تفسير سورة الملك

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة الملك من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الملك وهي مكية، روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي عليه الصلاة والسلام - قال :" إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له، وهي ( تبارك الذي بيده الملك ) " ١.
وروى أبو الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا ينام حتى يقرأ :( الم تنزيل الكتاب )٢، و ( تبارك الذي بيده الملك )٣ قال طاوس : يفضلان سائر السور بسبعين حسنة. وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس أن رجلا ضرب خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فسمع قارئا :( تبارك الذي بيده الملك ) حتى ختم السورة، فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر له ذلك، فقال :" هي المنجية، هي المانعة، تنجيه من عذاب القبر " ٤ ذكر هذه الأخبار أبو عيسى الترمذي في جامعه بإسناده. وفي غيره أن الزهري روى عن حميد ابن عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :" سورة الملك تجادل عن صاحبها يوم القيامة ".
وروى مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود : أن رجلا أتي في قبره من جوانبه، فجعلت سورة من القرآن تجادل عن صاحبها حتى الجنة. قال مرة : فنظرت أنا وخيثمة فإذا هي سورة الملك، والله أعلم.
١ - رواه أبو داود ( ٢ /٥٧ رقم ١٤٠٠)، و الترمذى ( ٥ /١٥١ -١٥٢ رقم ٢٨٩١)و حسنه. و النسلئي في الكبرى ( ٦ /١٧٨ – ٤٩٦ رقم ١٠٥٤٦ – ١١٦١٢)، و ابن ماجة ( ٢ /١٢٤٤ رقم ٣٧٨٦ )، و أحمد ( ٢ /٢٩٩ -٣٢١)، و عبد حميد ( ٤٢١ – ٤٢٢ رقم ١٤٤٥) و و ابن حبان فب صحيحه (٣/٦٧ -٦٩ رقم ٧٨٧ -٧٨٨)، و الحاكم (١/ ٥٦٥ -٢ /٤٩٧ -٤٩٨) و صححه، و البيهقي في الشعب ( ٥ /٤٤٥ رقم ٢٢٧٦)..
٢ - بعني سورة السجدة..
٣ - تقدم تخريجه في تفسير سورة السجدة..
٤ - رواه الترمذى ( ٥ /١٥١ رقم ٢٨٩ ) و قال : حسن غريب، و الطبراني في الكبير ( ١٢ /١٧٤ -١٧٥ رقم ١٢٨٠١)، و لبن عدى ( ٧ /٢٠٥)، و أبو نعبم فب الحلية ( ٣ /٨١) و و البيهقي في الدلائل (٧/٤١) و قال : تفرد به يحيى بن عمرو النكرى، و ÷و ضعيف ’ إلأ أن معناه شاهدا عن لبن مسعود، و البيهفي في الشعب ( ٥ /٤٤٨-٤٤٩ رقم ٢٢٨٠ ). و عده ابن عدى و الذهبي في الميزان (٤ /٣٩٩) من مناكر يحيى بن عمرو النكرى..

قَوْله تَعَالَى: ﴿تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ﴾ قد بَينا أَن تبَارك تفَاعل من الْبركَة، وَالْمعْنَى: أَن جَمِيع البركات مِنْهُ تَعَالَى.
وَيُقَال: تبَارك أَي: تعظم وتقدس وَتَعَالَى، وَمِنْه البرك فِي الصَّدْر.
وَقَوله ﴿الَّذِي بِيَدِهِ الْملك﴾ أَي: ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَيُقَال: ملك النُّبُوَّة، يعز بِهِ من اتبعهُ، ويذل بِهِ من خَالفه، حكى ذَلِك عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق.
وَقَوله ﴿وَهُوَ على كل شَيْء قدير﴾ أَي: قَادر.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿الَّذِي خلق الْمَوْت والحياة﴾ أَي: الْمَوْت فِي الدُّنْيَا، والحياة فِي الْآخِرَة.
وَيُقَال: خلق الْمَوْت أَي: النُّطْفَة فِي الرَّحِم لِأَنَّهَا ميتَة، والحياة هُوَ أَنه نفخ فِيهَا الرّوح من بعد.
