الآية والعبرة، وبه حقا كانت موقعة بدر فرقانا بين الحق والباطل، قامت بها الحجة للمؤمنين بنصرهم كما بشرهم نبيهم، والحجة على الكافرين بهزيمتهم لأنهم جند الباطل.
وتوضيح المعنى: أنه تعالى يقول: إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد، لينصركم عليهم، ويرفع كلمة الحق على الباطل، ليصير الأمر ظاهرا، والحجة قاطعة، والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ يهلك من هلك أي يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره:
17
بأنه مبطل، لقيام الحجة عليه. وهذا برهان عملي محسوس، والمحسوسات أو التجارب أوقع أثرا في الاستدلال من البراهين النظرية أو العقلية المجردة.
وإن الله لسميع عليم، أي لا يخفى عليه شيء من أقوال الكافرين والمؤمنين، ولا من عقائدهم وأفعالهم، فهو سميع لما قاله الكافرون، وعليم بأحوالهم، وسميع لدعاء المؤمنين وتضرعهم واستغاثتهم، وعليم بهم وبأنهم يستحقون النصر على أعدائهم، ويجازي كلا بما يسمع ويعلم.
واذكر أيها النبي إذ يريك الله الكفار في منامك قليلا أي ضعفاء، فتخبر أصحابك بذلك، فتثبت قلوبهم، وتطمئن نفوسهم.
ولو أراكهم كثيرا أي أقوياء في الواقع لجبنتم عنهم، واختلفتم فيما بينكم، وتنازعتم في شأن القتال إذ منهم قوي الإيمان والعزيمة، ومنهم الضعيف الذي يحسب للأمر ألف حساب.
ولكن الله سلّم من ذلك الفشل (الجبن) والتنازع، بأن أراكهم قليلا، إنه تعالى عليم بذات الصدور أي بما تخفيه الصدور، وتنطوي عليه النفوس من شعور الضعف والجزع الذي يؤدي إلى الانثناء عن القتال.
واذكروا أيها الرسول والمؤمنون الوقت الذي يريكم الله الكفار قبل القتال عددا قليلا، في رأي العين المجردة، حتى تجرأتم وارتفعت معنوياتكم، ويجعلكم بالفعل قلة في أعين الكفار، فيغتروا، ولا يعدوا العدة لكم، حتى قال أبو جهل:
«إنما أصحاب محمد أكلة جزور، خذوهم أخذا، واربطوهم بالحبال» أي أنهم عدد قليل يكفيهم جزور واحد في اليوم، ويشبعهم لحم ناقة.
ليقضي الله أمرا كان مفعولا، أي فعل كل ذلك ليمهد للحرب، فتكون سبيلا في علمه تعالى لنصرة المؤمنين وإعزاز الإسلام، وهزيمة الكافرين وإذلال الكفر والشرك.
18
روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي، تراهم سبعين؟ قال: لا، بل هم مائة، حتى أخذنا رجلا منهم، فسألناه، فقال: كنا ألفا.
وهذا كله قبل القتال، أما في أثنائه فإنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم، ليعمهم الفزع وتضعف معنوياتهم، كما قال تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأُخْرى كافِرَةٌ، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران ٣/ ١٣].
ثم قال تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي إن إلى الله مصير الأمور ومردها.
فقه الحياة أو الأحكام:
لقد كانت وقعة بدر أمرا عجبا وقصة مثيرة، فمما لا شك فيه أن عسكر المسلمين في أول الأمر كانوا في غاية الخوف والضعف، بسبب القلة وعدم الأهبة، ونزلوا بعيدين عن الماء، وكانت الأرض التي نزلوا فيها أرضا رملية تغوص فيها أرجلهم.
وأما الكفار فكانوا في غاية القوة بسبب كثرة العدد والعدد، وكانوا قريبين من الماء، والأرض كانت صالحة للمشي، وكانت العير خلف ظهورهم، ويتوقعون مجيء المدد من العير إليهم ساعة فساعة.
ثم تغيرت موازين القوى وانعكست القضية، وجعل الله الغلبة للمسلمين، والدمار على الكافرين، فصار ذلك من أعظم المعجزات، وأقوى البينات على صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر. فقوله لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ إشارة إلى هذا المعنى، وهو أن الذين هلكوا إنما
19
هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة، والمؤمنون الذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة. والمراد من البينة: هذه المعجزة «١».
وقد أراد الله أيضا من الفريقين كما دل ظاهر قوله: لِيَهْلِكَ... العلم والمعرفة والخير والصلاح.
فإظهار المعجزة وإعلام فريقي المؤمنين والكافرين بالحجة على أحقية الإسلام وبطلان الشرك هو النوع الأول من النعم التي أنعم الله بها على أهل بدر.
والنوع الثاني من النعم يعرف من قوله: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ وهو:
تقليل الكافرين في أعين المؤمنين، ليقدموا على القتال بروح معنوية عالية، وبحماسة تحقق النصر والغلبة.
والنوع الثالث من النعم يوم بدر يتبين من قوله: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ...
وهو أن التقليل الذي حصل في النوم تأكد بحصوله في اليقظة، فهذا في اليقظة، فقلل الله تعالى عدد المشركين في أعين المؤمنين، وقلل أيضا عدد المؤمنين في أعين المشركين، والحكمة في التقليل الأول: تصديق رؤيا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وتقوية قلوب المؤمنين، وازدياد جرأتهم عليهم. والحكمة في التقليل الثاني: أن المشركين لما استقلوا عدد المسلمين، لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب والحذر، فصار ذلك سببا لاستيلاء المؤمنين عليهم.
والمقصود من ذكر قوله تعالى: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا في موضعين: في الآية ٤٢، وفي الآية ٤٤: هو أن ذكره في الموضع الأول لبيان أن الله تعالى فعل تلك الأفعال من أجل نصر المؤمنين على المشركين على وجه يكون معجزة دالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وللترغيب في اللقاء. وذكره في الموضع
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ١٦٨.
20
الثاني وهو تقليل عدد المؤمنين في أعين المشركين لتوضيح مراد الله تعالى الذي فعل ذلك ليكون سببا في قلة مبالاة المشركين بالمؤمنين، وعدم مبالغتهم في الاستعداد والحذر، ولإتمام المراد وهو قتل المشركين وإعزاز الدين.
ونبّه تعالى بقوله: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زادا ليوم المعاد.
ومن فضل الله ونعمته وهو نوع رابع من النعم أن قوله: وَيُقَلِّلُكُمْ كان في ابتداء القتال، فلما شرعوا في القتال عظم المسلمون في أعينهم فكثروا كما قال تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ
[آل عمران ٣/ ١٣].
ذكر الله والثبات أمام العدو والطاعة وعدم التنازع
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)
الإعراب:
فَتَفْشَلُوا منصوب بإضمار (أن)، أو مجزوم لدخوله في حكم النهي.
بَطَراً منصوب على المصدر في موضع الحال، أي بطرين مرائين صادّين.
البلاغة:
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي قوتكم، وقال الزمخشري: الريح: الدولة، وفيه استعارة، شبهت
21
القوة أو الدولة في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها، فقيل: هبت رياح فلان: إذا دالت له الدولة ونفذ أمره.
المفردات اللغوية:
فِئَةً جماعة، والمراد هنا جماعة كافرة فَاثْبُتُوا لقتالهم ولا تنهزموا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً ادعوه بالنصر تُفْلِحُونَ تفوزون وَلا تَنازَعُوا تختلفوا فيما بينكم فَتَفْشَلُوا تجبنوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قوتكم ودولتكم مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر والعون.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ليمنعوا غيرهم ولم يرجعوا بعد نجاتها بَطَراً البطر: الأشر، والمراد بهما التفاخر بالنعمة، والتكبر والخيلاء. وَرِئاءَ النَّاسِ أي رياء، وهؤلاء هم أهل مكة، حين خرجوا لحماية العير، فأتاهم رسول أبي سفيان، وهم بالجحفة: أن ارجعوا، فقد سلمت عيركم، فأبى أبو جهل وقال: حتى تقدم بدرا، نشرب بها الخمور، وتعزف علينا القيان، ونطعم بها من حضرنا من العرب. فلذلك كان بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم، فوافوها فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان، فنهى الله المؤمنين أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم، وأن يكونوا من أهل التقوى والكآبة والحزن من خشية الله عز وجل، مخلصين أعمالهم لله.
سبب النزول: نزول الآية (٤٧) :
وَلا تَكُونُوا: أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر، خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله: وَلا تَكُونُوا... الآية.
وقال البغوي في تفسيره المطبوع على هامش (الخازن) : نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر، ولهم بغي وفخر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك، وتكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني».
قالوا: ولما رأي أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما
22
خرجتم لتمنعوا عيركم، فقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا- وكان موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام- فنقيم ثلاثا، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدا، فوافوها فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.
فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم، وأمرهم بإخلاص النية، والحسبة في نصر دينه، ومؤازرة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أنواع نعمه على رسوله وعلى المؤمنين يوم بدر، علّمهم إذا التقوا بفئة (أي جماعة) من المحاربين نوعين من الأدب هما: الثبات أمام العدو في اللقاء، وذكر الله كثيرا، ثم أمرهم بالتحلي بالطاعة والانقياد، أي طاعة الله والرسول، ونهاهم عن التنازع والاختلاف حتى لا يفشلوا (يجبنوا) وتذهب قوتهم ودولتهم.
التفسير والبيان:
هذه الآيات تعليم من الله لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء، وهي قواعد ضرورية في الحروب، وأسس للجندية الحقة الحازمة.
وأول هذه الآداب والقواعد:
الثبات أمام العدو حين اللقاء معه، بتوطين النفوس على الصمود والصبر على المبارزة وعدم التحدث بالتولي والفرار، ونظرا لأن هذا العنصر أهم عناصر المواجهة الحربية، فقد بدأ الله به، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً
23
فَاثْبُتُوا
أي إذا حاربتم جماعة من أعدائكم الكفار، فاثبتوا أمامهم في القتال، وإياكم من الفرار من الزحف وتولي الأدبار، فالثبات ركيزة الحروب وسبب للانتصار، والفرار جريمة كبري يعاقب عليها الله تعالى لأنها خطأ فادح في حق الأمة قاطبة.
ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، حتى إذا مالت الشمس، قام فيهم فقال:
«يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف».
ثم قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقال: «اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم».
وروى عبد الرزاق عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، واذكروا الله، فإن صخبوا وصاحوا، فعليكم بالصمت».
وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن زيد بن أرقم عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مرفوعا قال: «إن الله يحب الصمت عند ثلاث: عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة».
والأدب الثاني:
هو ذكر الله كثيرا: بذكره في القلب واللسان، والتضرع والدعاء بالنصر والظفر لأن النصر لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى، وذكر الله في أثناء القتال يحقق معنى العبودية لله، ويشعر بمعنى الإيمان والتفويض لله والتوكل عليه، ويقوي الروح المعنوية، فبذكره تطمئن القلوب، ويؤمّل النصر والفرج، وبدعائه تتبدد الكروب والمخاوف، ويحلو الموت في سبيل الله عز وجل.
24
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي هذا الثبات وذكر الله من وسائل الفوز بالأجر والثواب، والنصر على الأعداء.
جاء في الحديث المرفوع: يقول الله تعالى: «إن عبدي كل عبدي: الذي يذكرني، وهو مناجز قرنه»
أي لا يشغله ذلك الحال عن ذكري ودعائي واستعانتي، فذكر الله تعالى، وعدم نسيانه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وسؤاله النصر على الأعداء، بعد الثبات والصمود والصبر أساس لتحقيق الفوز والغلبة.
وهذا يدل على أن ذكر الله أمر مطلوب في كل أحوال العبد، سلما وحربا، صحة ومرضا، إقامة أو حضرا وسفرا.
والأدب الثالث:
هو الطاعة: طاعة الله والرسول في كل ما أمر العبد به ونهي عنه، فما أمرنا الله تعالى به ائتمرنا، وما نهانا عنه انزجرنا لأن طاعة الله ورسوله من أسباب تحقيق الفوز والنصر في القتال وغيره، ولأن الطاعة تحقق الانضباط، وتوفر النظام، وتقمع الفوضى والتشتت، وظرف الحرب يقتضي الانضباط واحترام النظام وحبّه في أعلى مستوى وأكمله.
والأدب الرابع:
هو وحدة الصف والكلمة والهدف، وعدم التنازع والاختلاف، فإن توحيد الصف والكلمة أمر أساسي عند لقاء العدو، والتنازع والاختلاف مدعاة للفشل والجبن والخيبة وتغلب العدو.
فإياكم والتنازع لأنه مهدر للطاقات، ومقوّض لبنية الجماعات، وسبيل لإذهاب الحماسة، وتبديد القوة، والعصف بوجود الدولة، وإزالة روح الإقبال والإقدام، فلقد هلكت الأمم باختلافها وكثرة آرائها واعتراضاتها.
25
والأدب الخامس:
الصبر على الشدائد والمحن، وتحمل بأس العدو، فإن الصبر سلاح القوي المقدام، لذا قيل: الشجاعة: صبر ساعة، والله مع الصابرين يمدهم بالعون والتأييد والنصر.
والخلاصة: تتضمن الآداب السابقة قواعد حربية ثابتة أساسها الإخلاص في القتال في سبيل الله وكثرة ذكر الله لربط الجيش بربه.
قال ابن كثير: وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة، والائتمار بما أمرهم الله ورسوله به، وامتثال ما أرشدهم إليه، ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم، فإنهم ببركة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وطاعته فيما أمرهم، فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس، والترك، والصقالبة والبربر، والحبوش، وأصناف السودان، والقبط وطوائف بني آدم. قهروا الجميع حتى علت كلمة الله، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، إنه كريم وهاب «١».
وكما جرت عادة القرآن في الجمع بين الأمر والنهي والتحذير، أعقب الله تعالى الأمر بالآداب أو القواعد الحربية السابقة ومنها النهي عن التنازع، بتحذير المؤمنين من التشبه بصنيع المشركين أهل مكة، فقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا....
أي لا تتشبهوا بالمشركين أهل مكة حين خرجوا من ديارهم لحماية العير بطرا
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٣١٦
26
أي دفعا للحق، وإظهار الفخر والاستعلاء بنعمة القوة أو الغنى أو الزعامة، ومن أجل مراءاة الناس، أي المفاخرة والتكبر عليهم، وعمل ما يحبون أن يراهم الناس عليه ليعجبوا منه، كما قال أبو جهل لما قيل له: إن العير قد نجت فارجعوا، فقال: لا والله، لا نرجع حتى نرد ماء بدر، وننحر الجزر، ونشرب الخمر، وتعزف علينا القيان، وتتحدث العرب بمكاننا فيها يومنا أبدا.
فامتثلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه، واحذروا التشبه بأعدائكم المشركين بطرين مترفعين بالنعمة، مرائين الناس، فتبدل الحال كله عليهم، فتجرعوا كأس المنون، وانقلبوا أذلة صاغرين، في عذاب سرمدي أبدي.
وأرادوا بخروجهم المنع عن سبيل الله، أي حجب الناس عن الإسلام والحيلولة بينهم وبين تبليغ الدعوة الإلهية.
وهذه الأفعال التي لا تصدر عادة إلا من أناس امتلأت قلوبهم بالكفر، والجهل، والحقد، هي كلها عوامل دمار وهدم وفناء. لذا تضمنت الآية الزجر والتهديد بخصال الكفار وهي الرياء والبطر والكبر ودفع الحق ومعاداته.
والله بما يعملون محيط، أي عالم بما جاؤوا به ولأجله، فيجازيهم عليه شر الجزاء في الدنيا والآخرة، بمقتضى سنته في ترتيب الجزاء على الأعمال.
وفي هذا حض على إخلاص النية والعمل، والترغيب في نصرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومؤازرة الدين الذي جاء به من عند الله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
تأمر الآيات بقواعد حربية هي عمد ثوابت في نظام الحروب بنحو دائم، ولا يمكن لجيش قديم أو حديث أن يتخلى عن هذه النصائح التي تكون سببا في إحراز النصر والتقدم والغلبة.
27
وهذه القواعد والنصائح هي الثبات عند اللقاء، وذكر الله والتضرع إليه واللجوء إلى جنابه، وطاعة الله والرسول، أي طاعة التوجيه الإلهي والقائد الحربي الذي لا يأمر عادة إلا بالصواب والحق والمصلحة العامة، وعدم التنازع والاختلاف، والصبر عند الشدائد، وعدم البطر والرياء والكبر والخيلاء.
