تفسير سورة القصص

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة القصص من كتاب لطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ
بسم الله اسم عزيز من تعرض لجدواه يسر له في دنياه وعقباه، اسم عزيز من اشتاق إلى لقياه استعذب فيه ما يلقاه من بلواه. ومن طلب غيره مؤنسا في دنياه أو عقباه ﴿ ضل من تدعوه إلا إياه ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ].

قوله جل ذكره :﴿ طسم تلك ءايات الكتاب المبين ﴾.
" الطاء " تشير إلى طهارة نُفُوسِ العابدين عن عبادة غير الله، وطهارة قلوب العارفين عن تعظيم غير الله، وطهارة أرواح الواجدين عن محبة غير الله، وطهارة أسرار الموحِّدين عن شهود غير الله. " والسين " تشير إلى سِرِّ اللَّهِ مع العاصين بالنجاة، ومع المطيعين بالدرجات، ومع المحبين بدوام المناجاة. " والميم " تشير إلى مِنَّتِه على كافة المؤمنين بكفاية الأوقات والثبات في سبيل الخيرات.
سماعُ قصةِ الحبيبِ من الحبيب يُوجِبُ سلوةَ القلب، وذهابَ الكَرْبِ، وبهجةَ السِّرِّ، وثَلَج الفؤاد. وقد كرَّر ذكر قصة موسى تفخيماً لشأنه وتعظيماً لقَدْرِه، ثم زيادةً في البيان لبلاغة القرآن، ثم إفادةً لزوائدَ في المذكور قولُه في كل موضع يتكرر فيه.
تكبَّر فرعونُ بغير حقٍّ فأقماه بحقٍّ، وتجبَّرَ بغير استحقاق فأَذَلَّة الله باستحقاق واستيجاب، وجعل أهلها شيعاً يذبِّح أبناءَهم بعد ما استضعفهم، ويستحي نساءَهم، وأفنى منهم من كان (. . . )، وبالفساد حَكَمَ فيهم، واللَّهُ لم يرضَ بِتَرْكِ إتلافهم.
نريد أن نَمُنَّ على المستَضْعَفِين بالخلاص من أيديهم، وأَنْ نجعلَهم أئمةً، بهم يَهْتَدِي الخلْقُ، ومنهم يتعلم الناسُ سلوكَ طريق الصدق، ونبارك في أعمارهم، فيصيرون وارثين لأعمار مَنْ يُنَاويهم، وتصير إليهم مساكنهم ومنازلهم ؛ فهم هُدَاةٌ وأعلامٌ، وسادةٌ وقَادَةٌ ؛ بهم يُقْتَدَى وبنُورِهم يُهْتَدَى.
﴿ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ في الأَرْضِ ﴾ : نُزِيلُ عنهم الخوفَ، ونرزقهم البسط والاقتدار، ونمد لَهُمْ في الأجل. ونُرِى فرعونَ وهامانَ وقومهما ما كانوا يحذرون من زوال مُلْكِهِم على أيديهم ؛ وأَنَّ الحقَّ يُعْطِي - وإن كان عند الخَلْق أَنَّهُ يُبْطي.
أي ألقينا في قلبها، وأوحينا إليها وحيَ إلهامٍ، فاتخذت خاطرها في ذلك، وجرى منها ذلك وهي مختارة باختيارٍ أُدْخِلَ عليها.
لمَّا وضعت أم موسى كانت تخاف قتله، فإن فرعون قَتَلَ في ذلك اليوم كثيراً من الولدان المولودة لبني إسرائيل، رجاءَ أن يقتلَ مَنْ رأى في النوم ما عُبِّر له أن ذهابَ مُلْكِه على يدي إسرائيلي. . فألقى الله في قلبها أن تفعل ذلك.
ثم إنه ربَّاه في حِجْرِه ذلك اليومَ - ليُعْلَمَ أنَّ الأقدارَ لا تُغَالَبُ.
جعلت أم موسى موسى في تابوتٍ، وألقته في نيل مصر، فجاء الماءُ به إلى بِرْكةٍ كان فرعونُ جالساً على حافتها، فأخذوه وحملوه إليه، وفتحوا رأسَ التابوت، فلمَّا رآه فرعون أخَذَتْ رؤيتُه بمجامع قلبه، وكذلك تمكَّن حُبَّه من قلب امرأةِ فرعون، قال تعالى :﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾ [ طه : ٣٩ ] حيث خَلَقَ الله ملاحةً في عيني موسى ؛ فكان من يقع عليه بَصَرُه لا يتمالك من حُبِّه.
أخبر الله تعالى أنه كان عدواً لهم، وقالت امرأةُ فرعون :﴿ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾
فلم يكن لهما ولد، وهم لا يشعرون إلى ماذا يؤول أمره.
لمّا ألقته في الماء سَكَّنَ اللَّهُ قلبَها، وربط عليه، وألهمها الصبر، وأصبح فؤادها فارغاً إن كادت لتبدي به من حيث ضعف البشرية، ولكن الله ربط على قلبها.
أمَرَتْ أُمُّ موسى أختَه أن تتبعَ أثره، وتنظرَ إلى ماذا يؤول أمره، فلمَّا وجدوه واستمكن حُبُّه من قلوبهم طلبوا مَنْ يُرضِعه.
أبَى موسى قبولَ ثدِي واحدةٍ ممن عُرِضَ عليهن. . فَمَنْ بالغداة كانوا في اهتمامٍ كيف يقتلونه أمسوا - وهم في جهدهم - كيف يُغَذُونه !
فلمَّا أعياهم أَمرُه، قالت لهم أخته :﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ ﴾ ؟ فَقَبِلُوا نصيحتها شفقة منهم عليه، وقالوا : نعم، فرُّدوه إلى أمه، فلما وضعت ثديها في فمه ارتضعها موسى فَسُرُّوا بذلك، وكانوا يَدْعُون أُمَّه حاضنةً ومرضعةً. . ولم يُضِرْها، وكانوا يقولون عن فرعون : إنه أبوه. . ولم ينفعه ذلك !
ولمَّا أخذته أمُّه علمت بتصديق الله ظنها، وسكن عن الانزعاج قلبُها، وجرى من قصة فرعون ما جرى.
لمَّا كَمُلَتْ سِنُّه وتمَّ عقلُه، واستوى كمال خصاله ﴿ ءَاتَيْنَاهُ حُكْماً ﴾ : أي أَتْمَمْنَا له التحصيل، وَوَفَّرْنا له العلم، وبذلك جَرَتْ سُنَّتُنا مع الأكابر والأنبياء.
قيل : دخل المدينةَ في وقت الهاجرة، وتَفَرُّقِ الناس، فَوَجَدَ فيها رجلين يتخاصمان : أحدهما إسرائيليٌّ من شيعة موسى وعلى دِينه، والآخرُ قِبطيٌّ مخالفٌ لهما، فاستغاث الإسرائيليُّ بموسى على القبطي، فوكَزَه موسى ليَدْفَعَه عن الإسرائيلي، فمات الرجلُ بذلك الوَكْز، ولم يكن موسى يقصد قَتْلَه، فقال موسى :﴿ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ﴾.
