تفسير سورة الرحمن

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴾ إما خبر مبتدأ محذوف أي الله الرحمن، أو مبتدإ خبره محذوف، أي الرحمن ربنا، وهذا الوجهان على القول بأن ﴿ ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴾ آية مستقلة، وأما على أنه ليس آية مستقلة، فالرحمن مبتدأ، وخبره ﴿ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ ﴾ وسبب نزولها: أنه لما نزل﴿ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ ﴾[الفرقان: ٦٠] قال كفار مكة: وما الرحمن؟ فأنكروه وقالو: لا نعرف إلى الرحمن إلا رحمن اليمامة، فنزلت رداً عليهم، وفيها رد عليهم أيضاً حيث قالوا:﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾[النحل: ١٠٣] فأفاد أن الذي يع لمه هو الرحمن لا غيره، وافتتح هذه السورة بلفظ ﴿ ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴾ إشارة إلى أنها مشتملة على نعم عظيمة، وذلك لأن الرحمن هو المنعم بجلائل النعم كماً وكيفاً، ولذا ذكر قوله:﴿ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾[الرحمن: ١٣] إحدى وثلاثين مرة فيها. قوله: ﴿ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ ﴾ إما من التعليم وهو التفهيم أي عرفه، فالقرآن مفعول ثان، والأول محذوف قدره المفسر بقوله: (من شاء) أي من عباده إنساً وجناً وملكاً، وقدره بعضهم محمداً أو جبريل، رداً على المشركين في قولهم﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾[النحل: ١٠٣] والأول أولى لعمومه أو من العلامة، والمعنى: جعله علامة وآية يعجز بها المعارضين، وقدم تعليم القرآن على خلق الإنسان، مع أنه متأخر عنه في الوجود، لأن التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه. قوله: ﴿ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ ﴾ هذه الجملة والتي بعدها خبران عن الرحمن أو حالان، وترك العاطف منهما لشدة الاتصال. قوله: (أي الجنس) أي الصادق بآدم وأولاده، وحينئذ فالمراد بالبيان النطق الذي يتميز به عن سائر الحيوان، وهذا أحد أقوال في تفسير الإنسان، وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم لأنه الإنسان الكامل، والمراد بالبيان علم ما كان وما يكون وما هو كائن، وقيل: هو آدم عيه السلام، والمراد بالبيان أسماء لكل شيء، ما وجد وما لم يوجد بجميع اللغات، فكان يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية. قوله: ﴿ بِحُسْبَانٍ ﴾ متعلق بمحذوف خبر المتبدإ الذي هو ﴿ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ ﴾ تقديره (يجريان). قوله: (بحساب) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ بِحُسْبَانٍ ﴾ مصدر مفرد بمعنى الحساب، كالغفران والكفران، ويصح أن يكون جمع حساب، كشهاب وشهبان، ورغيف ورغفان، والمعنى: أن الشمس والقمر يجريان في بروجهما ومنازلهما بمقدار واحد، لا يتعديانه لمنافع العباد، على حسب الفصول والشهور القمرية والقبطية، من مبدإ الدنيا لمنتهاها.
قوله: (ما لا ساق له) أي وهو المفروش على الأرض، كالقثاء البطيخ ونحوهما. قوله: (ما له ساق) أي وهو المرتفع كالنخل والنبق ونحوهما. قوله: (يخضعان) أي ينقادان لما يراد منهما طوعاً، فلا تخالف ما أمرت به، فلو أراد منهما الإثمار أو عدمه لم تخالف، بل تأتي على طبق ما أراده. قوله: (أثبت العدل) أي في جميع الأمور، والمعنى: أن الله تعالى شرع العدل وأمر به في كل شيء، لا سيما في الكيل والوزن. قوله: (أي لأجل أن لا تجوروا) أشار بذلك إلى ﴿ أَنْ ﴾ ناصبة و ﴿ لاَّ ﴾ نافية و ﴿ تَطْغَوْاْ ﴾ منصوب بأن، وقبلها لام العلة مقدرة. قوله: ﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ ﴾ إيضاح لقوله: ﴿ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ ﴾ وذلك لأن الطغيان في الميزان أخذ الزائد، والإخسار إعطاء الناقص، والقسط التوسط بين الطرفين. قوله:(أثبتها) أي دحاها وخفضها. قوله: ﴿ لِلأَنَامِ ﴾ أي لانتفاعهم بها من أكل وشرب ونوم ونحو ذلك. قوله: (وغيرهم) أي كباقي البهائم. قوله: ﴿ فِيهَا فَاكِهَةٌ ﴾ الجملة حالية. قوله: ﴿ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ ﴾ جمع كم بالكسر وهو وعاء الطلع وغطاء النور، ويجمع أيضاعلى أكمة، وأما بالضم فهو للقميص. قوله: ﴿ وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ ﴾ الخ، برفع الثلاثة أو نصبها، أو رفع الأولين وجر الثالث، ثلاث قراءات سبعيات، فرفع الجميع عطف على ﴿ فَاكِهَةٌ ﴾ ونصبها بفعل محذوف أي خلق، ورفع الأولين عطف على ﴿ فَاكِهَةٌ ﴾ وجر الثالث عطف على ﴿ ٱلْعَصْفِ ﴾.