أما الثبات عند قتال الكفار: فهو كما في الآية المتقدمة التي تنهى عن الفرار عنهم، فالتقى الأمر والنهي على هدف واحد، وهو الصمود في المعركة.
وأما ذكر الله في القلب واللسان والدعاء فهو مما يعين على الهدف السابق وهو الثبات على الشدائد، فيقول المجاهد ما قاله أصحاب طالوت: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة ٢/ ٢٥٠]. وهذه الحالة لا تكون- كما ذكر القرطبي- إلا عن قوة المعرفة، واتّقاد البصيرة، وهي الشجاعة المحمودة بين الناس. ثم قال القرطبي: والأظهر أنه ذكر اللسان الموافق للجنان.
وأما طاعة الله ورسوله فهي الواجبة في كل أحوال المسلم، وبخاصة وقت الحرب والقتال لأن طاعة القائد الحربي أساس لتماسك الجيش، وضمان لتقدمه وتوجيهه الوجهة التي يخطط لها القائد تخطيطا سليما. والطاعة العمياء للقائد من أصول الجندية الحديثة المعروفة.
وأما التنازع والاختلاف بين الآراء ووجهات النظر فهو أداة انقسام الجيش، وإنذار بالهزيمة والتراجع، وذهاب القوة والنصر والدولة.
وأما الصبر فهو محمود في كل المواطن، وبخاصة موطن الحرب كما قال تعالى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وقال أيضا: اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا [آل عمران ٣/ ٢٠٠] والله مع الصابرين، والمراد بهذه المعية: النصرة والمعونة.
28
وأما البطر (الفخر والاستعلاء والتكبر) والمراءاة فهما مرض خطير ينخر في تكوين شخصية الإنسان، ويعجل في تدمير كيان صاحبه.
وأما الصد عن سبيل الله، أي إضلال الناس فهو أشد إثما من الكفر لأن كفر الكافر مقصور على نفسه، والصد يتجاوز الإنسان إلى غيره، وقد تكرر ذم الصد عن سبيل الله في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وكان الصدّ ملازما لكفر أهل مكة، كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [محمّد ٤٧/ ١].
ولما كان أبو جهل وعصبته مجبولين على البطر والمفاخرة والعجب، وكان صدهم عن سبيل الله حاصلا في زمان نبوة محمد عليه الصلاة والسّلام، ذكر البطر والرئاء بصيغة الاسم، وذكر الصد عن سبيل الله بصيغة الفعل.
والخلاصة: أمر الله المؤمنين عند لقاء العدو بالثبات والاشتغال بذكر الله، ومنعهم أن يكون الباعث لهم على الثبات هو البطر والرئاء، وإنما الواجب أن يكون الباعث عليه هو طلب عبودية الله تعالى.
وشأن المؤمن إرضاء الرحمن وإظهار العبودية الخالصة لله، وهو هدف القرآن، والمعصية مع الحياء والتذلل والانكسار أقرب إلى الإخلاص من الطاعة مع الافتخار.
وضمانا للإخلاص في طلب مرضاة الله ختمت الآية بقوله: وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ لأن الإنسان ربما أظهر الإخلاص، والحقيقة بخلافه، فيكون الله أعلم بما في القلوب. وهذا كالتهديد والزجر عن الرياء والتصنع.
وقد احتج نفاة القياس على عدم مشروعيته بآية وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا...
لأن القياس يؤدي إلى الاختلاف في الأحكام بسبب اختلاف الأقيسة، ويردّ عليهم بأنه ليس كل قياس بوجب المنازعة، والآية في أمور السياسة العامة
29
والمصالح الكبرى التي لا مجال للاختلاف فيها في تقدير المخلصين، أما القياس في مجال الاجتهاد في الفروع الفقهية، وجزئيات الأحكام، فلا عيب فيه، وهو أمر محمود مطلوب شرعا، وإن أدى إلى الاختلاف لأن المجتهد يجب عليه شرعا العمل بما غلب على ظنه.
تبرؤ الشيطان من الكفار وقت أزمة بدر وحين تهكم المنافقين بالمؤمنين
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)
الإعراب:
لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ لا: نافية للجنس، وغالِبَ: اسمها المنصوب، ولَكُمُ: في موضع رفع خبر لا وتقديره: لا غالب كائن لكم. والْيَوْمَ: منصوب على الظرف، والعامل فيه لَكُمُ.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ زَيَّنَ واذكر إذ زين لهم إبليس أعمالهم بأن وسوس لهم وشجعهم على لقاء المسلمين لما خافوا الخروج من أعدائهم بني بكر. وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ أي مجير لكم من كنانة، وكان أتاهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد تلك الناحية. فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ التقت واقتربت الجماعة المسلمة والكافرة، كل منهما من الأخرى نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ رجع هاربا على عقبيه أي
30
رجع القهقرى وتولى إلى الوراء، والمراد: أحجم وَقالَ لما قالوا له: أتخذلنا على هذه الحال؟:
إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ من جواركم إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ من الملائكة إِنِّي أَخافُ اللَّهَ أن يهلكني.
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ أي زين لهم الشيطان حين قال المنافقون بالمدينة، والمنافق: من يظهر الإسلام ويبطن الكفر وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم ضعاف الإيمان الذين تملأ قلوبهم الشبهات والشكوك غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ يعنون أن المسلمين اغتروا بدينهم وأنهم يتقوون به وينصرون من أجله، فخرجوا مع قلتهم وهم ثلاثمائة، وبضعة عشر، يقاتلون الجمع الكثير وهم زهاء ألف، توهما أنهم ينصرون بسبب دينهم، فأجابهم الله بقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي من يثق به يغلب فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره، يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي حَكِيمٌ في صنعه.
سبب النزول:
نزول الآية (٤٨) :
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ: روي أن الشيطان تمثّل لهم يومئذ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم لأنهم قتلوا رجلا منهم. وقد وصف الله تعالى ما قال الشيطان لهم. قال الضحاك: جاءهم إبليس يوم بدر برايته وجنوده، وألقى في قلوبهم أنهم لن يهزموا، وهم يقاتلون على دين آبائهم.
وذكر البيهقي وغيره عن ابن عباس قال: أمدّ الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل عليه السّلام في خمسمائة من الملائكة مجنّبة «١»، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنّبة. وجاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم. فقال الشيطان للمشركين: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ. فلما اصطفّ القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره،
ورفع
(١) مجنبة الجيش: هي التي تكون في الميمنة والميسرة، وهما مجنبتان.
31
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يده فقال: «يا ربّ إنك إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبدا» فقال جبريل: «خذ قبضة من التراب» فأخذ قبضة من التراب، فرمى بها وجوههم فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه.
فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السّلام إلى إبليس، فلما رآه كانت يده في يد رجل من المشركين- قيل: كانت يده في يد الحارث بن هشام-، انتزع إبليس يده، ثم ولى مدبرا وشيعته فقال له الرجل: يا سراقة، ألم تزعم أنك لنا جار؟
قال: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ، إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ.
وفي موطأ مالك عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «ما رأى الشيطان نفسه يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر. قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: أما إنه رأى جبريل يزع «١» الملائكة».
نزول الآية (٤٩) :
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ: روي عن مجاهد أنه قال: هم فئة من قريش:
قيس بن الوليد بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطّلب، ويعلى بن أمية، والعاص بن منبّه، خرجوا مع قريش من مكة، وهم على الارتياب، فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قالوا: غرّ هؤلاء دينهم، حتى أقدموا على ما أقدموا عليه، مع قلة عددهم، وكثرة عدد قريش.
المناسبة:
ما تزال الآيات تعرض مواقف وعبرا من مشاهد يوم بدر، وهنا تذكر
(١) يزع الملائكة: أي يرتبهم ويسوّيهم ويصفهم للحرب.
32
موقفين: موقف الشيطان كيف تخلص من المشركين وقت اشتداد المحنة، وموقف المنافقين الذين سخروا من المؤمنين لتهورهم، قائلين: غرّ هؤلاء دينهم.
التفسير والبيان:
اذكر أيها الرسول حين زين الشيطان للمشركين أعمالهم بوسوسته، وأوهمهم أنهم لا يغلبون أبدا لكثرة عَددهم وعُددهم، وأن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم، وأزال مخاوفهم من إتيان عدوهم بني بكر في ديارهم، وقال: إِنِّي جارٌ لَكُمْ أي مجير لكم من بني كنانة، وذلك أنه تبدي لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد بني مدلج كبير تلك الناحية. والجار: المدافع عن صاحبه، والذائد عنه أنواع الضرر، كما يدفع الجار عن جاره. وكل ذلك من الشيطان كما قال تعالى عنه: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً [النساء ٤/ ١٢٠].
فلما تلاقى الفريقان المتقاتلان نكص الشيطان على عقبيه، أي تراجع مدبرا، وولّى هاربا، وتبرأ منهم، أي بطل كيده حين نزلت جنود الله، وأيس من حالهم لما رأى إمداد الملائكة للمسلمين، وأظهر أنه يخاف الله، والله شديد العقاب في الدنيا والآخرة. وكان خوفه من الملائكة حتى لا تحرق جنوده.
وهكذا كان جند الشيطان في مبدأ الأمر مع المشركين يوسوسون لهم ويضللونهم، وكان الملائكة جند الرحمن مع المؤمنين يثبّتون قلوبهم ويؤيدونهم ويعدونهم بنصر الله تعالى. وقوله: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ يجوز أن يكون من كلام إبليس ويجوز أن ينقطع كلامه عند قوله: أَخافُ اللَّهَ ثم قال تعالى ذاك.
أما السبب في تغيير صورة إبليس إلى صورة سراقة، فلإظهار المعجزة العظيمة للرسول عليه الصلاة والسّلام لأن كفار قريش، لما رجعوا إلى مكة، قالوا:
هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة، فقال: والله ما شعرت بمسيركم، حتى بلغتني
33
هزيمتكم. فعندئذ تبين للقوم أن ذلك الشخص ما كان سراقة، بل كان شيطانا «١».
هذا موقف الشيطان، ثم ذكر الله تعالى موقف المنافقين، فقال: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ... أي اذكر أيها النبي حين قال المنافقون ومرضى القلوب، أي ضعفاء الاعتقاد والإيمان، وقد رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ أي أن المسلمين اغتروا بدينهم، وتقووا به، وظنوا أنهم ينصرون من أجله، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف. وهذا صحيح في موازين القوى العسكرية، وتقدير مدى تكافؤ الجيشين في أنظار الناس عادة، ولكنه في ميزان الله وتقديره غير يقيني: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة ٢/ ٢٤٩] لذا قال تعالى في ختام الآية: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ... أي ومن يفوض أمره إلى الله، ويثق به، ويلجأ إليه، فهو حسبه وناصره ومؤيده، والله عزيز غالب لا يدرك، حكيم في فعله وصنعه، عليم بخلقه، ينصر من يشاء، وبخاصة اقتضت سنته أن ينصر الحق على الباطل، ويسلط القليل الضعيف على الكثير القوى. وقوله: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يجوز أن يكون من صفات المنافقين، وأن يراد بهم الذين ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام، كالمؤلفة قلوبهم، والأولى أنهما صنف واحد.
فقه الحياة أو الأحكام:
ما أشبه موقف المنافقين بموقف الشيطان، إنه موقف المتخاذل المتفرج، المحرّض على الشر، ثم المتخلي عن المؤازرة وقت الشدة والمحنة.
أما الشيطان: فيوسوس بالباطل لأعوانه، ثم يحجم عن الشيء الذي زين به، وحبّب فيه، وأغرى الناس عليه. فالواجب على العاقل الحذر منه،
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ١٧٤- ١٧٥.
34
والتفكير في عواقب الأمور، وعدم الانسياق في تيار الأهواء والوساوس الشيطانية، فمن انجرف في سيل الشيطان فإن الله يعاقبه أشد العقاب.
وأما المنافقون (الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر) والذين في قلوبهم مرض (الشاكون، وهم دون المنافقين لأنهم حديثو عهد بالإسلام، وفيهم ضعف النية والاعتقاد) فيصطادون عادة في الماء العكر، وينتهزون الفرص، ويوقعون الفتنة، وينتظرون الانحياز للغالب ويشككون في قوة المؤمنين، ويتهمونهم بالتهور والطيش لقلتهم عددا وعددا أمام الكثرة في العدد والعدد.
وقد خيّب الله الفريقين: الشيطان والمنافقين، فنصر الفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكافرة الكثيرة، والله يؤيد بنصره من يشاء لأن من يتوكل على الله، ويفوض أمره إليه، ويثق به، ويلجأ إليه، فإن الله حسبه وناصره ومؤيده.
إهلاك الكفار المشركين لسوء أعمالهم كإهلاك آل فرعون
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٠ الى ٥٤]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤)
35
الإعراب:
يَضْرِبُونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الْمَلائِكَةُ ولو جعل حالا من الَّذِينَ كَفَرُوا لكان جائزا.
وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي يقولون: ذوقوا عذاب الحريق، وحذف القول كثير في كلام الله تعالى وكلام العرب.
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ إنما قال: ذلك، على خطاب الواحد، ولم يقل: ذلكم، على قياس اللغة الأخرى بأن يقال: (ذلكم بما قدمت أيديكم) لأنه أراد به الجمع، فكأنه قال: ذلك أيها الجمع، والجمع بلفظ الواحد، وهما لغتان جيدتان نزل بهما القرآن.
وَأَنَّ اللَّهَ... إما بالجر عطفا على بِما في قوله تعالى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وإما بالنصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: وبأن الله، وإما بالرفع بالعطف على ذلِكَ أو على تقدير ذلك.
كَدَأْبِ الكاف صفة لمصدر محذوف، وتقديره: فعلنا ذلك بهم فعلا مثل عادتنا في آل فرعون.
المفردات اللغوية:
أَدْبارَهُمْ ظهورهم الْحَرِيقِ النار، وجواب لَوْ: لرأيت أمرا عظيما.
ذلِكَ التعذيب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ عبر بالأيدي دون غيرها لأن أكثر الأفعال تزاول بها لَيْسَ بِظَلَّامٍ أي بذي ظلم، فلا يعذب العبيد بغير ذنب. كَدَأْبِ كعادة مستمرة، أي عادة هؤلاء كعادة قوم فرعون. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ أي تعذيب الكفرة بسبب أن الله مُغَيِّراً نِعْمَةً مبدلا لها بالنقمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ يبدلوا نعمتهم كفرا كتبديل كفار مكة إطعامهم من جوع، وأمنهم من خوف. وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ وكل من الأمم المكذبة.
36
المناسبة:
لما شرح الله تعالى أحوال مشركي مكة من خروجهم إلى قتال المؤمنين بطرا ورياء، ومن تزيين الشيطان لهم أعمالهم، وتثبيط المنافقين للمؤمنين، شرح أحوال موتهم، والعذاب الذي يلقونه في ذلك الوقت.
التفسير والبيان:
ولو عاينت يا محمد حال الكفار حين تتوفاهم الملائكة، لرأيت أمرا عظيما هائلا فظيعا لا يكاد يوصف، فهم يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد، وينزعون أرواحهم من أجسادهم بشدة وعنف، قائلين لهم: ذوقوا عذاب الحريق أي عذاب النار في الآخرة، وهذا إنذار لهم بذلك العذاب.
ذلك العذاب الشديد والضرب الأليم بسبب ما قدمتم من أعمال سيئة، وارتكبتم من منكرات كالكفر والظلم في حياتكم الدنيا. ونسب ارتكاب المعاصي إلى الأيدي مع أنها تقع بغيرها كالأرجل وسائر الحواس لأن أكثر الأعمال تقع بها.
جازاكم الله بها هذا الجزاء عدلا لا ظلما لأن الله لا يظلم أحدا من خلقه، بل هو الحكم العدل الذي لا يجور أبدا، ويضع الموازين القسط ليوم القيامة، ويعطي كل ذي حق حقه، فلا تظلم نفس شيئا.
جاء في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله تعالى يقول:
يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».
ثم عقد الحق تبارك وتعالى مقارنة، وأعطى شبها ومثلا لعذاب المشركين،
37
فقال: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ... أي أنه تعالى فعل بهؤلاء المشركين المكذبين برسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وكفرهم بها، كما فعل بالأمم المكذبة قبلهم، فعادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون (أي قومه) في كفرهم، فجوزي هؤلاء بالقتل والسبي، كما جوزي أولئك بالإغراق، كفر هؤلاء المشركون والكفار بآيات ربهم، فأهلكهم الله بسبب ذنوبهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فالسنة والعادة في الفريقين واحدة، والجزاء من جنس العمل.
