تفسير سورة الحج

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الحج من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة الحج مكية، غير ست آيات وهي :﴿ هذان خصمان ﴾ إلى ﴿ صراط الحميد ﴾

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ هي النفخة الأولى قبل قيام القيامة المسماة بنفخة الفزع، وهي من أشراط الساعة، أو المراد قيام القيامة، فإضافة المصدر إلى فاعله أي : شدة تحريكها للأشياء أو زلزال وأهوال هي فيها فمن إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع في إجرائه مجرى المفعول به، أي : الزموا التقوى، فإنه لا ينفعكم في هذا اليوم العظيم إلا التدرع بلباس التقوى،
﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا ﴾ الزلزلة، ونصب يوم بقوله :﴿ تَذْهَلُ ﴾ الذهول الذهاب عن الأمر مع دهشة، ﴿ كُلُّ مُرْضِعَةٍ ﴾ : في حال إرضاعها، ﴿ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ﴾ : لشدة ذلك اليوم والذهول، والوضع لبيان واقع إن كان المراد حين النفخة الأولى، وإلا فتصوير لهولها، ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ﴾ : كأنهم سكارى، ﴿ وَمَا هُم بِسُكَارَى ﴾ : في الواقع، أو كأنهم سكارى من الخمر، وما هم بسكارى منه، ﴿ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ١ فأدهش عقولهم أو فهم سكارى من الخوف،
١ وروي أن الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق فقرأهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فلم تر باكيا أكثر من تلك فلما أصبحوا لم يضربوا الخيام وقت النزول، ولم يوقدوا نارا وهم بين حزين وباك ومفكر –رضي الله تعالى عنهم أجمعين-، ولما علم أن الناس قسمان من قوله: ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم﴾ فقسم هم المتقون ذكر قسيمهم فقال ﴿ومن الناس﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ ﴾ : في جداله، ﴿ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ﴾ عار عن الخير مطلقا جادل قريش، وقالوا : محال إعادة الخلق بعدما صاروا ترابا، وقد نقل أن واحدا منهم قال : أخبرنا عن ربك من ذهب أو فضة أو نحاس فصعقته صاعقة فاختطفته،
﴿ كُتِبَ ﴾ : قضي وقُدّر، ﴿ عَلَيْهِ ﴾ على الشيطان، ﴿ أَنَّهُ ﴾ أي الشيطان، ﴿ مَن تَوَلاَّهُ ﴾ : تبعه، ﴿ فَأَنَّهُ١ : الشيطان، ﴿ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ هذا من باب التهكم،
١ في الوجيز الضمائر الثلاثة أيضا لمن يعني هذا المجادل لكثرة جداله الباطل صار إمام لمن يتولاه، والظاهر أن جملة: ﴿أنه من تولاه﴾ مفعول ما لم يسم فاعله، لكُتِب إسنادا لفظيا، أي: كتب عليه هذا الكلام ولا يذهب عن الخبير أن ما ذكرنا في إعراب ﴿أنه من تولاه﴾ معناها واضح من غير إشكال وإغلاق، ولما حذر الناس من ذلك اليوم وأخبر أن فيهم من يكذب وعرف مآله أقبل إليهم ثانيا –رحمة عليهم مستدلا لهم على وقوعه بدليلين: نفسي وآفاقي فقال: ﴿يا أيها الناس﴾ الآية /١٢ وجيز. [دليل آفاقي تعني دليل كوني قال تعالى: ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق﴾ (فصلت: ٥٣)]..
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم ﴾ أي : فانظروا في بدء خلقكم، لتعلموا أن من قدر على هذا قدر على ذلك ﴿ مِّن تُرَابٍ١ : خلق آدم منه، ﴿ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ : ذريته من منيّ ﴿ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ﴾ فإن النطفة تصير دما غليظا، ﴿ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ ﴾ : قطعة من لحم قدر ما يمضغ، ﴿ مُّخَلَّقَةٍ ﴾ : تامة، ﴿ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ﴾ : ساقطة، أو مسواة ومعيوبة، ﴿ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾ : كمال قدرتنا على البدائع والحشو فرد منها، ﴿ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء ﴾ أن نقره فلا نسقطه، ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ هو وقت الوضع، ﴿ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ٢ طِفْلا ﴾ نصب على الحال والمراد منه الجنس، ﴿ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ﴾ كمال قوتكم المعطوف محذوف كما تقول : جاء زيد ثم عمر وثم وثم أي : ثم نريبكم لتبلغوا أو تقديره : لنبين لكم ثم لتبلغوا فكأن الأمر التدريجي من النطفة والعلقة والمضغة ليس إلا للتبيين، وأما تمكنه في الرحم، ثم إخراجه لمصلحتين التبيين والإيصال إلى كمال العقل، أو تقديره ثم فعلنا ما فعلنا لتبلغوا، ﴿ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى ﴾ : قبل الهرم، ﴿ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ﴾ : الهرم والخرف، ﴿ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾، كحال طفولية فسبحان من يعيد كما بدأ، ﴿ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً ﴾ : ميتة يابسة شرع في دليل٣ آخر للبعث، ﴿ فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ ﴾ : تحركت بالنبات، ﴿ وَرَبَتْ ﴾ : انتفخت، ﴿ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ ﴾ : صنف، ﴿ بَهِيجٍ ﴾ : حسن رائق،
١ وهذا أول تطور الإنسان في أطوار سبعة، وهي التراب والنطفة والعلقة والمضغة والإخراج طفلا وبلوغ الأشد والتوفي أو الرد إلى أرذل العمر /١٢ فتح..
٢ وأحد يراد به جميع كقوله تعالى: ﴿هؤلاء ضيفي فلا تفضحون﴾ (الحجر: ٦٨) أو قوله تعالى: ﴿أنا رسول رب العالمين﴾ (الشعراء: ١٦)..
٣ أفاقي للبعث ولما كان هذا مشاهدا للأبصار بخلاف الدليل الأول فإن بعض مراتب الخلقة فيه غير مرئي أحال الثاني على الرؤية /١٢ وجيز..
﴿ ذَلِكَ ﴾ : المذكور١، ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ﴾، بسبب أنه الثابت الموجود فإنه هو الموجد قيل تقديره : ذلك هاد بأنه هو الحق، ﴿ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى ﴾ : لولا قدرته على إحياء الموتى، كيف يحيي النطفة والأرض، ﴿ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ : فيقدر على مثل ذلك،
١ من خلق بني آدم وإحياء الأرض / ١٢..
﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ﴾ وإلا فيكون ذلك سيما إخراج الطفل، والتبلغ عبثا لعبا لا طائل تحته – تعالى الله عن ذلك
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ ﴾ الأولى بيان حال المقلدين، ولهذا قال :﴿ ويتبع كل شيطان مريد ﴾، وهذه الآية حال المقلدين، ولذلك يقول ليضل الناس، ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴾ : ليس له علم فطري ولا ما يستند إلى دليل عملي، ولا إلى وحي،
﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ ﴾ كناية عن الكبر أو عن الإعراض حال من فاعل يجادل، ﴿ لِيُضِلَّ ﴾ : الناس، ﴿ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ اللام لام العاقبة، ﴿ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾ : مذلة كقتل وسبي، ﴿ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ : المحرق،
﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ﴾ التفات أو تقديره يقال له ذلك، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ بل عادل ومن العدل تعذيب المسيء وإثابة المحسن، والظالم قد يترك عقاب المسيء للعصبية كما يترك إثابة المحسن قيل : لما أثبت له خزي الدنيا، وعذاب الحريق صار مظنة لأن يتوهم أنه ظلم عظيم، فعكس الأمر، وقال : لست بظلام كما زعمت وقد مر في سورتي آل عمران والأنفال.
