تفسير سورة الرحمن

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مدنية وآياتها ٧٨ آية

[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)
وَنَهَرٍ وأنهار، اكتفى باسم الجنس. وقيل: هو السعة والضياء من النهار. وقرئ بسكون الهاء. ونهر: جمع نهر، كأسد وأسد فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مكان مرضىّ. وقرئ:
في مقاعد صدق عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ مقرّبين عند مليك مبهم أمره في الملك والاقتدار، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته، فأى منزلة أكرم من تلك المنزلة وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القمر في كل غب «١» بعثه الله يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر» «٢»
سورة الرحمن
مدنية وآياتها ٧٨ [نزلت بعد الرعد] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١ الى ١٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣)
(١). قوله «في كل غب بعثه الله» في الصحاح «الغب» : أن ترد الإبل الماء يوما وتدعه يوما. والغب في الزيارة: قال الحسن: في كل أسبوع. (ع)
(٢). أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.
442
عدّد الله عز وعلا آلاءه، فأراد أن يقدّم أوّل شيء ما هو أسبق قد ما من ضروب آلائه «١» وأصناف نعمائه، وهي نعمة الدين، فقدّم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها وأقصى مراقيها:
وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه، لأنه أعظم وحى الله رتبة، وأعلاه منزلة، وأحسنه في أبواب الدين أثرا، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها والعيار عليها، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره، ثم أتبعه إياه: ليعلم أنه إنما خلقه الدين، وليحيط علما بوحيه وكتبه وما خلق الإنسان من أجله، وكأن الغرض في إنشائه كان مقدّما عليه وسابقا له، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان، وهو المنطق الفصيح «٢» المعرب عما في الضمير والرَّحْمنُ مبتدأ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه؟ بِحُسْبانٍ بحساب معلوم وتقدير سوىّ تَجْرِيانِ في بروجهما ومنازلهما. وفي ذلك منافع للناس عظيمة: منها علم السنين والحساب وَالنَّجْمُ والنبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول وَالشَّجَرُ الذي له ساق. وسجودهما: انقيادهما لله فيما خلقا له، وأنهما لا يمتنعان، تشبيها بالساجد من المكلفين في انقياده. فإن قلت: كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمن؟ قلت: استغنى فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي، لما علم أن الحسبان حسبانه، والسجود له لا لغيره، كأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه، والنجم والشجر يسجدان له. فإن قلت: كيف أخل بالعاطف في الجمل الأول، ثم جيء به بعد؟ قلت:
بكت بتلك الجمل الأول واردة على سنن التهديد، ليكون كل واحدة من الجمل مستقلة في تقريع الذين أنكروا الرحمن وآلاءه، كما يبكت منكر أيادى المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال الذي قدّمته، ثم ردّ الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب
(١). قال محمود: «عدد الله عز وجل آلاءه فأراد أن يقدم أول شيء ما هو أسبق قد ما في ضروب آلائه... الخ» قال أحمد: نغير من هذا الكلام قوله: أن خلق الإنسان كان الغرض فيه. أى المراد منه: أن يحيط علما بالكتب والوحى، ويعوض بأن المراد بخلقه: أن يدعى إلى ذلك، لا أن يقع ذلك منه، فهذا هو المراد العام، ثم منهم من أراد الله منه أن يحيط علما بالدين فيسر له ذلك، ومنهم من أراد ضلالته وجهالته فبعد عنه ولم يوفق، والله الموفق الصواب.
(٢). قال محمود: «ثم ذكر ما تميز به عن سائر الحيوان من البيان، وهو المنطق الفصيح المعرب... الخ» قال أحمد: وإنما خص الجمل الأول بذكرها تبكيتا للإنسان لأجل التصاق معانيها به، ألا ترى أنه مذكور فيها نطقا وإضمارا وحذفا مدلولا عليه في الكلام، فهو منطوق به مظهرا في قوله خَلَقَ الْإِنْسانَ ومضمرا في قوله عَلَّمَهُ الْبَيانَ ومدلولا على حذفه في قوله عَلَّمَ الْقُرْآنَ فانه المفعول الثاني، أما قوله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ فليس للإنسان فيهما ذكر البتة، وجل المقصود من سياقهما التنبيه على عظمة الله تعالى.
