تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب أوضح التفاسير
المعروف بـأوضح التفاسير
.
لمؤلفه
محمد عبد اللطيف الخطيب
.
المتوفي سنة 1402 هـ
ﰡ
عَلَّمَ الْقُرْآنَ} لما كانت هذه السورة الكريمة حاوية لمزيد أنعمه تعالى على عباده: بدأ بذكر النعمة الكبرى، والمنة العظمى: وهي تعلم القرآن. وأي نعمة تداني علمه وتعلمه، وفهمه وتفهمه؟ فاحرص أيها المؤمن اللبيب على حفظ كتاب الله تعالى وتلاوته، والتحرز بما فيه من أوامر ونواه؛ تسعدك في دنياك، وتقربك من مولاك، وتسرك في مثواك، وتنجيك في أخراك
﴿خَلَقَ الإِنسَانَ﴾ فسواه فعدله (انظر آية ٢١ من سورة الذاريات)
﴿عَلَّمَهُ البَيَانَ﴾ ألهمه النطق؛ الذي به يستطيع أن يبين عن رغائبه ومقاصده
﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ بحساب معلوم: يجريان في بروجهما، ويتنقلان في منازلهما. والحسبان: قطب الرحى. أي يدوران في مثل القطب
﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ أي ينقادان للرحمن فيما يريده منهما: هذا بالتنقل في البروج، وذاك بإيتاء الثمر، نعمة للبشر. وقيل «النجم»: كل ما لا ساق له من الشجر
﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ الذي توزن به
-[٦٥٧]- الأشياء
﴿أَلاَّ تَطْغَوْاْ﴾ لئلا تطغوا
﴿بِالْقِسْطِ﴾ بالعدل ﴿وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ﴾ لا تنقصوا الموزون؛ عندما تبيعون، ولا تزيدوه عندما تشترون. قال تعالى: «ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون»
﴿وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ﴾ الأكمام: أوعية التمر. والمراد به هنا: الليف والسعف
﴿وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ﴾ العصف: التبن؛ لأن الريح تعصف به. والريحان: الرزق، وهو يطلق على الثمر، وكل ما يتلذذ به من الفاكهة. أو هو كل أصناف المشمومات: كالورد، والفل، والنرجس، والياسمين؛ وما شاكلها
﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ الآلاء: النعم. أي فبأي نعم ربكما أيها الإنس والجن تكذبان؟
﴿وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ﴾ المارج: اللهب الصافي
﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ مشرق الشتاء، ومشرق الصيف، ومغربيهما. أو «المشرقين» مشرق الشمس والقمر. و «المغربين» مغربيهما
﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ أي خلطهما في مرأى العين؛ لا يحول بينهما سوى قدرته تعالى
﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ﴾ حاجز من القدرة الإلهية ﴿لاَّ يَبْغِيَانِ﴾ لا يبغي أحدهما على الآخر؛ فيمتزج به، ويختلط العذب الفرات، بالملح الأجاج
﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ﴾ أي من أحدهما، لأنهما لا يخرجان إلا من البحار خاصة؛ لا من الأنهار
﴿وَلَهُ الْجَوَارِ﴾ السفن الجارية في البحر ﴿كَالأَعْلاَمِ﴾ كالجبال في العظم
﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ ذاته العلية ﴿ذُو الْجَلاَلِ﴾ القدرة والعظمة ﴿وَالإِكْرَامِ﴾ يكرم عباده المؤمنين بما أعده لهم من نعيم مقيم
﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أي يفتقر إليه كل من فيهن، ويطلب منه الحفظ، والعون، والرزق ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويشفي سقيماً، ويسقم سليماً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين
﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ﴾ أي ستنتهي الدنيا، ولا يبقى إلا حسابكم ومجازاتكم؛ وهو وعيد وتهديد، و «الثقلان» الإنس والجن
﴿يمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ﴾ الأقطار: جمع قطر؛ وهو الناحية. أي إن استطعتم أن تنفذوا من نواحي السموات ﴿وَالأَرْضِ﴾ وتخرجوا مما رسمه الله تعالى لكم، وحدده لوجودكم ومعيشتكم ﴿فَانفُذُواْ﴾ من أقطارهما
-[٦٥٨]- ﴿لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾ لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة، وغلبة، وقهر؛ وأنى لكم ذلك؟ وهذا على سبيل التعجيز والتحدي؛ يدل عليه ما بعده
﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا﴾ إذا حاولتما ذلك ﴿شُوَاظٌ﴾ لهب، لا دخان له ﴿مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ﴾ ملتهب ﴿فَلاَ تَنتَصِرَانِ﴾ فلا تبلغان مأربكما؛ من ورود هذا المورد، وركوب هذا المركب (انظر آية ٦١ من سورة الفرقان)