وَيُقَال: خلق الْمَوْت والحياة، أَي: الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَحكى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس: " أَن الله تَعَالَى خلق الْمَوْت على صُورَة كَبْش أغبر، لَا يمر بِشَيْء، وَلَا يطَأ على شَيْء وَلَا يجد رِيحه شَيْء إِلَّا مَاتَ، وَخلق الْحَيَاة على صُورَة فرس أُنْثَى بلقاء لَا تمر على شَيْء، وَلَا تطَأ على شَيْء وَلَا تَجِد [رِيحهَا] شَيْء إِلَّا حيى.
قَالَ: وَهِي دون البغلة وَفَوق الْحمار، خطوها مد الْبَصَر، وَكَانَ جِبْرِيل رَاكِبًا [عَلَيْهَا] يَوْم غرق فِرْعَوْن، وَمن تَحت حافرها أَخذ السامري القبضة.
وَقَالَ بَعضهم: خلق الدُّنْيَا للحياة ثمَّ للْمَوْت، وَخلق الْآخِرَة للجزاء ثمَّ للبقاء.
وَقَوله ﴿ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا﴾ أَي: ليختبركم فَيظْهر مِنْكُم أَعمالكُم الْحَسَنَة وَأَعْمَالكُمْ السَّيئَة ويجازكم عَلَيْهَا.
وَقَوله ﴿أحسن عملا﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أتم عقلا وَأَوْرَع عَن محارم الله، وَهُوَ
6
﴿وَهُوَ الْعَزِيز الغفور (٢) الَّذِي خلق سبع سموات طباقا مَا ترى فِي خلق الرَّحْمَن من تفَاوت فَارْجِع الْبَصَر هَل ترى من فطور (٣) ثمَّ ارْجع الْبَصَر كرتين﴾
قَول مأثور.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أحسن عملا أخْلص عملا.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أحسن عملا أَي: أزهد فِي الدُّنْيَا وأترك لَهَا، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن الْحسن وسُفْيَان الثَّوْريّ.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أحسن عملا أَي: أَشدّكُم ذكرا للْمَوْت وَأَحْسَنُكُمْ لَهَا اسْتِعْدَادًا.
وَيُقَال: أَشدّكُم لله مَخَافَة.
وَيُقَال: أبصركم بعيوب نَفسه.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيز الغفور﴾ قد بَينا.
7
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذِي خلق سبع سموات طباقا﴾ أَي: بَعْضهَا فَوق بعض، بَين كل سماءين أَمر من أمره، وَخلق من خلقه.
وَقَوله ﴿مَا ترى فِي خلق الرَّحْمَن من تفَاوت﴾ أَي: من خلل وعيب.
وَيُقَال: من اضْطِرَاب وتباين.
وَقُرِئَ " تفوت " وَاخْتَارَهُ أَبُو عبيد.
قَالَ الْفراء: تفوت وتفاوت بِمَعْنى وَاحِد كَمَا يُقَال: تعهد وتعاهد وَغير ذَلِك.
وَيُقَال: تفوت أَي: لَا تفوت بعضه بَعْضًا.
وَقَوله: ﴿فَارْجِع الْبَصَر﴾ أَي: رد الْبَصَر.
وَقَوله: ﴿هَل ترى من فطور﴾ أَي: صدوع وشقوق وخروق.
وَيُقَال: فطر نَاب الْبَعِير أَي: انْشَقَّ.
وَقَوله: ﴿ثمَّ ارْجع الْبَصَر كرتين﴾ أَي: مرَّتَيْنِ، وَمَعْنَاهُ: مرّة بعد مرّة، وَإِن زَاد على الْمَرَّتَيْنِ، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: قد قلت لَك هَذَا القَوْل مرّة بعد مرّة، وَقد كَانَ قَالَ لَهُ مَرَّات، ذكر الْقفال.
وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا ذكر الْمَرَّتَيْنِ، لِأَن الْإِنْسَان فِي الْمرة الثَّانِيَة يكون أحد بصرا وَأكْثر بصرا وَأكْثر نظرا.
وَيُقَال: الكرة الأولى بِالْعينِ.
وَالْأُخْرَى بِالْقَلْبِ.
