تفسير سورة الرحمن

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

مختومة بما ختمت به هذه السّورة ولا بما بدئت به. والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
تفسير سورة الرّحمن عدد ١١- ٩٧ و ٥٥
نزلت بالمدينة بعد سورة الرّعد، وهي ثمان وسبعون آية، وثلاثمائة وواحد وخمسون كلمة، وألف وستمئة وستة وثلاثون حرفا، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي، ولا ناسخ ولا منسوخ فيها.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى بصدد تعداد بعض نعمه على عباده مبتدئا بأول شيء وأقدمه من حروف آلائه وصنوف نعمائه «الرَّحْمنُ» (١) الذي وسعت رحمته كلّ شيء هو الذي «عَلَّمَ الْقُرْآنَ» (٢) لسيدنا محمد عبده ورسوله وبيّنه له حتى ووعاه عن ظهر غيب، وهو أمي لا يعرف القراءة ولم يتعلمها من أحد ولا اختلقه من نفسه كما زعم أعداؤه، على أنه وجميع الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله أو بشيء منه. وقد جعل تعالى هذه النّعمة العظمى بطليعة النّعم الآتية لأنها أكبر النّعم وسنام مراتب الدّين، وأقصى مراقبه، وأعظم كتب الله رتبة، وأعلاها منزلة، وأحسنها أثرا، وأثبتها حكما، ومصداقا ومعنى، وأجلها قدرا، وأدومها بقاء «خَلَقَ الْإِنْسانَ» (٣) الذي أنزل عليه وهو الإنسان الكامل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. وقال بعض المفسرين إن المراد بالإنسان آدم عليه السّلام، وليس بشيء لأن آدم سيأتي ذكره بعد صراحة، وإذا أطلق المفرد العلم يراد به أكمل أنواعه، والإنسان الكامل من كلّ وجه هو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم المخاطب به الذي «عَلَّمَهُ الْبَيانَ» (٤) فصاحة النّطق وبلاغة الكلام الذي امتاز به على سائر الخلق قال الأبوصيري:
خفضت كلّ مقام بالإضافة إذ نوديت بالرفع مثل المفرد العلم
قال تعالى «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) » معلوم وتقدير سوي يجريان بلا فتور في بروجهما ومنازلهما وفي منافع الخلق فيصرّف بهما الأيام والشّهور والسّنين
المترتب عليها أعمال النّاس في المواسم وآجال الدّيون والإجارات والرّهون وأوقات الحج وغيرها مما يتعلق بالحيض والنّفاس والرّضاع والعدة والايمان وغيرها «وَالنَّجْمُ» هو مالا ساق له من النّباتات. ومما يدل على أن المراد به هذا قوله «وَالشَّجَرُ» حيث عطفه عليه، لأن الشّجر من النّبات الذي له ساق حقيقة في اللّغة، فظهر أن ليس المراد به النّجم المعروف «يَسْجُدانِ» (٦) خضوعا وخشوعا له تعالى لأنهما خلقا لذلك «وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ» (٧) العدل ليقوم النّاس بالقسط في أرضه بين عباده كما هو في سمائه بين ملائكته. ثم حذر النّاس جل وعلا عن الانحراف عن طريق الرّشد فقال ما رفعت السّماء ووضعت الأرض إلّا لأجل «أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ» (٨) فتجنحوا عن الحق إلى الباطل، وتميلوا من العدل إلى العوج. ثم أمرهم بإقامته تأكيدا وتأييدا فقال «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ» هو لسان الميزان الحسّي المادي الذي هو آلة الوزن «بالقسط» للطرفين والأحسن للبايع الترجيح خوفا من أن يخسر المشتري فيدخل البايع في قوله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) لذلك قال عز قوله «وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ» (٩) بأن تطففوه فتكونوا خاسرين، والأحسن أن يراد بهذا الميزان الذي جعله الله تعالى بمقابل السّماء العدل المحض في كلّ شيء، لا العدل في الوزن فقط، لأن هذا مهما بلغ لا يقابل السماء ذات الكواكب العظيمة والبناء الشّامخ «وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ» (١٠) لجميع مخلوقاته لا يختص بها عالم دون آخر،