443
بالعاطف. فإن قلت: أى تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف؟ قلت: إنّ الشمس والقمر سماويان، والنجم والشجر أرضيان، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل، وأنّ السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين، وأن جرى الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله، فهو مناسب لسجود النجم والشجر وقيل: عَلَّمَ الْقُرْآنَ جعله علامة وآية.
وعن ابن عباس رضى الله عنه: الإنسان آدم. وعنه أيضا: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن مجاهد النجم: نجوم السماء وَالسَّماءَ رَفَعَها خلقها مرفوعة مسموكة، حيث جعلها منشأ أحكامه، ومصدر قضاياه، ومتنزل أوامره ونواهيه، ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه، ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه وَوَضَعَ الْمِيزانَ وفي قراءة عبد الله: وخفض الميزان، وأراد به كل ما توزن به الأشياء وتعرف مقاديرها من ميزان وقرسطون ومكيال ومقياس، أى خلقه موضوعا مخفوضا على الأرض: حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم أَلَّا تَطْغَوْا لئلا تطغوا. أو هي أن المفسرة. وقرأ عبد الله: لا تطغوا بغير أن، على إرادة القول وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وقوّموا وزنكم بالعدل وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ ولا تنقصوه: أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان.
وكرّر لفظ الميزان: تشديدا للتوصية به، وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه. وقرئ.
والسماء. بالرفع. ولا تخسروا بفتح التاء وضم السين وكسرها وفتحها. يقال: خسر الميزان يخسره ويخسره، وأمّا الفتح فعلى أن الأصل: ولا تخسروا في الميزان، فحذف الجار وأوصل الفعل. ووَضَعَها خفضها مدحوّة على الماء لِلْأَنامِ للخلق، وهو كل ما على ظهر الأرض من دابة. وعن الحسن: الإنس والجنّ، فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها فاكِهَةٌ ضروب مما يتفكه به، والْأَكْمامِ كل ما يكم أى يغطى من ليفة وسعفة وكفرّاة «١» وكله منتفع به كما ينتفع بالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه. وقيل الأكمام أوعية التمر: الواحد كم. بكسر الكاف. والْعَصْفِ ورق الزرع، وقيل التبن وَالرَّيْحانُ الرزق وهو اللب: أراد فيها ما يتلذذ به من الفواكه والجامع بين التلذذ والتغرى وهو ثمر النخل، وما يتغذى به وهو الحب.
وقرئ: والريحان، بالكسر. ومعناه: والحب ذو العصف الذي هو علف الأنعام، والريحان الذي هو مطعم الناس. وبالضم على: وذو الريحان. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
(١). قوله «وسعقة وكفراة» الذي في الصحاح «الكفرى بلا تاء، وأنها وعاء الطلع اه، فلعل عبارة المفسر من ليفه وسعفه وكفراه باضافة كل إلى ضمير النخل، كما سيأتى في ثمره وجماره وجذوعه، والناسخ توهم أنها هاء التأنيث فتقطها فوق. (ع) [.....]
444
وقيل: معناه وفيها الريحان الذي يشم، وفي مصاحف أهل الشأم: والحب ذو العصف والريحان، أى: وخلق الحب والريحان: أو وأخص الحب والريحان. ويجوز أن يراد: وذا الريحان، فيحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه، والخطاب في رَبِّكُما تُكَذِّبانِ للثقلين بدلالة الأنام عليهما. وقوله سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١٤ الى ١٦]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦)
الصلصال: الطين اليابس له صلصلة. والفخار: الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف. فإن قلت: قد اختلف التنزيل في هذا، وذلك قوله عزّ وجل مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، مِنْ طِينٍ لازِبٍ، «من تراب». قلت: هو متفق في المعنى، ومفيد أنه خلقه من تراب: جعله طينا، ثم حمأ مسنونا، ثم صلصالا. والْجَانَّ أبو الجن. وقيل: هو إبليس. والمارج: اللهب الصافي الذي لا دخان فيه. وقيل: المختلط بسواد النار، من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط.
