ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
سُورَةُ النَّاسقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ.
تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، الْإِحَالَةُ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ [١١ ٢]، فِي سُورَةِ هُودٍ، فَقَالَ عَلَى تِلْكَ الْآيَةِ: فِيهَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُظْمَى الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ مِنْ أَجْلِهَا هِيَ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ فِي عِبَادَتِهِ شَيْءٌ.
وَسَاقَ الْآيَاتِ الْمُمَاثِلَةَ لَهَا ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَسَنَتَقَصَّى الْكَلَامَ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّاسِ، لِتَكُونَ خَاتِمَةُ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ حُسْنَى اهـ.
وَإِنَّ فِي هَذِهِ الْإِحَالَةِ مِنْهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ لَتَنْبِيهًا عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي اشْتَمَلَتْهَا هَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ، وَتَوْجِيهًا لِمُرَاعَاةِ تِلْكَ الْخَاتِمَةِ.
كَمَا أَنَّ فِي تِلْكَ الْإِحَالَةِ تَحْمِيلَ مَسْئُولِيَّةِ الِاسْتِقْصَاءِ حَيْثُ لَمْ يَكْتَفِ بِمَا قَدَّمَهُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَلَا فِيمَا قَدَّمَهُ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَجَعَلَ الِاسْتِقْصَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَمَعْنَى الِاسْتِقْصَاءِ: الِاسْتِيعَابُ إِلَى أَقْصَى حَدٍّ.
وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا يَسْتَطِيعُ اسْتِقْصَاءَ مَا يُرِيدُهُ غَيْرُهُ، وَلَا سِيَّمَا مَا كَانَ يُرِيدُهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ وَمَا يَسْتَطِيعُهُ هُوَ.
وَلَكِنْ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي الْبِدَايَةِ: أَنَّهُ جُهْدُ الْمُقِلِّ وَوُسْعُ الطَّاقَةِ. فَنَسْتَعِينُ اللَّهَ وَنَسْتَهْدِيهِ مُسْتَرْشِدِينَ بِمَا قَدَّمَهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي سُورَتَيِ الْفَاتِحَةِ وَهُودٍ، ثُمَّ نُورِدُ وُجْهَةَ نَظَرٍ فِي السُّورَتَيْنِ مَعًا الْفَلَقِ وَالنَّاسِ، ثُمَّ مِنْهُمَا وَفِي نَسَقِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ، آمِلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَاجٍ تَوْفِيقَهُ وَمَعُونَتَهُ.
وَلَعَلَّهُ مَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ مَضْمُونُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ قَبْلَهَا: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، وَهَذَا هُوَ مَنْطِقُ الْعَقْلِ وَالْقَوْلُ الْحَقُّ ; لِأَنَّ مُقْتَضَى الْمُلْكِ يَسْتَلْزِمُ الْعُبُودِيَّةَ، وَالْعُبُودِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ التَّأْلِيهَ وَالتَّوْحِيدَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ ; لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ تَجِبُ عَلَيْهِ الطَّاعَةُ وَالسَّمْعُ لِمَالِكِهِ بِمُجَرَّدِ الْمُلْكِ، وَإِنْ كَانَ مَالِكُهُ عَبْدًا مِثْلَهُ، فَكَيْفَ بِالْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ لِرَبِّهِ وَإِلَهِهِ، وَكَيْفَ بِالْمَالِكِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الْفَرْدِ الصَّمَدِ؟
وَقَدْ جَاءَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ: الرَّبُّ الْمَلِكُ الْإِلَهُ، فِي أَوَّلِ افْتِتَاحِيَّةِ أَوَّلِ الْمُصْحَفِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [١ ٢ - ٤]، وَالْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى: " مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ " [١ ٤].
وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوَّلُ نِدَاءٍ يُوَجَّهُ لِلنَّاسِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ رَبُّهُمْ مَعَ بَيَانِ الْمُوجِبَاتِ لِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [٢ ٢١].
ثُمَّ بَيَّنَ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [٢ ٢١].
وَقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [٢ ٢٢].
وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ آثَارِ الرُّبُوبِيَّةِ وَاسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ الْعِبَادَةَ، ثُمَّ بَيَّنَ مُوجِبَ إِفْرَادِهِ وَحْدَهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [٢ ٢٢].
أَيْ: كَمَا أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَلَا فِي الرِّزْقِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَ، فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا أَيْضًا فِي عِبَادَةٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ.
وَعِبَادَتُهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَنَفْيُ الْأَنْدَادِ، هُوَ مَا قَالَ عَنْهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ: مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا.
فَالْإِثْبَاتُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ [٥ ٧٢].
وَكَوْنُ الرُّبُوبِيَّةِ تَسْتَوْجِبُ الْعِبَادَةَ، جَاءَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [١٠٦ ٣ - ٤].
فَالْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِمُوجِبِ الْعِبَادَةِ، وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نِهَايَةِ السُّورَةِ.
وَقَدْ جَاءَ هُنَا لَفْظُ: رَبِّ النَّاسِ، بِإِضَافَةِ الرَّبِّ إِلَى النَّاسِ، بِمَا يُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ، مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَفِي قَوْلِهِ: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [٦ ١٦٤].
فَالْإِضَافَةُ هُنَا إِلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ.
وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى بَعْضِ أَفْرَادٍ أُخْرَى كَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنْ بَعْضِ كُلِّ شَيْءٍ، كَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [١٣ ١٦].
وَقَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [٧٣ ٩].
وَإِلَى الْبَيْتِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [١٠٦ ٣].
وَإِلَى الْبَلَدِ الْحَرَامِ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ [٢٧ ٩١].
وَإِلَى الْعَرْشِ: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [٢٣ ١١٦].
وَإِلَى الرَّسُولِ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [٦ ١٠٦].
وَقَوْلِهِ: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [٤٧ ٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَلَكِنْ يُلَاحَظُ أَنَّهُ مَعَ كُلِّ إِضَافَةٍ مِنْ ذَلِكَ مَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَنَّهُ مَعَ إِضَافَتِهِ لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، فَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، فَفِي إِضَافَتِهِ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاءَ مَعَهَا قُلِ اللَّهُ.
وَفِي الْإِضَافَةِ إِلَى الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ جَاءَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [٧٣ ٩].
وَفِي الْإِضَافَةِ إِلَى الْبَلْدَةِ جَاءَ الَّذِي حَرَّمَهَا [٢٧ ٩١]، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي الْإِضَافَةِ إِلَى الْعَرْشِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ [٢٣ ١١٦].
وَفِي الْإِضَافَةِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ قَوْلُهُ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ [٩٣ ٣]، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى أَيِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ يَأْتِي مَعَهَا مَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَهُنَا رَبُّ النَّاسِ جَاءَ مَعَهَا: مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ، لِيُفِيدَ الْعُمُومَ أَيْضًا ; لِأَنَّ إِطْلَاقَ الرَّبِّ قَدْ يُشَارِكُ فِيهِ السَّيِّدُ الْمُطَاعُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [٩ ٣١].
وَقَوْلِ يُوسُفَ لِصَاحِبِهِ فِي السِّجْنِ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [١٢ ٤٢]، أَيِ: الْمَلِكِ عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ، وَقَوْلِهِ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ الْآيَةَ [١٢ ٥٠].
فَجَاءَ بِالْمَلِكِ وَالْإِلَهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعُمُومِ، فِي مَعْنَى رَبِّ النَّاسِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ إِضَافَتَهُ هُنَا إِلَى خُصُوصِ النَّاسِ إِشْعَارٌ بِمَزِيدِ اخْتِصَاصٍ، وَرِعَايَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِعَبْدِهِ الَّذِي دَعَاهُ إِلَيْهِ لِيَسْتَعِيذَ بِهِ مِنْ عَدُوِّهِ، كَمَا أَنَّ فِيهِ تَقْوِيَةَ رَجَاءِ الْعَبْدِ فِي رَبِّهِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بِرُبُوبِيَّتِهِ سَيَحْمِي عَبْدَهُ لِعُبُودِيَّتِهِ وَيُعِيذُهُ مِمَّا اسْتَعَاذَ بِهِ مِنْهُ.
