تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب لطائف الإشارات
.
لمؤلفه
القشيري
.
المتوفي سنة 465 هـ
بسم الله اسم يوجب حظوة العابدين وعدا، وسماعه يوجب سلوة الواجدين نقدا اسم من ذكره وصل إلى مثوبته في آجله، ومن سمعه حظي بقربته في عاجله.
ﰡ
" الألف " إِشارة إلى تَفَرُّده عن كل غير بوجه الغِنى، وباحتياج كل شيءِ إليه ؛ كالألف تتصل بها كل الحروف ولكنها لا تتصل بحرفٍ.
" واللام " تشير إلى معنى أنه ما من حرفٍ إلا وفي آخره صورة تعويج ما، واللام أقرب الحروف شبهاً بالألف - فهي منتصبة القامة مثلها، والفرق بينهما أن الألف لا يتصل بها شيء ولكن اللام تتصل بغيرها - فلا جَرَمَ لا يكون في الحروف حرف واحد متكون من حرفين إلا اللام والألف ويسمى لام ألف ويكتب على شكل الاقتناع مثل صورة لام.
أمّا " الميم " فالإشارة فيه إلى الحرف " مِنْ " ؛ فَمِنَ الربِّ الخَلْقُ، ومِنَ العبدِ خدمةُ الحق، ومن الربِّ الطَّوْلُ والفضلُ.
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوآ ﴾ بمجرد الدعوى في الإيمان دون المطالبة بالبلوى، وهذا لا يكون، فقيمة كلِّ أحدٍ ببلواه، فَمَنْ زاد قَدْرُ معناه زاد قدر بلواه ؛ فعلى النفوس بلاءٌ وهو المطالبة عليها بإخراجها عن أوطان الكسل وتصريفها في أحسن العمل. وعلى القلوب بلاءٌ وهو مطالبتُها بالطلب والفكر الصادق بتطلُّع البرهان على التوحيد والتحقق بالعلم. وعلى الأرواح بلاءٌ وهو التجرُّدُ عن محبة كلِّ أحدٍ والتفرُّد عن كل سبب، والتباعُد عن كل المساكنةِ لشيءٍ من المخلوقات. وعلى الأسرار بلاءٌ وهو الاعتكاف بمشاهد الكشف بالصبر على آثار التجلِّي إلى أن تصير مُسْتَهْلَكاً فيه.
ويقال فتنة العوام في أيام النظر والاستدلال، وفتنة الخواص في حفظ آداب الوصول في أوان المشاهدات. وأشدُّ الفتنِ حفظُ وجود التوحيد لئلا يجري عليك مَكْرٌ في أوقات غَلَبَاتِ شاهد الحقِّ فيظن أنه الحق، ولا يدري أَنَّه من الحقِّ، وأنَّه لا يُقال إِنَّه الحقُّ - وعزيزٌ مَنْ يهتدي إلى ذلك.
لم يُخْلِهم من البلاء والمِحَن لِيُظْهِرِ صبرَهم في البلاءِ أو ضدَّه من الضَجَرِ، وشكرهم في الرخاء أو ضدة من الكفر والبَطَرِ. وهم في البلاءِ ضروب : فمنهم مَنْ يصبر في حال البلاء، ويشكر في حال النَّعماء. . . وهذه صفة الصادقين. ومنهم مَنْ يضجُّ ولا يصبر في البلاء، ولا يشكر في النعماء. . فهو من الكاذبين. ومنهم مَنْ يؤثِر في حال الرخاء أَلاَّ يستمتعَ بالعطاء، ويستروح إلى البلاءِ ؛ فَيَسْتَعْذِبَ مقاساةَ الَضُّرِّ والعناء. . وهذا أَجَلُّهم.
يرتكبون المخالفاتِ ثم يحكمون لأنفسهم بالنجاة. . ساءَ حُكْمُهم ! فمتى ينجوا منَ العذابِ مَنْ ألقى جلبابَ التُّقى ؟ !
ويقال توهموا أنه لا حَشْرَ ولا نَشْرَ، ولا محاسبة ولا مطالبة.
ويقال اغتروا بإمهالنا اليومَ، وَتَوَهَّموا أنهم مِنَّا قد أفلتوا، وظنوا أنهم قد أَمِنُوا.
ويقال ظنوا أنهم باجتراحهم السيئاتِ أَنْ جرى التقريرُ لهم بالسعادة، وأنَّ ذلك يؤخر حُكْمَنا. . كلا، فلا يشقى مَنْ جَرَتْ قسمتُنا له بالسعادة، وهيهات أن يتحول مَنْ سبق له الحُكْمُ بالشقاوة !.
