تفسير سورة الأنفال

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ
تفسير سورة الأنفال
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه : سورة الأنفال مدنية إلا سبع آيات ؛ وذلك من قوله :( وإذ يمكر بك الذين كفروا )( ١ ) إلى آخر الآيات السبع ؛ فإنها نزلت بمكة، وأكثر السورة في غزوة بدر.
١ - الأنفال: ٣٠..

قَوْله تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال﴾ وَالسُّؤَال سؤالان: سُؤال استخبار، وسؤال طلب؛ فَقَوله: ﴿يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال﴾ سُؤال استخبار؛ فَإِنَّهُم سَأَلُوهُ عَن حكم الْأَنْفَال.
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَسعد بن أبي وَقاص: " يَسْأَلُونَك الْأَنْفَال " وَهَذَا سُؤال طلب. روى مُصعب بن سعد، عَن أَبِيه سعد بن أبي وَقاص أَنه قَالَ: " سَأَلت رَسُول الله سَيْفا يَوْم بدر فَقلت: نفلنيه يَا رَسُول الله، فَنزل قَوْله: ﴿يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال﴾ ".
والأنفال: الْغَنَائِم. وَالنَّفْل فِي اللُّغَة: الزِّيَادَة، قَالَ لبيد بن ربيعَة العامري شعرًا:
(إِن تقوى رَبنَا خير نفل وبإذن الله ريثي والعجل)
وَمِنْه صَلَاة النَّافِلَة؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة على الْفَرِيضَة. فسميت الْغَنَائِم أنفالا؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة كَرَامَة من الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة على الْخُصُوص.
وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى " أَن أَصْحَاب النَّبِي افْتَرَقُوا يَوْم بدر فرْقَتَيْن: فرقة كَانَت تقَاتل وتأسر، وَفرْقَة تحرس رَسُول الله، ثمَّ تنازعوا، فَقَالَت الْفرْقَة الْمُقَاتلَة:
246
﴿الله وَرَسُوله إِن كُنْتُم مُؤمنين (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم﴾ الْغَنَائِم لنا؛ قاتلنا وأسرنا، وَقَالَ الْآخرُونَ: كُنَّا ردْءًا لكم، ونحرس رَسُول الله، فالغنيمة بَيْننَا؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال﴾.
وَفِي رِوَايَة: " أَن النَّبِي قَالَ يَوْمئِذٍ: من قتل قَتِيلا فَلهُ كَذَا، وَمن أسر أَسِيرًا فَلهُ كَذَا، فَتسَارع الشبَّان وقاتلوا وأسروا، وَبَقِي الشُّيُوخ مَعَ الرَّسُول - عَلَيْهِ السَّلَام - يحرسونه ثمَّ تنازعوا فِي الْغَنِيمَة، فَقَالَ الشبَّان: الْغَنِيمَة لنا؛ لأَنا قاتلنا. وَقَالَ الشُّيُوخ: كُنَّا نحرس رَسُول الله، وَكُنَّا ردْءًا لكم. وَكَانَ الَّذِي تكلم من الشبَّان أَبُو الْيُسْر وَالَّذِي تكلم من الشُّيُوخ سعد بن معَاذ، فَنزلت الْآيَة، فقسم النَّبِي الْأَنْفَال بَين الْكل.
وَقَوله: ﴿قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول﴾ وَاخْتلفُوا فِيهِ قَالَ مُجَاهِد، وَعِكْرِمَة: الْآيَة مَنْسُوخَة بقول تَعَالَى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خَمْسَة وَلِلرَّسُولِ﴾ فَهَذِهِ الْآيَة ردَّتْ من الْكل إِلَى الْخمس، فَكَانَت ناسخة للأولى.
وَقيل: الْآيَة غير مَنْسُوخَة، وَمعنى قَوْله: ﴿قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول﴾ أَي: حكمهَا لله وَالرَّسُول؛ فَتكون مُوَافقَة لتِلْك الْآيَة.
﴿فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم﴾ قَالَ: ثَعْلَب: يَعْنِي: أصلحوا الْحَالة الَّتِي بَيْنكُم، وَمَعْنَاهُ: الْإِصْلَاح بترك الْمُنَازعَة وَتَسْلِيم أَمر الْغَنِيمَة إِلَى الله وَالرَّسُول ﴿وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله إِن كُنْتُم مُؤمنين﴾.
247
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم﴾ قَالَ ابْن أبي نجيح:
247
﴿وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ (٣) أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم ومغفرة ورزق كريم (٤) كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهون﴾ أَي: خَافت وَفرقت، قَالَ الشَّاعِر:
(لعمرك مَا أَدْرِي وَإِنِّي لأوجل على أَيّنَا تَغْدُو الْمنية أول)
﴿وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا﴾ أَي: يَقِينا وَتَصْدِيقًا؛ وَذَلِكَ أَنه كلما نزلت آيَة فآمنوا بِهِ ازدادوا إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا، وَهَذَا دَلِيل لأهل السّنة على أَن الْإِيمَان يزِيد وَينْقص ﴿وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ﴾ التَّوَكُّل هُوَ الِاعْتِمَاد على الله والثقة بِهِ.
248
(الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ) إِقَامَة الصَّلَاة هِيَ أَدَاؤُهَا فِي أَوْقَاتهَا بشرائطها وأركانها.
﴿أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا﴾ قَالَ مقَاتل: يَعْنِي: إِيمَانًا لَا شكّ فِيهِ. وَقيل: برأهم من الْكفْر والنفاق.
وَفِيه دَلِيل لأهل السّنة على انه لَا يجوز لكل أحد أَن يصف نَفسه بِكَوْنِهِ مُؤمنا حَقًا؛ لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا وصف بذلك قوما مخصوصين على أَوْصَاف مَخْصُوصَة، وكل أحد لَا يتَحَقَّق فِي نَفسه وجود تِلْكَ الْأَوْصَاف.
﴿لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم﴾ قَالَ الرّبيع بن أنس: الدَّرَجَات سَبْعُونَ دَرَجَة، مَا بَين كل دَرَجَتَيْنِ حضر الْفرس الْمُضمر سبعين سنة ﴿ومغفرة ورزق كريم﴾ أَي: كَامِل لَا نقص فِيهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ﴾ الْأَكْثَرُونَ على أَنه فِي إِخْرَاجه من الْمَدِينَة إِلَى بدر لِلْقِتَالِ مَعَ الْمُشْركين. وَقيل: هُوَ فِي إِخْرَاجه من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة.
248
( ﴿٥) يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْمَوْت وهم ينظرُونَ (٦) وَإِذ يَعدكُم الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لكم وتودون أَن غير ذَات الشَّوْكَة تكون لكم﴾
وَاخْتلفُوا فِي أَن قَوْله: ﴿كَمَا أخرجك﴾ إِلَى مَاذَا ترجع كَاف التَّشْبِيه؟ قَالَ الْمبرد: تَقْدِيره: الْأَنْفَال لله وَلِلرَّسُولِ وَإِن كَرهُوا، كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك وَإِن كَرهُوا. وَقَول الْفراء قريب من هَذَا، وَهَكَذَا قَول الزّجاج؛ فَإِنَّهُمَا قَالَا: تَقْدِيره: امْضِ لأمر الله فِي الْأَنْفَال وَإِن كَرهُوا كَمَا مضيت لأمر الله عِنْد إخراجك من بَيْتك وَإِن كَرهُوا.
وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: ﴿فَاتَّقُوا الله﴾ وَتَقْدِيره: كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ فاتبعت أمره فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم. وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: ﴿لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم﴾ وَتَقْدِيره: وعد الدَّرَجَات حق كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ؛ فأنجز والوعد بالنصر وَالظفر. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: " مَا " هَاهُنَا بِمَعْنى: " الَّذِي " أَي: كَالَّذي أخرجك رَبك.
﴿وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهون يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين﴾ وَذَلِكَ أَن أَصْحَاب رَسُول الله كَرهُوا خُرُوجه إِلَى بدر، وجادلوا فِيهِ، فَقَالُوا: لَا نخرج؛ فَإنَّا لم نستعد لِلْقِتَالِ، وَلَيْسَ مَعنا أهبة الْحَرْب.
وَقَوله: ﴿بعد مَا تبين﴾ مَعْنَاهُ: مَا تبين لَهُم صدقه فِي الْوَعْد بِمَا وعدهم مرّة بعد أُخْرَى فَصَدَّقَهُمْ فِي وعده.
﴿كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْمَوْت وهم ينظرُونَ﴾ فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهونه كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْمَوْت وهم ينظرُونَ، يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين.
249
( وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين ) وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا خروجه إلى بدر، وجادلوا فيه، فقالوا : لا نخرج ؛ فإنا لم نستعد للقتال، وليس معنا أهبة الحرب.
وقوله :( بعد ما تبين ) معناه : ما تبين لهم صدقه في الوعد بما وعدهم مرة بعد أخرى فصدقهم في وعده.
( كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) فيه تقديم وتأخير، وتقديره : وإن فريقا من المؤمنين لكارهونه كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، يجادلونك في الحق بعد ما تبين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ يَعدكُم الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لكم﴾ سَبَب هَذَا: مَا رُوِيَ أَن أَبَا سُفْيَان قدم على عير من قبل الشَّام فِيهَا أَمْوَال قُرَيْش، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله وَأَصْحَابه بِالْمَدِينَةِ، فَخَرجُوا فِي طلب العير، فَبعث أَبُو سُفْيَان رجلا إِلَى مَكَّة يستنفرهم ويستغيث بهم، فَخرج أَبُو جهل ورءوس الْمُشْركين فِي سَبْعمِائة وَخمسين
249
﴿وَيُرِيد الله أَن يحِق الْحق بكلماته وَيقطع دابر الْكَافرين (٧) ليحق الْحق وَيبْطل الْبَاطِل وَلَو كره المجرمون (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ ربكُم فَاسْتَجَاب لكم أَنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف﴾ رجلا، وَكَانَ الْمُسلمُونَ يَوْمئِذٍ ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر نَفرا، وَلم يكن لَهُم كثير سلَاح، وَكَانَ مَعَهم فرسَان فَحسب، أَحدهمَا لِلْمِقْدَادِ بن عَمْرو، وَالْآخر لأبي مرْثَد الغنوي، وَكَانَ مَعَهم سِتَّة أدرع، وَكَانَ أَكْثَرهم رِجَاله، وَبَعْضهمْ على الأبعرة، فَوَعَدَهُمْ الله - تَعَالَى - إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا العير (أَو) النفير، وَكَانَ أَبُو سُفْيَان صَاحب العير، وَأَبُو جهل صَاحب النفير، فَالتقى الْجَمْعَانِ، ووقعوا فِي الْقِتَال، وَأخذ العير طَرِيق السَّاحِل وذهبوا، وَكَانَ الْمُسلمُونَ يودون أَن يظفروا بالعير ويفوزوا بِالْمَالِ من غير الْقِتَال " فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿وتودون أَن غير ذَات الشَّوْكَة تكون لكم﴾ والشوكة: السِّلَاح.
﴿وَيُرِيد الله أَن يحِق الْحق بكلماته﴾ أَي: يظْهر الْحق ويعلى كَلمته ﴿وَيقطع دابر الْكَافرين﴾ أَي: أصل الْكَافرين.
250
﴿ليحق الْحق وَيبْطل الْبَاطِل﴾ أَي: يثبت الْحق وينفي الْبَاطِل ﴿وَلَو كره المجرمون﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ تسغيثون ربكُم﴾ الاستغاثة: طلب الْغَوْث ﴿فَاسْتَجَاب لكم أَنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ﴾ سَبَب هَذَا مَا روى: " أَنه لما التقى الْجَمْعَانِ ببدر اسْتقْبل النَّبِي الْقبْلَة وَرفع يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أنجزني مَا وَعَدتنِي، اللَّهُمَّ إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة فَلَنْ تعبد فِي الأَرْض، وَعلا بِهِ صَوته فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر: خفض من صَوْتك يَا رَسُول الله؛ فَإِن الله منجزك مَا وَعدك " فَنزلت الْآيَة واستجاب دعاءه، وأمدهم الله تَعَالَى بِالْمَلَائِكَةِ؛ فروى: " أَنه نزل جِبْرِيل فِي خَمْسمِائَة، وَمِيكَائِيل فِي خَمْسمِائَة، وَكَانَ على رُءُوسهم عمائم بيض قد أَرخُوا أطرافها بَين أكتافهم، وهم على صور الْبشر
250
﴿من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ (٩) وَمَا جعله الله إِلَّا بشرى ولتطمئن بِهِ قُلُوبكُمْ وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله إِن الله عَزِيز حَكِيم (١٠) إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة مِنْهُ وَينزل عَلَيْكُم من﴾ على خيل بلق " فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿فَاسْتَجَاب لكم أَنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ﴾ يُقَال: ردفه وأردفه إِذا (أتبعه)، قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا الجوزاء أردفت الثريا ظَنَنْت بآل فَاطِمَة الظنونا)
فَمَعْنَى قَوْله ﴿مُردفِينَ﴾ أَي: مُتَتَابعين بَعضهم فِي إِثْر بعض. وَهَذَا معنى الْقِرَاءَة الثَّانِيَة بِفَتْح الدَّال. وَمِنْهُم من فرق بَينهمَا وَقَالَ: مُردفِينَ أَي: ممدين بَعضهم لبَعض. وَمن قَرَأَ بِفَتْح الدَّال فَمَعْنَاه: ممدين من قبل الله.