فقد تمنَّى موسى أنْ لو دَفَعَه عنه بأَيْسَرَ مما دفعه، ولم ينسب القتل إلى الشيطان، ولكنَّ دَفعَهُ عنه بالغلظةِ نَسَبَه إلى الشيطان بأَنْ حَمَلَه على تلك الحِدَّة.
وهكذا. . إذا أراده اللَّهُ أمراً أجرى أسباباً ليَحْصُلَ بها مرادُه، ولو أنه أراد فتنةَ موسى لَمَا قَبَضَ روحَ الرجلِ بمثل تلك الوكزة، فقد يُضْرَبُ الرجلُ الكثيرَ من الضَّرْبِ والسياط ثم لا يموت ؛ فموتُ القبطي بوكزةٍ إجراءٌ لما قضاه وأراده.
تاب موسى عَمَّا جرى على يده، واستغفر ربَّه، وأخبر اللَّهُ أنه غَفَرَ له، ولا عتابَ بعد المغفرة.
قال موسى ربِّ بما أنعمت عليَّ من توفيقك لي بالتوبة فلن أعودَ بعد ذلك إلى مثل ما سَلَفَ مني.
أصبح في المدينة خائفاً على نَفْسه من فرعون لأنه كان يَدَّعي أنه يحكم بالعدل، وخاف موسى أن ينسبه في قَتْلِ القبطيِّ إلى العَمْدِ والقصد. فهو ﴿ يَتَرَقَّبُ ﴾ علم فرعون وأن يُخْبَر بذلك في وقته.
وقيل ﴿ خَآئِفاً ﴾ من الله مما جرى منه. ويقال ﴿ خَآئِفاً ﴾ على قومه حلولَ العذابِ بهم. وقيل ﴿ يَتَرَقَّبُ ﴾ نصرة الله إياه. ويقال ﴿ يَتَرَقَّبُ ﴾ مُؤْنِساً يَأْنَسُ به.
فإذا الذي استنصره بالأمس يخاصِمُ إنساناً آخَرَ، ويستعين به لِيُعِينَه، فَهَمَّ موسى. فأن يعين صاحبَه، فقال الذي يخاصمه. ﴿ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تقتلني كَمَا قَتَلْتَ نَفْسَا بِالأَمْسِ ﴾ ؟ : قيل لم يعلم ذلك الرجل أن موسى هو الذي قَتَلَ الرجلَ بالأمس، ولكن لمَّا قَصَدَ مَنْعَه عن صاحبه استدلَ على أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس، فلما ذكر ذلك شاع في أفواه الناس أنَّ موسى هو الذي قتل القبطيَّ بالأمس، فأمسك موسى عن هذا الرجل.
جاء إسرائيليٌّ من معارف موسى يسعى، وقال إن القوم يريدون قَتْلَكَ، وأنا واقفٌ على تدبيرهم، وقد أرادوا إعلامَ فرعون. . فاخرُجْ من هذا البلد، إني لك من الناصحين.
خرج من مصر ﴿ خائفاً ﴾ أن يقتفوا أَثَرَه، ﴿ يَتَرَقَّبُ ﴾ أن يدركه الطلب، وقيل ﴿ يَتَرَقَّبُ ﴾ الكفايةَ والنصرةَ من الله، ودعا الله فقال :﴿ نَجِّنِّى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾.
توجَّه بنفسه تلقاء مدين من غير قصدٍ إلى مدين أو غيره، بل خرج على الفتوح، توجَّه بقلبه إلى ربِّه ينتظر أن يهديَه ربُّه إلى النحو الذي هو خيرٌ له، فقال : عسى ربي أن يهديني إلى أَرْشَدِ سبيلٍ لي.
لمَّا وافى مدينَ شعيب كان وقت الهاجرة، وكانت لهم بئر يستقون منها، فيصبون الماءَ في الحياضِ، ويسقون أغنامهم، وكانوا أهل ماشية.
وكان شعيبُ النبيُّ عليه السلام قد كُفَّ بَصَره لكثرة بكائه ؛ ففي القصة أنه بكى فذهب بَصَرَه، ثم رَدَّ الله عليه بَصَرَه فبكى، فردَّ الله بصرة فبكى حتى ذهب بَصَرَهُ، فأوحى الله إليه : لِمَ تبكي يا شعيب. . ؟ إِنْ كان بكاؤك لخوف النار فقد أَمَّنْتُكَ، وإن كان لأَجْلِ الجنة فقد أَتَحْتُها لك.
فقال : ربِّ. . إنما أبكي شوقاً إليك. فأوحى الله إليه لأجل ذلك أَخْدَمْتُكَ نَبِيِّي وكليمي عَشْرَ حجج.
وكانت لشعيب أغنامٌ، ولم يكن لديه أجير، فكانت بِنْتاه تسوقان الغنْمَ مكانَ الرعاة، ولم يكن لهما قدرة على استقاء الماء من البئر، وكان الرعاة يستقون، فإذا انقضَوْا فإنْ بَقِيَتْ في الحوضِ بقيةٌ من الماء استقت بنات شعيب.
فلمَّا وافى موسى ذلك اليومَ وشاهَدَ ذلك ورآهما يمنعان غنمهما عن الماء رَقَّ قلبُه لهما وقال : ما خطبكما ؟ فقالتا :﴿ لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾. وليس لدينا أجير.
فلمَّا انصرف الرعاةُ سَقَى لهما، ثم ولّى إلى ظلِّ جدارٍ بعد ذلك. كان الجوع قد أصابه خلال سَفَرِه، ولم يكن قد تعوَّد، قط الرحلةَ والغُرْبةَ، ولم يكن معه مالٌ، فدعا الله :﴿ فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾.
قيل طَلَبَ قوةً تُزِيل جوعَه، وقيل طَلَبَ حالاً يستقِلُّ بها. والأحسن أن يقال جاع فَطَلَبَ كِسْرَة يَسُدُّ بها رَمَقَه - والمعرفة توجِب سؤالَ ما تحتاج إليه من الله قليلاً أو كثيراً. فلمَّا انصرفت ابنتا شعيب خَرَجَ شعيبُ إلى ظاهر الصحراء على طريق الماشية ليمسَّها بيديه فوجَدَ أثرَ الزيادة في تلك الكَرَّة، فسأَلَهما فَذَكَرَتا له القصة، وما سمعتا منه حين قال :﴿ رَبِّ إِنِّى لِمَآ َأنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ فقال شعيب : إذاً هو جائع. وبَعَثَ إحداهما لتدعوَه :﴿ فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخلف نجوت من القوم الظالمين ﴾.