﴿ وَمِنَ١ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ﴾ : طرف من الدين لا على وسط منه كمن هو على طرف من العسكر إن أحس بظفر قرّ وإلا فرّ، ﴿ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ﴾ : ما يحبه، ﴿ اطْمَأَنَّ بِهِ ﴾ : فاستقر على دينه، ﴿ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ﴾ : ما يكره، ﴿ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ﴾ : رجع عن دينه، ﴿ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ نزلت٢ في ناس من الأعراب يسلمون فإن وجدوا عام غيث ونتجت فرسهم وما لهم وولدت امرأتهم رضوا به وإلا ارتدوا،
١ ولما ظهر حال الكافر وحال المؤمن المخلصين في الكفر والإيمان أعقبه بحال المذبذب فقال ﴿ومن الناس﴾ الآية /١٢ وجيز..
٢ كما في البخاري عن ابن عباس –رضي الله عنه- /١٢..
﴿ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنفَعُهُ ﴾ : جماد لا يقدر على شيء، ﴿ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ﴾ : عن المقصد،
﴿ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ١ : النفع والضر المنفيان قدرته عليهما والمثبت كونه بسبب من الضر المحقق، وبمعزلة عن النفع المترتب٢ ﴿ لَبِئْسَ الْمَوْلَى ﴾ : الناصر، ﴿ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ﴾ : الصاحب، أعلم أن يدعو الثاني إن كان تأكيدا ليدعوا الأول، فالموصول بصلته مبتدأ وفعل، لذم خبره، والجملة مستأنفة إخبار من الله، وإن كان بمعنى يقول، فالجملة مقول له، أي : يقول الكافر حين يرى ضر عبادته في الآخرة لمن ضره أقرب إلخ، وقيل : اللام في لمن زائدة وقرأ ابن مسعود بلا لام.
١ الذي يتوقع بعبادته وهو الشفاعة، والتوسل بها إلى الله تعالى قاله القاضي /١٢ منه..
٢ قيل: المراد من النفي الأول نفي الضر والنفي الأول نفي الضر والنفع من الأصنام، ولهذا جاء بمن التي هي لذوي العقول فمنهم نفع دنيوي لعابديهم لكن ضرهم أعظم وأقرب / ١٢ وجيز..
﴿ إِنَّ١ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾، ولما ذكر إضلال قوم وإهداء آخرين قال ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ : لا يُسأل عما يفعل،
١ ولما ذكر حال المذبذب وبين حال آلهتهم أعقبه بان الله هو القادر على كل شيء يثيب المخلصين في الإيمان فقال: ﴿إن الله﴾. الآية /١٢ وجيز..
﴿ مَن١ كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ ﴾، أي : نبيه، ﴿ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ﴾ كما قال المشركون : ننتظر عليه الدوائر، ﴿ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ﴾ : يمد حبلا إلى سماء بيته، أي : سقفه، ﴿ ثُمَّ لِيَقْطَعْ ﴾ : يختنق٢، ﴿ فَلْيَنظُرْ ﴾ : يتأمل، ﴿ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ﴾، سماه كيدا لأنه منتهى ما يصل إليه يده، ﴿ مَا يَغِيظُ ﴾ : من نصر الله أو غيظه، وحاصله أن الله ناصر رسوله فمن يتوقع من غيظه خلاف ذلك فليجتهد في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل الممتلئ غيظا، يعني ليس في يده إلا ما لا يذهب غيظه، وعن بعض معناه فليتوسل إلى بلوغ السماء، فإن النصر من السماء ثم ليقطع ذلك عنه، قيل : المراد بالنصر الرزق وحينئذ الضمير في ينصره لمن،
١ ولما ذم حال من لا يطمئن قلبه في بعض الأحوال، وفطن في شأن نفسه أنه ربما لا يكون الرب ناصره لشك في دينه كما نقل أن بعض الأعراب قالوا: لو لم يكن الدين منصورا ينقطع ما بينا وبين حلفائنا من يهود فأنزل الله تعالى: ﴿من كان يظن أن لم ينصره الله﴾ الآية / ١٢ وجيز..
٢ ليختنق سمي الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه /١٢..
﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ : مثل ذلك الإنزال، ﴿ أَنزَلْنَاهُ ﴾ : القرآن، ﴿ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ ﴾ أي : ولأن الله يهدي به من يريد هدايته أنزلناه كذلك، فالجملة من التعليل والمعلل المحذوف عطف على ﴿ كذلك أنزلناه ﴾ ألخ،
﴿ إِنَّ١ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ﴾ : يقضي بينهم ويجازي كلا ما يليق به، ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ إن دخل٢ على الخبر أيضا لمزيد التأكيد، ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ : فيعرف ما يليق بهم،
١ ولما كان ذلك موجبا للسؤال عن حال الفريقين المهدي والضلال أجاب عن ذلك فقال: ﴿إن الذين آمنوا﴾ /١٢ وجيز..
٢ وحسن دخلوها لطول الفصل، قال أبو البقاء: خبر إن الأولى محذوف مثل يقترفون والمذكور بعده كالتفسير له/ ١٢..
﴿ أَلَمْ١ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ ﴾ : ينقاد، ﴿ لَهُ مَن٢ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ٣ وَالْقَمَرُ٤ وَالنُّجُومُ٥ وَالْجِبَالُ٦ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ٧، وقد٨ ورد :﴿ الشمس والقمر حين يبغيان يقعان لله ساجدين ثم لا يطلعان حتى يؤذن لهما ﴾، وفي الحديث٩ ( لا تتخذوا ظهور الدواب منابر فرب مركوب خير أو أكثر ذكرا لله من راكبه )، وبالجملة لا يستحيل سُنّي مسلم أن يكون للجمادات خشوع وتسبيح، ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ﴾ : المسلمون، ﴿ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ﴾ : هم الكفار فإنهم غير منقادين لله فهو بحسب المعنى استثناء من ﴿ من في الأرض ﴾، ومن يُجوّز استعمال لفظ واحد في حالة واحدة على معنيين مختلفين فلا إشكال عنده فإنه يحمل السجود على معان، قيل : وكثير من الناس مبتدأ خبره مقدر، أي : مثاب بقرينة مقابلة، وقيل : حق عليه العذاب خبر لهما١٠ أي : وكثير حق عليه العذاب، ﴿ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ﴾
١ ولما ذكر أنه هو يقضي بين الخلائق، أعقبه بما هو دال على أن الجميع في خضوع، وانقياد سوى بعض من الإنس فقال: ﴿ألم تر أن الله﴾ الآية /١٢ وجيز..
٢ ولا يبعد أن يراد بمن في السموات والأرض كل شيء فيهما، وجاء بمن لتغليب العقلاء /١٢..
٣ عبدتها حمير /١٢..
٤ عبدته كنانة/ ١٢..
٥ تميم عبد الديوان، وقريش ولخم عبد الشعري وطيء عبد الثريا /١٢..
٦ الأصنام المنحوتة بعضها من الجبال، وبعضها من الأشجار / ١٢وجيز..
٧ البقر معبود اليهود /١٢..
٨ وفي الصحيحين بغير هذا اللفظ /١٢ وجيز..
٩ في مسند الإمام أحمد /١٢ وجيز. [وفي إسناده ابن لهيعة وفيه كلام]..
١٠ فيكون وكثير الثاني وتكرير، الأول مبالغة في تكثير المحقوقين بالعذاب /١٢..
﴿ هَذَانِ١ خَصْمَانِ ﴾ : فوجان مختصمان، ﴿ اخْتَصَمُوا ﴾ الجمع نظرا إلى المعنى، ﴿ فِي رَبِّهِمْ ﴾ : في أمره ودينه، نزلت٢ في على وحمزة وعبيدة بن الحارث بارزوا مع عتبة وشيبة والوليد يوم بدر، قال علي : أنا أول من يجثوا بين يدي الرحمن للخصومة في القيامة أو في المسلمين واليهود، قالت اليهود : نحن أفضل، كتابنا ونبينا أسبق، فقال المسلمون : نحن أحق بالله آمنا بجميع كتبه ورسله وأنتم تعرفون كتابنا ورسولنا وكفرتم حسدا، أو المراد المؤمنون والكافرون كلهم من أي ملة كانوا، ﴿ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ ﴾ : كما يقطع الثياب بقدر القامة فيخيط، وهذا بيان فصل خصومة الكافر، ﴿ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴾ : الماء الحار الذي لو سقطت نقطة على جبال الدنيا لأذابتها خبر ثان، أو حال من لهم
١ ولما ذكر الفريقين من أهل السعادة وأهل الشقاوة وذكر ما درا بينهم من الخصومة في الدين فقال: ﴿هذان خصمان﴾ الآية /١٢ وجيز..