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ أي إن الله قوي لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب.
روى البخاري ومسلم وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته».
ثم أخبر الله تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه، فقال: ذلك العذاب الناجم عن سوء العمل وإهلاك قريش بكفرها بأنعم الله عليها، بسبب سنته تعالى وحكمته التي اقتضت ألا يغير نعمته على قوم، حتى يغيروا ما بهم من الحال، فيكفروا النعمة، ويبطروا بها، فاستحقوا تبديل الأوضاع، كتبديل أهل مكة إطعامهم من جوع، وأمنهم من خوف، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ [الرعد ١٣/ ١١].
وفي هذا دلالة واضحة على أن استحقاق النعم منوط بصلاح العقائد، وحسن الأعمال، ورفعة الأخلاق، وأن زوال النعم يكون بسبب الكفر والفساد وسوء الأخلاق، إلا أن يكون ذلك استدراجا كما قال تعالى في آية أخرى:
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم ٦٨/ ٤٤].
وكل الناس تحت رقابة الله المتصرف فيهم، لذا قال: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
38
عَلِيمٌ
أي سميع لما يقول مكذبو الرسل، عليم بما يفعلون.
ثم أكد تعالى الكلام السابق وفصله تفصيلا، فقال مرة أخرى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ لترسيخ وجه الشبه، وبيان المقصود بالكلام الأول من الأخذ وهو الإغراق، وبيان ما نزل بهم من العقوبة حال الموت، ثم ما ينزل بهم في القبر في الآخرة، وتوضيح أن سبب العذاب أولا- الكفر بآيات الله، أي إنكار الدلائل الإلهية، وثانيا- التكذيب بآيات ربهم أي إنكار وجوه التربية والإحسان والنعمة، مع كثرتها وتواليها عليهم، فقوله: بِآياتِ رَبِّهِمْ زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق.
والخلاصة: لقد اجتمع في هؤلاء المعذّبين: الكفر بوجود الله ووحدانيته، وإنكار النعم التي أنعم الله بها عليهم.
وختم تعالى الكلام بقوله: وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ أي أن كلا من مشركي قريش وآل فرعون كانوا ظالمي أنفسهم بالكفر والمعصية، وظالمي سائر الناس بسبب الإيذاء، وأن الله إنما أهلكهم بسبب ظلمهم وذنوبهم، وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، أي كانوا هم الظالمين الذي عرّضوا أنفسهم لعذاب الله تعالى، ولا يظلم ربك أحدا.
وكان عذاب مشركي قريش مقصورا على القتل وسلب النعمة منهم بسبب كفرهم ومعاصيهم. وأما عذاب من قبلهم فكان عذاب استئصال كإغراق آل فرعون وإرسال الريح على عاد، والصيحة المجاوزة للحد في الشدة (وهي الطاغية) على ثمود.
فقه الحياة أو الأحكام:
ما أتعس حال الكفار، وإن انغمسوا في الثروة والأموال إلى ما شاء الله!! فإنهم في النتيجة آيلون إلى سوء المصير، فليست السعادة بالأموال والأولاد كما
39
يتوهم السطحيون، وإنما السعادة بالإيمان وطمأنينة القلب وتعمير الدنيا بالعمل الصالح للآخرة!! ما أشقى هؤلاء الكفار قاطبة في كل مكان وزمان، وليتهم اعتبروا بالعبر والعظات بمن سبقهم في التاريخ!! لقد اشتد إيذاء المشركين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وقاتلوهم قتالا عنيفا، وصادروا أموالهم في مكة، فماذا كانت النتيجة؟ هل حصدوا خيرا أم جنوا شرا وسوءا؟
إنهم قتلوا في بدر أشد قتلة، وضربوا قبل نزع أرواحهم بشدة وعنف أشد ضربة. ولو انكشف لنا حالهم أثناء تعذيب الملائكة لهم لرأينا العجب العجاب.
قال الحسن البصري: إن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشّراك «١» ؟ قال: ذلك ضرب الملائكة.
ثم إنهم يذوقون في عذاب النار أشد العذاب، والذوق حسي ومعنوي.
وليس تعذيبهم في الدنيا والآخرة ظلما أو جورا، فليس الله بظلام للعبيد، بعد أن أوضح السبيل وبعث الرسل، وأنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع، فما عليهم إلا أن يشتغلوا بالعبادة والشكر، ويعدلوا عن الكفر، فإذا بقوا في الفسق والكفر، فقد غيروا نعمة الله على أنفسهم، فاستحقوا تبديل النعمة بالنقمة، والمنحة بالمحنة. وهذا أدل شيء على أنه تعالى لا يبتدئ أحدا بالعذاب والمضرة، والذي يفعله لا يكون إلا جزاء على معاص من أنفسهم، ولو كان تعالى خلقهم وخلق أجسامهم وعقولهم ابتداء للنار، كما يزعم بعضهم، لما وافق ذلك عدل الله وحكمته ورحمته.
(١) الشراك: سير النعل، جمع أشرك.
40
إنهم أشبهوا قوم فرعون بالكفر والمعصية وإنكار وجود الله ووحدانيته، وتكذيب الرسل، وتبديل الجحود والعناد بالنعمة المستحقة للشكر.
إن مظهر تغيير آل فرعون ومشركي مكة نعمة الله عليهم، كان مقابلة الإله المنعم بجحوده وإنكاره وعبادة الأصنام، فسلبوا الخيرات التي أنعم الله عليهم، من ثمار كثيرة في مصر، وجلب الأرزاق لأهل مكة، وقد تتغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها، فلما بعث إليهم الرسل، كذبوهم وعادوهم وهموا بقتلهم، فغير الله حالهم إلى أسوأ مما كانت، وغير ما أنعم به عليهم من الإمهال إلى التعجيل بالعذاب.
معاملة من نقض العهد ومن ظهرت منه بوادر النقض
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٥ الى ٥٩]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)
الإعراب:
الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ بدل من قوله الَّذِينَ كَفَرُوا أي الذين عاهدت من الذين كفروا. وقوله: مِنْهُمْ للتبعيض.
فَانْبِذْ فعل أمر هو جواب الشرط، وفيه حذف تقديره: فانبذ إليهم العهد وقابلهم على إعلام منك لهم، وفي هذه الآية من لطيف الحذف والاختصار ما يدل على فصاحة القرآن وبلاغته.
عَلى سَواءٍ حال متساوية في العلم بنقض العهد.
41
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا، إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ: الَّذِينَ كَفَرُوا: فاعل، وسَبَقُوا: تقديره: أنهم سبقوا، فسد مسد المفعولين. وقرئ: ولا تحسبن، فيكون الَّذِينَ كَفَرُوا المفعول الأول، وسَبَقُوا: المفعول الثاني، كأنه قال: ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا سابقين. وإنهم لا يعجزون: ابتداء كلام، وقرئ بفتح: أن، على تقدير: لأنهم.
المفردات اللغوية:
الدَّوَابِّ جمع دابة: وهي في الأصل: كل ما دبّ على الأرض وغلب استعماله في الحيوانات ذوات الأربع، والمراد به هنا: الناس، وهو المعنى الأصلي للكلمة وهم بنو قريظة عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه وعلمه الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ألا يعينوا المشركين، وهم طوائف من يهود المدينة وَهُمْ لا يَتَّقُونَ الله في غدرهم. فَإِمَّا فيه إدغام نون إن الشرطية في «ما» المزيدة تَثْقَفَنَّهُمْ تجدنهم وتصادفنّهم، من ثقف الرجل: أدركه وظفر به فَشَرِّدْ بِهِمْ فرّق وبدّد وخوّف بهم، والتشريد: التفريق مع إزعاج، والمراد هنا: نكّل بهم تنكيلا وعاقبهم عقابا يخوّف غيرهم مَنْ خَلْفَهُمْ أي غيرهم من المحاربين ناقضي العهد، وهم كفار مكة وأعوانهم من المشركين.
لَعَلَّهُمْ أي الذين خلفهم يَذَّكَّرُونَ يتعظون بهم.
فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ فاطرح إليهم عهدهم وحاربهم عَلى سَواءٍ أي استواء أنت وهم في العلم بنقض العهد، بأن تعلمهم به، لئلا يتهموك بالغدر، أو على طريق واضح سوي لا خداع فيه ولا خيانة. سَبَقُوا أنهم فاتوا وأفلتوا من الظفر بهم إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ أي لا يعجزون الله في إدراكهم ولا يفوتونه، بل سيجازيهم على كفرهم. وهو تعليل على سبيل الاستئناف. وعلى قراءة الفتح أي أنهم فيه تصريح بالتعليل، قال البيضاوي: والأظهر أنه تعليل للنهي، أي لا تحسبنهم سبقوا فأفلتوا لأنهم لا يفوتون الله، أو لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم.
سبب النزول:
نزول الآية (٥٥) :
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ: قال ابن عباس: إنهم بنو قريظة نقضوا عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وأعانوا عليه بالسلاح في بدر، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالؤوا الكفار على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق، وركب زعيمهم كعب بن الأشرف إلى مكة، فحالفهم على محاربة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
42
نزول الآية (٥٩) :
وَإِمَّا تَخافَنَّ:
روى أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن ابن شهاب الزهري قال: دخل جبريل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: قد وضعت السلاح، وما زلت في طلب القوم، فاخرج فإن الله قد أذن لك في قريظة، وأنزل فيهم:
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً الآية.
وقال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآيات في ستة رهط من اليهود، منهم ابن تابوت. وقال مجاهد: نزلت في يهود المدينة، وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف، وهو فيهم كأبي جهل في مشركي مكة.
المناسبة:
بعد أن وصف الله تعالى كل الكفار بقوله: وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد. وبعد أن أبان تعالى حال مشركي قريش في قتالهم النبي والمؤمنين ببدر، ذكر حال فريق آخر قاتلوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وهو يهود الحجاز.
التفسير والبيان:
نزلت هذه الآيات في يهود بني قريظة، ومفادها: إن شر ما دبّ على وجه الأرض في حكم الله وعدله هم الذين كفروا ونقضوا العهد، فهم شر خلق الله لاتصافهم بصفتين: الإصرار على الكفر الدائم والعناد، ونقض العهد الذي عاهدوه وأكدوه بالأيمان، ولهم صفة ثالثة هي أنهم لا يتقون الله ولا يخافون منه في شيء ارتكبوه من الآثام، ولا يتقونه في غدرهم ونقض العهد.
وقد وصفهم الله بأنهم شر الدواب للإشارة إلى أنهم بلغوا درجة الدواب، بل هم شر منها لعدم وجود نفع منهم، كما قال تعالى في أمثالهم: إِنْ هُمْ إِلَّا
43
كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا
[الفرقان ٢٥/ ٤٤] أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف ٧/ ١٧٩].
وبعد أن أبان الله تعالى صفاتهم الثلاث وأخصها هنا تكرار نقض العهد، أبان حكم من نقض العهد وهو القتل، فقال: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ أي إن ظفرت بهم في الحرب، فافعل بهم فعلا يفرّق بهم من خلفهم، أي فنكّل بهم تنكيلا شديدا يخافك من وراءهم أو سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة، افعل هذا لعلهم يتعظون بهم، ويحذرون أن ينقضوا العهد، فيصنع بهم مثل ذلك.
وفي هذا دلالة على أن الحرب ليست مرغوبة، وإنما هي ضرورة لمنع البغي والعدوان وإعلاء كلمة الله، وإن القسوة مع ناقضي العهد أمر مطلوب للعظة والعبرة، حتى لا يعودوا هم وغيرهم إلى مثل صنيعهم.
وبما أن الوقاية خير من العلاج، أوضح الله تعالى أيضا حكم من ظهرت منه بوادر نقض العهد والخيانة بأمارة من الأمارات، فقال تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ....
أي إن توقعت من قوم معاهدين وغلب على ظنك خيانة بنقض العهد الذي بينك وبينهم، بأمارة ظاهرة وقرينة واضحة، فاطرح لهم عهدهم على سواء، أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، فتكون أنت وهم متساويين في العلم بنقض العهد، وبأنك حرب لهم وهم حرب لك، أي قيام حالة الحرب. والنبذ لغة: الرمي والرفض. والسواء: المساواة والاعتدال.
إن الله يكره الخيانة ويعاقب عليها، حتى ولو في حق الكفار، فلا يك منك إخفاء نكث العهد والخداع.
44
قال الإمام أحمد عن شعبة عن سليم بن عامر: كان معاوية يسير في أرض الروم، وكان بينه وبينهم أمد، فأراد أن يدنو منهم، فإذا انقضى الأمد غزاهم، فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدرا، إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «ومن كان بينه وبين قوم عهد، فلا يحلنّ عقدة، ولا يشدها، حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء» فبلغ ذلك معاوية، فرجع، فإذا بالشيخ عمرو بن عنبسة رضي الله عنه».
وروى الإمام أحمد أيضا عن سلمان الفارسي رضي الله عنه: أنه انتهى إلى حصن أو مدينة، فقال لأصحابه: دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يدعوهم فقال: إنما كنت رجلا منكم، فهداني الله عز وجل للإسلام، فإن أسلمتم فلكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون، وإن أبيتم نابذناكم على سواء: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع، غدا الناس إليها، ففتحوها بعون الله تعالى.
وروى البيهقي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «ثلاثة، المسلم والكافر فيهن سواء: من عاهدته فوفّ بعهده مسلما كان أو كافرا، فإنما العهد لله، ومن كانت بينك وبينه رحم فصلها، مسلما كان أو كافرا، ومن ائتمنك على أمانة فأدّها إليه، مسلما كان أو كافرا».
ثم أنذر الله تعالى الخائنين بما يحل بهم من عقاب، وبيّن حال من فات النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وغيره، لئلا يبقى حسرة في قلبه نحو من بلغ في إيذائه مبلغا عظيما، فقال: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا... أي لا يظننّ الذين كفروا أنهم فاتوا وأفلتوا من الظفر بهم، ونجوا من عاقبة خيانتهم، وأنهم فاتونا فلا نقدر عليهم، بل هم تحت قدرتنا وفي قبضة مشيئتنا، فلا يعجزوننا، كقوله تعالى:
(١) ورواه أيضا أبو داود الطيالسي عن شعبة، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحة من طرق عن شعبة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
45
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا، ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي يظنون [العنكبوت ٢٩/ ٤].
إنهم لا يعجزون الله تعالى ولا يفوتونه، وإنما سيجزون على كفرهم، كما قال تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، وَمَأْواهُمُ النَّارُ، وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [النور ٢٤/ ٥٧] وقال تعالى أيضا: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ [التوبة ٩/ ٢].
فالآية تطمين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه منتقم ممن كفروا وآذوه، وقطع لأطماعهم بالتغلب على المؤمنين.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآية الأولى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ... بيان أوصاف اليهود من بني قريظة، فهم كفرة، ناقضوا العهود على الدوام، لا يتقون الله في غدرهم وخيانتهم.
قال أهل المعاني: إنما عطف المستقبل ثُمَّ يَنْقُضُونَ... على الماضي الَّذِينَ كَفَرُوا... لبيان أن من شأنهم نقض العهد مرة بعد مرة.
قال ابن عباس: هم قريظة، فإنهم نقضوا عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر، ثم قالوا: أخطأنا، فعاهدهم مرة أخرى، فنقضوه أيضا يوم الخندق.
ثم أوضح الله تعالى ما يفعل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في حق من يجده في الحرب من ناقضي العهد وهو التنكيل الشديد، ليكون عبرة لغيره.
ثم ذكر ما يجب أن يفعله فيمن ظهر منه نقض العهد والغش في قوله:
فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ وهو نبذ العهد وإعلامه بانتهاء المعاهدة، حتى
46
يتساوى الطرفان في العلم بقيام حالة الحرب. حكى الطبري عن مجاهد: أن هذه الآية نزلت في بني قريظة وبني النضير. فآية فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ في شأن بني قريظة، الذين كانت خيانتهم ظاهرة مشهورة حين تحزبوا مع قريش في وقعة الخندق. وآية وَإِمَّا تَخافَنَّ تشمل بني النضير وغيرهم ممن تخاف خيانتهم.
