مدنية وآياتها ثمان وسبعون
ﰡ
﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤) ﴾
﴿الرَّحْمَنُ﴾ قِيلَ: نَزَلَتْ حِينَ قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ؟ (٢). وَقِيلَ: هُوَ جَوَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ حِينَ قالوا: إنما يعمله بَشَرٌ.
﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ: عَلَّمَ الْقُرْآنَ مُحَمَّدًا. وَقِيلَ: "عَلَّمَ الْقُرْآنَ" يَسَّرَهُ لِلذِّكْرِ.
﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾ يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ. ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَقِيلَ: عَلَّمَهُ اللُّغَاتِ كُلَّهَا، وَكَانَ آدَمُ يَتَكَلَّمُ بِسَبْعِمِائَةِ [أَلْفِ] (٣) لُغَةٍ أَفْضَلُهَا الْعَرَبِيَّةُ.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: "الْإِنْسَانُ" اسْمُ جِنْسٍ، وَأَرَادَ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ "عَلَّمَهُ الْبَيَانَ" النُّطْقَ وَالْكِتَابَةَ وَالْفَهْمَ وَالْإِفْهَامَ، حَتَّى عَرَفَ مَا يَقُولُ وَمَا يُقَالُ لَهُ. هَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَابْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَلَّمَ كُلَّ قَوْمٍ لِسَانَهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: "خَلَقَ الْإِنْسَانَ" يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "عَلَّمَهُ الْبَيَانَ" يَعْنِي بَيَانَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ لِأَنَّهُ كَانَ يُبِينُ [عَنِ] (٤) الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَعَنْ يَوْمِ الدِّينِ.
(٢) انظر البحر المحيط: ٨ / ١٨٧-١٨٨.
(٣) ساقط من "أ".
(٤) زيادة من "ب".
﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَحُسْبَانِ الرَّحَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَيْ يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ وَمَنَازِلَ لَا يَعْدُوَانِهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ كَيْسَانَ: يَعْنِي بِهِمَا تُحْسَبُ الْأَوْقَاتُ وَالْآجَالُ لَوْلَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ كَيْفَ يَحْسِبُ شَيْئًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَجْرِيَانِ بِقَدَرٍ، وَالْحُسْبَانُ يَكُونُ مَصْدَرُ حَسَبْتُ حِسَابًا وَحُسْبَانًا، مِثْلُ الْغُفْرَانِ وَالْكُفْرَانِ، وَالرُّجْحَانِ وَالنُّقْصَانِ، وَقَدْ يَكُونُ جَمْعُ الْحِسَابِ كَالشُّبْهَانِ وَالرُّكْبَانِ.
﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾، النَّجْمُ مَا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ مِنَ النَّبَاتِ، وَالشَّجَرُ مَا لَهُ سَاقٌ يَبْقَى فِي الشِّتَاءِ، وَسُجُودُهُمَا سُجُودُ ظِلِّهِمَا كَمَا قَالَ:"يَتَفَيَّؤُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ" (النَّحْلِ-٤٨) قَالَ مُجَاهِدٌ: النَّجْمُ هُوَ الْكَوْكَبُ وَسُجُودُهُ طُلُوعُهُ.
﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا﴾، فَوْقَ الْأَرْضِ، ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ بِالْمِيزَانِ الْعَدْلَ. الْمَعْنَى: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾، أَيْ لَا تُجَاوِزُوا الْعَدْلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: أَرَادَ بِهِ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ لِيُوصَلَ بِهِ إِلَى الْإِنْصَافِ وَالِانْتِصَافِ، وَأَصْلُ الْوَزْنِ التَّقْدِيرُ "أَلَّا تَطْغَوْا" يَعْنِي لِئَلَّا تَمِيلُوا وَتَظْلِمُوا وَتُجَاوِزُوا الْحَقَّ فِي الْمِيزَانِ.
﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ﴾، بِالْعَدْلِ، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَعَطَاءٌ: مَعْنَاهُ أَقِيمُوا لِسَانَ الْمِيزَانِ بِالْعَدْلِ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: الْإِقَامَةُ بِالْيَدِ وَالْقِسْطُ بِالْقَلْبِ، ﴿وَلَا تُخْسِرُوا﴾، وَلَا تَنْقُصُوا ﴿الْمِيزَانَ﴾، وَلَا تُطَفِّفُوا فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ.
﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾، لِلْخَلْقِ الَّذِينَ بَثَّهُمْ فِيهَا.
﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ﴾، يَعْنِي: أَنْوَاعَ الْفَوَاكِهِ، قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: يَعْنِي مَا يَتَفَكَّهُونَ بِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى، ﴿وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ﴾، الْأَوْعِيَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الثَّمَرُ لِأَنَّ ثَمَرَ النَّخْلِ يَكُونُ فِي غِلَافٍ مَا لَمْ يَنْشَقَّ، وَاحِدُهَا كِمٌّ، وَكُلُّ مَا سَتَرَ شَيْئًا فَهُوَ كِمٌّ وَكِمَّةٌ، وَمِنْهُ كُمُّ الْقَمِيصِ، وَيُقَالُ لِلْقَلَنْسُوَةِ كُمَّةٌ، قَالَ الضَّحَّاكُ: "ذَاتُ الْأَكْمَامِ" أَيْ ذَاتُ الْغُلُفِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَكْمَامُهَا: لَفِيفُهَا. [وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
﴿وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٣) ﴾
﴿وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ﴾، أَرَادَ بِالْحَبِّ جَمِيعَ الْحُبُوبِ الَّتِي تُحْرَثُ فِي الْأَرْضِ قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ وَرَقُ الزَّرْعِ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: "الْعَصْفُ "وَرَقُ كُلِّ شَيْءٍ يَخْرُجُ مِنْهُ الْحَبُّ، يَبْدُو أَوَّلًا وَرَقًا وَهُوَ الْعَصْفُ ثُمَّ يَكُونُ سُوقًا، ثُمَّ يُحْدِثُ اللَّهُ فِيهِ أَكْمَامًا ثُمَّ يُحْدِثُ فِي الْأَكْمَامِ الْحَبَّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْوَالِبِيِّ: هُوَ التِّبْنُ. وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ عَطِيَّةُ عَنْهُ: هُوَ وَرَقُ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ إذا قطع رؤوسه وَيَبِسَ، نَظِيرُهُ: "كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ" (الْفِيلِ-٥).
