تفسير سورة الحج

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة الحج من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة الحج
وهي مكية في القول الصحيح إلا بعض آيات. وقال الجمهور: السورة مختلطة منها مكي ومنها مدني. وهذا هو الأصح، وآياتها ثمان وسبعون آية، وهي تتضمن الكلام على البعث وبعض مشاهده، ثم تنتقل إلى الكلام على المشركين وموقفهم من المسجد الحرام واستتبع ذلك الكلام على البيت وشعائر الحج، ثم الكلام على المكذبين ومصارعهم للعبرة بهم وفي نهاية السورة آيات الله في الكون مع ضرب المثل للآلهة.
الدعوة إلى تقوى الله [سورة الحج (٢٢) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤)
563
المفردات:
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ أصل الكلمة من زل عن الموضع إذ زال عنه وتحرك، وزلزل الله قدمه أى: حركها، وعلى ذلك كانت الزلة شدة الحركة مع تكرارها تَذْهَلُ
الذهول الذهاب عن الأمر مع الدهشة سُكارى
جمع سكران مَرِيدٍ متمرد عات.
المعنى:
يا أيها الناس اتقوا ربكم، وخذوا الوقاية لأنفسكم من عذابه. وحاصل التقوى أنها ترجع إلى امتثال الأمر واجتناب النهى، والإحسان في العمل، والإخلاص فيه.
أمر الله بنى آدم بتقواه، ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة وأهوالها، ولينظروا إلى يوم الحساب ببصائرهم، ويتصوروه بعقولهم، حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم وهوله، بامتثال ما أمرهم به ربهم من التحلي بلباس التقوى الذي لا يؤمنهم من الفزع إلا هو.
روى أن هذه الآية نزلت ليلا في غزوة بنى المصطلق فقرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة «وكان الصحابة بين حزين وباك ومفكر».
يا أيها الناس. اتقوا ربكم، إن زلزلة الساعة واضطرابها شيء عظيم هوله كبير وقعه، إلا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، نعم في يوم القيامة وساعة الزلزلة تذهل كل مرضعة عن طفلها، الذي ترضعه، والذهول: الغفلة عن الشيء بطروء ما يشغل عنه من هم ووجع أو غيره، والمعنى: أن في هذا اليوم أهوالا تذهل المرضعة عن رضيعها، وتجعل الناس سكارى، والولدان شيبا يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً وترى الناس كأنهم سكارى، والواقع أنهم ليسوا سكارى، ولكن عذاب الله شديد يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ [النازعات ٦- ٩] ومع هذا ما أجهلك يا ابن آدم، وما أغباك حيث لم تستعد لذلك اليوم، ولم تأخذ لنفسك الوقاية منه فسيحاسبك خبير عليم وناقد بصير، ولا تخفى عليه خافية!!
564
ومع هذا كله فمن الناس من يجادل في الله وقدرته على البعث، واتصافه بصفات الألوهية، ويا ليته يجادل بالحق، ولكنه جدال بالباطل ونقاش بغير علم وعقل، وهو يتبع في هذا كله شيطانه المتمرد العاتي، مع أنه كتب عليه وقدر تقديرا ظاهرا كالرقم على الشيء المعروض في السوق أنه من تولاه واتبعه من الشياطين الإنسية أو الجنية فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير.
وهناك معنى آخر وهو: كتب على الشيطان أن من تولاه من الإنس فإنه يضله ويهديه- أى: الشيطان- إلى عذاب السعير، ولعل هذا هو المعنى الظاهر.
من أدلة البعث [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥ الى ٧]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)
565
المفردات:
رَيْبَ شك نُطْفَةٍ النطفة: المنى وهو ما يخرج من صلب الرجل سمى نطفة لقلته، والنطف القطر عَلَقَةٍ العلقة: الدم الجامد. وقيل: الطري مُضْغَةٍ المضغة: قطعة لحم قليلة. قدر ما يمضغ أَشُدَّكُمْ كمال قوتكم أَرْذَلِ الْعُمُرِ المراد: الهرم والخرف حتى لا يعقل هامِدَةً يابسة لا نبات فيها اهْتَزَّتْ تحركت وتفاعلت وَرَبَتْ نمت وارتفعت بالنبات زَوْجٍ لون وصنف بَهِيجٍ حسن للدين الإسلامى مقصدان مهمان جدا، وأساسان عليهما يدور، وعليهما تبنى الفروع، أما الأول: فتوحيد الله. واتصافه بكل كمال، وتنزيهه عن كل نقص، وأما الثاني: فإثبات البعث والحياة الأخرى، وما يتبعها من ثواب وعقاب وغيره، إذا لا غرابة في تكرارهما في القرآن والسنة، وإثباتهما والاستدلال عليهما بالآيات الكونية وغيرها.
المعنى:
يا أيها الناس جميعا من كل جنس ولون، في كل عصر وزمن، إن كنتم في شك من البعث- وهذا الشك يجب أن يكون بسيطا جدّا يزول بأدنى تنبيه لتضافر الأدلة على ثبوته- فاتركوه، وانظروا مما خلقتم؟!! ولقد كان اعتماد المنكرين للبعث على أنه يستحيل حياة بعد موت وتفرق للإجراء وانعدام لها بل تحولها إلى شيء آخر، ومن الذي يعيد الحياة لتلك العظام النخرة التي أصبحت ترابا أو صارت ذرات في الهواء، أو انتهى أمرها إلى بطون السباع أو بطون السمك والحيتان؟!! وعلى أى وضع يكون حساب وعقاب؟!! فنزل القرآن ينادى بالبعث، ويسوق الأدلة كالصواعق أو أشد، وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟!! [الرعد ٥] فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. [الإسراء ٥١] وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس ٧٨- ٨٠].
566
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً؟!! [سورة مريم الآيتان ٦٦ و ٦٧].
وغير ذلك من آيات القرآن وكلام الرسول كثير.
وخلاصة دعواهم، استحالة الحياة بعد الموت، والوجود بعد فناء الخلق، وما علموا أن القادر على البدء قادر على الإعادة، وهو أهون عليه، إذا قسناها بمقاييسنا..
يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فاذكروا خلقكم أولا، واعلموا أنه قد مر عليكم أدوار سبعة لا مناسبة بينها أبدا إذ كل دور كنتم من نوع يخالف الآخر.
١- خلقكم من تراب- أى: خلق أباكم آدم منه، أو خلقكم من المنى والمنى سواء كان من الذكر أو الأنثى فهو من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء نباتا كان أو حيوانا من الأرض فصح أن كل إنسان خلق من تراب.
٢- ثم خلقناه من نطفة- ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فمن الذي حول التراب اليابس إلى ماء فيه حيوانات منوية، ولا علاقة بينهما ولا مناسبة.
٣- ثم من علقة- والعلقة قطعة الدم الجامدة، ولا شك أن بين المنى كماء والدم الجامد مباينة، ومع هذا فقد تحول الماء إلى دم جامد بقدرة قادر، وفي هذا إشارة إلى أنه لا معنى لاستبعاد الإعادة بسبب التحول من مادة إلى أخرى فإنه ثابت في بدء الخلق.
٤- ثم من مضغة، وهي قدر ما يمضغ من اللحم، وانظر إلى أصلها الأول وكيف وصل التراب إلى ماء ثم إلى دم ثم إلى لحم يمضغ!!.. وهذه المضغة قد تكون مخلقة مسواة سالمة من العيوب والنقصان، تمت فيها أحوال الخلق ورسومه، وقد تكون غير ذلك.
يا أيها الناس إن كنتم في شك من البعث فإن خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة قد صورناها، ومضغة لم نصورها، أخبرناكم بهذا كله لنبين ما يزيل عنكم الشك، وينفى عنكم الريب في أمر بعثكم فإن القادر على هذه الأشياء كيف يكون عاجزا عن الإعادة والله- بعد ذلك- يقر في الأرحام ما يشاء إلى أجل مسمى
567
عنده وهو مدة الحمل فقد يولد الجنين لستة أشهر أو لتسعة أو لسنة أو لسنتين، وبعض الفقهاء قال إن أقل الحمل ستة أشهر ولحظتان، ونهايته أربع سنين.
٥- ثم نخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا تتنفسون وتعيشون، وتطعمون، وقد كنتم في بطون أمهاتكم تتنفسون، ولكن على أى كيفية؟. وكنتم تطعمون، ولكن من دم أمهاتكم، فهل هناك مناسبة بين الحالتين بين الطفل في بطن أمه، وبينه وهو في الحياة العامة!! ٦- ثم لتبلغوا أشدكم، نعم فالله- سبحانه- القادر على كل شيء مهد لهذا الطفل الصغير سبل الحياة، وأحيا فيه غريزة حب البقاء التي جعلته يرضع من ثدي أمه، وهداه إلى طرق الحياة فعاش حتى بلغ أشده وكمال قوته وعقله.
٧- وبعد هذا أو قبله منكم من يتوفى، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر أليس في هذا دليل على وجود إله قوى مختار يحكم لا معقب لحكمه، قادر على كل شيء إذ منكم من يتوفى وهو في تمام قوته، وريعان شبابه، ومنكم من يعيش ويعمر، وقد يكون مريضا عليلا فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل ٦١] وإذا عمر الإنسان كثيرا، ووصل إلى الهرم ضعفت قواه العقلية والجسمية إلى درجة كبيرة، وفنيت خلايا جسمه كلها أو أغلبها فيصير ضعيف العقل والحواس، لا يعلم شيئا مما كان يعلمه، وهذا أمر مشاهد معروف، وصدق الله حيث يقول: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [سورة الروم آية ٥٤].
وكيف تشكون في البعث، وإعادة الحياة إلى الجسم، وأنتم ترون مظاهر البعث والحياة بعد الموت أمامكم في كل وقت، ألم تروا إلى الأرض، وهي ميتة هامدة ساكنة لا حياة فيها، ولا نبات بها فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وتحركت وقد أثبت العلم الحديث ذلك- وربت وانتفخت وأنبتت من كل صنف من النبات بهيج وحسن.
انظر يا أخى: إلى ترتيب القرآن المحكم أثبت البعث واستدل على ذلك بدليلين:
(أ) خلق الحيوان. (ب) خلق النبات ثم رتب على ذلك أمورا.