وَيُقَوِّي هَذَا الِاخْتِصَاصَ إِضَافَةُ الرَّبِّ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهِ مُنْذُ الْبَدْأَيْنِ: بَدْءُ الْخِلْقَةِ وَبَدْءُ الْوَحْيِ، فِي قَوْلِهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ [٩٦ ١ - ٢]، ثُمَّ فِي نَشْأَتِهِ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى إِلَى قَوْلِهِ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [٩٣ ٣ - ٨].
وَجَعَلَ الرَّغْبَةَ إِلَيْهِ فِي السُّورَةِ بَعْدَهَا وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [٩٤ ٨]، تَعْدَادَ النِّعَمِ عَلَيْهِ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ، وَوَضْعِ الْوِزْرِ، وَرَفْعِ الذِّكْرِ، ثُمَّ فِي الْمُنْتَهَى قَوْلُهُ: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى [٩٦ ٨].
كُلُّ هَذِهِ الْآثَارِ الَّتِي لَمَسُوهَا وَأَقَرُّوا بِمُوجِبِهَا، بِأَنَّ الَّذِي أَوْجَدَهَا هُوَ رَبُّهُمْ، وَمِنْ ثَمَّ يَنْتَقِلُونَ إِلَى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ أَنَّ رَبَّهُ الَّذِي هَذِهِ أَفْعَالُهُ هُوَ مَلِكُهُ وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي تِلْكَ الْعَوَالِمِ، وَمَلِكٌ لِأَمْرِهِ وَجَمِيعِ شُئُونِهِ، وَمَلِكٌ لِأَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا.
فَإِذَا وَصَلَ بِإِقْرَارِهِ إِلَى هَذَا الْإِدْرَاكِ، أَقَرَّ لَهُ ضَرُورَةً بِالْأُلُوهِيَّةِ وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ النِّهَايَةُ
«إِلَهِ النَّاسِ» أَيْ: مَأْلُوهِهِمْ وَمَعْبُودِهِمْ وَهُوَ مَا خَلَقَهُمْ إِلَيْهِ، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [٥١ ٥٦].
وَفِي إِضَافَةِ الْمَلِكِ إِلَى النَّاسِ مِنْ إِشْعَارِ الِاخْتِصَاصِ، مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَلِكُ كُلِّ شَيْءٍ، فِيهِ مَا فِي إِضَافَةِ الرَّبِّ لِلنَّاسِ الْمُتَقَدِّمِ بَحْثُهُ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَالِكُ الْمُلْكِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ [٣ ٢٦].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ [٦٤ ١].
وَقَوْلِهِ: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [٢ ١٠٧]، وَقَوْلِهِ: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ [٥٩ ٢٣].
فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُتَفَرِّدُ بِالْمُلْكِ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [١٧ ١١١] فَبَدَأَ بِالْحَمْدِ أَوْلًا.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [٣٦ ٨٣]، بَدَأَ بِتَسْبِيحِ نَفْسِهِ وَتَنْزِيهِهِ لِعُمُومِ الْمُلْكِ وَمُطْلَقِ التَّصَرُّفِ وَنَفْيِ الشَّرِيكِ ; لِأَنَّ مُلْكَهُ مُلْكُ تَصَرُّفٍ وَتَدْبِيرٍ مَعَ الْكَمَالِ فِي الْحَمْدِ وَالتَّقْدِيسِ.
وَبِهَذِهِ النُّصُوصِ يُعْلَمُ كَمَالُ مُلْكِهِ تَعَالَى، وَنَقْصُ مُلْكِ مَا سِوَاهُ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا، وَنَعْلَمُ أَنَّ مُلْكَهُمْ بِتَمْلِيكِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ [٣ ٢٦].
وَقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [٣ ٢٦].
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مُلُوكَ الدُّنْيَا مُلْكُهُمْ مُلْكُ سِيَاسَةٍ وَرِعَايَةٍ، لَا مُلْكُ تَمَلُّكٍ وَتَصَرُّفٍ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [٢ ٢٤٧].
وَالْجَدِيرُ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ «بِرِيطَانْيَا» تَحْتَرِمُ نِظَامَ الْمِلْكِيَّةِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، بِدَافِعٍ مِنْ هَذَا الْمُعْتَقَدِ، وَأَنَّهُ لَا مَلِكَ إِلَّا بِتَمْلِيكِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَأَنَّ مُلُوكَ الدُّنْيَا بِاصْطِفَاءٍ مِنَ اللَّهِ.
وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِ بَيَانِهِ، مِنْ أَنَّ مُلُوكَ الدُّنْيَا لَا يَمْلِكُونَ أَمْرَ الرَّعِيَّةِ لِأَنَّ طَالُوتَ مَلِكًا، وَلَيْسَ مَالِكًا لِأَمْوَالِهِمْ.
بَيْنَمَا مُلْكُ اللَّهِ تَعَالَى مُلْكُ خَلْقٍ وَإِيجَادٍ وَتَصَرُّفٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [٤٢ ٤٩ - ٥٠].
وَعَلِيمٌ قَدِيرٌ هُنَا مِنْ خَصَائِصِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَيَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ بِعِلْمٍ وَعَنْ قُدْرَةٍ كَامِلَيْنِ سُبْحَانَهُ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٥٧ ٢].
وَتَظْهَرُ حَقِيقَةُ ذَلِكَ إِذَا جَاءَ الْيَوْمُ الْحَقُّ، فَيَتَلَاشَى كُلُّ مُلْكٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَيُذَلُّ كُلُّ مَلِكٍ كَبُرَ أَوْ صَغُرَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُلْكُهُ تَعَالَى يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [٤٠ ١٦].
وَالْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى: «مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ» [١ ٤].
فِي الْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا إِشْعَارٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مُلْكِ اللَّهِ وَمُلْكِ الْعِبَادِ، كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَلِكِ الْمُطْلَقِ وَالْمَلِكِ النِّسْبِيِّ، إِذِ الْمَلِكُ النِّسْبِيُّ لَا يَمْلِكُ، وَالْمَلِكُ الْمُطْلَقُ، فَهُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ، وَالَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ.
وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَاتُهُ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ، وَلَا يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَهَذَا هُوَ شِعَارُ الْعَبْدِ فِي الرُّكْنِ الْخَامِسِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، حِينَ يُهِلُّ بِالتَّلْبِيَةِ: إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَهِ النَّاسِ
. هَذِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ فِي كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأُلُوهِيَّةِ.
وَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الْإِحَالَةِ، الَّتِي عَنَاهَا الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِيمَا يَظْهَرُ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ، وَمُنْعِمٌ عَلَيْهِ أَوْجَدَهُ مِنَ الْعَدَمِ، وَرَبَّاهُ بِالنِّعَمِ، لَا رَبَّ لَهُ سِوَاهُ، ثُمَّ تَدَرَّجَ بِعِلْمِهِ وَيَقِينِهِ إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ رَبَّهُ هُوَ مَلِيكُهُ وَالْمُتَصَرِّفُ فِي أَمْرِهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ هُوَ نَفْسُهُ مَعَ اللَّهِ شَيْئًا، وَلَا يَمْلِكُ لَهُ أَحَدٌ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
وَأَنَّ كُلَّ تَصَرُّفَاتِ الْعَالَمِ كُلِّهِ بِأَمْرِهِ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ خَيْرٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَصْرِفُ عَنْهُ ضَرَرٌ إِلَّا بِأَمْرِهِ.