251
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا جعله الله إِلَّا بشرى﴾ أَي: بِشَارَة ﴿ولتطمئن بِهِ قُلُوبكُمْ﴾ أَي: تسكن بِهِ قُلُوبكُمْ ﴿وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله إِن الله عَزِيز حَكِيم﴾
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة مِنْهُ﴾ وَيقْرَأ: " إِذْ يغشاكم النعاس " وَقَرَأَ ابْن مُحَيْصِن: " أَمَنَة " سَاكِنة الْمِيم فِي الشواذ.
والقصة فِي ذَلِك: أَن الْكفَّار يَوْم بدر نزلُوا على المَاء، وَنزل الْمُسلمُونَ على غير مَاء، فأجنب بَعضهم وأحدثوا، فَلم يَجدوا مَاء يتطهرون بِهِ، وَكَانُوا فِي رمل تَسُوخ فِيهِ أَرجُلهم، فوسوس إِلَيْهِم الشَّيْطَان: إِنَّكُم تزعمذسون أَنكُمْ على الْحق وَأُولَئِكَ على الْبَاطِل وَإِذا هم على المَاء، فَلَو كُنْتُم على الْحق لكنتم أَنْتُم على المَاء، وَمَا بَقِيتُمْ مجنبين محدثين، فَوَقع فيهم خوف شَدِيد، فَألْقى الله تَعَالَى عَلَيْهِم النعاس حَتَّى أمنُوا، وَأَنْشَأَ سَحَابَة فتمطرت عَلَيْهِم حَتَّى سَالَ الْوَادي وَتطَهرُوا وَاغْتَسلُوا، وتلبدت الرمال حَتَّى ثبتَتْ عَلَيْهَا الْأَقْدَام. فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة﴾.
251
﴿السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ وَيذْهب عَنْكُم رجز الشَّيْطَان وليربط على قُلُوبكُمْ وَيثبت بِهِ الْأَقْدَام (١١) إِذْ يوحي رَبك إِلَى الْمَلَائِكَة أَنِّي مَعكُمْ فثبتوا الَّذين آمنُوا سألقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب فاضربوا فَوق الْأَعْنَاق واضربوا مِنْهُم كل بنان (١٢) ذَلِك﴾
قَالَ ابْن مَسْعُود: النعاس فِي الْقِتَال من الله، وَفِي الصَّلَاة من الشَّيْطَان.
﴿وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ﴾ وَهُوَ مَا ذكرنَا ﴿وَيذْهب عَنْكُم رجز الشَّيْطَان﴾ أَي: وَسْوَسَة الشَّيْطَان ﴿وليربط على قُلُوبكُمْ﴾ أَي: يشدد قُلُوبكُمْ وَتثبت بِإِزَالَة الْخَوْف ﴿وَيثبت بِهِ الْأَقْدَام﴾ يَعْنِي: على الرمل حِين تلبد بالمطر.
252
﴿إِذْ يوحي رَبك إِلَى الْمَلَائِكَة أَنِّي مَعكُمْ﴾ أَي: بالنصر وَالظفر ﴿فثبتوا الَّذين آمنُوا﴾ وروى " أَن الْملك كَانَ يمشي بَين أَيْديهم وينادي: أَيهَا الْمُسلمُونَ، أَبْشِرُوا بالظفر والنصر ". وَقيل: كَانَ يلهمهم الْملك ذَلِك؛ وللملك إلهام.
﴿سألقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب فاضربوا فَوق الْأَعْنَاق﴾ أَي: على الْأَعْنَاق، وَقيل: " فَوق " فِيهِ صلَة، وَمَعْنَاهُ: فاضربوا الْأَعْنَاق، وَقيل: هُوَ على مَوْضِعه، وَمَعْنَاهُ: فاضربوا على اليافوخ.
﴿واضربوا مِنْهُم كل بنان﴾ قيل: البنان: مفاصل الْأَطْرَاف، وَقيل: الْأَصَابِع، كَأَنَّهُ عبر بِهِ عَن الْأَيْدِي والأرجل.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَا كَانَت الْمَلَائِكَة تعلم كَيفَ يقتل الآدميون، فعلمهم الله.
وَقيل: إِن الْمَلَائِكَة لم يقاتلوا إِلَّا فِي غَزْوَة بدر.
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ -: أَنه لما أَرَادَ أَن يحز رَأس أبي جهل - وَكَانَ قد علاهُ ليَقْتُلهُ - فَقَالَ لَهُ أَبُو جهل: كُنَّا نسْمع الصَّوْت وَلَا نرى شخصا، ونرى الضَّرْب وَلَا نرى الضَّارِب، فَمن هم؟ قَالَ: هم الْمَلَائِكَة: فَقَالَ أَبُو جهل: أُولَئِكَ غلبونا لَا انتم.
﴿ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله﴾ أَي: نازعوا الله وَرَسُوله.
252
﴿بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب (١٣) ذَلِكُم فذوقوه وَأَن للْكَافِرِينَ عَذَاب النَّار (١٤) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا زحفا فَلَا تولوهم الأدبار (١٥) وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره إِلَّا متحرفا لقِتَال أَو متحيزا إِلَى﴾
﴿وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب ذَلِكُم فذوقوه وَأَن للْكَافِرِينَ عَابَ النَّار﴾ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك مُبَالغَة فِي التعذيب والانتقام، وَالْعرب تَقول لِلْعَدو إِذا أَصَابَهُ الْمَكْرُوه: ذُقْ. قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم﴾.
وَرُوِيَ أَن أَبَا سُفْيَان بن حَرْب لما مر بِحَمْزَة بن عبد الْمطلب وَهُوَ مطروح مقتول يَوْم أحد فَقَالَ لَهُ: ذُقْ يَا عُقُق، يَعْنِي: ذُقْ أَيهَا الْعَاق.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الْمُسلمين لما فرغوا من قتال بدر وَانْهَزَمَ الْكفَّار قصدُوا طلب العير وَأَن يتبعوهم - وَكَانَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فِي وثاق الْمُسلمين وأسرهم - فَقَالَ لَهُم: لَيْسَ لكم إِلَى ذَلِك سَبِيل؛ فَإِن الله - تَعَالَى - وَعدكُم إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقد ظفرتم بالجيش؛ فَلَيْسَ لكم العير، فَسَكَتُوا.
253
( فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ) إنما قال ذلك مبالغة في التعذيب والانتقام، والعرب تقول للعدو إذا أصابه المكروه : ذق. قال الله تعالى :( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) ( ١ ).
وروي أن أبا سفيان بن حرب لما مرّ بحمزة بن عبد المطلب وهو مطروح مقتول يوم أحد فقال له : ذق يا عُقَق، يعني : ذق أيها العاق.
وفي القصة : أن المسلمين لما فرغوا من قتال بدر وانهزم الكفار قصدوا طلب العير وأن يتبعوهم - وكان العباس بن عبد المطلب في وثاق المسلمين وأسْرِهم - فقال لهم : ليس لكم إلى ذلك سبيل ؛ فإن الله - تعالى - وعدكم إحدى الطائفتين، وقد ظفرتم بالجيش ؛ فليس لكم العير، فسكتوا.
١ - الدخان: ٤٩..
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا زحفا﴾ أَي: متزاحفين والتزاحف: التداني من الْقِتَال، وَمَعْنَاهُ: إِذا تزاحفتم وتوافقتم ﴿فَلَا تولوهم الأدبار﴾ أَي: لَا تنهزموا؛ فَإِن المنهزم يولي دبره إِذا انهزم
﴿وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره إِلَّا متحرفا لقِتَال﴾ التحرف لِلْقِتَالِ هُوَ أَن يرى الانهزام ويقصد بِهِ طلب الْغرَّة والغيلة، وانتهاز الفرصة ﴿أَو متحيزا إِلَى فِئَة﴾ أَي: مائلا إِلَى فِئَة ﴿فقد بَاء بغضب من الله﴾ أَي: رَجَعَ بغضب من الله ﴿ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير﴾ واستدلت الْمُعْتَزلَة بِإِطْلَاق قَوْله: ﴿ومأواه جَهَنَّم﴾ فِي وَعِيد الْأَبَد، وَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ؛ لِأَن معنى الْآيَة: ومأواه جَهَنَّم إِلَّا أَن تُدْرِكهُ الرَّحْمَة؛ بِدَلِيل سَائِر الْآي الْمقيدَة.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْآيَة فِي أهل بدر خَاصَّة، مَا كَانَ يجوز لَهُم الانهزام بِحَال؛ لِأَن النَّبِي كَانَ مَعَهم وَلم يكن لَهُم فِئَة يتحيزون إِلَيْهَا، فَأَما فِي حق غَيرهم فالفرار من الزَّحْف لَا يكون كَبِيرَة؛ لِأَن الْمُسلمين بَعضهم فِئَة لبَعض، فَيكون الفار متحيزا إِلَى فِئَة.
253
﴿فِئَة فقد بَاء بغضب من الله ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير (١٦) فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله﴾
وَهَذَا مَرْوِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - من الصَّحَابَة - وَيشْهد لذَلِك: قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: لما أصَاب الْمُسلمين يَوْم الجسر مَا أَصَابَهُم وصبروا حَتَّى قتلوا، قَالَ عمر: هلا رجعُوا إليّ وَكَانَ إِذا بعث جَيْشًا بعد ذَلِك يَقُول: أَنا فِئَة لكل مُسلم.
وَيدل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " غزونا غَزْو فحصنا حَيْصَة، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، نَحن الْفَرَّارُونَ؟ فَقَالَ لَا؛ بل أَنْتُم الْعَكَّارُونَ، وَأَنا فِئَتكُمْ ".
وَفِي الْآيَة قَول آخر - وَهُوَ الْمَذْهَب الْيَوْم وَعَلِيهِ عَامَّة الْفُقَهَاء - أَنه إِن كَانَ الْكفَّار أَكثر من مثليهم جَازَ الْفِرَار من الزَّحْف؛ لقَوْله: ﴿الْآن خفف الله عَنْكُم﴾ وَلقَوْله: ﴿وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة﴾ وَلَو صَبَرُوا جَازَ، اللَّهُمَّ أَن يعلمُوا قطعا أَنه لَا يُمكنهُم مقاومتهم، فَحِينَئِذٍ لَا يجوز الصَّبْر؛ لِأَنَّهُ يكون إِلْقَاء لنَفسِهِ فِي التَّهْلُكَة، وَإِن كَانَ الْكفَّار مثلي الْمُسلمين أَو دون المثلين لَا يجوز الْفِرَار من الزَّحْف إِلَّا متحرفا لقِتَال أَو متحيزا إِلَى فِئَة - يَعْنِي: إِلَى فِئَة قريبَة من الْجَيْش مثل السَّرَايَا - والفرار من الزَّحْف إِنَّمَا يكون كَثِيره من هَذِه الصُّورَة.
254
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ﴾ سَبَب هَذَا: أَن الْمُسلمين لما انصرفوا من قتال بدر، كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يَقُول: أَنا قتلت فلَانا، وَيَقُول الآخر: أَنا قتلت فلَانا؛ فَلم يرض الله تَعَالَى مِنْهُم ذَلِك، وَنزلت الْآيَة: ﴿فَلم تَقْتُلُوهُمْ﴾ يَعْنِي: بقوتكم وعدتكم ﴿وَلَكِن الله قَتلهمْ﴾ (بنصره) إيَّاكُمْ ومعونته لكم. وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَكِن الله قَتلهمْ بسوقهم إِلَيْكُم حَتَّى ظفرتم بهم.
254
﴿قَتلهمْ وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى وليبلي الْمُؤمنِينَ مِنْهُ بلَاء حسنا إِن الله سميع عليم (١٧) ذَلِكُم وَأَن الله موهن كيد الْكَافرين (١٨) إِن تستفتحوا فقد جَاءَكُم الْفَتْح﴾
وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَكِن الله قَتلهمْ ببعث الْمَلَائِكَة لكم مدَدا، فَقَتلهُمْ الله بِالْمَلَائِكَةِ.
﴿وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى﴾ روى: " أَن النَّبِي أَخذ كفا من الْحَصْبَاء يَوْم بدر وَرمى بِهِ إِلَى وُجُوه الْمُشْركين وَقَالَ: شَاهَت الْوُجُوه. فَلم يبْق مِنْهُم أحد إِلَّا وَأصَاب عَيْنَيْهِ من ذَلِك، وشغل بِعَيْنيهِ ".
﴿وَمَا رميت إِذْ رميت﴾ يُرِيد بِهِ ذَلِك الرَّمْي بالحصباء الَّتِي أَصَابَت عيونهم؛ إِذْ لَيْسَ هَذَا فِي قدرَة الْبشر أَن ترمي الْحَصْبَاء إِلَى وُجُوه جَيش بِحَيْثُ لَا تبقى عين إِلَّا ويصيبها مِنْهَا؛ ﴿وَلَكِن الله رمى﴾ بقوته وَقدرته. وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا بلغت إِذْ رميت؛ وَلَكِن الله بلغ، وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا رميت بِالرُّعْبِ فِي قُلُوبهم.