قَالَ الْفراء: يجوز أَن يكون معنى كرتين كرة وَاحِدَة وأنشدوا:
7
﴿يَنْقَلِب إِلَيْك الْبَصَر خاسئا وَهُوَ حسير (٤) وَلَقَد زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين﴾
(مهمهين قذفين مرَّتَيْنِ قطعته [بالسمت] لَا بالسمتين)
وَأَرَادَ مهمها وَاحِدًا.
وَقَوله: ﴿يَنْقَلِب إِلَيْك الْبَصَر﴾ أَي: يرجع إِلَيْك الْبَصَر ﴿خاسئا﴾ أَي: صاغرا ﴿وَهُوَ حسير﴾ أَي: كليل يَعْنِي ضَعِيف عَن إِدْرَاك مَا أَرَادَهُ من طلب الْعَيْب والخلل.
وَيُقَال: دَابَّة حسرى أَي: كالة.
قَالَ الشَّاعِر:
(بِهِ جيف الحسرى فَأَما عظامها فبيض وَأما جلدهَا فصليب)
قَالَ الزّجاج: معنى الْآيَة: أَنه يُبَالغ فِي النّظر، فَرجع الْبَصَر إِلَيْهِ خاسئا وَلم ينل مَا أَرَادَهُ، وَلم ير عَيْبا وخللا.
وَقَوله: ﴿خاسئا﴾ من ذَلِك قَوْلهم للكلب اخْسَأْ وابعد، قَالَ الفرزدق فِي جرير:
8
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح﴾ أَي: بسرج، وسمى النُّجُوم مصابيح لإضاءتها.
وَقَوله: ﴿وجعلناها رجوما للشياطين﴾ أَي: رجمنا بهَا الشَّيَاطِين عَن استراق السّمع.
قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: إِن النَّجْم لَا يطلع لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلكنه زِينَة الدُّنْيَا ورجوم الشَّيَاطِين.
وَعَن قَتَادَة قَالَ: خلق الله النُّجُوم لثَلَاثَة أَشْيَاء: جعلهَا زِينَة للسماء الدُّنْيَا، ورجوما للشياطين، وهاديا للنَّاس فِي الطّرق، فَمن تكلّف غير ذَلِك فقد قَالَ مَا لَا علم لَهُ بِهِ.
8
﴿وأعتدنا لَهُم عَذَاب السعير (٥) وللذين كفرُوا برَبهمْ عَذَاب جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير (٦) إِذا ألقوا فِيهَا سمعُوا لَهَا شهيقا وَهِي تَفُور (٧) تكَاد تميز من الغيظ كلما ألقِي فِيهَا فَوْج سَأَلَهُمْ خزنتها ألم يأتكم نَذِير (٨) قَالُوا بلَى قد جَاءَنَا نَذِير فكذبنا وَقُلْنَا مَا نزل الله من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ظلال كَبِير (٩) ﴾.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وأعتدنا لَهُم عَذَاب السعير﴾ أَي: المسعرة.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن السعير هُوَ الطَّبَق الرَّابِع من جَهَنَّم.
9
وَقَوله: ﴿وللذين كفرُوا برَبهمْ عَذَاب جَهَنَّم﴾ إِنَّمَا سمى جَهَنَّم جهنما لبعد قعرها، تَقول الْعَرَب: ركية جهنام أَي: بعيدَة القعر.
وَقَوله: ﴿وَبئسَ الْمصير﴾ أَي: الْمرجع.
قَوْله: ﴿إِذا ألقوا فِيهَا سمعُوا لَهَا شهيقا﴾ أَي: لِجَهَنَّم، والشهيق: أول صَوت الْحمار.
وَقيل: الشهيق.
أول صَوته، والزفير.
آخر صَوته.
وَقيل: الشهيق فِي الصَّدْر، والزفير فِي الْحلق.
وَقيل: إِن الشهيق من الْكفَّار حِين يدْخلُونَ جَهَنَّم.
وَالْقَوْل الأول أظهر فِي هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿وَهِي تَفُور﴾ قَالَ ابْن مَسْعُود: تغلي غليان الْقدر بِمَا فِيهِ.
وَعَن مُجَاهِد: تغلي غليان المَاء الْكثير بالحب الْقَلِيل.