فإن قلت: فما معنى قوله مِنْ نارٍ؟ قلت: هو بيان لمارج، كأنه قيل: من صاف من نار.
أو مختلط من نار أو أراد من نار مخصوصة، كقوله تعالى فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١٧ الى ١٨]
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨)
قرئ: رب المشرقين ورب المغربين، بالجر بدلا من رَبِّكُما وأراد: مشرقى الصيف والشتاء ومغربيهما.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١٩ الى ٢٣]
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين، لا فصل بين الماءين في مرأى العين بَيْنَهُما بَرْزَخٌ حاجز من قدرة الله تعالى لا يَبْغِيانِ لا يتجاوزان حدّيهما ولا يبغى أحدهما على الآخر بالممازجة. قرئ يخرج ويخرج من أخرج. وخرج. ويخرج:
أى الله عز وجل اللؤلؤ والمرجان بالنصب. ونخرج، بالنون. واللؤلؤ: الدرّ. والمرجان: هذا الخرز الأحمر وهو البسذ. وقيل: اللؤلؤ كبار الدرّ. والمرجان: صغاره. فإن قلت: لم قال
مِنْهُمَا وإنما يخرجان من الملح «١» ؟ قلت: لما التقيا وصارا كالشىء الواحد: جاز أن يقال:
يخرجان منهما، كما يقال يخرجان من البحر، ولا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه.
وتقول: خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله، بل من دار واحدة من دوره.
وقيل: لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥)
الْجَوارِ السفن. وقرئ: الجوار بحذف الياء ورفع الراء، ونحوه:
لها ثنايا أربع حسان وأربع فكلها ثمان «٢»
والْمُنْشَآتُ المرفوعات الشرع «٣». وقرئ بكسر الشين: وهي الرافعات الشرع أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهنّ. والأعلام: جمع علم، وهو الجبل الطويل.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨)
عَلَيْها على الأرض وَجْهُ رَبِّكَ ذاته، والوجه يعبر به عن الجملة والذات «٤»، ومساكين مكة يقولون: أين وجه عربى كريم ينقذني من الهوان. وذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ صفة الوجه.
وقرأ عبد الله: ذى، على: صفة ربك. ومعناه: الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم «٥».
(١). قال محمود: «إن قلت لم قال منهما وإنما يخرجان من الملح... الخ» قال أحمد: هذا القول الثاني مردود بالمشاهدة، والصواب هو الأول، ومثله لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ وإنما أريد إحدى القريتين، هذا هو الصحيح الظاهر، وكما تقول: فلان من أهل ديار مصر، وإنما بلده محلة واحدة منها.
(٢). الثنايا: مقدم الأسنان، وظاهر البيت أنها أربع من فوق وأربع من تحت، فكل ثناياها ثمان.
وروى: فثغرها ثمان، وهذه الرواية تناسب ما اشتهر من أن الثنايا اثنان من فوق واثنان من تحت فهي أربع، ويليها مثلها رباعيات، ويليها مثلها أنياب، ويليها مثلها ضواحك، وما بقي أضراس. ثم نواجذ. وعامل المنقوص معاملة الصحيح، فرفع ثمان خبرا للمبتدإ، وصارت الياء المحذوفة نسيا منسيا.
(٣). قوله «والمنشآت المرفوعات الشرع» في الصحاح «الشراع» : شراع السفينة اه، فالشرع جمعه، ككتاب وكتب. (ع)
(٤). قال محمود: «الوجه يعبر به عن الذات ومساكين مكة يقولون... الخ» قال أحمد: المعتزلة ينكرون الصفات الالهية التي دل عليها العقل، فكيف بالصفات السمعية، على أن من الأشعرية من حمل الوجه واليدين والعينين على نحو ما ذكر، ولم ير بيانها صفات سمعية.
