سماع بسم الله الرحمان الرحيم شراب يسقي به الحق – سبحانه وتعالى – قلوب أحبائه، فإذا شربوا طربوا، وإذا طربوا انبسطوا، ثم لشهود حقه تعرضوا، وبنسيم قربه استأنسوا، وعند الإحساس بهم غابوا. . فعقولهم تستغرق في لطفه، وقلوبهم تستهلك في كشفه.
ﰡ
التسبيحُ التقديسُ والتنزيه، ويكون بمعنى سباحة الأسرار في بحار الإجلال، فيظفرون بجواهر التوحيد ويَنْظِمونها في عقود الإيمان، ويُرَصِّعونها في أطواق الوصلة :
وقله ﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ المرادُ به " من " في السماوات والأرض، يسجدون لله طوعاً وكرهاً ؛ طوعاً تسبيحَ طاعةٍ وعبادة، وكرهاً تسبيح علامة ودلالة.
وتُحْملُ " ما " على ظاهرها فيكون المعنى : ما من مخلوقٍ من عينٍ أو أَثَرِ إلا ويَدُلُّ على الصانع، وعلى إثبات جلاله، وعلى استحقاقه لنعوت كبريائه.
ويقال : يُسبح لله ما في السماوات والأرض، كلٌّ واقفٌ على الباب بشاهدِ الطّلَبِ. . . ولكنه - سبحانه عزيزٌ.
ويقال : ما تَقَلّب أحدُ من جاحدٍ أو ساجدٍ إلا في قبضة العزيز الواحد، فما يُصَرِّفهم إلا مَنْ خَلَقَهم ؛ فمِنْ مُطيعٍ أَلْبَسَه نطاق وفاقه - وذلك فَضْلُه، ومِنْ عاصٍ رَبَطَه بمثقلة الخذلان - وذلك عَدْلُه.
﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ : العزيز : المُعِزُّ لِمَنْ طَلَبَ الوصول، بل العزيز : المتقدِّسُ عن كل وصول. . فما وَصَلَ مَنْ وَصَلَ إلا حظِّه ونصيبه وصفته على ما يليق به.
المُلْك مبالغةٌ من المِلْك، وهو القدرة على الإبداع، ولا مالكَ إلا الله. وإذا قيل لغيره : مالك فعلى سبيل المجاز ؛ فالأحكام المتعلقة في الشريعة على مِلْكَ الناس صحيحةٌ في الشرع، ولكنَّ لفظَ المِلْك فيها توسُّعٌ كما أن لفظَ التيمم في استعمال التراب - عند عدم الماء - في السفر مجازٌ، فالمسائل الشرعية في التيمم صحيحة، ولكن لفظ التيمم في ذلك مجاز.
﴿ يُحْييِ وَيُمِيتُ ﴾ : يحيي النفوس ويميتها. يُحْيي القلوبَ بإِقباله عليها، ويميتها بإعراضه عنها. ويقال : يحييها بنظره وتفضُّله، ويميتها بقهره وتعزُّزه.
﴿ الأول ﴾ : لاستحقاقه صفة القِدَم، و﴿ الآخرِ ﴾ لاستحالة نعت العدَم.
و﴿ الظاهر ﴾ : بالعلو والرفعة، و﴿ الباطن ﴾ : بالعلم والحكمة.
ويقال :﴿ الأول ﴾ فلا افتتاحَ لوجوده و﴿ الآخر ﴾ فلا انقطاعَ لثبوته.
﴿ الظاهر ﴾ فلا خفاءَ في جلال عِزِّه، ﴿ الباطن ﴾ فلا سبيل إلى إدراك حقِّه.
ويقال ﴿ الأول ﴾ بلا ابتداء، و﴿ الآخِر ﴾ بلا انتهاء، و﴿ الظاهر ﴾ بلا خفاء، و﴿ الباطن ﴾ بنعت العلاء وعِزِّ الكبرياء.
ويقال ﴿ الأول ﴾ بالعناية، و﴿ الآخر ﴾ بالهداية، و﴿ الظاهر ﴾ بالرعاية، و﴿ الباطن ﴾ بالولاية. ويقال :﴿ الأول ﴾ بالخَلْق، و﴿ الآخِر ﴾ بالرزق، و﴿ الظاهر ﴾ بالإحياء، و﴿ الباطن ﴾ بالإماتة والإفناء.
قال تعالى :﴿ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ [ الروم : ٤٠ ].