وَقَوله: ﴿تكَاد تميز من الغيظ﴾ أَي: تتقد وتتفرق.
يُقَال: فلَان امْتَلَأَ غيظا حَتَّى يكَاد يتقد.
وغيظها حنقا على أَعدَاء الله وانتقامها.
وَقَوله: ﴿كلما ألْقى فِيهَا فَوْج﴾ أَي: قوم ﴿سَأَلَهُمْ خزنتها ألم يأتكم نَذِير﴾ أَي: رَسُول.
وَعَن مُجَاهِد قَالَ: الرُّسُل من الْإِنْس، وَالنّذر من الْجِنّ.
وَهُوَ قَول مهجور.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا بلَى قد جَاءَنَا نَذِير فكذبنا وَقُلْنَا مَا نزل الله من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ظلال كَبِير﴾ أَي: عَظِيم.
وَيُقَال: خاطئين.
9
﴿وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير (١٠) فاعرفوا بذنبهم فسحقا لأَصْحَاب السعير (١١) إِن الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ﴾.
10
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل﴾ أَي: نسْمع سَماع من يُمَيّز ويتفكر، ونعقل عقل من يتدبر وَينظر ﴿مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير﴾ وَالْمعْنَى: أَنا لم نسْمع الْحق وَلم نعقله أَي: لم ننتفع بأسماعنا وعقولنا.
وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " لكل شَيْء دعامة، ودعامة الدّين الْعقل ".
وروى أَيْضا أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الرجل يكون من أهل الْجِهَاد وَأهل الصَّلَاة وَأهل الصّيام، وَيَأْمُر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر، وَإِنَّمَا يجازى يَوْم الْقِيَامَة على قدر عقله " وَهُوَ حَدِيث حسن الْإِسْنَاد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَاعْتَرفُوا بذنبهم﴾ أَي: بِذُنُوبِهِمْ، وَاحِد بِمَعْنى الْجمع، وَقَوله: ﴿فسحقا لأَصْحَاب السعير﴾ أَي: بعدا، يُقَال: مَكَان سحيق أَي: بعيد.
وَعَن مُجَاهِد: السحق اسْم وَاد فِي جَهَنَّم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ﴾ أَي: بالوعد والوعيد الَّذِي غَابَ عَنهُ، وَيُقَال: بِالْجنَّةِ وَالنَّار، وَيُقَال: فِي الخلوات.
10
﴿لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير (١٢) وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (١٣) أَلا يعلم من خلق وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير (١٤) هُوَ الَّذِي جعل لكم الأَرْض ذلولا﴾.
وَقَوله: ﴿لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير﴾ أَي: عَظِيم.
11
قَوْله تَعَالَى: ﴿وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ﴾ فِي التَّفْسِير: أَن الْكفَّار كَانَ بَعضهم يَقُول لبَعض: أَسرُّوا بقولكم حَتَّى لَا يسمع رب مُحَمَّد فيخبره قَوْلكُم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور﴾ أَي: بِمَا فِي الصُّدُور.
قَالَ الْحسن: يعلم من السِّرّ مَا يعلم من الْعَلَانِيَة، وَيعلم من الْعَلَانِيَة مَا يعلم من السِّرّ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَلا يعلم من خلق﴾ اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِنْكَار والتوبيخ، وَالْمعْنَى: أَلا يعلم من فِي الصُّدُور من خلق الصُّدُور.
وَيُقَال: أَلا يعلم مَا خلق " من " بِمَعْنى " مَا "، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالسَّمَاء وَمَا بناها﴾ أَي: وَمن بناها.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير﴾ أَي: اللَّطِيف فِي علمه، يعلم مَا يظْهر وَمَا يسر وكل مَا دق، يُقَال لطيف، وَيُقَال: الْخَبِير هُوَ الْعَالم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي جعل لكم الأَرْض ذلولا﴾ أَي: مذللة، وتذليلها: تسهيل السّير فِيهَا والقرار عَلَيْهَا.
وَقَوله: ﴿فامشوا فِي مناكبها﴾ أَي: فِي جوانبها، وَيُقَال: فِي فجاجها، وَيُقَال: فِي طرقها، وَقيل: فِي جبالها.