(٥). قوله «عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم» إجلاله عن أفعال الخلق مبنى على مذهب المعتزلة: أنه لا يخلق أفعال العباد. ومذهب أهل السنة: أنه هو الخالق لها. (ع)
أو الذي يقال له: ما أجلك وأكرمك. أو من عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده، وهذه الصفة من عظيم صفات الله، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألظوا «١» بياذا الجلال والإكرام» «٢» وعنه عليه الصلاة والسلام: أنه مر برجل وهو يصلى ويقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال: «قد استجيب «٣» لك». فإن قلت: ما النعمة في ذلك؟ قلت: أعظم النعمة وهو مجيء وقت الجزاء عقيب ذلك.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠)
كل من أهل السماوات والأرض مفتقرون إليه، فيسأله أهل السماوات ما يتعلق بدينهم، وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أى كل وقت وحين يحدث أمورا ويجدد أحوالا، كما روى عن رسول الله ﷺ أنه تلاها فقيل له: وما ذلك الشأن؟ فقال: «من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا، ويرفع قوما ويضع آخرين» «٤» وعن ابن عيينة: الدهر عند الله تعالى يومان، أحدهما: اليوم الذي هو مدّة عمر الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهى والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع. والآخر: يوم القيامة، فشأنه فيه الجزاء والحساب. وقيل: نزلت في اليهود حين قالوا: إنّ الله لا يقضى يوم السبت شيئا. وسأل بعض الملوك وزيره عنها فاستمهله إلى الغد وذهب كئيبا يفكر فيها، فقال غلام له أسود:
يا مولاي، أخبرنى ما أصابك لعل الله يسهل لك على يدي، فأخبره فقال له: أنا أفسرها للملك فأعلمه، فقال: أيها الملك شأن الله أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي
(١). قوله «ألظوا بياذا الجلال» أى: الزموا ذلك. اه صحاح. (ع)
(٢). أخرجه الترمذي من رواية يزيد الرقاشي. عن أنس ويزيد ضعيف، ومن رواية مؤمل عن حماد بن حميد عن أنس مرفوعا، وقال غيره مخفوضا وإنما هو عن حماد عن حميد عن الحسن مرسلا وهو أصح، وأخرجه من رواية مؤمل إسحاق وابن أبى شيبة، وبالثاني أبو يعلى والبزار قال ابن أبى حاتم عن أبيه: أخطأ فيه مؤمل، والصحيح ما رواه أبو سلمة عن حماد عن ثابت. وحميد عن الحسن مرسلا ورواه ابن مردويه من رواية روح بن عبادة عن حماد عن حميد عن أنس موصولا أيضا، وهذه متابعة قوية لمؤمل، وفي الباب عن ربيعة بن عامر بن نجاد أخرجه الحاكم، وفيه رشيد بن سعد، وهو ضعيف وعن ابن عمر أخرجه ابن مردويه وإسناده ضعيف
(٣). أخرجه الترمذي والبخاري في الأدب المفرد وأحمد والبزار والطبراني من طريق أبى الدرداء عن اللجلاج عن معاذ بن جبل فذكره.
(٤). أخرجه ابن ماجة وابن حبان والطبراني والبزار وأبو يعلى من حديث أبى الدرداء، وفي الباب عن ابن عمر أخرجه البزار بإسناد ضعيف. وعن عبد الله بن حبيب الأزدى. أخرجه البزار والطبراني وابن أبى حاتم قال البزار: لا أعلم أسند عبد الله بن حبيب إلا هذا الحديث.