قيل إنما استحيَتْ لأنها كانت تخاطِبُ مَنْ لم يكن لها مَحْرَماً.
وقيل لمّا دَعَتْه للضيافة تكلمتْ مستحييةً - فالكريم يستحي من الضيافة.
ويقال لم تَطِبُ نَفْسُ شعيب لمَّا أَحْسَنَ موسى إليه وأنه لم يكافئه - وإن كان موسى لم يُرِدْ مكافأةً منهم ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ ﴾ : لم يَقُلْ : فلما جاءَه قَدَّم السُّفْرةَ بل قال : وقصَّ عليه القصص. . وهذا طَرَفٌ من قصته.
ويقال : وَرَدَ بظاهرِه ماءَ مدين، ووَرَدَ بقلبه موارِدَ الأُنْس والرَّوْح. والموارد مختلفة ؛ فمواردُ القلبِ رياضُ البَّسطِ بكشوفات المحاضرة فيطربون بأنواع الملاطَفَة، ومواردُ الأرواح مشاهدُ الأرواح فيُكَاشَفون بأنوار المشاهدة، فيغيبون عن كل إحساسٍ بالنَّفْسِ، ومواردُ الأسرارِ ساحاتُ التوحيدِ. . وعند ذلك الولاية لله، فلا نَفْسَ ولا حِسَّ، ولا قلبَ ولا أُنْسَ. . استهلاكٌ في الصمدية وفناءٌ بالكليةّ !
ويقال كانت الأجنبيةُ والبعد عن المحرميَّة يوجبان إمساكه عن مخاطبتهما، والإعراضَ والسكونَ عن سؤالهما. . ولكن الذي بينهما من المشاكلة والموافقة بالسِّرِّ استنطقة حتى سألهما عن قصتهما، كما قيل :
أَجَارَتَنا إِنَّا غريبان ها هنا وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ
ويقال : لمَّا سألهما وأخبرتا عن ضعفهما لزمه القيامُ بأمرهما ؛ ليُعْلَمَ أنَّ مَنْ تَفَقَّدَ أمرَ الضعفاء ووقف على موضع فاقتهم لزمه إشكاؤُهم.
ويقال مِنْ كمالِ البلاء على موسى أَنَّه وافى الناسَ وكان جائعاً، وكان مقتضى الرِّفْقِ أَنْ يُطْعِموه، ولكنه قَبَضَ القلوبَ عنه، واستقبله مِنْ موجباتِ حُكْمِ الوقتِ أَنْ يعملَ أربعين رجلاً ؛ لأن الصخرة التي نَحَّاها عن رأس البئر - وَحْدَه - كان ينقلها أربعون رجلاً، فلمَّا عَمِلَ عَمَلَ أربعين رجلاٌ، تولَّى إلى الظِّلِّ، وقال : إنْ رأيتَ أَنْ تُطْعِمَني بعد مُقَاساة اللتيا والتي. . فذلك فَضْلُكَ !.
قال ذلك بلسان الانبساط، ولا لسانَ أحلى من ذلك. وسُنَّةُ الشكوى أن تكون إليه لا مِنْكَ. . بل منه إليه.
ويقال : تولَّى إلى ظلِّ الأُنْس ورَوْح البسط واستقلال السِّرِّ بحقيقة الوجود.
ويقال قال :﴿ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ : فَزِدْني فقراً ؛ فإنَّ فقري إليك يوجِبُ استعانتي بك.
كان شُعيبُ عليه السلام يحتاج إلى أجير، ولكن لا يسكن قلبُ إلى أحدٍ، فلمَّا رأى موسى، وسمع من ابنته وصفةَ بالقوة والأمانة سأل :
عَرَفْتُ قُوَّتَه. . فكيف عرفْتِ أمانتَه ؟
فقالت : كنتُ أمشي قُدَّامَه فأَخَّرَني عنه في الطريق قائلاً : سيري ورائي واهديني، لئلا يَقَعَ بَصَرُه عليَّ. . فقال شعيب :
﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾.
فرغب موسى وتزوجها على صداقٍ أن يعمل عشر حجج لشعيب.
وفي القصة أن شعيباً قال لموسى : ادخلْ هذا البيتَ وأخْرِجْ مما فيه من العِصِيِّ عصاً، وكان البيتُ مظلِماً، فَدَخَل وأخرج العصا، تلك التي أظهر الله فيها معجزاته، ويقال : إنها كانت لآدم عليه السلام، ووقعت لشعيب من نبيٍّ إلى نبيٍّ. إذ يقال : إنه لما هَبَطَ آدمُ إلى الأرض صال عليه ما على وجهها من السَِّباع، فأنزل عليه الله عصاً، وأمَرَه جبريلُ أنْ يَرُدَّ السباعَ عن نَفْسِه بتلك العصا.
وتوارث الأنبياءُ واحداً بعد الآخر تلك العصا، فلمَّا أخرج موسى تلك العصا، قال شعيب : ردَّها إلى البيت، واطرحها فيه، وأخْرِجْ عصاً أخرى، فَفَعَلَ غير مرة، ولم تحصل كلَّ مرة في يده إلا تلك العصا، فلمَّ تَكَرَّرَ ذلك عِلِمَ شعيبُ أنَّ له شأناً فأعطاه إياها.
وفي القصة : أنه في اليوم الأول ساق غَنَمه، وقال له شعيب : إنَّ طريقَكَ يتشعب شِعْبَيْن : على أحدهما كَلأ كثيرٌ. . . فلا تَسْلُكْه في الرعي فإنَّ فيه ثعباناً، واسْلُكْ الشِّعْبَ الآخرَ. فلمَّا بلغ موسى مَفْرِقَ الطريقين، تَفَرَّقَتْ أغنامُه ولم تطاوعه، وسامت في الشِّعْبِ الكثيرِ الكَلأَ، فَتَبِعَها، ووقع عليه النومُ، فلمَّا انتبه رأى الثعبانَ مقتولاً، فإن العصا قتلته، ولمَّا انصرف أخبر شعيباً بذلك فَسُرَّ به. وهكذا كان يرى موسى في عصاه آياتٍ كثيرة، ولذا قال :﴿ وَلِىَ فِيهَا مَئَارِبُ أُخْرَى ﴾.
