تفسير سورة سورة الحديد من كتاب أوضح التفاسير
المعروف بـأوضح التفاسير
.
لمؤلفه
محمد عبد اللطيف الخطيب
.
المتوفي سنة 1402 هـ
ﰡ
﴿سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أي إن كل من عداه من مخلوقاته: يجله ويعظمه، ويسبح بحمده، حتى الجماد والوحش والطير؛ فإنها جميعاً تسبح بحمده ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾
﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾ قبل كل شيء؛ بلا بداية ﴿وَالآخِرُ﴾ بعد كل شيء؛ بلا نهاية ﴿وَالظَّاهِرُ﴾ بالأدلة والبراهين الدالة عليه:
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد
لكونه تعالى غير مدرك بالحواس؛ ولو أنه ظاهر في مخلوقاته وآثاره ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ استواء يليق به؛ لا كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ﴾ ما يدخل فيها: من البذر، والقطر، والموتى ﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ من النبات، والمعادن، وغيرهما ﴿وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ﴾ من الملائكة، والغيث، والشهب، وغيرها ﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ من الأعمال والدعوات «إليه يصعد الكلم الطيب» ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ بحفظه وكلاءته
﴿لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ يتصرف فيهما كيف شاء ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾ وحده ﴿تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ فيقضي فيها بما أراد؛ لا راد لقضائه
﴿يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ﴾ يدخل أحدهما في الآخر؛ بنقصان هذا وزيادة ذاك
-[٦٦٦]- ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بخوافيها وما فيها
﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ يعني إن الأموال التي في أيديكم: إنما هي أموال الله تعالى؛ استخلفكم عليها؛ فإن أحسنتم التصرف فيها، وأديتم زكاتها، وأنفقتم في سبيله: نمت أموالكم، وزادت حسناتكم. وإن أسأتم التصرف، وأدرككم الشح المردي، ومنعتم ذوي الحاجات حاجاتهم، وأرباب الحقوق حقوقهم: استوجبتم النيران، وحل بواديكم الخسران
﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ لا تقرون بوحدانيته وربوبيته ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ﴾ ويرشدكم إلى معرفته بالحجج القاطعة، والبراهين الدامغة؛ فليس لكم عذر بعد ذلك ﴿وَقَدْ أَخَذَ﴾ الله ﴿مِيثَاقَكُمْ﴾ في صلب آدم؛ حين قال ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ وقلتم «بلى» (انظر آية ١٧٢ من سورة الأعراف)
﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ﴾ محمد ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ محكمات، واضحات ﴿لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ من الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم (انظر آية ١٧ من سورة البقرة)
﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ﴾ أي فتح مكة، ورفعة الإسلام، وانتصار المسلمين. أو هو فتح الحديبية
﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ في الدنيا. (انظر آية ٢٤٥ من سورة البقرة)
﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ في الجنة ﴿يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ أمامهم. والمراد بذلك: أن وجوه المؤمنين تصير مضيئة كضوء القمر في سواد الليل؛ تكريماً لهم وتشريفاً؛ ويؤيده ما بعده ﴿انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾ وحقاً إن للمؤمن لنوراً يراه كل من أنار الله تعالى بصيرته في هذه الحياة الدنيا؛ فكيف بيوم القيامة: يوم الجزاء والوفاء
-[٦٦٧]- ﴿وَبِأَيْمَانِهِم﴾ أي يصير النور أمامهم وحواليهم؛ ويقال لهم ﴿بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ﴾ تدخلونها
﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ﴾ وهم في العذاب والظلمات ﴿لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظُرُونَا﴾ أي انظروا إلينا ﴿نَقْتَبِسْ﴾ نأخذ ونستمد ﴿مِن نُّورِكُمْ﴾ فقد أعمانا ما نحن فيه من الظلمات ﴿قِيلَ﴾ أي قالت لهم الملائكة ﴿ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً﴾ أي ارجعوا إلى أعمالكم التي عملتموها في الدنيا: هل تجدون فيها ما يؤهلكم للاستمتاع بهذا النور الذي يشع من المؤمنين وعليهم؟ ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم﴾ أي بين المؤمنين والمنافقين ﴿بِسُورٍ﴾ هو سور الأعراف ﴿بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ﴾ أي باطن السور فيه المؤمنون والجنة ﴿وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ﴾ من جهته ﴿الْعَذَابُ﴾ الكفار والنار أي ينادي المنافقون المؤمنين؛ قائلين لهم
﴿أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ﴾ في الدنيا: نصلي مثلما تصلون، ونصوم مثلما تصومون، ونحج مثلما تحجون؟ ﴿قَالُواْ﴾ أي قال المؤمنون للمنافقين ﴿بَلَى﴾ كنتم تعبدون معنا كما كنا نعبد، وتشهدون كما كنا نشهد ﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ أهلكتموها بالنفاق، وأوقعتموها في العذاب ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ انتظرتم بالمؤمنين الدوائر ﴿وَارْتَبْتُمْ﴾
شككتم في أمر التوحيد ﴿وَغرَّتْكُمُ﴾ خدعتكم ﴿الأَمَانِيُّ﴾ الأطماع الكاذبة؛ فلم تجاهدوا مع المجاهدين، ولم تنفقوا مع المنفقين ﴿حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ الموت ﴿وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ الشيطان
﴿هِيَ مَوْلاَكُمْ﴾ أي أولى بكم
﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ﴾ أي ألم يجىء الأوان الذي فيه تخشع قلوب المؤمنين ﴿لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ القرآن ﴿وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ وهم اليهود والنصارى ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ﴾ الأجل أو طال الزمن بين نزول الكتب إليهم، ونزول الرسل بعد ذلك ﴿فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ وكفروا بما آمنوا به، وتنكروا لكتبهم وشوهوها وحرفوها
﴿اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي كما أنه تعالى يحيي الأرض بعد موتها؛ كذلك ذكره تعالى يحيي القلوب بعد قساوتها ﴿وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ﴾ أي والذين أقرضوا الله. والمقرض: هو الذي يبذل المال في الحياة الدنيا؛ رجاء ثواب الآخرة ﴿يُضَاعَفُ لَهُمْ﴾ الثواب والأجر ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ الذين سبقوا إلى التصديق. لأن التصديق لا يكون باللسان؛ بل بالجنان وهم آمنوا، وصدقوا، وأنفقوا يقول أصدق القائلين، وأحكم الحاكمين، وأكرم الأكرمين:
﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ﴾ الذين آمنوا بي وبرسلي ﴿وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ أنفقوا في سبيله تعالى؛ من غير رياء، ولا منَ، ولا أذى ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ أولئك هم ﴿الشُّهَدَآءِ﴾ أي في درجة الشهداء: في التنعم والقرب ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ في روضات الجنات ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ الذي أعده الله تعالى لهم ﴿وَنُورُهُمْ﴾
الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم. أو المعنى: «أولئك» الذين مر ذكرهم
﴿هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ وانتهى القول عند ذلك ﴿وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ خبر جديد عن نوع آخر من خواص المؤمنين: وهم الشهداء
﴿اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ أي متاعها المعجل لكم: ما هو إلا ﴿لَعِبٌ﴾ تلعبونه ﴿وَلَهْوٌ﴾ تتلهون به ﴿وَزِينَةٌ﴾ تتزينون بها ﴿وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ﴾ يفخر بعضكم على بعض، ويسابق بعضكم بعضاً؛ بالأموال، والجاه، والأولاد. وذلك التفاخر والتكاثر، واللهو واللعب والزينة: مثله ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ﴾ مطر نزل على الأرض فازدهرت وأنبتت؛ وقد ﴿أَعْجَبَ الْكُفَّارَ﴾ الزراع ﴿نَبَاتُهُ﴾ أي نبات ذلك الغيث. وسمي المطر غيثاً: لأنه يغيث الناس من الجوع والفاقة؛ ولذا سمي