ويقال :﴿ الأول ﴾ لا بزمان، و﴿ الآخر ﴾ لا بأوان، و﴿ الظاهر ﴾ بلا اقتراب، و﴿ الباطن ﴾ بلا احتجاب.
ويقال :﴿ الأول ﴾ بالوصلة، و﴿ الآخر ﴾ بالخلّة، و﴿ الظاهر ﴾ بالأدلة، و﴿ الباطن ﴾ بالبعد عن مشابهة الجملة.
ويقال :﴿ الأول ﴾ بالتعريف، و﴿ والآخر ﴾ بالتكليف، و﴿ والظاهر ﴾ بالتشريف و﴿ والباطن ﴾ بالتخفيف.
ويقال :﴿ الأول ﴾ بالإعلام، ﴿ والآخر ﴾ بالإلزام، ﴿ والظاهر ﴾ بالإنعام ﴿ والباطن ﴾ بالإكرام.
ويقال :﴿ الأول ﴾ بأن اصطفاك ﴿ والآخر ﴾ بأن هداك، ﴿ والظاهر ﴾ بأن رعاك، ﴿ والباطن ﴾ بأن كفاك.
ويقال : مَنْ كان الغالبُ عليه اسمه ﴿ الأول ﴾ كانت فكرته في حديثِ سابقته : بماذا سمَّاه مولاه ؟ وما الذي أجرى له في سابق حُكْمه ؟ أبسعادته أم بشقائه ؟
ومَنْ كان الغالبُ على قلبه اسمه ﴿ الآخِر ﴾ كانت فكرته فيه : بماذا يختم له حالَه ؟ وإلام يصير مآلُه ؟ أَعَلى التوحيد يَخْرُجُ من دنياه أو - والعياذُ بالله - في النارِ غداً - مثواه ؟
ومَن كان الغالبُ على قلبه اسمُه ﴿ الظاهر ﴾ فاشتغاله بشكر ما يجري في الحال من توفيق الإحسان وتحقيق الإيمان وجميل الكفاية وحُسْنِ الرعاية.
ومَنْ كان الغالبُ على قلبه اسمه ﴿ الباطن ﴾ كانت فكرتُه في استبهام أمره عليه فيتعثَّر ولا يدري. . . أَفَضْلٌ ما يعامله به ربُّ أم مَكْرٌ ما يستدرجه به ربُّه ؟
ويقال :﴿ الأول ﴾ علم ما يفعله عبادُه ولم يمنعه عِلْمُه من تعريفهم، ﴿ والآخِر ﴾ رأى ما عَمِلوا ولم يمنعه ذلك من غفرانهم ﴿ والظاهر ﴾ ليس يَخْفَى عليه شيءٌ من شأنهم، وليس يَدَعُ شيئاً من إحسانهم ﴿ والباطن ﴾ يعلم ما ليس لهم به عِلْمٌ من خسرانهم ونقصانهم فيدفع عنهم فنونَ مَحَنهم وأحزانهم.
مضى الكلام في ذلك.
﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾.
أي ما يدخل فيها من القَطْرِ، والكنوزِ، والبذورِ، والأموات الذين يُدْفَنون فيها، ﴿ وما يخرج منها ﴾ من النبات وانفجار العيون وما يُسْتَخْرَجُ من المعادن.
﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾.
من المطر والأرزاق. أو ما يأتي به الملائكةُ من القضاء والوحي.
﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾.
أي وما يصعد إليها من الملائكة، وطاعاتِ العِباد، ودعوات الخَلْقِ، وصحف المُكَلَّفين، وأرواح المؤمنين.
﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
﴿ وهو معكم ﴾ بالعلم والقدرة.
ويقال :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ ﴾ إِذا دُفِنَ العَبْدُ فاللَّه سبحانه يعلم ما الذي كان في قلبه من إخلاصٍ في توحيدهِ، ووجوهِ أحزانه خسرانه، وشَكِّه وجحوده، وأوصافه المحمودة والمذمومة. . . ونحو ذلك مما يخفى عليكم.
﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ على قلوب أوليائه من الألطاف والكشوفات وفنون الأحوال العزيزة.
﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ من أنفاس الأولياء إذا تصاعدت، وحسراتهم إذا عَلَت.
مضى معناه.