١- ذلك الذي بينه لنا من أمر الخلق في الحيوان والنبات، وانتقال كل من حال
568
إلى حال متباينة بسبب أن الله هو الحق، والحق هو الموجود الثابت الذي لا يحول ولا يزول، وأن كل ما سواه وإن كان موجودا حقّا، فإنه لا حقيقة له في نفسه لأنه مسخر مذلل للحق- تبارك وتعالى- صاحب الوجود المطلق، والغنى المطلق- سبحانه وتعالى-.
٢- وأنه يحيى الموتى، وإذا كان الله صاحب هذه الأفعال، وموجد هذه الأشياء والأحوال فكيف يستبعد منه إعادة الأموات للثواب والعقاب؟
٣- وأنه على كل شيء قدير، ولا عجب فمن صدر منه هذا تكون القدرة صفة ذاتية له، ويكون على كل شيء قدير.
٤- وأن الساعة آتية لا ريب فيها حيث وعد بها، وكان وعده مفعولا، وقضى بها وهو القادر المختار.
٥- وأن الله يبعث من في القبور للحساب والجزاء.
هكذا تكون الناس [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٨ الى ١٤]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢)
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤)
569
المفردات:
ثانِيَ عِطْفِهِ، المراد معرضا عن الذكر كفرا وتعظما، والأصل في العطف أنه الجانب، ويقال: ثنى فلان عنّى عطفه إذا أعرض، ولوى جانبه خِزْيٌ هوان وذل عَلى حَرْفٍ المراد: على شك وضعف في العبادة كضعف القائم على طرف الجبل وحده.
ولقد أمر الله بالتقوى وخوفهم من عذاب يوم شديد ومع هذا فمن الناس من يجادل في الله بغير علم، ثم ساق لهم الأدلة على البعث وقدرة الله على كل شيء، ومع هذا فمنهم من يجادل في الله كذلك بغير علم.
هكذا تكون الناس مهما كانت النذر! منهم شقي ومنهم سعيد، ومنهم المؤمن الصادق، والمنافق الكاذب، والكافر الصريح، وهكذا أراد الله.
المعنى:
ومن الناس من يجادل في وجود الله وصفاته بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير.
نعم من الناس من يجادل بالباطل، ويجادل في الله وصفاته بغير علم صحيح، وفكر سليم، وبغير هدى واستدلال يهدى إلى المعرفة الصحيحة، وبغير كتاب وحجة منقولة.
وهذا والله هو الحق، يجادل الإنسان ويخاصم بظن واه، لا دليل معه من علم أو نظر أو حجة، ولكنه العناد والضلال وعمى القلوب والبصائر فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج آية ٤٦].
وهو إذا ذكّر لا يذّكّر بل يعرض وينأى بجانبه كبرا وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً [سورة لقمان آية ٧].
570
ولما أدى جداله إلى الضلال، وكانت عاقبته خسرا، جعل كأنه غرضه، ولما كان الهدى في استطاعته، وتحت سمعه وبصره، ولكنه تركه وأعرض عنه، وأقبل على الجدال بالباطل جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال وبئس المصير.
وهؤلاء لهم في الدنيا خزي وهلاك، وهوان وذل، وفي يوم الجزاء يذوقون عذاب الحريق.
ذلك الجزاء الكامل المناسب بسبب ما قدمته يداه، وبسبب أنه- سبحانه وتعالى- الحكم العدل، وعدله يقتضى معاقبة الفجار، وإثابة الأبرار: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [سورة النجم آية ٣١]، وما ربك بظلام للعبيد، فيما يجازى به كلا على عمله.
صنف آخر أمره عجب!! يعبد الله عبادة ليست صادقة خالصة، عبادة ليس فيها صدق نية، ولا إخلاص في الطوية، عبادة باللسان وترديد في الكلام. لم يدخل الإيمان قلبه، ولم تخالط بشاشة الدين روحه، فهو دائم القلق والاضطراب، كمن يجلس على حرف الجبل وحده لا يهدأ له قرار، ولا تسكن له نفس.
هؤلاء هم المنافقون، أو المنافقون صنف منهم يعبدون الله على خوف وشيك، فإن أصابه خير من غنيمة ومال، وزيادة في النسل والإنتاج رضى عن هذا الدين.
وإن امتحن بالبلاء، واختبر في الضراء بنقص في المال أو الأنفس، أو هلاك في الثمرات والغلات ينقلب على وجهه، ويرتد معلنا سخطه وعدم رضاه.
وهؤلاء خسروا الدنيا بما أصابهم، وخسروا الآخرة إذ لا ثواب لهم على ما أصابهم فإنهم لم يصبروا ولم يحتسبوا.
وذلك هو الخسران الكامل، والضلال المبين.
ومن ذكر من الكافرين أو المترددين المنافقين، يدعو من دون الله ما لا يضره، ولا ينفعه، وإنما يتمسك ويتجه إلى ما لا يفيد أصلا، بل لا ينفع نفسه، وذلك هو الضلال الموغل في الضلالة البعيد جدا عن الصواب.
يدعو من ضره أقرب من نفعه، إذ هو سبب كفره وعذابه، لبئس هذا المولى والناصر ولبئس هذا العشير والصاحب.
571
ولا بد من وجود المؤمنين الموحدين مع هؤلاء، وأولئك ليكون ثوابهم على إيمانهم كثيرا، وها هم أولاء وجزاؤهم.
إن الله يدخل الذين آمنوا وأخلصوا في إيمانهم، وعملوا الصالحات، يدخلهم جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار، لهم فيها نعيم مقيم، وثواب عريض، إن الله يفعل ما يريد، من إكرام من يطيعه، وإهانة من يعصيه.
الله- سبحانه وتعالى- ناصر رسوله صلّى الله عليه وسلم [سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٥ الى ١٦]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦)
تقدم الكلام على من يجادل في الله بغير علم، ومن يعبد الله على حرف، وهؤلاء كان يغيظهم ما يرون من حال النبي صلّى الله عليه وسلّم والتفاف الناس حوله. فجاءت هذه الآية لقطع أطماعهم، ورد كيدهم في نحورهم.
المعنى:
حكى القرطبي عن أبى جعفر النحاس قوله: «من أحسن ما قيل في هذه الآية أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلّى الله عليه وسلم، وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه. فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ أى: فليطلب أية حيلة يصل بها إلى السماء. ثُمَّ لْيَقْطَعْ أى: ليقطع النصر إن تهيأ له فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلّى الله عليه وسلم».
والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر.
وذكر الزمخشري في كشافه أن المعنى:
«الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك، ويطمع فيه، ويغيظه أنه لم يظفر بمطلوبه فليستقص كل ما في وسعه، وليفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعله من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى لو مد حبلا إلى سماء بيته للانتحار فاختنق به منتحرا فلينظر، وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه».
وسمى الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع حياته، وسمى فعله وهو فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ كيدا لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره، أو سمى كيدا على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده، وإنما كاد به نفسه.
ألست معى في أن هذا رد لأعداء الإسلام في أن يطمعوا في إحباط دعوة الإسلام؟! ألست معى في أن الله متم نوره، ومؤيد رسوله، وعاصمه من الناس، ومؤيده بوحيه، ومنزل عليه آياته البينات.
ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آيات بينات واضحات، يهدى به الله الذين يعلم أنهم مؤمنون، وفي نفوسهم استعداد للإيمان بالغيب.
من مظاهر عدله وقدرته [سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٧ الى ١٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨)
573
المفردات:
آمَنُوا الإيمان: هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وَالَّذِينَ هادُوا وهم أتباع موسى- عليه السلام- لقولهم: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ بمعنى رجعنا وتبنا وَالصَّابِئِينَ قوم يعبدون النجوم والكواكب وَالنَّصارى هم أتباع المسيح- عليه السلام- وَالْمَجُوسَ عبدة النار من الفرس وغيرهم وهم يقولون بأن هناك إلهين للخير والشر، وللعالم أصلين نورا وظلمة وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا هم مشركو العرب الذين يعبدون الأصنام والأوثان يَسْجُدُ يخضع وينقاد لما يجريه عليه من حكم.
المعنى:
إن الله- سبحانه وتعالى- يهدى من يريد لأنه يستحق الهداية على حسب ما اطلع على نفسه وميله في الأزل بحيث لو ترك وحده لاختار ما قدره الله له، وهو يحكم بين الخلائق كلها بالعدل والقسطاس المستقيم فلا يظلم نفسا شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل.
فالذين آمنوا بالله وكتبه واليوم الآخر، وهم المسلمون الموحدون المؤمنون بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وبإخوانه الأنبياء جميعا لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [سورة البقرة آية ٢٨٥].
والذين هادوا وهم أتباع موسى- عليه السلام-، ولو كانوا أتباعا له حقيقة، ولم يغيروا ويحرفوا التوراة لآمنوا كذلك بعيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلم:
والصابئون الخارجون عن حدود الدين العابدون للكواكب، والنصارى من أتباع عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله، ولو كانوا كذلك لآمنوا بمحمد خاتم الأنبياء والرسل فدينه ينسخ كل ما تقدمه، وفي التوراة والإنجيل البشارة الصحيحة بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلم
574
والمجوس عباد النار القائلون بوجود إله للخير وآخر للشر، وللعالم أصلان هما النور والظلام.
هؤلاء جميعا يفصل الله بينهم بحكمه العدل، ويقضى يوم القيامة، فلا فضل لأمة على أمة، ولا لعنصر على عنصر ولا غرابة في ذلك إن الله على كل شيء قدير، وفي الكون شهيد ورقيب.
ألم تعلم أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض، والشمس والقمر، والنجوم والجبال، والشجر والدواب؟!!، وكيف لا تعلم والله أخبر به، وخبره الصدق. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والسجود لله مطلق الانقياد لما أمر، إذ الكل خاضع لأمره وتصريفه إذا قال للشيء كن فيكون.
وكثير من الناس يسجد سجود طاعة وعبادة فوق السجود العام الشامل له ولغيره.
وكثير حق عليه العذاب لأنه أساء العمل في دنياه، وفسق عن أمر مولاه.