وَعَن بشير بن كَعْب الْأنْصَارِيّ أَنه كَانَ يقْرَأ هَذِه السُّورَة فَبلغ هَذِه الْآيَة، فَقَالَ لجارية لَهُ: إِن عرفتي معنى قَوْله: ﴿فِي مناكبها﴾ فَأَنت حرَّة، فَقَالَت: فِي جبالها.
فشح الرجل بالجارية وَجعل يسْأَل أَبَا الدَّرْدَاء فَقَالَ: دع مَا يريبك إِلَى مَالا يريبك خلها.
وَحكى قَتَادَة عَن أبي الْجلد قَالَ: الأَرْض كلهَا أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألف فَرسَخ، اثْنَا عشر ألفا للسودان، وَثَمَانِية آلَاف للروم، وَثَلَاثَة آلَاف للعجم، وَألف للْعَرَب.
11
﴿فامشوا فِي مناكبها وكلوا من رزقه وَإِلَيْهِ النشور (١٥) أأمنتم من فِي السَّمَاء أَن يخسف بكم الأَرْض فَإِذا هِيَ تمور (١٦) أم أمنتم من فِي السَّمَاء أَن يُرْسل عَلَيْكُم حاصبا فستعلمون كَيفَ نَذِير (١٧) وَلَقَد كذب الَّذين من قبلهم فَكيف كَانَ نَكِير (١٨) أولم يرَوا إِلَى الطير فَوْقهم صافات ويقبضن مَا يمسكهن إِلَّا الرَّحْمَن إِنَّه بِكُل شَيْء بَصِير﴾.
وَقَوله: ﴿وكلوا من رزقه وَإِلَيْهِ النشور﴾ أَي: فِي الْآخِرَة.
12
قَوْله تَعَالَى: ﴿أأمنتم من فِي السَّمَاء﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس أَي: الله.
وَقَوله: ﴿أَن يخسف بكم الأَرْض فَإِذا هِيَ تمور﴾ أَي: تضطرب وتدور، وَيُقَال: تمور أَي: تخسف بكم حَتَّى تجعلكم فِي أَسْفَل الْأَرْضين، قَالَ الشَّاعِر:
(اخْسَأْ إِلَيْك جَرِيرًا يَا معر نلنا السَّمَاء نجومها وهلالها)
(رمين فأقصدن الْقُلُوب وَلنْ ترى دَمًا مائرا إِلَّا جرى فِي الحيازم)
أَي: سَائِلًا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم أمنتم من فِي السَّمَاء﴾ أَي: أأمنتم ربكُم ﴿أَن يُرْسل عَلَيْكُم حاصبا﴾ أَي: ريحًا ذَات حَصْبَاء، وَيُقَال: حِجَارَة فيهلككم بهَا.
والحصباء الْحِجَارَة.
وَقَوله: ﴿فستعلمون كَيفَ نَذِير﴾ أَي: إنذاري، وَالْمعْنَى: كنت محقا فِي إنذاري إيَّاكُمْ الْعَذَاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد كذب الَّذين من قبلهم فيكف كَانَ نَكِير﴾ أَي: إنكاري.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أولم يرَوا إِلَى الطير فَوْقهم صافات﴾ يُقَال: صف الطير جنَاحه إِذا بَسطه، وَقَبضه إِذا ضربه، وَالْمرَاد من الْقَبْض: هُوَ ضرب الجناحين بالجنبين، وَهَذَا الْقَبْض والبسط فِي بعض الطُّيُور لَا فِي جَمِيع الطُّيُور، فَإِن بَعْضهَا يقبض بِكُل حَال، وَبَعضهَا يبسط تَارَة وَيقبض أُخْرَى.
وَقَوله: ﴿مَا يمسكهن إِلَّا الرَّحْمَن﴾ يَعْنِي: مَا يمسكهن عَن الْوُقُوع إِلَّا الرَّحْمَن.
قَالُوا: والهواء للطير بِمَنْزِلَة المَاء للسابح، فَهُوَ يسبح فِي الْهَوَاء بجناحيه كَمَا يسبح الْإِنْسَان فِي المَاء بأطرافه.
وَقَوله: ﴿إِنَّه بِكُل شَيْء بَصِير﴾ أَي: عليم.