ثم بين بعض نعمه فيها لبعض خلقه فقال «فِيها فاكِهَةٌ» عظيمة متنوعة «وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ» (١١) الأوعية التي يكون فيها التمر وهي الطّلع وقد خصه دون سائر الأشجار لأنه أعظمها نفعا وبركة، والنّخل كله نفع فثمره غذاء وفاكهة ويدخر حولا فأكثر، وشجرة يبرم من ليفه الحبال، ومن خوصه الحصر والسّلال، ومن سعفه المقاعد والتخوت، وجذوعه لا تؤثر فيها الأرضة، وتعمر كثيرا، ولذلك يجعلونها في السّقوف بخلاف بقية الأشجار، إذ لا يوجد فيها ما يوجد في النّخل من المنافع «وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ» التين ويدخل فيه كافة الحبوب «وَالرَّيْحانُ» (١٢) ذو الرّائحة الطّيبة وكلّ ذي ريح طيب من النّبات والأزهار يطلق عليه ريحان وهو نبات مخصوص معروف في
56
كافة البلاد الشّرقية بهذا الاسم وفي لغة حمير يقال له الرّزق فهذا وما تفرع عنه يخرج من الأرض المخلوقة بما فيها لكم أيها الثقلان «فَبِأَيِّ آلاءِ» نعم وأفضال «رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (١٣) أيها الإنس والجن، وقد كرر الله تعالى هذه الآية في هذه السّورة إحدى وثلاثين مرة ولم تذكر في غير هذه السّورة أبدا في جميع القرآن، وإنما وقع هذا التكرار تقريرا لنعم الله وأفضاله على خلقه، وتأكيدا على التذكير بها، وتنبيها على لزوم شكرها، وليتفكر الثقلان فيها فيفهم قدرها ويعظم أمرها ويحمد التفضل بها. أخرج الترمذي عن جابر قال خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرّحمن فسكتوا، فقال لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن منكم ردّا، كنت كلما أتيت على قوله تعالى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد. وليس المراد بقوله صلّى الله عليه وسلم (ليلة الجن) اجتماعه بهم أول مرة كما ذكرنا أول سورة الجن في ج ١، ولا ما ذكرناه في الآية ٢٩ من سورة الأحقاف في ج ٢ بل هو اجتماع آخر إذ ثبت اجتماعه بهم ستّ مرات فيما أظهر لأصحابه رضوان الله عليهم، أما اجتماعه بهم فيما لم يطلع عليه أصحابه فلا يعلم مداه، وهذا الاجتماع بالمدينة، وذلك في مكة.
مطلب كيفية خلق آدم عليه السّلام وخلق الجان ومعجزات القرآن في المشرقين والمغربين وكيفية التقاء البحرين ومعنى كلّ يوم هو في شان:
«خَلَقَ الْإِنْسانَ» آدم عليه السّلام «مِنْ صَلْصالٍ» طين يابس إذا ضربته بعضه يصلصل أي بصوت فكان من شدة جفائه «كَالْفَخَّارِ» (١٤) الطّين المصنوع لبنا المطبوخ بالنار، وقد ذكرنا في الآية ٨ من سورة النّساء المارة إذ لا خلاف في آي القرآن بمثل هذه الألفاظ، لأن المعنى بينها متقارب بعضه من بعض، ولا منافاة بين هذه وبين آية خلقه من تراب أو من طين أو من حما مسنون الواردة في السّور الأخرى، لأن التراب جعل طينا ولما اختلط بالماء وعجن ضار لازبا، ولما اختمر صار حمأ، فلما زادت خمرته صار مسنونا أي طينا أسود منتنا، فلما يبس صار صلصالا، ثم خلق زوجته حواء من أقصر أضلاعه اليسرى، وجميع
57
الخلق من بعدها سلائل ذريتها إلى يوم القيامة «وَخَلَقَ الْجَانَّ» أي أصله أيضا وهو إبليس عليه اللّعنة أبو الجان فما بعده أيضا، وجاء ذكره بمقابلة ذكر آدم عليه السّلام أبي البشر كما مر مثل هذا في الآيتين ٢٧ و ٢٨ من سورة الحجر في ج ٢ «مِنْ مارِجٍ» لهب صاف من الدّخان «مِنْ نارٍ» (١٥) وهو لهيبها الأحمر فالأخضر فالأصفر فالأزرق الصّافي من الدّخان الذي يكون بين جمرها بعد استوائه «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (١٦) لا بشيء من نعمك ربنا نكذب بل نصدق بها ونثني عليك بالحمد والشّكر ما حيينا «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ» (١٧) لم تأت هاتان اللّفظتان في الكتب السّماوية كلها غير القرآن.