مَنْ خاف عذابَه يوم الحساب فَسَيلْقى يومَ الحَشْرِ الأمانَ الموعودَ مِنَّا لأهل الخوف اليومَ. ومَنْ أَمَّلَ الثوابَ يومَ البعثَ فسوف يرى ثوابَ ما أسلفه من العمل. ومَنْ زَجَّى عُمْرَه في رجاء لقائنا فسوف نُبيح له النَّظَرَ إلينا، وسوف يتخلص من الغيبة والفرقة.
﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ ﴾ لأنين المشتاقين، ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ بحنين المحبين الوالهين.
مَنْ أَحْسَنَ فنجاة نفسه طلبها، وسعادة حالة حَصَّلَها. ومن أساء فعقوبة بنفسه. جَلَبَها، وشقاوة جَدِّه اكتسبها.
ويقال ثوابُ المطيعين إليهم مصروفٌ، وعذابُ العاصين عليهم موقوفٌ. . والحقُّ عزيزٌ لا يلحقه بالوفاق زَيْن، ولا يَمَسُّه من الشِّقاقِ شَيْنٌ.
مَنْ رَفَعَ إلينا خطوة نال مِنَّا خطوة، ومَنْ تَرَكَ فينا شهوةً وَجَدَ مِنٍَّا صفوة، فنصيبهم من الخيرات موفور، وعملهم في الزلاَّت مغفور. . بذلك أجرينا سُنَّتنا، وهو متناول حُكْمِنا وقضيتنا.
أَمَرَ اللَّهُ العِبادَ برعاية حقِّ الوالدين تنبيهاً على عظم حق التربية. وإذا كانت تربيةُ الوالدين - وهي إِنْ حَسُنَتْ - فإِلى حدٍّ يوجِبُ رعايتهما فما الظنُّ برعاية حق الله تعالى، والإحسانِ العميمِ بالعبد والامتنان القديم الذي خصَّه به مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ ؟ !.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَُأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
إنْ جاهداك على أن تُشْرِكَ بالله فإياك أَنْ تطيعَهما، ولكن رُدَّ بِلُطْفٍ، وخالِفْ برفْقٍ.
أي لنلحقنهم بالذين أصلحوا من قبلهم، فإن المعهود من سُنَّتِنا إلحاق الشكلِ بشكله، وإجراء المِثْلِ على حُكْمِ مِثْلِه.
المحنُ تُظْهِرُ جواهرَ الرجال، وهي تَدُلُّ على قِيمَهِم وأقدارهم ؛ فَقَدْرُ كلِّ أحد وقيمته يَظْهَرُ عند محنته ؛ فَمَنْ كانت محنتُه من فوات الدنيا ونقصان نصيبه منها ؛ أو كانت محنته بموت قريبٍ من الناس، أو فَقْد حبيبٍ من الخلْقِ فحقيرٌ قَدْرُه، وكثيرٌ في الناس مثْلُه. ومَنْ كانت محنته في الله ولله فعزيزٌ قَدْرُه، وقليلٌ مَنْ كان مثله، فهم في العدد قليلٌ ولكن في القَدْرِ والخَطَرِ جليلٌ : وبقدر الوقوف في البلاءِ تظهر جواهرُ الرجال، وتصفو عن الخَبَثِ نفوسُهم.
والمؤمن مَنْ يَكفُّ الأذى، ويتحمل من الخَلْقِ الأذى، ويتشرب ولا يترشح بغير شكوى ولا إظهار ؛ كالأرض يُلْقَى عليها كلٌّ خبيث فتُنْبِتُ كلَّ خضرة وكل نزهة.
إذا اشتبكت دموعٌ في خدود | تَبَيَّنَ مَنْ بكى ممن تباكى |
ضمنوا بما لم يفوا به، وأخلفوا فيما وَعَدُوا فما حملوا من خطاياهم عنهم شيئاً، بل زادوا على حَمْل نفوسهم ؛ فاحتقبوا وِزْرَ ما عَملوا، وطولبوا بوزْر ما به أَمَرُوا، فضاعَفَ عليهم العقوبة، ولم يصل أحدٌ من جهتهم إلى راحة، وما مواعيدهم للمسلمين إلا مواعيد عرقوب أخاه بيثرب.
وسيلحق بهؤلاء أَصحاب الدعاوى والمتَشبِّهون بأهل الحقائق :
مَنْ تحلَّى بغير ما هو فيه | فَضَح الامتحانُ ما يَدَّعيه |
وقال تعالى :
﴿ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ البقرة : ١١١ ]. وهيهات هيهات !
