تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
.
لمؤلفه
الإيجي محيي الدين
.
المتوفي سنة 905 هـ
سورة الرحمن مكية أو مدنية أو متبعضة
وهي ثمان وسبعون آية وثلاث ركوعات
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الرحمن علم القرآن ﴾ : نبيه لا أنه يعلمه بشر، أو علمه عباده بأن يسر حفظه، وفهمه، ولما كانت السورة في تعداد النعم صدرها بالرحمن.
﴿ خلق الإنسان علمه البيان ﴾ : النطق، والتعبير عما في الضمير،
﴿ الشمس والقمر ﴾ : يجريان، ﴿ بحسبان ﴾ : حساب مقدر في بروجهما، ومنازلهما يعلم منهما السنون والحساب،
﴿ والنجم ﴾ : الكواكب أو النبات الذي لا ساق له، ﴿ والشجر يسجدان ﴾ :" ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات، ومن في الأرض، والشمس والقمر، والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس " الآية جرد هاتين الجملتين عن ما يدل على اتصال وربط بالرحمن، ولم يقل بحسبانه ويسجدان له، لأن وضوح اتصاله يغني عن البيان، وذكر الجمل الأولى على نهج التعديد، ثم أدخل العاطف، ورد إلى المنهاج الأصلي،
﴿ والسماء رفعها ﴾ : فوق الأرض، ﴿ ووضع الميزان ﴾ : كل ما يوزن به الأشياء من الميزان والمكيال وغيرهما خلقه موضوعا على الأرض، أو المراد من الميزان العدل كما قال تعالى :﴿ وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ﴾ الآية،
﴿ ألا ﴾ أي : لئلا، ﴿ تطغوا في الميزان ﴾ : لا تعتدوا فيه،
﴿ وأقيموا الوزن بالقسط ﴾ عطف بحسب المعنى على أن لا تطغوا أي : ولأن تقيموه بالعدل، ﴿ ولا تخسروا ﴾ : ولا تنقصوا، ﴿ الميزان ﴾ : وتكرير الميزان للمبالغة في التوصية،
﴿ والأرض وضعها ﴾ : خفضها مدحوة، ﴿ للأنام ﴾ : للخلق،
﴿ فيها فاكهة ﴾ : أنواع ما يتفكه به، ﴿ والنخل ذات الأكمام ﴾ : أوعية الثمر التي يطلع فيها القنو، ثم تنشق، أو المراد الليف
﴿ والحب ﴾ : كالحنطة وغيرها، ﴿ ذو العصف ﴾ : هو ورق النبات، ﴿ والريحان ﴾ : الرزق يقال : خرجت أطلب ريحان الله تعالى، أي : رزقه يعني : الحب ذو علف أنعام، وطعام إنسان، ومن قرأ بالرفع، فعلى تقدير، وذو الريحان بإقامة المضاف إليه مقام المضاف ليوافق القراءتان، وقيل الريحان هو المشموم،
﴿ فبأي آلاء ربكما ﴾ : أيها الثقلان، ﴿ تكذبان ﴾
﴿ خلق الإنسان ﴾ : آدم، ﴿ من صلصال ﴾ : طين يابس له صلصلة، ﴿ كالفخار ﴾ : الخزف،
﴿ وخلق الجان ﴾ : أبا الجن، قيل هو إبليس، ﴿ من مارج ﴾ : من صاف، ﴿ من نار ﴾
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان رب المشرقين ﴾ : مشرقي الشتاء والصيف، ﴿ ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ : فإن اختلاف المشارق، والمغارب سبب لمصالح العباد،
١٩
﴿ مرج ﴾ : أرسل، ﴿ البحرين ﴾ : العذاب والملح، ﴿ يلتقيان ﴾ : يتجاوران ويتلاصقان،
﴿ بينهما برزخ ﴾ : حاجز، ﴿ لا يبغيان ﴾ : لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة، أو لا يتجاوزان حديهما قد مر بيانه في سورة الفرقان مفصلا، قيل المراد بحر الروم، وفارس يلقيان في المحيط لأنهما ينشعبان منه، وقيل بحر السماء، والأرض، فإن اللؤلؤ يتولد من ماء السماء، وأصداف بحر الأرض،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ﴾ : كبار الدر، وصغاره، أو المرجان الخرز الأحمر يخرجان من المالح، لكن لما كان يلتقيان فيصيران واحدا يصدق أنهما يخرجان منهما،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان وله الجوار ﴾ : السفن، ﴿ المنشآت المرفوعات الشرع، { في البحر كالأعلام ﴾ : كالجبال في العظم، ﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾.
