ﰡ
مكية، وتسمى: الواقية، والمنجية؛ لأنها تقي وتنجي قارئها من عذاب القبر، آيها: ثلاثون آية، وحروفها: ألف وثلاث مئة وثلاثة عشر حرفًا، وكلمها: ثلاث مئة وخمس وثلاثون كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)﴾.[١] ﴿تَبَارَكَ﴾ تقدم تفسيره أول سورة الفرقان.
﴿الَّذِي بِيَدِهِ﴾ أي: في تصرفه ﴿الْمُلْكُ﴾ السلطان والقدرة.
﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ عموم، والشيء معناه في اللغة: الموجود.
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢)﴾.
[٢] ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ هما معنيان يتعاقبان جسمَ الحيوان، يرتفع أحدهما بحلول الآخر.
﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ أخلصُه وأسرعُ إلى الطاعة؛ لأنه لا يُقبل عمل حتى يكون خالصًا لله.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قلت: يا رسول الله! ما معنى قوله تعالى ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾؟ فقال: "يقول: أيكم أحسن عقلًا، وأشدكم لله خوفًا، وأحسنكم في أمره ونهيه نظرًا، وإن كانوا أقلَّكم تطوعًا" (١).
وقدم الموت في اللفظ؛ لأنه أدعى إلى حسن العمل؛ لتقدمه في النفس هيئة وغلظة.
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب ﴿الْغَفُورُ﴾ لمن تاب.
﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (٣)﴾.
[٣] وتبدل من ﴿الَّذِي﴾ قبلُ ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾ متطابقات بعضها فوق بعض، متباينات بلا علاقة ولا عماد ولا مماسة، وطباقًا: مصدر؛ أي: طُبقت طباقًا.
﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾ كَرِّرْه إلى السماء؛ لتستيقن إحكامَ خلقهن.
﴿هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ صدوع. قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وهشام عن ابن عامر: (هَل تَّرَى) بإدغام اللام في التاء، والباقون: بالإظهار (٢).
﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (٤)﴾.
[٤] ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ كرةً بعد كرة، ودققه؛ لترى خللًا، وجواب الأمر:
﴿يَنْقَلِبْ﴾ يرجع ﴿إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا﴾ ذليلًا مبعَدًا عن إدراك خلل ما.
قرأ أبو جعفر: (خَاسِيًا) بنصب الياء منونًا من غير همز، والباقون: بالهمز (٣).
﴿وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ منقطع، لم يدرك ما طلب.
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤٢٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٨٥).
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٩٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٨٦).
[٥] ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا﴾ القُربى إلى الأرض. قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف، وهشام: (وَلَقَد زَّيَّنَّا) بإدغام الدال في الزاي، والباقون: بالإظهار (١).
﴿بِمَصَابِيحَ﴾ بنجوم، سميت بذلك؛ لإضاءتها كالمصباح؛ لأنها زينة السماء.
﴿وَجَعَلْنَاهَا﴾ أي: النجومَ ﴿رُجُومًا﴾ جمع رجم؛ أي: مرامي ﴿لِلشَّيَاطِينِ﴾ يُرجمون بها عند استراق السمع، فينفصل الشهاب عن الكوكب كالقبس يؤخذ من النار، والنارُ مكانها، فيقتل الجني، ويخبله، ولا يزول الكوكب عن مكانه.
قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها في البر والبحر، فمن قال غير ذلك، فقد تكلف ما لا علم له به (٢).
﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ أي: أعددنا ﴿لَهُمْ﴾ يعني: الشياطين.
﴿عَذَابَ السَّعِيرِ﴾ في الآخرة، واحتراقهم (٣) بالشهب في الدنيا.
(٢) ذكره البخاري في "صحيحه" (٣/ ١١٦٨) معلقًا. ورواه الحافظ ابن حجر في "تغليق التعليق" (٣/ ٤٨٩) بإسناده إلى عبد بن حميد في "تفسيره".
(٣) في "ت": "بعد إحراقهم".
[٦] ﴿وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ﴾ من الشياطين وغيرهم ﴿عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾ ورفع (عَذَابُ) (١) خبر مبتدؤه (وَلِلَّذِينَ).
﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ تضمنت هذه الآية عذاب جهنم للكفار المخلدين، وقد جاء في الأثر: "أنه يمر على جهنم زمنٌ تخفق أبوابها قد أَخْلَتْها الشفاعة" (٢)، فالذي في هذه الآية في جهنم بأسرها؛ أي: جميع الطبقات، والتي في الأثر هي الطبقة العليا؛ لأنها مقر العصاة.
﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (٧)﴾.
[٧] ﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا﴾ في جهنم (٣) ﴿سَمِعُوا لَهَا﴾ لأهلها.
﴿شَهِيقًا﴾ هو أقبح ما يكون من صوت الحمار ﴿وَهِيَ تَفُورُ﴾ غليانًا.
﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨)﴾.