ما زادهم طولُ مقامه فيهم إلا شَكا في أمره، وجهلا بحاله، ومُرْية في صدقه، ولم يزدد نوح - عليه السلام - لهم إلاَّ نُصْحاً، وفي الله إلا صبراً. ولقد عرَّفه اللَّهُ أنه لن يؤمِنَ منهم إلا الشَّرْذِمة اليسيرةُ الذين كانوا قد آمنوا، وأَمَرَهُ باتخاذ السفينة، وأغرق الكفار ولم يغادر منهم أحداً، وَصَدَقَ وَعْدَه، ونَصَرَ عَبْدَه. . فلا تبديلَ لِسُنَّتِه في نصرة دينه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤:ما زادهم طولُ مقامه فيهم إلا شَكا في أمره، وجهلا بحاله، ومُرْية في صدقه، ولم يزدد نوح - عليه السلام - لهم إلاَّ نُصْحاً، وفي الله إلا صبراً. ولقد عرَّفه اللَّهُ أنه لن يؤمِنَ منهم إلا الشَّرْذِمة اليسيرةُ الذين كانوا قد آمنوا، وأَمَرَهُ باتخاذ السفينة، وأغرق الكفار ولم يغادر منهم أحداً، وَصَدَقَ وَعْدَه، ونَصَرَ عَبْدَه.. فلا تبديلَ لِسُنَّتِه في نصرة دينه.
كَرَّرَ ذِكْرَ إبراهيم في هذا الموضع، وكيف أقام على قومه الحُجَّة، وأرشدهم إلى سَوَاءِ المحجة، ولكنهم أصروا على ما جحدوا، وتعصبوا لِمَا من الأصنام عبدوا، وكادوا لإبراهيم كيداً. . ولكن انقلب ذلك عليهم من الله مكراً بهم واستدراجاً. ولم يَنْجَعْ فيهم نُصْحُه، ولا وَجَد منهم مساغاً وَعْظُه.
لا يُدْرَى أيهما أقبح. . هل أعمالكم في عبادة هذه الجمادات أم أقوالكم - فيما تزعمون كذباً - عن هذه الجمادات ؟ وهي لا تملك لكم نفعاً ولا تدفع عنكم ضراً، ولا تملك لكم خيراً ولا شراً، ولا تقدر أن تصيبكم بهذا أو ذاك.
وبيَّنَ أنهم في هذا لم يكونوا خالين عن ملاحظة الحظوظ وطلب الأرزاق فقال :
﴿ فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ ﴾ لتَصِلوا إلى خير الدارْين.
وابتغاءُ الرزق من الله إدامةُ الصلاة ؛ فإن الصلاةَ استفتاحُ بابِ الرزق، قال تعالى :
﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْئَلُكَ رِزْقاً ﴾ [ طه : ١٣٢ ].
ويقال ابتغاء الرزق بشهود موضع الفاقة فعند ذلك تتوجه الرغبة إلى الله تعالى في استجلاب الرزق.
وفي الآية تقديمٌ الرزقُ على الأمر بالعبادة ؛ لأنه لا يُمْكِنه القيام بالعبادة إلا بعد كفاية الأمر ؛ فبالقوة يمكنه أداء العبادة، وبالرزق يجد القوة، قالوا :
إذا المرءُ لم يطلب معاشاً لنفسه | فمكروهَ ما يلقى يكون جزاؤه |
﴿ وَاشْكُرُواْ لَهُ ﴾ : حيث كفاكم أمر الرزق حتى تفرغتم لعبادته.
وبالُ التكذيب عائدٌ على المُكَذِّب، وليس على الرسول - بعد تبليغه الرسالة بحيث لا يكون فيه تقصير كي يكون مُبَيِّناً - شيء آخر. وإلا يكون قد خرج عن عهدة الإلزام.
وفيما حلَّ بالمكذِّبين من العقوبة ما ينبغي أن يكون عِبْرَةً لِمَنْ بعدهم.
الذي دَاخَلَهم فيه الشكُّ كان بعث الخَلْق، فاحتجَّ عليهم بما أراهم من إعادة فصول السَّنةِ بعد تقضِّيها على الوجه الذي كان في العام الماضي. وبَيَّنَ أن جَمْعَ أجزاءِ المكلَّفين بعد انقضاص البِنية كإعادة فصول السنة ؛ فكما أن ذلك سائغٌ في قدرته غيرُ مُسْتَنْكَرٍ فكذلك بعثُ الخَلْق.