صَدَّقوا باللَّهِ ورسولِهِ، وتَصَدَّقوا ﴿ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ بتمليككم ذلك وتصييره إليكم. والذين آمنوا منكم وتصدَّقوا على الوجه الذي أُمروا به لهم ثوابٌ عظيمٌ ؛ فإنَّ ما تحويه الأيدي مُعَرَّضٌ للزوال فالسَّعيدُ مَنْ قَدَّمَ في دنياه مَالَه في الآخرة عمارة حاله، والشقيُّ من سار فيما له في الآخرة وَبالُ مآله.
أي شيء لكم في تَرْكِكُم الإيمان بالله وبرسوله، وما أتاكم به من الحشر والنشر، وقد أزاح العِلَّةَ بأنْ ألاَحَ لكم الحُجَّة، وقد أخَذَ ميثاقَكم وقتَ الذَّرِّ، وأوجب عليكم ذلك بحُكم الشَّرْع.
ليخرِجَكم من ظلماتِ الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الشكِّ إلى نور اليقين.
وكذلك يُريهم في أنفسهم من الآياتِ بكشوفاتِ السِّرِّ وما يحصل به التعريف مما يجدون فيه النفع والخيرَ ؛ فيخرجهم من ظلمات التدبير إلى سعة فضاء التفويض، وملاحظة فنون جريان المقادير.
وكذلك إذا أرادت النَّفْس الجنوحَ إلى الرُّخصِ والأخذِ بالتخفيف وما تكون عليه المطالبةُ بالأشَقِّ - فإن بادَرَ إلى ما تدعوه الحقيقةُ إليه وَجَدَ في قلبه من النور ما يَعْلَمُ به ظلمةَ هواجس النَّفْسِ.
ما في أيديكم ميراثُه الله، وعن قريبٍ سيُنْقَلُ إلى غيركم ولا تبقون بتطاول أحمالكم. وهو بهذا يحثهم على الصدقةِ والبدارِ إلى الطاعة وتَرْكِ الإخلاد إلى الأمل. . ثم قال :
قوله جلّ ذكره :﴿ لاَ يَسْتَوي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾.
لا يستوي منكم من أنفق قبل فتح مكة والحديبية والذين أنفقوا من بعد ذلك. بل أولئك أعظم ثواباً وأعلى درجةً من هؤلاء ؛ لأنَّ حاجةَ الناسِ كانت أكثر إلى ذلك وكان ذلك أشقَّ على أصحابه.
ثم قال :﴿ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾ إلاَّ أنَّ فضيلة السَّبْقِ لهم، ولهذا قالوا :
السابقَ السابقَ قولاً وفعلاً | حذِّرْ النَّفْسَ حَسْرَةَ المسبوق |
المراد بالقرض الصدقة، وإنما ذكرها سبحانه كذلك تطييباً لقلوبهم، فكأن المتصدِّق وهو يقرض شيئاً كالذي يقطع شيئاً من ماله ليدفَعه إلى المُسْتَقْرِض.
ويقال :﴿ يُقْرِضُ ﴾ أي يفعل فعلاً حسناً، وأراد بالقرض الحسن ها هنا ما يكون من وجهٍ حلالٍ ثم عن طٍيبِ قلبٍ، وصاحبُه مخلِصٌ فيه، بلا رياء يشوبه، وبلا مَنِّ على الفقير، ولا يُكَدِّره تطويلُ الوعد ولا ينتظر عليه كثرة الأعواض.
ويقال : أن تقرضه وتقطع عن قلبك حُبَّ الدارين، ففي الخبر :" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنًى " ومَنْ لم يتحرَّرْ من شيء فخروجُه عنه تكلُّفٌ.
وهو نورٌ يُعْطَى للمؤمنين والمؤمنات بقَدْر أعمالهم الصالحة، ويكون لذلك النور مطارحُ شعاع يمشون فيها والنورُ يسعى بين أيديهم، ويحيط جميع جهاتهم.
ويقال :﴿ وَبِأَيْمَانِهِم ﴾ كتبهم.
﴿ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ ﴾ أي بشارتكم اليومَ - من الله جنات. وكما أن لهم في العرصة هذا النور فاليومَ لهم في قلوبهم وبواطنهم نورٌ يمشون فيه، ويهتدون به في جميع أحوالهم، قال صلى الله عليه وسلم :" المؤمن ينظر بنور الله " وقال تعالى :﴿ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن ربِهِّ ﴾ [ الزمر : ٢٢ ].
وربما ينبسط ذلك النورُ على مَنْ يَقْربُ منهم. وربما يقع من ذلك على القلوب قَهْراً - ولأوليائه - لا محالةَ - هذه الخصوصية.