مَضَتْ عَشْرُ حِجَجٍ، وأراد موسى الخروجَ إلى مصر، فَحَمَلَ ابنَه شعيب، وسارَ بأهله متوجِّهاً إلى مصر. فكان أهلُه في تسييره وكان هو في تسيير الحقِّ، ولمَّا ظَهَرَ ما ظهر بامرأته من أمر الطِّلْقِ استصعب عليه الوقتُ، وبينا هو كذلك آنسَ من جانب الطور ناراً - أي أبصر ورأى - فكأنه يشير إلى رؤية فيها نوعُ أُنْسٍ : وإنَّ اللَّهَ إِذا أراد أمراً أجْرَى ما يليق به، ولو لم تقع تلك الحالةُ لم يخرج موسى عندها بإيناس النار، وقد توهم - أول الأمر - أن ما يستقبله في ذلك من جملة البلايا، ولكنه كان في الحقيقة سَبَبَ تحقيق النبوة. فلولا أسرار التقدير - التي لا يهتدي إليها الخَلْقُ - لما قال لأهله :﴿ امْكُثُواْ إِنِّى ءَانَسْتُ نَاراً لَعَلِّى ءَاتِيكُم منْهَا بِخَبَرٍ ﴾.
ويقال : أراح له ناراً ثم لَوَّح له نوراً، ثم بدا ما بدا، ولا كان المقصودْ النَّارَ ولا النورَ. وإنما سماع نداء :﴿ إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالِمِينَ ﴾.
أخفى تعيين قَدَم موسى على الظنون بهذا الخطاب حيث قال :" من شاطئ الواد الأيمن "، ثم قال :" في البقعة المباركة " ثم قال " من الشجرة ".
وأخْلِقْ بأن تكون تلك البقعة مباركة، فعندها سَمِعَ خطابَ مولاه بلا واسطة ؛ وأعِزُّ الأماكنِ في العالمِ مَشْهَدُ الأحباب :
وإني لأهوى الدارَ ما يستعزني لها الود إلا أنها من دياركا
ويقال كم قَدَمٍ وَطَئَتْ لك البقعة، ولكن لم يسمع أصحابُها بها شيئاً !. . وكم ليلةٍ جَنَّت تلك البقعة ولم يظهر من تلك النار فيها شعلة !.
ويقال : شتَّان بين شجرة وشجرة ؛ شجرة آدم عندها ظهور محنتِه وفتنتِه، وشجرة موسى وعندها افتتاح نُبُوَّتِه ورسالتِه !.
ويقال : لم يأتِ بالتفصيل نوعُ تلك الشجرة، ولا يُدْرَى ما الذي كانت تثمره، بل هي شجرة الوصلة ؛ وثمرتها القربة، وأصلُها في أرض المحبة وفَرْعُها باسِقٌ في سماء الصفوة، وأوراقها الزلفة، وأزهارها تَنْفَتِقُ عن نسيم الرَّوْح والبهجة :
فلمَّا سمع موسى تغيَّر عليه الحال ؛ ففي القصة : أنه غُشِي عليه، وأرسل اللَّهُ إليه الملائكة لِيُرِّوحوه بمراوح الأُنْس، وهذا كان في ابتداء الأمر، والمبتدئ مرفوقٌ به. وفي المرة الأخرى خرَّ موسى صَعِقاً، وكان يفيق والملائكة تقوله له : يا ابن الحيض. أمثلك مَنْ يسأل الرؤية ؟ !.
وكذا الحديث والقصة ؛ في البداية لُطْفٌ وفي النهاية عُنْفٌ، في الأولِ خَتْل وفي الآخرِ قَتْل، كما قيل :
فلمَّا دارت الصهباءُ دعا بالنَّطع والسيفِ
كذا مَنْ يشرب الراح مع التِّنِّين في الصيفِ
يا موسى. . اخْلَعْ نعليكَ وألقِ عصاك، وأقِمْ عندنا هذه الليلة، فلقد تَعِبْتَ في الطريق - وذلك إن لم يكن في النقل والآثار فهو مما يليق بتلك الحال.
يا موسى. . كيف كُنْتَ في الطريق ؟ كيف صَعَّدْتَ وكيف صوَّبت وكيف شرَّقْتَ وكيف غَرَّبْتَ ؟ ما كنتَ في الطريق وحدَك يا موسى ! أحصَيْنا خُطَاكَ - فقد أحصينا كلَّ شيءٍ عَدَداً. يا موسى. . تعِبْتَ فاسترحْ، وبعد ما جِئْتَ فلا تَبْرَحْ - كذلك العبدُ غداً إذا قطع المسافةَ في القيامةِ، وتبوَّأَ مَنْزِلَه من الجنة ؛ فأقوامٌ إذا دخلوها رجعوا إلى منازلهم ثم يوم اللقاء يستحضرون، وآخرون يمضون من الطريق إلى بساط الزلفة، وكذا العبد أو الخادم إذا دَخَلَ بَلَدَ سلطانِه. يبتدئ أولاً بخدمة الشُّدَّةِ العَلِيَّةِ ثم بعدها ينصرف إلى منزله. وكذلك أمرنا ؛ إذا أصبحنا كلَّ يوم : ألا نشتغِلَ بشيءٍ حتى نَفْتَتِحَ النهارَ بالخطاب مع الحقِّ قبل أن نخاطِبَ المخلوق، نحضر بساط الخدمة - أي الصلاة - بل نحضر بساط الدنوِّ والقربة، قال تعالى :﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ﴾ [ العلق : ١٩ ] : فالمُصَلِّي مُنَاج رَبَّه. ولو عَلِمَ المُصَلِّي مَن يناجي ما التفت ؛ أي لم يخرج عن صلاته ولم يلتفت يميناً ولا شمالا في التسليم الذي هو التحليل.
قوله جل ذكره :﴿ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُ كَأَنَّهَا جَآنٌ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الأَمِنِينَ ﴾.
عندما انقلبت العصا حَيَّةً وَلَّى موسى مُدْبِراً ولم يعقب، وكان موضع ذلك أن يقول : حديثٌ أَوَّلُه تسليطُ ثعبان ! مَنْ ذا يُطِيقُ أوَّلَه ؟ !.
فقيل له : لا تَخَفْ يا موسى ؛ إن الذي يَقْدِرُ أَنْ يَقْلِبَ العصا حيةً أن يَخْلُقَ لك منها السلامة :﴿ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين ﴾ : ليس المقصودُ مِنْ هذا أنت، إنما أثبت هذا لأسلطَه على عدوِّك، فهذه معجزتُك إلى قومك، وآيتُك على عودِّك.
ويقال : شتان بين نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - وبين موسى عليه السلام ؛ رجع من سماع الخطاب وأتي بثعبان سَلّطَه على عدوِّه، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - رجع بعد ما أُسْرِيَ به إلى السماء، وأوحى إليه ما أوحى - لِيُوَافِيَ أُمَّتَه بالصلاة التي هي المناجاة، وقيل له : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال :" السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ".
قيل له : اسلُكْ يَدَكَ في جيبك، لأنَّ المدرعةَ التي كانت عليه لم يكن لها كُم. وفي هذا إِشارة إلى أنه ينبغي على المرء للوصول إلى مراده ومقصوده أن يتشمَّر، وأن يجِدَّ، وأن يُخْرجَ يَدَه من كُمِّه. وأنه قال لموسى : أدْخِلْ يَدَكَ في جيبك تخرج بيضاءَ، وألق عصاكَ نجعلْها ثعباناً، بلا ضَرْبِكَ بها، وبلا استعمالِك لها يا موسى : الأمرُ بِنَا لا بِكَ، وأنا لا أنت.