﴿وليبلي الْمُؤمنِينَ مِنْهُ بلَاء حسنا﴾ أَي: نعْمَة حَسَنَة ينعم بهَا على الْمُؤمنِينَ، وَذَلِكَ نعْمَة النَّصْر وَالظفر، والشدة بلَاء، وَالنعْمَة بلَاء، وَالله تَعَالَى يَبْتَلِي عَبده تَارَة بِالنعْمَةِ وَتارَة بالشدة ﴿إِن الله سميع عليم﴾.
255
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِكُم وَأَن الله موهن كيد الْكَافرين﴾ يقْرَأ مخففا ومشددا وَمَعْنَاهُ: مضعف كيد الْكَافرين.
قَوْله: ﴿إِن تستفتحوا فقد جَاءَكُم الْفَتْح﴾ قَالَ الضَّحَّاك: سَبَب هَذَا أَن أَبَا جهل
255
﴿وَإِن تنتهوا فَهُوَ خير لكم وَإِن تعودوا نعد وَلنْ تغني عَنْكُم فِئَتكُمْ شَيْئا وَلَو كثرت وَأَن الله مَعَ الْمُؤمنِينَ (١٩) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَرَسُوله وَلَا توَلّوا عَنهُ وَأَنْتُم تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين قَالُوا سمعنَا وهم لَا يسمعُونَ (٢١) إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ (٢٢) وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (٢٣) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا﴾ قَالَ يَوْم بدر: اللَّهُمَّ انصر أحب الفئتين إِلَيْك وَأكْرمهمْ عَلَيْك. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: اللَّهُمَّ أقطعنا للرحم، وأفسدنا للْجَمَاعَة، وأتانا بِمَا لَا نَعْرِف؛ فاخزه الْيَوْم، فَأَجَابَهُ الله تَعَالَى يَقُوله: ﴿إِن تستفتحوا﴾ أَي: إِن تستنصروا فقد جَاءَكُم النَّصْر.
﴿وَإِن تنتهوا فَهُوَ خير لكم وَإِن تعودوا نعد﴾ أَي: إِن تعودوا إِلَى الدُّعَاء نعد إِلَى الْإِجَابَة، وَإِن تعودوا إِلَى الْقِتَال نعد إِلَى النَّصْر ﴿وَلنْ تغني عَنْكُم فِئَتكُمْ شَيْئا وَلَو كثرت وَأَن الله مَعَ الْمُؤمنِينَ﴾.
256
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَرَسُوله﴾ أَمر الصَّحَابَة بِطَاعَتِهِ وَطَاعَة رَسُوله ﴿وَلَا توَلّوا عَنهُ﴾ أَي: لَا تعرضوا عَنهُ {وَأَنْتُم تَسْمَعُونَ
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين قَالُوا سمعنَا وهم لَا يسمعُونَ) يَعْنِي: أَنهم لما لم ينتفعوا بِمَا سمعُوا فكأنهم لم يسمعوا، فَلَا تَكُونُوا مثلهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ﴾ سمى الْكفَّار صمًّا بكما؛ لأَنهم لما لم يسمعوا الْحق، وَلم ينطقوا بِالْحَقِّ، وَلم يعقلوا الْحق سماهم بذلك، وعدهم من جملَة الْأَنْعَام.
﴿وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم﴾ أَي: لأسمعهم سَماع التفهم وَالْقَبُول لَو علم أَنهم يصلحون لذَلِك.
﴿وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون﴾ فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: ﴿لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا﴾ ؟ قيل مَعْنَاهُ: لَو علم فيهم خيرا لأسمعهم سَماع التفهم، وَلَو
256
﴿دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَن الله يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه وَأَنه إِلَيْهِ تحشرون (٢٤) ﴾ أسمعهم سَماع الآذان لتولوا. وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَو أسمعهم سَماع التفهم لتولوا؛ لما سبق لَهُم من الشقاوة، وَأَنَّهُمْ لَا يصلحون لذَلِك وَلَا خير فيهم. وَقيل: مَعْنَاهُ: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ للنَّبِي: أحيي لنا قصيا؛ فَإِنَّهُ كَانَ شَيخا مُبَارَكًا حَتَّى نشْهد لَك بِالنُّبُوَّةِ فنؤمن بك، فَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَلَو أسمعهم﴾ كَلَام قصي ﴿لتولوا وهم معرضون﴾.
257
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ﴾ قَالَ السّديّ فِي قَوْله: ﴿لما يُحْيِيكُمْ﴾ : أَرَادَ بِهِ الْإِيمَان. وسمى السّديّ بذلك؛ لِأَنَّهُ كَانَ يجلس فِي سدة مَسْجِد الْكُوفَة.
وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ الْقُرْآن. وَقَالَ الْفراء: هُوَ الْجِهَاد. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ الشَّهَادَة.
وروى أَبُو هُرَيْرَة " أَن النَّبِي دَعَا أبي بن كَعْب وَهُوَ فِي الصَّلَاة، فأسرع الْقِرَاءَة وَأتم الصَّلَاة وأجابه، فَقَالَ النَّبِي: مَا مَنعك أَن تُجِيبنِي؟ فَقَالَ: كنت فِي الصَّلَاة، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام -: أما سَمِعت قَوْله الله تَعَالَى: ﴿اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ﴾ ؟ فَقَالَ: علمت، لَا أَعُود ".
﴿وَاعْلَمُوا أَن الله يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه﴾ قَالَ سعيد بن جُبَير وَجَمَاعَة: يحول بَين الْمُؤمن وَالْكفْر وَبَين الْكَافِر، وَالْإِيمَان. قَالَ الضَّحَّاك: يحول بَين الْمُؤمن وَالْمَعْصِيَة، وَبَين الْكَافِر وَالطَّاعَة.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن مَعْنَاهُ: يحول بَين الْمُؤمن وَالْخَوْف، وَبَين الْكَافِر والأمن؛ وَذَلِكَ أَن الْكفَّار كَانُوا آمِنين، وَالْمُسْلِمين كَانُوا خَائِفين؛ فأبدل الله تَعَالَى خوف هَؤُلَاءِ بالأمن، وَأمن هَؤُلَاءِ بالخوف، وَعبر بِالْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ مَحل الْخَوْف والأمن ﴿وَأَنه إِلَيْهِ تحشرون﴾.
257
﴿وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب (٢٥) واذْكُرُوا إِذْ انتم قَلِيل مستضعفون فِي الأَرْض تخافون أَن يتخطفكم النَّاس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطَّيِّبَات لَعَلَّكُمْ تشكرون (٢٦) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تخونوا الله وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم وَأَنْتُم تعلمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنما أَمْوَالكُم﴾
258
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة﴾ أَكثر الْمُفَسّرين على أَن الْآيَة فِي أَصْحَاب النَّبِي وَمَعْنَاهَا: اتَّقوا عذَابا يُصِيب الظَّالِم وَغير الظَّالِم.
قَالَ الزبير حِين رأى مَا رأى يَوْم الْجمل: مَا علمت أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِينَا أَصْحَاب رَسُول الله حَتَّى كَانَ هَذَا الْيَوْم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس فِي معنى الْآيَة: لَا تقروا الْمُنكر بَيْنكُم، ومروا بِالْمَعْرُوفِ؛ كي لَا يعمكم الله بعقاب، فَيُصِيب الظَّالِم وَغير الظَّالِم.
وَقيل: أَرَادَ بالفتنة: تَفْرِيق الْكَلِمَة وَاخْتِلَاف الآراء، وَاتَّقوا فتْنَة تَفْرِيق الْكَلِمَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة، فَيكون الْعَذَاب مضمرا فِيهِ ﴿وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿واذْكُرُوا إِذْ أَنْتُم قَلِيل مستضعفون فِي الأَرْض تخافون أَن يتخطفكم النَّاس﴾ قَالَ وهب بن مُنَبّه: يَعْنِي: تتخطفكم فَارس. وَقَالَ عِكْرِمَة: يتخطفكم كفار الْعَرَب ﴿فآواكم﴾ يَعْنِي: إِلَى الْمَدِينَة ﴿وأيدكم بنصره﴾ أَي: قواكم بنصره ﴿ورزقكم من الطَّيِّبَات﴾ يَعْنِي: الْغَنَائِم ﴿لَعَلَّكُمْ تشكرون﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تخونوا الله وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم﴾ وَلَا تخونوا أماناتكم ﴿وَأَنْتُم تعلمُونَ﴾ قَالَ الْكَلْبِيّ: نزلت الْآيَة فِي أبي لبَابَة بن عبد الْمُنْذر؛ فَإِن النَّبِي لما حاصر بني قُرَيْظَة بَعثه إِلَيْهِم - وَكَانَ مِنْهُم - فَقَالُوا لَهُ: مَاذَا يفعل بِنَا لَو نزلنَا على حكيه؟ فَوضع أُصْبُعه على حلقه وَأَشَارَ إِلَيْهِم بِالذبْحِ - يَعْنِي: يقتلكم - قَالَ أَبُو لبَابَة: فَمَا بَرحت قَدَمَايَ حَتَّى عرفت أَنِّي خُنْت الله وَرَسُوله، وَنزلت الْآيَة ".
258
﴿وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة وان الله عِنْده أجر عَظِيم (٢٨) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا وَيكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَيغْفر لكم وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم (٢٩) وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا ليثبتوك أَو يَقْتُلُوك أَو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله وَالله خير﴾
وَقيل: الْآيَة فِي جَمِيع الْأَمَانَات، نهي الْعباد عَن الْخِيَانَة فِي الْأَمَانَات، وَتدْخل فِي الْأَمَانَات الطَّاعَات؛ فَإِن الطَّاعَات أمانات عِنْد الْعباد على معنى أَنَّهَا بَينهم وَبَين رَبهم أدوها أَو لم يؤدوها.
259
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنما أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة وَأَن الله عِنْده أجر عَظِيم﴾ قيل: هَذَا أَيْضا فِي أبي لبَابَة، وَكَانَ فيهم أَهله وَأَوْلَاده وأمواله، فَقَالَ مَا قَالَ خوفًا عَلَيْهِم. وَقيل: هُوَ فِي سَائِر الْخلق. وَفِي الحَدِيث: " الْوَلَد مَجْبَنَة مَبْخَلَة ومجهلة ".
وَرُوِيَ أَن النَّبِي رأى الْحسن وَالْحُسَيْن فَقَالَ: " إِنَّكُم لتجبنوني وتبخلوني وتجهلوني، وَإِنَّكُمْ لمن ريحَان الله " وَأَشَارَ إِلَى الْحسن وَالْحُسَيْن يَعْنِي: توقعون الأباء فِي الْجُبْن وَالْبخل وَالْجهل. وَقَوله: " لمن ريحَان الله " أَي: من رزق الله.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: أَي: مخرجا. وَقَالَ جَاهد: منجاة ﴿وَيكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَيغْفر لكم وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا ليثبتوك أَو يَقْتُلُوك أَو يخرجوك﴾ سَبَب نزُول الْآيَة أَن الْمُشْركين اجْتَمعُوا فِي دَار الندوة ليدبروا أَمر رَسُول الله، فَدخل
259
﴿الماكرين (٣٠) وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا قَالُوا قد سمعنَا لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا إِن هَذَا إِلَّا﴾ عَلَيْهِم إِبْلِيس فِي صُورَة شيخ، فَقَالُوا لَهُ: مَا الَّذِي أدْخلك علينا؟ قَالَ: أَنا شيخ من نجد، وَلست من تهَامَة، وَقد بَلغنِي اجتماعكم فِي أَمر هَذَا الرجل، وَأَنه لَا يعدمكم مني رَأْي، فَقَالُوا: اتركوه، ثمَّ تشاوروا، فَقَالَ عتبَة: اربطوه على جمل وأخرجوه من بلدكم تكفكموه الْعَرَب، فَقَالَ إِبْلِيس: لَيْسَ هَذَا بِرَأْي، أما ترَوْنَ حلاوة مَنْطِقه وَأَخذه الْقُلُوب، فَلَو فَعلْتُمْ بِهِ ذَلِك يذهب فيستميل قُلُوب قوم ثمَّ يغزوكم وَيفرق جمعكم، فتركوا ذَلِك، فَقَالَ أَبُو البخْترِي بن هِشَام: نحبسه فِي بَيت ونتربص بِهِ ريب الْمنون، فَقَالَ إِبْلِيس: لَيْسَ هَذَا بِرَأْي، فَإِن لَهُ عشيرة وقوما لَا يرضون بِهِ ويخرجونه، فتركوا ذَلِك، فَقَالَ أَبُو جهل: عِنْدِي رَأْي، هَذِه خَمْسَة أَحيَاء من قُرَيْش، نَخْتَار من كل حَيّ شَابًّا قَوِيا وَنَضَع فِي يَده سَيْفا حادا، ونأمرهم أَن يضربوه دفْعَة وَاحِدَة حَتَّى يتفرق دَمه فِي الْقَبَائِل، ويعجز قومه عَن الْقِتَال فيرضون بِالدِّيَةِ، فَقَالَ إِبْلِيس: هَذَا هُوَ الرَّأْي، وَتَفَرَّقُوا عَلَيْهِ، فَأخْبرهُ الله تَعَالَى يمكرهم، وَنزلت الْآيَة، فروى أَن النَّبِي بعث أَبَا بكر ليتفحص عَن حَالهم، فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِم فَإِذا إِبْلِيس قد خرج من بَينهم، فماشاه سَاعَة ثمَّ لما أَرَادَ أَن يُفَارِقهُ قَالَ لَهُ أَبُو بكر: أَيْن تُرِيدُ؟ فَقَالَ [لَهُ] اللعين: لي قوم بِهَذَا الْوَادي، فَعلم أَبُو بكر أَنه إِبْلِيس، فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي أخزاك واظهر دينه، فاختفى مِنْهُ؛ فَقَوله ﴿وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا﴾ هُوَ مَكْرهمْ ذَلِك، وَالْمَكْر: التَّدْبِير ﴿ليثبتوك﴾ أَي: ليحبسوك كَمَا قَالَ أَبُو البخْترِي ﴿أَو يَقْتُلُوك﴾ كَمَا قَالَ أَبُو جهل ﴿أَو يخرجوك﴾ كَمَا قَالَ عتبَة.