قوله: ﴿ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ أي بأي فرد من أفراد تلك النعم المذكورة تكذبان؟ أي تنكرانها وتكابران فيها، وذلك شأن الكفار، أولا تشكران ربكما عليها، وذلك شأن العصاة، و ﴿ آلاۤءِ ﴾ جمع ألى أو إلى كمعى وحصى، وإلى كحمل، وألى كأصل. قوله: (أيها الإنس والجنس) أي فالخطاب للثقلين، كما يشعر به قوله فيما يأتي﴿ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ ﴾[الرحمن: ٣١].
قوله: (ذكرت إحدى وثلاثين مرة) ثمانية منها عقب آيات تعداد النعم، ثم سبعة عقب ذكر النار وشدائدها على عدة أبوابها، لأن التخلص منها نعمة، ثم ثمانية عقب وصف الجنتين الأولين كعدة أبوابها، ثم ثمانية عقب وصف الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين. قوله: (والاستفهام للتقرير) ويصح أن يكون للتوبيخ على ما فصل من فنون النعم الموجبة للشكر والإيمان. قوله: (ثم قال ما لي أراكم سكوتاً) الخ، يؤخذ من ذلك أن ينبغي لسامع هذه السورة أن يجيب بهذا الجواب. قوله: (كانوا أحسن منكم رداً) أي في الجواب، فلا ينافي أن الإنس أحسن منهم فهذه مزية. قوله: (فبأي آلاء) الخ، بدل من هذه الآية. قوله: (إلا قالوا ولا بشيء من نعمك) الخ، ظاهره أن جميع ما في هذه السورة نعم، مع أن فيها﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ ﴾[الرحمن: ٣٥] الخ، و﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾[الرحمن: ٢٦] و﴿ هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ﴾[الرحمن: ٤٣] ونحو ذلك. وأجيب: بأن رفع البلاء وتأخير العذاب عن العصاة، والتسوية في الموت بين الشريف وغيره من جملة النعم، فحسن جواب الجن عقب كل واحدة. قوله: (آدم) أشار بذلك إلى أن أل في الإنسان للعهد بخلاف الإنسان المتقدم ففيه احتمالات ثلاثة. قوله: (إذا نقر) أي ليختبر هل فيه عيب أو لا.
قوله: ﴿ كَٱلْفَخَّارِ ﴾ أي في أن كلاً منهما يسمع له صوت إذا نقر، واعلم أنه تعالى أفاد في هذه السورة أن خلق آدم ﴿ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ ﴾، وفي سورة الحجر﴿ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾[الحجر: ٢٦] أي من طين أسود متغير، وفي الصافات﴿ مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ ﴾[الصافات: ١١] أي يلصق باليد، وفي آل عمران﴿ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ﴾[آل عمران: ٥٩] ولا تنافي بينها، وذلك لأنه تعالى أخذه من تراب الأرض، فعجنه بالماء فصار طيناً لازباً، ثم تركه حتى صار حمأ مسنوناً، ثم صروه كما تصور الأواني، ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة كالفخار إذا نقر صوت، فالمذكور هنا آخر أطواره، وفي غير هذا الموضع، تارة مبدؤه وتارة أثناؤه، فالأرض أمه، والماء أبوه، ممزوجان بالهواء الحامل للحر الذي هو من فيح جهنم، فهو من العناصر الأربع، لكن الغالب في جبلته التراب، كما أن الجان خلق من العناصر الأربع، لكن الغالب في جبلته النار، ولذا نسب إليها. قوله: (وهو ما طبخ من طين) أي فكان مجوفاً كلأواني وليس كالآجر. قوله: (وهو إبليس) هذا أحد قولين وهو الصحيح، وقيل أبو الجن غير إبليس. قوله: ﴿ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ﴾ من الأولى الابتداء، الغاية، والثانية يصح أن تكون للبيان وللتبعيض. قوله: (هو لهبها الخالص من الدخان) هذا أحد أقوال في تفسير المارج، وقيل: هو ما اختلط من أحمر وأخضر وأصفر، وهو مشاهد في النار، ترى الألوان الثلاثة مختلطاً بعضها ببعض، وقيل: هو الأحمر الكائن في طرف النار، وقيل: اللهب المختلط بسواد. قوله: ﴿ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ أي بأي نعم ربكما الناشئة عنه تكفران؟