وكما في فصول السنة تتكرر أحوالُ العِبادة في الأحوال العامة المشتركة بين الكافة، وفي خواص أحوال المؤمنين من استيلاء شهوات النفوس، ثم زوالها، إلى موالاة الطاعات، ثم حصول الفترة، والعود إلى مثل الحالة الأولى، ثم بعد ذلك الانتباه بالتوبة. . كذلك تتكرر عليهم الأحوال.
وأربابُ القلوبِ تتعاقب أحوالُهم في القبض والبسط ثم في الهيبة والأُنْس. ثم في التجلي والسَّتْر، ثم في البقاء والفناء، ثم في السُكْر والصحو. . وأمثال هذا كثير. وفي هذا المعنى قوله :
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
وفي معنى تكرير الأحوال ما أنشدوا :كلُّ نَهرٍ فيه ماءٌ قد جَرَى | فإليه الماءُ يوماً سيعود |
أجناسُ ما يعذِّبُ به عبادَه وأنواعُ ما يرجم به عباده. . لا نهاية لها ولا حَصْر ؛ فَمِنْ ذلك أنه يعذِّب من يشاء بالخذلان، ويرحم من يشاء بالإيمان. يعذِّب من يشاء بالجحود والعنود، ويرحم من يشاء بالتوحيد والوجود. يعذب من يشاء بالحِرْضِ ويرحم من يشاء بالقناعة. يعذِّب من يشاء بتفرقة الهمِّ ويرحم من يشاء بجَمْعِ الهِمَّة. يعذب من يشاء بإلقائه في ظلمة التدبير، ويرحم من يشاء بإشهاده جريان التقدير. يعذب من يشاء بالاختيار من نَفْسِه، ويرحم من يشاء برضاه بحُكْم ربِّه. يعذب من يشاء بإعراضه عنه، ويرحم من يشاء بإقباله عليه. يعذب من يشاء بأن يَكِلَه ونَفْسَه، ويرحم من يشاء بأن يقوم بحُسْنِ تولِّيه. يعذب من يشاء بحبِّ الدنيا ويمنعها عنه ويرحم من يشاء بتزهيده فيها وبَسْطِها عليه. يعذب من يشاء بأن يثبته في أوطان العادة، ويرحم من يشاء بأن يقيمه بأداء العبادة. . . وأمثال هذا كثير.
نُقَلِّب الجملةَ في القبضة، ونُجْري عليهم أحكام التقدير : جحدوا أو وَحَّدوا، أقبلوا أم أعرضوا.
تعجلت عقوبتهم بأنْ يئسوا من رحمته. . . ولا عقوبةَ أشدُّ من هذا.
لمَّا عجزوا عن جوابه ولم يساعدهم التوفيق بالإجابة أخذوا في معارضته بالتهديد والوعيد، والسفاهة والتوبيخ، والله تعالى صرف عنه كَيْدَهم، وكفاه مَكْرَهم، وأفلج عليهم حُجَّته، وأظهر للكافة عجزَهم، وأَخبر عما يلحقهم في مآلهم من استحقاق اللَّعْنِ والطردِ، وفنون الهوان والخزْي.
لا تَصِحُّ الهجرةُ إلى الله إلاّ بالتبرِّي - بالكمالِ - بالقلبِ عن غير الله. والهجرةُ بالنَّفْسِ يسيرةٌ بالإضافة إلى الهجرة بالقلب - وهي هجرة الخواص ؛ وهي الخروج عن أوطان التفرقة إلى ساحات الجَمْعِ. والجمعُ بين التعريجِ في أوطان التفرقة والكوْنِ في مشاهد الجَمْعِ مُتنافٍ.
لمَّا لم يُجِبْ قومُه، وبذل لهم النصح، ولم يدَّخر عنهم شيئاً من الشفقة - حقَّقَ اللَّهُ مرادَه في نَسْلِه، فوهب له أولادَه، وبارك فيهم، وجعل في ذريته الكتابَ، والنبوة، واستخلصهم للخيرات حتى صلحت أعمالُهم للقبول، وأحوالهم للإقبال عليها، ونفوسُهم للقيام بعبادته، وأسرارُهم لمشاهدته، وقلوبهم لمعرفته.
﴿ وَإِنَّهُ في الآخرة لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ للدنوِّ والزلفة والتخصيص بالقربة.