﴿ كل من عليها ﴾ : من على الأرض، ﴿ فان ﴾
﴿ ويبقى وجه ربك ﴾ : ذاته، ﴿ ذو الجلال ﴾ : الاستغناء المطلق، ﴿ والإكرام ﴾ : الفضل الشامل، أو المراد يفني كل ما في الأرض من الأعمال إلا ما هو لوجه الله تعالى، وهو كما قال كل شيء هالك إلا وجهه، ﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ : فإن فناء الكل، وبقاءه سبحانه مع أنه غني ذو فضل عام سبب لإيجاد المعاد، والجزاء بأتم وجه،
﴿ يسأله ﴾ : الرزق، والمغفرة، والعافية، وكل ما يحتاج إليه، ﴿ من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن ﴾ قال- صلى الله عليه وسلم- من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا، ويرفع قوما ويضع آخرين والمراد من اليوم الوقت، وهو ظرف لشأن قيل هو رد لليهود قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان سنفرغ لكم ﴾، تهديد وليس المراد الفراغ عن شغل فإنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن، فهو مجاز كأنه فرغ من كل شيء، فلم يبق له شغل غيره فيدل على التوفر في النكاية، والانتقام أو لما وعد أهل التقوى، وأوعد غيرهم قال، سنقصد لحسابكم، وجزاءكم، ذلك يوم القيامة، ﴿ أيها الثقلان ﴾ : الإنس، والجن لثقلهما على الأرض أو لرزانتهما وقدرهما،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا ﴾ : أن تخرجوا، ﴿ من أقطار ﴾ : جوانب، ﴿ السماوات والأرض ﴾ : فارين من قضاء الله تعالى، ﴿ فانفذوا لا تنفذون ﴾ : لا تقدرون على الخروج، ﴿ إلا بسلطان ﴾ : بقوة وقهر، ومن أين لكم هذا، أو إلا بأمر من الله تعالى، وإذن منه، وتقديم الجن، لأنهم أقوى، وهذا في المحشر حين أحاطت الملائكة بالخلائق سبع صفوف من كل جانب يقول الإنسان يومئذ أين المفر، وعن بعض معناه إن استطعتم أن تعلموا ما فيهما فاعلموا لكن لا تعلمونه إلا ببينة نصبها الله تعالى،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما ﴾ : في ذلك اليوم، ﴿ شواظ ﴾ : لهب لا دخان فيه، ﴿ من نار ونحاس ﴾ : دخان لا لهب له، ومن قرأ بجر نحاس فمعناه، وشيء من نحاس فحذف الموصوف لدلالة ما قيل عليه، أو هو صفرمذاب يصب على رؤسهم، ﴿ فلا تنتصران ﴾ : لا تمتنعان من الله تعالى، وحاصل الكلام لو هربتم يوم القيامة لردتكم الملائكة، والزبانية بإرسال اللهب من النار، والنحاس لترجعوا،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ : فإنه مع عجزكم، وجهلكم دلكم على ما يخلصكم من هذه النوائب، وتجارة تنجيكم من عذاب أليم من أن التهديد، والانتقام من الكفار، والتمييز بين المطيع، والعاصي من الآلاء،
﴿ فإذا انشقت السماء فكانت وردة ﴾ أي : حمراء كوردة، ﴿ كالدهان ﴾ : يذوب، ويتلون كالأدهان، وذلك من هول القيامة، وعن بعض الوردة : الخيول الوردة، فإن الفرس الورد في الربيع أصفر، وفي أول الشتاء أحمر، وفي اشتداد الشتاء أغبر، وعن بعض الدهان الأديم الأحمر،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان فيومئذ ﴾ : يوم الانشقاق، ﴿ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ﴾ أي : لا يسأل إنس عن ذنبه، ولا جان، وذلك في موطن خاص، وهذا يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون، ثم يسألون، ﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين ﴾[ الحجر : ٩٢ ]، أو سؤال علم ؛ بل سؤال توبيخ، أو لأنهم يعرفون بسيماهم، هذا بعد ما يؤمر بهم إلى النار،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان يعرف المجرمون بسيماهم ﴾ : كاسوداد وجوههم، وزرقة عيونهم، ﴿ فيؤخذ بالنواصي والأقدام ﴾ : يجمع بينهما في سلسلة من وراء ظهره، ويطرح في النار،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان هذه ﴾ أي : يقال لهم هذه، ﴿ جهنم التي يكذب بها المجرمون ﴾
﴿ يطوفون بينها ﴾ : بين النار، ﴿ وبين حميم ﴾ : ماء شديد الحرارة، ﴿ آن ﴾ : بالغ النهاية في الحر يؤخذ، فيحرك بناصيته في الحميم فيذوب اللحم يسحبون في الحميم، ثم في النار يسجرون، ﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾.