﴿ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ ﴾ : يا موسى، في وصف خضوعك تَجِدني، وبتبرِّيكَ عن حَوْلِكَ وَقُوَّتِك تَصِل إليَّ.
تَعلَّلَ بكلِّ وجهٍ رَجَاءَ أن يُعَافَى من مشقةِ التبليغ ومقاساةِ البلاءِ ؛ لأنه عَلِمَ أنَّ النبوةَ فيها مَشَقّةٌ، فلم يَجِدْ الرُّخصةَ والإعفاءَ مِمَّا كُلِّفَ، وأجاب سُؤْلَه في أخيه حيث سأله أنْ يجعلَ له رِدْءاً، وضمن لهما النصرة.
ثم إنهما لَمَّا أتَيَا فرعونَ قابلهما بالتكذيب والجحد، ورماهما بالخطأ والكذب والسحر، وجاوباه بالحجة، ودَعَوَاه إِلى سَوَاءِ المحجَّة، فأَبَى إِلاَّ الْجَحْدَ.
ادَّعى الانفرادَ بالإلهية فزاد في ضلالِه على عَبَدَةِ الأصنام الذين جعلوا أصنامَهم شركاءَ، ثم قال لهامان :" ابْن لي صَرْحاً لعلِّي أطلع إِلى إله موسى " وكان هذا من زيادة ضلاله، حيث تَوَهَّم أن المعبودَ من جهة فوق، وأنه يمكن الوصول إليه. ولعمري لو كان في جهةٍ لأمكن تقدير الوصول إليه وتجويزه !.
أبَى إِلا أنْ يدومَ جحودُه، وعُنوده
فأغرقه اللَّهُ في البحرِ، كما أغرق قلبَه في بحر الكُفْر.
لا لِشَرَفِهم جعلهم أئمة ولكن لسبب تَلَقِهم قَدَّمَهم في الخزي والهوان على كلِّ أمة، ولكن لم يُرْشدُوا إِلاَّ إلى الضلال. ولم يَدُلُّوا الخَلْقَ إِلاّ على المُحَال، وما حصلوا إلا على سوءِ الحال، وما ذاقوا إلا خِزْيَ الوبال. أفاضوا على مُتَّبِعهم من ظلمات قلوبهم فافتضحوا في خِسَّةِ مطلوبهم.
كانوا في الدنيا مُبْعَدين عن معرفته، وفي الآخرة مُبْعَدين عن مغفرته، فانقلبوا من طَرْدٍ إلى طرد، ومن هَجْرٍ إلى بُعْدٍ، ومن فراقٍ إلى احتراقٍ.
إنما تطيب المنازلُ إذا خَلَتْ من الأجانب، وأطيبُ المساكنِ ما كانت زينتُها بِفَقْدِ الرُّقباءِ وغَيْبَتِهم، فلمّا أهلك اللَّهُ فرعونَ وقومَه، وأورث بني إسرائيلَ أموالَهم وديارَهم، ومحا عن جميعِها آثارَهم - طابَ لهم العيشُ وطَلَعَتْ عليهم شموسُ السعادة.
لم تكن حاضراً فتعرف ذلك مشاهدةً، ولكنهم رأوا أن إخبارَك عنهم بحيث لا يكذبك كتابُهم، وبالضرورة عرفوا حالَكَ، وكيف أنّك لم تَعْلَمْ هذا من أحدٍ، ولا قَرَأْتَه من كتاب، لأَنّكَ أُمِّيٌّ لا تُحْسِنُ القراءة، وإذاً فليس إخبارُكَ إلا بتعريفنا إياك، وإطلاعنا لَكَ على ذلك.
ويقال :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ ﴾ : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا موسى، وكَلَّمْنَاه، وخاطبناه في بابِكَ وبابِ أُمَّتِكَ، ولم تقدح غَيْبَتُكُم في الحال، وكَوْني لكم خيرٌ من كَوْنِكم لكم.
ويقال : لمَّا خَاطَبَ موسى وكَلَّمَه سأله موسى ؛ إِنَّي أرى في التوراة أُمَّةً صفتهم كذا وكذا. . مَنْ هم ؟ وسأل عن أوصاف كثيرة، وعن الجميع كان يُجابُ بأنِّها أمة أحمد، فاشتاق موسى إلى لقائنا، فقال له : إنه ليس اليومَ وقتُ ظهورِهم، فإِنْ شئْتَ أَسمعتُكَ كلامَهم، فأراد أن يسمعَ كلامنا، فنادانا وقال : يا أمةَ أحمد. . . ، فأجاب الكلُّ من أصلاب آبائهم، فَسمِعَ موسى كلامَهم ولم يُدْرِكْهُم. والغنيُّ إذا سأله فقيرٌ وأجابه لا يرضى بأن يردَّه من غير إحسان إليه. ( وفي رواية عن ابن عباس ) أن الله قال :" يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، ورحمتكم قبل أن تسترحموني ".
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أُهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسلِينَ ﴾.
ومما كان موسى عليه السلام يتلوه عليهم من الآيات ذِكْرُ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم بالجميل. وذكر أمته بحسن الثناء عليهم، فنحن في الوجود مُحْدَثٌ مخلوقٌ وفي ذكره متعلق لا باستفتاح. ولم نكن في العَدَم أعياناً، ولا أشياء، ولكنا كنا في متعلق القدرة ومتناول العلم والمشيئة. وذكرنا في الخطاب الأزليّ، والكلام الصمديّ والقول الأبديّ.
ما طلبه موسى لأمته جعلناه لأمتك، وكما نادينا موسى - وهو في الوجود والظهور - ناديناكم وأنتم في كتم العَدَمِ، أنشدوا :
كُنْ لي كما كُنْتَ *** في حالِ لم أكُنِ
تمنوا في زمانِ الفترة أن يبعث اللَّهُ إليهم رسولاً ليهتدوا به، ووعدوا من أنفسِهم الإيمانَ والإجابة، فلمَّا أتاهم الرسولُ كذَبوه، وقالوا : هلاّ خُصَّ بمثل معجزات موسى في الظهور، وكان ذلك منهم خطأ، واقتراحاً في غير موضع الحاجة، وتَحكُّماً بعد إزاحة العِلّةِ :
وكذا الملولُ إذا أراد قطيعةً مَلَّ الوصالَ وقال كان وكانا
ثم قال : أفلا تَذْكُرُون كيف كفروا بموسى وأخيه ورموهما بالسحر ؟
وقال : إنْ ارتبتم أنَّ هذا الكتاب من عند الله فَأْتوا بكتابٍ مِثْلِه، واستعينوا بشركائكم. ومِنْ وقته إلى يومنا هذا لم يأتِ أحدٌ بسورة مِثْلِه، وإلى القيامة لا يأتون بكتابٍ مثله.