لا مَهُم على خصلتهم الشنعاء، وما كانوا يتعاطونه على الله من الاجتراء، وما يُضَيِّعُونه من المعروف ويأتون من المنكر الذي جملته تخليته الفُسَّاق مع فِسقهم، وترك قلة احترام الشيوخ والأكابر، ومنها التسويف في التوبة، ومنها التفاخر بالزلَّة.
فما كان جوابُهم إلا استعجالَ العقوبة، فحلَّ بهم من ذلك ما أهلكهم وأهلك من شاركهم.
التبس على إبراهيم أمرُهم فظَنَّهم أضيافاً ؛ فتكلَّفَ لهم تقديم العجل الحنيذ جرياً على سُنَّتِه في إكرام الضيف. فلما أخبروه مقصودَهم من إهلاك قوم لوط تكلَّم من باب لوط. . . إلى أن قالوا : إنَّا مُنَجُّوه. وكَان ذلك دليلاً على أن الله تعالى لو أراد إهلاك لوطٍ - وإِنْ كان بريئاً - لم يكن ظلماً ؛ إذ لو كان قبيحاً لما كان إبراهيم عليه السلام - مع وفرة عِلْمِه - يشكل عليه حتى كان يجادل عنه. بل لله أن يعذِّب منْ يعذِّب، ويُعَافِي مَنْ يُعَافِي.
لمَّا أن رآهم لوطٌ ضاق بهم قلبُه لأنه لم يعلم أنهم ملائكةٌ، فخاف عليهم من فساد قومه : فكان ضِيقُ قلبه لأَجْلِ الله - سبحانه، فأخبروه بأنهم ملائكة، وأنَّ قومه لن يَصِلُوا إليهم. فعند ذلك سَكَنَ قلبُه. وزال ضيقُ صَدْرِه.
ويقال أقربُ ما يكون العبد في البلاء من الفرج إذا اشتدَّ عليه البلاءُ ؛ فعند ذلك يكون زوال البلاء، لأنه يصير مُضْطّراً، واللَّهُ سبحانه وَعََدَ المضطرين وشيك الإجابة. كذلك كان لوط في تلك الليلة، فقد ضاق بهم ذَرْعاً ثم لم يلبث أَنْ وَجَدَ الخلاصَ من ضيقة.
فَمْنَ أراد الاعتبارَ فله في قصتها عِبْرة.
ذَكَر قصةَ شعيبٍ وقصة عادٍ وثمود وقصة فرعون، وقصة قارون. . وكلهم نَسَجَ بعضُهم على مِنْوال بعضٍ، وسلك مسلكَهم، ولم يَقْبَلوا النصحَ، ولم يُبَالوا بمخالفة رُسِلِهم ثم إن الله تعالى أهلكهم بأجمعهم، إمضاءً لِسُنّتِه في نصرة الضعفاء وقهر الظالمين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:ذَكَر قصةَ شعيبٍ وقصة عادٍ وثمود وقصة فرعون، وقصة قارون.. وكلهم نَسَجَ بعضُهم على مِنْوال بعضٍ، وسلك مسلكَهم، ولم يَقْبَلوا النصحَ، ولم يُبَالوا بمخالفة رُسِلِهم ثم إن الله تعالى أهلكهم بأجمعهم، إمضاءً لِسُنّتِه في نصرة الضعفاء وقهر الظالمين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:ذَكَر قصةَ شعيبٍ وقصة عادٍ وثمود وقصة فرعون، وقصة قارون.. وكلهم نَسَجَ بعضُهم على مِنْوال بعضٍ، وسلك مسلكَهم، ولم يَقْبَلوا النصحَ، ولم يُبَالوا بمخالفة رُسِلِهم ثم إن الله تعالى أهلكهم بأجمعهم، إمضاءً لِسُنّتِه في نصرة الضعفاء وقهر الظالمين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:ذَكَر قصةَ شعيبٍ وقصة عادٍ وثمود وقصة فرعون، وقصة قارون.. وكلهم نَسَجَ بعضُهم على مِنْوال بعضٍ، وسلك مسلكَهم، ولم يَقْبَلوا النصحَ، ولم يُبَالوا بمخالفة رُسِلِهم ثم إن الله تعالى أهلكهم بأجمعهم، إمضاءً لِسُنّتِه في نصرة الضعفاء وقهر الظالمين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:ذَكَر قصةَ شعيبٍ وقصة عادٍ وثمود وقصة فرعون، وقصة قارون.. وكلهم نَسَجَ بعضُهم على مِنْوال بعضٍ، وسلك مسلكَهم، ولم يَقْبَلوا النصحَ، ولم يُبَالوا بمخالفة رُسِلِهم ثم إن الله تعالى أهلكهم بأجمعهم، إمضاءً لِسُنّتِه في نصرة الضعفاء وقهر الظالمين.
