ﰡ
وتسمى الواقية والمنجية، لأنها تقى وتنجي من عذاب القبر، وهي مكية على الصحيح، وعدد آياتها ثلاثون آية، وتشتمل كأخواتها المكيات على إثبات وجود الله ببيان مظاهر قدرته وعلمه، وقد تعرضت لما يلاقيه الناس يوم القيامة، ولبيان بعض نعمه على عباده، والسورة على العموم تدور حول بيان النعم.
مظاهر القدرة والعلم [سورة الملك (٦٧) : الآيات ١ الى ١٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤)وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩)
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢)
تَبارَكَ البركة: النماء والزيادة حسية كانت أو معنوية، والمراد: تعالى وتعاظم بالذات عن كل ما سواه ذاتا وصفة وفعلا، وعليه قول العربي وقد وقف على ربوة:
تباركت عليكم، أى: تعاليت حسيا. الْمَوْتَ وَالْحَياةَ الموت: عدم الحياة عما هي من شأنه، والحياة: ما يصبح بها الإحساس. لِيَبْلُوَكُمْ: ليختبركم، والمراد:
ليعاملكم معاملة المختبر. طِباقاً: متطابقة بعضها فوق بعض بحيث يكون كل جزء منها مطابقا للجزء من الأخرى، وأصل الطبق: جعل الشيء على مقدار الشيء مطابقا له من جميع جوانبه كالغطاء له. تَفاوُتٍ: تباين وعدم تناسب. فُطُورٍ:
صدوع وشقوق. كَرَّتَيْنِ: أى: كرة بعد كرة، والمراد: ترديد النظر.
يَنْقَلِبْ: يرجع. خاسِئاً: محروما ذليلا لعدم إدراك مطلوبه. حَسِيرٌ:
منقطع كليل. بِمَصابِيحَ المراد: بنجوم. رُجُوماً: جمع رجم، المراد ما يرجم به. وَأَعْتَدْنا: هيأنا. السَّعِيرِ: النار الملتهبة. شَهِيقاً: هو الصوت المنكر الذي يشبه صوت الحمار. تَفُورُ: تغلى. تَمَيَّزُ أى:
تنقطع. فَوْجٌ: جماعة. فَسُحْقاً: بعدا عن رحمة الله، والمراد ألزمهم الله سحقا. الْغَيْظِ: شدة الغضب.
المعنى:
تعالى الله وتعاظم- جل شأنه- عما سواه ذاتا وصفة وفعلا وتكاثر خيره وبره على
وقد شرع القرآن في تفصيل بعض أحكام الملك وآثار القدرة، وبيان أن لهما حكما وغايات جليلة كلها تعود على الإنسان بالخير العميم.
وهو الذي خلق الموت والحياة، وقدرهما على كل كائن في الوجود، وراعي ترتيبهما الوجودي فقدم الموت على الحياة. ولعل في ذكر الموت مقدما عظة وعبرة لمن يعتبر، قدرهما ليعاملكم «٢» معاملة من يختبر أمركم فيعرف خيركم وشركم، ويعلم أيكم أحسن عملا! وأكثر إخلاصا، وأبعد عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله، وكان المفروض أن يكون عمل الإنسان دائرا بين الحسن والأحسن لا بين الخير والشر، وقد خلق الله الموت والحياة ليبلوكم وليختبركم، فالحياة محل الاختبار والتكاليف، والموت محل الجزاء والثواب الذي هو نهاية الاختبار، وهو العزيز الذي لا يعجزه عقاب من أساء، الغفور لمن شاء أو لمن تاب.
وهو الذي خلق سبع سموات متطابقة بعضها فوق بعض، وهل السموات هي مدارات الكواكب أو مادة لا يعلمها إلا الله؟ الظاهر- والله أعلم- من مجموع النصوص الواردة في القرآن والسنة أن السماء مادة لا يعلمها إلا الله، والعلماء الطبيعيون يقولون: إنها فراغ يدور فيها الكواكب. والخطب سهل، لو تبصر الإنسان لرأى أن الله هو الذي خلق سبع سموات- والعدد على حسب ما كان معروفا عند العرب متطابقة بعضها فوق بعض أشبه ما تكون بطبقات البيضة، ليس فيها عيب ولا خلل، ولا ترى في خلقها تفاوتا في أى ناحية من النواحي، إن كنت في شك في ذلك فارجع البصر، ودقق النظر حتى يتضح لك الحال، ويتبين لك المقام، ولا تبقى
(٢) - في قوله (ليبلوكم) استعارة تمثيلية حيث شبه معاملة المولى جل شأنه لعباده بالابتلاء والاختبار.