﴿وَالرَّيْحَانُ﴾، هُوَ الرِّزْقُ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ رَيْحَانٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ رِزْقٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ هُوَ رَيْحَانُكُمُ الَّذِي يُشَمُّ، قَالَ الضَّحَّاكُ: "الْعَصْفُ": هُوَ التِّبْنُ. وَ"الرَّيْحَانُ" ثَمَرَتُهُ.
وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: "وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ"، كُلُّهَا مَرْفُوعَاتٌ بِالرَّدِّ عَلَى الْفَاكِهَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عامر "والحب ذو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانَ" بِنَصْبِ الْبَاءِ وَالنُّونِ وَذَا بِالْأَلِفِ عَلَى مَعْنَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَخَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" وَالرَّيْحَانِ" بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْعَصْفِ فَذَكَرَ قُوتَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ، ثم خاطب ١٤٧/ب الْجِنَّ وَالْإِنْسَ فَقَالَ:
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾، أَيُّهَا الثَّقَلَانِ، يُرِيدُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ. وَكَرَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَقْرِيرًا لِلنِّعْمَةِ وَتَأْكِيدًا فِي التَّذْكِيرِ بِهَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْإِبْلَاغِ وَالْإِشْبَاعِ، يُعَدِّدُ عَلَى الْخَلْقِ آلَاءَهُ وَيَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ نِعْمَتَيْنِ بِمَا يُنَبِّهُهُمْ عَلَيْهَا، كَقَوْلِ الرِّجْلِ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ وَتَابَعَ عَلَيْهِ بِالْأَيَادِي وَهُوَ يُنْكِرُهَا وَيَكْفُرُهَا: أَلَمْ تَكُنْ فَقِيرًا فَأَغْنَيْتُكَ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟ أَلَمْ تَكُنْ عُرْيَانًا فَكَسَوْتُكَ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟ أَلَمْ تَكُ خَامِلًا؟ فَعَزَّزْتُكَ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟ وَمِثْلُ هَذَا التِّكْرَارِ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَسَنٌ تَقْرِيرًا.
وَقِيلَ: خَاطَبَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ تُخَاطِبُ الْوَاحِدَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ" (ق-٢٤).
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ:"مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتًا لَلْجِنُّ، [كَانُوا] (٢) أَحْسَنَ مِنْكُمْ رَدًّا، مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ
(٢) ساقط من "أ".
﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٦) ﴾
﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾.
﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ﴾ وَهُوَ أَبُو الْجِنِّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ إِبْلِيسُ، ﴿مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ وَهُوَ الصَّافِي مِنْ لَهَبِ النَّارِ الَّذِي لَا دُخَانَ فِيهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ مَا اخْتَلَطَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مِنَ اللَّهَبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ وَالْأَخْضَرِ الَّذِي يَعْلُو النَّارَ إِذَا أُوقِدَتْ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَجَ أَمْرُ الْقَوْمِ، إِذَا اخْتَلَطَ.
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ مَشْرِقِ الصَّيْفِ وَمَشْرِقِ الشِّتَاءِ. ﴿وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ مَغْرِبِ الصَّيْفِ وَمَغْرِبِ الشِّتَاءِ. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ الْعَذْبَ وَالْمَالِحَ أَرْسَلَهُمَا وَخَلَّاهُمَا ﴿يَلْتَقِيَانِ﴾.
﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ﴾ حَاجِزٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ﴿لَا يَبْغِيَانِ﴾ لَا يَخْتَلِطَانِ وَلَا يَتَغَيَّرَانِ وَلَا يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَطْغَيَانِ عَلَى النَّاسِ بِالْغَرَقِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ" بَحْرَ الرُّومِ وَبَحْرَ الْهِنْدِ، وَأَنْتُمُ الْحَاجِزُ بَيْنَهُمَا. وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا: بَحْرُ فَارِسٍ وَبَحْرُ الرُّومِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ يَعْنِي الْجَزَائِرَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: بَحْرُ السَّمَاءِ وَبَحْرُ الْأَرْضِ يَلْتَقِيَانِ كُلَّ عَامٍ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: "يُخْرَجُ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ، ﴿اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَالِحِ دُونَ الْعَذْبِ وَهَذَا جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يَذْكُرَ شَيْئَانِ ثُمَّ يَخُصُّ أَحَدَهُمَا بِفِعْلٍ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ" (الْأَنْعَامِ -١٣٠). وَكَانَتِ الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ دُونَ الْجِنِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَخْرُجُ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَمَاءِ الْبَحْرِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِذَا أَمْطَرْتِ السَّمَاءُ فَتَحَتِ الْأَصْدَافُ أَفْوَاهَهَا فَحَيْثُمَا وَقَعَتْ قَطْرَةٌ كَانَتْ لُؤْلُؤَةً، وَاللُّؤْلُؤَةُ: مَا عَظُمَ مِنَ الدُّرِّ، وَالْمَرْجَانُ: صِغَارُهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ عَلَى الضِّدِّ مِنْ هَذَا. وَقِيلَ: "الْمَرْجَانُ" الْخَرَزُ الْأَحْمَرُ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هُوَ الْيُسْرُ (١). ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
﴿وَلَهُ الْجَوَارِي﴾ السُّفُنُ الْكِبَارُ، ﴿الْمُنْشَآتُ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ: "الْمُنْشِئَاتُ" بِكَسْرِ الشِّينِ، أَيِ: الْمُنْشِئَاتُ لِلسَّيْرِ [يَعْنِي اللَّاتِي ابْتَدَأْنَ وَأَنْشَأْنَ السَّيْرَ] (٢). وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الشِّينِ أَيِ الْمَرْفُوعَاتُ، وَهِيَ الَّتِي رُفِعَ خَشَبُهَا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: هِيَ مَا رُفِعَ قَلْعُهُ مِنَ السُّفُنِ وَأَمَّا مَا لَمْ يُرْفَعْ قَلْعُهُ فَلَيْسَ مِنَ الْمُنْشِئَاتِ. وَقِيلَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُسَخَّرَاتُ، ﴿فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾ كَالْجِبَالِ جَمْعُ عَلَمٍ وَهُوَ الْجَبَلُ الطَّوِيلُ، شَبَّهَ السُّفُنَ فِي الْبَحْرِ، بِالْجِبَالِ فِي الْبَرِّ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا﴾ أَيْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ حَيَوَانٍ فَإِنَّهُ هَالِكٌ ﴿فَانٍ﴾.
﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ﴾، ذُو الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ ﴿وَالْإِكْرَامِ﴾، أَيْ مُكْرِمُ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِلُطْفِهِ مَعَ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) ﴾
﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، مِنْ مَلَكٍ وَإِنْسٍ وَجِنٍّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عباس: فأهل السموات يَسْأَلُونَهُ الْمَغْفِرَةَ وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُ الرَّحْمَةَ [وَالرِّزْقَ وَالتَّوْبَةَ وَالْمَغْفِرَةَ] (٣) وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يُسْأَلُهُ أَهْلُ الْأَرْضِ الرِّزْقَ
(٢) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(٣) ما بين القوسين زيادة من "ب".
﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾، قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْضِي يَوْمَ السَّبْتَ شَيْئًا (١).
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُحْيِيَ وَيُمِيتَ، وَيَرْزُقَ، وَيُعِزَّ قَوْمًا، وَيُذِلَّ قَوْمًا، وَيَشْفِيَ مَرِيضًا، وَيَفُكَّ عَانِيًا وَيُفَرِّجَ مَكْرُوبًا، وَيُجِيبَ دَاعِيًا، وَيُعْطِيَ سَائِلًا وَيَغْفِرَ ذَنْبًا إِلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَحْدَاثِهِ فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّرِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدُوسَ الْمُزَكِّي -إِمْلَاءً-أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ الرَّبِيعِ الْمَكِّيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَوْحًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، دَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ، قَلَمُهُ نُورٌ وَكِتَابُهُ نُورٌ، يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ كل يوم ثلاث مائة وَسِتِّينَ نَظْرَةً، يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: "كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ" (٢).
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: الدَّهْرُ كُلُّهُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَانِ أَحَدُهُمَا مُدَّةُ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَالْآخَرُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَالشَّأْنُ الَّذِي هُوَ فِيهِ الْيَوْمُ الَّذِي هُوَ مُدَّةُ الدُّنْيَا: الْإِخْبَارُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَالْإِعْطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَشَأْنُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الْجَزَاءُ وَالْحِسَابُ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ (٣).
وَقِيلَ: شَأْنُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ يُخْرِجُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَلَاثَةَ عَسَاكِرَ، عَسْكَرًا مِنْ أَصْلَابِ الْآبَاءِ إِلَى أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ، وَعَسْكَرًا مِنَ الْأَرْحَامِ إِلَى الدُّنْيَا، وَعَسْكَرًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْقُبُورِ، ثُمَّ يَرْتَحِلُونَ جَمِيعًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(٢) أخرجه عبد الرازق: ٢ / ٢٦٣-٢٦٤، والطبري: ٢٧ / ١٣٥، وزاد السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٦٩٩ عزوه لابن المنذر والطبراني وأبي الشيخ في العظمة وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء والصفات. وأخرجه الحاكم: ٢ / ٤٧٤ وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وانظر ابن كثير: ٤ / ٢٧٤.
(٣) انظر البحر المحيط: ٨ / ١٩٣، القرطبي: ١٧ / ١٦٦-١٦٧.