أتبعنا رسولاً بعد رسول، وأردفنا كتاباً بعد كتاب، فما ازدادوا إلا كفراً وثبوراً، وجحداً وعتواً. . . فلا إلى الحقِّ رجعوا، ولا إلى الاستقامة جنحوا.
مَنْ أكحلنا بصيرتهم بنور الهداية صَدَّقوا بمقتضى مساعدة العناية، ومَنْ أعميناه عن شهود التحقيق ولم تساعده لطائف التوفيق انتكس في غوايته، وانهمك في ضَلالته.
إذا سمعوا دعوتنا قابلوها بالتصديق، وانقادوا بِحُسْنِ الاستسلام
فلا جَرَمَ يُؤْتَوْن أجرَهم مرتين بما صبروا على الأوامر وصبروا على المحارم في عاجلهم وآجالهم، مرةً في الآخرة وهي المثوبة وأخرى في الدنيا وهي لطائف القربة.
﴿ اللَّغْوَ ﴾ : ما يُلْهِي عن الله. ويقال ﴿ اللَّغْوَ ﴾ ما لا يوجِب وسيلةً عند الله، ويقال ما لا يكون بالحقِّ للحقِّ، ويقال هو ما صَدَرَ عن قلبٍ غافلٍ، ويقال هو ما يوجِب سماعُه السَّهو.
الهداية في الحقيقة إمالة القلب من الباطل إلى الحق، وذلك من خصائص قدرة الحق – سبحانه – وتطلق الهداية بمعنى الدعاء إلى الحق – توسع وذلك جائز بل واجب في صفته صلى الله عليه وسلم ؛ قال تعالى :﴿ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ﴾ [ الشورى : ٥٢ ].
ويقال : لك شرف النبوة، ومنزلة الرسالة، وجمال السفارة، والمقام المحمود، والحوض المورود، وأنت سيد ولد آدم. . ولكنك لا تهدي من أحببت ؛ فخصائص الربوبية لا تصلح لمن وصفه البشرية.
قالوا نخاف الأعراب على أنفسنا إن صدقناك، وآمنا بك، لإجماعهم على خلافنا ولا طاقة لنا بهم فقال الله تعالى :" وكيف تخافونهم وترون الله أظفركم على عدوكم، وحكمنا بتعظيم بيتكم، وجعلنا مكة تجبى إليها ثمرات كل شيء من أقطار الدنيا " ؟
ويقال من قال بحق الله – سبحانه – سخر له الكون بجملته، من اشتغل برعاية سره لله، وقام بحق الله، واستفرغ أوقاته في عبادة الله مكن من التصرف بهمته في مملكة الله ؛ فالخلق مسخر له، والوقت طوع أمره، والحق – سبحانه – متول أيامه وأعماله يحقق ظنه، ولا يضيع حقه.
أما الذي لا يطيعه فيهلك في أودية ضلاله، ويتيه في مفازات خزيه، ويبوء بوزر هواه.
لم يعرفوا قدر نعمتهم، ولم يشكروا سلامة أحوالهم، وانتظام أمورهم، فهاموا في أودية الكفران على وجوههم، فخروا في أدوية الصغار على أذقانهم، وأذاقهم الله من كاسات الهوان ما كسر خمار بطرهم ؛ فماكنهم منهم خالية، سقوفها عليهم خاوية، وغربان الدمار فيها ناعية.
﴿ وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا ﴾ : بالتكليف يأمرهم. ويأمر التكوين – على ما يريد – يقفهم. وهو – سبحانه – يبعث الرسل إنذارا ويعمي السبل عليهم اقتدارا ؛ يوضح الحجة بحيث لا شبهة، ولكنه لا يهدي إلا من سبقت له السعادة بحكم القسمة.
الدنيا حلوة خَضِرَة، ولكنها في التحقيق مُرَّةٌ مَذِرَة، فَبِشْرُها يُوهِمُ أنها صَفْوٌ ولكن مِن وراءِ صَفْوِها حَسُوٌ ﴿ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾.
الدنيا سمومُ حَنْظَلِها تتلو طمومَ عَسَلِها، وتَلَفُ ما يحصل من شربها يغلب لُطْفَ ما يظهر من أربها، وليس من أُكْرِمَ بوجدان نعيم عقباه كَمَنْ مُنِيَ بالوقوع في جحيم دنياه.
إنما يكون ذلك على جهة التهويل وإبطال كيد أهل التضليل. . وإلاَّ فَمِنْ أين لهم الجواب فضلاً عن الصواب ! والذي يسألهُم هو الذي على ما شاء جَعَلَهم ؛ فما وَرَدَ فِعْلٌ إلا على فِعْلِهِ، وما صَدَرَ ما صَدَرَ إلا من أصْلِه. وإذْ تَبَرَّأَ بعضُهم من بعض بَيَّنَ أنه لم يكن للأصنام استحقاقُ العبودية ولا لأحدٍ من النفي والإثبات بالإيجاد والإحداثِ ذَرَّةَ أو منه شظيَّة. . كلاّ بل هو الواحد القهار.
يسألهم سؤالَ هيبةٍ ؛ فلا يَبْقَى لهم تمييزٌ، ولا قوةُ عقلٍ، ولا مُكْنَةُ جوابٍ، قال جلّ ذكره :﴿ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنباء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يتساءلون ﴾.
إذ استولت عليهم الحَيْرَةُ، واستمكن منهم الدهشُ ؛ فلا نُطْقَ ولا عقلَ ولا تمييز ولا فهم.
يختار ما يشاء ومَنْ يشاء من جملة ما يخلق. ومَنْ ليس إليه شيءٌ من الخَلْقِ. . فما له والاختيار ؟ !
الاختيار للحقِّ استحقاقُ عِزٍّ يوجِبُ أن يكون ذلك له، لأنَّه لو لم يُنَفِّذْ مشيئتَه واختيارَه لم يكن بوصف العِزِّ، فَمَنْ بَقِيَ عن مُرادِه لا يكون إلاَّ ذليلاً ؛ فالاختيارُ للحقِّ نعتُ عِزٍّ، والاختيارُ للخَلْقِ صفةُ نَقْصٍ ونعتُ بلاءٍ وقصور ؛ فاختيارُ العَبْدِ غيرُ مُبَارَكٍ عليه لأنَّه صفةٌ هو غيرُ مُسْتَحِقٍّ لها، ومَنْ اتصف بما لا يليق به افتضح في نَفْسِه، قال قائلُهم :
ومعالٍ إذا ادَّعاها سواه لَزِمَتْه جِنَايةُ السُّرَّاقِ
والطينةُ إذا ادَّعَتْ ما هو صفة الحقِّ أظهرت رعونتَها، فما للإنسان والاختيار ؟ ! وما للمملوكِ والمِلْك ؟ ! وما للعبيدِ والتصدُّر في دَسْتِ الملوك ؟ !