الكلأ غيثاً: لأنه يغيث الماشية ﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾ أي يجف ﴿فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً﴾ بعد خضرته ﴿ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً﴾ يابساً متكسراً. شبه تعالى حال الدنيا، وسرعة انقضائها؛ مع قلة جدواها: بالنبات الذي يعجب الزراع لاستوائه وقوته ونمائه؛ وبعد ذلك يكون حطاماً، ويدركه الفناء. وكذلك حال الدنيا: «حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس» ﴿وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ للكفار؛ الذين ركنوا إلى لهو الدنيا ولعبها، وزينتها والتفاخر فيها ﴿وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ﴾ لمن آمن بالله، وصدق برسله ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ﴾ وما فيها من تمتع وزخرف ﴿إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ أي إلا متاع مزيف؛ لا أثر له. ورجل مغرور: مخدوع
﴿سَابِقُواْ﴾ بالأعمال الصالحة ﴿عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ﴾ إشارة إلى أنه لا حد لها في العظم، وأنها من السعة بالقدر الذي لا يعرف مداه، ولا يوصل إلى منتهاه
﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ﴾ من الجدب، وآفات الزرع والثمار ﴿وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ﴾ من الأمراض والأوصاب والموت ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾ هو اللوح المحفوظ. ما أصابنا: لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا: لم يكن ليصيبنا (انظر آية ١٥٦ من سورة البقرة) ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ﴾ أي من قبل أن نخلق الأنفس ﴿إِنَّ﴾ معرفة ﴿ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ هين؛ لا يصعب ولا يشق عليه أن يعلم ما كان، وما سيكون، وما هو كائن
﴿لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ﴾ من الأسى: وهو الحزن. أي أعلمكم الله تعالى بذلك لئلا تحزنوا ﴿عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ في الدنيا من ربح ﴿وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ﴾ الله تعالى منها.
هذا ومن المعلوم أنه ما من أحد يعقل: إلا ويحزن على ما يفوته، ويفرح بما يأتيه. ولكن المراد من الآية الكريمة: ألا يحزن حزناً مذهباً للثواب، ولا يفرح فرحاً موجباً للعقاب ولكن من أصابته مصيبة فجعل منها صبراً، ومن أصابه خير فجعل منه شكراً: كان جزاؤه الجنة ﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ﴾ متكبر بما أوتي من الدنيا ﴿فَخُورٍ﴾ به على الناس
﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ بما آتاهم الله من فضله لا يكتفون ببخلهم الذي أهلكهم وأرداهم؛ بل ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ وهذا مشاهد فيمن أعمى الله تعالى بصائرهم، وقضى عليهم بالحرمان من لذة السخاء، وفرحة الإعطاء، وكتب لهم الشقاء. فهم في شقاء دائم في دنياهم، وعذاب واصب في أخراهم ﴿وَمَن يَتَوَلَّ﴾ يعرض عن الإنفاق
﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الحجج الواضحات ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ الذي يوزن به. قيل: إن جبريل عليه الصلاة والسلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام؛ وقال له: مر قومك يزنوا به. ويجوز أن يراد بالميزان: القانون الذي يحكم به بين الناس ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ بالعدل ﴿وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ﴾ أظهرناه؛ وذلك لأن من معاني الإنزال: الإظهار؛ يدل على ذلك إنزال القرآن ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ وهو بمعنى إظهاره: إذ أن القرآن الكريم قديم - صفة الموصوف بالقدم - ونزوله: إظهاره للناس ﴿فِيهِ بَأْسٌ﴾ قوة ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ وأي منافع فقد صار الحديد من ألزم لوازم الحياة، وإحدى الضرورات التي لا تستطيع أمة من الأمم أن تبني نهضتها ومجدها بما عداه: إذ منه تصنع القاطرات والطائرات، والسفن العظيمة التي تجوب المحيطات؛ وبغيره لا تكون الأسلحة على اختلاف درجاتها وأنواعها: من مدافع ودبابات وصواريخ وناسفات ذلك ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ علم ظهور للمخلوقات ﴿مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ﴾ ينصر ﴿وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾ حال كونه تعالى غائباً عن بصره، حاضراً في بصيرته: ينصره ولا يبصره