﴿ويمكرون ويمكر الله﴾ وَالْمَكْر من الله: التَّدْبِير بِالْحَقِّ، وَقيل: هُوَ الْأَخْذ بَغْتَة. قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: يجازيهم جَزَاء الْمَكْر.
﴿وَالله خير الماكرين﴾ أَي: خير المدبرين.
260
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا قَالُوا قد سمعنَا لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا﴾ هَذَا قَول النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة، وَكَانَ قد خرج إِلَى الْحيرَة من أَرض الْعرَاق
260
﴿أساطير الْأَوَّلين (٣١) وَإِذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم (٣٢) وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم وَمَا كَانَ﴾ وَاشْترى أَخْبَار رستم، واسفنديار، وَأَحَادِيث الْعَجم، وَجَاء بهَا إِلَى مَكَّة، وَقَالَ: لَو شِئْت لَقلت مثل الْقُرْآن؛ فَذَلِك قَوْله: ﴿لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا﴾.
﴿إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين﴾ أَي: أكاذيب الْأَوَّلين؛ والأساطير: جمع الأسطورة، وَهِي الْمَكْتُوبَة. فَإِن قيل: إِذا كَانَ الْقُرْآن معجزا كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: ﴿لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا﴾ وَهل يَقُول أحد: لَو شِئْت قلبت الْحجر ذَهَبا والعصا حَيَّة وَهُوَ عَاجز عَنهُ؟
قيل: إِن الْقُرْآن مطمع مُمْتَنع، فقد يتَوَهَّم صفوهم أَنه يَقُول مثله، وَيمْتَنع عَلَيْهِ ذَلِك فيخطئ ظَنّه. وَقيل: إِنَّه توهم بجهله أَنه يُمكنهُ الْإِتْيَان بِمثلِهِ وَكَانَ عَاجِزا.
261
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم﴾ أَكثر الْمُفَسّرين على أَن هَذَا قَول النَّضر بن الْحَارِث، وَفِي الصَّحِيح بِرِوَايَة أنس أَن هَذَا قَول أبي جهل عَلَيْهِ اللَّعْنَة.
وَهَذَا يدل على شدَّة بصيرتهم فِي الْكفْر، وَأَنه لم تكن لَهُم شُبْهَة وريبة فِي كذب الرَّسُول؛ لِأَن الْعَاقِل لَا يسْأَل الْعَذَاب بِمثل هَذَا مُتَرَدّد فِي أمره؛ وَهَذَا دَلِيل على أَن الْعَارِف لَيست بضرورته.
وَحكى عَن مُعَاوِيَة أَنه قَالَ لرجل من أهل الْيمن: مَا أَجْهَل قَوْمك حَيْثُ قَالُوا: رَبنَا باعد بَين أسفارنا، فَقَالَ الرجل وأجهل من قومِي قَوْمك؛ حَيْثُ قَالُوا: إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم﴾ يَعْنِي: أهل مَكَّة ﴿وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ وَفِي مَعْنَاهُ أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن هَذَا فِي قوم من الْمُسلمين بقوا بِمَكَّة بعد هِجْرَة الرَّسُول، وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَفِيهِمْ من يسْتَغْفر.
261
﴿الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَمَا لَهُم أَلا يعذبهم الله وهم يصدون عَن الْمَسْجِد﴾
وَقيل: فِي قوم علم الله تَعَالَى أَنهم يُؤمنُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ من أهل مَكَّة، وَذَلِكَ مثل: أبي سُفْيَان، وَصَفوَان بن أُميَّة، وَعِكْرِمَة بن أبي جهل، وَسُهيْل بن عَمْرو، وَحَكِيم بن حزَام، وَنَحْوهم، فَلَمَّا كَانَ فِي علم الله تَعَالَى أَنهم لأَصْحَابه يسلمُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ؛ عدهم مستغفرين فِي الْحَال.
وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ الله معذبهم وَفِي أصلابهم من يسْتَغْفر؛ إِذْ كَانَ لبَعْضهِم أَوْلَاد قد أَسْلمُوا.
وَقيل: إِنَّمَا قَالَ: ﴿وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ دَعْوَة لَهُم إِلَى الْإِسْلَام وَالِاسْتِغْفَار، كَالرّجلِ يَقُول: لَا أعاقبك وَأَنت تطيعني، أَي: أطعني حَتَّى لَا أعاقبك.
وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي قَالَ: أنزل الله على أمانين لأمتي: ﴿وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم وَمَا كَانَ معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ فَإِذا مضيت تركت لَهُم الاسْتِغْفَار إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وَهُوَ فِي جَامع أبي عِيسَى بطرِيق أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: من قَالَ فِي كل يَوْم: أسْتَغْفر الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم وَأَتُوب إِلَيْهِ، ثَلَاث مَرَّات، غفر لَهُ ذنُوبه وَإِن كَانَ فَارًّا من الزَّحْف.
وَاسْتدلَّ بِهَذَا الْأَثر من عد الْفِرَار من الزَّحْف من جملَة الْكَبَائِر.
262
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا لَهُم أَلا يعذبهم الله﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ التلفيق بَين هَذَا وَبَين قَوْله: ﴿وَمَا كَانَ الله [ليعذبهم] ﴾ ؟ قيل: أَرَادَ بِالْأولِ: عَذَاب الاستئصال، وَبِهَذَا: عَذَاب السَّيْف. وَقيل: أَرَادَ بِالْأولِ: عَذَاب الدُّنْيَا، وَبِالثَّانِي: عَذَاب الْآخِرَة.
262
﴿الْحَرَام وَمَا كَانُوا أولياءه إِن أولياءه إِلَّا المتقون وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (٣٤) وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون (٣٥) إِن﴾
وَقيل: المُرَاد بِهِ أُولَئِكَ الَّذين ترك تعذيبهم؛ لكَون النَّبِي بَينهم، وَمَعْنَاهُ: وَمَا لَهُم أَلا يعذبهم الله بعد خُرُوجك من بَينهم.
﴿وهم يصدون عَن الْمَسْجِد الْحَرَام﴾ أَي: يمْنَعُونَ عَنهُ ﴿وَمَا كَانُوا أولياءه﴾ وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يدعونَ: إِنَّا أَوْلِيَاء الْبَيْت ﴿إِن أولياؤه إِلَّا المتقون﴾ يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ ﴿وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ﴾.
263
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية﴾ قَالَ ابْن عمر، وَابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُم - وَالْحسن المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق. والمكاء فِي اللُّغَة: اسْم طَائِر لَهُ صفير فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا صَوت مكاء، وَقَالَ مُجَاهِد: والمكاء أَن يَجْعَل أَصَابِعه فِي شدقيه، والتصدية: الصفير؛ فجعلهما شَيْئا وَاحِدًا. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: التصدية: هِيَ صدهم الْمُؤمنِينَ عَن الْمَسْجِد الْحَرَام. وَالْأول أصح، قَالَ الشَّاعِر:
(وحليل غانية تركت مجدلا تمكو فريصته كشدق الأعلم)
أَي: تصفر فريصته كشدق الأعلم.
والقصة فِي ذَلِك: أَن أَرْبَعَة من بني عبد الدَّار كَانُوا إِذا صلى النَّبِي فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وقف اثْنَان عَن يَمِينه، وَاثْنَانِ عَن يسَاره، فيصفر اللَّذَان عَن يَمِينه ويصفق اللَّذَان عَن يسَاره حَتَّى يخلطوا عَلَيْهِ الْقِرَاءَة.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: إِنَّمَا سَمَّاهُ صَلَاة؛ لأَنهم أمروا بِالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِد، فَلَمَّا وضعُوا ذَلِك مَوضِع الصَّلَاة سَمَّاهُ صَلَاة ﴿فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الذيك كفرُوا يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ليصدوا عَن سَبِيل الله فيسنفقونها ثمَّ تكون عَلَيْهِم حسرة ثمَّ يغلبُونَ﴾ فِيهِ قَولَانِ:
263
﴿الَّذين كفرُوا يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ليصدوا عَن سَبِيل الله فسينفقونها ثمَّ تكون عَلَيْهِم حسرة ثمَّ يغلبُونَ وَالَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم يحشرون (٣٦) ليميز الله الْخَبيث من الطّيب وَيجْعَل الْخَبيث بعضه على بعض فيركمه جَمِيعًا فَيَجْعَلهُ فِي جَهَنَّم أُولَئِكَ هم الخاسرون (٣٧) قل للَّذين كفرُوا إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف وَإِن يعودوا فقد مَضَت سنت﴾
أَحدهمَا: أَن الْآيَة فِي المطمعين يَوْم بدر، وهم اثْنَا عشر نَفرا من رُؤْس الْمُشْركين: أَبُو جهل بن هِشَام، والْحَارث بن هِشَام، وَأبي بن خلف، وَعتبَة وَشَيْبَة ابْنا ربيعَة، ومنبه وَنبيه ابْنا الْحجَّاج، وَأَبُو البخْترِي بن هِشَام، وَحَكِيم بن حزَام، وَالنضْر بن الْحَارِث، وَزَمعَة بن الْأسود، وَالْعَبَّاس بن عبد الْمطلب؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم كَانَ كل يَوْم ينْحَر عشرَة أَبْعِرَة وَيطْعم الْجَيْش.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا فِي أبي سُفْيَان بن حَرْب اسْتَأْجر ثَلَاثَة آلَاف رجل من الْأَحَابِيش يَوْم أحد لقِتَال النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - فَنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين كفرُوا يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ليصدوا عَن سَبِيل الله ثمَّ تكون حسرة عَلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ يغلبُونَ﴾.
قَالَ الْحسن: أَشد النَّاس حسرة يَوْم القيامه من يرى مَاله فِي ميزَان غَيره ﴿وَالَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم يحشرون﴾.
264
قَوْله تَعَالَى: ﴿ليميز الله الْخَبيث من الطّيب﴾ أَي: ليفرق الله الْخَبيث من الطّيب؛ الْخَبيث: مَا أنْفق من الْحَرَام، وَالطّيب: مَا أنْفق من الْحَلَال. وَقيل: الْخَبيث مَا أنْفق فِي الْمعْصِيَة، وَالطّيب مَا أنْفق فِي الطَّاعَة.
﴿وَيجْعَل الْخَبيث بعضه على بعض فيركمه جَمِيعًا﴾ أَي: يجمعه جَمِيعًا؛ يُقَال: سَحَاب مركوم إِذا كَانَ بعضه على بعض ﴿فَيَجْعَلهُ فِي جَهَنَّم أُولَئِكَ هم الخاسرون﴾.
وَعَن عبَادَة بن الصَّامِت - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: إِن الله تَعَالَى يجمع الدُّنْيَا يَوْم الْقِيَامَة، فَيَأْخُذ مَاله ويطرح الْبَاقِي فِي النَّار. ولأي معنى يطرحه فِي النَّار؟ قيل: ليضيق الْمَكَان على الْكفَّار، وَقيل: لتَكون الْحَسْرَة أَشد عَلَيْهِم إِذا نظرُوا إِلَيْهَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل للَّذين كفرُوا إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف﴾ قَالَ يحيى بن
264
﴿الْأَوَّلين (٣٨) وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَيكون الدّين كُله لله فَإِن انْتَهوا فَإِن الله بِمَا يعْملُونَ بَصِير (٣٩) وَإِن توَلّوا فاعلموا أَن الله مولاكم نعم الْمولى وَنعم النصير (٤٠) وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى﴾ معَاذ الرَّازِيّ - رَحمَه الله - إِيمَان لم يعجز عَن هدم كفر قبله فَمَتَى يعجز عَن هدم ذَنْب بعده!
﴿وَإِن يعودوا فقد مَضَت سنة الْأَوَّلين﴾ قيل: سنة الْأَوَّلين: أَن يصل عَذَاب الدُّنْيَا بعقوبة الْآخِرَة.
265
قَوْله تَعَالَى: ﴿وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة﴾ أَي: لَا يكون شرك ﴿وَيكون الدّين كُله لله فَإِن انْتَهوا فَإِن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير وَإِن توَلّوا فاعلموا أَن الله مولاكم نعم الْمولى وَنعم النصير﴾ فالمولى: الْقيم بالأمور، والنصير: النَّاصِر.
( وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ) فالمولى : القيم بالأمور، والنصير : الناصر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ﴾ الْآيَة.