وعلى الجملة فالسماوات السبع، وما فيهن آية من آيات الله الكبرى لو تأملت ما فيها من تناسب وتجاذب وإحكام ودقة ونظام لا يختل أبدا مع سرعة دورانها، لهالك هذا النظام العجيب، وإن شككت في ذلك فارجع البصر مرة بعد مرة فإنه سيرتد إليك خائبا خاسئا وهو كليل وضعيف أمام هذه القدرة العظيمة.
فهذه السموات السبع خالية من العيوب والخلل، وهي كذلك في غاية الحسن والبهاء. ولقد زينا السماء الدنيا بزينة هي الكواكب، فهي في السماء كالمصابيح في السقوف، وإنك لترى السماء ليلا، وكأنها عروس ليلة الزفاف، وهذه النجوم والأفلاك ينفصل منها أجزاء ملتهبة أو تلتهب من الاحتكاك بالأجواء هذه الأجزاء جعلت رجوما للشياطين، وأعدت لذلك فلم يعد للشياطين طريق لاستراق السمع من السماء، ولم يعد للدجالين الكذابين طريق للكذب على الناس، حيث إن الله أخبر أن النجوم خلقت زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وأعتدنا لأولئك الشياطين عذاب النار المسعرة المشتعلة في الآخرة.
وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم، وبئس المصير مصيرهم، إذا ألقوا فيها سمعوا لها صوتا منكرا كصوت الحمار «١»، وهو حسيسها حالة كونها تفور بهم وتغلى غليان المرجل، ويا ويلهم حينما يرون النار، تكاد تتميز، أى: ينفصل بعضها عن بعض من شدة الغيظ «٢» والغضب! وهذا وصف لجهنم دقيق.
وهاك وصفا لمن فيها: كلما ألقى فيها جماعة من أصحابها سألهم خزنتها وزبانيتها قائلين لهم: ألم يأتكم نذير يتلو عليكم آيات الله، وينذركم لقاء ربكم؟ قالوا: بلى قد
(٢) - جهنم لا يعقل أن يكون لها غيظ وغضب وإنما يجوز أن يكون في الكلام استعارة تصريحية حيث شبه اشتعال النار بهم وشدة تأثيرها فيهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر، ويجوز أن يكون الغضب للزبانية.
أما المؤمنون الذين يخشون الله حقا، ويؤمنون به، ويخافون عذابه يوم القيامة أولئك لهم مغفرة عظيمة لذنوبهم، ولهم أجر كبير لا يقادر قدره ولا يعرف كنهه.
بعض مظاهر نعمه وقدرته وعلمه مع تهديد الكفار [سورة الملك (٦٧) : الآيات ١٣ الى ٢٤]
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧)
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
بِذاتِ الصُّدُورِ: صاحبة الصدور، والمراد بها الخواطر التي لم تبارح الصدور. اللَّطِيفُ لطف الشيء: دق وصغر حجمه، والمراد أنه مطلع على دقائق الأمور. ذَلُولًا من الذل: وهو اللين ضد الصعوبة، وليس من الذل، وهو الهوان فضده العز. مَناكِبِها: جمع منكب، بمعنى الناحية، والمراد نواحيها وجوانبها، وقيل: جبالها وآكامها إذ المنكب يطلق على ملتقى عظم العضد بالكتف، ولا شك أنه مرتفع. النُّشُورُ: الحياة بعد الموت. يَخْسِفَ يقال: خسف الله بفلان الأرض: إذا غيبه بها. تَمُورُ: تضطرب وتتحرك بشدة. حاصِباً الحاصب: ريح شديدة تحمل الحصباء، أى: الحجارة الصغيرة. نَكِيرِ: تغيرى، والمراد عذابي. صافَّاتٍ يقال: صف الطائر جناحيه: بسطها في الجو وهو يطير.
وَيَقْبِضْنَ والمراد بقبضهما: ضم جناحيه إلى جنبه. جُنْدٌ: أنصار وأعوان.
مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أى: من غيره. بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ لجوا: تمادوا واستمروا، والعتو: العناد والكبر، والنفور: البعد عن الحق. مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ يقال: كبه على وجهه: صرعه وقلبه، والمكب: هو الشخص الذي يعتريه سقوط على وجهه من حين لآخر. سَوِيًّا: منتصب القامة. صِراطٍ: طريق.
ذَرَأَكُمْ: خلقكم على جهة الكثرة.
كان المشركون ينالون من النبي صلّى الله عليه وسلّم فيخبره جبريل- عليه السلام- فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كي لا يسمع رب محمد. فنزلت وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ.
الله يعلم الغيب والشهادة، ويعلم السر وأخفى، فسواء عنده الإسرار في القول والجهر به، إنه عليم بصاحبة الصدور، وبما يكون من الخواطر التي تلازم القلوب فلا تبرحها، ألا يعلم الله مخلوقاته التي خلقها؟ ألا يعلم الخالق خلقه؟ والحال أنه هو اللطيف العالم بدقائق شئون البشر، المطلع على خفايا الخلق، وهو اللطيف بعباده، وإن لطفه بعباده لعجيب، فهو يوصل الخير إليهم، ويكشف الضر عنهم من أخفى الطرق وأدقها، وهو الخبير بكل شيء.
هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا: سهلة مذللة ينتفع الخلق بكل ما فيها، فانقياد الأرض لبنى آدم ظاهر الوضوح، وخاصة في هذه الأيام حيث لم يدع الخلق ضربا من ضروب الانتفاع إلا سلكوه، ولا عنصرا إلا حللوه وركبوه، صهروا المعادن، وفتتوا الذرات واستنبتوا النباتات، واكتشفوا أسرار الكائنات، وغاصوا في أعماق البحار وطاروا في أجواء الفضاء، أليس الله قد لطف بعباده حيث مكنهم من كل ذلك؟ جعل الأرض ذلولا، وإذا كان كذلك فامشوا في مناكبها ونواحيها، وجوانبها وأطرافها، وآكامها وسهلها وحزنها.
احذروا أيها الناس هذا التمادي في الباطل، والتكذيب للرسل، واذكروا أنه تعالى جعل لكم الأرض سهلة لينة منقادة انقياد الدابة الذلول، فدعوا إذن العناد والتكذيب، واعلموا أن إليه النشور، وإليه وحده مرجع الإنسان في الحياة الأخرى ليحاسبه ويجازيه.
واعلموا أيها الناس أن الله قادر على تبديل النعم بالنقم، فاحذروا عقابه، واخشوا غضبه، أأمنتم الحق- تبارك وتعالى- أن يخسف بكم الأرض، ويغيبكم فيها، فإذا هي تتحرك بشدة حركة غير عادية؟ أأمنتم أيها القوم ذلك الإله العظيم الذي تعتقدون أنه موجود في السماء- مع أنه ثبت بالدليل العقلي أن الله ليس له مكان بل هو موجود بقدرته وعلمه وإحاطته في كل مكان- أأمنتم أن يهلككم، ويبيدكم، ويغير هذه الأرض الذلول التي تنتفعون بها في كل شيء، فإذا هي تمور وتضطرب؟! بل أأمنتم الله الذي هو في السماء- كما تعتقدون- أن يرسل ريحا شديدة تثير الحصباء وتحملها، هذه الريح ترسل عليكم فتهلككم وتستأصل شأفتكم؟!
ولقد كذب الذين من قبلهم من الأمم السابقة التي عرفوها، وكانوا يمرون على آثارهم، فغضب الله عليهم وأذاقهم عذاب الحياة الدنيا، وخسف بهم الأرض، وأهلكهم وتلك آثارهم، فانظروا كيف كان نكيري وسخطى على الكفار؟! هؤلاء كذبوا برسلهم، واستخفوا بوعيدهم، واغتروا بمالهم، فكانت عاقبة أمرهم خسرا في الدنيا والآخرة، وكان المشركون من العرب يعتقدون أن ما يهددون به لن يحل أبدا، فذكرهم بما حل بغيرهم. وذكر لهم بعض آيات قدرته في الكون ليعلموا أن الله على كل شيء قدير. فقال ما معناه: أليس من عجائب القدرة ما يراه الإنسان في كل وقت وآن، من تحليق الطيور في أجواز الفضاء، من الذي رفعها، ومن الذي منعها من السقوط، ومن الذي أوجد فيها القدرة على الطيران، وللتحرك في السماء، من الذي ركبها تركيبا به تقوى على ذلك؟ أليس هذا من عجائب صنع الله؟ أعموا ولم يروا إلى الطير فوقهم صافات أجنحتهن تارة، ويقبضنها تارة أخرى، ما فعل هذا إلا الرحمن الذي سهل لذلك الحيوان وسائل الطير والانتقال، كان هذا أساسا لتفكير الإنسان في الطيران، إنه بكل شيء بصير.. بسط الطائر لجناحه أساس طيرانه، وقد يبقى مستمرّا عليه ساعات، وقبضه له وهو يطير قليل الحصول، عارض متجدد. ومن هنا عبر عند البسط بقوله: «صافّات» وعند القبض بقوله: «يقبضن» «١».