٢ كما في البخاري /١٢ وجيز..
﴿ يُصْهَرُ ﴾ يذاب، ﴿ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ ﴾ : الأمعاء، ﴿ وَالْجُلُودُ ﴾ الجملة حال،
﴿ وَلَهُم مَّقَامِعُ ﴾ : سياط، ﴿ مِنْ حَدِيدٍ ﴾ لو ضرب١ جبل بمقمع منها لتفتت،
١ كما روي في مسند الإمام أحمد عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم/ ١٢ وجيز. [وفي إسناده ابن لهيعة وفيه كلام]..
﴿ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا ﴾ : من النار، ﴿ مِنْ غَمٍّ ﴾ بدل من منها، ﴿ أُعِيدُوا فِيهَا ﴾ : حين خرجوا منها من غير مهلة وتراخ، وعن الحسن أن أيديهم وأرجلهم موثقة لكن يدفعهم لهبها فتردهم مقامعها، ﴿ وَذُوقُوا ﴾ أي : قيل لهم ذوقوا، ﴿ عَذَابَ الْحَرِيق ﴾ فيجمع لهم بين التعذيب الجسماني والإهانة.
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾، هذا بيان فصل خصومة المؤمن، ﴿ يُحَلَّوْنَ ﴾، من حليته إذا جعلت له حليا، ﴿ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ ﴾، جمع سوار، ﴿ مِن ذَهَبٍ ﴾، بيان لأساور، ﴿ وَلُؤْلُؤًا ﴾ بالجر والنصب عطف على لفظ أساور ومحلها أو تقديره ويؤتون لؤلؤا، ﴿ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ١ : في مقابلة ثياب أهل النار،
١ وفي الصحيحين وغيرهما عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) /١٢ فتح..
﴿ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ : هدوا إلى مكان لا يسمعون فيه إلا الكلام الطيب وهو سلام الملائكة وتهنئتهم في مقابلة وذوقوا عذاب الحريق، ﴿ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴾ : المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة، وعن بعض الكلام الطيب القرآن، أو كلمة التوحيد في الدنيا، أو قولهم في الجنة : الحمد لله الذي صدقنا وعده، وصراط الحميد : الإسلام،
﴿ إِنَّ١ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ : في ماضي الزمان، ﴿ و ﴾، ﴿ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ : يوما فيوما، ﴿ وَالْمَسْجِدِ٢ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ ﴾ : لمناسكهم كلهم، ﴿ سَوَاء٣ الْعَاكِفُ ﴾ : المقيم، ﴿ فِيهِ وَالْبَادِ ﴾ : الطارئ، من قرأ برفع سواء فهو خبر مقدم، والجملة ثاني مفعولي جعلناه إن جعلته للناس حالا وإن جعلت ثاني مفعوليه فهي حال، ومن قرأ بنصبه فثاني مفعوليه أو حال بمعنى مستويا والعاكف مرتفع به، ﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ﴾ : ميل عن القصد ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول، والباء للحال أو فيه تضمين معنى الهم، وقيل الباء زائدة، ﴿ بِظُلْمٍ ﴾ : بعمد حال أو بدل فالمراد بالإلحاد كل كبيرة أو الشرك، وعند بعض٤ أن من عزم سيئة بمكة أذاقه الله العذاب الأليم، وإن لم يفعلها وهذا من خصوصيات مكة، ﴿ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ٥ أَلِيمٍ ﴾، جواب لمن وخبر إن مقدر أي : نذيقه من عذاب أليم وحذف لدلالة جواب الشرط عليه.
١ ولما بين للفريقين أكد ذكر الفريق الأول لبيان ما يدل على استمرار كفرهم، ويؤكد بيان جزائهم فقال: ﴿إن الذين كفروا﴾ الآية /١٢ وجيز..
٢ عطف على لفظ الله أو على سبيل الله /١٢ منه..
٣ قال القرطبي: وأجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام نفسه واختلفوا في مكة، فذهب مجاهد ومالك إلى أن دور مكة ومنازلها يستوي فيها المقيم والطارئ، وذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وجماعة على أن للقادم أن ينزل حيث وجد وعلى رب المنزل أن يئويه شاء أم أبى، وذهب الجمهور إلى أن دور مكة ومنازلها ليس كالمسجد الحرام ولأهلها منع الطارئ من النزول فيها، والحاصل أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين: الأول ما في هذه الآية هل المراد بالمسجد الحرام نفسه أو جميع الحرام أو مكة على الخصوص.
والثاني: هل كان فتح مكة صلحا أو عنوة، وعلى فرض أن فتحها كان عنوة، وهل أقرها النبي –صلى الله عليه وسلم- في أيدي أهلها على الخصوص أو جعلها لمن نزل بها على العموم، وقد أوضح الشوكاني هذا في شرحه على المنتقي بما لا يحتاج الناظر فيه على زيادة /١٢ فتح..

٤ منهم ابن مسعود وقيل الإسناد على شرط البخاري ووقفه عليه أشبه من رفعه، وفي الفتح قال ابن كثير: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري ووقفه أشبه من رفعه. انتهى، وقال بعض: الإلحاد فيه لا والله، وبلى والله /١٢..
٥ وقد كان دور مكة في الصدر الأول بلا باب لينزل فيه الحاج رضي رب البيت أم لم يرض حتى كثرت السرقة فاتخذ شخص بابا لداره فأنكر عليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقال: أتغلق على وجه الحاج، وقد قال الله تعالى سواء العاكف فيه والباد، فقال: أردت حفظ متاعهم فاتخذ الناس بعده الأبواب، وهذا مذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وجماعة من السلف أنه لا يجوز لرب بيوت مكة منع الحاج عن النزول فيها، ولما ذكر صدهم عن المسجد الحرام وعظمه عقبه بحكاية بانيه الدالة على أنه بناه لكل موحد أراد زيارة فهذا البيت ليس للمشركين فكيف لهم صد الناس عن دخول بيتهم فقال: (وإذا بوأنا). الآية /١٢ وجيز. [وكان سهيل بن عمرو هو أول من بوب داره كما قال ابن كثير (٣/٢١٥)]..
﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا١ لِإِبْرَاهِيمَ ﴾ : واذكر زمان جعلنا له، ﴿ مَكَانَ الْبَيْتِ ﴾ : مباءة مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة وذكر مكان البيت لأن البيت ما كان حينئذ، ﴿ أَن لّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا ﴾ أن مفسرة لبوأنا من حيث إنه تضمن معنى تعبدنا، أي : ابنه على اسمي وحدي، ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ﴾ : من الشرك، ﴿ لِلطَّائِفِينَ ﴾ : حوله، ﴿ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾، عبر عن الصلاة بأركانها أو المراد بالقائمين : المعتكفون لمشاهدة الكعبة، وبالركع السجود المصلون،
١ عيّنّا /١٢..
﴿ وَأَذِّن ﴾ : ناد، ﴿ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾ : بدعوته والأمر به، نقل١ أنه قام على مقامه أو على الحجر، أو على الصفا أو على أبي قبيس، وقال : يا أيها الناس إن ربكم اتخذ بيتا فحجوه، فأجابه كل شيء من شجر وحجر ومن كتب الله له الحج إلى يوم القيامة، وهم في أصلاب آبائهم : لبيك اللهم لبيك، ﴿ يَأْتُوكَ رِجَالا ﴾ : مشاة جمع راجل، ﴿ وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ﴾، أي : ركبانا حال معطوف على حال، ﴿ يَأْتِينَ ﴾، صفة لضامر، وجمعه باعتبار معناه، ﴿ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ : طريق بعيد،
١ هذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف أورده ابن زيد وابن أبي حاتم بطوله /١٢ منه..