قوله: ﴿ رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ ﴾ بالرفع في قراءة العامة على أنه خبر لمحذوف أي هو رب المشرقين، وقرئ شذوذاً بالجر على أنه بدل أو بيان لربكما. قوله: (كذلك) أي مغرب الشتاء ومغرب الصيف، وأما آية﴿ فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ ﴾[المعارج: ٤٠] فباعتبار مشرق كل يوم ومغربه. قوله: ﴿ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ أي بأي نعمة من هذه النعم العظيمة تكفران بها؟قوله: ﴿ مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ ﴾ المرج بفتحتين في الأصل الإهمال والترك أو الإرسال، وبسكون الراء الأرض ذات النبات والمرعى، يقال: مرج الدابة أي أرسلها ترعى في المرج. قوله: ﴿ يَلْتَقِيَانِ ﴾ حال من البحرين، أي يتماسان على وجه الأرض، بلا فصل بينهما في رؤية العين. قوله: ﴿ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ ﴾ جملة مستأنفة أو حالية من البحرين. قوله: ﴿ لاَّ يَبْغِيَانِ ﴾ أي لا يتجاوز كل واحد منهما ما حده له خالقه، فالماء العذب الداخل في الملح باق على حاله لم يمتزج بالملح، فمتى حفرت في جنبي الملح في بعض الأماكن، وجدت الماء العذب، بل كلما قربت الحفرة من الملح، كان الماء الخارج منها أحلى، فخلطهما الله في رأي العين، وحجزهما بقدرته تعالى، وإذا كان هذا حال جماد، لا إدراك له ولا عقل، فكيف يبغي العقلاء بعضهم على بعض. قوله: (بالبناء للمفعول والفاعل) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (الصادق بإحدهما) هذا غير ظاهر، لأن المجموع لا يصدق على البعض، إلا إذا كان متعدداً كقوله: كل رجل يحمل الصخرة العظيمة، فالأولى أن يجعل الكلام على حذف مضاف إي من أحدهما، وقيل لا تقدير في الآية، بل يخرجان من الملح في الموضع الذي يقع فيه العذب، وهو مشاهد عند الغواصين، وقيل: العذب كالرجل، والملح كالمرأة، واللؤلؤ والمرجان يخرجان منهما، كما يخرج الولد من الرجل والمرأة، وقال ابن عباس: تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر، والصدف تفتح أفواهها للمطر. قوله: ﴿ وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ﴾ جمع جارية وهي السفينة، صفة جرت مجرى الأسماء، سميت بذلك لأن شأنها الجاري. قوله: ﴿ ٱلْمُنشَئَاتُ ﴾ بفتح الشين اسم مفعول، أي أنشأها الناس بسبب تعليم الله لهم، وكسرها اسم فاعل أي تنشئ الريح بجريها، أو تنشئ السير إقبالاً وإدباراً، ونسبة الإنشاء لها مجاز، وهما قراءتان سبعيتان، وقرئ شذوذاً بتشديد الشين مع فتحها مبالغة. قوله: (أي الأرض) أي وعلى هذا التفسير فلا يستثنى شيء، بخلاف قوله تعالى:﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾[القصص: ٨٨] فيستثنى الجنة والنار والحور العين والولدان والعرش والأرواح. قوله: (هالك) أي بالفعل. قوله: ﴿ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ﴾ الخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتناء بشأنه، وإما لأي سامع، ليعلم لكل أحد أن غير الله فان. قوله: ﴿ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ ﴾ فيه وعد ووعيد، فيوصف الجلال إفناء الخلق وتعذيب الكفار، ويوصف الإكرام إحياؤهم وإثابة المؤمنين، و ﴿ ذُو ﴾ بالرفع في قراءة العامة نعت للوجه، وقرئ شذوذاً بالجر صفة للرب، وأما في آخر السورة فالقراءتان سبعتيان.