12
( ﴿١٩) أَمن هَذَا الَّذِي هُوَ جند لكم ينصركم من دون الرَّحْمَن إِن الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غرور (٢٠) أَمن هَذَا الَّذِي يرزقكم إِن أمسك رزقه بل لجوا فِي عتو ونفور (٢١) أَفَمَن يمشي مكبا على وَجهه أهْدى أَمن يمشي سويا على صِرَاط مُسْتَقِيم (٢٢) ﴾.
13
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَمن هَذَا الَّذِي هُوَ جند لكم ينصركم﴾ مَعْنَاهُ: أَيْن هَذَا الَّذِي هُوَ جند لكم يمنعكم من عَذَاب الله؟ وَهُوَ اسْتِفْهَام بِمَعْنى التوبيخ وَالْإِنْكَار.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِن الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غرور﴾ أَي: مَا الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غرور.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَمن هَذَا الَّذِي يرزقكم﴾ الْمَعْنى: أَن الله هُوَ الَّذِي يرزقكم إِن أمسك رزقه، فَمن ذَا الَّذِي يرزقكم سواهُ؟.
وَقَوله: ﴿بل لجوا فِي عتو ونفور﴾ العتو هُوَ التَّمَادِي فِي الْكفْر، والنفور هُوَ التباعد عَن الْحق.
وَيُقَال الْمَعْنى: أَن اللجاج حملهمْ على الْكفْر والنفور عَن الْحق، فَإِن الدَّلَائِل أظهر وَأبين من أَن تخفى على أحد، وَالْعرب تسمي كل سَفِيه متمرد متماد فِي الْبَاطِل عاتيا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَمَن يمشي مكبا على وَجهه﴾ فِي الضَّلَالَة لَا يبصر الْحق.
وَيُقَال: مكبا على وَجهه أَي: لَا ينظر من بَين يَدَيْهِ وَلَا عَن يَمِينه وَلَا عَن يسَاره وَلَا من خَلفه.
وَقيل: إِن هَذَا فِي الْآخِرَة، فَإِن الله تَعَالَى يحْشر الْكفَّار على وُجُوههم على مَا نطق بِهِ الْقُرْآن فِي غير هَذَا الْموضع، وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الَّذِي قدر أَن يُمشيهمْ على أَرجُلهم قَادر على أَن يُمشيهمْ على وُجُوههم ".
وَقَوله: ﴿أهْدى أَمن يمشي سويا على صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ أَي: يمشي فِي طَرِيق الْحق بِنور الْهدى.
وَيُقَال: ينظر من بَين يَدَيْهِ وَعَن يَمِينه وَعَن يسَاره وَمن خَلفه.
وَقيل: هُوَ فِي الْآخِرَة.
وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: قَوْله ﴿أَفَمَن يمشي مكبا على وَجهه﴾ هُوَ أَبُو جهل، وَقَوله: ﴿أم من يمشي سويا على صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ هُوَ عمار بن يَاسر.
وَحكى بَعضهم عَن ابْن عَبَّاس: أَنه حَمْزَة بن عبد الْمطلب وكنيته أَبُو عمَارَة.
13
﴿قل هُوَ الَّذِي أنشأكم وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قَلِيلا مَا تشكرون (٢٣) قل هُوَ الَّذِي ذرأكم فِي الأَرْض وَإِلَيْهِ تحشرون (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين (٢٥) قل إِنَّمَا الْعلم عِنْد الله وَإِنَّمَا أَنا نَذِير مُبين (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زلفة سيئت وُجُوه الَّذين كفرُوا وَقيل هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تدعون (٢٧) ﴾.
14
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل هُوَ الَّذِي أنشأكم وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قَلِيلا مَا تشكرون﴾ أَي: قل شكركم لهَذِهِ النعم.
قَوْله تَعَالَى (قل هُوَ الَّذِي ذرأكم فِي الأَرْض) أَي: خَلقكُم فِي الأَرْض ﴿وَإِلَيْهِ تحشرون﴾ أَي: فِي الْآخِرَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ أَي: الْقِيَامَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل إِنَّمَا الْعلم عِنْد الله﴾ أَي: علم السَّاعَة عِنْد الله.