وقد تساءل ابن العربي حول آية وَإِمَّا تَخافَنَّ ثم أجاب عن التساؤل، فقال: كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة، والخوف ظنّ لا يقين معه، فكيف يسقط يقين العهد بظنّ الخيانة؟
والجواب من وجهين:
أحدهما- أن الخوف هاهنا بمعنى اليقين، كما يأتي الرجاء بمعنى العلم، كقوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نوح ٧١/ ١٣].
الثاني- إنه إذا ظهرت آثار الخيانة، وثبتت دلائلها، وجب نبذ العهد، لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة، وجاز إسقاط اليقين هاهنا بالظن للضرورة «١».
أي أن قوله: تَخافَنَّ إما بمعنى تعلمنّ، وإما بمعنى تظنن، ويكفي الظن للضرورة.
وأما إذا علم اليقين فيستغنى عن نبذ العهد إليهم، وقد سار النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى أهل مكة عام الفتح لما اشتهر منهم نقض العهد، من غير أن ينبذ إليهم عهدهم.
وفي الآية دلالة واضحة على إيجاب الإسلام المحافظة على العهود مع الأعداء، وتحريم الخيانة معهم.
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «لكل غادر لواء يوم القيامة، يرفع له بقدر غدره، ألا
(١) أحكام القرآن: ٨/ ٨٦٠ [.....]
47
ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة»
والسبب أن غدره يفقد الثقة بعهوده ومصالحاته، فيعظم ضرره، ويكون ذلك منفّرا عن الدخول في الدين، وموجبا لذم أئمة المسلمين.
فأما إذا لم يكن للعدو عهد، فيمكن اتخاذ كل الحيل والخديعة معه، وعليه يحمل
قوله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر: «الحرب خدعة»
وإذا كان العدو اليوم مثل اليهود في الأرض المحتلة لا يعتد بعهد ولا ذمّة، فتكون مفاجأته من ألوان الفن الحربي.
وهل يجاهد مع الإمام الغادر؟ للعلماء رأيان: ذهب أكثرهم إلى أنه لا يقاتل معه، بخلاف الخائن والفاسق، وذهب بعضهم إلى الجهاد معه.
ثم ذكر الله تعالى حال من فاته العقاب يوم بدر، وظل على قيد الحياة، وهو أن شأنهم يسير هيّن على الله، فهم إن تخلصوا من الأسر والقتل لا يعجزون الله من الانتقام منهم في الآخرة، بل لا يعجزونه من العقاب في الدنيا حتى يظفر الله الرسول بهم.
والمقصود تسلية الرسول فيمن فاته، ولم يتمكن من التشفي والانتقام منه.
الإعداد الحربي لقتال الأعداء بحسب الطاقة والاستطاعة
[سورة الأنفال (٨) : آية ٦٠]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠)
الإعراب:
تُرْهِبُونَ بِهِ الهاء في بِهِ إما أن تعود على مَا أو على الرباط، أو على الإعداد المفهوم من قوله: وَأَعِدُّوا.
48
وَآخَرِينَ منصوب بالعطف على عَدُوَّ اللَّهِ أي ترهبون آخرين من دونهم.
البلاغة:
مِنْ قُوَّةٍ نكرة تفيد العموم، فتشمل الإعداد المادي بمختلف الأسلحة المناسبة للعصر، المتطورة حسبما يوجد لدى العدو، المصنّعة في داخل البلاد الإسلامية، وتشمل أيضا الإعداد المعنوي والروحي من حفز المواهب والقوى وإعداد الجيل إعدادا حربيا، وتسليحه بالعقيدة الإسلامية الحقة، وبالأخلاق الدينية الصالحة، وبغير ذلك لا نصر على العدو.
المفردات اللغوية:
وَأَعِدُّوا الإعداد: التهيئة للمستقبل. لَهُمْ لقتالهم. مِنْ قُوَّةٍ
قال صلّى الله عليه وآله وسلم ثلاثا فيما رواه مسلم: «ألا إن القوة: الرمي»
وهي الآن: كل ما يتقوى به في الحرب. وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ رباط الخيل: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، فالمراد من رباط الخيل: حبسها واقتناؤها في سبيل الله وإعدادها للجهاد باعتبار أنها كانت في الماضي أداة الحرب المهمة. تُرْهِبُونَ بِهِ تخوفون من الإرهاب والترهيب: وهو الإيقاع في الرهبة: وهي الخوف المقترن بالاضطراب.
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ هم في الماضي كفار مكة، والآن: كل من يعادي الإسلام ويتآمر عليه وعلى المسلمين. وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أي غيرهم وهم المنافقون أو اليهود. يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه إليكم. وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ لا تنقصون منه شيئا.
المناسبة:
بعد أن أمر الله رسوله بتشريد ناقضي العهد، ونبذ العهد إلى من خاف منه النقض، أمره في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار، وهذا أمر طبيعي يستتبع نقض العهد وقيام حالة الحرب.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى المؤمنين بإعداد آلات الحرب المناسبة لكل عصر، وإعداد الجيش المقاتل على أرفع المستويات لأن الجيش درع الأمة وحصنها المنيع، وذلك بحسب الطاقة والإمكان والاستطاعة.
فقال:
49
أنواع القوى المادية والمعنوية المناسبة لكل زمان ومكان، ومن مرابطة الخيول في الثغور والحدود لأنها منفذ الأعداء ومواطن الهجوم على البلاد، وقد كانت الخيول أداة الحرب البرية الرهيبة في الماضي، وما تزال لها أهميتها أحيانا في بعض ظروف الحرب الحاضرة، مثل حال استعمال السلاح الأبيض والتجسس ونقل بعض المؤن والذخيرة في الطرق الجبلية، وإن كان الدور الحاسم اليوم هو لسلاح الطيران، والمدافع، والدبابات، والغواصات البحرية، فصار ذلك هو المتعين إعداده بدلا من الخيول لأن المهم تحقيق الأهداف، وأما الوسائل والآلات فهي التي يجب إعدادها بحسب متطلبات العصر، ويكون المقصود هو إعداد جيش دائم مستعد للدفاع عن البلاد، ويتم ذلك بالمال المخصص لهذه المهمة، ودعمه بالسلاح الذي ينفق عليه من المسلمين بحسب الطاقة. وقد خص الله الخيل بالذكر، وإن كانت داخلة في القوة، تشريفا لها، وتكريما، واعتدادا بأهميتها.
ثم ذكرت الآية سبب الإعداد وهدفه وهو إرهاب عدو الله وعدو المسلمين من الكفار الذين ظهرت عداوتهم كمشركي مكة في الماضي، وإرهاب العدو الخفي الموالي لهؤلاء الأعداء، سواء أكان معلوما لنا أم غير معلوم، بل الله يعلمهم لأنه علام الغيوب. وهذا يشمل اليهود، والمنافقين في الماضي، ومن تظهر عداوته بعدئذ مثل فارس والروم، وسلالاتهم في دول العالم المعاصر.
وبغير الإعداد الملائم للحرب في كل عصر لا يصان السّلام، وصون السّلام عرفا وعادة وعقلا لا يكون إلا بآلات الحرب الحديثة.
وبما أن الإعداد للجهاد لا يتوافر بغير المال، حثّ القرآن على الإنفاق في سبيله، فقال تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ... أي أن كل شيء قليل أو كثير تنفقونه في الجهاد في سبيل الله، فإنه يوفى لصاحبه، ويجازى عليه على أتم وجه وأكمله، ولا ينقص منه شيء. جاء
في الحديث الذي رواه أبو داود: أن الدرهم
50
يضاعف ثوابه في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف
، كما نص تعالى في قوله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة ٢/ ٢٦١].
وقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ عام في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات.
وهذا يدل على أن الإعداد الحربي متوقف على إنفاق المال الكثير في سبيله.
ومردود النفقة في الواقع يعود إلى المنفق في الدنيا بتحصين ماله وأرضه وتجارته وصناعته مثلا، وفي الآخرة بالظفر في جنان الخلد جزاء ما قدم، كما قال تعالى:
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ، وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة ٢/ ٢٧٢].
فقه الحياة أو الأحكام:
ما تزال الأمم قديما وحديثا تعنى بإعداد وتجهيز الجيوش الضاربة المقاتلة للدفاع عن وجودها وعزتها وكرامتها، وحماية حدودها، وصون أمنها ومجدها ورخائها.
لذا أمر الله المؤمنين بالإعداد الدائم للقوة الحربية لمواجهة الأعداء، وفي هذا كما أشارت الآية إرهاب للعدو، ومنعه من التفكير في العدوان على الأمة والمقدسات.
وبما أن الإعداد المادي والأدبي والفني للجهاد متوقف على الدعم المالي، أوجب الله على المؤمنين المساهمة في الإنفاق على متطلبات القتال بحسب الحاجة وعلى قدر الطاقة والسعة.
وقد استدل بعض علماء المالكية بهذه الآية على جواز وقف الخيل والسلاح، واتخاذ الخزائن والخزّان لها، عدّة للأعداء. وقد اختلف العلماء في جواز وقف
51
الحيوان كالخيل والإبل على قولين: قول بالمنع وهو لأبي حنيفة، وقول بالصحة وهو قول الشافعي والجمهور، وهو أصح لهذه الآية،
وقوله عليه الصلاة والسّلام في حق خالد: «وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا، فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده «١» في سبيل الله»
ولأنه مال ينتفع به في وجه يعد قربة، فجاز أن يوقف كالديار والأراضي.
إيثار السّلام وتوحيد الأمة وتحريضها على القتال
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦١ الى ٦٦]
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
(١) الأعتاد: آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها.
52
الإعراب:
حَسْبُكَ اللَّهُ مبتدأ وخبر، والمعنى: يكفيك الله، فكأنه قال: يكفيك الله وتابعك.
وَمَنِ اتَّبَعَكَ الواو بمعنى (مع) وما بعده منصوب، تقول: حسبك وزيدا درهم، ولا تجرّ لأن عطف الظاهر المجرور على المكني ممتنع، والمعنى: كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصرا.
ومَنِ: إما مرفوع عطفا على لفظ اللَّهُ أي حسبك الله وتابعوك، أو مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: ومن اتبعك من المؤمنين كذلك. وإما منصوب بالحمل في العطف على المعنى.
وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ... فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ... من قرأ يكن بالياء على التذكير فللفصل بين الفعل والفاعل، ومن قرأ بالتاء فلتأنيث المائة.
البلاغة:
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ... الآية فيها ما يسمى بالإطناب، للتذكير بنعمة الله العظمى على الرسول والمؤمنين، وهي نعمة التأليف ووحدة الأمة.
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ فيه ما يسمى بالاحتباك وهو إثبات قيد الصبر في الشرط الأول، وحذف نظيره من الشرط الثاني، وإثبات صفة الكفر من الآية الثانية وحذفها من الأولى، ثم ختمت الآية بالصابرين للمبالغة في الطلب.
المفردات اللغوية:
وَإِنْ جَنَحُوا مالوا. لِلسَّلْمِ بكسر السين وفتحها: الصلح، والإسلام دين السّلام، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة ٢/ ٢٠٨]. فَاجْنَحْ لَها مل إليها وعاهدهم. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثق به. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ للقول. الْعَلِيمُ بالفعل.
أَنْ يَخْدَعُوكَ بالصلح ليستعدوا للحرب. فَإِنَّ حَسْبَكَ كافيك وناصرك عليهم.
حَرِّضِ حث على القتال. بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم. قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي لا يدركون حكمة الحرب وما تؤدي إليه من سعادة الدنيا والآخرة.
إِنْ يَكُنْ هذا خبر بمعنى الأمر، أي ليقاتل العشرون منكم المائتين، والمائة ألفا، ويثبتوا لهم، ثم نسخ ذلك لما كثروا، بالآية التالية.
أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً عن قتال الواحد عشرة أمثاله. بِإِذْنِ اللَّهِ بإرادته. وَإِنْ يَكُنْ خبر بمعنى الأمر أي لتقاتلوا مثليكم وتثبتوا لهم. مَعَ الصَّابِرِينَ أي يعينهم.
53
سبب النزول:
نزول الآية (٦٤) :
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ: قال الزمخشري في الكشاف نقلا عن الكلبي:
هذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال. وهذا هو الراجح.
وقيل: نزلت في إسلام عمر، والآية مكية، كتبت بأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في سورة مدنية، كما ذكر القشيري. قال ابن عباس: نزلت في إسلام عمر فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان أسلم معه ثلاثة وثلاثون رجلا، وست نسوة فأسلم عمر، وصاروا أربعين.
وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: لما أسلم مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا، وست نسوة، ثم أسلم عمر، نزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ
الآية.
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال: لما أسلم عمر، أنزل الله في إسلامه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ الآية.
لكن ورد في السيرة خلاف ما ذكر عن إسلام عمر، قال ابن مسعود: ما كنا نقدر على أن نصلّي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا، حتى صلّى عند الكعبة، وصلينا معه. وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى الحبشة. قال ابن إسحاق: وكان جميع من لحق بأرض الحبشة، وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا، أو ولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا.
نزول الآية (٦٥) :
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ: أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده
54
عن ابن عباس قال: لما افترض الله عليهم أن يقاتل الواحد عشرة، ثقل ذلك عليهم وشق، فوضع الله ذلك عنهم إلى أن يقاتل الواحد رجلين، فأنزل الله:
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ... الآية وما بعدها.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى بإعداد العدة لإرهاب الأعداء، أمر هنا بالصلح القائم على العزة والكرامة، وأنه عند توافر الرهبة إذا مالوا إلى الصلح، فالحكم قبول الصلح لأن الحرب ضرورة لرد العدوان، وتحقيق حرية نشر الإسلام، ومنع الظلم والطغيان، والضرورة تقدر بقدرها، فلا يلجأ إليها إلا إذا استعصت الحلول السلمية.
التفسير والبيان:
بعد توافر الإعداد الحربي والاستعداد التام للجهاد إن مال العدو إلى طلب الصلح، وآثر السلم على الحرب والقتال، فالحكم قبول الصلح حسبما يرى الإمام من المصلحة، قال الزمخشري: والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله، من حرب أو سلم، وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا، أو يجابوا إلى الهدنة أبدا «١».
ومعنى الآية: وإن جنح، أي مال الأعداء إلى السلم أو الهدنة والصلح، فمل إليها لأنك أولى بالسلم منهم، وصالحهم وتوكل على الله أي ثق به، وفوّض الأمر إليه، ولا تخف من مكرهم وغدرهم في جنوحهم إلى السلم، فإن الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم، والله سميع لما يقولون، عليم بما يفعلون.
(١) الكشاف: ٢/ ٢٢
55
وإن يريدوا بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا، فالله يكفيك أمرهم وينصرك عليهم، فهو كافيك وحده.
وهذا دليل واضح على إيثار السلم وتفضيله على الحرب لأن الإسلام دين السّلام والهداية والمحبة، ولا يلجأ في شرعه إلى القتال إلا عند وجود الظروف القاهرة، والضرورات الملجئة.
ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم تسع سنين، أجابهم إلى ذلك، مع ما اشترطوا من شروط مجحفة في حق المسلمين.
روى عبد الله ابن الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إنه سيكون اختلاف أو أمر، فإن استطعت أن يكون السلم فافعل».
وأما ما نقل عن ابن عباس وجماعة آخرين من التابعين: أن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [٢٩] ففيه نظر، كما ذكر ابن كثير لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إذا كان العدو كثيفا، فإنه يجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص «١».
ثم ذكر الله تعالى نعمته عليه بما أيده من المؤمنين: المهاجرين والأنصار، فقال: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ أي لا تأبه بمكرهم وخديعتهم، فإن الله أيدك بنصره ومعونته، وأيدك بالمؤمنين، وجعلهم أمة متآلفة واحدة على الإيمان بك وعلى طاعتك، وعلى مناصرتك ومؤازرتك، فكان التأييد على
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٣٢٢- ٣٢٣
56
قسمين: تأييد مباشر من الله من غير توسط أسباب معلومة، وتأييد معتمد على أسباب معتادة معلومة.
ثم أبان الله تعالى كيفية تأييده بالمؤمنين وتوحيد صفوفهم، فقال:
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ... أي إنه تعالى جعلهم أمة واحدة متآلفة، متعاونة في مناصرتك، بعد ما كان بينهم من العداوة والبغضاء إثر منازعات وحروب طويلة في الجاهلية، كما كان الحال بين الأوس والخزرج من الأنصار، ثم أزال الله كل تلك الخلافات بنور الإيمان، كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها...