قوله: ﴿ يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ أي لأنهم مفتقرون إليه تعالى في جميع لحظاتهم، قال ابن عباس: أهل السماوات يسألون المغفرة ولا يسألون الرزق، وأهل الأرض يسألونهما جميعاً، وقال ابن جريج: تسأله الملائكة الرزق لأهل الأرض، فسؤال خير الدنيا والآخرة صادر من كل من أهل السماوات والأرض، وفي الحديث:" إن من الملائكة ملكاً له أربعة أوجه: وجه كوجه الإنسان، يسأله الله تعالى الرزق لبني آدم، ووجه كوجه الأسد، يسأل الله تعالى الرزق للسباع، ووجه كوجه الثور، يسأل الله تعالى الرزق للبهائم، ووجه كوجه النسر، يسأل الله تعالى الرزق للطير ". قوله: (بنطق) أي بلسان المقال، وقوله: (أو حال) أي بلسان الحال وهو الذل والاحتياج. قوله: ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ ﴿ كُلَّ ﴾ ظرف منصوب بالمحذوف الذي تعلق به الجار والمجرور بعده، والمراد باليوم اللحظة من الزمن، وبالشأن التصريف في خلقه، لما ورد:" إن الإنسان يخرج منه في اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس، في كل نفس تحمل مائة ألف، ويولد مائة ألف، ويعز مائة ألف، ويذل مائة ألف، ويفرج عن مائة ألف "وفي رواية:" في كل واحدة ستمائة ألف "وحكي أن ابن الشجري كان يقرر في درسه هذه الآية، فجاءه الخضر وقال له: ما شأن ربك اليوم؟ فأطرق برأسه وقام متحيراً، فنام فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، فعرض عليه السؤال فقال له: السائل لك الخضر، فإن أتاك وسألك فقل له شؤون يبديها ولا يبتديها، يرفع أقواماً ويضع آخرين، فلما أصبح أتاه وسأله فأجابه بذلك، فقال له: صلّ على من علمك. قوله: (أمره يظهره) الخ، أي فالشأن صفة فعل، وقوله: (من إحياء) الخ، بيان له فالتغير راجع للمصنوعات، وأما ذاته تعالى وصفاته، فيستحيل عليها التغير، فهو يغير ولا يتغير. قوله: ﴿ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ أي بأي نعمة من تلك النعم التي أنشأها خالقكما ومدبركما تكفران بها؟ قوله: (سنقصد لحسابكم) جواب عما يقال: إن الله لا يشغله شأن عن شأن، فكيف قال: ﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ ﴾ فأجاب بما ذكر، وإيضاحه أن تقول: الفراغ من الشيء، يطلق على التفرغ من الشواغل، وهو بهذا المعنى مستحيل عليه تعالى، ويطلق على القصد للشيء والإقبال عليه وهو المراد هنا، والمراد بالقصد في كلام المفسر الإرادة، وحينئذ فيكون معناه سأريد حسابكم، وهذا لا يظهر إلا على القول، بأن للإرادة تعلقاً تنجيزياً حادثاً، وأما على القول بنفيه فلا يظهر، فكان المناسب له أن يقول: سأحاسبكم، وفي الآية وعد للطائعين ووعيد للعاصين. قوله: ﴿ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ ﴾ تثنية ثقل بفتحتين، سيما بذلك لأنهما أثقلا الأرض، أو حصل لهما الثقل والتعب بالتكاليف. قوله: ﴿ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ أي التي من جملتها: إثابة أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي. يقول سأحاسبكم، وفي الآية وعد للطائعين ووعيد للعاصين. قوله: ﴿ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ ﴾ تثنية ثقل بفتحتين، سيما بذلك لأنهما أثقلا الأرض، أو حصل لهما الثقل والتعب بالتكاليف. قوله: ﴿ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ أي التي من جملتها: إثابة أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي.
قوله: ﴿ يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ ﴾ الخ، هذا إلزام وتعجيز، لمن لم يرض بقضاء الله وقدره، وهو إشارة لمعنى حديث قدسي:" من لم يرض بقضائي ويصبر على بلائي، فليخرج من تحت سمائي، ويتخذ رباً سوائي ". وعلى هذا فالخطاب يقال لهما في الدنيا، وقيل: يقال لهما هذا يوم القيامة لما ورد:" إذا كان يوم القيامة، أمر الله السماء الدنيا فتشقق بأهلها، فتكون الملائكة على حافاتها، حتى يأمرهم الرب فينزلون إلى الأرض، فيحيطون بالأرض ومن فيها، ثم يأمر السماء التي تليها كذلك فينزلون فيكونون صفاً خلف ذلك الصف، ثم السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة، فتنزل ملائكة الرفيق الأعلى، فلا تأتون قطراً من أقطارها، إلا وجدوا صفوفاً من الملائكة، فلذلك قوله تعالى: ﴿ يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ ﴾ "الآية، والحكمة في تقديم الجن هنا على الإنس، وتأخيرهم عنهم في