تفسير سورة القصص

أضواء البيان
تفسير سورة سورة القصص من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْقَصَصِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا، هُوَ الْكَلِمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [٧ ١٣٧]، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا السَّبَبَ الَّذِي جَعَلَهُمْ بِهِ أَئِمَّةً جَمْعَ إِمَامٍ، أَيْ: قَادَةً فِي الْخَيْرِ، دُعَاةً إِلَيْهِ عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَيْضًا الشَّيْءَ الَّذِي جَعَلَهُمْ وَارِثِيهِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; فَبَيَّنَ السَّبَبَ الَّذِي جَعَلَهُمْ بِهِ أَئِمَّةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [٣٢ ٢٤]، فَالصَّبْرُ وَالْيَقِينُ هُمَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ، وَبَيَّنَ الشَّيْءَ الَّذِي جَعَلَهُمْ لَهُ وَارِثِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الْآيَةَ [٧ ١٣٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [٤٤ ٢٥ - ٢٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [٢٦ ٥٧ - ٥٩].
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا. اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [٢٨ ٨]، لَامُ التَّعْلِيلِ الْمَعْرُوفَةُ بِلَامِ كَيْ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ لَا الْمَجَازِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [٧٦ ٣٠].
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَصْرِفُ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ وَقُدْرَتَهُ بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا، إِلَى مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ، وَقَدْ صَرَفَ مَشِيئَةَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا، إِلَى الْتِقَاطِهِمْ مُوسَى ; لِيَجْعَلَهُ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا،
150
فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدَّرْنَا عَلَيْهِمُ الْتِقَاطَهُ بِمَشِيئَتِنَا لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، وَهَذَا مَعْنًى وَاضِحٌ، لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا إِشْكَالَ، كَمَا تَرَى.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَكِنْ إِذَا نُظِرَ إِلَى مَعْنَى السِّيَاقِ، فَإِنَّهُ تَبْقَى اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيِّضَهُمْ لِالْتِقَاطِهِ، لِيَجْعَلَهُ عَدُوًّا لَهُمْ وَحَزَنًا، فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي إِبْطَالِ حَذَرِهِمْ مِنْهُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ التَّحْقِيقُ فِي الْآيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، كَمَا بَيَّنَّا وَجْهَهُ آنِفًا.
وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَيُنْشِدُونَ لَهُ الشَّوَاهِدَ مِنْ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِيَكُونَ، لَامُ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ خِلَافَ الصَّوَابِ، وَأَنَّ مَا يَقُولُهُ الْبَيَانِيُّونَ مِنْ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِيَكُونَ فِيهَا اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ فِي مُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْحَرْفِ، خِلَافَ الصَّوَابِ أَيْضًا.
وَإِيضَاحُ مُرَادِ الْبَيَانِيِّينِ بِذَلِكَ، هُوَ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ تَقْسِيمِهِمْ لِمَا يُسَمُّونَهُ الِاسْتِعَارَةَ، الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ مَجَازٌ عَلَاقَتُهُ الْمُشَابِهَةُ أَنَّهُمْ يُقَسِّمُونَهَا إِلَى اسْتِعَارَةٍ أَصْلِيَّةٍ، وَاسْتِعَارَةٍ تَبَعِيَّةٍ، وَمُرَادُهُمْ بِالِاسْتِعَارَةِ الْأَصْلِيَّةِ الِاسْتِعَارَةُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الْجَامِدَةِ وَالْمُصَادَرِ، وَمُرَادُهُمْ بِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الِاسْتِعَارَةُ فِي الْمُشْتَقَّاتِ، كَاسْمِ الْفَاعِلِ وَالْفِعْلِ.
وَالثَّانِي: الِاسْتِعَارَةُ فِي مُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْحَرْفِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ.
فَمِثَالُ الِاسْتِعَارَةِ الْأَصْلِيَّةِ عِنْدَهُمْ: رَأَيْتُ أَسَدًا عَلَى فَرَسِهِ، فَفِي لَفْظَةِ أَسَدٍ فِي هَذَا الْمِثَالِ اسْتِعَارَةٌ أَصْلِيَّةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّهُ أَرَادَ تَشْبِيهَ الرَّجُلِ الشُّجَاعِ بِالْأَسَدِ لِعَلَاقَةِ الشَّجَاعَةِ، فَحَذَفَ الْمُشَبَّهَ الَّذِي هُوَ الرَّجُلُ الشُّجَاعُ، وَصَرَّحَ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ الَّذِي هُوَ الْأَسَدُ، عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ التَّصْرِيحِيَّةِ، وَصَارَتْ أَصْلِيَّةً ; لِأَنَّ الْأَسَدَ اسْمُ جِنْسٍ جَامِدٍ.