وَعُرِفَ فِي يَقِينٍ: أَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لِمَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، تَوَصَّلَ بِعِلْمِهِ هَذَا أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَاتُهُ، كَانَ هُوَ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَبِالْأُلُوهِيَّةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
فَيَكُونُ فِي خَاتِمَةِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ انْتِزَاعُ الْإِقْرَارِ مِنَ الْعَبْدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ، بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ مِنْ أَجْلِهِ كُتُبَهُ، وَهُوَ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ الشَّيْخُ بِهِ فِي الْإِحَالَةِ السَّابِقَةِ.
وَإِذَا كَانَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَدْ نَبَّهَ عَلَى مُرَاعَاةِ خَاتِمَةِ الْمُصْحَفِ، فَإِنَّا لَوْ رَجَعْنَا إِلَى أَوَّلِ الْمُصْحَفِ وَآخِرِهِ لَوَجَدْنَا رَبْطًا بَدِيعًا، إِذْ تِلْكَ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ فِي سُورَةِ النَّاسِ
وَتَكُونُ الْخَاتِمَةُ الشَّرِيفَةُ مِنْ بَابِ عَوْدٍ عَلَى بَدْءٍ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِيمَا بَيْنُ ذَلِكَ شَرْحٌ وَبَيَانٌ لِتَقْدِيرِ هَذَا الْمَعْنَى الْكَبِيرِ.
وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي النِّهَايَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ
. كِلَاهُمَا صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْوَسْوَسَةِ وَالْخَنْسِ، بِسُكُونِ النُّونِ.
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيَانُ مَعْنَى الْوَسْوَسَةِ وَالْوَسْوَاسِ لُغَةً وَشَرْعًا، أَيِ الْمُرَادُ عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ الْآيَةَ [٢٠ ١٢٠].
وَبَيَّنَ مُشْتَقَّاتِهِمَا وَأَصْلَ اشْتِقَاقِهِمَا، وَهُوَ يَدُورُ عَلَى أَنَّ الْوَسْوَسَةَ: الْحَدِيثُ الْخَفِيُّ. وَالْخَنْسَ: التَّأَخُّرُ، كَمَا تَكَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، حَيْثُ اجْتَمَعَ الْمَعْنَيَانِ الْمُتَنَافِيَانِ.
لِأَنَّ الْوَسْوَاسَ: كَثِيرُ الْوَسْوَسَةِ، لِيُضِلَّ بِهَا النَّاسَ. وَالْخَنَّاسُ: كَثِيرُ التَّأَخُّرِ وَالرُّجُوعِ عَنْ إِضْلَالِ النَّاسِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالًا، فَهُوَ يُوَسْوِسُ عِنْدَ غَفْلَةِ الْعَبْدِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ، خَانِسٌ عِنْدَ ذِكْرِ الْعَبْدِ رَبَّهُ تَعَالَى، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [٤٣ ٣٦]، إِلَى آخِرِهِ. اهـ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ
. اخْتُلِفَ فِي الظَّرْفِ هُنَا، هَلْ هُوَ ظَرْفٌ لِلْوَسْوَاسِ حِينَمَا يُوَسْوِسُ، فَيَكُونُ مَوْجُودًا فِي الصُّدُورِ، وَيُوَسْوِسُ لِلْقَلْبِ، أَوْ هُوَ ظَرْفٌ لِلْوَسْوَسَةِ. وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالصُّدُورِ الْقُلُوبَ ; لِكَوْنِهَا حَالَةً فِي الصُّدُورِ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ عَلَى مَا هُوَ جَارٍ فِي الْأَسَالِيبِ الْبَلَاغِيَّةِ.
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَحْثُ تَعْدِيَةِ الْوَسْوَسَةِ تَارَةً بِإِلَى وَتَارَةً بِاللَّامِ، فَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [٧ ٢٠]، وَفِي طه: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ [٢٠ ١٢٠].
وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يَنُوبُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَذَكَرَ شَوَاهِدَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَسْوَسَ، أَيْ: لِأَجْلِهِ وَوَسْوَسَ إِلَيْهِ أَيْ أَنْهَى إِلَيْهِ الْوَسْوَسَةَ، وَلَكِنْ هُنَا قَالَ: فِي صُدُورِ النَّاسِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِلَى صُدُورِ النَّاسِ، فَهَلْ هُوَ مِنْ بَابِ نِيَابَةِ حُرُوفِ الْجَرِّ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ أَيْضًا؟ أَمْ هِيَ ظَرْفٌ مَحْضٌ؟
وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا ظَرْفٌ، وَلَكِنْ هَلْ مِنَ الظَّرْفِ لِلْوَسْوَاسِ، أَوْ ظَرْفٌ لِلْوَسْوَسَةِ نَفْسِهَا؟
وَبِالنَّظَرِ إِلَى كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ، فَإِنَّ كَلَامَ ابْنِ جَرِيرٍ يَحْتَمِلُ اعْتِبَارَ الْمَعْنَيَيْنِ بِدُونِ تَعْيِينٍ.
وَأَمَّا الْقُرْطُبِيُّ، وَالْأَلُوسِيُّ، فَصَرَّحَا بِمَا ظَهَرَ لَهُمَا وَوَصَلَا إِلَيْهِ.
فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الشَّيْطَانَ فِي صُورَةِ خِنْزِيرٍ يَجْرِي مِنْ مَجْرَى الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ، سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ فَضَيِّقُوا مَجَارِيَهُ».
وَقَالَ: إِنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يُرِيَنِي الشَّيْطَانَ، وَمَكَانَهُ مِنِ ابْنِ آدَمَ، فَرَأَيْتُهُ يَدَاهُ فِي يَدَيْهِ، وَرِجْلَاهُ فِي رِجْلَيْهِ، وَمَشَاعِيهِ فِي جَسَدِهِ، غَيْرَ أَنْ لَهُ خَطْمًا كَخَطْمِ الْكَلْبِ؟ فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِذَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَخَذَ بِقَلْبِهِ.
أَمَّا الْأَلُوسِيُّ فَقَدْ صَرَّحَ بِالتَّقْسِيمِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ، فَقَالَ: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. قِيلَ: أُرِيدَ قُلُوبُهُمْ مَجَازًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ الصَّدْرَ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الدِّهْلِيزِ، فَيُلْقِي مِنْهُ مَا يُرِيدُ إِلْقَاءَهُ إِلَى الْقَلْبِ وَيُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ، وَلَا مَانِعَ عَقْلًا مِنْ دُخُولِهِ فِي جَوْفِ إِنْسَانٍ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ أَيْضًا: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي» إِلَى آخِرِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الشَّيْطَانَ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا سَهَا وَغَفَلَ وَسْوَسَ، وَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ الصَّدْرَ ظَرْفٌ لِلْوَسْوَاسِ، وَأَنَّهُ يُوقِعُ الْوَسْوَسَةَ فِي الْقَلْبِ. عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي لَفْظِ النَّاسِ هُنَا الْمُضَافِ إِلَيْهِ الصُّدُورُ: اخْتِلَافٌ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ، فَقِيلَ: الْإِنْسُ الظَّاهِرُ الِاسْتِعْمَالِ.
وَقِيلَ: الثَّقَلَانِ: الْإِنْسُ وَالْجِنُّ.
وَإِنَّ إِطْلَاقَ النَّاسِ عَلَى الْجِنْسِ مَسْمُوعٌ، كَمَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ. قَالَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ: إِنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ فَجَاءَ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ فَوَقَفُوا، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتُمْ: فَقَالُوا: نَاسٌ مِنَ الْجِنِّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ.
وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ بِاسْتِعْمَالِ لَفْظَيْ رِجَالٍ وَنَفَرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ [٧٢ ٦]، وَقَوْلِهِ: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ.
وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْوَسْوَاسُ الْمُسْتَعَاذُ مِنْهُ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ هَذَا الْوَجْهَ: وَلَكِنَّهُ رَدَّهُ وَضَعَّفَهُ ; لِأَنَّ لَفْظَ النَّاسِ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ فِي الْإِنْسِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ، وَلِأَنَّهُ عَلَى هَذَا يَكُونُ قَسَمَ الشَّيْءَ قِسْمًا مِنْهُ ; لِأَنَّهُ يَجْعَلُ النَّاسَ قَسِيمَ الْجِنِّ، وَيَجْعَلُ الْجِنَّ نَوْعًا مِنَ النَّاسِ اهـ. مُلَخَّصًا.
وَعَلَى كُلٍّ فَإِنَّ مَنْهَجَ الْأَضْوَاءِ أَنَّ مَا كَانَ مُحْتَمَلًا، وَكَانَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالَاتِ الْقُرْآنِ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ اسْتِعْمَالِهِ إِيَّاهُ تَكُونُ مُرَجَّحًا، وَجَمِيعُ اسْتِعْمَالَاتِ الْقُرْآنِ لِلَفْظِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ فِي خُصُوصِ الْإِنْسِ فَقَطْ، وَلَمْ تُسْتَعْمَلْ وَلَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي حَقِّ الْجِنِّ مَعَ مُرَاعَاةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَحْدَهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ، حَتَّى سُمِّيَتْ سُورَةُ النَّاسِ.
أَمَّا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يَرِدَا، وَهَكَذَا لَفْظُ النَّاسِ فَلَا مَانِعَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ مُقَيَّدًا نَاسٌ مِنَ الْجِنِّ. أَمَّا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا.
وَعَلَيْهِ فَحَيْثُ وَرَدَ لَفْظُ النَّاسِ هُنَا مُطْلَقًا فَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مَعًا، بَلْ يَكُونُ خَاصًّا بِالْإِنْسِ فَقَطْ، وَيَكُونُ فِي صُدُورِ النَّاسِ أَيْ: فِي صُدُورِ الْإِنْسِ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو السُّعُودِ مَعْنًى آخَرَ فِي لَفْظِ النَّاسِ: وَهُوَ أَنَّ النَّاسِيَ عَنِ النِّسْيَانِ، حُذِفَتِ الْيَاءُ تَخْفِيفًا لِأَنَّ الْوَسْوَاسَ لَا يُوَسْوِسُ إِلَّا فِي حِينِ النِّسْيَانِ وَالْغَفْلَةِ.
وَعَلَيْهِ يَكُونُ حَذْفُ الْيَاءِ كَحَذْفِهَا مِنَ «الدَّاعِ» فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي [٥٤ ٦] وَنَحْوِهِ.
وَلَكِنْ يَبْقَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَيَانُ مَنِ الْمُرَادُ بِالنَّاسِي، أَهُوَ مِنَ الْإِنْسِ أَمْ مِنَ الْجِنِّ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنِ الِاحْتِمَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ.
وَيَرِدُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمْعُ الصُّدُورِ وَإِفْرَادُ النَّاسِ، وَالْجَمْعُ لَا يُضَافُ إِلَّا إِلَى جَمْعٍ، أَيْ جَمْعُ الصُّدُورِ، لِأَنَّ الْفَرْدَ لَيْسَ لَهُ جَمْعٌ مِنَ الصُّدُورِ، فَيُقَابِلُ الْجَمْعَ بِجَمْعٍ، أَوْ يَكْتَفِي بِالْمُفْرَدِ بِمُفْرَدٍ.
وَقَدْ جَاءَ فِي إِضَافَةِ الْجَمْعِ إِلَى الْمُثَنَّى فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [٦٦ ٤].
قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَحُسْنُهُ أَنَّ الْمُثَنَّى جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْجَمْعُ فِي مِثْلِ هَذَا أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنَ الْمُثَنَّى، وَالتَّثْنِيَةُ دُونَ الْجَمْعِ.
كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
كَقَوْلِهِ:
حَمَامَةَ بَطْنِ الْوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي
يُرِيدُ بَطْنَيِ، وَغَلِطَ ابْنُ مَالِكٍ فِي التَّسْهِيلِ إِذْ قَالَ: وَنَخْتَارُ الْإِفْرَادَ عَلَى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ، فَتَرَاهُ غَلَّطَ ابْنَ مَالِكٍ فِي اخْتِيَارِهِ جَوَازَ إِضَافَةِ الْجَمْعِ إِلَى الْمُفْرَدِ، كَمَا أَنَّهُ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَأَنَّهُ مَعَ الْمُثَنَّى لِكَرَاهِيَةِ اجْتِمَاعِ التَّثْنِيَتَيْنِ، فَظَهَرَ بُطْلَانُ قَوْلِ أَبِي السُّعُودِ.
أَمَّا الرَّاجِحُ فِي الْوَجْهَيْنِ فِي مَعْنَى النَّاسِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا. فَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّهُمُ الْإِنْسُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [١١٤ ٦]، بَيَانٌ لِمَنْ يَقُومُ بِالْوَسْوَسَةِ، أَيْ: بَيَانٌ لِلْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ وَأَنَّهُ مِنْ كُلٍّ مِنْ وَسْوَاسِ الْجِنَّةِ وَوَسْوَاسِ النَّاسِ.
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ أُمُورٍ: مِنْهَا: أَنَّ الْخِطَابَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ تَبَعًا لَهُ فَهُوَ فِي حَقِّ النَّاسِ أَظْهَرُ.
وَمِنْهَا: أَنَّنَا لَوْ جَعَلْنَا النَّاسَ الْأُولَى عَامَّةً لِمَنْ يُوَسْوِسُ إِلَيْهِ كَانَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسُ مَصْدَرُ الْوَسْوَسَةِ، فَيَكُونُ مِنْ وَسْوَاسِ النَّاسِ مَنْ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الْجِنِّ. وَهَذَا بَعِيدٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَفْظُ النَّاسِ يَشْمَلُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، لَمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا التَّقْسِيمِ «الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ»، وَاكْتَفَى فِي الثَّانِيَةِ بِمَا اكْتَفَى بِهِ فِي الْأُولَى، وَكَانَ يَكُونُ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ جَاءَ بَيَانُ مَحَلِّ الْوَسْوَسَةِ «صُدُورِ النَّاسِ»، ثُمَّ جَاءَ مَصْدَرُ الْوَسْوَسَةِ «الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ»، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ
ذَكَرَ أَبُو حَيَّانَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِهِ مُقَارَنَةً لَطِيفَةً بَيْنَ سُورَتَيِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَقَالَ: وَلَمَّا كَانَتْ مَضَرَّةُ الدِّينِ، وَهِيَ آفَةُ الْوَسْوَسَةِ أَعْظَمُ مِنْ مَضَرَّةِ الدُّنْيَا وَإِنْ عَظُمَتْ، جَاءَ الْبِنَاءُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا بِصِفَاتٍ ثَلَاثٍ: الرَّبِّ، وَالْمَلِكِ، وَالْإِلَهِ، وَإِنِ اتَّحَدَ الْمَطْلُوبُ.
وَهَذِهِ الْأُخْرَى لَفْتَةٌ كَرِيمَةٌ، طَالَمَا كُنْتُ تَطَلَّعْتُ إِلَيْهَا فِي وُجْهَتَيْ نَظَرٍ، إِحْدَاهُمَا: بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى بَيْنَ سُورَةِ النَّاسِ وَنَسَقِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ، سَيَأْتِي إِيرَادُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
إِلَّا أَنَّهُ عَلَى وُجْهَةِ نَظَرِ أَبِي حَيَّانَ، وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفَلَقِ جَاءَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ «بِرَبِّ الْفَلَقِ».
وَفِي سُورَةِ النَّاسِ جَاءَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ، مَعَ أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ فِي الْأُولَى ثَلَاثَةُ أُمُورٍ، وَالْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ فِي الثَّانِيَةِ أَمْرٌ وَاحِدٌ، فَلِخَطَرِ الْأَمْرِ الْوَاحِدِ جَاءَتِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ.