قوله تعالى:﴿ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ ﴾[الإسراء: ٨٨] أن الجن أقوى من الإنس، فقدموا فيما يتعلق بالهروب، والإنس أفصح من الجن، فقدموا فيما يتعلق بالمعارضة بالقرآن، فقدم في كل موضع ما يناسبه. قوله: (قوة) هذا أحد قولين في تفسير السطان، وقيل هو البينة والحجج الواضحة. قوله: ﴿ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا ﴾ أي من التنبيه والتحذير والعفو، مع كمال القدرة على العقوبة. قوله: ﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا ﴾ إما جملة مستأنفة قصد بها بيان أهوال يوم القيامة، وهذا على القول بأن الخطاب المتقدم في الدنيا، وأما على القول بأنه في الآخرة، فالكلام مرتبط ببعضه وليس مستأنفاً. قوله: ﴿ شُوَاظٌ ﴾ بكسر الشين وضمها، قراءتان سبعيتان ولغتان بمعنى واحد. قوله: (وهو لهبها الخالص من الدخان) هذان قولان من أربعة، وقيل هو اللهب الأحمر، وقيل هو الدخان الخارج من اللهب. قوله: ﴿ وَنُحَاسٌ ﴾ إما بالرفع عطف على ﴿ شُوَاظٌ ﴾ أو الجر عطف على ﴿ نَّارٍ ﴾ قراءتان سبعيتان، لكن قراءة الجر لا بد فيها من كسر شين ﴿ شُوَاظٌ ﴾ أو إمالة ﴿ نَّارٍ ﴾ فمن قرأ بجر ﴿ وَنُحَاسٌ ﴾ بدون أحد الأمرين، فقد وقع في التلفيق. قوله: (أي دخان) الخ، هذا التفسير إنما يناسب قراءة الرفع لا الجر، وإلا فيصير المعنى: يرسل عليكما شواظ. أي لهب من نحاس، أي دخان لا لهب فيه، وهو لا يصح إلا أن يقال الشواظ يطلق بالاشتراك على اللهب الخالص والدخان. قوله: ﴿ فَلاَ تَنتَصِرَانِ ﴾ أي لا تجدان لكما ناصراً، واعلم أن هذا الأمر، وهو سوق الجن والإنس بالنار إلى المحشر وازدحامهم، حتى يكون على القدم ألف قدم، ليس لعموم الجن والإنس، بل ورد في أناس أنهم يخرجون من قبورهم لقصورهم، لا يحزنهم الفزع الأكبر، وكل واحد ممن حضر الموقف على قدر عمله، فمنهم من يظل في ظل العرش، ومنهم من يلجمه العرق، ومنهم من يراه قصيراً، ومنهم من يراه طويلاً، هذا هو التحقيق. قوله: (من ذلك) أي المذكور من الشواظ والنحاس. قوله: (بل يسوقكم) أي المذكور منهما. قول: (لنزول الملائكة) أي لتحيط بالعالم من سائر جهات الأرض.
قوله: ﴿ كَٱلدِّهَانِ ﴾ إما خبر ثان أو نعت لوردة، والدهان إما جمع دهن كرماح ورمح، ويكون بمعنى قوله:﴿ يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ ﴾[المعارج: ٨] أي كدردي الزيت، أو مفرد كحزام وإدام وهو الأديم الأحمر أي الجلد، وقد مشى على الثاني المفسر. قوله: (على خلاف العهد بها) أي على خلاف لونها الذي نراه ونعهده وهو الزرقة فإنها عارضة، قيل: بسبب جبل ق المحيط بها، وأما لونها الأصلي فهو الحمرة. قوله: ﴿ فَيَوْمَئِذٍ ﴾ التنوين عوض عن جملة، أي فيوم إذا انشقت السماء. قوله: ﴿ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ (عن ذنبه) أشار بذلك إلى أن الجار والمجرور محذوف من الثاني، لدلالة الأول عليه. قوله: (ويسألون في وقت آخر) أشار بذلك لوجه الجمع بين ما هنا وبين الآية التي ذكرها، وإيضاح الجمع أن يقال: إنهم حين يخرجون من القبور لا يسألون، ويسألون حين يحشرون ويجتمعون في الموقف. قوله: (والجان هنا) الخ، قد يقال: لا حاجة له، لأن الجان والإنس كل منهما اسم جنس، يفرق بينه وبين واحده بالياء، كزنج وزنجي. قوله: ﴿ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا ﴾ أي نعمه العظيمة التي من جملتها الزجر عما يؤدي للعذاب. قوله: (أي سواد الوجوه وزرقة العيون) أي وأخذ الصحف من وراء الظهر باليسرى. قوله: ﴿ بِٱلنَّوَاصِي ﴾ جمع ناصية وهو نائب الفاعل. قوله: (من خلف) أي فحينئذ يسكر ظهره كما يكسر الحطب، قال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسة من وراء ظهره. قوله: (ويقال لهم) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ﴾ مفعول لقول محذوف. قوله: ﴿ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ﴾ أي يترددون بينهما، فحين يستغيثون من النار، يسعى بهم إلى الحميم، فيسقون منه ويصب فوق رؤوسهم، فإذا استغاثوا منه يسعى بهم إلى النار، وهكذا قوله: (يسقونه) الخ، أي ويغمسون فيه، لما رود عن كعب: إن وادياً من أودية جهنم، يجتمع فيه صديد أهل النار، فيغمسون بأغلالهم فيه حتى تنخلع أوصالهم، ثم يخرجون منها، وقد أحدث الله لهم خلقاً جديداً فليقون في النار، فذلك قوله تعالى: ﴿ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ﴾.