اخْتلف الْعلمَاء فِي الْغَنِيمَة والفيء؛ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُمَا سَوَاء، وَهُوَ المَال الْمَأْخُوذ من الْكفَّار على وَجه الْقَهْر.
وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَح -: أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَالْفرق بَينهمَا: أَن الْغَنِيمَة: هِيَ المَال الْمَأْخُوذ من الْكفَّار على وَجه العنوة بِإِيجَاف الْخَيل والركاب، والفيء: هُوَ المَال الْمَأْخُوذ من غير إيجَاف خيل وَلَا ركاب.
وَهَذَا القَوْل مَنْقُول عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَالشَّافِعِيّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَغَيرهمَا.
﴿فَأن الله﴾ أَكثر الْمُفَسّرين على أَن قَوْله: ﴿لله﴾ افْتِتَاح كَلَام، وَلَيْسَ لله سهم مُنْفَرد؛ بل سهم الله وَسَهْم الرَّسُول وَاحِد.
وَفِيه قَول آخر: أَن لله سَهْما يصرف إِلَى الْكَعْبَة. وَقد رُوِيَ أَن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة فَقَالَ: قَوْله ﴿فَأن لله خَمْسَة﴾ افْتِتَاح كَلَام، لله الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَعَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي قَالَ: " كَانَ رَسُول الله يقسم الْغَنِيمَة على
265
خَمْسَة أسْهم، فيفرز الْخمس مِنْهُ، ثمَّ يَأْخُذ مِنْهُ قَبْضَة فَيَجْعَلهُ للكعبة، ثمَّ يقسم الْبَاقِي على مَا ذكر الله ".
وَأما قَوْله: ﴿وَلِلرَّسُولِ﴾ أَكثر الْمُفَسّرين على أَن للرسول سَهْما مُفردا. وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ للرسول سهم أصلا؛ وَإِنَّمَا هُوَ افْتِتَاح كَلَام، وَمعنى ذكر الرَّسُول أَن التَّدْبِير إِلَيْهِ.
ثمَّ اخْتلفُوا على القَوْل الأول أَن ذَلِك السهْم بعد مَوته لمن يكون؟
قَالَ قَتَادَة: هُوَ للخليفة بعده. وَقَالَ بَعضهم: يرد إِلَى الأسهم الْأَرْبَعَة. وَأما مَذْهَب الشَّافِعِي: أَن ذَلِك السهْم يصرف إِلَى الْمصَالح.
وَفِيه قَول رَابِع: أَنه يصرف إِلَى الكراع وَالسِّلَاح فِي سَبِيل الله. وَهَذَا مَرْوِيّ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَغَيره.
وَأما قَوْله: ﴿وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ اخْتلفُوا فِي هَذَا على ثَلَاثَة أقاويل:
فمذهب الشَّافِعِي: أَن لَهُم سَهْما مُفردا بعد رَسُول الله إِلَى قيام السَّاعَة، يشْتَرك فِيهِ أغنياؤهم وفقراؤهم على مَا هُوَ الْمَعْرُوف. وَهَذَا قَول أَحْمد وَغَيره.
وَقَالَ مَالك: الْأَمر فِيهِ إِلَى الإِمَام إِن شَاءَ أَعْطَاهُم، وَإِن شَاءَ لم يعطهم، وَكَذَلِكَ فِي الْبَاقِي، وَإِنَّمَا ذكرُوا لجَوَاز الصّرْف إِلَيْهِم لَا للاستحقاق.
وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة - رَضِي الله عَنهُ -: أَن سهم ذَوي الْقُرْبَى يرد إِلَى البَاقِينَ، وَلَيْسَ لَهُم سهم مُفْرد، فَيقسم على ثَلَاثَة أسْهم لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل. ويروون هَذَا عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة أَنهم قسموا على هَذَا الْوَجْه، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي ذَوي الْقُرْبَى من هم؟ قَالَ مُجَاهِد. هم بَنو هَاشم خَاصَّة؛ وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: جَمِيع قُرَيْش. وَحكى عَنهُ أَنه سُئِلَ عَن سهم ذَوي الْقُرْبَى فَقَالَ: نزعم أَنه لنا، ويأبى قَومنَا ذَلِك علينا.
266
﴿وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه وَمَا أنزلنَا على عَبدنَا يَوْم الْفرْقَان يَوْم التقى﴾
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن ذَوي الْقُرْبَى هم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي - رَحمَه الله - وَقد دلّ عَلَيْهِ الْخَبَر الْمَرْوِيّ بطرِيق جُبَير بن مطعم - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي: " قسم سهم ذَوي الْقُرْبَى بَين بني هَاشم وَبني الْمطلب، فمشيت أَنا وَعُثْمَان إِلَى رَسُول الله وَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، إِنَّا لَا ننكر فَضِيلَة بني هَاشم لِمَكَانِك الَّذِي وضعك الله فيهم؛ ولكننا وإخواننا بني الْمطلب فِي الْقَرَابَة مِنْك سَوَاء، وَقد أَعطيتهم وَحَرَمْتنَا، فَقَالَ: أَنا وَبني الْمطلب شَيْء وَاحِد - وَشَبك بَين أَصَابِعه - وَإِنَّهُم لم يفارقونا فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام ". ٍ
وَأما قَوْله تَعَالَى: ﴿واليتامى﴾ فاليتامى لَهُم سهم مُفْرد بِالْإِنْفَاقِ، واليتيم الَّذِي يسْتَحق السهْم هُوَ الَّذِي لَا أَب لَهُ فَيكون صَغِيرا فَقِيرا.
وَقَوله: ﴿وَالْمَسَاكِين﴾ فالمساكين هم أهل الْحَاجة، وَسَيَرِدُ الْفرق بَين الْمِسْكِين وَالْفَقِير فِي سُورَة بَرَاءَة.
وَأما قَوْله: ﴿وَابْن السَّبِيل﴾ فَهُوَ الْمُنْقَطع الَّذِي بعد عَن مَاله.
وَقَوله: ﴿إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه﴾ مَعْنَاهُ: وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ، على مَا ذكر، إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه. وَقيل مَعْنَاهُ: يأمران فِيهِ بِمَا يُريدَان فاقبلوا إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أنزلنَا﴾ يَعْنِي: إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه وَبِمَا أنزلنَا ﴿على عَبدنَا﴾.
وَفِيه قَول آخر: أَن هَذَا رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: ﴿وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة﴾ إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه وَبِمَا أنزلنَا على عَبدنَا ﴿يَوْم الْفرْقَان﴾ يَوْم بدر، فرق الله تَعَالَى فِيهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل ﴿يَوْم التقى الْجَمْعَانِ﴾ مَعْنَاهُ: التقى حزب الله وحزب الشَّيْطَان
267
﴿الْجَمْعَانِ وَالله على كل شَيْء قدير (٤١) إِذْ إنتم بالعدوة الدُّنْيَا وهم بالعدوة القصوى والركب أَسْفَل مِنْكُم وَلَو تواعدتم لاختلفتم فِي الميعاد وَلَكِن ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة وَيحيى من حَيّ عَن بَيِّنَة وَإِن الله لسميع عليم (٤٢) إِذْ﴾
﴿وَالله على كل شَيْء قدير﴾.
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: يَوْم الْفرْقَان يَوْم السَّابِع عشر من رَمَضَان أخبر الله تَعَالَى بِتمَام قدرته.
268
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ أَنْتُم بالعدوة الدُّنْيَا﴾ الْآيَة، العدوة: شَفير الْوَادي؛ والغدوة والعدوة وَاحِد، وَقَوله ﴿الدُّنْيَا﴾ يَعْنِي: الْأَدْنَى من الْمَدِينَة؛ فَهِيَ تَأْنِيث الْأَدْنَى ﴿وهم بالعدوة القصوى﴾ يَعْنِي: الْأَقْصَى من مَكَّة؛ وَهِي تَأْنِيث الْأَقْصَى ﴿والركب أَسْفَل مِنْكُم﴾ قَالُوا مَعْنَاهُ: والركب بمنزل أَسْفَل مِنْكُم. والركب: هُوَ العير الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَبُو سُفْيَان، وَكَانُوا بساحل الْبَحْر على ثَلَاثَة أَمْيَال من بدر ﴿وَلَو تواعدتم لاختلفتم فِي الميعاد﴾ مَعْنَاهُ: وَلَو تواعدتم الِاتِّفَاق والاجتماع لِلْقِتَالِ لاختلفتم لقلتكم وكثرتهم ﴿فِي الميعاد وَلَكِن﴾ الله جمع من غير ميعاد ﴿ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة﴾ الْآيَة فِيهَا قَولَانِ:
أَحدهمَا - وَهُوَ الْأَظْهر -: أَن الْهَلَاك هُوَ الْكفْر، والحياة هِيَ الْإِيمَان، وَمَعْنَاهُ: ليكفر من كفر عَن حجَّة بَيِّنَة فِيمَا لَهُ وَعَلِيهِ ﴿ويحيا من حَيّ﴾ يَعْنِي: ويؤمن من آمن على مثل ذَلِك.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْهَلَاك هُوَ الْمَوْت، والحياة هِيَ الْعَيْش، وَمَعْنَاهُ: ليَمُوت من يَمُوت عَن حجَّة بَيِّنَة، ويعيش من يعِيش على مثل ذَلِك.
﴿وَإِن الله لسميع عليم﴾ سميع لأقوالكم، عليم بأموركم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ يريكهم الله فِي مَنَامك قَلِيلا﴾ الْآيَة فِيهَا قَولَانِ:
أظهر الْقَوْلَيْنِ: أَن الْمَنَام حَقِيقَة النّوم؛ فَرَآهُمْ رَسُول الله فِي نَومه أقل مِمَّا كَانُوا
268
﴿يريكهم الله فِي مَنَامك قَلِيلا وَلَو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم فِي الْأَمر وَلَكِن الله سلم إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (٤٣) وَإِذ يريكموهم إِذا التقيتم فِي أعينكُم قَلِيلا ويقللكم فِي أَعينهم ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور (٤٤) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا﴾ فِي الْعدَد.
وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ: أَنه قَوْله تَعَالَى: ﴿فِي مَنَامك﴾ أَي: فِي عَيْنك قَلِيلا؛ وسمى الْعين مناما؛ لِأَنَّهَا مَوضِع النّوم.
﴿وَلَو أراكهم كثيرا لفشلتم﴾ لجبنتم ﴿ولتنازعتم فِي الْأَمر﴾ يَعْنِي: فِي الإحجام والإقدام ﴿وَلَكِن الله سلم﴾ أَي: سلمكم من الفشل والجبن ﴿إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور﴾.
وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه كَانَ يستعيذ بِاللَّه من الْجُبْن.
269
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ يريكموهم إِذْ التقيتم فِي أعينكُم قَلِيلا ويقللكم فِي أَعينهم ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور﴾ معنى الْآيَة: أَن الله تَعَالَى قلل الْمُشْركين فِي أعين الْمُؤمنِينَ؛ ليقدموا وَلَا يجبنوا، وقلل الْمُؤمنِينَ فِي أعين الْكفَّار؛ لِئَلَّا يهربوا.
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: قلت يَوْم بدر لبَعض من كَانَ بجنبي: تراهم سبعين رجلا، فَقَالَ: أَرَاهُم مائَة، ثمَّ إِنَّا أسرنا مِنْهُم فَقُلْنَا لَهُم: كم كُنْتُم؟ فَقَالُوا: كُنَّا ألفا ﴿ليقضي الله﴾ يَعْنِي: ليقضي الله من إعلاء الْإِسْلَام وإذلال الشّرك ونصرة الْمُؤمنِينَ وَقتل الْمُشْركين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا لَقِيتُم فِئَة﴾ الْآيَة، الفئة: الْجَمَاعَة.
269
﴿إِذا لَقِيتُم فِئَة فاثبتوا واذْكُرُوا الله كثيرا لَعَلَّكُمْ تفلحون (٤٥) وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله وَلَا تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم واصبروا إِن الله مَعَ الصابرين (٤٦) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين خَرجُوا من دِيَارهمْ بطرا ورئاء النَّاس ويصدون عَن سَبِيل الله وَالله بِمَا يعلمُونَ﴾
قَوْله: ﴿فاثبتوا واذْكُرُوا الله كثيرا﴾ وَمعنى ذكر الله: هُوَ الدُّعَاء بالنصرة وَالظفر ﴿لَعَلَّكُمْ تفلحون﴾ وَكُونُوا على رَجَاء الْفَلاح.
270
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله﴾ الْآيَة، وَقَوله: ﴿وَلَا تنازعوا فتفشلوا﴾ مَعْنَاهُ: وَلَا تختلفوا فتضعفوا ﴿وَتذهب ريحكم﴾ مَعْنَاهُ: جدكم وجهدكم.
وَقَالَ قَتَادَة: الرّيح هَاهُنَا: ريح النُّصْرَة. وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " نصرت بالصبا، وأهلكت عَاد بالدبور ".
وَالْقَوْل الثَّالِث، قَول الْأَخْفَش وَغَيره: وَتذهب ريحكم أَي: دولتكم ﴿واصبروا إِن الله مَعَ الصابرين﴾ مَعْلُوم التَّفْسِير.