واعلم أنه قبل اكتشاف أمريكا لم يكن أحد يعلم أن الأرض مشرقين ومغربين، فاعتبروا أيها النّاس، واعلموا أن القرآن جمع فأوعى، وفيه علوم الأولين والآخرين منها ما كشف ومنها ما لم، فمشرق الصّيف غابة ارتفاع الشّمس وانحيازها لجهة الشّمال ومشرق الشّتاء نهاية انحطاطها وجنوحها لجهة القبلة أي الجنوب ويقابلها المغربان وانحيازهما على العكس من جنوح المشرقين نحو القبلة والشّمال، وهذا بالنسبة لما نرى نحن أهل القطر، ولكل قطر ما يراه أهله من هذا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ١٨ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ» (١٩) الملح والعذب في مصب واحد كالأنهر الحلوة حينما تنصب في الأبحر، أي أنه تعالى أجراهما وأرسلهما في المرج حتى جعلهما يجتمعان «بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» (٢٠) بعضهما على بعض فيختلطان ويكونان كالشيء الواحد، فتنعدم من الحلو المنفعة. وقيل إن المراد بحر الرّوم وبحر الهند والحاجز بينهما نحن. وقيل بحر فارس والرّوم والبرزخ الذي بينهما هو الجزائر، وإنهما يلتقيان في المحيط إلّا أنهما خليجان يتشعبان فيكونان شيئا واحدا وقبله كانا متباينين
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ» (٢٢) أي من كلّ منهما لا من المالح فقط كما هو ظاهر الآية، خلافا لما قاله بعض المفسرين باختصاص المالح فقط، لأن العذب يخرج منه الصّدف، وقد يوجد فيه اللّؤلؤ أيضا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ» السفن الكبار الجاريات فيهما أيضا «الْمُنْشَآتُ» المحدثات بإحداث البشر وأصلها
58
سفينة نوح عليه السّلام والفضل للبادي، وهذه المراكب الفخمة وليدتها وفرع عنها حيث تدرج البشر في صنعها حتى بلغ منها الغاية القصوى مما يحمل بعضها ما لا يتصوره العقل من الأثقال، فصارت الواحدة منها كالجبال مصداقا لقوله تعالى فتراها «فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ» (٢٤) الجبال الشّامخات فكل ما بالغوا في عظم صنعها لا تبلغ قدر بعض الجبال، ويطلق لفظ الأعلام على الأشياخ، قال ابن الفارض:
نصبت في موكب العشاق أعلامي وكان قبلي بلي بالعشق اعلامي
أي أشياخي، وهو أيضا جمع علم بمعنى الرّاية التي توضع على دور الحكومة، وتحمل في الحروب، كما أن أصل هذه القطارات والسّيارات والدّبابات هو العجلة، وقد تدرجوا في صنعها أيضا وتحسينها وتكبيرها وتسريع حركاتها أيضا حتى بلغت ما ترى إذ طاروا بالسماء بسرعة خارقة، فكل هذه فرع عنها، وكلها من خلق الله القائل (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية ٩٦ من الصّافات، والآية ٨ من النّحل في ج ٢ نظيرتها في المعنى، راجع الآية ٢٥ من سورة الحديد المارة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» (٢٦) إنسانا كان أو حيوانا نباتا أو بناء فكل ما على الأرض مصيره الفناء «وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ» ذاته وحده «ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (٢٨) أخرج الترمذي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (الزموا وتمسّكوا) بيا ذا الجلال والإكرام أي أكثروا من ذكر هذه الجملة العظيمة من صفاته عزت وعلت والالتجاء إليه والاستغاثة به فإنه تعالى يغيثكم بكرمه وفضله.