[٨] ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ﴾ تنشَقُّ ﴿مِنَ الْغَيْظِ﴾ على الكفار. قرأ البزي عن ابن
(٢) كذا ذكره الثعالبي في "تفسيره" (٤/ ٣٢١)، وابن عطية في "المحرر الوجيز" (٥/ ٣٣٩). ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (٧٩٦٩)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (١٠/ ٣٦٠): فيه جعفر بن الزبير وهو ضعيف.
(٣) "في جهنم" زيادة من "ت".
﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ﴾ طائفةٌ ﴿سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾ توبيخًا لهم:
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ رسول يخوفكم هذا العذاب.
﴿قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (٩)﴾.
[٩] ﴿قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا﴾ الرسل ﴿وَقُلْنَا﴾ لهم:
﴿مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ وفرطنا في التكذيب حتى نفينا (٢) الإنزال والإرسال.
﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ﴾ أي: وبالغنا في نسبتهم إلى الضلال، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة للكفار حين أخبروا عن أنفسهم أنهم كذبوا الرسل.
﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَقَالُوا﴾ يعني: الكفارُ للخزنة في محاورتهم: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ﴾ سماعَ من يعي الحقَّ ﴿أَوْ نَعْقِلُ﴾ عقلًا يُنتفع به، ونعي شيئًا، لآمَنَّا، و ﴿مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ المستوجبين الخلودَ فيه.
(٢) في "ش": "نسينا"، والمثبت من "ت".
[١١] ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ﴾ حيث لا ينفع الاعتراف ﴿فَسُحْقًا﴾ نصب على جهة الدعاء عليهم ﴿لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ أي: أبعدَهم الله بعدًا عن رحمته.
قرأ الكسائي، وأبو جعفر بحلاف عن الثاني: (فَسُحُقًا) بضم الحاء، والباقون: بإسكانها، وهما لغتان مثل: الرعْب والرعُب (١).
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ أي: إذا غابوا عن الناس في خلواتهم.
﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ الجنة.
﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٣)﴾.
[١٣] ولما كان المشركون ينالون من رسول الله - ﷺ -، فيخبره جبريل بما قالوا، قال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كيلا يسمع إله محمد، فنزل: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (٢) بالضمائر دون أن ينطق، فكيف إذا نطق به سرًّا أو جهرًا؟
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٤٣٧)، و"تفسير القرطبي" (١٨/ ٢١٤).
[١٤] ﴿أَلَا يَعْلَمُ﴾ السرَّ والجهرَ ﴿مَنْ خَلَقَ﴾ أي: أوجدَ الأشياءَ.
﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ﴾ العالم بما ظهر من خلقه (١) وما بطن ﴿الْخَبِيرُ﴾ بهم وبأعمالهم.
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا﴾ مذللة لينة ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ جوانبها.
﴿وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ الذي خلقه لكم، أمر إباحة ﴿وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ المرجع.
﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (١٦)﴾.
[١٦] ثم خوَّف الكفار فقال: ﴿أَأَمِنْتُمْ﴾ قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وأبو جعفر، وقالون، ورويس، والأصبهاني عن ورش: (أَأَمِنْتُمْ) بتحقيق الهمزة الأولى، وتسهيل الثانية بين الهمزة والألف، واختلف عن الأزرق عن ورش في إبدالها ألفًا خالصة، وتسهيلها بين بين، واختلف عن هشام في تسهيلها بين بين، وتحقيقها، وقرأ الباقون: بتحقيق الهمزتين، وهم الكوفيون، وابن ذكوان، وروح، وفصل بين الهمزتين بألف: أبو عمرو،
﴿مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ وهذا المحل من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، نؤمن به ولا نتعرض إلى معناه، ونكل العلم فيه إلى الله، قال ابن عباس: "أأمنتم عَذَابَ مَنْ في السماء إن عصيتموه" (٢).
﴿أَنْ يَخْسِفَ﴾ يغوِّرَ ﴿بِكُمُ الْأَرْضَ﴾ كما فعل بقارون.
﴿فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ تذهب وتجيء مضطربة.
﴿أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ ريحًا ذاتَ حجارة كما فعل بقوم لوط. واختلاف القراء في الهمزتين من (السَّمَاءِ أَنْ) في الحرفين كاختلافهم فيهما من (هَؤُلاَءِ آلِهَةً) في سورة الأنبياء [الآية: ٩٩].
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٤٣٨).
﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ قبل كفار مكة من الأمم الماضية.
﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ إنكاري عليهم بالعذاب، وهو تسلية لرسول الله - ﷺ -، وتهديد لقومه. قرأ ورش عن نافع: (نَذِيرِي) و (نَكِيرِي) بإثبات الياء وصلًا، وقرأ يعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (١).
﴿أوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ﴾ المراد: جنس الطيور ﴿فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ﴾ باسطاتٍ أجنحتَها في الجو عند طيرانها كالسابح في الماء ﴿وَيَقْبِضْنَ﴾ أجنحتها بعدَ البسط.
﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ﴾ عن الوقوع عند القبض والبسط ﴿إلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾ المعنى: ألم يستدلوا على القدرة بثبوت الطير في الهواء؟!