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٢) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (٣٣) ﴾
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ﴾، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: سَيَفْرُغُ بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ: "يَسْأَلُهُ من في السموات وَالْأَرْضِ"، "وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ" "وَلَهُ الْجَوَارِ" فَأَتْبَعَ الْخَبَرَ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْفَرَاغُ عَنْ شُغْلٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، وَلَكِنَّهُ وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى [لِلْخَلْقِ] (٢) بِالْمُحَاسَبَةِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَأَتَفَرَّغَنَّ لَكَ، وَمَا بِهِ شُغْلٌ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْفَرَاغُ لِسَبْقِ ذِكْرِ الشَّأْنِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: سَنَقْصِدُكُمْ بَعْدَ التَّرْكَ وَالْإِمْهَالِ وَنَأْخُذُ فِي أَمْرِكُمْ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِلَّذِي لَا شُغْلَ لَهُ: قَدْ فَرَغْتَ لِي. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَ أَهْلَ التَّقْوَى وَأَوْعَدَ أَهْلَ الْفُجُورِ، ثُمَّ قَالَ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ مِمَّا وَعَدْنَاكُمْ وَأَخْبَرَنَاكُمْ، فَنُحَاسِبُكُمْ وَنُجَازِيكُمْ وَنُنْجِزُ لَكُمْ مَا وَعَدْنَاكُمْ، فَيُتِمُّ ذَلِكَ وَيَفْرُغُ مِنْهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ.
﴿أَيُّهَا الثَّقَلَانِ﴾، أَيِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، سُمِّيَا ثَقَلَيْنِ لِأَنَّهُمَا ثِقَلٌ عَلَى الْأَرْضِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا"، (الزَّلْزَلَةِ-٢) وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي: كُلُّ شَيْءٍ لَهُ قَدْرٌ وَوَزْنٌ يُنَافَسُ فِيهِ فَهُوَ ثِقَلٌ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي" (٣) فَجَعَلَهُمَا ثَقَلَيْنِ إِعْظَامًا لِقَدْرِهِمَا.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ: سُمِّيَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ ثَقَلَيْنِ لِأَنَّهُمَا مُثْقَلَانِ بِالذُّنُوبِ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا﴾، أَيْ تَجُوزُوا وَتَخْرُجُوا،
(٢) في "أ" للمخلوق.
(٣) أخرجه الإمام أحمد: ٣ / ١٤، ١٧. راجع صحيح الجامع رقم: (٢٤٥٧).
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (٣٥) ﴾
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾، وَفِي الْخَبَرِ: يُحَاطُ عَلَى الْخَلْقِ بِالْمَلَائِكَةِ وَبِلِسَانٍ مِنْ نَارٍ ثُمَّ يُنَادَوْنَ ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا﴾ الْآيَةَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ﴾. ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ﴾، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: بِكَسْرِ الشِّينِ وَالْآخَرُونَ بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، مِثْلَ صِوَارٍ مِنَ الْبَقَرِ وَصُوَارٍ. وَهُوَ اللَّهِيبُ الَّذِي لَا دُخَانَ فِيهِ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ اللَّهَبُ الْأَخْضَرُ الْمُنْقَطِعُ مِنَ النَّارِ، ﴿وَنُحَاسٌ﴾، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو "وَنُحَاسٍ" بِجَرُّ السِّينِ عَطْفًا عَلَى النَّارِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِرَفْعِهَا عَطْفًا عَلَى الشُّوَاظِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْكَلْبِيُّ: "النُّحَاسُ": الدُّخَانُ وَهُوَ رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَمَعْنَى الرَّفْعِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ، وَيُرْسَلُ نُحَاسٌ، أَيْ يُرْسَلُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُرْسَلَا مَعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْتَزِجَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَمَنْ كَسَرَ بِالْعَطْفِ عَلَى النَّارِ يَكُونُ ضَعِيفًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ شُوَاظٌ مِنْ نُحَاسٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَشَيْءٌ مِنْ نُحَاسٍ، عَلَى أَنَّهُ حُكِيَ أَنَّ الشُّوَاظَ لَا يَكُونُ مِنَ النَّارِ وَالدُّخَانِ جَمِيعًا.
(٢) أخرجه الطبري: ٢٧ / ١٣٧. وذكره القرطبي: ١٧ / ١٧٠.
﴿فَلَا تَنْتَصِرَانِ﴾، أَيْ فَلَا تَمْتَنِعَانِ مِنَ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ لَكُمْ نَاصِرٌ مِنْهُ.
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (٣٩) ﴾
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ﴾، [انْفَرَجَتِ] (١) ﴿السَّمَاءُ﴾، فَصَارَتْ أَبْوَابًا لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ ﴿فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾، أَيْ كَلَوْنِ الْفَرَسِ الْوَرِدِ، وَهُوَ الْأَبْيَضُ الَّذِي يَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهَا الْيَوْمَ خَضْرَاءُ، وَيَكُونُ لَهَا يَوْمَئِذٍ لَوْنٌ آخَرُ يَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا تَتَلَوَّنُ أَلْوَانًا يَوْمَئِذٍ كَلَوْنِ الْفَرَسِ الْوَرِدِ يَكُونُ فِي الرَّبِيعِ أَصْفَرَ وَفِي أَوَّلِ الشِّتَاءِ أَحْمَرَ فَإِذَا اشْتَدَّ الشِّتَاءُ كَانَ أَغْبَرَ فَشَبَّهَ السَّمَاءَ فِي تَلَوُّنِهَا عِنْدَ انْشِقَاقِهَا بِهَذَا الْفَرَسِ فِي تَلَوُّنِهِ.