قال تعالى وهو ابتداء كلام آخر، لأن الأوّل ختم بفناء الكون وبقاء الكون جل جلاله «يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» سؤال استعطاء من إنس وجن وملك يطلبون رحماه بلسان المقال، وبقية خلقه من نبات وجماد بلسان الحال يرجون لطفه، ولا غنى لشيء ما عن عطفه، وقد أسهبنا البحث فيما يتعلق في هذا في الآية ١٤ من سورة الإسراء ج ١ فراجعها. وهو جل شأنه «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» (٢٩) ولا يشغله شأن عن شأن، وهذه الآية فيها رد على اليهود القائلين إن الله تعالى لا يقضي بشيء يوم السّبت، وهو يقول عزّ قوله كل
59
يوم، فلم يستثن جمعة ولا سبتا ولا أحدا، وهي شؤون عظيمة يبديها ولا يبتديها كما هي في أزله من إحياء وإماتة، وعز وذل وفقر وغنى، وصحة ومرض، وبسط وقبض، وسرور وحزن، وقيد وإفراج، وخير وشر، ونفع وضر، وما لا يحصى، لأن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال جاء الخضر عليه السلام بصورة رجل إلى عالم يحدث في المسجد وقد تطرق إلى تفسير هذه الآية، فسأله ما شأن ربك اليوم؟ فلم يقدر أن يعطيه جوابا فبقي مهموما نهاره وليله وهو يقدح فكرته لنسج جواب صالح فلم يوفق، فنام على حالته هذه فرأى المصطفى صلّى الله عليه وسلم فأخبره به، فنهض فرحا مسرورا، وبكر إلى الجامع وطفق يحدث، فجاءه السائل وسأله ثانيا، فقال له ما تلقاه وهو (يرفع أناسا ويخفض آخرين) فقال له صلّ على من علمك. وما يقرب من هذه الحادثة هو أن عالما قال في جملة حديثه الحيا من الإيمان وأسنده لحضرة الرّسول، وفي نومه رأى حضرة الرّسول فقال له ما قلت هذا فأفاق مرعوبا، وراجع مالديه من الصّحاح فوجد الحديث، وسأل من لديه من العلماء، فأجابوه به، ثم نام فرأى حضرة الرّسول فقال ما قلت، ثم ذهب إلى مصر فأجابه علماؤها بصحة الحديث، ثم نام فرأى حضرة الرّسول فقال ما قلت، ثم ذهب إلى المدينة المنورة وقص قصته على علمائها ففطن له بعضهم فقال الحيا هو المطر، ولم يكن من الإيمان، وإنما الحياء بالمد والهمزة هو من الإيمان وقد صدق المصدق باخبارك لأنك لم تتيقظ لهذه النّكتة فتنبه لغلطه، ونام فرأى حضرة الرّسول فقال له نعم قلت هذا الحديث كما تفطن له من سألته وعفا الله عنك اه شرح البردة للخربوطلي
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ» (٣١) فيها وعيد شديد وتهديد عظيم كقولك لمن تريد الإيقاع به سأفرغ لك. وليس فراغ الله بفراغ عن شغل، لأن هذا من شأن الخلق به سأفرغ لك. وليس فراغ الله بفراغ عن شغل، لأن هذه من شأن الخلق وهو منزه عن ذلك، وإنما هو إنظار الخلق لأجل قدره عليهم من إنجاء وإهلاك وغيرهما. وسمي الانس والجن ثقلين لإثقالهما الأرض أحياء وأمواتا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» جوانبها وأطرافها هربا من قضائي
60
عليكما «فَانْفُذُوا» إن كنتم قادر بن ولكنكم «لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ» (٣٣) عظيم وقوة قاهرة وليس لكم ذلك وأنى لكم هذه الغلبة على النّفوذ، بل أنتم عاجزون عنه وقدم الجن هنا على الإنس لأنهم أقدر على النّفوذ وأقوى من الإنس لا لفضلهم إذ لم يقل أحد به ولهذا قدم الإنس في الآية ٨٨ من سورة الإسراء ج ١ لأنه فيها أقدر من الجن ولو أنه لا قدرة له عليه، فعلى الّذين يريدون الصّعود إلى القمر أو المريخ كما يزعمون إن الصّعود إليهما بإمكانهم وهما في أقطار السّماء، والّذين يريدون اختراق القطب المتجمد الذي هو في أقطار الأرض أن يستحضروا مالديهم من قوة قاهرة للتوصل الى ذلك، لأن الله تعالى يقول إن هذا النفوذ من الممكنات لا تقدرون عليه إلّا بسلطان، ومن