وَفِي الْآيَة فَضِيلَة عَظِيمَة لأهل الصَّبْر؛ فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿إِن الله مَعَ الصابرين﴾ قَالَ الشَّاعِر:
(إِنِّي رَأَيْت فِي الْأَيَّام تجربة للصير عَاقِبَة محمودة الْأَثر)
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين خَرجُوا من دِيَارهمْ بطرا ورئاء النَّاس﴾ الْآيَة، البطر: الطغيان فِي النِّعْمَة وَترك الشُّكْر، والرياء: إِظْهَار الْجَمِيل وإبطان الْقَبِيح.
وَالْآيَة نزلت فِي الْمُشْركين حِين أَقبلُوا إِلَى بدر،
فَقَالَ تَعَالَى للْمُؤْمِنين: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين خَرجُوا من دِيَارهمْ بطرا ورئاء النَّاس﴾.
﴿ويصدون عَن سَبِيل الله﴾ مَعْنَاهُ: يمْنَعُونَ عَن سَبِيل الْحق ﴿وَالله بِمَا يعلمُونَ مُحِيط﴾ رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ حِين أقبل الْمُشْركُونَ: " اللَّهُمَّ هَذِه قُرَيْش أَقبلت
270
﴿مُحِيط (٤٧) وَإِذ زين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم وَقَالَ لَا غَالب لكم الْيَوْم من النَّاس وَإِنِّي جَار لكم فَلَمَّا تراءت الفئتان نكص على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيء مِنْكُم وَإِنِّي أرى مَا لَا ترَوْنَ إِنِّي أَخَاف الله وَالله شَدِيد الْعقَاب (٤٨) إِذْ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض﴾ بفخرها وخيلائها تُحَادك وتحاد رَسُولك " الْخَبَر إِلَى آخِره.
271
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ زين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم وَقَالَ لَا غَالب لكم الْيَوْم من النَّاس﴾ الْآيَة. رُوِيَ أَن إِبْلِيس - عَلَيْهِ مَا يسْتَحق - تمثل فِي صُورَة سراقَة بن مَالك وَقَالَ للْمُشْرِكين: ﴿وَإِنِّي جَار لكم﴾ مَعْنَاهُ: مجير لكم من بني كنَانَة، فَلَا يُصِيبكُم مِنْهُم سوء، ثمَّ جعل يحرضهم على الْقِتَال ﴿فَلَمَّا تراءت الفئتان﴾ أَي: تلاقت الفئتان، الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُشْرِكُونَ ﴿نكص على عَقِبَيْهِ﴾ رَجَعَ الْقَهْقَرِي على عَقِبَيْهِ ﴿وَقَالَ إِنِّي بَرِيء مِنْكُم﴾ فِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ آخِذا بيد الْحَارِث بن هِشَام أخي أبي جهل، فَلَمَّا رأى الْمَلَائِكَة ينزلون من السَّمَاء يقدمهم جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - نزع يَده من يَد الْحَارِث وهرب، فَقَالَ لَهُ الْحَارِث: أفرارا من غير قتال؟ وَجعل يمسِكهُ، فَدفع فِي صَدره وَقَالَ: ﴿إِنِّي أرى مَا لَا ترَوْنَ﴾ وهرب ﴿إِنِّي أَخَاف الله﴾.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ إِنِّي أَخَاف الله وَقد ترك السُّجُود لآدَم وَهُوَ لم يخف الله؟ الْجَواب فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه قَالَ هَذَا كذبا، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه خَافَ أَن يُؤْخَذ فيفتضح بَين الْإِنْس. وَمِنْهُم من قَالَ: خَافَ أَنه قد حضر أَجله ﴿وَالله شَدِيد الْعقَاب﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض غر هَؤُلَاءِ دينهم﴾ هَؤُلَاءِ قوم كَانُوا أَسْلمُوا بِمَكَّة وَلم يهاجروا، فَكَانَ فِي قُلُوبهم بعض الريب، فَخَرجُوا مَعَ الْمُشْركين وَقَالُوا: إِن نرى مَعَ مُحَمَّد قُوَّة انتقلنا إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْا قلَّة الْمُؤمنِينَ وَضعف شوكتهم قَالُوا هَذَا القَوْل، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ﴿إِذْ يَقُول المُنَافِقُونَ﴾ الْآيَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن يتوكل على الله﴾ وَمن يَثِق بِاللَّه ﴿فَإِن الله عَزِيز حَكِيم﴾ قد
271
﴿غر هَؤُلَاءِ دينهم وَمن يتوكل على الله فَإِن الله عَزِيز حَكِيم (٤٩) وَلَو ترى إِذْ يتوفى الَّذين كفرُوا الْمَلَائِكَة يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم وذوقوا عَذَاب الْحَرِيق (٥٠) ذَلِك بِمَا قدمت أَيْدِيكُم وَأَن الله لَيْسَ بظلام للعبيد (٥١) كدأب آل فِرْعَوْن وَالَّذين من قبلهم كفرُوا بآيَات الله فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ إِن الله قوي شَدِيد الْعقَاب (٥٢) ذَلِك بِأَن الله لم يَك مغيرا نعْمَة أنعمها على قوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم وَأَن الله سميع عليم﴾ بَينا معنى الْعَزِيز الْحَكِيم من قبل.
272
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو ترى إِذْ يتوفى الَّذين كفرُوا الْمَلَائِكَة﴾ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن هَذَا عِنْد الْمَوْت، وَقَوله: ﴿يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم﴾ يضْربُونَ وُجُوههم بأسواط النَّار، وأدبارهم سوقا إِلَى الْعَذَاب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن التوفي هَاهُنَا هُوَ الْقَتْل، وَمَعْنَاهُ: قتل الْمَلَائِكَة الْمُشْركين ببدر، وَقَوله ﴿يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم﴾ مَعْنَاهُ: يضربونهم بِالسَّيْفِ إِذا أَقبلُوا. وَقَوله ﴿وأدبارهم﴾ ويضربونهم بِالسَّيْفِ إِذا أدبروا، وَيَقُولُونَ: ﴿وذوقوا عَذَاب الْحَرِيق﴾.
رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: مَعَ الْمَلَائِكَة مَقَامِع من حَدِيد يضْربُونَ بهَا الْكفَّار، فتلتهب النَّار فِي جراحاتهم؛ فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿وذوقوا عَذَاب الْحَرِيق﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك بِمَا قدمت أَيْدِيكُم وَأَن الله لَيْسَ بظلام للعبيد﴾ وَمَعْنَاهُ ظَاهر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿كدأب آل فِرْعَوْن﴾ الْآيَة، الدأب هَاهُنَا بِمَعْنى الْعَادة، وَمَعْنَاهُ: عَادَتهم فِي الْكفْر كعادة آل فِرْعَوْن ﴿وَالَّذين من قبلهم كفرُوا بآيَات الله﴾ الْآيَة، وَمعنى الْآيَة ظَاهر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك بِأَن الله لم يَك مغيرا نعْمَة أنعمها على قوم﴾ الْآيَة، فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: مَعْنَاهُ: ﴿لم يكن مغيرا نعْمَة﴾ يَعْنِي: لم يكن مبدلا النِّعْمَة بالبلية
272
( ﴿٥٣) كدأب آل فِرْعَوْن وَالَّذين من قبلهم كذبُوا بآيَات رَبهم فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ وأغرقنا آل فِرْعَوْن وكل كَانُوا ظالمين (٥٤) إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الَّذين كفرُوا فهم لَا يُؤمنُونَ (٥٥) الَّذين عَاهَدت مِنْهُم ثمَّ ينقضون عَهدهم فِي كل مرّة وهم لَا يَتَّقُونَ﴾ ﴿حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم﴾ يَعْنِي: حَتَّى يتْركُوا الشُّكْر، ويؤتوا الكفران.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا فِي أهل مَكَّة؛ فَإِن الرَّسُول كَانَ نعْمَة أنعمها الله تَعَالَى عَلَيْهِم، فَكَفرُوا بِهَذِهِ النِّعْمَة، فغيرها الله تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: أَنه نقلهَا إِلَى أهل الْمَدِينَة ﴿وَأَن الله سميع عليم﴾ معلومان.
273
قَوْله تَعَالَى: ﴿كدأب آل فِرْعَوْن﴾ وَمَعْنَاهُ: مَا بَينا، وإعادة الذّكر للتَّأْكِيد، وَيجوز أَن هَذَا كَانَ فِي قوم آخَرين سوى الْأَوَّلين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين من قبلهم كذبُوا بآيَات رَبهم فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ﴾ يَعْنِي: نهلك هَؤُلَاءِ كَمَا أهلكنا أُولَئِكَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وأغرقنا آل فِرْعَوْن وكل كَانُوا ظالمين﴾ يَعْنِي: الْأَوَّلين والآخرين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الَّذين كفرُوا﴾ الْآيَة. هَذِه الْآيَة مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ كالأنعام بل هم أضلّ﴾ سماهم الله تَعَالَى دَوَاب وأنعاماً؛ لقلَّة انتفاعهم بعقولهم وألبابهم وأسماعهم وأبصارهم ﴿فهم لَا يُؤمنُونَ﴾ مَعْنَاهُ ظَاهر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين عَاهَدت مِنْهُم﴾ هَذِه الْآيَة نزلت فِي قوم من الْمُشْركين عَاهَدُوا مَعَ رَسُول الله ثمَّ نقضوا الْعَهْد، فَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿الَّذين عَاهَدت مِنْهُم ثمَّ ينقضون عَهدهم فِي كل مرّة﴾ يَعْنِي: كلما عَاهَدُوا نقضوا ﴿وهم لَا يَتَّقُونَ﴾ مَعْنَاهُ: لَا يَتَّقُونَ نقض الْعَهْد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فإمَّا تثقفنهم فِي الْحَرْب﴾ مَعْنَاهُ: فإمَّا تصادفنهم فِي الْحَرْب ﴿فشرد بهم من خَلفهم﴾ قَالَ سعيد بن جُبَير: أنذر بهم من خَلفهم، قَالَ الشَّاعِر:
273
( ﴿٥٦) فإمَّا تثقفهم فِي الْحَرْب فشرد بهم من خَلفهم لَعَلَّهُم يذكرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تخافن من قوم خِيَانَة فانبذ إِلَيْهِم على سَوَاء إِن الله لَا يحب الخائنين (٥٨) وَلَا يَحسبن الَّذين كفرُوا سبقوا إِنَّهُم لَا يعجزون (٥٩) وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل﴾
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَعَلَّهُم يذكرُونَ﴾ يَعْنِي: يتذكرون.
وَمعنى الْآيَة: أَي نكل بهؤلاء الَّذين جَاءُوا لحربك أَو نقضوا عَهْدك تنكيلا يفرق بَينهم من خَلفهم من جماعاتهم.
274
فَقَوله تَعَالَى: ﴿وَإِمَّا تخافن من قوم خِيَانَة﴾ الْآيَة، معنى المخافة هَاهُنَا: هُوَ الإحساس بالخيانة ﴿فانبذ إِلَيْهِم على سَوَاء﴾ يَعْنِي: فانبذ الْعَهْد إِلَيْهِم ﴿على سَوَاء﴾ يَعْنِي: على حَالَة تستوي أَنْت وهم فِي الْعلم بِهِ.
وَالْمرَاد من الْآيَة: أَلا تقَاتلهمْ قبل نبذ الْعَهْد، وَقبل علمهمْ بالنبذ حَتَّى لَا تنْسب إِلَى نقض الْعَهْد، وَهَذِه الْآيَة تعد من فصيح الْقُرْآن.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله لَا يحب الخائنين﴾ وَالْمعْنَى مَعْلُوم.
قَوْله تَعَالَى (وَلَا يَحسبن الَّذين كفرُوا سبقوا) الْآيَة فِي الْقَوْم الَّذين انْهَزمُوا يَوْم بدر من الْمُشْركين، قَوْله: ﴿سبقوا﴾ يَعْنِي: فاتوا.
قَوْله ﴿إِنَّهُم لَا يعجزون﴾ يَعْنِي: لَا يفوتوني. وَقَرَأَ ابْن مُحَيْصِن: " لايعجزون " وَالصَّحِيح الْقِرَاءَة الأولى. وَقد قُرِئت الْآيَة بقراءتين: " أَنهم " و " إِنَّهُم " فَقَوله: " إِنَّهُم " على طَرِيق الِابْتِدَاء، وَقَوله: " أَنهم " يَعْنِي: لأَنهم لَا يفوتون. وَمعنى الْفَوات مَنْقُول عَن أبي عُبَيْدَة، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: ﴿لَا يعجزون﴾ مَعْنَاهُ: إِن فاتهم عَذَاب الدُّنْيَا لَا يفوتهُمْ من عَذَاب الْآخِرَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل﴾ الْآيَة، الإعداد: اتِّخَاذ الشَّيْء لوقت الْحَاجة، وَقَوله: ﴿من قُوَّة﴾ فِيهِ أَقْوَال:
274
﴿ترهبون بِهِ عَدو الله وَعَدُوكُمْ وَآخَرين من دونهم لَا تَعْلَمُونَهُم الله يعلمهُمْ وَمَا تنفقوا﴾
أَحدهَا: مَا روى عقبَة بن عَامر: " أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه الْآيَة على الْمِنْبَر ثمَّ قَالَ: أَلا إِن الْقُوَّة الرَّمْي، أَلا إِن الْقُوَّة الرَّمْي ". أوردهُ مُسلم فِي " الصَّحِيح ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ أَن الْقُوَّة: ذُكُور الْخَيل، والرباط: إناثها. هَذَا قَول عِكْرِمَة.