﴿كَالدِّهَانِ﴾، جَمْعُ دُهْنٍ. شَبَّهَ تَلَوُّنَ السَّمَاءِ بِتَلَوُّنِ الْوَرْدِ مِنَ الْخَيْلِ، وَشَبَّهَ الْوَرْدَةَ فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا بِالدُّهْنِ وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: "كَالدِّهَانِ" كَعَصِيرِ الزَّيْتِ يَتَلَوَّنُ فِي السَّاعَةِ أَلْوَانًا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَدُهْنِ الْوَرْدِ الصَّافِي. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: تَصِيرُ السَّمَاءُ كَالدُّهْنِ الذَّائِبِ وَذَلِكَ حِينَ يُصِيبُهَا حَرُّ جَهَنَّمَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَالدِّهَانِ أَيْ كَالْأَدِيمِ الْأَحْمَرِ وَجَمْعُهُ أَدْهِنَةٌ وَدُهُنٌ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾. ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ﴾، قَالَ الْحَسَنُ وقتادة: لا يسئلون عَنْ ذُنُوبِهِمْ لِتُعْلَمَ مِنْ جِهَتِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلِمَهَا مِنْهُمْ، وَكَتَبَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (٢).
(٢) انظر الطبري: ٢٧ / ١٤٢، القرطبي: ١٧ / ١٧٤.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قوله: "فوربك لنسئلنهم أَجْمَعِينَ"، (الْحِجْرِ -٩٢)، قَالَ: لَا يَسْأَلُهُمْ هَلْ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ يَسْأَلُهُمْ لِمَ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟
وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا مَوَاطِنُ، يَسْأَلُ فِي بَعْضِهَا وَلَا يَسْأَلُ فِي بَعْضِهَا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: لَا يُسْأَلُونَ سُؤَالَ شَفَقَةٍ وَرَحْمَةٍ وَإِنَّمَا يُسْأَلُونَ سُؤَالَ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا يُسْأَلُ غَيْرُ الْمُجْرِمِ عَنْ ذَنْبِ الْمُجْرِمِ (٢).
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٠)
(٢) انظر البحر المحيط: ٨ / ١٩٥.
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾، وَهُوَ سَوَادُ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةُ الْعُيُونِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ"، (آلِ عِمْرَانَ-١٠٦) ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ﴾، تُجْعَلُ الْأَقْدَامُ مَضْمُومَةً إِلَى النَّوَاصِي مِنْ خَلْفٍ وَيُلْقَوْنَ فِي النَّارِ، ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ المشركون ١٤٨/ب ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنَى يَأْنَى فَهُوَ آنٌ إِذَا انْتَهَى فِي النُّضْجِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ بَيْنَ الْجَحِيمِ وَالْحَمِيمِ فَإِذَا اسْتَغَاثُوا مِنْ حَرِّ النَّارِ جُعِلَ عَذَابُهُمُ الْحَمِيمَ الْآنِيَ الَّذِي صَارَ كَالْمُهْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ "وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ"، (الْكَهْفِ-٢٩) وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: "آنٍ" وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ جَهَنَّمَ يَجْتَمِعُ فِيهِ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ فَيُنْطَلَقُ بِهِمْ فِي الْأَغْلَالِ فَيُغْمَسُونَ فِي ذَلِكَ الْوَادِي حَتَّى تَنْخَلِعَ أَوْصَالُهُمْ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهُ وَقَدْ أَحْدَثَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا فَيُلْقَوْنَ فِي النَّارِ (١) وَذَلِكَ قَوْلُهُ: "يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ".
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ وَكُلُّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فان" إلى
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٧) ﴾
ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَعَدَّهُ لِمَنِ اتَّقَاهُ وَخَافَهُ فَقَالَ: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ أَيْ: مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ لِلْحِسَابِ فَتَرَكَ الْمَعْصِيَةَ وَالشَّهْوَةَ. وَقِيلَ: قِيَامُ رَبِّهِ عَلَيْهِ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ: "أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ" (الرَّعْدِ-٣٣)، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فَيَدَعَهَا مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ (١). ﴿جَنَّتَانِ﴾، قَالَ مُقَاتِلٌ: جَنَّةُ عَدْنٍ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٢). قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ: جَنَّةٌ لِخَوْفِهِ رَبَّهُ وَجَنَّةٌ لِتَرْكِهِ شَهْوَتَهُ (٣).
قَالَ الضَّحَّاكُ: هَذَا لِمَنْ رَاقَبَ اللَّهَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ بِعِلْمِهِ مَا عَرَضَ لَهُ مِنْ مُحَرَّمٍ تَرَكَهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ أَفْضَى بِهِ إِلَى اللَّهِ، لَا يُحِبُّ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ خَافُوا ذَلِكَ الْمَقَامَ فَعَمِلُوا لِلَّهِ وَدَأَبُوا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ (٤).
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقُرَشِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُسْلِمٍ غَالِبُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُونُسَ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى الْحُلْوَانِيُّ، وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْهَمْدَانِيُّ، أَخْبَرَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي عَقِيلٍ هُوَ الثَّقَفِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ سِنَانَ سَمِعْتُ [بُكَيْرَ] (٥) بْنَ فَيْرُوزَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ" (٦).
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ،
(٢) انظر: البحر المحيط: ٨ / ١٩٦.
(٣) انظر: القرطبي: ١٧ / ١٧٦.
(٤) أخرجه الطبري: ٢٧ / ١٤٧، وزاد السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٧٠٦ عزوه لعبد بن حميد.
(٥) في "أ" بكر، والصحيح ما أثبتناه من "ب".