العنكبوب يتخذ لنفسه بيتاً، ولكن كلما زاد نسجاً في بيته ازداد بُعْداً في الخروج منه ؛ فهو يبني ولكن على نفسه يبني. . . كذلك الكافر يسعى ولكن على نفسه يجني.
وبيتُ العنكبوتِ أكثره في الزوايا من الجدران، كذلك الكافر أمره على التّقِيّةِ والكتمان، وأمَّا المؤمِن فظاهِرُ المعاملةِ، لا ستر ولا يُدْخِمس.
وبيتُ العنكبوت أوهنُ البيوت لأنه بلا أساسٍ ولا جدران ولا سقف ولا يمسك على أَدْوَن دَفْع. . كذلك الكافر ؛ لا أصلَ لشأنه، ولا أساسَ لبنيانه، يرى شيئاً ولكن بالتخييل، فأمَّاً في التحقيق. . فَلاَ.
الكلُّ يشتركون في سماع الأمثال، ولكن لا يصغي إليها مَنْ كان نَفُورَ القلبِ، كنودَ الحالِ، متعوداً الكسلَ، مُعَرَّجاً في أوطان الفَشَلِ.
﴿ بِالْحَقِّ ﴾ : أي بالقول الحق والأمر الحق.
أي من شأن المؤمن وسبيله أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر، أي على معنى ينبغي للمؤمن أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر، كقوله :﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾
[ المائدة : ٢٣ ] أي ينبغي للمؤمن أن يتوكل على الله، فإن قُدِّرَ أن واحداً منهم لا يتوكل فلا يخرج به ذلك عن الإيمان - كذلك من لم ينتهِ عن الفحشاء والمنكر فليست تخرج صلاته عن كونها صلاة.
ويقال بل الصلاةُ الحقيقية ما تكون ناهيةً لصاحبها عن الفحشاء والمنكر ؛ فإن لم يكن من العبد انتهاءٌ فالصلاةُ ناهيةٌ على معنى ورود الزواجر على قلبه بألا يفعل، ولكنه يُصِرًّ ولا يطيع تلك الخواطر.
ويقال بل الصلاة الحقيقية ما تنهي صاحبها عن الفحشاء والمنكر. فإن كان - وإلا فصورة الصلاة لا حقيقتها.
ويقال الفحشاء هي الدنيا، والمنكر هو النّفْس.
ويقال الفحشاء هي المعاصي، والمنكر هو الحظوظ.
ويقال الفحشاء الأعمال، والمنكر حسبانُ النجاة بها، وقيل ملاحظتُه الأعواض عليها، والسرور والفرح بمدح الناس لها.
ويقال الفحشاء رؤيتها، والمنكر طلب العِوض عليها.
﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ : ذكر الله أكبر من ذكر المخلوقين ؛ لأن ذكره قديم وذكر الخلْق مُحْدَث.
ويقال ذكر العبد لله أكبر من ذكره للأَشياء الأخرى، لأن ذكره لله طاعة، وذكره لغيره لا يكون طاعة.
ويقال ولذِكْرُ اللَّهِ لَك أكبرُ من ذكرْك له.
ويقال ذكْرهُ لك بالسعادة أكبرُ من ذكْرك له بالعبادة.
ويقال ذكر الله أكبر من أن تبقى معه وحشة.
ويقال ذكر الله أكبر من أن يُبْقى للذاكر معه ذِكْر مخلوق.
ويقال ذكر الله أبر من أن يُبْقى للزّلةِ معلوماً أو مرسوماً.
ويقال ذكر الله أكبر من أن يعيش أحدٌ من المخلوقين بغيره.
ويقال ولذكر الله أكبر من أن يُبْقَى معه للفحشاء والمنكر سلطاناً ؛ فلِحُرمه ذكره زَلاَّتُ الذاكر مغفورةٌ، وعيوبه مستورةٌ.
ينبغي أن يكون منك للخصم تبيين، وفي خطابك تليين، وفي قبول الحق إنصاف، واعتقاد النصرة - لما رآه صحيحاً - بالحجة، وتَرْك الميل إلى الشيء بالهوى.
يعني أنهم على أنواع : فمرحوم نظرْنا إليه بالعناية، ومحرومٌ وسمناه بالشقاوة.