من الميت ويخرج الميت من الحي، ويشفى سقيما ويسقم سليما، ويبتلى معافا ويعافى مبتلى، ويعز ذليلا ويذل عزيزا ويفقر غنيا ويغنى فقيرا، فقال الأمير: أحسنت وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة فقال: يا مولاي هذا من شأن الله. وعن عبد الله بن طاهر أنه دعا الحسين ابن الفضل وقال له: أشكلت على ثلاث آيات، دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ وقد صحّ أنّ الندم توبة وقوله تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ وقد صح أنّ القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقوله تعالى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى فما بال الأضعاف؟
فقال الحسين: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمّة. ويكون توبة في هذه الأمّة، لأنّ الله تعالى خص هذه الأمّة بخصائص لم يشاركهم فيها الأمم، وقيل إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل، ولكن على حمله، وأما قوله وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى فمعناه: ليس له إلا ما سعى عدلا، ولى أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا، وأما قوله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فإنها شئون يبديها لا شئون يبتدئها: فقام عبد الله وقبل رأسه وسوّغ خراجه،
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ مستعار من قول الرجل لمن يتهدده: سأفرغ لك، يريد: سأتحرّد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك، حتى لا يكون لي شغل سواه، والمراد: التوفر على النكاية فيه والانتقام منه، ويجوز أن يراد: ستنتهى الدنيا وتبلغ آخرها، وتنتهي عند ذلك شئون الخلق التي أرادها بقوله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغا لهم على طريق المثل، وقرئ: سيفرغ لكم، أى: الله تعالى، وسأفرغ لكم، وسنغفر بالنون مفتوحا ومكسورا وفتح الراء، وسيفرغ بالياء مفتوحا ومضموما مع فتح الراء، وفي قراءة أبىّ، سنفرغ إليكم، بمعنى: سنقصد إليكم، والثقلان: الإنس والجن، سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض،
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٣٣ الى ٣٦]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦)
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ كالترجمة لقوله: أيها الثقلان إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أن تهربوا من قضائي وتخرجوا من ملكوتي ومن سمائي وأرضى، فافعلوا، ثم قال: لا تقدرون على
النفوذ إِلَّا بِسُلْطانٍ يعنى بقوّة وقهر وغلبة، وأنى لكم ذلك، ونحوه وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وروى: أنّ الملائكة عليهم السلام تنزل فتحيط بجميع الخلائق، فإذا رآهم الجن والإنس هربوا، فلا يأتون وجها إلا وجدوا الملائكة أحاطت به. قرئ: شواظ ونحاس، كلاهما بالضم والكسر، والشواظ: اللهب الخالص.
والنحاس: الدخان، وأنشد:
تضيء كضوء سراج السّليط لم يجعل الله فيه نحاسا «١»
وقيل: الصفر المذاب يصب على رءوسهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر. وقرئ: ونحاس، مرفوعا عطفا على شواظ. ومجرورا عطفا على نار. وقرئ: ونحس: جمع نحاس، وهو الدخان، نحو لحاف ولحف. وقرئ: ونحس أى: ونقتل بالعذاب. وقرئ: نرسل عليكما شواظا من نار ونحاسا فَلا تَنْتَصِرانِ فلا تمتنعان.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٣٧ الى ٤٠]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠)
وَرْدَةً حمراء كَالدِّهانِ كدهن الزيت، كما قال: كالمهل، وهو دردىّ الزيت، وهو جمع دهن. أو اسم ما يدهن به كالحزام والإدام. قال:
كأنّهما مزادتا متعجل فريّان لمّا تدهنا بدهان «٢»
(١). النابغة الجعدي. والسليط: الشيرج، ولم يجعل: جملة حالية من السراج. والنحاس: الدخان. وشرط مجيء الحال من المضاف إليه موجود، لأن الضوء مثل جزئه، ولعله يصف وجه محبوبته التي قال فيها:
إذا ما الضجيع ثنى عطفها... البيت: شبهه بالسراج في الاضاءة، بقيد أن لا يكون فيه دخان، لأن ضوء وجهها كذلك.
فهو من التشهيه المقيد.
(٢). لامرئ القيس. والمزادة: قربة صغيرة يتزود فيها الماء للسفر. والفرى- وزن فعيل بمعنى مفعول، من فريت الجلد إذا شققته. ولما: حرف جزم ونفى كلم، إلا أنه يختص بتوقع منفية. ويروى: لما تلقا، أى: تدهنا، من سلقت الجلد إذا دهنته. والدهان: ما يدهن به، كالإدام ما يؤتدم به: شبه عينيه من كثرة البكاء بقربتى رجل متعجل، وهو من يأتى أهله بالاعجالة: وهي ما يعجله الراعي إلى أهله من اللبن قبل وقت الحلب.
ويمكن أن المعنى أنه مستعجل لم يصبر حتى يدبغهما ويدهنهما، فريان: مشقوقتان، أى على حالة سلخهما لم يدهنا بدهن قط. وقيل: معنى التعجل أنه لم يحكم ربطهما. فهما يذرفان ماء من فميهما لا من ثقويهما.