﴿ ولمن خاف مقام ربه ﴾ : موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب، أو المقام مقحم للتعظيم كأخاف جانبه والسلام على مجلسه، ﴿ جنتان ﴾ : لكل من الإنسان جنتان للمقربين من ذهب، قيل : جنة للإنسي، وجنة للجني،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ذواتا أفنان ﴾ : أنواع النعم جمع فن، أو أغصان جمع فنن،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان ﴾ : تحت تلك الأشجار،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان ﴾ : صنفان صنف رأيتم، وصنف ما رأيتم،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين ﴾، حال من " من خاف "، فإنه في معنى الجمع، على فرش بطائنها : الذي يلي الأرض، ﴿ من استبرق ﴾ : ديباج ثخين إذا كان هذه البطائن، فما ظنكم بالظواهر، وعن بعض ظواهرها من نور جامد، ﴿ وجنى الجنتين ﴾ : ثمرهما، ﴿ دان ﴾ : قريب يجني منه القاعد والراقد،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن ﴾ : في أماكن الجنتين، أو في الفرش، ﴿ قاصرات الطرف ﴾ : نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى الغير تقول لبعلها، والله ما رأى في الجنة أحسن منك لا أحب إلي منك الحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك، ﴿ لم يطمثهن ﴾ : لم يجامعهن، ﴿ إنس قبلهم ولا جان ﴾
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت ﴾ : في حمرة الوجنة، أو في الصفاء، ﴿ والمرجان ﴾ : اللؤلؤ في البياض،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ﴾ : أحسنوا في الدنيا، فأحسن إليهم في الآخرة،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ومن دونهما ﴾ : سوى تينك الجنتين للمقربين، ﴿ جنتان ﴾ : لمن دونهم لأصحاب اليمين من الورق،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان مدهامتان ﴾ : سوداوان من شدة خضرتهما لريهما، وصف الأولين بكثرة أشجارهما، وهاتين بالخضرة لما بينهما من التفاوت،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان ﴾ : فوارتان بالماء، والجري أقوى من النضخ،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان ﴾ : أفردهما بالذكر لفضلهما، فإن الرطب فاكهة، وغذاء، والرمان فاكهة ودواء، وصف الأولين بأن فيهما من كل فاكهة صنفين،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن خيرات ﴾ : خيرات الأخلاق خفف كهين في هيّن وليّن، ﴿ حسان ﴾ : حسان الخلق،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان حور مقصورات ﴾ : مخدرات مستورات، أو مقصورات الطرف على أزواجهن وصفهن في الأولى بقاصرات الطرف التي تدل على أنهن بالطبع قد قصرت أعينهن عليهم، وهي أتم من المقصورات التي فيها إشعار بقسر القصر، ﴿ في الخيام ﴾ : كل خيمة من زبرجد وياقوت، ولؤلؤة واحدة فيها سبعون بابا من الدر،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾، زاد في وصف الأوائل كأنهن الياقوت والمرجان،
﴿ متكئين على رفرف خضر ﴾ : مجالس فوق الفرش، أو وسائد، أو رياض الجنة، ﴿ وعبقري حسان ﴾ : كل شيء نفيس من الرجال وغيره يسمى عند العرب عبقريا قيل تزعم العرب أن عبقر اسم بلد من بلاد الجن فينسبون إليه كل شيء عجيب، نعت بطائن فرش الأولين، وسكت عن ظهائرها إشعارا بأن وصفها متعذر، فأين هذا من ذاك،
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ﴾ : تعالى اسمه ؛ لأنه مطلق على ذاته فما ظنك بذاته، ﴿ ذي الجلال ﴾ : أهل أن يجل فلا يعصى، ﴿ والإكرام ﴾ : وأهل أن يكرم فيعبد، ويشكر، ولا يكفر، وفي الحديث " من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وذي السلطان، وحامل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي منه ".
والحمد لله حق حمده.