[آل عمران ٣/ ١٠٣].
ولو أنفقت جميع ما في الأرض من أموال، ما استطعت تأليف قلوبهم، وجمع كلمتهم، ولكن الله بهدايتهم للإيمان، وتوحيدهم على صراط مستقيم سوي، أمكنه بقدرته وحكمته التأليف بينهم.
وهذا دليل واضح على أن من أهم أسباب النصر هو التآلف واتحاد الكلمة.
ولم يقتصر التأليف على تسوية المنازعات الجاهلية القديمة، وإنما شمل تسوية المنازعات الجديدة التي حدثت بعد الإسلام، كما وقع من خلاف بين المهاجرين والأنصار، حين قسمة الغنائم في حنين، جاء
في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلّالا، فهداكم الله بي، وعالة «١» فأغناكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي» كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمنّ.
ولهذا قال تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي إنه تعالى
(١) أي فقراء.
57
قوي غالب على أمره، لا يغلبه خداع الخادعين، ولا مكر الماكرين، ولا يخيب رجاء من توكل عليه، حكيم في أفعاله وأحكامه.
وذكر الحافظ أبو بكر البيهقي عن ابن عباس قال: «قرابة الرحم تقطع، ومنة النعمة تكفر، ولم ير مثل تقارب القلوب» يقول الله تعالى: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ.
وبعد أن وعد تعالى رسوله بالنصر عند مخادعة الأعداء، وعده بالنصر والظفر في جميع الحالات في الدين والدنيا، فلا تكرار، فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ... أي إن الله كافيك ما يهمك من شؤونهم وناصرك ومؤيدك على عدوك، وإن كثرت أعداده، وتزايدت أمداده، ولو قلّ عدد المؤمنين، وحسبك وكافيك من تبعك وآمن بك من المؤمنين.
لكن وإن كان يكفيك الله بنصره وبنصر المؤمنين، فلا يعني ذلك تعطيل الأسباب والأخذ بالوسائل المطلوبة عادة للقتال، فلا تتكل على ذلك وحده، وإنما عليك أن تحرض المؤمنين على القتال، فإنه تعالى يكفيك بشرط أن يبذلوا النفس والمال في المجاهدة. والتحريض: الحث على الشيء.
ثم قال: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وليس المراد منه الإخبار، بل المراد الأمر، كأنه قال: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ أي إن يوجد منكم عشرون صابرون ثابتون في مواقعهم، يغلبوا بإيمانهم وصبرهم وفقههم مائتين من الكفار ليست عندهم هذه الخصال الثلاث، لذا قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي أن السبب في هزيمة الكفار أنهم قوم جهلة لا يدركون حكمة الحرب كما تدركونها، فهم إنما يقاتلون بقصد مجرد التفوق والاستعلاء، وأنتم تقاتلون لإعلاء كلمة الله، من إصلاح العقيدة، والتطهر من الوثنية، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، وإظهار
58
العبودية لله عز وجل بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ [النساء ٤٤/ ٧٦] وقال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ [الحج ٢٢/ ٤١].
ثم إنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء، وأما أنتم فتنتظرون إحدى الحسنيين من الغنيمة والنصر أو الشهادة في سبيل الله والظفر بالجنة.
وفي الآية عدة من الله وبشارة بأن جماعة المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله تعالى وتأييده. وفيها أيضا أن من شأن المؤمنين أن يكونوا واعين لأهداف القتال، يعملون لما يرضي الله عز وجل، وأن يكونوا أعلم من الكافرين بكل ما يصلح حياة البشر وارتقاء الأمم. أما الكفار والمشركون واليهود والنصارى فهم قوم ماديون يبغون من حروبهم مجرد التسلط والشهرة وإذلال الشعوب الأخرى.
ووقوف المسلم أمام عشرة من الكفار كان في مبدأ الأمر حيث كان المسلمون قلة، فطولبوا بالمرتبة العليا من الأفعال الكريمة وهي مرتبة العزيمة، وأما بعد أن كثر المسلمون، فلم يطالبوا إلا بما هو رخصة وتيسير وسهولة، لذا جاءت الآية التالية مخففة نوع التكليف، فقال تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ أي لما أوجب الله على المسلم الواحد مقاومة العشرة والثبات لهم، وثقل ذلك عليهم، خفف عنهم إلى مرتبة أقل منها، هي مقاومة الواحد الاثنين، فإن يكن منكم مائة صابرة، بعد أن علم فيكم ضعفا في البدن من كثرة الجهاد والعمل، يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف صابرون يغلبوا ألفين بإذن الله وقوته ومشيئته، والله دائما مع الصابرين بالمعونة والتأييد والرعاية. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما نزلت: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ شقّ ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفرّ الواحد من عشرة،
59
فجاء التخفيف فقال: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ... الآية قال: فلما خفف الله عنهم من العدة، نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
وفي كلا الحالين يطالب المسلمون القلة بمقاومة الجماعة الأكثر منهم لأن العبرة بالانضباط والصبر، والحزم والعزم، وصدق الإيمان، واتباع أوامر الله تعالى. وقوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
تحذير للمؤمنين من الاعتماد على الإيمان وحده لتحقيق النصر والغلبة، فإنه لا بد مع الإيمان من أوصاف أخرى، أهمها الصبر والثبات، والإعداد المادي والنفسي الدائم، والمعرفة بحقائق الأمور، ومقاصد الجهاد.
وقد تكرر الأمر بالثبات فردا وجماعة والصبر في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى في الثبات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال ٨/ ٤٥] وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [الصف ٦١/ ٤] وقوله تعالى في الصبر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران ٣/ ٢٠٠] وقوله: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، وَاصْبِرُوا، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال ٨/ ٤٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت آية وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ على الأمر بقبول عقد الصلح والمهادنة أو المسالمة إن مال إليه العدو، وعلى الأمر بالتوكل على الله، أي تفويض الأمر فيما عقد من صلح إلى الله، ليكون عونا على السلامة، والنصر عليهم إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء. ونبه تعالى في آخر الآية بقوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ على الزجر عن نقض الصلح لأنه تعالى عالم بما يضمره العباد، وسامع لما يقولون.
وفي هذا دلالة واضحة على أن الإسلام يؤثر السلم على الحرب، ويوجب
60
الوفاء بالمعاهدات والمصالحات، ويحرم المبادرة إلى الغدر والخيانة ونقض العهود.
وقد أثير خلاف حول هذه الآية، هل هي منسوخة أو لا؟ فقال قتادة وعكرمة: نسخها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٩/ ٥] وقوله:
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة ٩/ ٣٦] وقالا: نسخت براءة كل موادعة، حتى يقولوا: لا إله إلا الله. وقال ابن عباس الناسخ لها: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [محمد ٤٧/ ٣٥].
وقال جماعة: ليست بمنسوخة، لكنها تضمنت الأمر بالصلح إذا كان فيه المصلحة، فإذا رأى الإمام مصالحتهم، فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة، وإن كانت القوة للمشركين، جاز مهادنتهم للمسلمين عشر سنين، ولا يجوز الزيادة عليها، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فإنه هادن أهل مكة عشر سنين، ثم إنهم نقضوا العهد قبل كمال المدة.
وصالح أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة كثيرا من بلاد العجم على ما أخذوه منهم، وتركوهم على ما هم فيه، وهم قادرون على استئصالهم.
وصالح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها، فنقض صلحهم.
وقد صالح الضّمري (مخشي بن عمرو، من بني ضمرة بن بكر، في غزوة الأبواء) وأكيدر دومة (أكيدر بن عبد الملك، من كندة، ودومة: هي دومة الجندل، مدينة قريبة من دمشق) وأهل نجران. وقد هادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده.
وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل عاملة وسالكة.
والخلاصة كما ذكر ابن العربي: إذا كان للمسلمين قوة وعزة ومنعة فلا صلح،
61
وإن كان لهم مصلحة في الصلح، لنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه فلا بأس بالصلح. «١»
وقد نقلت سابقا عن ابن كثير ترجيحه أن الآية غير منسوخة وغير مخصصة، ولا منافاة بينها وبين أوامر القتال، فهذه الأوامر عند الاستطاعة، والصلح عند العجز وقوة العدو وعدم التكافؤ بين قوتنا وقوته. وكذلك قال الجصاص: قد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عاهد حين قدم المدينة أصنافا من المشركين منهم النضير وبنو قينقاع وقريظة، وعاهد قبائل من المشركين، ثم كانت بينه وبين قريش هدنة الحديبية إلى أن نقضت قريش ذلك العهد بقتالها خزاعة حلفاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم يختلف نقلة السير والمغازي في ذلك، وذلك قبل أن يكثر المسلمون.
فلما كثر المسلمون لم يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف بقوله تعالى:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ويقاتل أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية بقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. وما ذكر من الأمر بالمسالمة إذا مال المشركون إليها حكم ثابت أيضا.
وعقد الصلح جائز غير لازم للمسلمين باتفاق العلماء، فيجوز نبذه إذا ظهرت أمارات الخيانة والنقض والغدر.
ويجوز- كما
ذكر ابن العربي- عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال، يبذلونه للعدو، بدليل موادعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لعيينة بن حصن وغيره يوم الأحزاب، على أن يعطيه نصف تمر المدينة، فقال له السعدان: إن كان هذا الأمر من قبل الله فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر به، ولك فيه هوى، فسمع وطاعة، وإن كان الرأي والمكيدة، فأعلمنا به، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: إنما هو الرأي والمكيدة لأني رأيت العرب قد رمتكم بقوس واحدة، فأردت أن أدفعها عنكم إلى يوم. فقال
(١) أحكام القرآن: ٣/ ٦٩
62
السعدان: إنا كنا كفارا، وما طمعوا منها بتمرة إلا بشراء أو بقرى، فإذ أكرمنا الله بك، فلا نعطيهم إلا السيف، وشقّا الصحيفة التي كانت كتبت «١».
ودلت آية: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ على حكم من أحكام الصلح، وهو أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة، وجب قبول ذلك الصلح لأن الحكم يبنى على الظاهر، كما يبنى الإيمان على الظاهر.
وأرشدت آية وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ إلى أن تألف القلوب الشديدة في العرب من آيات النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته لأن أحدهم كان يلطم اللطمة، فيقاتل عنها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حميّة، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدّين.
والله تعالى أيّد نبيه بمناسبة الصلح مع المشركين في حالين: خاصة وعامة، وليس ذلك من قبيل التكرار، ففي الآية الأولى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ كفاية خاصة، وهي حال الخديعة، أي وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء. وفي الآية الثانية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ كفاية عامة أي حسبك الله وكافيك وناصرك في كل حال.
واستدل أهل السنة بقوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ على أن أحوال القلوب والعقائد والإرادات والكرامات، كلها من خلق الله تعالى، بسبب الإيمان ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسّلام «٢».
ودلت هذه الآية أيضا على أن العرب كانوا قبل الإسلام في خصومة دائمة ومحاربة شديدة، يقتل بعضهم بعضا، ويغير بعضهم على بعض، فلما آمنوا بالله
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٢/ ٨٦٥
(٢) تفسير الرازي: ١٥/ ١٨٩
63
ورسوله واليوم الآخر، زالت الخصومات، وحصلت المودة التامة والمحبة الشديدة.
وقد أيد الله رسوله بمعونته ونصرته وبالمؤمنين من المهاجرين، وهذه آية ربانية ومعجزة أخرى للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم الذي كان فردا وحده يدعو إلى الإسلام، فأيده الله بتوفيقه، وحماه بالمؤمنين التابعين من حوله، في مكة والمدينة.
وأرشدت آية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إلى أن الواجب على المسلمين الإقدام على الجهاد بروح وثابة عالية، وشجاعة فائقة، وصبر شديد، وعزيمة لا تلين، حتى إنه كان المسلم مطالبا في مبدأ الأمر بالصمود أمام العشرة من الأعداء، ثم خفف الله عنه، فاكتفي بمطالبته بالثبات أمام اثنين فقط.
وهذا بدليل قول ابن عباس المتقدم، فإن الثبات أمام العدو فرض على المسلمين، لا اختيار لهم فيه، ويحرم عليهم الانهزام أمام ضعفي العدد لأن قوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ... وإن ورد بصيغة الخبر، فالمراد به الأمر، والأمر يقتضي الوجوب لأن التخفيف إنما يكون في المأمور به، لا في المخبر عنه. ونظرا لوجود التخفيف، فلا محالة- كما قال الجصاص- قد وقع النسخ عن المسلمين فيما كلفوا به أولا، ولم يكن أولئك القوم قد نقصت بصائرهم، ولا قلّ صبرهم، وإنما خالطهم قوم لم يكن لهم مثل بصائرهم ونياتهم، وهم المعنيون بقوله تعالى: وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً «١».
ودل قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ على أنه لا تقع الغلبة إلا بإذن الله، أي إرادته.
ودل قوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ على تأييد الله الصابرين وإعانتهم.
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٧١
64
ودل قوله تعالى: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ على وجود فوارق بين قتال المسلمين وقتال الأعداء، وتلك الفوارق توضح علة الغلبة والنصر وهي:
١- من حيث الهدف: إن هدف غير المؤمن بالله وبالمعاد هو مجرد الاستمتاع بالحياة الدنيا والسعادة فيها، فيكون متمسكا بها، حريصا عليها، هيابا من الموت. أما المؤمن فيعتقد ألا سعادة في هذه الحياة، وأن السعادة لا تكون إلا في الآخرة، فلا يبالي بالحياة الدنيا، ويقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح، حتى إنه يقاوم العدد الكثير.
٢- من حيث الوسيلة: يعتمد الكفار على قوتهم وشوكتهم، ويستعين المسلمون بربهم بالدعاء والتضرع، فيكون النصر والظفر لهم أولى.
٣- من حيث الباعث: إن قلب الكافر خاو من نور الله والإيمان به والعلم والمعرفة، فيكون جبانا ضعيفا عند القتال. وأما قلب المؤمن فيستضيء بنور الله ومعرفته، فيقوى قلبه وتكمل روحه، فيقدم على القتال بروح عالية لا تعرف التردد والضعف.
شرط اتخاذ الأسرى وقبول الفداء منهم وإباحة الانتفاع به
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٧ الى ٧١]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)
65
الإعراب:
كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ كِتابٌ: مبتدأ مرفوع، مِنَ اللَّهِ: صفة له، تقديره: ثابت من الله، وسَبَقَ: فعل ماض، محله إما مرفوع على أنه صفة أخرى لكتاب، وإما منصوب على أنه حال من الضمير الذي في الظرف أي مِنَ اللَّهِ. وخبر المبتدأ محذوف تقديره: لولا كتاب بهذه الصفة تدارككم، لمسّكم. ولا يجوز جعل سَبَقَ خبر المبتدأ لأن الخبر بعد لولا لا يجوز إظهاره.
حَلالًا طَيِّباً حَلالًا: منصوب على الحال من مِمَّا أي المغنوم، أو صفة للمصدر، أي أكلا حلالا، وفائدته: إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة، أو حرمتها على الأولين، ولذلك وصفه بقوله: طَيِّباً.
وقوله: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ أي من الفدية فإنها من جملة الغنائم، والفاء للتسبب، ولسبب محذوف تقديره: أبحت لكم الغنائم فكلوا، وهو دليل لمن قال: إن الأمر الوارد بعد الخطر للإباحة.
المفردات اللغوية:
ما كانَ لِنَبِيٍّ ما صح وما ينبغي له وما شأنه. يُثْخِنَ يكثر القتل ويبالغ فيه.
تُرِيدُونَ أيها المؤمنون. عَرَضَ الدُّنْيا حطامها بأخذ الفداء من الأسرى. وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يريد لكم ثواب الآخرة بقتلهم. وَاللَّهُ عَزِيزٌ قوي لا يغلب وإنما يغلب أولياءه على أعدائه. حَكِيمٌ في صنعه وحكمه يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها. كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح وهو ألا يعذب المخطئ في اجتهاده، أو ألا يعذبكم والرسول فيكم وأنتم تستغفرونه من ذنوبكم، أو بإحلال الغنائم والأسرى لكم. لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ من الفداء.
إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً إيمانا وإخلاصا. يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء بأن يعوضكم عنه في الدنيا ويثيبكم في الآخرة. وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم.