انتظرونا فنلحق بكم لنقتبسَ من نوركم. وذلك لأن المؤمنين والمنافقين يُعْطَوْن كُتُبهم وهم في النور، فإذا مَرُّوا. . . انطفأ النور أمام المنافقين وسَبقَ المؤمنون، فيقول المنافقون للمؤمنين : انتظرونا حتى نقتبسَ من نوركم. فيقول المؤمنون :
﴿ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَائكُمْ فَاَلْتَمِسُواْ نُوراً ﴾.
أي إلى الدنيا وأَخلِصوا ! - تعريفاً لهم أنهم كانوا منافقِين في الدنيا.
ويقال : ارجعوا إلى حُكْم الأزلِ فاطلبوا هذا من القِسْمة !- وهذا على جهة ضربِ المَثل والاستبعاد.
﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابُ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذابُ ﴾.
﴿ بِسُورٍ ﴾ : وهو جَبَلُ أصحاب الأعراف، يستر بينهم وبين المنافقين، فالوجهُ الذي بلي المؤمن فيه الرحمة وفي الوجه الآخر العذابُ.
ألم نكن معكم في الدنيا في أحكام الإيمان في المناكحة والمعاشرة ؟
قالوا : بلى، ولكنكم فتنتم أنفسكم. .
﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغُرُورُ ﴾.
تربصتم عن الإخلاص، وشككتم، وغرَّكم الشيطان، وركنتم إلى الدنيا.
النارُ مأواكم ومصيرُكم ومُتَقَلبُكُم.
و﴿ هي مولاكم ﴾ أي هي أوْلَى بكم، وبئس المصير !
ويقال : مخالفة الضمائر والسرائر لا تنكتم بموافقة الظاهر، والأسرار لا تنكتم عند الاختبار.
ألم يَحِنْ للذين آمنوا أن تتواضعَ قلوبُهم وتلين لذِكْر اللَّهِ وللقرآنِ وما فيه من العِبَر ؟ وألا يكونوا كالذين أوتوا الكتابَ من قبل ؟ وأراد بهم اليهودَ، وكثيرٌ من اليهود فاسقون كافرون.
وأراد بطول الأمَدِ الفترةَ التي كانت بين موسى ونبيِّنا صلى الله عليه وسلم، وفي الخبر :" أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أَصابتهم ملالةٌ فقالوا : لو حَدّثْتنا ".
فأنزل اللَّهُ تعالى :﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ﴾ [ الزمر : ٢٣ ]. فبعد مُدَّةٍ قالوا :
لو قَصَصْتَ علينا !
فأنزل اللَّهُ تعالى :﴿ نَّحْن نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ﴾ [ الكهف : ١٣ ] فبعد مدةٍ قالوا : لو ذَكَّرتَنا ووَعَظْتَنا !
فأنزل الله تعالى هذه السورة.
وفي هذه الآية ما يشبه الاستبطاء.
وإن قسوة القلب تحصل من اتباع الشهوة، والشهوة والصفة لا تجتمعان ؛ فإذا حَصَلت الشهوةُ رَحَلت الصفوة. وموجِبُ القسوة هو انحرافُ القلب عن مراقبة الربِّ. ويقال : موجب القسوة أوَّلُه خَطْرة - فإلمَّ تُتَداركْ صارت فكرة، وإلمّ تُتدَاركْ صارت عزيمة، فإن لم تُتَدَاركْ جَرَت المخالفة، فإن لم تُتداركْ بالتلافي صارت قسوةً وبعدئذ تصير طَبعاً ورَيْناً.
يُحْيي الأرضَ بعد موتها بإنزال المطرِ عليها وإخراج النّبتِ منها. ويُحيي القلوبَ الميتةَ - بعد إعراضِ الحقِّ عنها - بحسن إقباله عليها.
أي المتصدقين والمتصدقات.
﴿ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾ : يعني في النوافل.
﴿ يُضَاعَفُ لَهُمْ ﴾ في الحسنات، الحسنةُ بعَشْر أمثالها. . إلى ما شاء اللهُ.
﴿ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ : ثوابٌ كبيرٌ حَسَنٌ. والثوابُ الكريمُ أَنَّه لا يضن بأقصى الأجْرِ على الطاعةِ - وإنْ قَلَّتْ.
الصدِّيقون : مبالغة في الصدق، والشهداء : الذين استشهدوا في سبيل الله، فالمؤمنون بمنزلة الصديقين والشهداء - لهم أجرهم في الجنة ونورهم في القيامة.