ومن يهنه الله بأن يكتب عليه الشقاوة لما سبق عليه من كفره وفسقه وعصيانه- وقد كتب عليه ذلك لأنه يستحق كما قدمناه، ولموافقته لما يعلمه الله من ميله إلى الشر- فما له مكرم أبدا، ومن يكرم من أهانه الله؟!! إن الله نافذ أمره لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، وهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. له الملك وله الحمد. وهو على كل شيء قدير:
الكافرون والمؤمنون وجزاء كل [سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٩ الى ٢٤]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤)
575
المفردات:
خَصْمانِ فريقان متنازعان الْحَمِيمُ الماء البالغ النهاية في الحرارة يُصْهَرُ الصهر: الإذابة مَقامِعُ جمع: مقمعة، وهي: قطعة من الحديد اتخذت آلة للقمع سميت مقمعة لأنها تقمع المضروب أى: تذله الْحَرِيقِ أى:
العذاب المحرق مِنْ أَساوِرَ جمع أسورة التي هي جمع سوار فالأساور جمع الجمع، وهي حلية تلبسها النساء الآن في معاصمها وَلُؤْلُؤاً هو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف وَهُدُوا أى: ارشدوا.
المعنى:
هذان فريقان من الناس يتميز كل منهما عن الآخر، وقد اختصموا في شأن ربهم الذي خلقهم، فريق منهم في الجنة، وفريق في السعير، فريق كفر بالله وبرسوله، ولم يكن عنده استعداد للإيمان بالغيب والحياة الأخروية، وفريق آمن بالله وبرسله وآمن بالغيب والحياة الآخرة.
أما الفريق الأول: فهم الذين كفروا، وكان جزاؤهم أنه قطعت لهم ثياب من نار أى: سويت وجعلت لهم لباسا، تراه قد شبه النار بالثياب لأنها مشتملة عليهم كاشتمال الثياب، وقيل إنها ثياب من نحاس مذاب من شدة الحرارة فصار كالنار، وهذه هي السرابيل التي ذكرت في قوله تعالى: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ «١»
(١) سورة إبراهيم الآية ٥٠.
576
من سورة إبراهيم. وهؤلاء يصب من فوق رؤوسهم الحميم، وهو ماء شديد الحرارة مغلى بنار جهنم، ويا ويلهم من هذا العذاب!! يذاب بذلك الماء الحار ويصهر به ما في بطونهم من الأمعاء، وتحرق به جلودهم ولهؤلاء مقامع من حديد يضربون به على رؤوسهم لقمعهم وذلهم، كلما أردوا أن يخرجوا من النار بسبب غمهم بها، أعيدوا فيها بشدة حتى يأخذوا عذابهم كاملا غير منقوص، ويقال لهم: ذوقوا العذاب المحرق فأنتم أهل له.
أما الفريق الثاني: فهم الذين آمنوا بالله ورسله وعملوا الصالحات، فسيدخلهم ربهم جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار العذبة، منها يشربون، وبها يتمتعون، ويحلون في الجنة أساور من ذهب خالص. ولؤلؤا، ولباسهم فيها حرير.
وعلى ما أعتقد هذا تقريب وتمثيل لنفهم متاع الآخرة المادي وإلا ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ورضوان من الله أكبر من ذلك كله لأنه النعيم الروحي الخالص.
هؤلاء لا غرابة في جزائهم هذا فهم قد هدوا إلى القول الطيب والعمل الصالح وهدوا إلى صراط العزيز الحميد ودينه القويم وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
اللهم وفقنا إلى هذا، واحشرنا مع هؤلاء، واهدنا الصراط المستقيم آمين.
روى مسلم عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما إن هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ إنها نزلت في الذين برذوا يوم بدر: حمزة، وعلى، وعبيدة ابن الحارث- رضي الله عنهم-. وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة. والوليد بن عتبة. وبهذا الحديث ختم مسلم- رحمه الله كتابه، وروى هذا الحديث عن ابن عباس مع التنصيص على أن هذه الآية نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة.
577
صد الكفار عن المسجد الحرام وبيان مكانه [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦)
المفردات:
وَيَصُدُّونَ الصد: المنع، والفعل يفيد استمرار المنع الْعاكِفُ، المقيم الملازم وَالْبادِ، أى: أهل البادية بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ يقال: بوأته منزلا وبوأت له كما يقال: مكنتك ومكنت لك، وقيل: بوأنا له مكان البيت، أى: بيناه له.
ما مضى كان في بيان المؤمنين العاملين وجزائهم، وهنا بيان للكفار المشركين، وخاصة المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا كالمقدمة لما يأتى.
المعنى:
إن الذين كفروا بالله ورسوله، وهم يصدون عن سبيل الله صدا دائما مستمرا، ولا شك أن المشركين صدوا الناس عن سبيل الله بما عملوا من أعمال ضد المسلمين في مكة وغيرها.
وهم يصدون عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، وقد صدوا رسول الله عن المسجد الحرام عام الحديبية، وقد جعله الله للناس جميعا لصلاتهم وطوافهم وعبادتهم
والناس من حيث كونهم ناسا، العاكف فيه والبادي سواء وبهذا يعلم أن المسجد الحرام مكان عالمي عام للمسلمين جميعا يستوي فيه المقيم والمسافر، ومع هذا فقد صدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن المسجد الحرام وأخرجوه من مكة بلده الحبيب مكرها.
ومن يرد فيه مكروها حالة كونه ملحدا ظالما، أى: مائلا عن الحق والعدل بأى صورة كانت يكون جزاؤه أن الله يذيقه العذاب الأليم، وإذا كان هذا هو حكم الله فيمن يرتكب المعاصي في المسجد الحرام، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، فما بال من يصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، ويكفر بالله فيه؟ إنه لظلم عظيم.
واذكر يا محمد للناس وقت أن بوأنا لإبراهيم مكان البيت، وهيأنا مكانه، وبيناه له على أن لا يشرك بالله شيئا، وهذا نهى لإبراهيم- عليه السلام- ولأولاده من العرب.
وأمرناه أن يطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، يطهره من الأصنام والأوثان، فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ، وهذا تكريم لإبراهيم وتشريف للبيت...
وإذا كان هذا هو موقف إبراهيم- عليه السلام-، وما أمر به فكيف يكون حال المشركين الذين يدعون أنهم من نسل إبراهيم وعلى ملته؟! ثم هم يشركون بالله، ويعبدون الأوثان، ويرتكبون الإثم والعدوان في المسجد الحرام، والبيت المقدس، إن هذا لظلم فادح.
حج بيت الله الحرام [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)
579
المفردات:
رِجالًا المراد: ماشين على القدم، جمع راجل، كتاجر وتجار فَجٍّ الفج:
الطريق الواسع عَمِيقٍ بعيد، ومنه بئر عميق أى بعيدة القعر الْبائِسَ ذو البأس والشدة الْفَقِيرَ الذي أضعفه الإعسار وأجهدته الحاجة لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ليؤدوا. التفث أى الدرن والوسخ والمراد: تقصير الشعر وقص الظفر، ونتف الإبط الْعَتِيقِ القديم، وقيل: الكريم.
روى أنه لما فرغ إبراهيم- عليه السلام- من بناء البيت، وقيل له: أذن في الناس بالحج قال: يا رب! وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلى الإبلاغ فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبى قبيس وصاح: يا أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار، فحجوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك. إن تعلمهم بوجوبه عليهم يأتوك سراعا حالة كونهم سائرين على القدم وراكبين.
المعنى:
يا إبراهيم أذن في الناس بالحج، وأعلمهم بوجوبه، وطالبهم به وهل الأمر لإبراهيم أو هو للنبي صلّى الله عليه وسلّم الله أعلم به.
الركائب، يأتوك على كل ضامر من الإبل بسبب طول السفر، وبعد الشقة، إذ هم يحضرون من كل فج عميق وسفر بعيد، وبلاد نائبة.
ومن هنا ومن قوله تعالى في سورة إبراهيم على لسانه فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ندرك السّر الإلهى الذي أودعه الله في قلب كل مسلم نحو زيارة بيت
580
الله الحرام، وحج بيته الكريم، ففي أيام الحج من كل سنة نجد قلوب كثير من المسلمين تتحرق شوقا إلى مكة والمسجد الحرام، وتنفق في سبيل ذلك النفيس من المال، وتتحمل المشاق والمتاعب، وتهيم على وجوهها شوقا للقاء الحبيب حالة كونهم رجالا أو راكبين الإبل وغيرها من مسافات بعيدة، وترى الحجيج كل عام يجتمع من كل صوب وحدب، ليشهدوا منافع لهم، أى: والله إنها منافع لهم، لا يقدرها حقها، ولا يعرف كنهها إلا الله والراسخون في العلم.
نعم: هذا هو الحج: المؤتمر الأكبر الذي يضم شتات المسلمين من كل فج عميق يجتمعون في صعيد واحد وفي أيام معلومات، ويستهدون من الله، ويطهرون نفوسهم من أدران المادة والدنيا ومتاعها، ويستلهمون معاني القوة والاتحاد، والألفة والتعاون والإخاء في سبيل الله.
يشهدون منافع لهم دون غيرهم، منافع عامة ليست خاصة، منافع كثيرة في الدنيا والآخرة.
وإن من يوفق لأداء فريضة الحج يرى بنفسه أن الحج فيه منافع وأى منافع؟ فالدولة تنفق الأموال، وتطلق الألسنة، وتحشد الجمع لحضور مؤتمر لها، ولكن أيحضر الناس، بقلوبهم؟ معتقدين أنه في ذلك رضاء لربهم؟ كلا!! ولكن في هذا المؤتمر العام يحضر المسلمون ملبين دعوة الله، مجتمعين بقلوبهم، باذلين أموالهم على فقرائهم متعاونين متساندين متعارفين متحابين، يشعرون بالألفة والمحبة والإخاء لكل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها.. فحقا صدق الله: ليشهدوا منافع لهم. ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.
وانظر يا أخى- وفقك الله الخير- وقد كنى القرآن عن النحر والذبح بذكر اسم الله لأن الغرض المهم من الذبح أن يتقرب العبد إلى ربه وذكر اسمه حتى يطمئن قلبه، ويمتلئ بنور الله، ولأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا وذبحوا، ولقد ازداد الكلام روعة وحسنا ظاهرا حيث جمع بين قوله ليذكروا اسم الله وقوله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام من إبل وبقر، وضأن ومعز.