وَمِثَالُ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ فِي الْمُشْتَقِّ عِنْدَهُمْ قَوْلُكُ: الْحَالُ نَاطِقَةٌ بِكَذَا، فَالْمُرَادُ عِنْدَهُمْ: تَشْبِيهُ دَلَالَةِ الْحَالِ بِالنُّطْقِ بِجَامِعِ الْفَهْمِ وَالْإِدْرَاكِ بِسَبَبِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَحَذَفَ الدَّلَالَةَ الَّتِي هِيَ الْمُشَبَّهُ، وَصَرَّحَ بِالنُّطْقِ الَّذِي هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ التَّصْرِيحِيَّةِ، وَاشْتُقَّ مِنَ النُّطْقِ اسْمُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ نَاطِقَةٌ، فَجَرَتِ الِاسْتِعَارَةُ التَّبَعَيَّةُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ نَاطِقَةٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا تَبَعِيَّةٌ ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا جَرَتْ فِيهِ تَبَعًا لِجَرَيَانِهَا فِي
151
الْمَصْدَرِ، الَّذِي هُوَ النُّطْقُ ; لِأَنَّ الْمُشْتَقَّ تَابِعٌ لِلْمُشْتَقِّ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ فَهْمُهُ بِدُونِ فَهْمِهِ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا يَذْكُرُونَهُ مِنْ تَوْجِيهِ مَا ذُكِرَ.
وَمِثَالُ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةُ عِنْدَهُمْ فِي مُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْحَرْفِ، فِي زَعْمِهِمْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، قَالُوا: اللَّامُ فِيهَا كَلَفْظِ الْأَسَدِ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِ الْأَسَدِ لِمُشَابَهَةٍ بَيْنِهِمَا، قَالُوا: وَكَذَلِكَ اللَّامُ أَصْلُهَا مَوْضُوعَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ، وَعِلَّةُ الشَّيْءِ الْغَائِيَّةُ هِيَ مَا يَحْمِلُ عَلَى تَحْصِيلِهِ لِيَحْصُلَ بَعْدَ حُصُولِهِ، قَالُوا: وَالْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ لِلِالْتِقَاطِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ، هِيَ الْمَحَبَّةُ وَالنَّفْعُ وَالتَّبَنِّي، أَيِ: اتِّخَاذُهُمْ مُوسَى وَلَدًا، كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْبَاعِثُ لَهُمْ عَلَى الْتِقَاطِهِ وَتَرْبِيَتِهِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [٢٨ ٩]، فَهَذِهِ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ عِنْدَهُمْ هِيَ الَّتِي حَمَلَتْهُمْ عَلَى الْتِقَاطِهِ، لِتَحْصُلَ لَهُمْ هَذِهِ الْعِلَّةُ بَعْدَ الِالْتِقَاطِ.
قَالُوا: وَلَمَّا كَانَ الْحَاصِلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَعْدَ الِالْتِقَاطِ، هُوَ ضِدُّ مَا رَجَوْهُ وَأَمَّلُوهُ، وَهُوَ الْعَدَاوَةُ وَالْحَزَنُ، شُبِّهَتِ الْعَدَاوَةُ وَالْحَزَنُ الْحَاصِلَانِ بِالِالْتِقَاطِ بِالْمَحَبَّةِ وَالتَّبَنِّي وَالنَّفْعِ، الَّتِي هِيَ عِلَّةُ الِالْتِقَاطِ الْغَائِيَّةُ بِجَامِعِ التَّرَتُّبِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، فَالْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ تَتَرَتَّبُ عَلَى مَعْلُولِهَا دَائِمًا تَرَتُّبَ رَجَاءٍ لِلْحُصُولِ، فَتَبَنِّيهِمْ لِمُوسَى وَمَحَبَّتُهُ كَانُوا يَرْجُونَ تَرَتُّبَهُمَا عَلَى الْتِقَاطِهِمْ لَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْمُتَرَتِّبُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى الْتِقَاطِهِمْ لَهُ هُوَ كَوْنُهُ عَدُوًّا لَهُمْ وَحَزَنًا، صَارَ هَذَا التَّرَتُّبُ الْفِعْلِيُّ شَبِيهًا بِالتَّرَتُّبِ الرَّجَائِي، فَاسْتُعِيرَتِ اللَّامُ الدَّالَّةُ عَلَى الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّرَتُّبِ الرَّجَائِي لِلتَّرَتُّبِ الْحُصُولِي الْفِعْلِيِّ الَّذِي لَا رَجَاءَ فِيهِ.