﴿ وَالَّذِيِنَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾.
والصدِّيق مَنْ استوى ظاهرُه وباطنُه.
ويقال : هو الذي يحمل الأمرَ على الأشَقِّ، ولا ينْزلُ إلى الرُّخَصِ، ولا يجنح للتأويلات.
والشهداءُ : الذين يشهدون بقلوبهم مواطن الوصلة، ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القربة، ﴿ وَنُورُهُمْ ﴾ : ما كحل الحقُّ به بصائرهم من أنوار التوحيد.
الحياةُ الدنيا مُعَرَّضَةٌ للزوال، غيرُ لابثةٍ ولا ماكثة، وهي في الحال شاغلةٌ عن الله، مُطْمِعةٌ وغير مُشْبِعة، وتجري على غير سَنن الاستقامة كجريان لَعِب الصبيان، فهي تُلْهي عن الصوابِ واستبصار لحقِّ، وهي تفاخرٌ وتكاثرٌ في الأموال والأولاد.
﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفًَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونَ حُطَاماً ﴾.
الكفار : الزُّرَّاع.
هو في غاية الحُسْنِ ثم يهيج فتراه يأخذ في الجفاف، ثم ينتهي إلى أنْ يتحطّم ويتكسَّر.
﴿ وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾.
لأهله من الكفَّار.
﴿ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ﴾.
لأهله من المؤمنين.
﴿ وَمَا الْحَياَةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾.
الدنيا حقيرةٌ - وأحقرُ منها قَدْراً طالبُها وأقلُّ منه خَطَراً المزاحم فيها، فما هي إلا جيفة ؛ وطالِبُ الجيفةِ ليس له خطرٌ. وأخس أهل الدنيا مَنْ بَخِلَ بها.
وهذه الدنيا المذمومة هي التي تَشْغَلُ العبدَ عن الآخرة !
أي سارِعوا إلى عَمَلٍ يوجب لكم مغفرةً من ربِّكم، وذلك العملُ هو التوبة.
﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ﴾ ذَكر عَرْضها ولم يذكرْ طولها ؛ فالطول على ما يوافيه العَْرضُ.
﴿ أُعِدِّتْ لِلَّذِينَ آمُنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾ : وفي هذا دليلٌ على أنَّ الجنةََ مخلوقة.
﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.
وفي ذلك ردٌّ على من يقول :" إن الجنة مُسْتَحقَّةٌ على الطاعات، ويجب على الله إِيصالُ العبدِ إليها ". . لأن الفضلَ لا يكون واجباً.
ويقال : لمَّا سمعت أسرار المؤمنين هذا الخطاب ابتدرت الأرواحُ مُقْتَضِيةً المسارعة من الجوارح، وصارت الجوارحُ مستجيبةً للمُطالَبةِ، مُستبشرة برعاية حقوق الله ؛ لأنها علمت أن هذا الاستدعاءَ من جانب الحقِّ سبحانه.
المصيبة حَصْلةٌ تقع وتحصل. فيقول تعالى : لا يحصل في الأرض ولا في أنفسكم شيءٌ إلا وهو مُثْبَتٌ في اللوح المحفوظ على الوجه الذي سبق به العِلْم، وحقَّ فيه الحكم ؛ فقبل أن نخلق ذلك أثبتناه في اللوح المحفوظ.
فكلُّ ما حصل في الأرض من خصبٍ أو جدبٍ، من سعة أو ضيق، من فتنة أو استقامة وما حصل في النفوس من حزن أو سرور، من حياةٍ أو موت كلُّ ذلك مُثبت في اللوح المحفوظ قبل وقوعه بزمان طويل.
وفي قوله :﴿ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ﴾ دليلٌ على أن أكساب العباد مخلوقة لله سبحانه. وللعبدِ في العلم بأنَّ ما يصيبه : من بسطٍ وراحةٍ وغير ذلك من واردات القلوب من اللَّهِ - أشدُّ السرور وأتمُّ الإنْسِ ؛ حيث عَلِمَ أنه أُفْرِدَ بذلك بظهر غيبٍ منه، بل وهو في كنز العَدَم، ولهذا قالوا :
سقياً لمعهدك الذي لو لم يكن | ما كان قلبي للصبابة معهدا |
عَدَمُ الفرحة بما آتاهم هو من صفات المتحررين من رِقِّ النَّفْس، فقيمةُ الرجالِ تتبين بتغيُّرِهم - فَمَنْ لم يتغيَّرْ بما يَرِدُ عليه - مما لا يريده - من جفاءٍ أو مكروهٍ أو محنة فهو كاملٌ، ومَنْ لم يتغيَّرْ بالمسارّ كما لا يتغير بالمضارِّ، ولا يَسُرُّه الوجودُ كما لا يُحْزِنُه العَدَمُ - فهو سَيِّد وقته.