66
وَإِنْ يُرِيدُوا أي الأسرى. خِيانَتَكَ بما أظهروا من القول. مِنْ قَبْلُ قبل بدر بالكفر. فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ببدر قتلا وأسرا، فليتوقعوا مثل ذلك إن عادوا. عَلِيمٌ بخلقه.
حَكِيمٌ في صنعه.
سبب النزول:
نزول الآية (٦٧) :
ما كانَ لِنَبِيٍّ:
روى أحمد وغيره عن أنس قال: استشار النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الأسارى يوم بدر، فقال: إن الله قد أمكنكم منهم، فقام عمر بن الخطاب فقال:
يا رسول الله، اضرب أعناقهم، فأعرض عنه، فقام أبو بكر فقال: نرى أن نعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء، فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء، فأنزل الله:
كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الآية.
وروى أحمد والترمذي والحاكم عن ابن مسعود قال: لما كان يوم بدر، وجيء بالأسارى، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ الحديث.
وفيه: فنزل القرآن بقول عمر: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى الآيات.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: لم تحل الغنائم، لم تحل لأحد سود الرؤوس من قبلكم، كانت تنزل نار من السماء، فتأكلها، فلما كان يوم بدر وقعوا في الغنائم قبل أن تحل لهم، فأنزل الله: كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ، لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
وأخرج ابن المنذر عن نافع عن ابن عمر قال: اختلف الناس في أسارى بدر، فاستشار النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أبا بكر وعمر، فقال أبو بكر: فادهم، وقال عمر:
اقتلهم، فقال قائل: أرادوا قتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهدم الإسلام، ويأمره أبو بكر بالفداء، وقال قائل: لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه ما أمر بقتلهم.
67
فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بقول أبي بكر، ففاداهم فنزل: كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فقال رسول الله: إن كاد ليمسّنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر».
فهذه الروايات تدل بالاتفاق على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أخذ برأي أبي بكر، وقبل الفداء من أسرى بدر، وتذكر الرواية الثانية والرابعة أن القرآن نزل تشريعه موافقا لرأي عمر، وتنفرد الرواية الثانية عند الترمذي أن نزول الآية كان بسبب أخذ الغنائم قبل أن تحل لهم.
وفي رواية خامسة عند ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن الأعمش عن ابن مسعود توضيح أكثر، يجعل الآراء ثلاثة، قال: لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأصلك استبقهم واستأن بهم لعل الله عز وجل يتوب عليهم. وقال عمر: كذبوك وأخرجوك، فقدمهم فاضرب أعناقهم. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر واديا كثير الحطب، فأدخلهم فيه، ثم أضرم عليهم نارا، فقال العباس: قطعت رحمك، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ولم يجبهم.
ثم دخل، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله، ثم خرج عليهم فقال: إن الله عز وجل ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله عز وجل ليشدّد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة. وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم ١٤/ ٣٦] وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة ٥/ ١١٨]. وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ،
68
وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ
[يونس ١٠/ ٨٨] ومثلك يا عمر كمثل نوح قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح ٧١/ ٢٦].
ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أنتم اليوم عالة، أنتم اليوم عالة، فلا ينفلتنّ منهم أحد، إلا بفداء أو ضرب عنق؟ قال ابن مسعود: فأنزل الله عز وجل:
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الآيات «١».
وتنفرد رواية سادسة ذكرها مسلم وأحمد عن عكرمة بن عمارة عن ابن عباس في وصف حال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وصاحبه أبي بكر بعد نزول الآية، وتصرح بأن الذين اختاروا الفداء كثيرون، قال:
حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر والتقوا، فهزم الله المشركين، وقتل منهم سبعون رجلا، وأسر سبعون رجلا، استشار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أبا بكر وعمر وعليا، فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم، فيكونوا لنا عضدا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟
قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه، وتمكّن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكّن حمزة من فلان أخيه، فيضرب عنقه، حتى يعلم الله عز وجل أنه ليس في قلوبنا موادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم، فهوي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فأخذ منهم الفداء.
فلما كان من الغد، قال عمر: غدوت إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فإذا هو قاعد، وأبو بكر الصديق، وإذا هما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني، ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت؟
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ١٣٦ وما بعدها.
69
فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: أبكي للذي عرض على أصحابك من الفداء، لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة، لشجرة قريبة، وأنزل الله عز وجل: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إلى قوله: كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ
أي من الفداء وهذه الرواية أجمع الروايات وأصحها وأولاها بالاحتجاج بها.
والخلاصة: كان الأولى قتل الأسرى، وكان أخذ الفداء باجتهاد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وكل اجتهاد عرضة للخطأ والصواب، لكن اجتهاد المصطفى لا يقر فيه على الخطأ.
روى ابن المنذر عن قتادة قال: أراد أصحاب محمد الفداء يوم بدر، ففادوهم بأربعة آلاف، أربعة آلاف.
وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة.
نزول الآية (٧٠) :
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ: روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: قال العباس: فيّ والله نزلت حين أخبرت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بإسلامي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي وجدت معي، فأعطاني بها عشرين عبدا، كلهم تاجر بمالي في يده، مع ما أرجو من مغفرة الله.
وفي رواية أخرى أكثر إيضاحا،
قال الكلبي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى الآية: نزلت في العباس بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وكان العباس أسر يوم بدر، ومعه عشرون أوقية من الذهب، كان خرج بها معه إلى بدر ليطعم بها الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا إطعام أهل بدر، ولم يكن بلغته التّوبة حتى أسر، فأخذت معه وأخذها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم منه، قال:
70
فكلمت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن يجعل لي العشرين أوقية الذهب التي أخذها مني من فدائي، فأبى عليّ وقال: أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا، وكفلني فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية من فضة، فقلت له: تركتني والله أسأل قريشا بكفي، والناس، ما بقيت. قال: فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل مخرجك إلى بدر، وقلت لها: إن حدث بي حدث في وجهي هذا، فهو لك ولعبد الله والفضل وقثم، قال: قلت: وما يدريك؟ قال: أخبرني الله بذلك، قال: أشهد أنك لصادق، وإني قد دفعت إليها ذهبا، ولم يطلع عليها أحد إلا الله، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.
قال العباس: فأعطاني الله خيرا مما أخذ مني، كما قال: عشرين عبدا، كلهم يضرب بمال كبير، مكان العشرين أوقية، وأنا أرجو المغفرة من ربي «١».
وروى أبو الشيخ ابن حيان عن ابن عباس: أن العباس وأصحابه قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم: آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، فنزل: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً الآية.
المناسبة:
الآيات متصلة بما قبلها في بيان الأحكام الحربية بمناسبة غزوة بدر، فهي لتبيان حكم آخر من أحكام الجهاد في حق النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو حكم الأسرى في مبدأ قيام الدولة الإسلامية وهو القتل.
التفسير والبيان:
ما صح لنبي وما استقام له وما كان شأنه الذي ينبغي أن يكون له أسرى يختار فيهم إما المنّ أو الفداء في مبدأ أمره حتى يكثر القتل في الكفار ويبالغ
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ١٣٨
71
فيه، لإظهار عزة الإسلام والمسلمين. وإرهاب الدولة أعداءها، واشتداد أمرها، فلا يتجرأ على النيل منها أحد، ولا يقدم على إضعافها والتجسس عليها أحد من الأسرى الذين تركوا يعودون لديارهم بفداء مالي.
فالذين يرون قبول الفداء إنما يريدون الحصول على عرض الدنيا «١» أي حطام الدنيا الفاني، والله يريد لكم ثواب الآخرة الدائم وما هو سبب الجنة بما يشرعه لكم من الأحكام المؤدية إليه، ومنها الإثخان في القتل في الأرض، وإعزاز الدين، والقضاء على الأعداء، لإعلاء كلمة الحق، وإقامة العدل، وإقرار النظام الأصلح للبشرية.
والله عزيز يغلّب أولياءه على أعدائه، ويمكنهم منهم قتلا وأسرا، حكيم في أفعاله وأوامره، يشرع لكل حال ما يليق به، ويخصه به، كالأمر بالإثخان ومنع أخذ الفداء حين كانت الشوكة والقوة للمشركين، وبذلك تتحقق عزة المؤمنين كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون ٦٣/ ٨].
لولا كتاب من الله سبق أي لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح المحفوظ «٢» : وهو أنه لا يعاقب المخطئ في اجتهاده لأن أصحاب هذا الرأي نظروا ورأوا أن استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم، وأن فداءهم يتقوّى به على الجهاد في سبيل الله، وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام، وأهيب لمن وراءهم، وأضعف لشوكتهم.
وقيل: إن الحكم الذي سبق هو ألا يعذب أهل بدر فهم مغفور لهم، أو ألا يعذب قوما إلا بعد تأكيد الحجة والبيان، والتصريح المتقدم بالنهي عن الفداء، ولم يكن قد تقدم نهي عن ذلك، أو أنهم استعجلوا في استباحة الغنائم، ولم تكن قد أحلت لهم، والله تعالى سيحلها لهم.
(١) إنما سميت منافع الدنيا ومتاعها عرضا لأنه لا ثبات له ولا دوام، فكأنه يعرض ثم يزول.
(٢) سيأتي جواب: لولا في مطلع الصفحة الآتية.
72
لولا هذا الحكم الإلهي السابق إبرامه لنالكم أيها المؤمنون فيما أخذتم من الفداء عذاب عظيم وقعة، شديد هوله. وفي هذا تهويل لخطر ما فعلوا.
وبعد أن عاتبهم الله تعالى على أخذ الفداء، أباحه لهم وجعله من جملة الغنائم المباحة التي أبيحت لهم في مطلع السورة، فقال: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ... أي أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم من الفدية، حال كونه حلالا لكم، طيبا بنفسه لا حرمة فيه لذاته، كحرمة الدم ولحم الخنزير، أو كلوه أكلا حلالا لا شبهة فيه.
والفائدة إزاحة ما وقع في نفوسهم من أكل الفداء بسبب تلك المعاتبة أو حرمة الغنائم على الأولين.
واتقوا الله في مخالفة أوامره، ولا تعودوا لشيء من المخالفة لأمره ونهيه، ولا ترتكبوا المعاصي بعد ذلك، إن الله غفور لذنوبكم بأخذ الفداء، رحيم بكم بإباحته لكم ما أخذتم، ومن رحمته: قبوله التوبة عن عباده وعفوه عن السيئات.
والخلاصة: أن مفاداة الأسرى أو المنّ عليهم بإطلاق سراحهم لا يكون إلا بعد توافر الغلبة والسلطان على الأعداء، وإظهار هيبة الدولة في وجه الآخرين.
وبعد أن أخذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الفداء من الأسرى، وشق عليهم أخذ أموالهم منهم، أنزل هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ...
استمالة لهم، وترغيبا لهم في الإسلام ببيان ما فيه من خيري الدنيا والآخرة، وتهديدا وإنذارا لهم إذا بقوا على الكفر.
ومعنى الآية: يا أيها النبي قل لمن وقع في أيديكم من أسرى المشركين الذين أخذتم منهم الفداء: إن يعلم الله في قلوبكم الآن أو في المستقبل إيمانا وإخلاصا وحسن نية وعزما على طاعة الله والرسول في جميع التكاليف، والتوبة عن الكفر، وعن جميع المعاصي، ومنها العزم على نصرة الرسول والتوبة عن محاربته، يؤتكم
73
خيرا مما أخذ منكم من الفداء، ويغفر لكم ما كان منكم من الشرك والسيئات، والله غفور لمن تاب عن المعاصي، رحيم بالمؤمنين، فهو يمدهم بعنايته وتوفيقه وإسعاده.
قال ابن عباس: الأسرى في هذه الآية العباس وأصحابه، قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم:
آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، لننصحنّ لك على قومك، فنزلت هذه الآية.
وفي هذا حض على إعلان الإسلام وقبول دعوته. وإن يريدوا أي الأسرى خيانتك يا محمد بإظهار الإسلام والمسالمة، ثم نقض ما عاهدوك عليه، فلا تخف من خيانتهم، فإنهم قد خانوا الله من قبل بدر بالكفر، ونقض ميثاقه الذي أخذه على البشر في قوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى [الأعراف ٧/ ١٧٢]، وأقام الأدلة الكونية والعقلية عليه، وآتاهم من العقل الذي يرشد المتأمل بحق إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى.
فأمكن منهم، أي فأمكنك منهم يوم بدر، وإن عادوا إلى الخيانة فسيمكّنك منهم، ويسلطك عليهم فتهزمهم.
والله عليهم بنو إياهم، حكيم في تدبيره وصنعه، فينصر المؤمنين على الكافرين.
وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم بوعده بالنصر، ووعيده لهم بالهزيمة لأن الله مطلع على كل شيء في الوجود، ومهيمن على جميع البشر، وقادر على تحقيق ما يريد.
فقه الحياة أو الأحكام:
آية: ما كانَ لِنَبِيٍّ نزلت يوم بدر، عتابا من الله عز وجل لأصحاب
74
نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم. والمستفاد منها أنه ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي أسرى قبل الإثخان أي القتل والتخويف الشديد.
وهذه الآية إحدى موافقات الوحي لرأي عمر، وقد بلغت بضعا وثلاثين.
ولقد كان هذا الحكم مناسبا لبدء قيام الدولة الإسلامية، ولا شك أن لكل دولة في بداية تأسيسها أحكاما وظروفا وقتية، تستدعيها المصلحة واستكمال قيام الدولة، وهذا الحكم القتل المشروع للأسرى من الأعداء مجرمي الحرب، وليس التقتيل الداخلي للشعب بعد قيام الثورة مثلا.
ولم يكن فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلا اجتهادا واختيارا لأحد أمرين مشروعين: هما القتل وأخذ الفداء. فهو فعل لخلاف الأولى، وليس في ذلك مساس أصلا بعصمة الأنبياء عليهم السّلام كما فهم بعضهم لأن المساس بالعصمة يحصل إذا خالف النبي نصا صريحا أو أمرا قائما، ولم يكن هناك نص أو أمر سابق بالقتل، بدليل مشاورة الصحابة، إذ لا يجوز له بحال ترك حكم النص، وطلب الحكم من مشاورة الصحابة.
وأما بكاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيحتمل أن يكون بسبب الخطأ في الاجتهاد، وحسنات الأبرار سيئات المقرّبين، وقد أقدم على البكاء لأجل هذا المعنى، بسبب حرصه الشديد على الإصابة فيما ارتاه، وموافقة اجتهاده حكم الله في المسألة.
وعلى كل حال، فقد قتل بعض أسرى بدر وهم اثنان أو ثلاثة وهم: النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي، لكنه لم يحقق الإثخان في الأرض، وحاول بعض المستشرقين الطعن بذلك، فكيف لو قتل جميع الأسرى، وكان عددهم سبعين، فيهم العباس عم النبي وعقيل بن أبي طالب ابن عمه؟!
أسند الطبري وغيره أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال للناس: «إن شئتم أخذتم فداء
75
الأسارى، ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم، وإن شئتم قتلوا وسلمتم» فقالوا: نأخذ الفداء، ويستشهد منا سبعون.
وإذا كان التخيير بين القتل وأخذ الفداء، فكيف وقع التوبيخ بقوله:
لَمَسَّكُمْ؟ الجواب: أن التوبيخ وقع أولا لحرصهم على أخذ الفداء، ثم وقع التخيير بعد ذلك.
وأما قوله تعالى: كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ في أنه لا يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون، فأصح الأقوال- في رأي ابن العربي والقرطبي- في كتاب الله السابق: ما سبق من إحلال الغنائم، فإنها كانت محرمة على من قبلنا، فلما كان يوم بدر، أسرع الناس إلى الغنائم، فأنزل الله عز وجل: كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أي بتحليل الغنائم.
وبما أن هذه الآية في إحلال الغنيمة، واستحقاق العذاب بما اقتحموا فيها مما ليس لهم اقتحامه إلا بشرع، استنبط ابن العربي من ذلك بأن الآية دليل على أن العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراما، مما هو في علم الله حلال، إنه لا عقوبة عليه، كالمرأة إذا قالت: هذا يوم حيضتي فأفطر، والصائم إذا قال: هذا يوم نوبتي في سفري فأفطر، ثم حدث الحيض والسفر فعلا، ورجح ابن العربي ألا كفارة في هذه الحالة لأن حرمة اليوم ساقطة عند الله، فصادف هتك حرمة الصوم محلا لا حرمة له في علم الله، فكان بمنزلة ما لو قصد وطء امرأة قد زفّت إليه، وهو يعتقد أنها ليست بزوجة، فإذا هي زوجة. وهذا رأي أبي حنيفة. ومشهور مذهب المالكية والشافعي أن فيه الكفارة «١».