وَإِيضَاحُهُ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُزْنِ وَالْعَدَاوَةِ عَلَى الِالْتِقَاطِ أَشْبَهَ تَرَتُّبَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّبَنِّي عَلَى الِالْتِقَاطِ، فَأُطْلِقَتْ لَامُ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ فِي الْحُزْنِ وَالْعَدَاوَةِ، لِمُشَابَهَتِهِمَا لِلتَّنَبِّي وَالْمَحَبَّةِ فِي التَّرَتُّبِ، كَمَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْأَسَدِ عَلَى الرَّجُلِ الشُّجَاعِ، لِمُشَابَهَتِهِمَا فِي الشَّجَاعَةِ.
وَبَعْضُ الْبَلَاغِيِّينَ يَقُولُ: فِي هَذَا جَرَتِ الِاسْتِعَارَةُ الْأَصْلِيَّةُ أَوَّلًا بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّبَنِّي، وَبَيْنَ الْعَدَاوَةِ وَالْحُزْنِ اللَّذَيْنِ حُصُولُهُمَا هُوَ الْمَجْرُورُ، فَكَانَتِ الِاسْتِعَارَةُ فِي اللَّامِ تَبَعًا لِلِاسْتِعَارَةِ فِي الْمَجْرُورِ ; لِأَنَّ اللَّامَ لَا تَسْتَقِلُّ فَيَكُونُ مَا اعْتُبِرَ فِيهَا تَبَعًا لِلْمَجْرُورِ، الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ مَعْنَى الْحَرْفِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: فَجَرَتِ الِاسْتِعَارَةُ أَوَّلًا فِي الْعَلِيَّةِ وَالْغَرَضِيَّةِ، وَتَبَعِيَّتُهَا فِي اللَّامِ، وَهُنَاكَ مُنَاقَشَاتٌ فِي التَّبَعِيَّةِ فِي مَعْنَى الْحَرْفِ تَرَكْنَاهَا، لِأَنَّ غَرَضَنَا بَيَانُ مُرَادِهِمْ بِالِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِإِيجَازٍ.
152
وَإِذَا عَلِمْتَ مُرَادَهُمْ بِمَا ذُكِرَ، فَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا قَدَّمْنَا، وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ «مَنْعُ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ»، أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا مَجَازَ فِيهِ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [٢٨ ٨]، أَيْ: مُرْتَكِبِينَ الْخَطِيئَةَ الَّتِي هِيَ الذَّنْبُ الْعَظِيمُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [٧١ ٢٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الْآيَةَ [٢ ٨١].
وَمِنْ إِطْلَاقِ الْخَاطِئِ عَلَى الْمُذْنِبِ الْعَاصِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [٦٩ ٣٦ - ٣٧]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [٩٦ ١٦]، وَقَوْلُهُ: إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [١٢ ٢٩]، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا الْآيَاتِ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ».
وَاعْلَمْ أَنَّا رُبَّمَا تَرَكْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَ إِيضَاحُهَا مِنْ غَيْرِ إِحَالَةِ عَلَيْهَا، لِكَثْرَةِ مَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ.
مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ إِتْبَاعِهِ اللَّعْنَةَ لِفِرْعَوْنِ وَجُنُودِهِ، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي سُورَةِ «هُودٍ»، بِقَوْلِهِ فِيهِمْ: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [١١ ٩٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مِنَ الْمَطْرُودِينَ الْمُبْعَدِينَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَقْبُوحِينَ اسْمُ مَفْعُولٍ، قَبَّحَهُ إِذَا صَيَّرَهُ قَبِيحًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَهْدِي مَنْ أَحَبَّ هِدَايَتَهُ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ
وَعَلَا هُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ هُدَاهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ الْآيَةَ [١٦ ٣٧]، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [٥ ٤١]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى [٥٣ ٣٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [١٦ ١٢٥]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا سَابِقًا أَنَّ الْهُدَى الْمَنْفِيَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، هُوَ هُدَى التَّوْفِيقِ ; لِأَنَّ التَّوْفِيقَ بِيَدِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ الْهُدَى الْمُثْبَتَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [٤٢ ٥٢]، هُوَ هُدَى الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالْإِرْشَادِ إِلَيْهِ، وَنُزُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، فِي أَبِي طَالِبٍ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ الْآيَةَ [١٨ ١].
قَوْلُهُ تَعَالَى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [٥٥ ٢٦ ٢٧]، وَالْوَجْهُ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا مَعَ التَّنْزِيهِ التَّامِّ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ»، وَفِي غَيْرِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [١٨ ٢٦]، وَقَدْ تَرَكْنَا ذِكْرَ إِحَالَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي سُورَةِ «الْقَصَصِ»، هَذِهِ.
Icon