[٢٠] ثم استفهم منكرًا فقال: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ﴾ إن أرسل عليكم عذابه ﴿إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ﴾ الشيطانُ يغرهم.
﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ﴾ اللهُ ﴿رِزْقَهُ﴾ عنكم باحتباس المطر وغيره من الأسباب؟ فلما لم يتعظوا، أضرب عنهم فقال:
﴿بَلْ لَجُّوا﴾ تمادَوْا ﴿فِي عُتُوٍّ﴾ تكبر ﴿وَنُفُورٍ﴾ تباعُد عن الإيمان.
﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢)﴾.
[٢٢] ثم ضرب مثلًا فقال: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا﴾ واقعًا.
﴿عَلَى وَجْهِهِ﴾ يعثر كل ساعة؛ لوعورة طريقه.
﴿أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا﴾ قائمًا سالمًا من العِثار.
﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وهذا مثل للمؤمن والكافر.
﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُم﴾ خلقكم ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ﴾ لتسمعوا
﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ فيه قولان: أحدهما: شكركم قليل، والثاني: لا تشكرونه قليلًا ولا كثيرًا.
﴿قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ﴾ خلقكم ﴿فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ تبعثون يوم القيامة.
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿وَيَقُولُونَ﴾ يعني الكفار للمؤمنين استهزاء: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ بالعذاب.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فيما تعدوننا به؟
﴿قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿قُلْ﴾ يا محمد: ﴿إِنَّمَا الْعِلْمُ﴾ أي: علم وقته ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ لا يعلمه غيره.
﴿وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ والنذير يُعَلِّمُ ما عُلِّم، ويخبر بما أُمر أن يُخبر به.
[٢٧] ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ﴾ هذه حكاية حال تأتي، المعنى: فإذا رأوه.
﴿زُلْفَةً﴾ قريبًا منهم، يعني: عذاب الآخرة.
﴿سِيئَتْ﴾ قَبُحت واسودَّت (١) ﴿وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وبانَ عليها الكآبةُ.
﴿وَقِيلَ﴾ أي: قال الخزنة لهم: ﴿هَذَا﴾ العذابُ.
﴿الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ﴾ أي: كنتم بسببه تَدَّعون؛ أي: تتمنون أن يُعجل لكم؛ لاعتقادكم أنكم لا تبعثون. قرأ الكسائي، وهشام عن ابن عامر، ورويس عن يعقوب: (سِيَئْت) (وَقِيلَ) بإشمام السين والقاف الضم، وافقهم نافع، وأبو جعفر، وابن ذكوان عن ابن عامر في (سِيئَتْ)، وقرأ الباقون: بإخلاص الكسر فيهما (٢)، وقرأ يعقوب: (تَدْعُونَ) بإسكان الدال مخففة، والباقون: بفتحها مشددة، ومعناهما واحد (٣).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٢٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٠٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٩٠ - ١٩١).
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٤٣٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٨٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٩١).
[٢٨] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ﴾ أماتني ﴿وَمَنْ مَعِيَ﴾ من المؤمنين.
﴿أَوْ رَحِمَنَا﴾ بتأخير آجالنا.
﴿فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ المعنى: نحن مع إيماننا بين الخوف والرجاء، فمن يجيركم أنتم مع كفركم؟ أي: لا ينجيكم أحد من العذاب، متنا أو بقينا. قرأ حمزة: (أَهْلَكَنِي اللهُ وَمَنْ مَعِي) بإسكان الياء فيهما، وافقه في الثاني: الكسائي، ويعقوب، وخلف، وأبو بكر عن عاصم، وقرأ الباقون: بالفتح فيهما (١).
...
﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ﴾ الذي نعبده ﴿آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا﴾ وثوقًا به.
﴿فَسَتَعْلَمُونَ﴾ عند معاينة العذاب ﴿مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ منا ومنكم. قرأ الكسائي: (فَسَيَعْلَمُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب، واتفقوا على الأول أنه بالخطاب، وهو (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ)؛ لاتصاله بالخطاب (٢).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٤٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٢١٢)، =
[٣٠] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾ غائرًا في الأرض لا تصلون إليه.
﴿فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ جارٍ ظاهرٍ تراه العيون، وتناله الأيدي.
حكي أن بعض المتجبرين تُليت عنده هذه الآية، فقال: يأتي به رؤوس المعاول، فذهب ماء عينيه، وعمي، فسمع هاتفًا يقول: قد أغرناها، فاستعمل الآن رؤوس المعاول.
قال - ﷺ -: "إن سورةً من كتاب الله تعالى ما هي إلا ثلاثون آية شَفَعَتْ لرجل، فأخرجته يوم القيامة من النار، وأدخلته الجنةَ، وهي سورةُ تبارك" (١)، والله أعلم.
(١) رواه أبو داود (١٤٠٠)، كتاب: الصلاة، باب: في عدد الآي، والترمذي (٢٨٩١)، كتاب: فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل سورة الملك، وقال: حسن، وابن ماجه (٣٧٨٧)، كتاب: الأدب، باب: ثواب القرآن، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.