والمعنى الراجح لقوله: كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ في رأي الرازي: لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمسهم عذاب عظيم.
(١) أحكام القرآن: ٢/ ٨٧٢
76
وظاهر قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ يقتضي أن تكون الغنيمة كلها ملكا للغانمين، وأن يكونوا مشتركين فيها على السواء إلا أن قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ المتقدم بيّن وجوب إخراج الخمس منه وصرفه إلى مصارفه المذكورة. وفي الآية أيضا إباحة الغنائم التي كانت محظورة قبل ذلك،
عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس من قبلكم».
وأرشدت الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إلى أنه يجب على المؤمنين ترغيب الأسرى في الإيمان. وتضمنت بشارة للمؤمنين باستمرار النصر على المشركين، ما داموا آخذين بأسباب النصر المادية والمعنوية.
روى البخاري عن أنس: «أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في ترك فداء عمه العباس رضي الله عنه، وكان في أسرى المشركين يوم بدر، فقالوا: ائذن لنا، فنترك لابن أختنا «١» العباس فداءه، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: والله لا تذرون منه درهما».
وكان فداء الأسير أربعين أوقية ذهبا، فجعل على العباس مائة أوقية (لأنه كان موسرا) وعلى عقيل ثمانين، فقال له العباس: أللقرابة صنعت هذا؟ قال:
فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ فقال العباس (بعد إسلامه) : وددت لو كان أخذ مني أضعافها، لقوله تعالى: يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ.
وذكر ابن العربي أنه لما أسر من أسر من المشركين، تكلم قوم منهم بالإسلام، ولم يمضوا بذلك عزيمة، ولا اعترفوا به اعترافا جازما. ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين، ولا يبعدوا من المشركين، فنزلت الآية.
(١) لأن جدته كانت أنصارية. [.....]
77
قال المالكية: إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه، ولم يمض به عزيمة لم يكن مؤمنا. وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن، كان كافرا إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر المرء على دفعها، فإن الله قد عفا عنها وأسقطها.
وقد بيّن الله لرسوله الحقيقة فقال: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكرا فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك، فأمكنك منهم، وإن كان هذا القول منهم خيرا ويعلمه الله، فيقبل ذلك منهم، ويعوضهم خيرا مما خرج عنهم، ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم «١».
والمراد بالخير في قوله: يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ يشمل خيري الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيخلفهم الله أفضل مما أخذ منهم، وأما في الآخرة فيعطيهم الثواب ويدخلهم الجنة. وذلك يشمل كل من أخلص من الأسارى.
أصناف المؤمنين في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بمقتضى الإيمان والهجرة
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٢ الى ٧٥]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٢/ ٨٧٤
78
الإعراب:
فِي سَبِيلِ اللَّهِ متعلق ب جاهَدُوا، ويجوز أن يكون من باب التنازع في العمل بين هاجَرُوا وَجاهَدُوا إِلَّا تَفْعَلُوهُ الهاء: إما أن تعود على التوارث، وإما أن تعود على التناصر. وتَكُنْ: تامة بمعنى: تقع لا تفتقر إلى خبر. وفِتْنَةٌ: فاعل تكن. والمعنى:
إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين، وتولي بعضهم بعضا حتى في التوارث، تفضيلا لنسبة الإسلام على نسبة القرابة، ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار، ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة، تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة لأن المسلمين ما لم يصيروا يدا واحدة على الشرك، كان الشرك ظاهرا، والفساد زائدا (الكشاف: ٢/ ٢٥).
المفردات اللغوية:
وَهاجَرُوا أي تركوا مكة التي كانت دار حرب وكفر، وذهبوا إلى المدينة دار الإسلام آوَوْا أنزلوا وأسكنوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وَنَصَرُوا هم الأنصار أَوْلِياءُ بَعْضٍ في النصرة والإرث وَلايَتِهِمْ أي توليتهم في الميراث، والولاية في الأصل: ملك الأمر والسلطة عليه والقيام به مِنْ شَيْءٍ أي فلا إرث بينكم وبينهم ولا نصيب لهم في الغنيمة حَتَّى يُهاجِرُوا وهذا أي التوارث بالهجرة كان في مبدأ الأمر، ثم نسخ بآخر السورة وأصبح التوارث بقرابة الرحم مِيثاقٌ عهد، أي فلا تنصروا المسلمين على المعاهدين وتنقضوا عهدهم. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في النصرة والإرث، فلا إرث بينكم وبينهم.
إِلَّا تَفْعَلُوهُ أي تولي المسلمين وقمع الكفار تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ أي تحدث فتنة عظيمة بقوة الكفر وضعف الإسلام وَرِزْقٌ كَرِيمٌ في الجنة وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ بعد السابقين إلى الإيمان والهجرة فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أيها المهاجرون والأنصار وَأُولُوا الْأَرْحامِ
79
ذو القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في الإرث من التوارث بسبب الإيمان والهجرة المذكورة في الآية السابقة فِي كِتابِ اللَّهِ اللوح المحفوظ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ومنه حكمة الميراث وتدرجها من التوارث بالهجرة إلى التوارث بالرحم، إلى التوارث بشدة القرابة في سورة النساء.
سبب النزول:
نزول الآية (٧٣) :
وَالَّذِينَ كَفَرُوا: أخرج ابن جرير الطبري، وأبو الشيخ ابن حيان عن السّدّي عن أبي مالك قال: قال رجل: نورّث أرحامنا المشركين؟ فنزلت:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ... الآية.
نزول الآية (٧٥) :
وَأُولُوا الْأَرْحامِ: أخرج ابن جرير عن ابن الزبير قال: كان الرجل يعاقد الرجل: ترثني وأرثك، فنزلت: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ.
وأخرج ابن سعد عن عروة قال: آخى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بين الزبير بن العوام وبين كعب بن مالك، قال الزبير: فلقد رأيت كعبا أصابته الجراحة بأحد، فقلت: لو مات، فانقلع عن الدنيا وأهلها، لورثته، فنزلت هذه الآية:
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
فصارت المواريث بعد للأرحام والقرابات، وانقطعت تلك المواريث في المؤاخاة.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى قواعد الحرب والسلم مع الكفار، وحكم معاملة الأسرى، ختم السورة ببيان قرابة الإسلام ورابطته البديلة عن علاقة الكفر، وهي ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة، في مقابلة ولاية الكافرين بعضهم لبعض، ولكن بشرط المحافظة على العهود والمواثيق مع الكفار مدة العهد.
80
التفسير والبيان:
جعلت الآيات أصناف المؤمنين في مواجهة الكفار أربعة أقسام:
١- المهاجرون الأولون قبل غزوة بدر إلى صلح الحديبية.
٢- الأنصار: أهل المدينة الذين آووا إخوانهم المهاجرين.
٣- المؤمنون الذين لم يهاجروا.
٤- المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.
أما المصنف الأول
فهم المذكورون في مطلع الآية الأولى وهم الذين آمنوا بالله ورسوله أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر إلى صلح الحديبية سنة ست من الهجرة، الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم، وتركوها في مكة، وجاؤوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله. وهذا الصنف هو الأفضل والأكمل. وقد وصفهم الله بالإيمان، أي التصديق بكل ما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ووصفهم بالمهاجرة من ديارهم وأوطانهم، فرارا بدينهم من فتنة المشركين، إرضاء لله تعالى ونصرا لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلم، ونعتهم بالجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
أما الجهاد بالأموال: فهو إنفاقها في التعاون والهجرة والدفاع عن دين الله، كصرفها للكراع (الخيول) والسلاح، وعلى محاويج المسلمين. فضلا عن سخاء النفس بترك تلك الأموال في وطنهم: مكة.
وأما الجهاد بالنفس فهو قتال الأعداء والاستعلاء عليهم وعدم المبالاة بهم، وما كان قبل ذلك من احتمال المشاق، والصبر على الأذى والشدائد والاضطهاد المتواصل.
وتقديم الجهاد بالأموال على الأنفس لأنه أدفع للحاجة ويتوقف الجهاد بالنفس عليه.
81
والخلاصة: وصف المهاجرون الأولون بأربع صفات: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والهجرة، والجهاد، وأولية الإقدام على هذه الأفعال.
وأما الصنف الثاني
فهم المشار إليهم بقوله تعالى: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أي آووا الرسول والمهاجرين إليهم، ونصروهم، فكانت المدينة عاصمة الإسلام ومنطلق الدعوة في أرجاء الأرض، وملجأ المهاجرين الذين عملوا مع الأنصار على نصرة دين الله والقتال معهم، وشارك هؤلاء أولئك في أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، فكانوا في الفضل بعد الصنف الأول.
ثم وصف الله الصنفين بأن بعضهم أولياء بعض، أي يتولي بعضهم أمر الآخر كما يتولي أمر نفسه، ويكون كل منهم أحق بالآخر من كل أحد لأن حقوقهم ومصالحهم مشتركة، ولهذا آخى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخوان، فكانوا يتوارثون بهذا الإخاء إرثا مقدما على القرابة، حتى تقوّى المهاجرون بالتجارة وغيرها، فنسخ الله تعالى ذلك بالمواريث، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس.
وروى الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض، والطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة»
لكن تفرد به أحمد.
فكان الإرث بين المهاجرين والأنصار بالإسلام والهجرة دون القرابة، فالمسلم في غير المدينة لا يرث المسلم الذي في المدينة وما حولها إلا إذا هاجر إليها، فيرث ممن بينه وبينه إخاء.
وهكذا فالولاية بين المهاجرين والأنصار عامة في الحرب والإرث وكل أوجه العلاقة بينهم وبين الكفار. وقال أبو بكر الأصم: الآية محكمة غير منسوخة، والمراد بالولاية: النصرة والمظاهرة.
82
وقد أثنى الله ورسوله على المهاجرين والأنصار، في غير ما آية في كتابه، لتضامنهم وتناصرهم، فقال: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ [التوبة ٩/ ١٠٠] وقال تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة ٩/ ١١٧] وقال عز وجل: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر ٥٩/ ٨- ٩] أي لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم.
وظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء لا يختلفون في ذلك، كما ذكر ابن كثير. ولهذا روى أبو بكر البزار في مسنده عن حذيفة قال: خيرني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بين الهجرة والنصرة، فاخترت الهجرة».
وأما الصنف الثالث
وهم المؤمنون الذين لم يهاجروا فقد ذكرهم الله بقوله:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا، ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا أي أن الذين صدّقوا برسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم يهاجروا من مكة إلى المدينة، وظلوا مقيمين في أرض الشرك تحت سلطان المشركين أي في دار الحرب والشرك، لا يثبت لهم شيء من ولاية (نصرة) المؤمنين الذين في دار الإسلام. أما من أسره الكفار من أهل دار الإسلام، فله حكم أهل هذه الدار. إن الولاية منقطعة بين أهل الدارين إلا في حالة واحدة ذكرها تعالى بقوله: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ... وهي مناصرتهم على الكفار إذا قاتلوهم أو اضطهدوهم لأجل دينهم، إلا إذا كان هؤلاء الكفار معاهدين، فيجب الوفاء بعهدهم لأن الإسلام لا يبيح الغدر والخيانة بنقض
83
العهود. وهذا أصل من أصول أحكام الإسلام وسياسته الخارجية العادلة الرفيعة المستوى.
وحذر الله تعالى من نقض العهد بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي إن الله مطلع على جميع أعمالكم، فالزموا حدوده، ولا تخالفوا أمره، ولا تتجاوزوا ما حدّه لكم، كيلا يحل بكم عقابه.
والخلاصة: ليست المقاطعة تامة، كما في حق الكفار، بين المؤمنين في دار الإسلام وبين المؤمنين الذين لم يهاجروا، فلو استنصروكم فانصروهم ولا تخذلوهم.
ومن أجل دعم الولاية (التناصر والتعاون) بين المهاجرين والأنصار، ذكر الله تعالى حال الكفار في مواجهة المؤمنين، ليكونوا صفا واحدا تجاههم، وليعلموا قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي أن الكفار في جملتهم فريق واحد تجاه المسلمين، يوالي بعضهم بعضا في النصرة والتعاون على قتال المسلمين، وإن تعددت مللهم، وعادى بعضهم بعضا، وقد أكد التاريخ ذلك، فكان اليهود مناصرين المشركين في حربهم ضد المؤمنين، حتى إنهم نقضوا عهودهم مع المسلمين، مما استوجب حربهم وإجلاءهم من خيبر، والتاريخ يعيد نفسه، فترى المشركين والماديين الملحدين واليهود والنصارى في كل عصر في خندق معاد للإسلام والمسلمين.
وجعل الكفار في صف والمسلمين في صف آخر مواجه لهم اقتضى امتناع الإرث بسبب اختلاف الدين باتفاق المذاهب الأربعة، فلا يرث المسلم كافرا، ولا الكافر مسلما،
لما رواه الحاكم في مستدركه عن أسامة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما» ثم قرأ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ
وروى الجماعة إلا النسائي عن أسامة بن زيد: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم».
84
أما توارث الكفار بعضهم من بعض فجائز في رأي الجمهور لأن الكفر ملة واحدة في الإرث لقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. وقال المالكية: لا يرث كافر كافرا إذا اختلف دينهما من اليهودية والنصرانية لأنهما دينان مختلفان، ولا يرثان من مشرك ولا يرثهما مشرك لعموم
الحديث السابق: «لا يتوارث أهل ملتين شتى»
ولأنه لا موالاة بينهم.
وأما اختلاف الدار فهو مانع للإرث عند الحنفية فقط إذا كان بين الكفار، دون المسلمين، لثبوت التوارث بين أهل البغي وأهل العدل (دار الإسلام) فيكون هذا المانع خاصا بغير المسلمين.
وليس اختلاف الدار لدى الشافعية مانعا من موانع الإرث، لكنهم قالوا:
لا توارث بين حربي ومعاهد، وهو يشمل الذمي والمستأمن لانقطاع الموالاة بينهما.
وليس اختلاف الدار مطلقا مانعا للميراث لدى المالكية والحنابلة، فيرث أهل الحرب بعضهم من بعض، سواء اتفقت ديارهم أو اختلفت.
ثم قال تعالى: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ... أي إن لم تفعلوا ما شرع لكم من موالاة المسلمين وتواصلهم وتناصرهم وتعاونهم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض، وتجنب موالاة المشركين وعدم الاختلاط بهم، تحصل فتنة عظيمة في الأرض هي ضعف الإيمان وقوة الكفر، وفساد كبير وهو سفك الدماء، فتعم الفتنة وهي التباس الأمر، واختلاط المؤمنين بالكافرين، فيقع بين الناس فساد زائد في الدين والدنيا.
وفي هذا دلالة على حرص الإسلام على الحفاظ على شخصية المسلمين الذاتية، واستقلالهم في ديارهم، وعدم إقامتهم في أوطان الكفار.
روى ابن جرير عن
85
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين» ثم قال:
«لا يتراءى ناراهما».
ثم أراد الله تعالى أن يبين فضل المهاجرين والأنصار على غيرهم، ويوضح مالهم في الآخرة، بعد أن ذكر حكمهم في الدنيا فهم متواصلون بينهم، وهذا ثناء عليهم، فلا تكرار، فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...
أي إن الله تعالى يخبر عنهم بأنهم هم المؤمنون حق الإيمان وأكمله، دون من لم يهاجر وأقام بدار الشرك، مع حاجة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى هجرته، وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة التامة والصفح عن ذنوبهم إن كانت، وبالرزق الكريم في الجنة: وهو الحسن الكثير الطيب الشريف، الدائم المستمر الذي لا ينقطع أبدا.
هؤلاء الأصناف الثلاثة هم السابقون المقربون كما قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ.
وأما الصنف الرابع
وهم المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية، فهم المشار إليهم بقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ... أي والذين تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى، وبعد أن قويت شوكة المسلمين، وهاجروا إلى المدينة، وجاهدوا مع السابقين لهم، فأولئك منكم، أي أنهم كالمهاجرين الأولين والأنصار، في الموالاة والتعاون والتناصر والفضل والجزاء، فهؤلاء الأتباع لهم في الدنيا، على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح، النصرة، وهم مع المتقدمين في حسن الجزاء والعاقبة في الآخرة، فهم تبع لمن سبقهم، لذا قال تعالى:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الآية [الحشر ٥٩/ ١٠]
وفي الحديث المتفق عليه المتواتر من طرق صحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «المرء مع من أحب»
وفي الحديث الآخر الذي رواه الطبراني والضياء عن أبي قرصافة: «من أحب قوما فهو منهم»
وفي رواية «حشره الله في زمرتهم».