ولو قال: ليشهدوا منافع لهم، ولينحروا لكان الكلام أجوف خاليا من البواعث
581
والدوافع الدينية، وهذه ميزة الإسلام يحمل المسلمين على العمل بكل الأساليب المرغبة ليقبلوا على العمل بعقيدة ثابتة ونفس راضية.
والأيام المعلومات هي أيام التشريق الثلاث ويوم العيد فتكون أربعة وقيل: هي العشر الأوائل من ذي الحجة ووقت الذبح يوم النحر، وقيل: يوم العيد وأيام التشريق.
فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير: أما الأكل منها فالأمر فيه للإباحة جبرا لخاطر الفقير وإشعارا له بالمساواة في المأكل والمشرب ومخالفة لما كان في الجاهلية، والأمر في قوله وأطعموا للوجوب، ومذهب الشافعى رحمه الله أن الأكل مستحب والإطعام واجب فإن أطعمها جميعها أجزأه، وإن أكلها جميعها لم يجزه، هذا فيما إذا كان الذبح تطوعا. فأما الواجبات كالنذر والكفارات ودم الجبر الذي يذبح لنقص في أعمال الحج مثل دم القران والتمتع مثلا فلا يأكل منها، وقيل: يجوز له الأكل.
ثم بعد تحللهم وخروجهم من الإحرام ليؤدوا تفثهم، وليزيلوا أوساخهم، ويتحللون بالحلق أو التقصير، ونتف الإبط وإزالة الوسخ، وتفسير القضاء في لْيَقْضُوا بالإزالة تفسيرا مجازيا.
وليطوفوا طواف الإفاضة والزيارة، وهو غير طواف القدوم، وطواف الوادع وليطوفوا بالبيت العتيق الطاهر القديم شكرا لله على توفيقه لأداء الحج.
ولعل في ذكر الحج والأذان به عقب التسجيل على الكافرين بالصد عن سبيل الله والمسجد الحرام، وبيان مكانة البيت وطهارته، ما يجعلنا نشعر بأن من يقف حائلا في يوم من الأيام ويمنع حج بيت الله الحرام يكون من الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله والمسجد الحرام...
توجيهات إلهية لتعظيم حرمات الله وشعائره [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٥]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤)
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)
582
المفردات:
حُرُماتِ اللَّهِ مالا يحل هتكه الرِّجْسَ القذر، والمراد: اجتنبوا عبادة الأوثان مِنَ الْأَوْثانِ جمع وثن وأصله من وثن الشيء: أى أقام في مقامه، وسمى الصنم وثنا لأنه ينصب ويركز في مكانه لا يبرح عنه، وقد يسمى الصنم تمثالا إذا كان على صورة الحيوان التي يحيا بها حُنَفاءَ لِلَّهِ مستقيمين أو مائلين لجهة الله خَرَّ مِنَ السَّماءِ سقط فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ تقطعه بمخالبها تَهْوِي تسقط سَحِيقٍ بعيد شَعائِرَ اللَّهِ الشعائر جمع شعيرة، وهي: كل شيء لله فيه أمر أشعر به وأعلم، وعلى ذلك فشعار القوم في الحرب علامتهم مَنْسَكاً
أى: ذبحا الْمُخْبِتِينَ المتواضعين الخاشعين وَجِلَتْ خافت.
583
المعنى:
الأمر والشأن ذلك الذي ذكر من أحكام الحج وحدوده، وهذا أسلوب عربي سليم، إذ للكاتب حيث قدم جملة أو فصلا من كتابه أن يقول: ذلك والمراد تنبه إليه واحفظه، واعتن بذلك المذكور فالأمر ذلك.
ومن يعظم حرمات الله، ويعمل على أنها واجبة الحفظ والمراعاة، ويقوم بحفظها ورعايتها وعدم انتهاكها- وحرمات الله هي مالا يحل هتكه، وجميع ما كلفنا الله- تعالى- بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها- فالتعظيم خير له عند ربه من التهاون في شيء منها، وليس المعنى على التفصيل بين التعظيم وغيره بل المراد الوعد الصادق بالخير.
والحج ركن جمع بين العبادة البدنية والمالية، ففيه نسك وذبح وإهداء، ولذا ناسب أن يبين ما يحل ذبحه وأكل لحمه وما لا يحل فقال:
وأحلت لكم الأنعام أن تذبحوها وتأكلوا لحمها إلا ما يتلى عليكم في الكتاب من المحرمات كالتي ذكرت في سورة المائدة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [سورة المائدة آية ٣].
والمعنى أن الله قد أحل لكم الأنعام فكلوها، وحرم عليكم الميتة والموقوذة إلى آخر ما هو معروف فحافظوا على الحدود، وإياكم أن تحرموا مما أحل الله شيئا كتحريم عبدة الأوثان البحيرة. والسائبة. والوصيلة (قد سبق معرفتها في سورة المائدة آية ١٠٣) وإياكم أن تحلوا شيئا مما حرمه الله كما أحلوا الموقوذة والنطيحة وغير ذلك..
ولما حث على تعظيم حرمات الله ببيان أن مراعاتها وامتثال الأمر فيها خير لصاحبها أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور.
إذ توحيد الله- سبحانه- ونفى الشركاء عنه، وصدق القول، والبعد عن الزور كل ذلك من أعظم الحرمات وأهمها.
وانظر إلى جمع القرآن الشرك مع قول الزور في سلك واحد!! ولا غرابة فالشرك صورة من صور الزور إذ المشرك يزعم أن الوثن يستحق العبادة، وأنه شريك للباري،
584
فكأنه قال اجتنبوا الرجس من الأوثان التي هي رأس الزور، وعنوان البهتان، واجتنبوا قول الزور لأنه بالغ النهاية في القبح والقذارة.
وانظر يا أخى- وفقك الله إلى إدراك أسرار كتابه- إلى جعل الأوثان من الرجس، والرجس من القذارة، والطبع السليم يأنف من الأوساخ والقاذورات فالواجب على العاقل أن يباعد بينه وبين الأوثان حيث إنها رجس من عمل الشيطان، وكأن المعنى فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان.
واجتنبوا قول الزور وشهادة الزور فإنه ميل عن الحق إلى الباطل
عن النبي صلّى الله عليه وسلم: أنه صلّى الصبح فلما سلّم قام قائما واستقبل بوجهه، وقال: عدلت شهادة الزور والإشراك بالله. عدلت شهادة الزور والإشراك بالله. عدلت شهادة الزور والإشراك بالله. وتلا هذه الآية... اجتنبوا الرجس الذي هو عبادة الأوثان واجتنبوا الزور والقول به. حالة كونكم حنفاء لله، مستقيمين له، مائلين جهة الحق والعدل، غير مشركين به شيئا، ومن يشرك بالله، ويعبد غيره فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده هلاك وهو يشبه حال من سقط من السماء فاختطفته الطيور ومزقت جسده قطعا قطعا، وابتلعته في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في مغاور بعيدة الغور لا يعرف لها قرار.
وما أبلغ تشبيه المشرك بالله بالساقط من السماء، مع الأهواء التي تنتابه ونزغات الشيطان التي تتوزعه بالطير تأكل من جسمه، ومعه الشيطان يطوح به في مهاوي الضلال البعيدة الغور كالريح العاصف.
ذلك أى احفظ ذلك، أو الأمر هو ذلك الذي ذكرناه.
ومن يعظم شعائر الله، وهي الهدايا لأنها من معالم الحج وتعظيمها أن يختارها سمينة غالية الثمن، فإن تعظيمها من أفعال ذوى القلوب المؤمنة المملوءة بالتقوى فالتقوى محلها القلب.
لكم فيها منافع إلى أجل مسمى حيث تركبونها، وتأكلون من لبنها، وتنتفعون بأصوافها إلى أجل مسمى، وهو نحرها والتصدق بها وأكلها... لنا في الهدى منافع دنيوية وهي الركوب وشرب اللبن. ومنافع أخروية وهي التي يعتد الله بها وينظر إليها تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [سورة الأنفال آية ٦٧].
585
وأعظم هذه المنافع الأخروية نحرها في الحرام منتهية إلى البيت الحرام ومن هنا تدرك السر في التعبير بقوله: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ثم تستعمل للتفاوت في الزمن بمعنى أنك إذا قلت جاء محمد ثم على كان المعنى جاء على بعد محمد بزمن، وبعد ذلك استعملت ثم في التفاوت في الرتبة ومن هنا أخذ يحببنا في الذبح وأداء النسك فقال:
شرع الله لكل أمة أن ينسكوا له أى: يذبحوا له وقد علل الله بأنهم يذكرون اسم الله على الذبيحة لا اسم غيره شكرا واعترافا بفضله حيث رزقهم من بهيمة الأنعام، فلستم بدعا في ذلك.
وإذا كان الأمر كذلك فإلهكم إله واحد، لا إله إلا هو، فله وحده أسلموا، وعليه وحده اعتمدوا وتوكلوا وبشر يا محمد المخبتين المتواضعين القانتين الصادقين، وهم الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وخافت من عقابه وعذابه، وامتلأت خشية منه وهم الصابرون على ما أصابهم والمقيمون الصلاة تامة، والمنفقون مما رزقناهم.
من آداب الذبح في الحج [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)
المفردات:
وَالْبُدْنَ جمع بدنة كما يقال ثمرة وثمر، وسميت الإبل بدنا لأنها من البدانة وهي
586
السمن وهذا الاسم خاص بالإبل على الصحيح صَوافَّ قد صفت قوائمها والإبل تنحر وهي قائمة معقولة وأصل هذا الوصف في الخيل يقال صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى سنبك الرابعة، والسنبك طرف الحافر، وقرئ صوافي أى خوالص لله- سبحانه- وَجَبَتْ جُنُوبُها أى: سقطت مقتولة على جنوبها ميتة الْقانِعَ هو السائل يقال قنع يقنع من القناعة إذا سأل. وقيل: القانع الراضي الذي لا يسأل وفعله قنع يقنع من القناعة فانظر إلى دقة اللغة وَالْمُعْتَرَّ هو المعترض الذي يطيف بك طالبا ما عندك بالسؤال أو السكوت، وقيل المعتر: المعترض من غير سؤال.
المعنى:
من نعم الله علينا أن جعل البدن من شعائر الله تذبح ويتقرب بها، فهو الذي أعطى ومنح، وهو الذي يقبل منا ويجازينا على القربى إليه بنعمه التي تفضل بها علينا.