وَرُوِيَ عَن خَالِد بن الْوَلِيد أَنه كَانَ لَا يركب فِي الْقِتَال إِلَّا الْإِنَاث؛ لقلَّة صهيلها.
وَعَن أبي محيريز قَالَ: كَانُوا يستحبون ركُوب ذُكُور الْخَيل عِنْد الصُّفُوف، وركوب إناث الْخَيل عِنْد الثَّبَات والغارات.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْقُوَّة: هِيَ جَمِيع الأسلحة. وَقد قيل: إِن الْقُوَّة: الْحُصُون؛ والحصون: الْخُيُول، قَالَ الشَّاعِر:
(أَطُوف فِي الأباطح كل يَوْم مَخَافَة أَن يشرد بِي حَكِيم)
(وَلَقَد علمت على تجنبي الردى أَن الْحُصُون الْخَيل لَا مدر الْقرى)
وَقَوله: ﴿ترهبون بِهِ﴾ مَعْنَاهُ: تخيفون بِهِ ﴿عَدو الله وَعَدُوكُمْ﴾ أَي: أَعدَاء الله وأعداءكم وَاحِد بِمَعْنى الْجمع. وَقَوله: ﴿وَآخَرين من دونهم﴾ أَي: ترهبون بِهِ آخَرين من دونهم، وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ:
رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: هم بَنو قُرَيْظَة. وَفِيه قَول آخر: أَنهم المُنَافِقُونَ.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَنهم الْجِنّ. وَعَن السدى أَنه قَالَ: أهل فَارس.
وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لن يخبل الْجِنّ آدَمِيًّا فِي دَاره فرس عَتيق ". أوردهُ النقاش فِي تَفْسِيره.
275
﴿من شَيْء فِي سَبِيل الله يوف إِلَيْكُم وَأَنْتُم لَا تظْلمُونَ (٦٠) وَإِن جنحوا للسلم فاجنح لَهَا وتوكل على الله إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (٦١) وَإِن يُرِيدُوا أَن يخدعوك فَإِن حَسبك الله هُوَ الَّذِي أيدك بنصره وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَألف بَين قُلُوبهم لَو أنفقت مَا فِي الأَرْض﴾
وَفِي الْآيَة قَول رَابِع: رُوِيَ عَن معَاذ بن جبل أَنه قَالَ: ﴿وَآخَرين من دونهم﴾ يَعْنِي: الشَّيَاطِين.
وَقَوله: ﴿لَا تَعْلَمُونَهُم الله يعلمهُمْ﴾ ظَاهر.
قَوْله: ﴿وَمَا تنفقوا من شَيْء فِي سَبِيل الله يوف إِلَيْكُم وَأَنْتُم لَا تظْلمُونَ﴾ أَي: لَا ينقص أجوركم.
276
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن جنحوا للسلم فاجنح لَهَا﴾ السّلم وَالسّلم وَالسّلم: الصُّلْح، وَمَعْنَاهُ: وَإِن مالوا إِلَى الصُّلْح فمل إِلَيْهِ.
وَرُوِيَ عَن الْحسن وَقَتَادَة أَنَّهُمَا قَالَا: هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَة السَّيْف.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وتوكل على الله﴾ مَعْنَاهُ: ثق بِاللَّه ﴿إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن يُرِيدُوا أَن يخدعوك﴾ الخداع: أَن يظْهر خلاف مَا يبطن.
قَوْله: ﴿فَإِن حَسبك الله﴾ يَعْنِي: فَإِن كافيك هُوَ ﴿هُوَ الَّذِي أيدك بنصره﴾ هُوَ الَّذِي قواك بنصره ﴿وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ أَي: قواك بِالْمُؤْمِنِينَ
﴿وَألف بَين قُلُوبهم﴾ أَكثر الْمُفَسّرين أَن هَذَا فِي الْأَوْس والخزرج؛ وَقد كَانَت بَينهم إحن وتراث فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ الْقِتَال بَينهم قَائِما مائَة سنة، فألف الله بَين قُلُوبهم بِالنَّبِيِّ قَالَ الزّجاج: كَانَ الرجل مِنْهُم يلطم اللَّطْمَة فَكَانَ يُقَاتل بقوته إِلَى أَن يَسْتَفِيد مِنْهَا، فألف الله بَين قُلُوبهم بِالْإِسْلَامِ، حَتَّى صَار الرجل يُقَاتل أَخَاهُ وقريبه على الْإِسْلَام.
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: نزلت الْآيَة فِي المتحابين فِي الله.
وَفِي الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْمُؤمن مألفة، وَلَا خير فِيمَن لَا يؤلف وَلَا
276
﴿جَمِيعًا مَا ألفت بَين قُلُوبهم وَلَكِن الله ألف بَينهم إِنَّه عَزِيز حَكِيم (٦٣) يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ (٦٤) يَا أَيهَا النَّبِي حرض الْمُؤمنِينَ على الْقِتَال إِن﴾ يألف.
وَعَن خَالِد بن معدان أَنه قَالَ: إِنَّه لله ملكا فِي السَّمَاء؛ نصفه من ثلج وَنصفه من نَار، وتسبيحه: اللَّهُمَّ كَمَا ألفت بَين الثَّلج وَالنَّار فألف بَين قُلُوب عِبَادك الصَّالِحين.
قَوْله ﴿لَو أنفقت مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مَا ألفت بَين قُلُوبهم وَلَكِن الله ألف بَينهم إِنَّه عَزِيز حَكِيم﴾ أَي منيع فِي ملكه، حَكِيم فِي خلقه.
277
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ﴾ رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس بِرِوَايَة الْوَالِبِي أَنه قَالَ: أسلم تِسْعَة وَثَلَاثُونَ رجلا وَثَلَاث وَعِشْرُونَ امْرَأَة، ثمَّ أسلم عمر رَضِي الله عَنهُ تَمام الْأَرْبَعين، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَفِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: ﴿يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك﴾ أَي: يَكْفِيك الله وَيَكْفِي من اتبعك من الْمُؤمنِينَ، فَتكون " من " فِي مَوضِع النصب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: ﴿حَسبك الله﴾ وحسبك تباعك من الْمُؤمنِينَ؛ فَتكون " من " فِي مَوضِع الرّفْع، قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا كَانَت الهيجاء وانشقت الْعَصَا فحسبك وَالضَّحَّاك سيف مهند)
وَهَذَا استشهاد لِلْقَوْلِ الأول.
وَقَرَأَ الشّعبِيّ: " حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ " وَمَعْنَاهُ قريب من الأول.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا النَّبِي حرض الْمُؤمنِينَ على الْقِتَال﴾ قرئَ فِي الشاذ: " حرص
277
﴿يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم مائَة يغلبوا ألفا من الَّذين كفرُوا بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ (٦٥) الْآن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا فَإِن يكن مِنْكُم مائَة صابرة يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم ألف يغلبوا أَلفَيْنِ بِإِذن الله وَالله مَعَ﴾ الْمُؤمنِينَ " بالصَّاد غير مُعْجمَة، وَالْمَعْرُوف بالضاد مُعْجمَة؛ والتحريض: هُوَ الْحَث على الْمُبَادرَة إِلَى الشَّيْء.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم مائَة يغلبوا ألفا من الَّذين كفرُوا﴾ هَذَا خبر بِمَعْنى الْأَمر، وَكَانَ الله تَعَالَى أَمر الْمُؤمنِينَ أَلا يفر الْوَاحِد مِنْهُم عَن عشرَة، وَلَا تَفِر الْمِائَة مِنْهُم عَن ألف. فَإِن قَالَ قَائِل: أيش معنى ﴿بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ﴾ وَأي اتِّصَال لهَذَا بِمَعْنى الْآيَة؟
جَوَابه: مَعْنَاهُ: أَنهم يُقَاتلُون على جَهَالَة لَا على حسبَة وبصيرة، وَأَنْتُم تقاتلون على بَصِيرَة وحسبة، فَلَا يثبتون إِذا ثبتمْ، ثمَّ إِن الْمُسلمين سَأَلُوا الله التَّخْفِيف، فَأنْزل الله تَعَالَى الْآيَة الْأُخْرَى، وَأمر أَلا يفر الْوَاحِد من أثنين، وَالْمِائَة من الْمِائَتَيْنِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: الله تَعَالَى قَالَ: ﴿يغلبوا مِائَتَيْنِ﴾ وَنحن رَأينَا الْقِتَال على هَذَا الْعدَد بِلَا غَلَبَة، فَكيف يَسْتَقِيم معنى الْآيَة، وَالْخلف فِي خبر الله لَا يجوز؟
قُلْنَا: إِن معنى قَوْله: ﴿يغلبوا﴾ أَي: يقاتلوا؛ كَأَنَّهُ أَمرهم بِالْقِتَالِ على رَجَاء الظفر والنصرة من الله تَعَالَى.
278
وَأما قَوْله: ﴿الْآن خفف الله عَنْكُم﴾ هَذِه الْآيَة ناسخة لِلْآيَةِ الأولى، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر يزِيد بن الْقَعْقَاع: " وَعلم أَن فِيكُم ضعفاء " وَالْمَعْرُوف: " ضعفا " و " ضعفا " ومعناهما وَاحِد.
﴿فَإِن يكن مِنْكُم مائَة صابرة يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم ألف يغلبوا أَلفَيْنِ بِإِذن الله وَالله مَعَ الصابرين﴾ وَبَاقِي الْآيَة مَعْنَاهُ مَعْلُوم.
278
﴿الصابرين (٦٦) مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا وَالله يُرِيد الْآخِرَة وَالله عَزِيز حَكِيم (٦٧) لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم فِيمَا﴾
279
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى﴾ قرئَ: " أسرى، وأسارى ". قَالَ أهل اللُّغَة: أسرى جمع أَسِير، وأسارى جمع الْجمع. وَحكى الْأَصْمَعِي عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء أَنه قَالَ: الأسرى هم المأخوذون من غير شدّ، وَالْأسَارَى هم الَّذين أخذُوا وشدوا. وَالأَصَح عِنْد أهل اللُّغَة أَنه لَا فرق بَينهمَا، قَالَه الْأَزْهَرِي.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿حَتَّى يثخن فِي الأَرْض﴾ الْإِثْخَان: الْقَتْل، وَقيل: الْمُبَالغَة فِي التنكيل.
﴿تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا﴾ بالإفداء.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالله يُرِيد الْآخِرَة﴾ مَعْنَاهُ: يرغبكم فِي الْآخِرَة، وَقَوله: ﴿وَالله عَزِيز حَكِيم﴾ قد ذكرنَا معنى الْعَزِيز الْحَكِيم.
وَاعْلَم أَن الْآيَة نزلت فِي أُسَارَى بدر؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ: " أَن النَّبِي قتل سبعين يَوْم بدر، وَأسر سبعين من الْمُشْركين، ثمَّ إِنَّه اسْتَشَارَ أَصْحَابه فِي الْأُسَارَى، فَقَالَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ -: هَؤُلَاءِ قَوْمك وأسرتك وَأهْلك، اسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ الله أَن يهْدِيهم بك، وَخذ مِنْهُم الْفِدَاء؛ فَيكون مَعُونَة للْمُسلمين. وَقَالَ عمر: هَؤُلَاءِ آذوك وَأَخْرَجُوك وَكَفرُوا بِمَا جِئْت بِهِ فَاضْرب أَعْنَاقهم. فَمَال الرَّسُول إِلَى قَول أبي بكر وَأحب مَا ذكره ".
وَرُوِيَ " أَنه قَالَ لأبي بكر: مثلك مثل إِبْرَاهِيم حِين قَالَ: ﴿فَمن تَبِعنِي فَإِنَّهُ مني وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم﴾ وَقَالَ لعمر: مثلك مثل نوح حِين قَالَ: ﴿رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا﴾ " ثمَّ قَالَ لأَصْحَابه: لَا يخلين أحد مِنْكُم
279
﴿أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم حَلَالا طيبا وَاتَّقوا الله إِن الله غَفُور رَحِيم﴾ عَن أَسِير إِلَّا بِفِدَاء أَو بِضَرْب عُنُقه ففادوا وَكَانَ الْفِدَاء لكل أَسِير أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة، الْأُوقِيَّة أَرْبَعُونَ درهما، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا.
280
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم﴾ رُوِيَ عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: " لم تحل الْغَنَائِم لأحد سود الرُّءُوس قبلكُمْ؛ كَانَت نَار تنزل من السَّمَاء فتأكلها. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَلَمَّا كَانَ يَوْم بدر ووقعوا فِيمَا وَقَعُوا من الْغَنَائِم فادوا الْأُسَارَى قبل أَن ينزل الْوَحْي بِالْجَوَازِ، أنزل الله تَعَالَى: ﴿لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم﴾ الْآيَة ". وَفِي معنى الْآيَة أَقْوَال:
أَحدهَا: لَوْلَا كتاب من الله سبق فِي تَحْلِيل الْغَنَائِم لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم. هَذَا قَول سعيد بن جُبَير وَجَمَاعَة.