قوله: (وهو منقوص كقاض) أي يقال: أنى يأتي، كقضى يقضي، فهو آن كقاض، وأصله أنيٌ، استثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان، حذفت الياء لالتقاء الساكنين.
قوله: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ أي لكل شخص خائف، سواء كان من الإنس أو من الجن، فالجن كلإنس في النعيم، وهو ما عليه الأئمة الثلاثة، وقال أبو حنيفة: إن من مات من الجن مسلماً، يصير تراباً كالبهائم، ولا حظ له في النعيم، قوله: (أي لكل منهم) أي لكل فرد من أفراد الخائفين جنتان، واختلف في المراد بالجنتين اللتين يعطاهما كل خائف، فقيل جنة لعقيدته وجنة لعمله، وقيل جنة لطاعته، وقيل جنة لترك المعاصي، وقل جنة يثاب بها وجنة يتفضل بها عليه. وقيل إحدى الجنتين منزلة، والأخرى منزل أزواجه، كعادة الأكابر في الدنيا، وقيل إحدى الجنتين مسكنة والآخر بستانه، وقيل إحدى الجنتين خلقت له، والأخرى جنة ورثها من الكفار، وعلى كل من الأقوال تسمى إحداهما جنة عدن، والأخرة جنة النعيم، وروي عن ابن عباس في وصف الجنتين أنه قال: الجنتان بستانان في عرض الجنة، كل بستان مسيرة مائة عام، في وسط كل بستان دار من نور، وليس منهما شيء إلا يتهز نعمة وخضرة، قرارها ثابت، وشجرها نابت، وقيل: المراد بالجنتين جنة واحدة، وإنما يثنى رعاية للفواصل. قوله: (أو لمجموعهم) أي إن الكلام على سبيل التوزيع، فإحدى الجنتين للخائف الإنسي، والأخرى للخائف الجني، فكل خائل ليس له إلا جنة واحدة، والأول هو المعتمد. قوله: (قيامه بين يديه) الخ، أشار بذلك إلى أن المقام مصدر ميمي بمعنى القيام، وهو أحد احتمالات ثلاث في تفسير المقام، والثاني أنه اسم مكان، أي خاف من مكان وقوفه للحساب، والثالث أنه مصدر ميمي بمعنى قيام الله عز وجل على الخلائق، أي إشرافه واطلاعه عليهم ومناقشته لهم في الحساب. قوله: (فترك معصيته) أي فتسبب عن خوفه تركه المعاصي، واعلم أن الخوف مرتبتان: مرتبة العامة وهي خوف تعذيب الله أياهم، ومرتبة الخاصة وهي خوف جلال الله وهيبته، وفيها فليتنافس المتنافسون، وللعارفين تفسير آخر وهو أن المراد بالخوف خوف الإجلال والتعظيم والهيبة، والمراد بالجنتين: جنة الشهود في الدنيا بالقلب وفي الآخرة بالإبصار، وجنة الثواب في الآخرة لا غير. قوله: ﴿ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا ﴾ أي نعمه ﴿ تُكَذِّبَانِ ﴾، أبتلك النعم التي من جملتها الجنة ونعيمها أم بغيرها؟ قوله: ﴿ ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ ﴾ إما صفة الجنتان أو خبر لمحذوف أي هما. قوله: (تثنية ذوات) أي الذي هو مفرد. قوله: (على الأصل) أي وذلك لأن أصلها ذوي، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً فصار ذوى كفتى، فهذه الألف لام الكلمة، وإنما قلبت الياء ألفاً دون الواو، مع أن كلاً منهما متحرك، وما قبله مفتوح لأنها ظرف، والظرف في محل تغيير، ولم ترد هذه الألف في التثنية إلياء، فيقال: ذويتان، لأنه لما زيدت التاء في هذا اللفظ، تحصنت الألف من الرد إلى الياء، وما في الآية هو الفصيح في تثنيتها، وقد تثنى على لفظها فيقال ذاتان. قوله: (أغصان) أي وهي فروع الشجر التي تشمتمل على الورق والثمار. قوله: (جمع فنن) هذا أحد قولين؛ وقيل جمع فن أن نوع وشكل. قوله: ﴿ فِيهِمَا ﴾ أي في كل واحدة منهما. قوله: ﴿ عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ﴾ أي بالماء الزلال، إحداهما تسمى التسنيم، والأخرى السلسبيل، وقيل إحداهما من ماء غير آسن، والآخرى من خمر لذة للشاربين.