أين لكم هذا السّلطان الذي ذكره الله، بما يدل على وصفه بالعظمة، لأن العظيم لا يقوم إليه إلّا شيء عظيم، وقد صار لهؤلاء المتنطعين مئات السنين وهم يتغنون بالصعود للقمر والمريخ وغيره ويحتجون بأنهم لم يستكملوا بعد هذه القوة الكافية الدّافعة للوصول إليهما، ولهذا فيجدر أن يقال لهم إنكم عاجزون عن ذلك، لأن هذا وإن كان العقل يجوزه بالنسبة لما حدث في هذا القرآن من العجائب والغرائب إلّا أنه متوقف على قوة عظيمة لم يتسن للبشر إدراكها، وما على البشر بعد بذل جهده ووسعه في ذلك وعدم تمكنه منه إلا أن يظهر عجزه عن ذلك، وعن القول بأن كلا من هذه الكواكب كرة أرضية مسكونة رجما بالغيب، لأن أحدا لم يرها ولم يخبر عنها من يؤخذ بقوله من الأنبياء الّذين أطلعهم الله على بعض غيبه وأخبروا به قيل وقوعه، فضلا عن أن كلّ ما لا يرى عيانا يكون من الأمور الحدسية الغالب عليها الكذب، وما كان كذلك فلا ينبغي للعاقل أن يقطع بصحته «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ٣٤ يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ» لهب خالص لا دخان فيه «مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ» دخان محض لا لهب فيه، هذا فإن قيل من أين عرف هذا الأوربيون حتى اخترعوا الغيوم من الدّخان وغيره بحيث يمتنعون عن الرّؤية في البر والبحر والسّماء؟
فالجواب أنهم عرفوه لأنه من لوازم الحياة الدّنيا، وكلّ ما هو من هذا القبيل قد يطلعهم الله عليه. قال تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية ٨ من
61
سورة الرّوم في ج ٢ وعند ما يفعل الله ذلك بكم أيها الثقلان «فَلا تَنْتَصِرانِ» (٣٥) منه إذ لا يقدر على دفعه عنكم إلّا الذي أرسله عليكم «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ» (٣٧) حمراء مذابة كدر، رديء الزّيت قال تعالى (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) الآية ٩ من سورة المعارج في ج ٢ والمهل هو النّحاس المذاب «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ٣٨ فَيَوْمَئِذٍ» حين يضيق عليكم في ذلك اليوم العظيم، فلا تقدرون على الهرب، ويرسل عليكم لهب النّار ودخلنها وتنهار السّماء «لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» (٣٩) لأن في هذا الموطن تخرس الألسن وتنطق الجوارح بما فعلت وتنشر الصّحف بما كان من الخلائق، وقد علم الله كلّ ذلك وأعلمه لخلقه ويشتد اهول لما يرى النّاس من قبائح أعمالهم وما يرون من أهوال العذاب الكائن للمجرمين، وهذا لاينافي قوله تعالى (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) الآية ٩٢ من سورة الحجر في ج ٢ لأن أحوال القيامة مختلفة، فمرة يسأل فيها النّاس عن أعمالهم، وأخرى يتخاصمون بينهم، وتارة يمنعون من الكلام، وأخرى يسكتون، وطورا تسأل أعضاؤهم وتارة تنطق بنفسها، فهو يوم شديد يشيب منه الوليد وترتعد لهوله الفرائض
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ» زرقة عيونهم واسوداد وجوههم، حمانا الله من ذلك «فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي» منهم تارة «وَالْأَقْدامِ» (٤١) أخرى ويزجون في النّار «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (٤٢) ثم يقال لهم من قبل ملائكة العذاب «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ» (٤٣) أمثالكم تبكيتا وتقريعا لهم «يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ» (٤٤) ماء بالغ أقصى حرارته لأنهم إذا استغاثوا من عذاب النار أغيثوا بالحميم وبالعكس «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (٤٥).