أي تَجَرَّد قلبك عن المعلومات، وتقدّس سرّك عن المرسومات، فصادَفك من غير ممازجة طبْعٍ ومشاركةِ كَسْبٍ وتكلف بشرية، فلما خلا قلبك وسرُّك عن كل معلومٍ ومرسوم ورَد عليك خطابُنا وتفهيمنا مقرونا بهما ما ليس مِنَّا.
قلوب الخواص من العلماء بالله خزائنُ الغيب، فيها أودع براهين حقه، وبينات سِرِّه، ودلائل توحيده، وشواهد ربوبيته، فقانون الحقائق قلوبهم، وكلُّ شيء يطلبُ من موطنه ومحله ؛ فالدرُّ يُطلبُ من الصدف لأنّ ذلك مسكنه، والشمس تطلبُ من البروج لأنها مطلعها، والشهد يُطلْبُ من النّحل لأنه عشُه. كذلك المعرفة تُطْلَبُ من قلوب خواصه لأن ذلك قانون معرفته، ومنها (. . . ).
خفَيَتْ عليهم حالتُكَ - يا محمد - فطالبوكَ بإقامة الشواهد، وقالوا :﴿ لَوْلآَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَاتٌ ﴾ أَوَ لم يَكْفِهم ما أوضحنا عليكَ من السبيل، وأَلَحْنا لكَ من الدليل ؛ يُتْلَى عليهم ذلك، ولا يمكنهم معارضته ولا الإتيان بشيءٍ من مثله ؟ هذا هو الجحود وغاية الكُنود !
أنا على حقِّ واللَّهُ - سبحانه - يعلمه، وأنتم لستم على حق والله يعلمه.
لولا أني ضربْتُ لكلِّ شيءٍ أَجَلاً لَعجَّلْتُ لهم ذلك، ولَيَأتِيَنَّهم العذابُ - حين يأتيهم - بغتةً وفجأةً.
وإذا أحاطت بهم في جهنم سرادقاتُ العذاب فلا صريح لهم، كذلك - اليومَ - مَنْ أحاط به العذابُ ؛ مِنْ فوقه اللَّعنُ ومن تحته الخَسْفُ، ومن حوله الخِزْيُ، ويُلْبَسُ لباسَ الخذلان، ويوسم بكيِّ الحرمان، ويُسْقَى شرابَ القنوط، ويُتَوَّجُ بتاج الخيبة، ويُقَّيُّدُ بقيد السُّخط، ويُغَلِّ بغُلِّ العداوة، فهُمْ يُسْحَبون في جهنم الفراق حُكْماً، إلى أن يُلْقَوْا في جحيم الاحتراق عيناً.
الدنيا أوسعُ رقعةً من أَن يضيق بمريدٍ مكانٌ، فإذا نَبَا به منزلٌ - لوجهٍ من الوجوه - إمَّا لمعلومٍ حصل، أو لقبولٍ من الناس، أو جاهٍ، أو لعلاقةٍ أو لقريبٍ أو لِبَلاءِ ضِدٍّ، أو لوجهٍ من الوجوه الضارة. . . فسبيلُه أن يرتحل عن ذلك الموضع وينتقل إلى غيره، كما قالوا :
وإذا ما جُفِيتُ كنتُ حَرِيَّاً | أنْ أُرى غيرَ مُصْبِح حيثُ أُمْسِي |
وكذلك العارف إذا لم يوافق وقَتَه مكانٌ انتقل إلى غيره من الأماكن.
إذا كان الأمرُ كذلك فالراحة معطوفة على تهوين الأمور ؛ فسبيلُ المؤمن أن يوطِّن نفسَه على الخروج مستعداً له، ثم إذا لم يحصل الأَجَلُ فلا يستعجل، وإذا حضر فلا يستثقل، ويكون بحُكْمِ الوقت، كما قالوا :
لو قال لي مُتْ مِتُّ سمعاً وطاعةً *** وقلتُ لداعي الموت : أهلاً ومرحبا
هم - اليومَ - في غُرَفِ معارفهم على أَسِرَّةِ وَصْلِهم، مُتَوَّجُون بتيجان سيادتهم، يُسْقَوْن كاساتٍ الوَجْدِ، ويَجْبُرُون في جِنانِ القُرْب، وعداً
كما قال :﴿ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾.
والصبرُ الوقوفُ مع الله بشرط سقوط الفكرة.
الصبرُ العكوفُ في أوطان الوفاء، الصبر حَبْسُ النَّفْسِ على فِطامها.
الصبر تجرُّعُ كاساتِ التقدير من غير تعبيس.