وَقَوله: ﴿وَإِنَّمَا أَنا نَذِير مُبين﴾ أَي: مُنْذر بَين النذارة.
قَوْله: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ زلفة﴾ قَالَ الْمبرد وثعلب: أَي: رَأَوْا الْعَذَاب حَاضرا.
وَقيل: قَرِيبا.
وَقَوله: ﴿سيئت وُجُوه الَّذين كفرُوا﴾ أَي: تبين السوء والكآبة فِي وجهوهم.
وَيُقَال: اسودت وُجُوههم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقيل هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تدعون﴾ وَقُرِئَ فِي الشاذ: " تدعون " بِغَيْر تَشْدِيد.
وَعَن بَعضهم: أَن تدعون وتدعون بِمَعْنى وَاحِد، فَقَوله: ﴿تدعون﴾ أَي: تدعون الله بِهِ.
وَقَوله: ﴿تدعون﴾ أَي: تتداعون بِهِ، وَهُوَ مثل قَوْله ﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء﴾ وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَة أُخْرَى: ﴿قَالُوا رَبنَا عجل لنا قطنا﴾ أَي: نصيبنا من الْعَذَاب.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: تدعون افتعال من الدُّعَاء.
وَعَن بَعضهم: تدعون أَي: تكذبون.
وَيُقَال: تَسْتَعْجِلُون
14
﴿قل أَرَأَيْتُم إِن أهلكني الله وَمن معي أَو رحمنا فَمن يجير الْكَافرين من عَذَاب أَلِيم (٢٨) قل هُوَ الرَّحْمَن آمنا بِهِ وَعَلِيهِ توكلنا فستعلمون من هُوَ فِي ظلال مُبين (٢٩) قل أَرَأَيْتُم إِن أصبح ماؤكم غورا فَمن يأتيكم بِمَاء معِين (٣٠) ﴾. وتمترون وتختلفون.
وَقيل: تدعون تمنون.
تَقول الْعَرَب لغيره: ادْع مَا شِئْت أَي: تمن، وَهَذَا القَوْل يقرب من القَوْل الأول.
15
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل أَرَأَيْتُم إِن أهلكني الله وَمن معي أَو رحمنا﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَ الْكفَّار يَقُولُونَ: إِن مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه أَكلَة رَأس، يهْلكُونَ عَن قريب، وكل يرجون الأباطيل فِي حق الرَّسُول وَأَصْحَابه، فَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿قل أَرَأَيْتُم إِن أهلكني الله وَمن معي أَو رحمنا﴾ يَعْنِي: إِن نجونا أَو هلكنا ﴿فَمن يجير الْكَافرين من عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: فَمن يجيركم من عَذَاب الله تَعَالَى وَقد كَفرْتُمْ بِهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل هُوَ الرَّحْمَن آمنا بِهِ وَعَلِيهِ توكلنا فستعلمون من هُوَ فِي ظلال مُبين﴾ أَي: خطأ بَين، وتباعد من الْحق وضلال عَنهُ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل أَرَأَيْتُم إِن أصبح ماؤكم غورا﴾ أَي: غائرا، وَمَعْنَاهُ: ذَاهِبًا.
قَالَ قَتَادَة: وَيُقَال: لَا تناله الدلاء، قَالَه سعيد بن جُبَير.
وَقيل: إِن الْآيَة نزلت فِي بِئْر زَمْزَم وبئر مَيْمُون، وهما بِمَكَّة.
وَقَوله: ﴿فَمن يأتيكم بِمَاء معِين﴾ قَالَ ثَعْلَب: أَي ظَاهر.
وَهُوَ مَنْقُول عَن الْحسن وَقَتَادَة وَمُجاهد وَغَيرهم.
وَيُقَال: بِمَاء عذب، وَيُقَال: بِمَاء جَار.
يَعْنِي: أَن الله هُوَ الْقَادِر أَن يَأْتِي بِهِ، وَلَا تصلونَ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِكُمْ.
15

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

تَفْسِير سُورَة الْقَلَم
وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول الْأَكْثَرين.
وَعَن بَعضهم: أَن بَعْضهَا مَكِّيَّة، وَبَعضهَا مَدَنِيَّة.
16
Icon