86
وفي جعل الصنف الرابع من جملة الأصناف الثلاثة السابقة بقوله فَأُولئِكَ مِنْكُمْ دليل على فضل السابقين على اللاحقين، كما أن في الآية قدرا مشتركا بين الصنف الأول والأخير وهو الهجرة والإيمان، مما يدل على الترغيب فيهما.
ثم ذكر الله تعالى ولاية الرحم والقرابة بعد ولاية الإيمان والهجرة، فقال:
وَأُولُوا الْأَرْحامِ... أي أصحاب القرابة التي تربط بينهم رابطة الدم، والآية عامة تشمل جميع القرابات، سواء أكانوا من ذوي الفروض أم العصبات (القرابة من جهة الأب) أم الأرحام (القرابة من جهة الأم) في اصطلاح علماء الفرائض، هؤلاء بعضهم أولى ببعض أي أجدر وأحق من المهاجرين والأنصار الأباعد بالتناصر والتعاون والتوارث في دار الهجرة، في كتاب الله، أي في حكم الله الذي كتبه على عباده المؤمنين، وأوجب به عليهم صلة الأرحام.
فولاية الرحم أهم من ولاية الإيمان وولاية الهجرة في عهدها السابق، والقريب المؤمن أولى بقريبه الرحم من المؤمن المهاجر والأنصاري البعيد القرابة، فتكون الآية مخصصة ما سبقها. أما القريب الكافر فيقطع الكفر صلته بقريبه.
وتكون الأخوة في النسب والدم، والأخوة في الله أولى في حكم الله من مجرد الأخوة الدينية.
ثم ختم الله الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي إن الله عليم بكل الأشياء، وعلمه واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدنيوية والأخروية، وبكل ما شرعه في هذه السورة من أحكام في السلم والحرب والغنائم والأسرى والعهود والمواثيق والولاية العامة والخاصة بين المؤمنين وصلة الأرحام، وهو إشارة إلى أن جميع أحكام السورة محكمة غير منسوخة ولا منقوضة وكلها حكمة وصواب وصلاح، وليس فيها شيء من العبث، ونظير ذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ [الأعراف ٧/ ٥٢].
87
لكن آية وَأُولُوا الْأَرْحامِ نقل عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد: أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولا. ويؤيدهم
حديث صحيح متواتر: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث».
فالإرث الذي كان بسبب النصرة والهجرة صار منسوخا، فلا يحصل الإرث إلا بسبب القرابة، وقوله: فِي كِتابِ اللَّهِ المراد منه السهام المذكورة في آيات المواريث في سورة النساء. وهذا ما ذهب إليه الشافعية، فلا إرث لذوي الأرحام بالمعنى الضيق عند علماء الفرائض كالخال والخالة والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم، وليس لهم نصيب، والعصبات أولى بعضهم ببعض لأن الفروض عينت. وقال الحنفية: يثبت الإرث لذوي الأرحام بنص هذه الآية، وذلك إذا لم يوجد أحد من العصبات.
وأما من نفي كون آية وَأُولُوا الْأَرْحامِ ناسخة لما تقدمها، فإنه فسر المراد بالولاية بالنصرة والمحبة والتعظيم، وتكون الآية الأولى لبيان أن رابطة الإسلام أقوى من رابطة النسب، والثانية لبيان مكانتهم وأنهم المؤمنون حقا، والثالثة لبيان أن المتأخرين في الإيمان والهجرة لهم حكم من تقدمهم، وأن التناصر بالقرابة أيضا مطلوب.
ويكون المراد من آية أولي الأرحام أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة إلا ما خصه الدليل، فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة الوهم في أن الولاية محتملة للولاية بسبب الإرث، قال الرازي: وهذا أولى لأن تكثير النسخ من غير ضرورة ولا حاجة لا يجوز «١».
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ٢١٣
88
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- ثبوت ولاية النصرة بين مؤمني دار الإسلام، وبيان فضل المهاجرين السابقين على اللاحقين، وفضل المهاجرين على الأنصار، وجعل المتأخرين في الإيمان والهجرة بمنزلة المتقدمين في تضامنهم معهم.
٢- ثبوت ولاية النصرة بين مؤمني دار الإسلام ومؤمني دار الحرب في حال مقاتلتهم أو اضطهاد الكفار لهم إلا إذا كان بيننا وبينهم ميثاق صلح وسلام، فلا تمكن مناصرتهم. وفيما عدا حالة المقاتلة لا تثبت ولاية النصرة بين المسلمين في دار الإسلام، والمسلمين في دار الحرب.
٣- تقديس الوفاء بالعهود والمواثيق في شرعة الإسلام، وإن مس ذلك مصلحة بعض المسلمين.
٤- الكفار بعضهم أولياء بعض أي نصراء وأعوان.
٥- إذا لم نحقق ولاية النصرة بيننا، ووالينا الكفار، أدى ذلك إلى ضعفنا، وقوتهم علينا.
٦- إن كل ما شرعه الله من أحكام صادر عن علم واسع شامل محيط بالمصالح الدينية والدنيوية.
٧- إرث ذوي الأرحام وهو من لا سهم له في القرآن من قرابة الميت، وليس بعصبة، وبه قال الحنفية والحنابلة محتجين بالآية «١»، فقد اجتمع في ذوي الأرحام سببان: القرابة والإسلام، فهم أولى ممن له سبب واحد وهو الإسلام.
وروى أبو داود والدارقطني عن المقدام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من ترك كلّا
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٧٦
89
فإلي، ومن ترك مالا فلورثته، فأنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه، والخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه ويرثه».
وقال المالكية والشافعية: لا يرث من لا فرض له من ذوي الأرحام، وترد التركة إلى بيت المال لأن الله تعالى ذكر في آيات المواريث نصيب أصحاب الفروض والعصبات، ولم يذكر لذوي الأرحام شيئا، ولو كان لهم حق لبينه:
وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم ١٩/ ٦٤]
وروى الترمذي وغيره من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن الله أعطى لكل ذي حق حقه».
وأما آية وَأُولُوا الْأَرْحامِ فهي آية مجملة جامعة، وآيات المواريث مفسّرة، والمفسّر قاض على المجمل ومبيّن.
وروى أبو داود في المراسيل أنه صلّى الله عليه وآله وسلم سئل عن ميراث العمة والخالة، فقال: «أخبرني جبريل أن لا شيء لهما».
والأصح أن الهجرة انقطعت بفتح مكة لأنها صارت حينئذ بلد إسلام وجزءا من دار الإسلام.
90

بسم الله الرحمن الرّحيم

سورة التوبة
مدنية وهي مائة وتسع وعشرون آية. نزلت في غزوة تبوك سنة تسع.
تسميتها:
قال الزمخشري: لها عدة أسماء: براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافرة، المنكّلة، المدمدمة، سورة العذاب لأن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق، أي تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين، أي تبحث عنها، وتثيرها، وتحفر عنها، وتفضحهم، وتنكلهم، وتشرد بهم، وتخزيهم، وتدمدم عليهم «١». وتسمى أيضا البحوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين.
وعن حذيفة رضي الله عنه: إنكم تسمونها سورة التوبة، وإنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه.
وعن ابن عباس في هذه السورة قال: إنها الفاضحة ما زالت تنزل فيهم، وتنال منهم، حتى خشينا ألا تدع أحدا، وسورة الأنفال نزلت في بدر، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.
(١) الكشاف: ٢/ ٢٥
91
السبب في إسقاط التسمية من أولها:
قال ابن عباس: سألت عليا رضي الله عنه، لم لم يكتب في براءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؟ قال: لأن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أمان، وبراءة نزلت بالسيف ونبذ العهود، وليس فيها أمان «١».
وقال سفيان بن عيينة: إنما لم تكتب في صدر هذه السورة البسملة لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت بالمنافقين وبالسيف، ولا أمان للمنافقين «٢».
قال القرطبي نقلا عن القشيري: والصحيح أن التسمية لم تكتب لأن جبريل عليه السّلام ما نزل بها في هذه السورة. فلم يكتبها الصحابة في المصحف الإمام، مقتدين في ذلك بأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، كما قال الترمذي.
مناسبتها لما قبلها:
هناك شبه بين سورة براءة وسورة الأنفال قبلها، فهي كالمتممة لها في وضع أصول العلاقات الدولية الخارجية والداخلية، وأحكام السلم والحرب، وأحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمنافقين، وأحكام المعاهدات والمواثيق، إلا أن في الأنفال بيان العهود والوفاء بها وتقديسها، وفي براءة نبذ العهود، وذكر في السورتين صدّ المشركين عن المسجد الحرام، والترغيب في إنفاق المال في سبيل الله، وتفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب وبيان أوضاع المنافقين.
وبالرغم من هذا الشبه الموضوعي في السورتين، وأنهما تدعيان القرينتين، وأنهما نزلتا في القتال، فإنهما في الأصح سورتان مستقلتان، فليست براءة جزءا
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ٢١٦
(٢) تفسير القرطبي: ٨/ ٦٢- ٦٣
92
من الأنفال، بدليل كثرة أسمائها المميزة لها، وفصلها عما سبقها، واستقر على ذلك ترتيب السور والآيات، وتناقل المسلمون هذا الفصل في المصحف من عهد الصحابة لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان.
قال عثمان رضي الله عنه: قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم يبين لنا أنها منها. وفي قوله هذا دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه، وأن براءة وحدها ضمّت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك. وكانتا تدعيان القرينتين، فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى للوصف الذي لزمهما من الاقتران، ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حيّ «١».
قال ابن العربي: هذا دليل على أن القياس أصل في الدين، ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجؤوا إلى قياس الشّبه عند عدم النص، ورأوا أن قصة براءة شبيهة بقصة الأنفال فألحقوها بها، فإذا كان الله قد بيّن دخول القياس في تأليف (أي جمع) القرآن، فما ظنك بسائر الأحكام «٢» ؟!
تاريخ نزولها:
كانت الأنفال من أوائل ما أنزل بعد الهجرة، وبراءة من آخر ما نزل من القرآن، نزلت في السنة التاسعة من الهجرة، وهي السنة التي حدثت فيها غزوة تبوك، وهي آخر غزواته صلّى الله عليه وآله وسلم، خرج فيها لغزو الروم، وقت القيظ والحر الشديد، زمن العسرة، حين طابت الثمار، فكانت ابتلاء لإيمان المؤمنين، وافتضاحا لنفاق المنافقين.
وقد نزل أولها بعد فتح مكة، فأرسل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عليا ليقرأها على المشركين في موسم الحج.
(١) تفسير القرطبي: ٨/ ٦٣
(٢) أحكام القرآن: ٢/ ٨٨١
93
روى البخاري عن البراء بن عازب قال: آخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وآخر سورة نزلت: براءة.
ما اشتملت عليه السورة:
افتتحت السورة بالبراءة من المشركين، ومنحهم مدة أمان أربعة أشهر، ثم إعلان الحرب عليهم بسبب جرائمهم، ثم منعهم من دخول المسجد الحرام إلى الأبد.
ثم مجاهدة أهل الكتاب حتى يؤدوا الجزية أو يسلموا. وتضمنت السورة في قسمها الأول حتى نهاية الآية [٤١] الحث على الجهاد والنفير العام في سبيل الله بالأموال والأنفس. ثم تحدثت عن أوصاف المنافقين ومخاطرهم في القسم الثاني إلى آخر السورة، وتخلل ذلك الإشارة إلى تخلف الأعراب عن الجهاد، وعدم قبول تخلف أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب عن المشاركة في الجهاد، وختمت السورة بمقارنات واضحة تميز بين المؤمنين والمنافقين، وجعل الجهاد فرض كفاية، وتخصيص فئة أخرى للتفقه في الدين.
فكان محور السورة يدور حول أمرين:
الأول- أحكام جهاد المشركين وأهل الكتاب.
الثاني- تمييز المؤمنين عن المنافقين بصدد غزوة تبوك.
أما أحكام الجهاد فقد مهد لها القرآن الكريم في هذه السورة بنبذ العهود والأمان بالنسبة للمشركين، وإنهاء المعاهدات التي كانت قائمة بين المسلمين وأهل الكتاب لأن كلا من المشركين والكتابيين نقضوا العهود، وتواطأت طوائف اليهود من بني النضير وبني قريظة وبني قينقاع مع المشركين على محاربة المسلمين ومحاولة القضاء عليهم. وتحدثت حوالي عشرون آية عن أحقاد اليهود ودسائسهم ومؤامراتهم، وخبثهم وكيدهم، فلا عهد ولا أمان، ولا سلم ولا مصالحة بعد انتهاء أمد الأمان، ونقض العهود من غير المسلمين.
94
وأما الأمر الثاني فكان بسبب استنفار المسلمين لغزو الروم في غزوة تبوك، وقد أوضحت الآيات في القسم الأعظم من هذه السورة نفسيات المسلمين، وظهور عوارض التثاقل والتخلف والتثبيط، ومراوغة المنافقين، ودسائسهم الماكرة، واتخاذهم ما أطلق عليه (مسجد الضرار) الذي نزل بشأنه أربع آيات، وكرا للتآمر والتخريب، وتعريتهم بشكل فاضح، حتى سميت السورة (الفاضحة) لأنها فضحت المنافقين، ولم تدع لهم سترا إلا هتكته.
والخلاصة: كانت هذه السورة سورة الحسم الكامل لأوضاع غير المسلمين، وربما كانت أخطر سورة حشدت جيش الإيمان وأعدته للمعركة الفاصلة النهائية بين المسلمين وغيرهم، سواء في داخل الدولة بتصفية جذور النفاق، والقضاء على مكر اليهود، أو في خارج الدولة بالتصدي لغطرسة الروم في غزوة تبوك التي أرهبتهم، وجمّدت كل تحركاتهم المشبوهة للقضاء على الإسلام والمسلمين.
وكان لهذه التصفية المقدّر والمخطط لها من قبل الله تعالى على الصعيد الداخلي والخارجي الأثر الأكبر في استقرار الدولة الإسلامية، والحفاظ على كيانها الدولي وإظهار هيبتها ومنعة وجودها، بعد انتقال مؤسسها وقائدها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
أضواء من التاريخ على صلح الحديبية:
عقد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم معاهدة صلح الحديبية سنة ست من الهجرة مع المشركين على وضع الحرب أوزارها، وعلى السلم والأمان مدة عشر سنوات، بشروط متسامح فيها عن قوة وعزة، لا عن ضعف وذلة. ثم نقضت قريش المعاهدة بإعانة حليفتها قبيلة بني بكر على قبيلة خزاعة حليفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بالسلاح والرجال، فاستغاث عمرو بن سالم الخزاعي على رأس وفد بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فأغاثه قائلا:
95
«نصرت يا عمرو بن سالم، لا نصرت إن لم أنصر بني كعب» فكان ذلك سبب عودة حالة الحرب مع قريش.
فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الناس بالتأهب للقتال، وسار لفتح مكة سرا، ففتحها في السنة الثامنة من الهجرة.
ولما بلغ هوازن فتح مكة، جمعهم أميرهم مالك بن عوف النصري لقتال المسلمين، وكانت غزوة حنين التي شهدها دريد بن الصّمّة في شوال في السنة الثامنة، ثم حاصر النبي بعدها الطائف بضعا وعشرين ليلة، وقاتلهم قتالا شديدا، ورماهم بالنبل والمنجنيق.
ثم خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في رجب سنة تسع إلى غزوة تبوك، وهي آخر غزواته، وفيها نزلت أكثر آيات سورة براءة.
ولما رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك أراد الحج، ولكنه تذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم، ويطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم ويعلم المشركين ألا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادي في الناس: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب، ليكون مبلّغا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، لكونه عصبة له. وقال له: «أخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا».
فخرج علي راكبا العضباء ناقة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، فأدرك أبا بكر في ذي الحليفة، وأمّ أبو بكر الناس في الحج، وقرأ عليّ على الناس صدر سورة براءة «١».
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٣٣١ وما بعدها، الكشاف: ٢/ ٢٦، تفسير القرطبي: ٨/ ٦٤- ٦٨
96
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي هيئوا لقتال الأعداء ما أمكنكم من