وَيُقَالُ أَيْضًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: إِنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ فِي السُّورَةِ الْأُولَى أُمُورٌ تَأْتِي مِنْ خَارِجِ الْإِنْسَانِ، وَتَأْتِيهِ اعْتِدَاءً عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَكُونُ شُرُورًا ظَاهِرَةً، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَدْ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ أَوِ اتِّقَاؤُهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَتَجَنُّبُهُ إِذَا عُلِمَ بِهِ. بَيْنَمَا الشَّرُّ الْوَاحِدُ فِي الثَّانِيَةِ يَأْتِيهِ مِنْ دَاخِلِيَّتِهِ وَقَدْ تَكُونُ هَوَاجِسُ النَّفْسِ وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ، إِذِ الشَّيْطَانُ يَرَانَا وَلَا نَرَاهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [٧ ٢٧].
وَقَدْ يُثِيرُ عَلَيْهِ خَلَجَاتِ نَفْسِهِ وَنَوَازِعَ فِكْرِهِ، فَلَا يَجِدُ لَهُ خَلَاصًا إِلَّا بِالِاسْتِعَاذَةِ وَاللُّجُوءِ إِلَى رَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ.
أَمَّا الْوُجْهَتَانِ اللَّتَانِ نَوَّهْنَا عَنْهُمَا، فَالْأُولَى بَيْنَ السُّورَتَيْنِ وَهِيَ مِمَّا أَوْرَدَهُ أَبُو حَيَّانَ: إِذْ فِي سُورَةِ الْفَلَقِ قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [١١٣ ١]، وَرَبُّ الْفَلَقِ تُعَادِلُ قَوْلَهُ: رَبِّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّهُ مَا مِنْ مَوْجُودٍ فِي هَذَا الْكَوْنِ إِلَّا وَهُوَ مَفْلُوقٌ عَنْ غَيْرِهِ.
فَفِي الزَّرْعِ: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [٦ ٩٥].
وَفِي الزَّمَنِ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ [٦ ٩٦].
وَفِي الْجَمَادَاتِ يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [٢١ ٣٠ - ٣١].
فَرَبُّ الْفَلَقِ تُعَادِلُ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَقَابَلَهَا فِي الِاسْتِعَاذَةِ بِعُمُومِ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ.
ثُمَّ جَاءَ ذِكْرُ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَهُوَ «مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ»، وَ «النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ»، «وَحَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ».
فَالْمُسْتَعَاذُ بِهِ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْمُسْتَعَاذُ مِنْهُ عُمُومُ مَا خَلَقَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، بَيْنَمَا فِي السُّورَةِ الثَّانِيَةِ جَاءَ بِالْمُسْتَعَاذِ بِهِ ثَلَاثُ صِفَاتٍ هِيَ صِفَاتُ الْعَظَمَةِ لِلَّهِ تَعَالَى: الرَّبُّ وَالْمَلِكُ وَالْإِلَهُ.
فَقَابَلَ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَقَطْ، وَهُوَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ خُطُورَةِ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ.
وَهُوَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّنَا لَوْ نَظَرْنَا فِي وَاقِعِ الْأَمْرِ لَوَجَدْنَا مَبْعَثَ كُلِّ فِتْنَةٍ وَمُنْطَلَقَ كُلِّ شَرٍّ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، لَوَجَدْنَاهُ بِسَبَبِ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. وَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِتَارِيخِ وُجُودِ الْإِنْسَانِ.
وَأَوَّلُ جِنَايَةٍ وَقَعَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ، إِنَّمَا هِيَ مِنْ هَذَا الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَرَّمَ آدَمَ، فَخَلَقَهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ الْمَلَائِكَةَ لَهُ وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ هُوَ وَزَوْجَهُ لَا يَجُوعُ فِيهَا وَلَا يَعْرَى، وَلَا يَظْمَأُ فِيهَا وَلَا يَضْحَى، يَأْكُلَانِ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ مَا شَاءَا، إِلَّا مِنَ الشَّجَرَةِ الْمَمْنُوعَةِ، فَوَسْوَسَ إِلَيْهِمَا الشَّيْطَانُ حَتَّى أَكَلَا مِنْهَا وَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ، حَتَّى أُهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.
وَبَعْدَ سُكْنَاهُمَا الْأَرْضَ أَتَى ابْنَيْهِمَا قَابِيلَ وَهَابِيلَ فَلَاحَقَهُمَا أَيْضًا بِالْوَسْوَسَةِ، حَتَّى طَوَّعَتْ نَفْسُ أَحَدِهِمَا قَتْلَ أَخِيهِ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ.
وَهَكَذَا بِسَائِرِ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ بِالْوَسْوَسَةِ حَتَّى يُرْبِكَهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُهْلِكَهُ فِي
وَلَا يَزَالُ يَجْلِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِخَيْلِهِ وَرَجْلِهِ بَارًّا بِقَسَمِهِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ بِعِزَّتِهِ لَيُغْوِينَّهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَإِنَّ أَخْطَرَ أَبْوَابِ الْفَسَادِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ لَهِيَ عَنِ الْمَالِ أَوِ الدَّمِ أَوِ الْعِرْضِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا» إِلَى آخِرِهِ.
وَهَلْ وُجِدَتْ جِنَايَةٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَّا مِنْ تَأْثِيرِ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ؟ اللَّهُمَّ لَا.
وَهَكَذَا فِي الْآخِرَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى الْمَوْقِفَ جَلِيًّا فِي مَقَالَةِ الشَّيْطَانِ الْبَلِيغَةِ الصَّرِيحَةِ: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ [١٤ ٢٢].
وَلِقَدْ عَلِمَ عَدُوُّ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَخْطَرَ سِلَاحٍ عَلَى الْإِنْسَانِ هُوَ الشَّكُّ وَلَا طَرِيقَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْوَسْوَسَةِ، فَأَخَذَ عَنْ إِبْلِيسَ مُهِمَّتَهُ وَرَاحَ يُوَسْوِسُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَفِي دُنْيَاهُمْ، وَيُشَكِّكُهُمْ فِي قُدْرَتِهِمْ عَلَى الْحَيَاةِ الْكَرِيمَةِ مُسْتَقِلِّينَ عَنْهُ، وَيُشَكِّكُهُمْ فِي قُدْرَتِهِمْ عَلَى التَّقَدُّمِ وَالِاسْتِقْلَالِ الْحَقِيقِيِّ، بَلْ وَفِي اسْتِطَاعَتِهِمْ عَلَى الْإِبْدَاعِ وَالِاخْتِرَاعِ، لِيَظَلُّوا فِي فَلَكِهِ وَدَائِرَةِ نُفُوذِهِ، فَيَبْقَى الْمُسْلِمُونَ يَدُورُونَ فِي حَلْقَةٍ مُفْرَغَةٍ، يُقَدِّمُونَ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُونَ أُخْرَى.
وَالْمُتَشَكِّكُ فِي نَتِيجَةِ عَمَلٍ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ أَبَدًا، بَلْ مَا يَبْنِيهِ الْيَوْمَ يَهْدِمُهُ غَدًا، وَقَدْ أَعْلَنَ عَنْ هَذِهِ النَّتِيجَةِ الْخَطِيرَةِ رَئِيسُ مُؤْتَمَرِ الْمُسْتَشْرِقِينَ فِي الشَّرْقِ الْأَوْسَطِ، مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ عَامًا، حِينَمَا انْعَقَدَ الْمُؤْتَمَرُ فِي (بَيْرُوتَ) لِعَرْضِ نَتَائِجِ أَعْمَالِهِمْ وَدِرَاسَةِ أَسَالِيبِ تَبْشِيرِهِمْ.