قال تعالى :﴿ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
ولم لا وقد قال :﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ﴾ [ الملك : ١٤ ] ؟ فالعلم – الذي لا يعزب عنه معلوم – نعت من لم يزل، والإبداع من العدم إلى الوجود ينفرد بالقدرة عليه لم يزل.
﴿ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ : تَوَحَّدَ بِعِزِّ هيبته، وتَفَرَّدَ بجلال ربوبيته، لا شبيهَ يساويه، ولا نظيرَ يُضاهيه. ﴿ لَهُ الْحَمْدُ ﴾ استحقاقاً على عَطِيَّتِه، وله الشكر استيجاباً على نعمته ؛ ففي الدنيا المحمودُ اللَّهُ، وفي العقبى المشكورُ اللَّهُ ؛ فالإحسان من اللَّهِ لأن السلطانَ للَّهِ، والنعمةُ من اللَّهِ لأنَّ الرحمةَ للًَّهِ، والنصرةُ من اللَّهِ لأنَّ القدرةَ للَّهِ.
إن دامت ليالي الفترة فَمَنْ الذي يأتي بنهار التوبة غيرُ اللَّهِ ؟
وإِنْ دامت ليالي الطَّلَبِ فَمَنْ الذي يأتي بصُبْحِ الوجودِ غيرُ اللَّهِ ؟
وإِن دامت ليالي القبض فمن الذي يأتي بصبح البسط غيرُ اللَّهِ ؟
وإِن دام ليل الفراق فمن الذي يأتي بصبح الوصالِ غيرُ الله ؟
إِنْ دام في الوصلة نهارُكم فأيُّ سبيل للواشين إلى تنغيص سروركم ؟
وإن دام نهارُ معاشكم ووقتُ اشتغالكم بحظوظكم فَمَنْ إلهٌ غيرُ اللَّهِ يأتيكم بليلٍ تَسْكنُون فيه إِلى الله إلا الله، وتستريحون من أشغالكم بالخلوة مع اللَّهِ إلا الله.
الأوقات ظروفٌ لما يحصل فيها من الأفعال والأحوال ؛ فالظروفُ من الزمان متجانسة، وإنما الاختلافُ راجعٌ إلى أعيان ما يحصل فيها ؛ فليالي أهل الوصال ساداتُ الليالي، أهل الفراق أسوأ الليالي ؛ فأهلُ القُرْبِ لياليهم قِصَارٌ وكذلك أيامُهم، وأربابُ الفراقِ لياليهم طوال وكذلك جميع أوقاتهم في ليلهم ونهارهم، يقول قائلهم :
والليالي إذا نأيتِ طوالٌ وأراها إذا دَنَوْتِ قِصَار
وقال آخر :
والليلُ أطولُ وقتٍ حين أفقدها والليل أقصر وقتٍ حين ألقاها
وقال ثالث :
يطولُ اليومُ لا ألقاكِ فيه وحَوْلٌ نلتقي فيه - قصيرُ
كلا. . . لا حُجَّة لهم، ولا جوابَ يعذرهم، ولا شفيعَ يرحمهم، ولا ناصِرَ يُعِينهم.
اشتهرت ضلالتهُم، واتضحت للكافة جهالتهُم ؛ فدامَ عذابُ الأبد، وحاقَ بهم وبالُ السَّرمَد.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:كلا... لا حُجَّة لهم، ولا جوابَ يعذرهم، ولا شفيعَ يرحمهم، ولا ناصِرَ يُعِينهم.
اشتهرت ضلالتهُم، واتضحت للكافة جهالتهُم ؛ فدامَ عذابُ الأبد، وحاقَ بهم وبالُ السَّرمَد.

جاء في القصص أنه كان ابن عمِّ موسى، وكان من أعبد بني إسرائيل، وكان قد اعتزل الناسَ، وانفرد في صومعته يتعبَّد، فتصوَّر له إبليسُ في صورة بَشَرٍ، وأخذ في الظاهر يتعبَّدُ معه في صومعته حتى تعجَّب قارونُ من كثرة عبادته، فقال له يوماً : لسنا في شيء ؛ عيونُنا على أيدي الناسِ حتى يدفعوا إلينا شيئاً هو ضرورتنا، ولا بُدَّ لنا من أَخْذِه، فقال له قارون : وكيف يجب أن نفعلَه ؟
فقال له : أن ندخل في الأسبوع يوماً السوق، ونكتسب، وننفق ذلك القَدْرَ في الأسبوع، فأجابه إليه. فكانا يحضران السوق في الأسبوع يوماً، ثم قال له : لستُ أنا وأنت في شيء، فقال : وما الذي يجب أن نعمله ؟
فقال له : نكتسب في الأسبوع يوماً لأنفسنا، ويوماً نكتسب ونتصدَّق به، فأجابه إليه. ثم قال له يوماً آخر : لسنا في شيء، فقال : وما ذاك ؟
قال : إِنْ مرضنا أو وقع لنا شغل لا نملك قوتَ يومٍ، فقال : وما نفعل ؟
قال : نكتسب في الأسبوع ثلاثة أيام ؛ يوماً للنفقة ويوماً للصدقة ويوماً للإدخار، فأجابه إليه. . فلمَّا عَلِمَ أن حُبَّ الدنيا استمكن من قلبه وَدَّعَه، وقال :
إِنِّي مُفارِقُكَ. . . فَدُمْ على ما أنت عليه، فصار من أمره ومالِه ما صار، وحَمَلَه حُبُّ الدنيا على جَمْعِها، وَحَمَلَه جَمْعُها على حُبِّها، وحَمَلَه حُبِّها على البغي عليهم، وصارت كثرةُ مالِه سَبَبَ هلاكِه، وكم وُعِظَ بِتَرْكِ الفَرَجِ بوجود الدنيا، وبِتَرْكِ الاستمتاع بها ! وكان لا يأبى إِلاَّ ضلالاً.
ويقال خَسَفَ اللَّهُ به الأرضَ بدعاِء موسى عليه السلام، فقد كان موسى يقول :
يا أرضُ خُذِيه. . وبينما كانت الأرض تُخْسَفُ به كان يستعين بموسى بحقِّ القرابة، ولكن موسى كان يقول : يا أرضُ خُذِيه.
وفيما أوحى اللَّهُ إلى موسى : لقد ناداك بحقِّ القرابة وأنت تقول : يا أرض خذيه ! وأنا أقول : يا عبدُ، نادِني فأنا أقرب منه إليك، ولكنه لم يَقُلْ.