وَالثَّانِي: لَوْلَا كتاب من الله سبق من مغفرته لأهل بدر مَا صَنَعُوا؛ لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم، هَذَا قَول الْحسن الْبَصْرِيّ.
وَالثَّالِث: لَوْلَا كتاب من الله سبق أَنهم لم يقدم إِلَيْكُم أَلا تَأْخُذُوا؛ لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم؛ فَإِنَّهُ لَا يعذب من غير تقدمة.
وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أريت عذابكم دون هَذِه الشَّجَرَة، وَأَشَارَ إِلَى شَجَرَة قريبَة مِنْهُ ". وَرُوِيَ أَنه قَالَ لعمر: " لَو نزل الْعَذَاب مَا نجا أحد سواك ".
وَرُوِيَ أَنه قَالَ لَهُ: " كَاد يصيبنا ".
280
( ﴿٦٩) يَا أَيهَا النَّبِي قل لمن فِي أَيْدِيكُم من الأسرى إِن يعلم الله فِي قُلُوبكُمْ خيرا يُؤْتكُم خيرا مِمَّا أَخذ مِنْكُم وَيغْفر لكم وَالله غَفُور رَحِيم (٧٠) وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتك فقد خانوا الله من قبل فَأمكن مِنْهُم وَالله عليم حَكِيم (٧١) إِن الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا﴾
وَرُوِيَ أَنه لما نزلت الْآيَة الأولى كف أَصْحَاب رَسُول الله أَيْديهم عَمَّا أخذُوا من الْفِدَاء، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا.
281
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا النَّبِي قل لمن فِي أَيْدِيكُم من الأسرى﴾ نزلت هَذِه الْآيَة فِي الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، فَإِنَّهُ أسر يَوْم بدر، وَكَانَت مَعَه عشرُون أُوقِيَّة من الذَّهَب فَأخذت مِنْهُ، ثمَّ قَالَ لَهُ النَّبِي: " افْدِ نَفسك وَابْني أَخِيك - يَعْنِي عقيلا ونوفلا - فَقَالَ: مَالِي شَيْء، وَقد أَخَذْتُم مَا كَانَ معي، قَالَ: أَيْن المَال الَّذِي دَفعته إِلَى أم الْفضل وَقلت: إِن أصبت فِي هَذَا الْوَجْه فلعبد الله كَذَا، وللفضل كَذَا، ولقثم كَذَا؟ فَقَالَ: وَالله مَا كَانَ مَعنا أحد، فَأَنا أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنَّك رَسُول الله؛ ثمَّ إِنَّه فَادى نَفسه وَابْني أَخِيه، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن يعلم الله فِي قُلُوبكُمْ خيرا﴾ مَعْنَاهُ: إِن يعلم فِي قُلُوبكُمْ إِيمَانًا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يُؤْتكُم خير مِمَّا أَخذ مِنْكُم﴾ قَالَ الْعَبَّاس: فقد آتَانِي الله خيرا مِمَّا أَخذ مني، وَكَانَ لَهُ عشرُون عبدا يتجر كل عبد فِي عشْرين ألف دِرْهَم.
وَقَوله: ﴿وَيغْفر لكم وَالله غَفُور رَحِيم﴾ قَالَ الْعَبَّاس: وَأَنا أَرْجُو من الله الْمَغْفِرَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتك﴾ الْخِيَانَة: ضد الْأَمَانَة؛ وَمَعْنَاهُ: إِن أَرَادوا أَن يكفروا بك ﴿فقد خانوا الله من قبل﴾ أَي: قد كفرُوا بِاللَّه من قبل.
قَوْله: ﴿فَأمكن مِنْهُم﴾ يَعْنِي: مكن مِنْهُم ﴿وَالله عليم حَكِيم﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله﴾ الْآيَة، الْهِجْرَة: هِيَ الْخُرُوج من الوطن إِلَى غَيره، وَقد كَانَت فرضا فِي ابْتِدَاء
281
﴿بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله وَالَّذين آووا ونصروا أُولَئِكَ بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَالَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا مَا لكم من ولايتهم من شَيْء حَتَّى يهاجروا وَإِن استنصروكم فِي الدّين فَعَلَيْكُم النَّصْر إِلَّا على قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (٧٢) وَالَّذين كفرُوا بَعضهم أَوْلِيَاء بعض إِلَّا تفعلوه تكن فتْنَة فِي الأَرْض وَفَسَاد كَبِير (٧٣) ﴾ الْإِسْلَام، فَلَمَّا كَانَ يَوْم فتح مَكَّة قَالَ النَّبِي: " لَا هِجْرَة بعد الْيَوْم ".
وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: الْهِجْرَة قَائِمَة إِلَى قيام السَّاعَة، فعلى أهل الْبَوَادِي إِذا أَسْلمُوا أَن يهاجروا إِلَى الْأَمْصَار.
قَوْله: ﴿وَالَّذين آووا ونصروا﴾ هَؤُلَاءِ أهل الْمَدِينَة؛ وَمعنى الإيواء: ضمهم الْمُهَاجِرين إِلَى أنفسهم فِي الْأَمْوَال والمساكن.
قَوْله: ﴿أُولَئِكَ بَعضهم أَوْلِيَاء بعض﴾ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أُولَئِكَ أعوان بعض.
وَالْقَوْل الثَّانِي مَعْنَاهُ: يَرث بَعضهم من بعض.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شَيْء حَتَّى يهاجروا﴾ قطع الْمُوَالَاة بَين الْمُسلمين وَبينهمْ حَتَّى يهاجروا، وَكَانَ المُهَاجر لَا يَرث من الْأَعرَابِي، وَلَا الْأَعرَابِي من المُهَاجر، ثمَّ قَالَ: ﴿وَإِن استنصروكم فِي الدّين فَعَلَيْكُم النَّصْر﴾ يَعْنِي: وَإِن استنصروكم الَّذين لم يهاجروا فَعَلَيْكُم النَّصْر، ثمَّ اسْتثْنى وَقَالَ: ﴿إِلَّا على قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق﴾ أَي: موادعة، فَلَا تنصروهم عَلَيْهِم. قَوْله: ﴿وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾ مَعْنَاهُ ظَاهر.
282
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين كفرُوا بَعضهم أَوْلِيَاء بعض﴾ يَعْنِي: أَن بَعضهم أعوان بعض.
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن بَعضهم يَرث من الْبَعْض.
وَقَوله ﴿إِلَّا تفعلوه﴾ يَعْنِي: إِن لم تقبلُوا هَذَا الحكم ﴿تكن فتْنَة فِي الأَرْض وَفَسَاد كَبِير﴾ الْفِتْنَة فِي الأَرْض: قُوَّة الْكفْر، وَالْفساد الْكَبِير: ضعف الْإِيمَان.
282
﴿وَالَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله وَالَّذين آووا ونصروا أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا لَهُم مغْفرَة ورزق كريم (٧٤) وَالَّذين آمنُوا من بعد وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا مَعكُمْ فَأُولَئِك مِنْكُم وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله إِن الله بِكُل شَيْء عليم (٧٥) ﴾
283
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله وَالَّذين آووا ونصروا﴾ (الْآيَة)، فَإِن قيل: أَي معنى فِي هَذَا التّكْرَار؟
قُلْنَا: الْمُهَاجِرُونَ كَانُوا على طَبَقَات، وَكَانَ بَعضهم أهل الْهِجْرَة الأولى، وهم الَّذين هَاجرُوا قبل الْحُدَيْبِيَة، وَبَعْضهمْ أهل الْهِجْرَة الثَّانِيَة، وهم الَّذين هَاجرُوا بعد الْحُدَيْبِيَة قبل فتح مَكَّة، وَكَانَ بَعضهم ذَا هجرتين، وهما الْهِجْرَة إِلَى الْحَبَشَة وَالْهجْرَة إِلَى الْمَدِينَة؛ فَالْمُرَاد من الْآيَة الأولى الْهِجْرَة الأولى، وَالْمرَاد من الثَّانِيَة الْهِجْرَة الثَّانِيَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا﴾ يَعْنِي: لَا مرية وَلَا ريب فِي إِيمَانهم.
قَوْله: ﴿لَهُم مغْفرَة ورزق كريم﴾ روى فِي الرزق الْكَرِيم أَن المُرَاد مِنْهُ: رزق الْجنَّة لَا يصير بخوى؛ بل يصير رشحا لَهُ ريح الْمسك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين آمنُوا من بعد وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا مَعكُمْ فَأُولَئِك مِنْكُم﴾ الْآيَة، أَرَادَ بِهِ: فَأُولَئِك مَعكُمْ، فَأنْتم مِنْهُم وهم مِنْكُم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله﴾ أَكثر الْمُفَسّرين على أَن هَذِه الْآيَة ناسخة لما سبق من إِثْبَات الْمِيرَاث بِالْهِجْرَةِ، فَنقل الْمِيرَاث من الْهِجْرَة إِلَى الْمِيرَاث بِالْقَرَابَةِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فِي كتاب الله﴾ أَي: فِي حكم الله.
قَوْله: ﴿إِن الله بِكُل شَيْء عليم﴾ قَالَ أهل الْعلم: لَيْسَ المُرَاد من أولي الْأَرْحَام الأقرباء الَّذين لَيْسَ لَهُم عصوبة وَلَا فرض؛ وَإِنَّمَا المُرَاد من أولي الْأَرْحَام [أهل العصابات] ثمَّ مِيرَاث الأقرباء مَذْكُور فِي مَوضِع آخر، وَهُوَ آيَة الْمِيرَاث، وَالله أعلم.
283
تَفْسِير سُورَة التَّوْبَة
اعْلَم أَن هَذِه السُّورَة مَدَنِيَّة، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي بِرِوَايَة الْبَراء بن عَازِب: " أَنَّهَا آخر سُورَة أنزلت كَامِلَة " وَلها أَسمَاء كَثِيرَة.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن هَذِه السُّورَة، فَقَالَ: هِيَ الفاضحة؛ مازال ينزل قَوْله [تَعَالَى] : وَمِنْهُم، وَمِنْهُم، حَتَّى طننا أَنه لَا يتْرك منا أحدا. وَقَالَ حُذَيْفَة بن الْيَمَان: هِيَ سُورَة الْعَذَاب.
وَمن الْمَعْرُوف أَنَّهَا تسمى سُورَة البحوث، وَمن أسمائها: المبعثرة، وَمن أسمائها: المنيرة، وَمن أسمائها: الحافرة، لِأَنَّهَا حفرت عَن قُلُوب الْمُنَافِقين. وروى النقاش عَن ابْن عمر أَنَّهَا تسمى المقشقشة. وَعَن عمرَان بن حدير أَنه قَالَ: قَرَأت هَذِه السُّورَة على أَعْرَابِي، فَقَالَ: هَذِه السُّورَة أظنها آخر مَا أنزلت، فَقلت لَهُ: وَلم؟ فَقَالَ: أرى عهودا تنبذ، وعقودا تنقض.
وَعَن سعيد بن جُبَير: أَن هَذِه السُّورَة كَانَت تعدل سُورَة الْبَقَرَة فِي الطول.
وَأما الْكَلَام فِي حذف التَّسْمِيَة: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " قلت لعُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ -: مَا بالكم عمدتم إِلَى سُورَة التَّوْبَة وَهِي من المئين، وَإِلَى سُورَة الْأَنْفَال وَهِي من المثاني، فقرنتم بَينهمَا وَلم تكْتبُوا سطر ﴿بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم﴾ ؟ فَقَالَ: " كَانَ إِذا أنزل على رَسُول الله الشَّيْء من الْقُرْآن دَعَا بعض من يكْتب، فَيَقُول لَهُ: ضَعْهُ فِي سُورَة كَذَا، ضَعْهُ فِي سُورَة كَذَا، وَكَانَت الْأَنْفَال من أول مَا أنزلت بِالْمَدِينَةِ، وَالتَّوْبَة من آخر مَا أنزلت، وَكَانَ قصتيهما شَبيهَة بَعْضهَا بِبَعْض، وَخرج رَسُول الله من الدُّنْيَا وَلم يبين لنا شَيْئا فظننا أَنَّهُمَا سُورَة وَاحِدَة؛ فَلذَلِك قرنا بَينهمَا وَلم نكتب ﴿بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم﴾.
284
﴿بَرَاءَة من الله وَرَسُوله إِلَى الَّذين عاهدتم من الْمُشْركين (١) فسيحوا فِي الأَرْض أَرْبَعَة أشهر وَاعْلَمُوا أَنكُمْ غير معجزي الله وَأَن الله مخزي الْكَافرين (٢) وأذان﴾
وَهَذَا خبر فِي " الصَّحِيح " أوردهُ مُسلم، وروى أَن الصَّحَابَة اخْتلفُوا، فَقَالَ بَعضهم: هما سورتان، وَقَالَ بَعضهم: هما سُورَة وَاحِدَة؛ فاتفقوا أَن يفصلوا ببياض بَين السورتين، وَلَا يكتبوا: " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ".
وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا حكى عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة من الْمُتَقَدِّمين، والمبرد من الْمُتَأَخِّرين: أَن السُّورَة سُورَة نقض الْعَهْد والبراءة من الْمُشْركين؛ وَالتَّسْمِيَة أَمَان وافتتاح خير؛ فَلهَذَا لم يكتبوا " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ".
285
Icon