وَهَكَذَا مَنْهَجُ الْعَدُوِّ، تَشْكِيكٌ فِي قَضَايَا الْإِسْلَامِ لِيُوجِدَ ذَبْذَبَةً فِي عَقِيدَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَنْ طَرِيقِ الْمِيرَاثِ تَارَةً، وَعَنْ طَرِيقِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أُخْرَى، وَعَنْ دَوَافِعِ الْقِتَالِ، وَعَنِ اسْتِرْقَاقِ الرَّقِيقِ، وَعَنْ وَعَنْ.
حَتَّى وُجِدَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَتَخَطَّى حُدُودَ الشَّكِّ إِلَى التَّصْدِيقِ، وَأَخَذَ يَدْعُو إِلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْعَدُوُّ، وَمَا ذَاكَ كُلُّهُ إِلَّا حَصَادُ وَنَتَائِجُ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ.
فَلَا غَرْوَ إِذًا أَنْ تُجْمَعَ الصِّفَاتُ الْجَلِيلَةُ الثَّلَاثُ: بِرَبِّ النَّاسِ ٣٠ مَلِكِ النَّاسِ ٣٠ إِلَهِ النَّاسِ.
هَذِهِ وُجْهَةُ النَّظَرِ الْأُولَى بَيْنَ سُورَتَيِ الْفَلَقِ وَالنَّاسِ.
أَمَّا الْوُجْهَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ بَيْنَ سُورَةِ النَّاسِ وَنَسَقِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [١ ٢ - ٧].
وَفِي هَذِهِ الْبِدَايَةِ الْكَرِيمَةِ بَثُّ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الْقَلْبِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْحَمْدِ، عُنْوَانِ الرِّضَى وَالسَّعَادَةِ وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِمُلْكِ يَوْمِ الدِّينِ، ثُمَّ الِالْتِزَامُ بِالْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالِالْتِجَاءُ إِلَيْهِ مُسْتَعِينًا بِهِ، مُسْتَهْدِيًا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، سَائِلًا صُحْبَةَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [٢ ٢] أَيْ: إِنَّ الْهُدَى الَّذِي تَنْشُدُهُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَهُوَ فِي هَذَا الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ، ثُمَّ بَيَّنَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [٢ ٣ - ٤].
وَمَرَّةً أُخْرَى لِلتَّأْكِيدِ: أُولَئِكَ لَا سِوَاهُمْ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [٢ ٥].
ثُمَّ يَأْتِي النِّدَاءُ الصَّرِيحُ وَهُوَ أَوَّلُ نِدَاءٍ فِي الْمُصْحَفِ لِعُمُومِ النَّاسِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [٢ ٢١]، وَيُقِيمُ الْبَرَاهِينَ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَعَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [٢ ٢١ - ٢٢].
وَبَعْدَ تَقْرِيرِ الْأَصْلِ وَهِيَ الْعَقِيدَةُ، تَمْضِي السُّورَةُ فِي ذِكْرِ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ، فَتَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا وَعَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْجِهَادِ، وَقَلَّ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ إِلَّا وَلَهُ ذِكْرٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَيَأْتِي مَا بَعْدَهَا مُبَيِّنًا لِمَا أُجْمِلَ فِيهَا أَوْ لِمَا يُذْكَرُ ضِمْنَهَا.
وَهَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ الْقُرْآنُ بِكَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَتَمَامِ الدِّينِ.
وَلِمَا جَاءَ فِي وَصْفِ الْمُتَّقِينَ الْمُهْتَدِينَ فِي أَوَّلِ الْمُصْحَفِ، أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَمِنْهُ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنْ حِسَابٍ وَعِقَابٍ وَثَوَابٍ - أُمُورُ الْغَيْبِ تَسْتَلْزِمُ الْيَقِينَ - لِتُرَتِّبَ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ ثَوَابًا أَوْ عِقَابًا.
وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ هُمَا نَتِيجَةُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ.
وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ: هُمَا مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَثِلُ الْأَمْرَ رَجَاءَ الثَّوَابِ، وَيَكُفُّ عَنْ مُتَعَلِّقِ النَّهْيِ مَخَافَةَ الْعِقَابِ.
فَلَكَأَنَّ نَسَقَ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ يُشِيرُ إِلَى ضَرُورَةِ مَا يَجِبُ الِانْتِبَاهُ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ بَدَأَ بِالْحَمْدِ ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَى الْإِنْسَانِ بِإِنْزَالِهِ، وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ صَاحِبِهِ بِهِ، ثُمَّ نَقَلَهُ مِنْ عَالَمِ الدُّنْيَا إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ الْأَعْظَمُ قَدْرًا وَخَطَرًا، ثُمَّ رَسَمَ لَهُ الطَّرِيقَ الَّذِي سَلَكَهُ الْمُهْتَدُونَ أُهْلُ الْإِنْعَامِ وَالرِّضَى، ثُمَّ أَوْقَفَهُ عَلَيْهِ لِيَسْلُكَ سَبِيلَهُمْ.
وَهَكَذَا إِلَى أَنْ جَاءَ بِهِ بَعْدَ كَمَالِ الْبَيَانِ وَالْإِرْشَادِ وَالْهِدَايَةِ، جَاءَ بِهِ إِلَى نِهَايَةِ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَاسْتَوْقَفَهُ لِيَقُولَ لَهُ إِذَا اطْمَأْنَنْتَ لِهَذَا الدِّينِ، وَآمَنْتَ بِاللَّهِ رَبِّ
وَقَدْ عَلِمْتَ عَدَاوَتَهُ لَكَ مِنْ بَعْدُ، وَعَدَاوَتُهُ نَاشِئَةٌ عَنِ الْحَسَدِ.
وَلَكَأَنَّ ارْتِبَاطَ السُّورَتَيْنِ لَيُشِيرَ إِلَى مَنْشَأِ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ وَارْتِبَاطِهَا بِهَذَا التَّحْذِيرِ، إِذْ فِي الْأُولَى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، فَحَسَدَ الشَّيْطَانُ آدَمَ عَلَى إِكْرَامِ اللَّهِ إِيَّاهُ كَمَا أَسْلَفْنَا.
وَالْعَدُوُّ الْحَاسِدُ لَا يُرْضِيهِ إِلَّا زَوَالُ النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ، وَلَئِنْ كَانَتْ تَوْبَةُ آدَمَ هِيَ سَبِيلُ نَجَاتِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [٢ ٣٧].
فَنَجَاتُكَ أَيْضًا فِي كَلِمَاتٍ تَسْتَعِيذُ بِهَا مِنْ عَدُوِّكَ: بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ ; لِأَنَّ الرَّبَّ هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ عِبَادَهُ، وَمَلِكَ النَّاسِ هُوَ الَّذِي يَحْمِيهِمْ وَيَحْفَظُهُمْ وَيَحْرُسُهُمْ. وَإِلَهَ النَّاسِ الَّذِي يَتَأَلَّهُونَ إِلَيْهِ وَيَتَضَرَّعُونَ وَيَلُوذُونَ بِهِ سُبْحَانَهُ.
تَنْبِيهٌ
إِذَا كَانَ هَذَا كُلُّهُ خَطَرَ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، وَهُمَا عَدُوٌّ مُشْتَرَكٌ وَمُتَرَبِّصٌ حَاقِدٌ حَاسِدٌ، فَمَا طَرِيقُ النَّجَاةِ مِنْهُ؟
الَّذِي يَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ طَرِيقَ النَّجَاةِ تَعْتَمِدُ عَلَى أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ: إِذَا كَانَتْ مُهِمَّةُ الْوَسْوَسَةِ التَّشْكِيكَ وَالذَّبْذَبَةَ وَالتَّرَدُّدَ، فَإِنَّ عُمُومَاتِ التَّكْلِيفِ تُلْزِمُ الْمُسْلِمَ بِالْعَزْمِ وَالْيَقِينِ وَالْمُضِيِّ دُونَ تَرَدُّدٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [٣ ١٥٩]، وَامْتَدَحَ بَعْضَ الرُّسُلِ بِالْعَزْمِ وَأَمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [٤٦ ٣٥].