(٦) أخرجه الترمذي في صفة القيامة، باب من خاف أدلج: ٧ / ١٤٦-١٤٧ قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر". وصححه الحاكم: ٤ / ٣٠٧-٣٠٨ ووافقه الذهبي. وله شاهد عند الحاكم من حديث أبي بن كعب، والمصنف في شرح السنة: ١٤ / ٢٧١. وانظر: الجامع الصغير وزيادته برقم: (٦٢٢٢).
﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٩) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥١) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (٥٢) ﴾
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ثُمَّ وَصَفَ الْجَنَّتَيْنِ فَقَالَ:
﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ﴾، أَغْصَانٍ، وَاحِدُهَا فَنَنٌ، وَهُوَ الْغُصْنُ الْمُسْتَقِيمُ طُولًا. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْكَلْبِيِّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ظِلُّ الْأَغْصَانِ عَلَى الْحِيطَانِ. قَالَ الْحَسَنُ: ذَوَاتَا ظِلَالٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلْوَانٌ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: أَلْوَانُ الْفَاكِهَةِ، وَاحِدُهَا فَنٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ أَفْنَنَ فُلَانٌ فِي حَدِيثِهِ إِذَا أَخَذَ فِي فُنُونٍ مِنْهُ وَضُرُوبٍ. وَجَمَعَ عَطَاءٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ: فِي كُلِّ غُصْنٍ فُنُونٌ مِنَ الْفَاكِهَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَوَاتَا فَضْلٍ وَسَعَةٍ عَلَى مَا سِوَاهُمَا ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْكَرَامَةِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ. قَالَ الْحَسَنُ: تَجْرِيَانِ بِالْمَاءِ الزُّلَالِ، إِحْدَاهُمَا التَّسْنِيمُ وَالْأُخْرَى السَّلْسَبِيلُ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: إِحْدَاهُمَا مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَالْأُخْرَى مَنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
﴿فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ صِنْفَانِ وَنَوْعَانِ قِيلَ: مَعْنَاهُ: إِنَّ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ مَا يُتَفَكَّهُ
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٥) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٥٦) ﴾
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ﴾، جَمْعُ فِرَاشٍ، ﴿بَطَائِنُهَا﴾، جَمْعُ بِطَانَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَحْتَ الظِّهَارَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَهِيَ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ. ﴿مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ وَهُوَ مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: هَذِهِ الْبَطَائِنُ فَمَا ظَنَّكُمْ بِالظَّوَاهِرِ (٢) ؟ وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْبَطَائِنُ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، فَمَا الظَّوَاهِرُ؟ قَالَ: هَذَا مِمَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ" (السَّجْدَةِ -١٧) (٣) وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فَظَوَاهِرُهَا مِنْ نُورٍ جَامِدٍ (٤). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَصَفَ الْبَطَائِنَ وَتَرَكَ الظَّوَاهِرَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَا الظَّوَاهِرُ (٥).
﴿وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ﴾، الْجَنَى مَا يُجْتَنَى مِنَ الثِّمَارِ، يُرِيدُ: ثَمَرُهَا دَانٍ قَرِيبٌ يَنَالُهُ الْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ وَالنَّائِمُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَدْنُو الشَّجَرَةُ حَتَّى يَجْتَنِيَهَا وَلِيُّ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ قَائِمًا وَإِنْ شَاءَ قَاعِدًا (٦). قَالَ قَتَادَةُ: لَا يَرُدُّ أَيْدِيَهُمْ عَنْهَا بُعْدٌ وَلَا شَوْكٌ. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ غَاضَّاتُ الْأَعْيُنِ، قَصَرْنَ طَرْفَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَلَا يُرِدْنَ غَيْرَهُمْ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تَقُولُ لِزَوْجِهَا: وَعِزَّةِ رَبِّي مَا أَرَى فِي الْجَنَّةِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْكَ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَكَ زَوْجِي وَجَعَلَنِي زَوْجَتَكَ (٧). ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾ لَمْ يُجَامِعْهُنَّ وَلِمَ [يَفْتَرِعْهُنَّ] (٨)
(٢) لم أجد القول منسوبًا لأبي هريرة وإنما هو لهبيرة كما ذكر الطبري: ٢٧ / ١٤٩ أو عن هبيرة بن مريم عن عبد الله بن مسعود كما ذكر ابن كثير: ٤ / ٢٧٨.
(٣) أخرجه الطبري: ٢٧ / ١٤٩. وانظر: القرطبي: ١٧ / ١٧٩.
(٤) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٧١٠ لأبي نعيم في الحلية.
(٥) انظر: القرطبي: ١٧ / ١٧٩.
(٦) انظر: البحر المحيط: ٨ / ١٩٧.
(٧) أخرجه الطبري: ٢٧ / ١٥٠.
(٨) الافتراع: إزالة البكارة.
قَالَ مُقَاتِلٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ﴾، لِأَنَّهُنَّ خُلِقْنَ فِي الْجَنَّةِ. فَعَلَى قَوْلِهِ: هَؤُلَاءِ مِنْ حُورِ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُنَّ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا لَمْ يُمْسَسْنَ مُنْذُ أُنْشِئْنَ خَلْقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ (٢) يعني: لم يجامعن فِي هَذَا الْخَلْقِ الَّذِي أُنْشِئْنَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: "لَا يَطْمُثْهُنَّ" بِضَمِّ الْمِيمِ فِيهِمَا.
وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ إِحْدَاهُمَا بِالضَّمِّ، فَإِنْ كَسَرَ الْأُولَى ضَمَّ الثَّانِيَةَ وَإِنْ ضَمَّ الْأُولَى كَسَرَ الثَّانِيَةَ، لِمَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي خَلْفَ أَصْحَابِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه فأسمعهم يقرؤون: لَمْ يَطْمُثْهُنَّ بِالرَّفْعِ، وَكُنْتُ أُصَلِّي خَلْفَ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود فأسمعهم يقرؤون بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَضُمُّ إِحْدَاهُمَا وَيَكْسِرُ الْأُخْرَى لِئَلَّا يَخْرُجَ عَنْ هَذَيْنَ الْأَثَرَيْنِ (٣).
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨) ﴾
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾، قَالَ قَتَادَةُ: صَفَاءُ الْيَاقُوتِ فِي بَيَاضِ الْمَرْجَانِ.
وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً، يُرَى مُخُّ سُوقِهِنَّ دُونَ لَحْمِهِمَا وَدِمَائِهِمَا وَجِلْدِهِمَا" (٤).
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنَا شُعَيْبٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالَّذِينَ عَلَى إِثْرِهِمْ كَأَشَدِّ
(٢) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٧١١ لسعيد بن منصور وابن المنذر وأبي الشيخ في العظمة.
(٣) معاني القرآن للفراء: ٣ / ١١٩.
(٤) قطعة من حديث أخرجه الترمذي في صفة الجنة، باب ما جاء في صفة نساء أهل الجنة: ٧ / ٢٣٩-٢٤٠ وقال: "هذا حديث حسن صحيح" والإمام أحمد: ٣ / ١٦، والمصنف في شرح السنة: ١٥ / ٢١٢.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا حَازِمُ بْنُ يَحْيَى الْحُلْوَانِيُّ، أَخْبَرَنَا سُهَيْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابن مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُرَى بَيَاضُ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حُلَّةً مِنْ حَرِيرٍ، وَمُخُّهَا، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ، فَأَمَّا الْيَاقُوتُ فَإِنَّهُ حَجَرٌ لَوْ أَدْخَلْتَ فِيهِ سِلْكًا ثُمَّ اسْتَصْفَيْتُهُ لَرَأَيْتَهُ مِنْ وَرَائِهِ" (٢).
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: "إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ لَتَلْبَسُ سَبْعِينَ حُلَّةً فَيُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَائِهَا كَمَا يُرَى الشَّرَابُ الْأَحْمَرُ فِي الزُّجَّاجَةِ الْبَيْضَاءِ" (٣).
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٩) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٦٠) ﴾
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾، أَيْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ جَزَاءُ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَعَمِلَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْجَنَّةُ؟ (٤).
(٢) أخرجه هناد في الزهد: ١ / ٩٦، والترمذي في صفة الجنة، باب ما جاء في صفة نساء أهل الجنة: ٧ / ٢٣٨-٢٣٩، والطبري: ٢٧ / ١٥٢، وابن حبان: برقم: (٢٦٣٢) ص ٦٥٤. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: ١٠ / ٤١٨: "رواه الطبراني وسقط من إسناده رجلان". وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٧١٢ أيضًا لابن أبي الدنيا في "وصف الجنة" وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة"، وابن مردويه. وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط.
(٣) أخرجه الطبري: ٢٧ / ١٥٢ موقوفًا على عمرو بن ميمون، وهناد في "الزهد" مثله: ١ / ٩٧، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف: ١١ / ٤١٤. وانظر تعليق المحقق على كتاب الزهد لهناد: ١ / ٩٧-٩٨.
(٤) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٧١٤ لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. وانظر: القرطبي: ١٧ / ١٨٢.
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٦٢) ﴾
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾، أَيْ مِنْ دُونِ الْجَنَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ جَنَّتَانِ أُخْرَيَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ دُونِهِمَا فِي الدَّرَجِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ دُونِهِمَا فِي الْفَضْلِ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلسَّابِقِينَ وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ لِلتَّابِعِينَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُنَّ أَرْبَعٌ جَنَّتَانِ لِلْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ فِيهِمَا من كل مِنْ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ، وَجَنَّتَانِ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَالتَّابِعِينَ ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ" (٤).
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: "وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ" أَيْ أَمَامَهُمَا وَقَبْلَهُمَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الضَّحَّاكِ: الْجَنَّتَانِ
(٢) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(٣) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٧١٤ للحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، والديلمي في "مسند الفردوس"، وابن النجارفي تاريخه. وفيه بشر بن الحسين الأصبهاني، قال ابن حبان في المجروحين والضعفاء: (١ / ١٩٠) :"يروي عن الزبير عن عدي بنسخة موضوعة، ما لكثير حديث فيها أصل، يرويها عن الزبير عن أنس شبيهًا بمائة وخمسين حديثًا مسانيد كلها، وإنما سمع الزبير من أنس حديثًا واحدًا.." وانظر: ميزان الاعتدال للذهبي: ١ / ٣١٥-٣١٦.
(٤) أخرجه البخاري في التفسير-تفسير سورة الرحمن- باب (ومن دونهما جنتان) ٨ / ٦٢٣-٦٢٤، ومسلم في الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى برقم: (١٨٠) : ١ / ١٦٣، والمصنف في شرح السنة: ١٥ / ٢١٦.