وقيل: الدهان الأديم الأحمر. وقرأ عمرو بن عبيد. وردة بالرفع، بمعنى: فحصلت سماء وردة، وهو من الكلام الذي يسمى التجريد، كقوله:
فلئن بقيت لأرحلنّ بغزوة تحوى الغنائم أو يموت كريم «١»
إِنْسٌ بعض من الإنس وَلا جَانٌّ أريد به: ولا جن، أى: ولا بعض من الجن، فوضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن، كما يقال: هاشم، ويراد ولده. وإنما وحد ضمير الإنس في قوله عَنْ ذَنْبِهِ لكونه في معنى البعض. والمعنى: لا يسألون لأنهم يعرفون بسيما المجرمين وهي سواد الوجوه وزرقة العيون. فإن قلت: هذا خلاف قوله تعالى فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وقوله وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ. قلت: ذلك يوم طويل وفيه مواطن، فيسألون في موطن ولا يسألون في آخر: قال قتادة: قد كانت مسألة، ثم ختم على أفواه القوم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. وقيل لا يسأل عن ذنبه ليعلم من جهته، ولكن يسأل سؤال توبيخ. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: ولا جأن، فرارا من التقاء الساكنين، وإن كان على حده.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٤١ الى ٤٥]
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥)
(١).
ومعى أسود من حنيفة في الوغى للبيض فوق رؤسهم توسيم
قوم إذا لبسوا الحديد كأنهم في البيض والحلق الدلاص نجوم
فلئن بقيت لأرجعن بغزوة نحو الغنائم أو يموت كريم
لقتادة بن مسلم الحنفي. والدلاص: اللينة الملساء. واستعار الأسود الشجعان على طريق التصريح، ثم قال: إنهم موسومون في الحرب بالمغافر حال كونها فوق رؤسهم. والمراد بالحديد: الدروع والمغافر والحلق الدروع وكانت بيضاء. فشبههم فيها بالنجوم للمعانها. أو كانت سوداء، فشبه وجوههم فيها بالنجوم في السماء، فالجامع مركب حسى، والفاء في قوله «فلئن بقيت» تدل على أن ما بعدها مسبب عما قبلها من توفر رجاله وشجاعتهم ومنعتهم، أى: والله لئن طال عمرى لأرجعن إلى الأعداء بغزوة أخرى تجمع الغنائم ونحوها، فنحو بالنون: فعل مضارع مجزوم في جواب شرط مقدر، أى: إن رجعنا إليهم بغزوة نجمع الغنائم منهم. وأما جواب إن المذكورة فمحذوف، دل عليه جواب القسم. وروى: لأرحلن بغزوة، أى: لأسافرن بغزوة، تحوى بالتاء وزيادة الياء، أى تجمع الغنائم وتحوزها. وإسناد العمل للغزوة، لأنها سبب الجمع والحيازة. ويجوز أن معناها الكتيبة، مبالغة في غزوها.
وروى نحوى بالنون مع الياء، أى: نجمع نحن ونحوز في تلك الغزوة، فالجملة صفة لغزوة. ويجوز أنه استئناف:
جواب لسؤال مصدر. وروى: نحو الغنائم بالنصب على الظرفية، أى جهة الغنائم. وأو بمعنى إلا، أى إلا أن يموت كريم يعنى نفسه، فهو من باب التجريد، كأنه انتزع من نفسه شخصا مثله في الشجاعة فأخبر عنه، والكرم هنا الشجاعة، لأنه في كل باب بحسبه، فليس خاصا بمقابل البخل. ومعنى الاستثناء راجع إلى معنى الجمع والحيازة، ولا يلزم من اشتراط البقاء في الذهاب اشتراط فيما يوجد عقبه فلا تكرار.
فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ عن الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره وقيل تسحبهم الملائكة: تارة تأخذ بالنواصي، وتارة تأخذ بالأقدام حَمِيمٍ آنٍ ماء حار قد انتهى حرّه ونضجه، أى: يعاقب عليهم بين التصلية بالنار وبين شرب الحميم. وقيل:
إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم. وقيل: إن واديا من أودية جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال، فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم، ثم يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقا جديدا. وقرئ: يطوّفون من التطويف. ويطوّفون، أى: يتطوّفون ويطافون. وفي قراءة عبد الله: هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان تصليان لا تموتان فيها ولا تحييان يطوفون بينها. ونعمة الله فيما ذكره من هول العذاب: نجاة الناجي منه برحمته وفضله، وما في الإنذار به من اللطف.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٤٦ الى ٥٥]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥)
مَقامَ رَبِّهِ موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم القيامة يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ونحوه لِمَنْ خافَ مَقامِي ويجوز أن يراد بمقام ربه: أن الله قائم عليه، أى حافظ مهيمن من قوله تعالى أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ فهو يراقب ذلك فلا يجسر على معصيته. وقيل: هو مقحم كما تقول: أخاف جانب فلان، وفعلت هذا لمكانك. وأنشد:
ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرّجل اللّعين «١»
(١). قوله «كالرجل اللعين» : هو شيء ينصب وسط الزرع لطرد الوحوش، كذا في الصحاح. اه عليان.
قلت: وتقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة ٢٠٥ فراجعه إن شئت اه مصححه.
يريد: ونفيت عنه الذئب. فإن قلت: لم قال جَنَّتانِ؟ قلت: الخطاب للثقلين، فكأنه قيل:
لكل خائفين منكما جنتان: جنة للخائف الإنسى، وجنة للخائف الجنى. ويجوز أن يقال: جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي، لأنّ التكليف دائر عليهما وأن يقال: جنة يثاب بها، وأخرى تضم إليها على وجه التفضل، كقوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ خص الأفنان بالذكر: وهي الغصنة «١» التي تتشعب من فروع الشجرة، لأنها هي التي تورق وتثمر، فمنها تمتد الظلال، ومنها تجتنى الثمار. وقيل: الأفنان ألوان النعم ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. قال:
ومن كل أفنان اللّذاذة والصّبا لهوت به والعيش أخضر ناضر «٢»
عَيْنانِ تَجْرِيانِ حيث شاءوا في الأعالى والأسافل. وقيل: تجريان من جبل من مسك.
وعن الحسن: تجريان بالماء الزلال: إحداهما التسنيم، والأخرى: السلسبيل زَوْجانِ صنفان: قيل: صنف معروف وصنف غريب مُتَّكِئِينَ نصب على المدح الخائفين. أو حال منهم، لأنّ من خاف في معنى الجمع بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ من ديباج ثخين، وإذا كانت البطائن من الإستبرق، فما ظنك بالظهائر؟ وقيل: ظهائرها من سندس. وقيل: من نور دانٍ قريب يناله القائم والقاعد والنائم. وقرئ: وجنى، بكسر الجيم.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٥٦ الى ٦١]
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١)
(١). قوله «وهي الغصنة» جمع غصن، كقرطة جمع قرط. أفاده الصحاح. (ع) [.....]
(٢). الأفنان: جمع فنن، وهو الغصن كثير الورق، فيكون شبه اللذات والصبا: بروضة أو شجرة ذات أفنان على طريق المكنية. وإثبات الأفنان: تخييل. ويجوز أنه جمع فن، أى: نوع وصف على غير قياس، كصحب وأصحاب. واللذاذات: جمع لذاذة، وهي اللذة. ويروى: اللذاذة بالافراد. والصبا: الشباب أو هوى النفس.
ومن بمعنى بعض على طريقة الزمخشري، أى: وبعض الأفنان لهوت، أى: تمتعت به. والجمهور يجعلون نحو هذا مما حذف فيه الموصوف، كقولهم: منا ظعن ومنا أقام، لتقدم مجرور يدل عليه، فمن كل: خبر مقدم، ولهوت:
صفة لمحذوف مبتدأ مؤخر، أى: صنف لهوت به، لكن المعنى على الاخبار باللهو، فلا بد من المصير إلى رأى الزمخشري. أو جعل الجار والمجرور صفة للمبتدإ، ولهوت خبرا وإن لم يتقدم المجرور على الصفة. ويجوز أن «من كل» معمول لمحذوف يفسره المذكور، أى: تمنعت من كل الأفنان لهوت به، والواو للحال، أى: والحال أن العيش أخضر، أى رطب لين ناضر حسن، نشبه العش بروض يافع. والخضرة تخييل.