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».
وَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ «الْيَقِينُ لَا يُرْفَعُ بِشَكٍّ».
وَالْحَدِيثُ: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ لِأَحَدِكُمْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَنْفُخُ فِي مَقْعَدَتِهِ، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَحْدَثَ وَلَمْ يُحْدِثْ، فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا».
وَمِنْ هَنَا كَانَتِ التَّكَالِيفُ كُلُّهَا عَلَى الْيَقِينِ، فَالْعَقَائِدُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْيَقِينِ.
وَالْفُرُوعُ فِي الْعِبَادَاتِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ النِّيَّةِ «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».
وَالشَّرْطُ فِي النِّيَّةِ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ، فَلَوْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ حَضَرَ فُلَانٌ تَرَكَهَا، لَا تَنْعَقِدُ نِيَّتُهُ، وَلَوْ نَوَى صَوْمًا أَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَفْطَرَ، لَا يَنْعَقِدُ صَوْمُهُ.
وَنَصَّ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: أَنَّهُ إِنْ نَوَى لِيَوْمِ الشَّكِّ فِي لَيْلَتِهِ الصَّوْمَ غَدًا، عَلَى أَنَّهُ إِنْ صَحَّ مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ لِرَمَضَانَ، وَإِلَّا فَهُوَ نَافِلَةٌ، لَا يَنْعَقِدُ صَوْمُهُ لَا فَرْضًا وَلَا نَفْلًا حَتَّى لَوْ جَاءَ رَمَضَانُ لَا يُعْتَبَرُ لَهُ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ لِعَدَمِ الْجَزْمِ بِالنِّيَّةِ.
وَالْحَجُّ: لَوْ نَوَاهُ لَزِمَهُ وَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِيهِ، وَلَا يَمْلِكُ الْخُرُوجَ مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ.
وَهَكَذَا الْمُعَامَلَاتُ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ مَبْنَاهَا عَلَى الْجَزْمِ حَتَّى فِي الْمَزْحِ وَاللَّعِبِ، يُؤَاخَذُ فِي الْبَعْضِ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.
فَمِنْ هَذَا كُلِّهِ كَانَتْ دَوَافِعُ الْعَزِيمَةِ مُسْتَقَاةٌ مِنَ التَّكَالِيفِ، مِمَّا يَقْضِي عَلَى نَوَازِعِ الشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مَجَالٌ لِشَكٍّ وَلَا مَحَلٌّ لِوَسْوَسَةٍ.
وَقَدْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَفِرُّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَمَّا الْعَدُوُّ مِنَ الْإِنْسِ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [٤١ ٣٤].
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُقَابَلَةَ إِسَاءَةِ الْعَدُوِّ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ تُذْهِبُ عَدَاوَتَهُ، وَتُكْسِبُ صَدَاقَتَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ.
وَأَمَّا عَدُوُّ الْجِنِّ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [٤١ ٣٦].
وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآثَارِ مِنْ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْنَسُ إِذَا سَمِعَ ذِكْرَ اللَّهِ.
وَعَلَى قَوْلِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنَّ شَيْطَانَ الْجِنِّ يَنْدَفِعُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ بِاللَّهِ، وَيَكْفِيهِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا.
أَمَّا شَيْطَانُ الْإِنْسِ فَهُوَ فِي حَاجَةٍ إِلَى مُصَانَعَةٍ وَمُدَافَعَةٍ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ، كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [٤١ ٣٥].
رَزَقَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ حَظًّا عَظِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنَّهُ الْمَسْئُولُ، وَخَيْرُ مَأْمُولٍ.
رَوَى ابْنُ كَثِيرٍ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ أَعْيُنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسْلَمِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ: «قُلْ» : فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ. ثُمَّ قَالَ لِي: «قُلْ». فَقُلْتُ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ لِي: قُلْ. قُلْتُ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ حَتَّى فَرَغْتُ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ لِي قُلْ. قُلْتُ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ حَتَّى فَرَغْتُ مِنْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَكَذَا فَتَعَوَّذْ ; وَمَا تَعَوَّذَ الْمُتَعَوِّذُونَ بِمَثَلِهِنَّ قَطُّ».
كَتَبَهَا فَضِيلَةُ الْوَالِدِ الشَّيْخِ الْأَمِينِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَبْيَاتٍ لِلسُّيُوطِيِّ فِي الْإِتْقَانِ وَنَقَلْتُهَا عَنْ خَطِّهِ وَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِ
نَصُّ الْأَبْيَاتِ مِنَ الْإِتْقَانِ:
فَتَخَالَسَا نَفْسَيْهِمَا بِنَوَافِذَ | كَنَوَافِذِ الْعُبُطِ الَّتِي لَا تُرْفَعُُُ |
قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنَ الْمَنْسُوخِ مِنْ عَدَدٍ | وَأَدْخَلُوا فِيهِ أَبَالِيسَ تَنْحَصِرُ |
وَهَاكَ تَحْرِيرُ آيٍ لَا مَزِيدَ لَهَا | عِشْرِينَ حَرَّرَهَا الْحُذَّاقُ وَالْكُبَرُ |
(آيُ التَّوَجُّهِ ١) حَيْثُ الْمَرْءُ كَانَ (وَأَنْ | يُوصَى لِأَهْلِيهِ ٢) عِنْدَ الْمَوْتِ مُخْتَصَرُ |
(وَحُرْمَةُ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ مَعْ رَفَثٍ ٣) | (وَفِدْيَةٌ لِمُطِيقِ ٤) الصَّوْمِ مُشْتَهِرُ |
(وَحَقُّ تَقْوَاهُ ٥) فِيمَا صَحَّ مِنْ أَثَرٍ | (وَفِي الْحَرَامِ قِتَالٌ ٦) لِلْأُولَى كَفَرُوا |
(وَالِاعْتِدَادُ بِحَوْلٍ مَعَ وَصِيَّتِهَا ٧) | (وَأَنْ يُدَانَ حَدِيثُ النَّفْسِ وَالْفِكَرُ ٨) |
(وَالْحِلْفُ ٩) (وَالْحَبْسُ لِلزَّانِي ١٠) (وَتَرْكُ أُولَى | كُفْرٍ ١١) (وَإِشْهَادُهُمْ ١٢) (وَالصَّبْرُ |
(وَالنَّفَرُ ١٤) (وَمَنْعُ عَقْدٍ لِزَانٍ أَوْ لِزَانِيَةٍ ١٥) | (وَمَا عَلَى الْمُصْطَفَى فِي الْعَقْدِ مُحْتَظَرُ ١٦) |
(وَدَفْعُ مَهْرٍ لِمَنْ جَاءَتْ ١٧) (وَآيَةُ نَجْـ | ـوَاهُ ١٨) (كَذَلِكَ قِيَامُ اللَّيْلِ ١٩) مُسْتَطَر |
(وَزَيْدُ آيَةِ الِاسْتِئْذَانِ مَنْ مَلَكَتْ ٢٠) | (وَآيةُ الْقِسْمَةِ ٢١) الْفُضْلَى لِمَنْ حَضَرُوا |
١ - قَوْلُهُ: «آيُ التَّوَجُّهِ»، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ مَنْسُوخَةٌ عَلَى رَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
٢ - وَقَوْلُهُ: «وَأَنْ يُوصَى لِأَهْلِيهِ» : أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنَّ آيَةَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ الْآيَةَ. مَنْسُوخَةٌ، قِيلَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَقِيلَ بِحَدِيثِ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وَقِيلَ: بِالْإِجْمَاعِ. حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ.
٣ - وَقَوْلُهُ: «وَحُرْمَةُ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ مَعْ رَفَثٍ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ آيَةَ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ الْمُتَضَمِّنَةَ حُرْمَةَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ النَّوْمِ كَمَا فِي صَوْمِ مَنْ قَبْلَنَا مَنْسُوخَةٌ بَآيَةِ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ.