﴿ لِيَشْهَدُوا ﴾ : يحضروا، ﴿ مَنَافِعَ ﴾ : دينية ودنيوية، ﴿ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ﴾ : عشر ذي الحجة، أو يوم النحر وثلاثة بعده ويعضد الثاني قوله :﴿ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ﴾، فإن المراد التسمية عند ذبح الهدايا والضحايا، ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا ﴾، الأمر للاستحباب أو للإباحة، فالجاهلية يحرمون أكلها، وعند الأكثرين لا يجوز الكل من الدم الواجب، ﴿ وَأَطْعِمُوا١ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ : الشديد الفقر المتعفف أو الزمن أو الضرير،
١ والإطعام واجب وظاهر القرآن وجوب الكل أيضا /١٢ وجيز..
﴿ ثُمَّ لْيَقْضُوا ﴾ : يزيلوا ﴿ تَفَثَهُمْ ﴾، وسخهم بقص الشوارب والأظفار ولبس الثياب وغيرها أو التفث المناسك، ﴿ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ﴾ : أعمال حجة من وفى بنذره إذا خرج مما وجب عليه مطلقا أو ما نذر وأوجب على نفسه في الحج، ﴿ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ : طواف الإفاضة والعتيق١ القديم أو أعتق من تسلط الجبابرة عليه،
١ قال تعالى: ﴿إن أول بيت وضع للناس﴾ قيل: العتيق المحرر لم يملك قط موضعه أو معتق من طوفان أو الجيد من قولهم عتاق الخيل، وعتاق الطير، وقيل: المراد بيت ما زاره أحد إلا هو عتيق من النار /١٢ وجيز..
﴿ ذَلِكَ ﴾، أي : الأمر ذلك وهو وأمثاله يطلق للفصل بين كلامين، ﴿ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ﴾ : بترك ما نهى الله أو بتعظيم بيته، والشهر الحرام، والبلد الحرام، والإحرام، ﴿ فَهُوَ ﴾ : التعظيم، ﴿ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ﴾ : ثوابا، ﴿ وَأُحِلَّتْ١ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى ﴾ : آية تحريمه، ﴿ عَلَيْكُمْ ﴾، هي ﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾ الآية في المائدة لا البحائر والسوائب، ﴿ فَاجْتَنِبُوا٢ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ ﴾ : الذي هو الأوثان بيان للرجس، وتمييز له كعندي عشرون من الدراهم، ﴿ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ٣ : الكذب والبهتان ومنه شهادة الزور،
١ ولما ذكر الهدايا والضحايا وذكر الحرام منها الذي أحل قريش وبين الحلال الذي أحل الله فقال: وأحلت الآية /١٢ وجيز..
٢ ولما حث على تعظيم حرمات الله وقول الزور أعظم الحرمات، أتبعه الأمر باجتناب الأوثان، فإن الشرك أقبح كل زور ﴿فاجتنبوا الرجس﴾ الآية /١٢ وجيز..
٣ كأنه قال: اجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله / ١٢ وجيز..
﴿ حُنَفَاء لِلَّهِ ﴾ : مخلصين له ﴿ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ﴾، حالان من فاعل اجتنبوا، ﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرّ ﴾ : سقط، ﴿ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ﴾ : تسلبه، ﴿ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي ﴾ : تسقط، ﴿ بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ : بعيد يعني : من أشرك فقد أهلك نفسه غاية الإهلاك فهو كجيفة اختطفته الطير فتفرق قطعا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة، و أو للتخيير أو للتنويع فإن من المشركين من لا خلاص له أصلا، ومنهم من يمكن خلاصه بالإيمان لكن على بعد١،
١ فإنه لا يؤمن من آلاف ألف إلا واحد /١٢ وجيز..
﴿ ذَلِكَ ﴾ : الأمر ذلك، ﴿ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ١ اللَّهِ ﴾ البدن : والهدي وتعظيمها استسمانها أو أعمال الحج، ﴿ فَإِنَّهَا ﴾ : تعظيمها، ﴿ مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ أي : ناشئ من تقوى قلوبهم أو من أعمال ذوي تقوى القلوب،
١ وعن ابن عباس – رضي الله عنه- في الآيات قال الشعائر: البدن والاستسمان والاستحسان والاستعظام، وينبغي للإنسان أن يترك المشاحة في ثمنها، روي عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة وأن عمر أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار / ١٢ فتح..
﴿ لَكُمْ فِيهَا ﴾ : في الشعائر وهي البدن، ﴿ مَنَافِعُ ﴾ : درها وصوفها وظهرها، ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ : وقت١ النحر وإن سماها وجعلها هدايا أو الأجل المسمى تسمينها٢ وجعلها هديا فما لم تسم بدنا ينتفع به، ﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَا ﴾ : منحرها، ﴿ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق ﴾، أي عنده يعني الحرم مطلقا.
١ هكذا قاله السلف /١٢ وجيز..
٢ قاله ابن عباس /١٢..
﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ﴾، لكل أهل دين، ﴿ جَعَلْنَا مَنسَكًا ﴾، بفتح السين مصدر، أي : ذبح المناسك وبكسرها موضع نسك يعني : إراقة الدماء مشروعة في جميع الملل، وعن بعض لم يجعل الله لأمه منسكا غير مكة، ﴿ لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ﴾ أي : المقصود من المناسك خلوص العبادة له، ﴿ فَإِلَهُكُمْ ﴾ : أنتم ومن قبلكم، ﴿ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ﴾ : انقادوا له لا ليغيره، ﴿ وَبَشِّرِ١ الْمُخْبِتِينَ ﴾ الخاشعين الراضين بقضائه،
١ وناسب من اتصف بالإخبات بتبشيره هنا لأن أفعال الحج من نوع الثياب، وليس مثل الكفن وكشف الرأس والتردد على المواضع الغبرة والتلبس بالمشاق التي لا يعلم حكمتها إلا الله مؤذنة بالتواضع التام والاستسلام /١٢..
﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ١ : في أوقاتها، ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ : يتجدد إنفاقهم في جهات الخبر،
١ أمره أولا بأن يبشر المتضرعين المتواضعين، وثانيا بأن يبشر من أحسن إلى غيره، فإن في أفعال الحج النفع واللازم والمتعدي، ولما ذكر أعمال الحج وكان المشركون يؤذون المؤمنين سيما في أوقات الحج بشرهم بدفع الكافرين عنهم فقال: ﴿إن الله يدافع﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَالْبُدْنَ ﴾ : جمع بدنة وهي الإبل أو البقر، وانتصابه على شريطة التفسير، ﴿ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ : أعلام دينه، ﴿ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ﴾ : منافع الدارين، ﴿ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ﴾ : عند نحرها يقول : بسم الله والله أكبر لا إله إلا الله اللهم منك ولك، ﴿ صَوَافَّ ﴾ : قائمات على ثلاثة قوائم١ معقولة يدها اليسرى أو رجلها اليسرى، ﴿ فَإِذَا وَجَبَتْ ﴾ : سقطت، ﴿ جُنُوبُهَا ﴾ : على الأرض أي : ماتت، ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ ﴾ : السائل من قنع قنوعا إذا سأل، أو فقيرا لا يسأل من القناعة، ﴿ وَالْمُعْتَرَّ ﴾ : الذي يتعرض للمسألة ولا يسأل أو السائل، ﴿ كَذَلِكَ ﴾ : مثل ما وصفنا من نحرها قياما، ﴿ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ ﴾ : مع عظمها، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ : لكي تشكروا إنعامنا،
١ نقل عن ابن عباس –رضي الله عنه..
﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ ﴾ : لن يصل إليه، ﴿ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾ أي : النية والإخلاص فإنها هي المتقبل منكم، ويجزي عليها نزلت١ في أن الكفرة إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من اللحوم ونضحوا عليها من دمائها، وعن بعض كانوا ينضحون بلحومها ودمائها، فقال بعض المسلمين : نحن أحق أن نضح البيت، ﴿ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ ﴾ : كررها تذكيرا لنعمة التسخير وتعليلا له بقوله ﴿ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ ﴾ : تعظموه ولا تثبتوا لغيره الكبرياء، ﴿ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ إلى كيفية التقرب إلى الله بها، ولتضمن تكبروا معنى تشكروا عدّاه بعلى، ﴿ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ : الذين أحسنوا أعمالهم،
١ وروي عن ابن عباس –رضي الله عنه- /١٢ منه..