وفي القصة أنه كان يُخْسَفُ به كل يوم بزيادة معلومة، فلمَّا حَبَسَ اللَّهُ يونسَ في بطن الحوتِ أَمَرَ الحوتَ أن يطوفَ به في البحار لئلا يضيقَ قلبُ يونس، حتى انتهى إلى قارون، فسأله قارونُ عن موسى وحاله، فأوحى الله إلى المَلَك :
لا تَزِدْ في خَسْفِه لحرمة أنه سأل عن ابن عمه، ووَصَلَ بَه رَحِمَه.
وَعْظُ مَنْ حُرِمَ القبولَ كمثل البَذْرِ في الأرض السَّبِخَة ؛ ولذا لم ينفَعْه نُصْحُهم إياه، ولم يكن للقبول في مساغٌ.
﴿ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ : ليس النصيبُ من الدنيا جَمْعَها ولا مَنْعَها، إنما النصيبُ منها ما تكون فيه فائدة بحيث لا يُعْقِبُ ندماً، ولا يُوجِبُ في الآخرةِ عقوبةً.
ويقال النصيبُ من الدنيا ما يَحْمِلُ على طاعته بالنَّفْس، وعلى معرفته بالقلب، وعلى ذِكْرِه باللسان، وعلى مشاهدته بالسِّرِّ.
﴿ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ : إنما كان يكون منه حسنة لو آمن بالله ؛ لأنَّ الكافرَ لا حَسَنَة له. والآية تدل على أن لله على الكافر نِعَماً دنيوية.
والإحسانُ الذي أُمِرَ به إنفاقُ النعمةِ في وجوهِ الطاعةِ والخدمة، ومقابلتُه بالشكران لا بالكفران.
ويقال الإحسانُ رؤيةُ الفضلِ دون تَوَهُّم الاستحقاق.
ما لاحَظَ أحدٌ نَفْسَه إلا هَلَكَ بإعجابه.
ويقال السُّمُّ القاتلُ، والذي يطفئ السراجَ المضيءَ النظرُ إلى النَّفْسِ بعين الإثباتِ، وتَوَهُّمُ أَنَّ منك شيئاً من النفي أو الإثبات.
تمنَّى مَنْ رآه مِمَّن كان في حُبِّ الدنيا ساواه أَنْ يُعْطِيَه اللَّهُ مِثْلَ ما أعطاه.
أَمَّا مَنْ كان صاحياً عن خمار غفلته، مُتَيَقِّظاً بنور بصيرته فكان موقفُهم :-
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ ﴾.
وبعد أن كان ما كان، وخسفنا به وبداره الأرضَ قال هؤلاء :﴿ لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون ﴾.
مَنَّ اللَّهُ علينا فلم نَنْجَرِفْ في نَهْجِه، ولم ننخرط في سِلْكِه، وإذاً لَوَقَعَ بنا الهلاكِ.
أَمَّا المُتَمَنُّون مكانَه فقد نَدِمُوا، وأمّا الراضون بقسمته - سبحانه - فقد سَلِمُوا ؛ سَلِمُوا في العاجل إلى أَنْ تَظْهرَ سعادتُهم في الآجل.
قيل " العلو في الدنيا " أَنْ تَتَوَهَّمَ أَنَّ على البسيطة أحداً هو شرٌّ منك.
و " الفساد " أن تتحرك لحظِّ نَفْسِك ونصيبك ولو بِنَفَسٍ أو خطوةٍ. . وهذا للأكابر، فأمَّا للأصاغر والعوام فتلك الدار الآخرة ﴿ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَّ يُرِيدُونَ عُلُوّاً في الأَرْضِ وَلاَ ﴾ كعُلُوِّ فرعون ﴿ وَلاَ فَسَاداً ﴾ كفَسَادِ قارون.
ويقال الزهاد لا يريدون في الأرض عُلُوَّاً، والعارفون لا يريدون في الآخرة والجنة عُلُوَّاً.
ويقال ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الآخرة ﴾ للعُبَّادِ والزُّهاد، وهذه الرحمة الحاضرة لأرباب الافتقار والانكسار.
ثواب الحسنةِ في التضعيف، وأمرُ السيئةِ بناؤه على التخفيف.
والمؤمنُ - وإن كان صاحبَ كبائر - فسيئاتُه تَقْصُرُ في جَنْبِ حسناتِه التي هي إيمانُه ومعرفتُه.
﴿ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ : في الظاهر إلى مكة. . وكان يقول كثيراً :" الوطن الوطن "، فَحَقَّقَ اللَّهُ سُؤْلَه. وأَمَّا في السِّرِّ والإشارة فإنه ﴿ فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ ﴾ أي يَسَّرَ لك قراءةَ القرآن، والمَعَادُ هو الوصفُ الذي كانت عليه روحُك قبل حلول شَجِّك من مُلاَدغات القُرْبِ ومطالعات الحقِّ.
وقيل الذي ينصبك بأوصاف التفرقة بالتبليغ وبسط الشريعة لرادُّك إلى عين الجمع بالتحقُّق بالحقِّ والفناء عن الخَلْق.
ويقال إن الذي أقامك بشواهد العبودية فيما أثبتك به لرادُّك إلى الفناء عنك بمحقك في وجود الحقيقة.
ما كنت تؤمِّل مَحَلَّ النبوة وشرف الرسالة وتأهيل مخاطبتنا إليك، ولا ما أظهرنا عليكَ من أحوال الوجد وحقائق التوحيد.
لا يصدنَّك بعد إذ أنزلت إليك الآيات ما وجدته بحكم الذَّوْبِ والشهود، والإدراك والوجود. لا تتدَاخَلَنَّكَ تُهْمةُ التجويز وسؤالاتُ العلماء بما يَدَّعُونَ من أحكام العقول ؛ فَمَا يُدْرَكُ في شعاع الشمس لا يَحْكُمُ ببطلانه خفاؤُه في نور السراج.
كلُّ عملٍ باطلٌ إلا ما كان لوجه الله وللتقرب به إلى الله.
كلُّ حيِّ ميت إلا هو، قال تعالى :﴿ إِنِ امْرُؤٌاْ هَلَكَ ﴾ [ النساء : ١٧٦ ] : أي مات ؛ فكلُّ شيءٍ مُعَدٌّ لجواز الهلاك والعَدَم، ولا يبقى إلا ﴿ وَجْهَهُ ﴾ : ووَجْهُهُ صفةُ من صفاته لا تستقل إلا به فإذا بقي وجهُه فَمِنْ شرط بقاء وجهه بقاءُ ذاته ؛ لأن الصفة لا تقوم إلا بموجود، ولا يكون هو باقياً إلا بوجود أوصافه الذاتية الواجبة له ؛ ففي بقاء وجهه بقاء ذاته وبقاء صفاته.
وفائدة تخصيص الوجه بالذكر هنا أنه لا يُعْرَفُ وجوبُ وجهه إلا بالخبر والنقل دون العقل ؛ فخَصَّ الوجه بالذكر لأنَّ في بقاء الوجه بقاء الحقِّ بصفاته.
Icon