ويقال : إذا أردْتَ أن تعرفَ الرجلَ فاطلبْه عند الموارد ؛ فالتغيُّرُ علامةُ بقاء النَّفْس بأيّ وجهٍ كان :
﴿ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾.
فالاختيال من علامات بقاء النفس ورؤيتها، والفخرُ ( ناتجٌ ) عن رؤيةِ ما به يفتخر.
بخلوا بكتمان صفة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وأمروا أتْباعَهم بذلك، وذلك لما خافوا من كسادِ سُوقِهم وبطلان رياستهم.
﴿ وَمَن يَتَوَلَّ ﴾ عن الإيمان، أو إعطاء الصَدَقة ﴿ فَإِِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾.
والبخلُ - على لسان العلم - مَنْعُ الواجب، فأمَّا على بيان هذه الطائفة فقد قالوا : البخلُ رؤية قَدْر للأشياء، والبخيلُ الذي يُعْطِي عند السؤال، وقيل : مَنْ كَتَبَ على خاتمه اسمه فهو بخيل.
أي أرسلناهم مُؤيَّدين بالحُجَجِ اللائحة والبراهين الواضحة، وأزَحْنا العِلَّةَ لِمَنْ أراد سلوكَ الحُجَّةِ المُثْلى، ويَسَّرنا السبيل على مَنْ آثَرَ اتّباعَ الهُدَى. وأنزلنا معهم الكُتَبَ المُنَزّلةَ، و﴿ الميزان ﴾ : أي الحُكْمَ بالقرآن، واعتبار العَدْلِ والتسويةِ بين الناس.
﴿ لِيَقومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ : فلا يَظْلِمُ أحدٌ أحداً.
قوله جل ذكره :﴿ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾.
﴿ أنزلنا الحديد ﴾ : أي خلقنا الحديد.
ونصرة الله هي نصرةُ دينه، ونصرةُ الرسولِ باتِّباعِ سُنَّتِه.
﴿ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزيزٌ ﴾ : أقوى من أن يُنَازعَه شريكٌ، أو يضارِعَه في المُلْكِ مليك، وأعزُّ من أن يحتاج إلى ناصر.
أي أرسلنا نوحاً، ومن بعده إبراهيم، وجعلنا في نَسْلِهما النبوَّةَ والكتاب.
﴿ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ ﴾.
أي : مستجيبٌ.
﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
خرجوا عن الطاعة.
أي : أرسلنا بعدهم عيسى ابن مريم.
﴿ وَرَهْبَانَيِّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾.
بيَّن أنَّه لم يأمرهم بالرهبانيَّة بل هم الذين ابتدعوها ثم قال :
﴿ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ﴾.
هم الذين انفردوا بما عقدوه معنا أن يقوموا بحقِّنا.
﴿ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا.
﴿ كِفْلَيْنِ ﴾ : أي نَصِيبَيْنِ ؛ نصيباً على الإيمان بالله، وآخَرَ على تصديقهم وإيمانهم بالرُّسُل.
ومعناه : يعلم أهل الكتاب، و " لا " صلة. أي : ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، فإن الفضل بيد الله. و " اليد " هنا بمعنى : القدرة، فالفضلُ بقدرة الله.
والإشارة في هذا : اتَّقُوا الله بحِفْظِ الأدبِ معه، ولا تأمنوا مَكْرَه أن يَسْلَبكم ما وَهَبَكم من أوقاتكم. وكونوا على حَذَرٍ من بَغَتَاتِ تقديره في تغيير ما أذاقكم من أُنْسِ محبته.
واتَّبِعوا السُّفَراء والرُسُل، وحافظوا على اتِّباعهم حتى يُؤتِيَكُم نصيبين من فضله : عصمةً ونعمةً ؛ فالعصمة من البقاء عنه، والنعمة هي البقاء به.
ويقال : يؤتكم نصيبين : نصيباً من التوفيق في طَلَبِه، ونصيباً من التحقيق في وجوده.