قوله: (وفي الدنيا) أي ما هو فاكهة في الدنيا، فلا تشتمل الفاكهة على هذا مثل الحنظل، قوله: (أو ما يتفكه به) أي في الآخرة، ولو كان في الدنيا غير فاكهة كالحنظل، وقوله: (والمر منها) الخ، مبني على القول الثاني. قوله: ﴿ مُتَّكِئِينَ ﴾ أي مضطجعين أو متربعين، فالتوكؤ الاضطجاع أو التربع، لما في الحديث:" أما أنا فلا آكل متكئاً "أي جالساً جلوس المتربع، ونحو من الهيئات التي تستدعي كثرة الأكل، فالتوكؤ في الدنيا مذموم، وفي الآخرة غير مذموم لارتفاع التكليف. قوله: (أي يتنعمون) الضمير عائد على من في قوله:﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾[الرحمن: ٤٦].
قوله: ﴿ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ﴾ هذه الجملة صفة لفرش. قوله: (من السندس) أي وهو ما رق من الديباج. قوله: ﴿ وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ﴾ ﴿ جَنَى ﴾ مبتدأ بمعنى مجني خبره ﴿ دَانٍ ﴾ وأصله دانوا كغاز وقاض. قوله: (يناله القائم) الخ، قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنبها ولي الله، إن شاء قاعدا، وإن شاء قائماً، وإن شاء مضطجعاً، وقال الرازي: جنة الآخرة مخالفة لجنة الدنيا من ثلاثة أوجه: أحدها أن الثمرة على رؤوس الشجر، في الدنيا بعيدة عن الإنسان المتكئ، وفي الجنة يتكئ والثمرة تتدلى إليه، وثانيها أن الإنسان في الدنيا يسعى إلى الثمرة ويتحرك إليها، وفي الآخرة تدنو منه وتدور عليه، وثالثها أن الإنسان في الدنيا، إذا قرب من ثمرة شجرة بعد عن غيرها، وثمار الجنة كلها تدنو إليه في وقت واحد ومكان واحد. قوله: (في الجنتين) الخ، جواب عن سؤال مقدر حاصله: كيف أتى بضمير الجمع، مع أن المرجع مثنى؟ قوله: ﴿ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ ﴾ أي محبوسات على أزواجهن، لا يبغين بغيرهم بدلاً، لما روي أنها تقول لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك، فالحمد لله الذي جعلك زوجي، وجعلني زوجتك. قوله: ﴿ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ ﴾ الطمث الجماع المؤدي إلى خروج دم البكر، ثم أطلق على كل جماع، والمعنى: لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن أحد. قوله: (من الحور) أي فيكن قسمين: إنسيات للإنس، وجنيات للجن. قوله: (أو من نساء الدنيا المنشآت) أي المخلوقات من غير واسطة ولادة، قوله: ﴿ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ أي أن كل واحد من أفراد النوعين، يجد زوجاته في الجنة اللاتي كن في الدنيا إبكاراً، وإن كن في الدنيا ثيبات لم يمسها غيره. قوله: ﴿ كَأَنَّهُنَّ ٱلْيَاقُوتُ ﴾ هذه الجملة نعت لقاصرات أو حال منه. قوله: (صفاء) أي فالتشبيه بالياقوت من حيث الصفاء لا من حيث الحمرة، وفلا يقال مقتضاه أن لون أهل الجنة البياض المشرب بالحمرة. قوله: (أي اللؤلؤ بياضاً) أي فالمرجان يطلق على الأحمر والأبيض، والمراد به هنا الأبيض، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن المرأة من نساء أهل الجنة، يرى بياض ساقها من وراء سعبين حلة حتى يرى مخها ".
قوله: ﴿ هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ ﴾ اعلم أن ﴿ هَلْ ﴾ ترد لأربعة أوجه: تكون بمعنى قد كقوله تعالى:﴿ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ ﴾[الإنسان: ١] وبمعنى الاستفهام كقوله:﴿ فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً ﴾[الأعراف: ٤٤] وبمعنى الأمر كقوله:﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾[المائدة: ٩١] وبمعنى النفي كقوله:﴿ فَهَلْ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلاَّ ٱلْبَلاغُ ٱلْمُبِينُ ﴾[النحل: ٣٥] وكما هنا في هنا للنفي، والمعنى: لا جزاء الإحسان إي الطاعات وترك المعاصي إلا الإحسان أي ثواب الجزيل. قوله: ﴿ وَمِن دُونِهِمَا ﴾ قيل معناه أدنى منهما، وأصحاب هاتين الجنتين أهل اليمين، وهم دون الخائفين مقام ربهم في المنزلة، وهذا على حد ما يأتي في سورة الواقعة، أن أهل اليمين أقل من السابقين، وقيل الجنات الأربع لمن خاف ومقام ربه، ومعنى قوله: ﴿ وَمِن دُونِهِمَا ﴾ أقرب وأدنى منهما للعرش، ويؤيده ما ورد أن الأولين من ذهب وفضة، والآخريين