فِيهِنَّ في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى. أو في الجنتين، لاشتمالهما على أماكن وقصور ومجالس قاصِراتُ الطَّرْفِ نساء قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ: لا ينظرن إلى غيرهم. لم يطمث الإنسيات منهنّ أحد من الإنس، ولا الجنيات أحد من الحن «١» وهذا دليل على أنّ الجن يطمثون كما يطمث الإنس، وقرئ: لم يطمثهنّ، بضم الميم. قيل: هنّ في صفاء الياقوت وبياض المرجان وصغار الدر: أنصع بياضا. قيل: إنّ الحوراء تلبس سبعين حلة، فيرى مخ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ في العمل إِلَّا الْإِحْسانُ في الثواب. وعن محمد بن الحنفية: هي مسجلة للبر والفاجر. أى: مرسلة، يعنى: أنّ كل من أحسن أحسن إليه، وكل من أساء أسيء إليه.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٦٢ الى ٦٩]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩)
وَمِنْ دُونِهِما ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين جَنَّتانِ لمن دونهم من أصحاب اليمين مُدْهامَّتانِ قد ادهامّتا من شدّة الخضرةضَّاخَتانِ
فوّارتان بالماء، والنضخ أكثر من النضح، لأنّ النضح غير معجمة مثل الرش، فإن قلت: لم عطف النخل والرمان على الفاكهة وهما منها؟ قلت: اختصاصا لهما وبيانا لفضلهما، كأنهما لما لهما من المزية جنسان آخران، كقوله تعالى وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ أو لأن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكه. ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا: لم يحنث، وخالفه صاحباه.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٧٠ الى ٧٨]
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨)
(١). قال محمود: «لم يطمث الانسية إنسى ولا الجنية جنى... الخ» قال أحمد: بشير إلى الرد على من زعم أن الجن المؤمنين لا ثواب لهم وإنما جزاؤهم ترك العقوبة وجعلهم ترابا
453
خَيْراتٌ خيرات فخففت، كقوله عليه السلام «هينون لينون» «١» وأما «خير» الذي هو بمعنى أخير، فلا يقال فيه خيرون ولا خيرات. وقرئ: خيرات على الأصل. والمعنى:
فاضلات الأخلاق حسان الخلق مَقْصُوراتٌ قصرن في خدورهنّ. يقال: امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة مخدرة. وقيل: إنّ الخيمة من خيامهنّ درّة مجوّفة قَبْلَهُمْ قبل أصحاب الجنتين، دل عليهم ذكر الجنتين مُتَّكِئِينَ نصب على الاختصاص. والرفرف: ضرب من البسط. وقيل البسط وقيل الوسائد، وقيل كل ثوب عريض رفرف. ويقال لأطراف البسط وفضول الفسطاط:
رفارف. ورفرف السحاب: هيدبه «٢» والعبقري: منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه بلد الجن، فينسبون إليه كل شيء عجيب. وقرئ: رفارف خضر بضمتين. وعباقرى، كمدائى: نسبة إلى عباقرى في اسم البلد: وروى ابو حاتم: عباقرى، بفتح القاف ومنع الصرف، وهذا لا وجه لصحته. فإن قلت: كيف تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل: ومن دونهما؟
قلت: مدهامّتان، دون ذواتا أفنان. ونضاختان دون: تجريان. وفاكهة دون: كل فاكهة.
وكذلك صفة الحور والمتكأ. وقرئ: ذو الجلال صفة، للاسم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الرحمن أدّى شكر ما أنعم الله عليه «٣» »
(١). قوله «هينون لينون» لعله ورد في صفة المؤمنين ومثله قال الشاعر:
هينون لينون أيسار ذوو كرم (ع)
(٢). قوله «ورفرف السحاب هيديه» في الصحاح: هيدب السحاب: ما تهدب منه، إذا أراد الورق أراد كأنه خيوط. (ع)
(٣). أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب.
454
Icon