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ ﴾ : يبالغ في مدافعة غائلة المشركين، ﴿ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ ﴾ : في أمانة الله، ﴿ كَفُورٍ ﴾ لنعمته، ومن تقرب بذبيحة إلى غير الله فهو خوان كفور.
﴿ أُذِنَ ﴾ : رخص في القتال، ﴿ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ﴾ : يريدون القتال والمسلمون كانوا يتظلمون إلى رسول الله من أذى المشركين ويطلبون القتال قبل الأمر به قيل سماهم مقاتلين باعتبار المآل، ومن قرأ بصيغة المجهول فمعناه : يقاتلهم المشركون، ﴿ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ﴾ : بسبب أنهم مظلومون، هي أول آية نزلت١ في الجهاد حين هاجروا من مكة واستدل بهذه الآية على أن السورة مدنية، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ عدة بالنصر وقيل معناه : إنه لقادر على نصرهم من غير قتال لكن صلاحهم في القتال،
١ حين هاجروا إلى المدينة كذا ذكره المفسرون، وهو المنقول عن ابن عباس –رضي الله عنه- وعروة ومجاهد وقتادة –رضي الله عنه- وغيرهم، وروي الترمذي والنسائي عن سفيان الثوري وفيه إشكال لما قال المفسرون: (إن سورة الحج مكية إلا ست آيات وهن من قوله: ﴿هذان خصمان﴾ إلى ﴿صراط الحميد﴾، قال الشيخ عماد الدين ابن كثير: استدل بعضهم بهذه الآية على أن السورة مدنية، وهو قول المجاهد والضحاك وقتادة وغير واحد /١٢ وجيز. [حديث سفيان الثوري صحح إسناده الشيخ الألباني في (صحيح الترمذي) (٢٥٣٥)]..
﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا ﴾، بدل من للذين، أو صفة، ﴿ مِن دِيَارِهِمْ ﴾ : مكة، ﴿ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾، موجب استحقوا الإخراج به، ﴿ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ : سوى التوحيد الذي هو موجب للتمكين والتعظيم فالاستثناء بدل من حق، وهذا من باب.
لا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وقيل منقطع، ﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ﴾ : بالجهاد وإقامة الحدود، ﴿ لَّهُدِّمَتْ ﴾ : خربت، ﴿ صَوَامِعُ ﴾ : الرهبان، ﴿ وَبِيَعٌ ﴾ : كنائس النصارى، ﴿ وَصَلَوَاتٌ١ : كنائس اليهود سميت بها لأنهم لا يصلون إلا فيها، ﴿ وَمَسَاجِدُ ﴾ : للمسلمين، ﴿ يُذْكَرُ فِيهَا ﴾، صفة لمساجد خصت بها تفضيلا، وقيل : صفة للأربع، ﴿ اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾، يعني : لولاه لهدم في زمن موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام مواضع عباداتهم باستيلاء الكفرة، ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ﴾ : من ينصر دينه ويعلي كلمته، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ ﴾ : على خلقه، ﴿ عَزِيزٌ ﴾ : لا يغلبه غالب،
١ حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فالصلوات لا تهدم وإنما أراد بيوت الصلوات..
﴿ الَّذِينَ ﴾، بدل أو صفة لمن ينصره، ﴿ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ ﴾ : نصرناهم فيتمكنوا من البلدان، ﴿ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ﴾ : مرجع الأمور إلى حكمه وفيه تأكيد لما وعد من النصرة، قيل معناه : تصير الأمور إليه بلا منازع فيبطل كل ملك سوى ملكه، وقيل له : عاقبة الأمور فيجزيهم،
﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ ﴾ : رسلهم فأنت لست بأوحدي في التكذيب فلا تغتم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ ﴾ : رسلهم فأنت لست بأوحدي في التكذيب فلا تغتم.
﴿ وَكُذِّبَ مُوسَى ﴾ : مع ظهور معجزاته كذبه القبط١ لا قومه بنو إسرائيل، ﴿ فَأَمْلَيْتُ ﴾ : أمهلت، ﴿ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ : إنكاري عليهم بتبديل منحتهم محنة وعمارتهم خرابا.
١ القبط بالكسر: أهل مصر /١٢..
﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ﴾ أي : أهلكنا كثيرا من القرى بإهلاك أهلها كأين منصوب بشريطة التفسير أو مرفوع، وأهلكناها خبره، والجملة بدل من فكيف كان نكير ولذلك جاء بالفاء، ﴿ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ : أهلها جملة حالية، ﴿ فَهِيَ خَاوِيَةٌ ﴾ : ساقطة، ﴿ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ على سقوفها أي : خرت سقوفها ثم سقطت حيطانها فوق السقوف، أو خالية مع سلامة عروشها، والجملة عطف على أهلكناها، ﴿ وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ ﴾ أي : وكم من بئر عامرة متروكة الاستقاء منها أهلكنا ملاكها، ﴿ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾ : رفيع أو مجصّص محكم أهلكنا أهلها وأخليناه عن ساكنيه،
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ ﴾، حث على السفر والتفكير في نقم ما حل بالأمم الماضية المكذبة، ﴿ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ﴾ : ما يجب أن يعقل كالأيمان بالرسل، ﴿ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ : ما يجب أن يسمع كالتذكير، ﴿ فَإِنَّهَا ﴾ : ضمير القصة، ﴿ لا تَعْمَى الأَبْصَارُ ﴾ أي : ليس الخلل بمشاعرهم، ﴿ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ أي : إنما العمى بقلوبهم أو لا يعتد بعمى الأبصار، فكأنه ليس بعمى، ولكن العمى عمى القلوب، وذكر الصدور للتأكيد، ونفي التجوز كأنه قال : ما نفيت العمى عن البصر وأثبت للقلب سهوا، وفلتة، بل تعمدت به إياه تعمدا،
﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ﴾ : سخرية وتكذيبا لك، ﴿ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ : ينجزه ولو بعد حين كان كما نجوا يوم بدر، ﴿ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ أي : مقدار ألف سنة عند عباده كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حلمه، لأنه قادر لا يفوته شيء بالتأخير أو كيف يستعجلون بالعذاب، وإن يوما من أيام الآخرة التي هي أيام عذابهم كألف سنة من أيام الدنيا، أو إن يوما من الأيام الستة التي خلق الله الخلق فيها كألف سنة فالمدد الطوال عندكم قصار عنده، أو كيف يستعجلون، وإن يوما من العذاب بشدته كألف سنة !
﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا ﴾ : أمهلتهم كما أمهلتكم وإعرابه مثل ما مر، ﴿ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ مثلكم، ﴿ ثُمَّ أَخَذْتُهَا ﴾ : بالعذاب، ﴿ وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ : فأجازيهم.
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ١ مُّبِينٌ ﴾ : ليس إلى من حسابكم شيء، أمركم على الله إن شاء عجل العذاب، وإن شاء أخر تاب عليكم وإن شاء أضل،
١ منذر من عذاب الله لا مرسل بالعذاب فلا معنى للاستعجال مني فإن استعجلتم فاستعجلوا من المرسَل لا من الرسول، ذكر النذارة دون البشارة، والتقسيم بعدها يقتضيهما، لأن الحديث مسوق للمشركين، وإنما ذكر المؤمنين ليغبط المشركين وليحرضهم على الميل إلى نيل تلك الدرجة الرفيعة /١٢ وجيز..
﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ ﴾ : عما فرط عنهم، ﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ : هو الجنة،
﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْا ﴾ : بالرد والإبطال، ﴿ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ﴾ : مسابقين بزعمهم ظانين أنهم يسبقوننا فلا تقدر عليهم، أو سابقين لمن يسعى في تحقيق آياتنا وإثباتها،
﴿ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ١ الرسول من يأتيه الملك بالوحي والنبي يطلق أيضا على من يأتيه بإلهام أو منام قيل هو من له شريعة مجددة، والنبي أعم أو هو من أنزل عليه كتابا والنبي أعم، ﴿ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى ﴾ : أحب شيئا واشتهاه من غير أمر الله، أو معنى تمنى قرأ٢ وتلا، ﴿ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ﴾ : وجد إليه سبيلا أو ألقى في قراءته فأدخل في مقروئه ما ليس منه قد ذكر أكثر المفسرين –بل كلهم- قصة٣ الغرانيق بروايات كلها مرسلة أو منقطعة إلا رواية واحدة عن ابن عباس فإنها متصلة، وقد أنكر كثير من العلماء هذه الحكاية وبالغوا في الإنكار وطعنوا في الرواة، وقال بعض : إنها من وضع الزنادقة وهي أنه عليه السلام تمنى أن يأتيه من ربه ما يقرب بينه وبين قومه رجاء أن يسلموا، فكان يوما في محضر قريش إذ أنزل عليه سورة ( والنجم ) فأخذ يقرأها، فلما بلغ ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان في قراءته فسبق لسانه : سهوا أو تكلم الشيطان فحسب أن القارئ رسول الله أو نام نومة فجرى على لسانه تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فلما وصل قراءته إلى السجدة سجد فسجد من في النادي من المسلم والمشرك، وفرح المشركون فأتاه جبريل وقال : ماذا صنعت ؟ ! لقد تلوت ما لم آتك به عن الله فحزن حزنا وخاف خوفا فعزاه الله بتلك الآية يعني : ما أنت بأوحدي بهذا، بل مكنا الشيطان ليلقي في أمانيهم كما ألقى في أمانيك ابتلاء منا ليزيد المنافقون شكا وظلمة، والمؤمنون يقينا ونورا، ﴿ فَيَنسَخُ اللَّهُ ﴾ : يزيل ويبطل، ﴿ مَا يُلْقِي٤ الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ﴾ : يثبتها بحيث لا تشتبه بكلام غيره، ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ : فيما يفعل،
١ وقرأ ابن مسعود –رضي الله عنه-: (ولا نبي ولا محدث) وعن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مثله وزاد فنسخت: (محدث) قال: والمحدثون صاحب يس و لقمان ومؤمن آل فرعون وصاحب موسى هذا ما في الفتح، وفي صحيح البخاري في مناقب عمر –رضي الله عنه- قال ابن عباس: من نبي ولا محدث وقال ابن حجر في شرحه أخرجه سفيان بن عيينة /١٢..
٢ قال البغوي: وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: تمنى أي: تلا وقرأ كتاب الله –تعالى:
(ألقى الشيطان في أمنيته) أي: تلاوته قال الشاعر: في عثمان حين قتل:
تمنى كتاب الله أول ليله وآخرها لاقى حمام المقادر
انتهى وذكر البخاري عن ابن عباس /١٢..

٣ روي القصة ابن أبي حاتم وابن جرير والبراز والبيهقي في كتاب دلائل النبوة هذا ما في الوجيز، وفي الفتح قال البزار: هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي –صلى الله عليه وسلم- بإسناد متصل، وقال البيهقي، هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتلكم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم، وقال إمام الأئمة ابن خزيمة، إن هذه القصة من وضع الزنادقة، قال ابن كثير قد ذكر من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق، وما كان رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، وما ذكره المفسرون عن ابن عباس فمن رواية الكلبي وهو ضعيف جدا، بل متروك لا يعتمد عليه وكذا أخرجه النحاس بسند آخر فيه الواقدي ونبه الحافظ ابن حجر على ثبوت أصلها في الجملة، وقال: إن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح لكنها مراسيل. انتهى ما في الفتح، وقال الشيخ سليمان الجمل بعد ما ذكر قول الرازي في تكذيب هذه القصة بالوجوه العقلية والنقلية: وأن لا أصل لها قال: وليس كذلك، بل لها أصل فقد خرجها ابن أبي حاتم والطبري وابن المنذر من طرق عن شعبة عن ابن بشر عن سعيد بن جبير، وذكر طرقا كثيرة إلى أن قال: وكل من طرقها سوى طريق ابن جبير إما ضعيف وإما منقطع، لكن كثرة الطرق تدل على أن القصة أصلا مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيح إلى أن قال: وقال الحافظ ابن حجر –بعد ما ذكر أقوال الطاعنين: وجميع ذلك لا يتمشى على قواعد المحدثين فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا وقد ذكرنا أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بها من يحتج بالرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض. انتهى ما ذكر سيلمان الجمل [قال ابن كثير (٣/٢٣١): وقد ذكر محمد بن إسحاق (السيرة) بنحو من هذا وكلها مراسيل والله أعلم.] مخلصا قوله تعالى (فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم آياته) هذا فيه قولان، والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيها ينقل عن الزيادة، في سورة النجم بقوله: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى، وقالوا: إن هذا لم يثبت ومن علم أنه ثبت قال: هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول صلى الله عليه وسلم-، ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا، وقالوا في قوله: (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) هو حديث النفس، وأما الذين قدروا ما نقل عن السلف فقالوا: هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه بقوله: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) إلى قوله: (إلى صراط مستقيم) فقالوا: الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث، والقرآن يوافق ذلك فإن نسخ الله لما يلقى الشيطان وإحكام آياته إنما يكون لرفع ما وقع في آياته وتميز الحق عن الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها، وجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم غنما يكون ذلك ظاهرا يسمعه الناس لا باطنا في النفس والفتنة التي يحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ، وهذا النوع دل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأبعده عن الهوى من ذلك النوع فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما أمر عند الله، وهو صدق في ذلك فإذا قال عن نفسه، إن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ، وإن ذلك مرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك، كان أدل على اعتماده للصدق وقوله الحق وهذا كما قالت عائشة –رضي الله عنها: (لو كان محمد كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآيات)، ﴿وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه﴾(الأحزاب: ٣٧]، ألا ترى أن الذين يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ولو كان خطأ فبيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان هو أدل على تحريه للصدق وبراءته من الكذب، وهذت هو المقصود بالرسالة فإنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم تسليما، ولهذا كان تكذيبه كفرا محضا بلا ريب انتهى ما قاله شيخ الإسلام في شرح دعوة ذي النون عليه السلام /١٢..
٤ وقد قيل في تأويل الآية: إن المراد بالغرانيق الملائكة، ويرد بقوله الآتي: (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) أي: يبطله وشفاعة الملائكة غير باطلة، وقال مجاهد: إذا تمنى: إذا تكلم، وأمنيته كلامه، فأخبر تعالى في هذه الآية: إن سنة الله في رسله إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه فهذا نص في أن الشيطان زاد في قول النبي – صلى الله عليه وسلم- لا أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قاله، لأنه معصوم وقد سبق إلى ذلك الطبري مع جلالة وسعة علمه وشدة ساعدته في النظر فصوب هذا المعنى قاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري- ١٢ فتح..