لكم في البدن خير، وأى خير أكثر من هذا؟ خير في الدنيا وخير في الآخرة فاذكروا اسم الله على ذبحها متقربين بها إليه حالة كونها صواف قائمات على أرجلها ليس بها عيب ولا مرض.
ولعل ذكر صواف يشير إلى أنها تكون سليمة قوية، وصفها على هذا الوضع يملأ قلب الفقير سرورا واطمئنانا فإذا وجبت جنوبها، وسقطت على الأرض ساكنة لا حراك بها فكلوا منها جبرا لخاطره ومخالفة للجاهلين في أنهم كانوا لا يأكلون منها، وهذا الأمر للإباحة، وأطعموا منها السائل وغير السائل، القانع المعترض حتى يطعم الكل، وهكذا الإسلام حريص كل الحرص على أن تكون أعياد المسلمين العامة فيها الفقير ينعم بالخير، ويتمتع بزكاة الفطر، والأضحية، والبدن التي تنحر في الحج.
وفي هذا إشارة إلى وجوب التضحية والبذل والفداء حتى يتحقق معنى العيد وحتى تكون كل النفوس راضية مرضية.
مثل ذلك التسخير سخرنا الحيوانات لكم وهي أقوى جسوما، ولكن خلق الله لكم ما في الأرض جميعا، وذلل لكم الطبيعة بكل قواها، لعلكم تقومون بواجب الشكر للخالق البارئ المصور- سبحانه وتعالى-.
587
كان أهل الجاهلية يضرجون بيوتهم بالدماء فأراد المسلمون أن يفعلوا مثلهم فنزلت الآية لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها والنيل لا يتعلق بالمولى ولكن المراد لن يقبل ولن يصل إليه، ولن يصعد إليه شيء من لحومها ولا دمائها، ولكن يناله التقوى والإخلاص، كذلك سخرها لكم لتكبروا الله عند ذبحها على ما هداكم ووفقكم إليه، وبشر المحسنين الذين يحسنون العمل، ويقومون به على أتم ما يكون.
المؤمنون الذين يدافع الله عنهم وينصرهم [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
المفردات:
خَوَّانٍ كثير الخيانة، لَقَدِيرٌ قادر على نصر عباده نصرا مؤزرا
588
لَهُدِّمَتْ خربت، وقيل: عطلت الصلاة فيها صَوامِعُ وهي: صوامع الرهبان، وقيل: هي خاصة بالصابئين، وَبِيَعٌ جمع بيعة. وهي كنيسة النصارى، صَلَواتٌ: هي كنائس اليهود وأصلها بالعبرية صلوتا فعربت، وَمَساجِدُ هي أماكن الصلاة للمسلمين وإن كانت الأرض كلها جعلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم مسجدا وتربتها طهورا لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ والقوى القادر على كل شيء، والعزيز الذي لا يغلبه غالب.
ولما ذكر الله- سبحانه وتعالى- صد الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم عن الحج، ومنعهم له من دخوله الحرم- وبهذه المناسبة بين بعض ما يلزم في الحج ومناسكه، وما فيه من منافع في الدنيا والآخرة- أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد والمنع، وما يجعل المسلمين أعزة أحرارا أقوياء...
المعنى:
إن الله يدافع عن الذين آمنوا، ويدفع عنهم شر أعدائهم، وينصرهم، ويؤيدهم على عدوهم، وإن الله لا يحب كل خوان للعهد، كفور بالنعم، يذكر غير الله، ويتقرب بذبيحته لصنم أو وثن، وكان المشركون المعاصرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم تنطبق عليهم تلك الأوصاف.
كان المشركون يؤذون النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه الكرام بألسنتهم وأيديهم إيذاء شديدا حتى شكا الصحابة لرسول الله ذلك، فكان
يقول لهم: «اصبروا فإنّى لم أومر بالقتال»
وظل الحال ينتقل من شدة إلى شدة، حتى هاجر المسلمون إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كذلك، فأنزل الله- سبحانه- بالمدينة آيات القتال، وكانت أول آية نزلت: قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وهي مقررة أيضا لمضمون قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، فإذا إباحة القتال لهم، وكونهم يصمدون في الحرب ضد الكفار، بل ويهزمونهم دفاع من الله عنهم، ونصر مؤزر لهم!.
أذن للذين يقاتلون، أى: أذن لهم من الله في قتال من يقاتلهم ويعتدى عليهم، وسبق له أن أخرجهم من ديارهم وأموالهم، وسامهم سوء العذاب. وذلك بسبب
589
أنهم ظلموا في كل ما لحقهم من الكفار، وإن الله على نصر المؤمنين لقدير، ينصرهم بغير حرب ولا تعب، ولكن يريد الله من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته، وليمحص الله الذين آمنوا، ولو يشاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض.
ثم وصف هؤلاء المؤمنون بقوله: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أى مكة بغير حق يقتضى الإخراج. لكن لقولهم: ربنا الله، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سورة البروج آية ٨].
أيها الناس: لا تعجبوا من إذن الله لأوليائه بالقتال، ووعدهم بالنصر على أعدائهم وحثهم على القتال، فلولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال أعداء الله وأعدائهم قديما وحديثا لاستولى أهل الشرك عليهم، ولضاعت مواضع العبادة في الأرض، وهدمت صوامع الرهبان، وبيع النصارى وكنائسهم، وصلوات اليهود وكنائسهم، وكذلك مساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله ذكرا كثيرا.
وو الله لينصرن الله من ينصره، إن الله لقوى قادر. عزيز لا يغالب ومن ينصره الله هو من ينصر دينه ويتبع أمره ونهيه، ويطيع رسوله وكتابه، والله- سبحانه وتعالى- أقسم لينصرنه، ومن أصدق من الله حديثا: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ، أفبعد صريح القرآن نطلب من الله النصر والدفاع. وما نصرنا دينه إلا بالانتساب إليه بالاسم فقط. أما القرآن، وحكمه، أما روح الدين والخوف من الله، فشيء في الكتب فقط، ويردد على اللسان فحسب، ولقد صدق الله: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سورة سبأ آية ١٣].
من ينصره الله هم الذين إن مكناهم في الأرض وأعطيناهم السلطان على الناس، أتوا بأربعة أمور عليها ينبنى الملك، وبها تؤسس الدولة الصالحة وهي:
(أ) إقامة الصلاة كاملة تامة في أوقاتها وبشروطها، إذ هي الواجب العملي الأول على كل مسلم، وهي الصلة بين العبد وربه، وهي مطهرة للنفس، وتقوية للروح، وتجديد لمعنى الإسلام، ودواء لكل داء إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت آية ٤٥] وإقامة الصلاة لامتثال العبد أمر الله كله.
(ب) إيتاء الزكاة. والحوادث التي مرت بالعالم في العصر الحديث، وما نتج من
590
ظهور المبادئ الهدامة، والأفكار الضارة كانت دليلا على أن الإسلام دين سماوي، ونظام رباني، لا يمكن أن يصدر عن بشر.
وحين أوجب على الغنى حقا للفقير، وجعل له في مال أخيه المسلم حقا معلوما.
كان يريد الخير للغنى والفقير، ويؤسس دولة على دعائم العدل والرحمة، والتعاطف والبر، بالمجتمع الإنسانى.
(ج، د) الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: وجعلهما أساسا في كيان الدولة، وإباحتهما للجميع. وهما أساس النقد الحر، دليل على أن الإسلام يريد لأبنائه الحرية المطلقة، ولكنها حرية مشوبة بروح الدين، ومطبوعة بالطابع الإسلامى الخالص.
والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا توافرا في مجتمع كبح جماع العصاة الخارجين وحد من ثورة الحكام الفاسدين، وألزم كل إنسان طريق الحق، وما قيدت الحريات ولا ضعف الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في أمة من الأمم إلا باءت بالخسران، وانهدم كيانها، وانمحت من الوجود.. ألم يذكر الله من أسباب اللعن لبنى إسرائيل وضياع ملكهم أنهم كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ؟ [المائدة ٧٩].
ومن هنا نعرف أن الله ينصر من ينصره، ويدافع عمن يدفع عن نفسه الهلاك والخسران من الأمم التي تقيم الصلاة، وتؤدى الزكاة، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وهذه أسس الخير، ودعائم الإصلاح، وما فرطت أمة في واحدة إلا ذلت.
ألست معى في أن المسلمين فرطوا في الأربعة، فضاعت هيبتهم بين الأمم وسلط الله عليهم أعدى أعدائهم، ولا طريق لهم إلا التمسك بالقرآن وحكمه، وامتثال أمره واجتناب نهيه، خصوصا هذه الدعائم الأربعة.
حثهم على العبرة بمن تقدمهم من الأمم [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٢ الى ٤٨]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨)
591
المفردات:
فَأَمْلَيْتُ أمهلت وأخرت عنهم العقوبة نَكِيرِ النكير بمعنى الإنكار وهو يفيد التغيير وقد غير نعمته عليهم وجعلها نقمة فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ كثير من القرى خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ساقطة على سقوفها أى: أن السقف سقط على الأرض ثم تهدمت الحيطان فوقه مُعَطَّلَةٍ متروكة لأنها غائرة الماء أو لفناء أهلها مَشِيدٍ رفيع طويل، أو شيد بالجص والطلاء، وعلى كل فهو قصر حصين.
ما تقدم كان في بيان إخراج الكفار للمؤمنين من ديارهم بغير حق، وقد أذن الله للمؤمنين في قتالهم ووعدهم بالنصر على أعدائهم، وهزيمة الكفار على كثرتهم، ولله عاقبة الأمور، وها هو ذا التاريخ يعيد نفسه فانظروا لمن سبقكم من الأمم، وفي هذا سلوى وبيان للمؤمنين.
592
المعنى:
وإن يكذبك يا محمد هؤلاء الناس، ويسعوا في الأرض فسادا ويؤذوا أصحابك بأنواع الأذى، فلا تحزن ولا تتألم أنت وصحبك الأبرار فقديما كذبت الأمم رسلها.
ثم كان النصر للمؤمنين حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [سورة يوسف آية ١١٠].