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٣) مُدْهَامَّتَانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٥) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٧) ﴾
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ﴾، نَاعِمَتَانِ سَوْدَاوَانِ مِنْ رَيِّهِمَا وَشِدَّةِ خُضْرَتِهِمَا، لِأَنَّ الْخُضْرَةَ إِذَا اشْتَدَّتْ ضَرَبَتْ إِلَى السَّوَادِ، يُقَالُ: إِدْهَامَّ الزَّرْعُ إِذَا عَلَاهُ السَّوَادُ رَيًّا ادْهِيمَامًا فَهُوَ مُدْهَامٌّ.
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ﴾، فَوَّارَتَانِ بِالْمَاءِ لَا تَنْقَطِعَانِ. "وَالنَّضْخُ": فَوَرَانُ الْمَاءِ مِنَ الْعَيْنِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَنْضَخَانِ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ (١)، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تَنْضَخَانِ بِالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ (٢). وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: تَنْضَخَانِ بِالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ فِي دُورِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَطَشِّ الْمَطَرِ (٣).
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ النَّخْلُ وَالرُّمَّانُ مِنَ الْفَاكِهَةِ وَالْعَامَّةُ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْفَاكِهَةِ، وَإِنَّمَا أَعَادَ ذِكْرَ النَّخْلِ وَالرُّمَّانِ وَهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْفَوَاكِهِ لِلتَّخْصِيصِ وَالتَّفْصِيلِ (٤)، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ" (الْبَقَرَةِ-٩٨).
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَخْلُ الْجَنَّةِ جُذُوعُهَا زُمُرُّدٌ أَخْضَرُ، وَوَرَقُهَا ذَهَبٌ أَحْمَرُ، وَسَعَفُهَا كِسْوَةٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِيهَا مُقَطَّعَاتُهُمْ وَحُلَلُهُمْ، وَثَمَرُهَا أَمْثَالُ الْقِلَالِ أَوِ الدِّلَاءِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ لَيْسَ لَهُ عَجَمٌ (٥).
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (٧٦) ﴾
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ﴾، يَعْنِي فِي الْجَنَّاتِ الْأَرْبَعِ، ﴿خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ رَوَى
(٢) انظر: القرطبي: ١٧ / ١٨٥.
(٣) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٧١٦ لابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم. وانظر: البحر المحيط: ٨ / ١٩٨، القرطبي: ١٧ / ١٨٥.
(٤) معاني القرآن للفراء: ٣ / ١١٩.
(٥) ذكره القرطبي: ١٧ / ١٨٦.
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ﴾ ١٤٩/ب مَحْبُوسَاتٌ مَسْتُورَاتٌ فِي الْحِجَالِ، يُقَالُ: امْرَأَةٌ مَقْصُورَةٌ وَقَصِيرَةٌ إِذَا كَانَتْ مُخَدَّرَةً مَسْتُورَةً لَا تَخْرُجُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي قَصَرْنَ طَرْفَهُنَّ وَأَنْفُسَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَلَا يَبْغِينَ لَهُمْ بَدَلًا.
وَرُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى [أَهْلِ] (٢) الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" (٣).
﴿فِي الْخِيَامِ﴾ جَمْعُ خَيْمَةٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ الْجَوْنِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلًا فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا يَرَوْنَ الْآخَرِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ" (٤).
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "الرَّفْرَفُ": رِيَاضُ الْجَنَّةِ. "خُضْرٍ": مُخَضَّبَةٍ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاحِدَتُهَا رَفْرَفَةٌ، وَقَالَ: الرَّفَارِفُ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَقِيلَ: "الرَّفْرَفُ": الْبُسُطُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُقَاتِلٍ وَالْقُرَظِيِّ وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الرَّفْرَفُ": فُضُولُ الْمَجَالِسِ وَالْبُسُطِ.
(٢) ساقط من "ب".
(٣) قطعه من حديث أخرجه البخاري في الجهاد، باب الحور العين وصفتهن: ٦ / ١٥.
(٤) أخرجه البخاري في التفسير -تفسير سورة الرحمن- باب (حور مقصورات في الخيام) : ٨ / ٦٢٤، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفة خيام الجنة وما للمؤمنين فيها من الأهلين برقم: (٢٨٣٨) : ٤ / ٢١٨٢.
﴿وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾ هِيَ الزَّرَابِيُّ وَالطَّنَافِسُ الثِّخَانُ، وَهِيَ جَمْعٌ، وَاحِدَتُهَا عَبْقَرِيَّةٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: "الْعَبْقَرِيُّ" عِتَاقُ الزَّرَابِيِّ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هِيَ الطَّنَافِسُ الْمُخَمَّلَةُ إِلَى الرِّقَّةِ. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: كُلُّ ثَوْبٍ مُوَشًّى عِنْدَ الْعَرَبِ: عَبْقَرِيٌّ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَرْضٍ يُعْمَلُ بِهَا الْوَشْيُ.
قَالَ الْخَلِيلُ: كُلٌّ جَلِيلٍ نَفِيسٍ فَاخِرٍ مِنَ الرِّجَالِ وَغَيْرِهِمْ عِنْدَ الْعَرَبِ: عَبْقَرِيٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرْيَهُ" (١).
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٧) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٧٨) ﴾
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ قَرَأَ أَهْلُ الشَّامِ "ذُو الْجَلَالِ" بِالْوَاوِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ إِجْرَاءً عَلَى الِاسْمِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَرِيكٍ الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْجُورَبَذِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ لَمْ يَقْعُدْ إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" (٢).
(٢) أخرجه مسلم في المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم: (٥٩٢) : ١ / ٤١٤.