ولقد ضرب الله مثلا للكفار المعاندين الموصوفين بالعتو والنفور مع مقارنتهم بالمؤمنين الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم، ولا شك أن الكافر المغرور الذي نفخ الشيطان في أنفه فامتلأ عتوّا ونفورا فهو كالماشى المكب على وجهه الذي يتعثر في كل خطوة يخطوها، أما المؤمن فهو كالسائر على طريق لاحب، أى: ممهد مستقيم، وهو منتصب القامة معتدل في المشي فأى القبيلين أهدى طريقا، وأقرب وصولا؟
وإذا كان المشركون كذلك فهل هم معذورون أولا؟ لا، ليسوا معذورين في شيء فالله خلق الخلق، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة لعلهم يتجهون إلى الخير وإلى الحق: نور الله! ولكن قليلا ما يشكرون.
قل لهم: هو الذي خلقكم، وذرأكم في الأرض فكان منكم النسل الكثير، والتكاثر المفضى إلى الانتشار في بقاع الأرض، ولكن اعلموا أنكم إليه تحشرون، ولا غرابة في ختام هذه الآيات بالحشر فإن السورة مكية من أغراضها إثبات البعث.
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠)
المفردات:
زُلْفَةً أى: اقترابا، والمراد مقتربا. سِيئَتْ: من السوء، وهو القبيح.
تَدَّعُونَ: من الدعاء بمعنى الطلب والنداء، أو من الدعاء بمعنى تدعون بطلانه.
غَوْراً أى: غائرا، وغار الماء: إذا نضب وذهب في الأرض. مَعِينٍ: جار على وجه الأرض تراه العيون، مأخوذة من عانه إذا نظره بالعين، أو هو من معن الماء: إذا اطرد وتسلسل.
المعنى:
كان المشركون يسألون النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ميعاد البعث استهزاء به وسخرية بوعيده وإنكارا له فيقولون: متى الساعة أيها المؤمنون إن كنتم صادقين في دعواكم؟.
ولكن الله رد عليهم بقوله: إنما العلم عند الله، أى: الله وحده الذي يعلم الوقت، وإنما الرسول مبلغ فقط، أما متى يكون؟ فليس من اختصاصه.
كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى الإيمان، ويلح في ذلك، وفي خلال هذا يسفه أحلامهم ويذم آلهتهم، وكانوا يكرهون ذلك ويستاءون له فكانوا يقولون لبعض: انتظروا فسيموت وتموت دعوته ويهدأ بالنا، وتطمئن نفوسنا.
فرد الله عليهم آمرا النبي أن يقول لهم: أخبرونى إن استجاب الله دعاءكم، فأهلكنا بالموت أو رحمنا فأخر أجلنا قليلا. ماذا تستفيدون من ذلك، ما دمتم مقيمين على الكفر والضلال، أتحسبون أن ذلك ينجيكم من عذاب الله؟ لا ولن ينفعكم موتنا أو عدمه، وإنما الذي ينفعكم هو الإيمان فقط، والذي نجانا نحن هو الإيمان بالرحمن والتوكل عليه فقط، وأما أنتم إذا ظللتم على ما أنتم عليه فستعلمون غدا من هو في ضلال كبير؟
قل لهم مذكرا بنعمة من نعمه: أخبرونى إن أصبح ماؤكم غائرا لا تصله الأيدى ولا الدلاء فمن يأتيكم بماء معين جار على وجه الأرض نابع من العيون، أو منظور إليه بالعيون؟ لا أحد غير الله فآمنوا به واعملوا صالحا ينجيكم ربكم من عذاب أليم.