من ياقوت، وتقدم أن الأولين جنة عدن وجنة النعيم، وهاتان جنة الفردوس وجنة المأوى، وهو ما مشى عليه المفسر. قوله: ﴿ مُدْهَآمَّتَانِ ﴾ من الدهمة وهي السواد. قوله: (من شدة خضرتهما) أي لكثرة بساتينهما. قوله: (فوارتان) أي وليستا كالجارتين، لأن النضخ دون الجري، وهذا بناء على أن هاتين أقل من الأوليين، وأما على القول بأنهما أعلى منهما، فمعنى نضاختان كما قال ابن عباس وابن مسعود، أنهما ينضخان على أولياء الله، بالمسك والعنبر والكافور في دار أهل الجنة، كما ينضخ رش المطر، أو أن المراد فوارتان مع الجري، ولا شك أنهما أعلى من الجارتين فقط. قوله: (هما منها) أي من الفاكهة وهو ظاهر، وقوله: (وقيل من غيرها) أي وذلك لأن النخل كان عامة قوتهم، والرمان كالشراب، فكان يكثر غرسهما عندهم لحاجتهم إليهما، وكانت الفواكة عندهم الثمار التي يعجبون بها، روي أن نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر، وكرمها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة منها حللهم، وثمارها هنا القلال أو الدلاء، أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، ليس لها عجم، روي أن الرمانة من رمان الجنة كجلد البعير المقتب، وروي أن نخل أهل الجنة نضيد، وثمرها كالقلال، كلما نزعت منها واحدة، عادت مكانها أخرى، العنقود منها اثنا عشر ذراعاً. قوله: (أي الجنتين وما فيهما) الخ، جواب عما يقال: كيف جمع الضمير مع أنه راجع للمثنى. قوله: ﴿ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴾ إما جمع خيرة بوزن فعله بفتح الفاء وسكون العين، أو جمع خيره مخفف خيرة بالتشديد،
وفي الحديث:" إن الحور العين، يأخذ بعضهن بأيدي بعض، ويتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق بأحسن منها ولا بمثلها، نحن الراضيات فلا نسخط أبداً، ونحن المقيمات فلا نظعن أبداً، ونحن الخالدات فلا نموت أبداً، ونحن الناعمات فلا نيبس أبداً، ونحن خيرات حسان حبيبات لأزواج كرام ". روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن الحور العين إذا قلن هذه المقالة، أجابهن المؤمنات من نساء أهل الدنيا: نحن المصليات وما صليتن، ونحن الصائمات وما صمتن، ونحن المتوضئات وما توضأتن، ونحن المتصدقات وما تصدقتن. قالت عائشة رضي الله عنها: فغلبنهن والله، واختلف هل الحور العين أكثر حسناً وأبهى جمالاً، أو نساء الدنيا؟ والصحيح أن نساء الدنيا يكن أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف. قوله: (من در مجوف) قال ابن عباس: الخيمة فرسخ في فرسخ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب. وروي أن سحابة مطرت من العرش، فخلقت الحور من قرطات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة منهن خيمة على شاطئ الأنهار، سعتها أربعون ميلاً، وليس لها باب، حتى إذا حل ولي الله الجنة، انصدعت الخمية عن باب، ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدام لم تأخذها، فهي مقصورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين. قوله: (مضافة إلى القصور) أي أنها في داخلها، فالخيمة في داخل القصر. قوله: (بالخدور) جمع خدر وهو الستر الذي يتخذ في البيوت كالناموسية. قوله: (وإعرابه كما تقدم) أي أنه حال عامله محذوف أي يتنعمون. قوله: (جمع رفرفة) أي واحدة رفرفة، والرفرف اسم جنس جمعي أو اسم جمع. قوله: (أي بسط أو وسائد) هذان قولان في معنى الرفرف، وقيل: هو شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف به وأهوى به كالمرجاح، يميناً وشمالاً، ورفعاً وخفضاً، يتلذذ به مع أنيسته. قوله: ﴿ وَعَبْقَرِيٍّ ﴾ منسوب إلى عبقر، قرية يناجيه اليمن، ينسج فيها بسط منقوشة، فقرب الله لنا فراش تلك الجنتين به، وقيل: إن الياء ليست للنسب، بل هي كياء الكرسي والبختي، فهو اسم للفراش المنقوش البالغ الغاية في الحسن. قوله: (أي طنافس) جمع طنفسة بكسرتين أو فتحتين بساط له خمل رقيق. قوله: ﴿ ذِي ٱلْجَلاَلِ ﴾ بالياء والواو قراءتان سبعيتان. قوله: (ولفظ اسم زائد) أي لأن أوصاف التنزيه والتعظيم في الحقيقة للمسمى، وقد يقال: أسماء الله وصفاته يسند لها التنزيه والتعظيم حقيقة، فعدم زيادته أبلغ في التعظيم والتنزيه.
Icon