﴿ لِيَجْعَلَ ﴾، أي : مكنا الشيطان منه ليجعل، ﴿ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً ﴾ : ضلالة، ﴿ لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ : شك ونفاق، ﴿ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ : المشركين فإنهم لما سمعوا نسخ قول الشيطان ازدادوا غيظا وظنوا أنه ندم مما ألقى من عند نفسه، ﴿ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ ﴾ : المنافقين والمشركين، ﴿ لَفِي شِقَاقٍ ﴾ : خلاف وعناد، ﴿ بَعِيدٍ ﴾ : عن الحق شديد،
﴿ وَلِيَعْلَمَ ﴾، عطف على ليجعل، ﴿ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ : القرآن وهم المسلمون، ﴿ أَنَّهُ ﴾ : ما أوحينا إليك، ﴿ الْحَقُّ ﴾ : الصدق، ﴿ مِن رَّبِّكَ ﴾، حال أو خبر بعد خبر، ﴿ فَيُؤْمِنُوا بِهِ ﴾ : بالقرآن أو بالله، فإن العقلاء لما رأوا أنه أعرض عما تكلم به، ولم يعبأ ببيان خطأه ولم يبال بمزيد عداوتهم مع كثرة حرصه بألفتهم، عملوا أن الشيطان دخل في أمنيته فنسخه الله، وعصم نبيه، فزادوا يقينهم وثبتوا١* دينهم، ﴿ فَتُخْبِتَ ﴾ : تخشع، ﴿ لَهُ ﴾ : لله، ﴿ قُلُوبُهُمْ ﴾ : واطمأن، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ : في الدارين،
١ * وفي نسخة (ن): ثبتوا على دينهم..
﴿ وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ ﴾ : شك، ﴿ مِّنْهُ ﴾ : من القرآن، أو مما ألقى الشيطان قائلين : ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنه، ﴿ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ ﴾ : القيامة أو الموت، ﴿ بَغْتَةً ﴾ : فجأة، ﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴾ : كيوم بدر فإنه يوم لا خير للكفار فيه كما يقال : ريح عقيم، أو المراد يوم القيامة، فإنه يوم لا ليل له فكأنه قال : تأتيهم الساعة أو يأتيهم عذابها فوضع الظاهر موضع المضمر للتهويل،
﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ﴾ : لا منازع له بوجه، ﴿ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ : بين المؤمنين والكافرين، ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ : الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيه على أن عقابهم مسبب من أعمالهم بخلاف إثابة المسلمين فإنها فضل.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٦:﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ﴾ : لا منازع له بوجه، ﴿ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ : بين المؤمنين والكافرين، ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ : الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيه على أن عقابهم مسبب من أعمالهم بخلاف إثابة المسلمين فإنها فضل.
﴿ وَالَّذِينَ١ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ : تركوا الأوطان في طريق طاعته ورضاه، ﴿ ثُمَّ قُتِلُوا ﴾ : فيها، ﴿ أَوْ مَاتُوا ﴾ : حتف أنفهم، ﴿ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا٢ هم أحياء عند ربهم يرزقون، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ : فإنه يرزق من يشاء بغير حساب،
١ ولما حكم بين المؤمن والكافر عقبه بالحكم بين الشهيد ومن مات حتف أنفه من المؤمنين الكاملين فقال ﴿والذين هاجروا﴾ الآية /١٣..
٢ قد مر بعض كبار الصحابة عل قبرين أحدهما مقتول والآخر متوفى، فقال: "لا أبالي من أي حفرتهما بعثت، اسمعوا كتاب الله ﴿والذين هاجروا في سبيل الله﴾. الآية /١٢ منه..
﴿ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا يَرْضَوْنَهُ١ : لما فيه ما تشتهي أنفسهم، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ ﴾ : بأحوال الفريقين، ﴿ حَلِيمٌ ﴾ : لا يعاجل بالعقوبة،
١ لا يبغون عنها حولا لما ذكر الرزق ذكر المسكن الذي فيه الرزق /١٢ وجيز..
﴿ ذَلِكَ١ : الأمر ذلك، ﴿ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ﴾ ولم يزد على مثله ابتداء الإضرار عقابا للازدواج فإن العقاب جزاء من عقب فعل، ﴿ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ ﴾ : بعقوبة أخرى، ﴿ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ ﴾، فإنه مظلوم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ ﴾ : للمنتصر، ﴿ غَفُورٌ ﴾ : إن زاد في الجزاء، نزلت في رهط من المسلمين لقوا جمعا من المشركين في شهر محرم فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوا فأبوا فقاتلوا وبغوا فنصر الله المسلمين،
١ ولما ذكر ثواب من هاجر أخبر بأنه ينصرهم في الدنيا فقال: (ذلك ومن عاقب) الآية /١٢ وجيز..
﴿ ذَلِكَ ﴾ : النصر، ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾، بسبب قدرته على تغليب الأمور بعضها على بعض يداول بين المتعاندين كما يزيد في أحد الملوين١ ما ينقص من الآخر، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ : فيجازيهم بما يسمع ويبصر،
١ الملوين: الليل والنهار /١٢ منه..
﴿ ذَلِكَ ﴾ : القدرة التامة والعلم الكامل، ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ﴾ : الثابتة إلهيته، ﴿ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ﴾ وكل ما يدعون إلها دونه باطل الألوهية فلا إله سواه، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ١ : لا شيء أعلى منه وأكبر شأنا فلا محالة يكون قديرا عليما،
١ العالي على كل شيء والعظيم الذي كل شيء دونه /١٢ معالم..
﴿ أَلَمْ١ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً ﴾ : برفع تصبح لأنه بعد استفهام بمعنى الخبر أي : قد رأيت فلا يكون له جواب والعدول إلى المضارع للدلالة على بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ ﴾ : واصل علمه أو لطفه إلى كل جليل ودقيق، ﴿ خَبِيرٌ٢ : بالتدبير،
١ ولما ذكر ما دل على القدرة التامة الظاهرة ذكر مثلها من القدرة الكاملة المشاهدة فقال: ﴿ألم تر أن الله أنزل من السماء﴾ الآية /١٢ وجيز..
٢ أي: إنه ذو خبرة بتدبير عباده وما يصلح لهم /١٢ فتح..
﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ ﴾ : في ذاته، ﴿ الْحَمِيدُ ﴾ : المستوجب للحمد.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ١ : فتنتفعون به، ﴿ وَالْفُلْكَ ﴾ عطف على ما، ﴿ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ﴾، حال، ﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَاء ﴾ : من، ﴿ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ : بمشيئته كما تقع يوم القيامة، ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لرءوف رَّحِيمٌ ﴾ حيث أثبت لهم المنافع، ودفع عنهم المضار،
١ هذه نعمة أخرى ثالثة ذكرها الله سبحانه فأخبر عباده بأنه سخر لهم، ذلل ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار والحجر والحديد والنار لما يراد منها والحيوان للأكل والركوب والحمل عليه والنظر إليه وجعله لمنافعهم /١٢ فتح..
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ﴾ : بعد ما كنتم جمادا ترابا ونطفة، ﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ : في الآخرة، ﴿ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُور ﴾ : جحود لنعم ربه،
﴿ لِكُلِّ١ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا ﴾ أي : لكل أمة نبي جعلنا شريعة، ﴿ هُمْ نَاسِكُوهُ ﴾ : عاملوه، ﴿ فَلا يُنَازِعُنَّكَ ﴾ : سائر أرباب الملل، ﴿ فِي الأَمْرِ ﴾ : في أمر الدين أو المراد نهيه –عليه السلام- عن منازعتهم، أي : لا يلتفت إلى منازعتهم ولا تمكنهم من المنازعة٢، أو معناه : لكل قوم جعلنا وقدرنا طريقة هم فاعلوها البتة بحكم القدر فلا تتأثر منازعتهم٣ فيك ولا يصرفنك عما أنت عليه من الحق ونحو ﴿ ولكل وجهة هو موليها ﴾ [ البقرة : ١٤٨ ]، قيل : نزلت فيمن جادل وقال : ما لكم تأكلون ما تقتلونه ولا تأكلون ما قتله الله ؟ ! ﴿ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ ﴾ : إلى عبادته، ﴿ إنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ﴾ : طريق موصل إلى المقصود،
١ ولما ذكر أن الإنسان كفور عقبه بما يدل على كفرانه فقال: ﴿لكل أمة﴾ الآية /١٢ وجيز..
٢ فالمراد نهيه عن الكينونة على وصف يكون سببا لمنازعتهم /١٢ منه..
٣ فيكون من نازعته فترعتها إذا غلبه /١٢..