الصبر صفة توجب معيَّةَ الحقِّ. . . وأَعْزِزْ بها !
وأولُ الصبرِ تصبُّرٌ بتكلفٍ، ثم صبرٌ بسهولة، ثم اصطبارٌ وهو ممزوج بالراحة، ثم تحقُّقٌ بوصف الرضا ؛ فيصير العبدُ فيه محمولاً بعد أن كان مُتَحَمّلاً.
والتوكلُ انتظارٌ مع استبشار، والتوكلُ سكونُ السِّرِّ إلى الله، التوكلُ استقلالٌ بحقيقة التوكل ؛ فلا تتبرَّم في الخلوة بانقطاع الأغيار عنك. التوكل إعراضُ القلب عن غير الرَّب.
﴿ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ﴾ أي لا تدخره، فمن لم يدخر رزقه في كيسه أو خزائنه فاللَّهُ يرزقه من غير مقاساة تعبٍ منه.
ويقال :﴿ لاَّ تَحِْمِلُ رِزْقَهَا ﴾ المقصود بها الطيور والسباع إذ ليس لها معلوم، وليس لها بيت تجمع فيه القوت، وليس لها خازن ولا وكيل. . الله يرزقها وإياكم.
ويقال إرادةُ اللَّهِ في أن يستبقيكَ ولا يقبض رُوحَك أقوى وأتمُّ وأكبرُ من تَعَنَّيك لأَجْلِ بقائك. . فلا ينبغي أَنْ يكونَ اهتمامُكَ بسبب عَيْشِك أتمَّ وأكبرَ من تدبير صانعك لأجل بقائك.
إذا سُئِلوا عن الخالق أقروا بالله، وإذا سُئِلوا عن الرازق لم يستقروا مع الله. . .
هذه مناقَضَةٌ ظاهرة !
الرزق على قسمين : رزق الظواهر ومنه الطعام والشراب، ورزق السرائر ومنه الاستقلال بالمعاني بحيث لا يحصره تكلف الكلام، والناسُ فيهم مرزوقٌ ومُرَفّةٌ عليه، وفيهم مرزوق ولكنْ مْضَيَّقٌ عليه.
كما عَلِموا أَنَّ حياةِ الأرضِ بعد موتها بالمطر من قِبَل الله فليعلموا أَنَّ حياةَ النفوسِ بعد موتها - عند النّشْرِ والبعث - بقدرة الله. وكما علموا ذلك فليعلموا أَنَّ حياةَ الأوقات بعد نفرتها، وحياة القلوب بعد فترتها. . . بماء الرحمة بالله.
الدنيا الأحلام - وعند الخروج منها انتباهٌ من النوم. والآخرة هنالك العيش بكماله، والتخلص - من الوحشة - بتمامه ودوامه.
الإخلاصُ تفريغُ القلب عن الكلّ، والثقةُ بأن الإخلاص ليس إلا به - سبحانه، والتحقق بأنه لا يستكبر حالاً في المحمودات ولا في المذمومات، فعند ذلك يعبدونه مخلصين له الدّين. وإذا توالت عليهم الضرورات، وانقطع عنه الرجاء أذعنوا لله متضرعين فإذا كشف الضُّرَّ عنهم عادوا إلى الغفلة، ونَسُوا ما كانوا فيه من الحال كما قيل :
إذا ارعوى عاد إلى جهله | كذي الضنى عاد إلى نُكْسِه |
مَنَّ عليهم بدَفْعٍ المحن عنهم وكَوْنِ الحَرَمِ آمناً. وذَكَّرَهم عظيمَ إحسانه عليهم، ثم إعراضهم عن شكر ذلك.
أي لا أحدَ أشدُّ ظلماً ممن افترى على الله الكذب، وعَدَلَ عن الصدق، وآثَرَ البهتانَ ولم يتصرف بالتحقق، أولئك هم السُّقّاطُ في الدنيا والآخرة.
الذين زَيَّنُوا ظواهرَهم بالمجاهدات حَسُنَتْ سرائرُهم بالمشاهدات. الذين شغلوا ظواهرهم بالوظائف أوصلنا إلى سرائرهم اللطائف. الذين قاسوا فينا التعبَ من حيث الصلوات جازيناهم بالطرب من حيث المواصلات.
ويقال الجهاد فيه : أولاً بترك المحرَّمات، ثم بترك الشُّبُهات، ثم بترك الفضلات، ثم بقطع العلاقات، والتنقِّي من الشواغل في جميع الأوقات.
ويقال بحفظ الحواسُ لله، وبِعَدُ الأنفاس مع الله.