مطلب أن الآيات نقم على أناس، نعم على آخرين ومزية الخوف من الله تعالى:
واعلم أن هذه الآيات من قوله تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) إلى هنا كما أنها نقم على العصاة هي مواعظ أيضا وزواجر يخوف الله بها عباده كي يتباعدوا عن الأسباب المؤدية إليها، فإذا اتعظوا كانت عليهم نعما، ولذلك ختمت بالآية المكررة
62
الواقعة موقع الاستفهام عن نعمه تعالى على عباده. وبعد أن ذكر جل ذكره ما أوعد به الكافرين أعقبه ببيان ما وعد به المؤمنين فقال «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ» (٤٦) واحدة لقاء عمله في الدّنيا من طاعة وصدقة وبرّ وتركه المعاصي خوفا من الله وعمله الطّاعات طمعا بفضل الله، وأخرى تفضلا منه تعالى إيفاء بوعده المبين بقوله جل قوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) الآية ٢٧ من سورة يونس في ج ٢، لأنه لا يخافه حق خوفه إلّا العارف العالم. قال تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية ٢٨ من سورة فاطر، والآية ٥٧ من سورة الإسراء في ج ١ الدّالتين على أن الأقرب من الله أشد خوفا منه من غيره أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من خاف أدلج (الإدلاج بالتخفيف السّير أول اللّيل وبالتشديد آخره) ومن أدلج بلغ المنزل، ألا ان سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنّة. وروى البغوي بسنده عن أبي ذر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) أي موقفه يوم الحساب بين يدي ربه، فمن حسب حسابه واتقى ربه في الدّنيا يكون له في الآخرة جنتان، فقلت وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال وإن زنى وإن سرق، ثم قال (لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت الثانية وإن زنى وإن سرق؟ فقال وإن زنى وإن سرق، ثم قال (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت الثالثة وإن زنى وإن سرق يا لرسول الله؟ قال وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبى ذر. «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ» (٤٨) أغصان مستطيلة كثيرة، والفنّ الغصن من الشّجرة المستقيمة طولا قال:
ومن كلّ أفنان اللّذاذة والصّبا لهوت به والعيش أخضر ناضر
وفي كلّ غصن من أغصان تلك الجنان فنون من الفواكه، مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ومن هنا أخذ تطعيم الأشجار المتقاربة في الثمر الذي عرفه خبراء الزراعة حديثا وطبقوه؟ فأمكن لهم أن يطعموا شجرة واحدة بأنواع مما يشابهها فتأكل من الشّجرة الواحدة أصنافا من الفاكهة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ» (٥٠) على أرضهما بلا أخدود الأولى التسنيم المذكورة
63
في الآية ٢٧ من المطففين المارة في ج ٢، والثانية السّلسبيل المبين في الآية ١٩ من سورة الإنسان الآتية
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ» (٥٢) رطب ويابس كما يوجد الآن في البرتقال فإنه قد يجتمع فيه ثمر السّنة الماضية والحالية وفي الآخرة كلّ أشجارها كذلك فترى فيها العتيق والجديد بآن واحد، فلا يضر الثمر قدمه ولا يغير لونه وطعمه بخلاف ما في الدّنيا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ» فيهما «عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ» ديباج ثخين من الحرير وقد أخبرنا الله عن البطائن التي تلى الإنسان بأنها من ذلك النّوع فما بالك بالظهائر التي تبرز للعيان، اللهم أرناها ومتعنا والمؤمنين فيها برضاك المؤدي إليها برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
«وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ» (٥٤) قريبا من يد المتناول القاعد والقائم والمضطجع سواسية في تناوله، لأن الأثمار التي فيها القديم والحديث هي التي تدنو من طالبها حتى تصير أمامه «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ» على أزواجهن لا ينظرن غيرهم وجمع الضّمير مع أنه يعود إلى الجنتين، لأن كلا منهما فيها قصور ومجالس متعددة أو أنه من قبيل إطلاق الجمع على ما فوق الواحد كما مرّ في الآية ٧٨ من سورة الأنبياء في ج ٢ وفيما ترشدك إليه «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ» يمسسهن وينلهن أو يقربهن «إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» (٥٦) قال الفرزدق:
خرجن إلي لم يطمئن قبل وهن أصح من بيض النّعام
تشير هذه الآية إلى أن الجن كالإنس في مقاربة النّساء وأن لهم نساء من جنسهم، وهو كذلك، لأنهم يتوالدون في الدّنيا. وقيل إن منهم من يتزوج بإنسي، كما أن من الإنس من يتزوج بجنية، ولهذا قالوا إن بلقيس أمها من الجن، راجع الآية ٤٥ من سورة النّمل في ج ١ «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ» (٥٨) صفاء وبياضا وحمرة، أخرج الترمذي عن ابن مسعود أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن المرأة من نساء أهل الجنّة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة يرى مخها، وذلك أنك إذا أدخلت سلكا في الياقوت رأيته من ورائه وكذلك سوق النّساء من أهل الجنّة، وروى البخاري
ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أول زمرة تلج الجنّة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، ثم الّذين يلونهم على أشد كوكب في السّماء إضاءة، لا يبصقون ولا يمخطون ولا يتغوطون، آنيتهم من الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب، ومجامرهم الألوة (أي مباخرهم وبخورهم فيها العود ولكن ليس كعود الدّنيا) رشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللّحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشية، وزاد البخاري ولا يسقمون. قال سعيد بن جبير هذا من جملة ما قال تعالى (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) الآية ١٧ من سورة السّجدة في ج ٢ «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ٥٩ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» (٦٠) روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك قال قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هل جزاء الإحسان إلّا الإحسان الآية، ثم قال هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنّة؟ وذلك لأن من أتى بالحسن يقابل بمثله وأحسن عند أهل الدّنيا للمنصفين فكيف عند رب العالمين
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (٦١) وقال بعض المفسرين أن الجنتين المتقدمتين واحدة للإنس وواحدة للجن، ولكن ما جرينا عليه أولى لما تقدم في الآية ٢٧ من سورة الأعراف ج ١ بأن الجن يكونون بفناء الجنّة. ثم ذكر الله تعالى جنتين أخريين بقوله «وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ» (٦٢) أي أمامها وقبلها أفضل منهما، لأن الجنتين الأوليين لأصحاب اليمين وهاتين للمقربين اللهم أهلنا لأيهما شئت «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (٦٣) روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم أن ينظروا إلى ربهم إلّا رداء الكبرياء على وجهه في عدن. ثم بدأ يصفهما كما وصف أولاهما آنفا فقال «مُدْهامَّتانِ» (٦٤) لشدة خضرتهما صارا يقربان إلى السّواد «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ» (٦٦) فوارتان تدفعان الماء إلى العلو مثل المضخات الموجودة الآن، ولكن هذه بآلة وتعب وتكاليف ومعرضة
للخراب ولمسافة معلومه وتلك بقدرة القادر أبدية طبيعية مسافتها كما يشتهي طالبها والنّاظر إليها إن أراد أن ترتفع مدى النّظر ارتفعت وإن أراد أن تنحط انحطت حسبما يستحسنه الرّائي ويتمناه المتمني ولا تحتاج إلى شيء «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ» (٦٨) ومن أنواعهما ألوان، وإنما خصهما لأن التمر فاكهة وغداء والرّمان فاكهة ودواء وفائدة عطفهما على الفاكهة مع دخولهما فيها لما ذكرنا ولفصلها على جميع الفواكه كما يشير إليه تنوين التنكير فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ» بالأخلاق والآداب حِسانٌ» (٧٠) بالوجوه وتناسب الأعضاء ويظهرن لأزواجهن حسبما يرغبون
وهذا من بعض نعم ربك عليك أيها الإنسان «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (٧١) وهؤلاء الموصوفات «حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ» (٧٢) المنسوجة من الذهب والفضة الموشاة باللؤلؤ والدّرر والزبرجد والمرجان وغيرها، لا يخرجن منها لكرامتهن وشرفهن يبقين في خدورهن، وهذه الخيام ليست كخيام الدّنيا لأنها واسعة مدى النظر، وفيها الجنان والمياه ومحال التنزه غير السّكن. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن للمؤمن في الجنّة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السّماء، وفي رواية عرضها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم، فلا يرى بعضهم بعضا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (٧٣) وهؤلاء الحسان أيضا كالأول من حيث «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» (٧٤) أي قبل زواجهن أي أنهن أبكار ولا يعدهن أيضا لأنهم لا يتركونهن ولا يطلقونهن وحذف من الثاني بدلالة الأوّل كما يحذف من الأوّل بدلالة الثاني، راجع الآية ٣٥ من سورة الرّعد المارة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ» وسائد «خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ» (٧٦) أي زرابي وطنافس جميلة جدا وكلّ نفيس جميل تسمية العرب عبقري نسبة إلى عبقر، قيل هي أرض تسكنها الجن، فصارت مثلا لكل منسوب إلى شيء رفيع فاخر عجيب، وذلك أن العرب تعتقد في الجن كلّ صنعة غريبة، وينسبون كلّ شيء عجيب إليهم لاعتقادهم بأنهم يأتون بكل عجيب لما بلغهم عن أعمالهم لسيدنا سليمان
Icon