وها هو ذا أبوك نوح قد كذبه قومه وعصوه، وأخوك هود مع عاد، وصالح مع ثمود، وإبراهيم مع قومه، ولوط مع قومه، وشعيب مع أصحاب مدين، فهل رأيت إلا إيذاء وتكذيبا من القوم، وصبرا وثباتا من الرسل، فلست بدعا من الرسل والناس هم الناس.
وهذا موسى- عليه السلام- مع ظهور آياته ومعجزاته كالعصا واليد قد كذب، ولكن الحكم العام أن الله يملى للكافرين، ويمهل الظالمين ولا يهمل أبدا حتى إذا حان وقت العذاب أخذت بعذاب بئيس، وعقاب شديد.
فانظر: كيف كان إنكار ربك عليهم؟!! وكيف غير نعمتهم إلى نقمة، وبدل سرورهم إلى حزن، وقصورهم إلى خراب إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج ١٢].
فكثير من القرى أهلكناها، وأبدنا أهلها عن آخرهم، والحال أنها ظالمة فأصبحت لا ترى إلا مساكنهم، التي هي خاوية على عروشها، قد سقط السقف أولا ثم الحيطان عليه، وهذا نوع من الإبادة شديد.
وكثير من الآبار عطلت لفناء أصحابها أو لغور مياهها، وكذلك كثير من القصور المشيدة أخليت من سكانها وتركت تنعى أصحابها وروادها بلسان الحال!! أعمى هؤلاء المشركون من قريش، والمكذبون للنبي صلّى الله عليه وسلم، والذين يؤذون النبي وأصحابه فلم يسيروا في الأرض!! فتكون لهم قلوب يعقلون بها الحقائق، ويدركون بها الأسرار، وخفيات الأمور، حتى يعلموا عاقبة تكذيبهم، وأنه وبال عليهم، وسيحل بهم ما حل بمن سبقهم، فسنة الله لا تتغير أبدا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا «١».
فإنها لا تعمى الأبصار الظاهرة وحواسها، ولكنها تعمى القلوب التي في الصدور.
(١) سورة فاطر الآية ٤٣.
593
اعلم يا أخى أن في الإنسان قوة عاقلة مدركة، تدرك المحسوسات والمشاهدات والمسموعات بواسطة الأذن والعين والأنف وحاسة اللمس والذوق، وهذه الحواس ليست خاصة بالإنسان، بل هي في الحيوان كذلك.
وفي المؤمن قوة عاقلة روحية، تدرك الأسرار، وتقف على العبر والعظات من المحسوسات والمشاهدات، فإذا رأت رسما دارسا وبئرا معطلة، وقصرا مهدما نظرت فاعتبرت، وأدركت فعلمت، أن كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم، وإليه ترجعون، وأن أصحاب هذا لا بد أنهم عصوا وبغوا، فحاق بهم المكر السيئ ونزل بهم جزاؤهم المناسب لهم.
هذه القوة العاقلة الروحية هي التي تدرك معاني الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، ومحلها القلب، وللقلب عين وأذن وأنف وإحساس، ولكن هذه الأشياء كلها ليست هي الظاهرة التي في الإنسان والحيوان، بل هي حواس قلبية لها زاد هو التقوى، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى، إذن قد يكون للإنسان أذنين، وله عينين وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ، [سورة الأعراف آية ١٩٨].
يا عجبا لهم!! يستعجلونك بالعذاب تكذيبا لك، واستهزاء بوعدك، والله لن يخلف وعده أبدا.
وإن يوما عند ربك من أيام العذاب التي تحل بهم في الآخرة، كألف سنة مما يعدون!! فأين هم من عذاب ربك؟ والله بالغ أمره، ولن يخلف الله وعده وهو ناصر رسوله وعاصمه من الناس كلهم.
وكثير من القرى أملى لها الله وأخر عنها العذاب وهي ظالمة من باب الإمهال، لا الإهمال، حتى إذا جاء وعد ربك الذي لا يتقدم ولا يتأخر، أخذها ربك أخذ عزيز مقتدر، وإلى الله وحده المصير، وإليه ترجع الأمور.
مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلم [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١)
المعنى:
يقول تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم حين طلب منه الكفار وقوع العذاب واستعجلوه به تكذيبا له واستهزاء به لأنهم لا يؤمنون بيوم القيامة، ولا بقدرة الله على إيقاع العذاب. ونسوا ما حصل للأمم السابقة، ولم يعتبروا بما حصل.
قل لهم يا محمد: إنما أرسلنى الله إليكم نذيرا بين يدي عذاب شديد، إنما أنا نذير بيّن الإنذار قوى الحجة واضحها، وليس علىّ حسابكم وهدايتكم، بل أمركم إلى ربكم إن شاء عجل العذاب لكم، وإن شاء أخره عنكم ليوم معلوم، لا تستقدمون عنه ساعة ولا تستأخرون، وهو ربكم وإليه أمركم، وهو الفعال لما يريد، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.
فالذين آمنوا بالله وكتبه ورسله إيمانا صحيحا سليما مصحوبا بالعمل الصالح لهم مغفرة من الله ورزق كريم، وثواب عظيم، وسعادة في الدنيا والآخرة مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة النحل آية ٩٧].
والذين سعوا جاهدين في إبطال آياتنا، وإطفاء نور الإسلام- وما علموا أن الله متم نوره ولو كره الكافرون- أولئك أصحاب الجحيم الملازمون لها، وهي نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، إنها عليهم مؤصدة، في عمد ممددة...
كتاب الله محكم لا ريب فيه [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٢ الى ٥٧]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧)
595
المعنى:
روى المفسرون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فلما بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى سمع المشركون (تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى) فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا فقال النبي: «إن ذلك من الشيطان»، فأنزل الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى الآية
. وهناك روايات تثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو المعصوم- هو الذي قرأ وعلى ذلك فيكون معنى الآية: وما أرسلنا يا محمد من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى أى قرأ وتلا ألقى الشيطان في أمنيته أى قراءته وتلاوته، فينسخ الله ما يلقى الشيطان ويزيله، ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم.
596
هذه الرواية، رواية باطلة، وإن تكن رواية بعض المفسرين وكيف تصح؟!! ولو جوزناها لارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا في كل حكم أن يكون فيه زيادة أو نقص من قبل الشيطان على أن هذه الرواية وأمثالها تفتح باب الطعن والشك، وتكون سلاحا في يد أعداء الإسلام، وأعداء الأديان كلها، ولا ينفعنا أن ذلك بشكل واسع في الكتب السابقة. وهل تساعد اللغة تفسير (تمنى) بقرأ؟ أظن لا!! وكيف نجوز هذا والله يقول وهو أصدق القائلين:
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «١» ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ «٢». وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [سورة النجم الآيات ٣- ٥] وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [سورة الإسراء ٧٣ و ٧٤] وقد عرفنا تفسيرها ووقفنا على معناها.
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [سورة الجن الآيات ٢٦- ٢٨].
وقال القاضي عياض في كتاب الشفاء «لقد أجمعت الأمة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يبلغه عن ربه، معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا.
واعلم- أكرمك الله يا أخى- أنهم خرجوا هذا الحديث المسمى بحديث الغرانيق على أن أصله واه، وقال علماء الحديث: إنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة، وإنما أولع به وبمثله جماعة من المفسرين والمؤرخين بعضهم بحسن نية، وقال أبو بكر البراز: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بإسناد متصل يجوز ذكره.
وإذا سلمنا بالحديث على أنه مروى بعدة روايات وإن تكن كل واحدة ضعيفة إلا أن كثرة طرقها تجعلنا نقبله بتحفظ ونؤوله بما يتفق مع المبادئ العامة الإسلامية، بل
(١) سورة الحاقة الآيات ٤٤- ٤٦. [.....]
(٢) سورة يونس الآية ١٥.
597
بما يتفق مع صدر السورة، وعجزها، ووصف الأصنام بعد قوله تعالى أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ [سورة النجم الآيات ١٩- ٢٣] وهذا بلا شك وصف للأصنام بأنها لا حقائق لها، وليس لكم فيها حجة، وما تتبعون في عبادتها إلا الظن الذي لا شبهة معه... وإذا سلمنا بالحديث فتأويله هكذا.
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يرتل القرآن ترتيلا، ويفصل آياته تفصيلا في قراءته فالجائز أن الشيطان انتظر سكتة من النبي صلّى الله عليه وسلّم ودس ما اختلقه من تلك المفتريات محاكيا صوت النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد شاعت تلك الزيادة في وسط أهل مكة وسر بها المشركون.
وأما المسلمون فيحفظون السورة كما أنزلها الله- سبحانه-، وكما كان يتلوها النبي قبل ذلك، وكانوا متحققين من ذم النبي للأوثان، وما عرف عنه في ذلك، ومن هنا تظهر الحكمة الإلهية وهي الاختبار بأمثال هذا. فأما الكافرون الظالمون، ومن في قلوبهم مرض فسيقولون هذا من عند الله، والله قد مدح الأصنام التي كان يذمها محمد.
وأما المؤمنون فسيعلمون أن القرآن هو الحق من عند الله، وإن هذا إلقاء شيطان لا يعبأ به، والله عليم حكيم وتكون الآية سلوى للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كان يحصل هذا مع الأنبياء قبله، وهو لحكمة الله يقصدها ويعلمها، وهي الابتلاء والاختبار.
ويمكن بعد هذا كله أن نفهم الآية على هذا المعنى الآتي- مع أن اللغة لا تمنع منه- يقول الله- سبحانه وتعالى-: وما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول له كتاب وشريعة، ولا نبي- ليس له شريعة ولا كتاب بل ألهم أو أوحى إليه أن يتبع شريعة غيره كأنبياء إسرائيل- وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى- من الأمنية التي تهواها النفس، وكل الأنبياء كانت تحب وتهوى أن يؤمن بهم كل الناس- ألقى الشيطان في أمنيته وفي سبيل تحقيقها من العراقيل والعقبات الشيء الكثير فكان يلقى من نفوس الناس ويزين لهم الكفر والفسوق والعصيان، ولا شك أن الناس الذين أرسل إليهم الرسول هم محل الأمنية، التي يتمناها النبي صلّى الله عليه وسلم.
598
فينسخ الله ما يلقى الشيطان، ويزيل الوساوس من بعض قلوب الناس ثم يحكم الله آياته البينات، حتى تكون محكمة سديدة عند من يؤمن بها، والله عليم بخلقه حكيم في صنعه، يعلم خلقه وما هم عليه.
ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة وضلالا للذين في قلوبهم مرض، من شك ونفاق وحسد وبغضاء: وانظر إلى عبارة القرآن فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمراد استقر وسكن حتى أصبح طبعا وغريزة، والقاسية قلوبهم، وهم المشركون المكذبون، وإن الظالمين من المنافقين والمشركين لفي شقاق بعيد الغور، كبير الخطر، ولهم عذاب مقيم...
وليعلم الذين أوتوا العلم، وهدوا إلى الصراط المستقيم، وهم المؤمنون القانتون أنه الكتاب المحكم الآيات، البعيد عن الشبهات، هو الحق من ربك، لا شك فيه تنزيل من حكيم حميد، فيؤمنوا به إيمانا صادقا لا شبهة معه، فتخبت له قلوبهم، وتخشع وتسكن مخلصة مطمئنة، وإن الله لهادى الذين آمنوا بهذا القرآن إلى صراط مستقيم، وسيجازيهم على ذلك أحسن الجزاء.
ولا يزال الذين كفروا في شك منه مهما أتتهم الأدلة، وتوالت عليهم الحجج، لا يزالون هكذا، في شك وحيرة حتى تأتيهم الساعة بغتة، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم لا خير فيه.
ولا غرابة في هذا لأن الملك يوم الجزاء والثواب والعقاب لله الواحد القهار. يحكم بينهم، وهو الحكم العدل- جل شأنه-، يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات خالدين فيها، ولهم فيها نعيم مقيم.
والذين كفروا، وكذبوا بآياتنا فأولئك أصحاب الجحيم، ولهم عذاب ذو إهانة لهم.
جزاء ما عملوا من سيئ الأعمال، وما ارتكبوا من بوائق السيئات...
فضله كبير على الناس جميعا وخاصة المؤمنين [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٨ الى ٦٦]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦)
599
المفردات:
هاجَرُوا تركوا أوطانهم في سبيل الله مُدْخَلًا مكانا يدخلونه ويرضونه وهو الجنة عاقَبَ جازى الظالم بمثل ما ظلمه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ يدخل
600
الليل في النهار بزيادة وقته على حساب النهار مُخْضَرَّةً ذات خضرة سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ذلل لكم ما في الأرض تنتفعون به وتذللونه.
المعنى:
- الملك يومئذ لله يحكم بين عباده فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم، والذين كفروا وكذبوا بآياته لهم العذاب المقيم خالدين فيه أبدا.
والذين هاجروا في سبيل الله، وتركوا أوطانهم وديارهم في سبيله وكرسوا حياتهم للجهاد مع رسوله، وإنما خص هؤلاء بالذكر لسمو قصدهم وعلو مكانتهم عند ربهم، وهؤلاء الذين هاجروا ثم قتلوا بعد ذلك أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا، وانظر إلى علو مكانتهم عند ربهم إذا قتلوا أو ماتوا.
ليرزقهم الله رزقا حسنا من عنده. وهو خير الرازقين إذ يعطى بغير حساب وينفق كما يشاء، وكل عطاء فهو من فضل عطائه، ليدخلنهم مدخلا يرضونه يوم القيامة، وهذا المدخل الكريم ما أعد لهم في الجنة من النعيم المقيم، وهذه الجملة بيان للرزق الحسن إذ لا يعقل أن يكون رزقا في الدنيا بعد الموت أو القتل إلا على التأويل، ولا غرابة في ذلك فالله هو العليم بأسرار النفوس، وطوايا القلوب، حليم بعباده لا يعاجل بالعقوبة بل يعفو ويغفر، ويمهل ولا يهمل.
الأمر ما قصصناه عليك من إنجاز ما وعدنا المهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا. أى الأمر ذلك.
روى أن طوائف من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ورضى عنهم قالوا: يا رسول الله: هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ أى فما حالنا لو متنا بلا قتل؟!! فأنزل الله هاتين الآيتين- وهما يفيدان التسوية بين من مات على فراشه ومن قتل في سبيل الله... وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج ٦٠].
ووضع هذه الآية هنا يفيد معناها: أن هؤلاء المهاجرين المقاتلين في سبيل الله مع إكرامى لهم في الآخرة بما عرفتم لا أدعهم بل أنصرهم في الدنيا على أعدائهم، وهذا مشروط بنصرهم لله إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [سورة محمد آية ٧].
601
والمعنى من قاتل من قاتله ظلما وبغيا، لينصرنه الله ويؤيده بروح من عنده واعلموا أن الله عفو غفور فلا تلجئوا للحرب والقتال إلا إذا وقفوا ضدكم، وحاربوا دعوتكم، فإن تركوكم وشأنكم، ولم يعتدوا عليكم فمن الخير ألا تبدءوا بالقتال بل عليكم بالعفو فالله كثير العفو والمغفرة والعقوبة إنما تكون بعد فعل وقع. فهي جزاء منه، وسمى الله ابتداء الظلم عقوبة مشاكلة لتسمية الجزاء وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [سورة الشورى آية ٤٠] فسمى عقوبة الجزاء سيئة للمشاكلة، والمراد بالمثلية عدم الزيادة.
ذلك أى: المذكور كله بسبب أنه- سبحانه- قادر، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل بمعنى زيادة أحدهما على حساب الآخر فالقادر على ذلك قادر بلا شك على نصرة المظلوم، وإثابة الطائع ومجازاة العاصي، وذلك بسبب أن الله سميع لكل دعاء، بصير بكل عمل فلا يعزب عنه شيء.
ذلك أى ما تقدم من اتصافه- سبحانه وتعالى- بكمال القدرة، وتمام العلم بسبب أنه هو الحق، الموجود بلا شك، الموصوف بكل كمال المنزه عن كل نقص، وهو صاحب الدين الحق، فعبادته حق، ونصره لأوليائه حق، ووعده حق، وهو الحق لا شك فيه، وأن ما تدعون من دونه هو الباطل الذي لا ثبوت له، ولا وجود، والحال أن الله هو العلى المتعالي على الكل بقدرته، وقدسيته تنزهه عن الأشباه والأنداد والنظائر.
ثم أخذ القرآن يلفت نظرنا إلى الأدلة الكونية التي تثبت ذلك.
ألم تعلموا أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة؟ بقدرة الله، فالله- سبحانه- هو الذي أنزل من السماء ماء فأصاب الأرض الميتة فأحياها بالخضرة والنبات، أو سلكه ينابيع في الأرض ثم يرفع بالآلات الرافعة فأصبحت به مخضرة ذات خضرة وبهجة.
إن الله لطيف بعباده يدبر لهم أمر المعاش ونظام الدنيا خبير بهم، وبحالهم، وبنظام معاشهم ولا غرابة في ذلك كله إذ له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا، والكل محتاج إليه، وأن الله هو الغنى فلا يحتاج إلى شيء، الحميد المحمود في السموات والأرض.
وهذه نعمة أخرى.
602
ألم تعلموا أن الله الرحمن الرحيم بكم سخر لكم كل ما في الأرض من حيوان ونبات وأنهار وقوى طبيعية حتى استخدم الإنسان الأثير والذرة وها هي الفلك تجرى في البحر بأمره، وخصها بالذكر لأنها هي الموجودة ساعة نزول القرآن. أما اليوم فالغواصة، والطيارة، والقنابل والتليفزيون وغيره وغيره مما ستتكشف الأيام عنه.
والله- سبحانه- يمسك السماء أن تقع على الأرض، وقد رفعها بلا عمد ترونها فلن تقع السماء (أى ما فيها من كواكب وأجرام) إلا بإذنه وإرادته فليست الدنيا خلقت بالطبع ووجدت بالصدفة لا بل هذا الكون لا يمكن أن يسير وحده بلا مدبر قوى قادر حكيم عليم ناقد بصير هو الله- جل جلاله-، وتقدست أسماؤه.
حقيقة إن الله بالناس لرءوف رحيم.
وهو الذي أحياكم من العدم ثم يميتكم عند انقضاء أعماركم، وهذا الموت من أكبر النعم على الإنسان، ألم تر لك قريبا عزيزا عليك مرض مرضا شديدا حتى تمنيت له الموت؟ كلنا ذلك الرجل، ولذلك عد الموت في النعم كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ من سورة الرحمن، أليست الدنيا سجن المؤمن وبالموت ينطلق إلى ساحة الرحمن، ثم يحييكم للبعث والجزاء وإعطاء المحسن جزاءه والمسيء عقابه، إن الإنسان لكفور بنعم الله جحود لفضل الله إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وشكروا الله حق شكره فأولئك جزاؤهم عند ربهم...
لكل أمة شريعة صالحة لها [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٧ الى ٧٠]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠)
603
المفردات:
مَنْسَكاً عبادة وشريعة يعبدون بها ربهم، والفعل نسك ينسك فهو ناسك، ونسك أى: عبد فهو عابد.
المعنى:
العالم يتطور تطور الإنسان في الحياة فمن الطفولة إلى دور الشباب إلى دور الرجولة الكاملة، وتلك سنة التطور، وقد عالج الله العالم وقت أن كان كالطفل بعلاج التوراة التي أنزلت على موسى تحكم بالشدة وتعنى بالمادة، ثم جاء الإنجيل متمما لحكم التوراة مع علاج الروح وتنمية الغرائز، والعالم كان في شبابه ميالا لناحية الروح، ثم لما كمل العالم، وتمت رجولته، وأصبح قادرا على تحمل رسالة خاتم المرسلين محمد صلّى الله عليه وسلم أرسل له بتشريع يجمع بين العناية بالمادة والروح، وكان تشريعه وسطا وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [سورة البقرة آية ١٤٣].
نعم لكل أمة من الأمم جعلنا منسكا وشريعة تعبد بها ربها، وهي مناسبة لها فكانت التوراة منسك الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى، والإنجيل منسك الأمة من مبعث عيسى إلى مبعث محمد- عليهم جميعا الصلاة والسلام-، وكان القرآن وما فيه من تشريع وحكم شامل لكل مناحى الحياة الدنيا والأخرى منسك هذه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولقد أرسل محمدا صلّى الله عليه وسلّم ونزل عليه القرآن هدى للناس جميعا وبينات من الهدى والفرقان، والعالم في أشد الحاجة إليه، فكان رحمة للعالمين، ومنقذا للإنسانية المعذبة الضالة بين المادية القاسية، والوثنية الضالة لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [سورة المائدة آية ٤٨].