﴿ وَإِن جَادَلُوكَ ﴾ : مراء وعنادا، ﴿ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ : هو أعلم بما تفيضون فيه، وكفي به شهيدا بيني وبينكم،
﴿ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ١ هذا خطاب من الله لرسوله وللمجادلين، أو من تتمة ما يؤمر بأن يقول لهم أي قل : الله يفصل بينكم أيها الكافرون والمؤمنون فتعرفون حينئذ الحق من الباطل نحو :﴿ فلذلك فادع واستقم كما أمرت ﴾ إلى قوله ﴿ الله يجمع بيننا وإليه المصير ﴾ [ الشورى : ١٥ ]،
١ والاختلاف ذهاب كل واحد من الفريقين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر /١٢ معالم..
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ ﴾ ما في السماء والأرض، ﴿ فِي كِتَابٍ ﴾ هو اللوح المحفوظ، ﴿ إِنَّ ذَلِكَ ﴾ : إثباته في كتاب وحفظه، ﴿ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ : فلا يهمنك جدالهم لأنا قدرناه وهو بمرأى منا،
﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ ﴾ : ما لا برهان سماوي ولا دليل عقلي في عبادته، بل اختلقوه وآتفكوه وتلقوا عن ضُلاّل أسلافهم، ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾ : ليس لهم ناصر ينصرهم من نكال الله لأنهم وضعوا عبادة جماد موضع عبادة الله،
﴿ وَإِذَا١ تُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ : على أمتك، أو على المشركين، ﴿ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ﴾ : ظاهرات الدلالة على العقائد الحقّة، ﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ ﴾ : الإنكار، ، أو العبوس والكراهة، ﴿ يَكَادُونَ يَسْطُونَ ﴾ : يبطشون، ﴿ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ٢ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ ﴾ : بطشكم وقهركم عليهم، أو من القرآن الذي تكرهونه، ﴿ النَّارُ ﴾ كأنه قيل : ما هو ؟ قال : النار أي : هو النار، ﴿ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ استئناف، أو النار مبتدأ وهذه الجملة خبره ﴿ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ : النار.
١ إذا كان المراد من قوله ﴿إذا تتلى عليهم﴾ المشركين فقوله: ﴿في وجوه الذين كفروا المنكر﴾ من باب وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بأن إنكارهم لكفرهم وجهلهم / ١٢ منه..
٢ وهكذا ترى أهل البدع المضلة إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليهم من آيات الكتاب العزيز أو من السنة الصحيحة مخالفا لما اعتقدوه من الباطل والضلالة رأيت في وجهه من المنكر ما لو تمكن من أن يسطو بذلك العالم لفعل به ما لا يفعله بالمشركين والله ناصر الحق ومظهر دينه وهو حسبنا ونعم الوكيل /١٢ فتح..
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ ﴾ بين قصة مستغربة كالمثل السائر، ﴿ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ﴾ : للمثل، ﴿ إِنَّ١ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ : تدعونهم أي : الأصنام، ﴿ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا ﴾ : لن يقدروا على خلقه مع صغره، ﴿ وَلَوِ اجْتَمَعُوا ﴾ : الأصنام، ﴿ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لّا يَسْتَنقِذُوهُ٢ مِنْهُ ﴾، أي بل هم أعجز من أن يخلقوا، فإنهم لا يقدرون على استنفاذ ما اختطف هذا المخلوق الضعيف عنهم، ﴿ ضَعُفَ الطَّالِبُ٣ : الصنم أو الذباب أو العابد، ﴿ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ : الذباب أو الصنم أو المعبود ووجه الإطلاق الطالب والمطلوب على كل ظاهر،
١ هذا دليل آخر على كفرانهم /١٢ وجيز..
٢ أي: الأصنام وهذا مثل لأي شيء يعبد غير الله من ذوي العقول أيضا /١٢ وجيز..
٣ عن ابن عباس. الصنم والذباب ونقل الزمخشري عنه إنهم كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران ورءوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله /١٢ وجيز..
﴿ مَا قَدَرُوا اللَّهَ ﴾ : ما عظموه وما عرفوه، ﴿ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ : حق عظمته ومعرفته، حيث أشركوا به شيئا لا يقاوم أضعف مخلوقاته، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ ﴾ : قادر على كل شيء، ﴿ عَزِيزٌ ﴾ : لا يغلبه غالب،
﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي ﴾ : يختار، ﴿ مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ ﴾ : يبلغون رسالاته إلى عباده لما قرر الوحدانية شرع يثبت أن في الملك والبشر رسلا، لا الملك بنات الله، ولا البشر غير مستحقين للرسالة، ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ : مدرك للجزئيات،
﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ : عالم بواقع الأشياء ومترقبها، ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾، لأنه خالقها ومالكها فالله أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يسأل عما يفعل،
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ﴾ أي : صلوا، ﴿ وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ﴾ : أنواع العبادات، ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ﴾ : ما هو أصلح كصلة الأرحام ومكارم الأخلاق، ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ أي : افعلوا كل ذلك راجين الفلاح من فضل الله لا متكلين على الأعمال واثقين عليها،
﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ ﴾ : في سبيله، ﴿ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾ : أقيموا بمواجبه وشرائطه على وجه التمام قدر الوسع، وإضافة الجهاد إلى الله للملابسة، ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ﴾ : اختاركم يا أمة محمد لنصرة دينه، ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ : ما كلفكم ما لا تطيقون فلا عذر لكم في تركه وقد ورد١ ( بعثت بالحنيفية السمحة )، ﴿ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ٢، أي : أعني بالدين ملة إبراهيم نحو : الحمد لله الحمد، أو مصدر لفعل دل عليه مضمون ما قبله بحذف مضاف، أي : وسع دينكم توسعة ملته وهو أبو نبينا ونبينا كالأب لأمته أو لأن أكثر العرب من ذريته فهو من باب التغليب، ﴿ هُوَ ﴾ : أي٣ : الله، ﴿ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ أي : بهذا الاسم الأكرم، ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ : في سائر الكتب، ﴿ وَفِي هَذَا ﴾ : القرآن، وفي الشواذ الله بدل هو، وفي النسائي :( ما دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثاء جهنم، قل رجل : يا رسول الله : وإن صام وصلى ؟ قال : نعم وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله )، وقيل٤ الضمير لإبراهيم فإنه دعا بقوله :﴿ ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾ [ البقرة : ١٢٨ ]، وفي هذا معناه وفي القرآن بيان تسميته إياكم بهذا الاسم حيث حكى فيه مقالته، أو لما كان تسميتهم في القرآن بسبب تسميته من قبل كأنها منه، وفيه بعد ﴿ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ ﴾ : يوم القيامة بأنه بلغكم رسالته ولعصمته تقبل شهادته لنفسه قيل : يشهد عليكم بطاعة من أطاع وعصيان من عصى، ﴿ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ﴾ : بأن الرسل بلغتهم، ﴿ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ : أي : إذا خصكم٥ بتلك الكرامات فتقربوا إليه بأنواع الطاعات، ﴿ وَاعْتَصِمُوا ﴾ : وثقوا، ﴿ بِاللَّهِ ﴾ لا إلى سواه، ﴿ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى ﴾ هو، ﴿ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ هو فإنه لا مولى ولا نصير على الحقيقة سواه.
١ في الصحيحين /١٢ وجيز. [في هذا العزو وهم، فليس الحديث في الصحيحين، وإنما هو في المسند (٥/٢٦٦)]..
٢ وهذا من باب التهييج، فإن أكثر القلوب راغب في اتباع آبائه سيما قريش، فإنهم يدعون أنهم على دين إبراهيم مفتخرين بذلك، أي: اتبعوا ملة إبراهيم، فإنه هو الناهي عن الشرك، ومعروف بأنه كاسر الأصنام /١٢ وجيز..
٣ هكذا فسره ابن عباس –رضي الله عنه- ومجاهد –رضي الله عنه- وعطاء والضحاك والسدي وقتادة ومقاتل وبن حيان /١٢..
٤ هذا قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم /١٢ منه..
٥ يعني: إن التعقيب بالفاء مشعر بالعلية، لأن الأوصاف مناسبة للحكم، وهذا مشعر بترجيح القول بأن الضمير لله لا لإبراهيم /١٢ منه..
Icon