وهذا الوصف ينطبق تمام الانطباق على أمة سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام؛ فقد آمنا بالله
-[٦٧٠]- ورسله بالغيب، ونصرنا الله تعالى - بإعلاء دينه، والدعوة إلى توحيده - ونصرنا رسله بالإيمان بهم جميعاً. وكل ذلك من غير أن نرى ربنا، أو نطلب رؤيته بأعيننا؛ ومن غير أن نرى رسله تعالى، أو نسمع دعوتهم، ونشهد معجزاتهم؛ فاستحققنا بذلك أن نكون خير أمة أخرجت للناس؛ فللَّه الحمد على ما أنعم، والشكر على ما به تفضل
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ﴾ إلى الناس ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ اسم جنس؛ أريد به التوراة والإنجيل، والزبور، والقرآن؛ وهي في ذرية إبراهيم وحده ﴿فَمِنْهُمْ﴾ أي من المرسل إليهم ﴿مُّهْتَدٍ﴾ إلى طريق الحق، مؤمن ب الله ورسله ﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ كافرون
﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا﴾ أتبعنا ﴿عَلَى آثَارِهِم﴾ أي على آثار نوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ أي اتبعوا عيسى وآمنوا به، وكانوا على شرعته ومنهاجه ﴿رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ وهما صفتان يمن الله تعالى بهما على من ارتضى من عباده، وجعله أهلاً لكرامته وجنته ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا﴾ أي اخترعوها؛ وهي أنهم كانوا يهجرون النساء، وكثيراً من المطاعم والملابس؛ بقصد التجرد من الملذات والشهوات، والتفرغ للعبادة ﴿مَا كَتَبْنَاهَا﴾ ما فرضناها ﴿عَلَيْهِمْ﴾ ولم يفعلوها ﴿إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ قاصدين بها وجهه الكريم؛ لكن من أتى بعدهم، وأراد السير على نهجهم: انتظم في سلك الرهبانية؛ قاصداً بذلك الصوالح الدنيوية؛ لذلك وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ كالذين سبقوهم إليها، وفرضوها على أنفسهم؛ ابتغاء ثواب الله تعالى
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ﴾ خافوه واخشوا غضبه وعقابه ﴿وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ﴾
أي اثبتوا على إيمانكم به ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ﴾ نصيبين ﴿مِن رَّحْمَتِهِ﴾ والمراد بالكفلين: كثرة الثواب، وعظم الأجر ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾ المراد بالنور هنا: العقل؛ لأنه كالنور الذي يهتدى به: يرى الإنسان به الصواب فيتبعه، والخطأ فيجتنبه؛ كما أن النور يتجنب به الإنسان المهاوي والمزالق والمهالك ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ذنوبكم ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ كثير المغفرة لمن تاب ﴿رَّحِيمٌ﴾ بعباده؛ أرحم بهم من أمهاتهم
﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ﴾ أي خشية أن يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على نيل شيء من فضل الله - لو أسلموا - مثل ما نلتموه أنتم بإسلامكم، واستوجبتموه، بتقواكم وإيمانكم
﴿وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ﴾ كلام مستأنف؛ أي اعلموا أيها المخاطبون أن الفضل بيد الله، لا بيد غيره؛ ولا طريق لنيله إلا بالتزام الطاعة، واجتناب المعصية، وتحري مرضاته تعالى
﴿يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ وقيل: الضمير في
﴿أَلاَّ يَقْدِرُونَ﴾ للذين آمنوا: الذين منحهم الله تعالى رفده
-[٦٧١]- وفضله؛ وآتاهم كفلين من رحمته، وجعل لهم نوراً يمشون به في الدنيا والآخرة، وغفر لهم ذنوبهم، وآتاهم تقواهم و
«لئلا يعلم» أي ليعلم، و
«لا» زائدة، ويؤيد ذلك: قراءة من قرأ
«ليعلم» و
«لكي يعلم» وما قلناه أولاً هو أقرب إلى الصواب، وأجدر بالتفهم؛ ولم يسبقنا أحد إليه.
670
سورة المجادلة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
671