وإذا كان الأمر كذلك فلا ينازعنك في الأمر- أى أمر الدين- فهذا هو الدستور الذي نسخ جمع الدساتير السالفة، وهذا نهى لهم عن النزاع، وأنت يا محمد لا تلتف لنزاعهم وجدالهم واثبت في دينك ثباتا لا يطمعون معه أن يخدعوك ليزيلوك عنه، وادع كل الناس إلى سبيل ربك وهو دين الله الحق، وتوحيده الخالص، إنك على الحجة البيضاء ليلها كنهارها، وأنت على الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه، فادع الناس جميعا إلى الإسلام وإن أبوا إلا جدالك بعد ظهور الحجة عليهم فكل أمرهم إلى الله وقل لهم:
604
الله أعلم بما تعملون وسيجازيكم على عملكم، ويحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون.
ألم تعلموا أن الله يعلم ما في السماء، وما في الأرض؟ وهو العالم الذي لا يغيب عنه شيء في الكون، إن ذلك كله في كتاب مكتوب عنده، فكيف يغيب عنه شيء؟
بل إن ذلك كله عليه يسير، وهذا يفيد أن الحكم يوم القيامة بالعدل الذي لا جور فيه.
بعض أعمال الكفار والمشركين [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧١ الى ٧٦]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦)
605
المفردات:
ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً المراد بالسلطان الدليل الذي ينزله الله- سبحانه وتعالى- وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ المراد حجة عقلية الْمُنْكَرَ دلالة الغيظ والغضب يَسْطُونَ يبطشون والسطو شدة البطش ذُباباً الذباب اسما واحدا للذكر والأنثى، وسمى هذا الحيوان به لكثرة حركته لا يَسْتَنْقِذُوهُ الاستنقاذ والإنقاذ التخليص يَصْطَفِي يختار.
وهذا بيان لما يقدم عليه الكفار والمشركون بعد بيان نعم الله- سبحانه وتعالى- على خلقه، وبيان مظاهر قدرته وتمام علمه المحيط بكل شيء.
المعنى:
- الله المتصف بصفات الألوهية الكاملة، ولا إله إلا هو، خالق السماء والأرض، ومبدعهما لا على مثال سابق، ومولج الليل في النهار، والنهار في الليل، ومنزل الماء من السماء ومنبت الشجر والزرع والنبات في الصحراء وهو صاحب الأمر في السموات والأرض، السميع العليم، القدير الخبير، الذي سخر لكم ما في الأرض وخلقه لكم لتذللوه وتنتفعوا به، ورفع السماء وبسط الأرض وأحياكم، وهو الذي يميتكم ثم يحييكم لتأخذوا جزاءكم ومع هذا كله إن الإنسان لكفور مبين، ومع هذا فهم يعبدون من دون الله أصناما وأوثانا لم يتمسكوا في عبادتهم بحجة سمعية نزلت عليهم من الله، تكون لها سلطان عليهم ولم يتمسكوا في عبادتهم بعلم وحجة عقلية، بل عبدوهم من دون الله عبادة ليس لها أساس اللهم إلا التقليد الأعمى والجهل المطبق والشبه التي هي أو هي من بيت العنكبوت.
وما للظالمين أمثالهم من ولى يتولى أمرهم يوم الحساب، ولا نصير ينصرهم ويدافع عنهم، ومع هذا الجهل والضلال إذا نبهوا إلى الخير والطريق الحق، وإذا تليت عليهم آياته البينات من القرآن الكريم ظهر في وجوههم المنكر، وبدت عليها دلائل الغيظ والغضب، وامتلأت قلوبهم فجورا ونشوزا وإنكارا، يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا، ويبسطون إليهم ألسنتهم وأيديهم بالسوء.
606
ثم أمر الله رسوله أن يقابلهم بالوعيد الشديد فقال: قل أفأنبئكم بشر من ذلكم؟
أى: بشر من غيظكم الذي ملأ قلوبكم، وكأن سائلا سأل وقال: ما شر من ذلكم؟
فقيل: هو النار!! وعدها الله الذين كفروا، وبئس المصير مصيرهم.
ولما بين الله أنهم يعبدون من دون الله مالا حجة لهم فيه أتبع ذلك بيان أن آلهتهم أضعف من الضعف فلا يستحقون العبادة بحال.
ومن عادة القرآن الكريم أن يعبر عن الصفات أو القصة الرائعة الغريبة بالمثل لأنها تشبهه في الغرابة والتأثير على السامع والذيوع بين الناس.
يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، وتدبروا فيه، وحكموا عقولكم في مغزاه إن الذين تدعونهم من دون الله، وتخصونهم بالقربى والدعاء لن يخلقوا ذبابا أبدا، بل محال منهم ذلك وإنما اختير الذباب لحقارته، وضعفه وقذارته. وكثرته، والحال أنهم مجتمعون متكاتفون متحدون.
وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ولا يمكنهم أن يستخلصوه منه، يا لهذا العجز المشين، ويا له من تصوير فني رائع، وضع الآلهة في موضع مهين ذليل ضعيف جدا للغاية حتى ولو كانوا مجتمعين!! ضعف الطالب من المشركين، والمطلوب من الأصنام، وما أضعفهم!:
وكانوا يزعمون أنهم يعرفون الله حقا، ويتخذون الآلهة قربى إلى الله، فرد الله عليهم بأنهم ما قدروا الله حق قدره، حيث جعلوا هؤلاء الأحجار، والخشب المسندة في صفوف الآلهة، وما أجهلهم حيث وضعوا الخالق الخبير البصير القاهر القادر في صف من يعجز عن دفع ضرر الذباب فكيف يتخذون العاجز المغلوب شبيها له.
وهذا الآتي رد على دعواهم أن الرسول لا يكون بشرا ببيان أن الرسل نوعان:
رسل من الملائكة إلى الأنبياء كجبريل مثلا، ورسل من البشر إلى الناس كالأنبياء والله وحده هو الذي يختار ويصطفى، وهو السميع لكل قول البصير بكل نفس، العليم الذي يعلم السر وأخفى ويعلم أحوال البشر ما مضى منها، وما هو آت فاختياره على أساس سليم ونظر بعيد، اعلموا أنه إليه المرجع والمآب، وإليه وحده ترجع الأمور.
607
مجمل التشريع الإسلامى [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
المفردات:
اجْتَباكُمْ اختاركم مِنْ حَرَجٍ الحرج الضيق والعسر مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ شريعته.
لقد ذكر القرآن الإلهيات مع مناقشة المشركين الحساب، ثم عرج على النبوات واختيار الأنبياء، وختم السورة بالتشريع العام الذي يطلبه.
المعنى:
يا من اتصفتم بالإيمان، بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، اركعوا واسجدوا والمعنى:
صلوا صلاتكم، واعبدوا ربكم بامتثال جميع الأوامر واجتناب جميع النواهي، وافعلوا الخير، من حيث هو خير، لكم وللناس، كصلة الرحم والبر! ومكارم الأخلاق وهذا وصف عام كامل لكل فضيلة حث عليها الدين، وهذا الترتيب في الآية حسن، فالصلاة
608
عبادة، والعبادة خير، ثم علل ذلك الأمر بقوله: لعلكم تفلحون، أى: رجاء الفلاح والفوز،
ولقد صدق رسول الله حيث يقول: «لن يدخل أحد مّنكم الجنّة بعمله».
وجاهدوا في الله أى: في دين الله أو ذات الله أو لأجل الله حق جهاده أى: جهادا حقا خالصا لوجه الله، ومن نجاهد؟ إنا أمرنا بجهاد أنفسنا، وجهاد عدونا، وجهاد قرناء السوء، والجهاد في مجتمعنا لرده إلى الجادة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
«رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» قاله رسول الله
وهو راجع من غزوة وها هو ذا القرآن الكريم يذكر المرغبات في الامتثال، وموجبات هذه الأوامر لنعمل راغبين راجين الثواب من الله.
هو اجتباكم واختاركم حيث كلفكم وأمركم، ولعل في التكليف مشقة قد تكون شديدة، ولكن الله يتبع ذلك بقوله: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، بل كله سهولة،
وقد قال رسول الله: «إنّ الدّين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه الدّين»
ويقول الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «١»
ويقول الرسول. «إنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه».
فلم يحتم عليك استعمال الماء، وقال «فإن لم تجدوا ماء فتيمموا».
وجعل التيمم للمريض، وللمسافر، ولمن فقد الماء وما حتم علينا الصيام في السفر ولا في المرض بل أباحه وحث على الفطر، وما حتم علينا القيام في الصلاة بل جعله فرضا على القادر أما غير القادر فقد أباح له الصلاة وهو جالس أو نائم، وقد أثبتت الأيام أنه ليس في نظم الإسلام مشقة ولا حرج أبدا.
وعلى العموم: ففي الدين رخص كثيرة وقد استعملها الرسول صلّى الله عليه وسلّم تخفيفا على أمته وتحقيقا لقول الله وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل هذا أى: في الكتب السابقة وفي هذا أى: في القرآن، وحيث كانت ملة إبراهيم- عليه السلام- هي كملة المصطفى في الأصول العامة فهذا داع من دواعي الامتثال والذي سماكم المسلمين هو أبوكم إبراهيم أو الله- سبحانه وتعالى- ليظهر التعليل في قوله: ليكون الرسول شهيدا عليكم، وتكونوا شهداء على الناس وأنبيائهم يوم القيامة فقد ورد أن الأنبياء تستشهد
(١) سورة البقرة الآية ٢٨٦.
609
بالمسلمين على أنهم بلغوا رسالتهم لأممهم فيشهد المسلمون بذلك فتقول الأمم: وممن علمتم؟ فيقولون أخبرنا الصادق الأمين صلّى الله عليه وسلم.
وعلى هذا كله فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وهما عنوان العمل في الإسلام، واعتصموا بالله أى: بدينه وقرآنه وأمره، واسألوه العصمة والمغفرة هو مولاكم وسيدكم والمتصرف في أموركم.
فنعم المولى، ونعم النصير....
انظر إلى القرآن أمرنا بأمور ثم رغبنا في الامتثال والعمل ثم أكدها مرة ثانية.
610
Icon