﴿فَكَانَتْ وَرْدَةً﴾ أي صارت كالوردة؛ في تشعب أوراقها وسهولة انتثارها، أو صارت كلون الوردة في الاحمرار ﴿كَالدِّهَانِ﴾ أي كالأديم الأحمر
﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾ يوم القيامة ﴿لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ﴾ لأن للمذنب علامات تدل على ذنبه: كاسوداد الوجوه وزرقتها؛ يؤيده قوله تعالى:
﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ أي بهيئاتهم وعلاماتهم. ويصح أن يكون ما جاء في مواضع أخر من التنزيل؛ من أنهم يسألون عن أعمالهم: معناه أنهم يحاسبون عليها، ويجزون بها ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي﴾ جمع ناصية؛ وهي شعر مقدم الرأس ﴿وَالأَقْدَامِ﴾ يجر الكافرون من نواصيهم: إذلالاً لهم، ومن أقدامهم: ليسحبوا على وجوههم إلى النار
﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ ماء بالغ غاية الحرارة
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ أي القيام بين يديه يوم القيامة. قال تعالى ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ومن خاف مقام ربه: لم يقتل، ولم يزن، ولم يسرق، ولم يسكر، ولم يغتب، ولم يقل زوراً فهذا له ﴿جَنَّتَانِ﴾ بستانان. قيل: هما للسابقين. قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾
﴿ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ﴾ جمع فنن؛ أي أغصان. وخص الأفنان بالذكر؛ لأنها هي التي تورق وتثمر. أو «أفنان» جمع فن. أي ذواتا ألوان وأجناس وأصناف من الفاكهة؛ المختلفة الألوان والطعوم
﴿فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ صنفان: حلو وحامض، ورطب ويابس، وأحمر وأصفر
﴿إِسْتَبْرَقٍ﴾ هو ما غلظ من الحرير ﴿وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ﴾ ثمرهما ﴿دَانٍ﴾ قريب: يناله القائم، والقاعد، والمضطجع. سهل التناول: لا يحول دونه بعد، ولا شوك، ولا يحتاج إلى صعود نخلها لاجتناء تمرها، ولا معالجة شجرها لاجتناء ثمرها
﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ أي اللاتي يقصرن بصرهن على أزواجهن ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾ لم يطأهن. والطمث: افتضاض البكر
﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾ لما كان الياقوت والمرجان: من أنفس حلى العرب في ذلك العهد: شبههن بهما. ولا صحة لما ذهب إليه بعض المفسرين من وصف الحور العين: بأن أعينها من ياقوت، وأرجلها من زبرجد، وجسمها من عنبر وأنها من الصفاء بحيث يرى مخ سوقها؛ إلى غير ذلك مما لا يتفق والحقيقة؛ وهو من المغالاة المذمومة. فلو تصور إنسان امرأة على هذه الصورة، وتلك الصفة: لكانت محل اقتنائه، لا موضع متعته ولذته
﴿هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ﴾ في الدنيا بطاعة الله ﴿إِلاَّ الإِحْسَانُ﴾ في الآخرة بالنعيم المقيم؟ وأين إحسان المخلوق؛ من إحسان الخالق المنعم المتفضل؟
﴿وَمِن دُونِهِمَا﴾ أي من دون هاتين الجنتين اللتين وصفهما الله تعالى بأنهما لمن خاف مقامه: دونهما في العظم، والمقام، والدرجة؛ وهما لأصحاب اليمين من المتقين. قال تعالى: «وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين: في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، وماء مسكوب، وفاكهة كثيرة؛ لا مقطوعة ولا ممنوعة»
﴿مُدْهَآمَّتَانِ﴾ خضراوان؛ من وفرة الري والعناية الربانية
﴿نَضَّاخَتَانِ﴾ فوارتان بالماء لا تنقطعان
﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ﴾ مخففة من خيرات؛ بتشديد الياء. وبها قرىء أيضاً وهن الحور ﴿حِسَانٌ﴾ أي حسان الخلق والخلق
﴿حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ﴾ حور: جمع حوراء؛ وهي شديدة بياض العين وسوادها (انظر آية ٥٤ من سورة الدخان) و «مقصورات» أي مخدرات؛ قصرن في خدورهن
﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾ لم يطأهن. والطمث: افتضاض البكر
﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ﴾ الرفرف: الوسائد والفرش؛ وما إليها ﴿وَعَبْقَرِيٍّ﴾ هو نسبة إلى «عبقر» تزعم العرب أنه اسم بلد الجن؛ وينسبون إليه كل ما كان بديع الصنع. والمقصود به هنا: الديباج، والطنافس
﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ﴾ تعالى ذكره، وتقدس اسمه
﴿ذِي الْجَلاَلِ﴾ ذي العظمة
﴿وَالإِكْرَامِ﴾ أي إنه تعالى واجب التكريم من سائر مخلوقاته، أو هو جل شأنه المختص بإكرام أوليائه وأحبائه
660
سورة الواقعة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
660