٤ - وَقَوْلُهُ: «وَفِدْيَةٌ لِمُطِيقٍ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ آيَةَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَقِيلَ مُحْكَمَةٌ وَ «لَا» مُقَدَّرَةٌ، يَعْنِي: وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ.
٥ - وَقَوْلُهُ: «وَحَقُّ تَقْوَاهُ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَقِيلَ مُحْكَمَةٌ.
٦ - وَقَوْلُهُ: «وَفِي الْحَرَامِ قِتَالٌ» يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ وَقَوْلِهِ: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ مَنْسُوخَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ مَيْسَرَةَ.
٧ - وَقَوْلُهُ: «وَالِاعْتِدَادُ بِحَوْلٍ مَعَ وَصِيَّتِهَا» يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ الْآيَةَ، مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. ُُ
٩ - قَوْلُهُ: «وَالْحِلْفُ» أَيِ الْمُحَالَفَةُ، يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْآيَةَ.
١٠ - وَقَوْلُهُ: «وَالْحَبْسُ لِلزَّانِي» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ.
١١ - قَوْلُهُ: «وَتَرْكُ أُولَى كُفْرٍ» يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
١٢ - وَقَوْلُهُ: «وَإِشْهَادُهُمْ» يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ.
١٣ - وَقَوْلُهُ: «وَالصَّبْرُ» يُشِيرُ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، الْآيَةَ. مَنْسُوخٌ بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
١٤ - قَوْلُهُ «وَالنَّفَرُ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى أَوْ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ الْآيَةَ، أَوْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً الْآيَةَ.
١٥ - قَوْلُهُ: «وَمَنْعُ عَقْدٍ لِزَانٍ أَوْ لِزَانِيَةٍ» يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ الْآيَةَ، مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ.
١٦ - وَقَوْلُهُ: «وَمَا عَلَى الْمُصْطَفَى فِي الْعَقْدِ مُحْتَظَرُ» يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ... الْآيَةَ. مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الْآيَةَ.
١٨ - وَقَوْلُهُ «وَآيَةُ نَجْوَاهُ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَبِقَوْلِهِ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ.
١٩ - وَقَوْلُهُ: «كَذَلِكَ قِيَامُ اللَّيْلِ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ.
وَهَذَا النَّاسِخُ أَيْضًا مَنْسُوخٌ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
٢٠ - قَوْلُهُ: «وَزَيْدُ آيَةِ الِاسْتِئْذَانِ مَنْ مَلَكَتْ». آيَةُ الِاسْتِئْذَانِ لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالْأَصَحُّ فِيهَا عَدَمُ النَّسْخِ، لَكِنْ تَسَاهَلَ النَّاسُ بِالْعَمَلِ بِهَا.
٢١ - «وَآيَةُ الْقِسْمَةِ» وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَالصَّحِيحُ فِيهَا أَيْضًا عَدَمُ النَّسْخِ.
وَمِثَالُ نَسْخِ النَّاسِخِ آخِرُ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ، فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِفَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
وَقَوْلُهُ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا فَإِنَّهُ نَاسِخٌ لِآيَةِ الْكَفِّ، مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْعُذْرِ.
تَمَّتْ بِحَوْلِ اللَّهِ رِسَالَةُ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الْمُخْتَصَرَةُ فِي بَيَانِ أَبِيَّاتِ السُّيُوطِيِّ الرَّمْزِيَّةِ تَقْرِيبًا فِي هَذَا الْفَنِّ. وَهِيَ عَلَى إِيجَازِهَا وَاخْتِصَارِهَا كَافِيَةٌ شَافِيَةٌ لِلطَّالِبِ الدَّارِسِ أَمَلَاهَا عَلَيَّ فَضِيلَتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ١٣٧٣ هـ.
أَمَّا الْمُدَرِّسُ وَالْبَاحِثُ الْمُدَقِّقُ وَالْمُنَاقِشُ لِلْأَقْوَالِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْمُطَوَّلَاتِ لِتَتِمَّةِ الْبَحْثِ لِبَيَانِ إِثْبَاتِ النَّسْخِ عَلَى مُنْكِرِيهِ، وَبَيَانِ حِكْمَةِ النَّسْخِ وَبَيَانِ أَقْسَامِهِ، وَقُوَّةِ النَّاسِخِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَمَرَاتِبِهِ مِنْ شِدَّةٍ إِلَى ضَعْفِ وَالْعَكْسِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
فِي مُحَاضَرَةٍ أُلْقِيَتْ مَوْسِمَ ثَقَافَاتِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ
أَلْقَاهَا وَأَعَدَّهَا تِلْمِيذُهُ عَطِيَّة مُحَمَّد سَالِم
عَنْ صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ وَالِدِنَا الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
بِقَلَمِ: الشَّيْخِ عَطِيَّة مُحَمَّد سَالِم الْقَاضِي بِالْمَحْكَمَةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ
وَأَشْرَقَتْ شَمْسُ نَهَارِهَا بِطَيِّبَةِ الْفَيْحَاءِ. ظَلَّتْ مُهَاجَرَ صَحْبِهِ فِي أُلْفَةٍ وَوَفَاءٍ، فَتَحَمَّلَ الصَّحْبُ الْكِرَامُ تُرَاثَهُ - مَا وَرِثُوهُ مِنْهُ هِدَايَةً وَضِيَاءً - وَوَرَّثُوهُ مِنْ بَعْدِهِمْ تَوْرِيثَ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ. وَغَدَتِ الْمَدِينَةُ مُشْرِقَةً أَنْوَارُهَا يُشِعُّ مِنْهَا لِلْعَالَمِ نُورٌ وَسَنَاءٌ. وَتَوَالَتِ الْأَجْيَالُ تِلْوَ أَجْيَالٍ إِنْتَاجُهَا لِلْعَالَمِ صَفْوَةُ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ قَامُوا لِلَّهِ حَقًّا، وَأَخْلَصُوا لِلَّهِ صِدْقًا، وَنَشَرُوا الْعِلْمَ فِي عِفَّةٍ وَإِبَاءٍ، نَهَلُوا مِنَ الْمَنْهَلِ الصَّافِي مِنْ مَنْبَعِهِ، قَبْلَ أَنْ يُخَالِطَهُ التُّرْبُ أَوْ تُكَدِّرَهُ الدِّلَاءُ، فِي مَهْبِطِ الْوَحْيِ مَحَطُّ رِحَالِهِمْ، وَفِي الرَّوْضَةِ غُدُوُّهُمْ وَرَوَاحُهُمْ فِي غِبْطَةٍ وَهَنَاءٍ.
دَرَسُوا كِتَابَ اللَّهِ حُكْمًا وَحِكْمَةً، حَتَّى غَدَتْ آيَاتُهُ لِمَرْضَى الصُّدُورِ شِفَاءً، وَتَكَشَّفَتْ حُجُبُ الْمَعَانِي فَانْجَلَتْ مِنْ تَحْتِهَا أَشْمُسٌ وَضِيَاءٌ.
وَتَرَسَّمُوا سُنَنَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، وَكَذَاكَ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَإِنَّهُمْ لَهُمْ بِهِمْ أُسْوَةٌ وَاقْتِدَاءٌ، فَهُمُ النُّجُومُ فِي لَيْلِ السُّرَى، وَهُمُ الْهُدَاةُ لِطَالِبِ الْهُدَى وَأَدِلَّاءُ، وَهُمُ الْأَئِمَّةُ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ وَعَلَى الدِّينِ أُمَنَاءُ.
وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ وَفِي هَذَا الْجِوَارِ الْكَرِيمِ أَشَدُّ إِحْسَاسًا بِمَكَانَةِ الْعِلْمِ وَمَنْزِلَةِ الْعُلَمَاءِ، وَأَسْرَعُ فَرَحًا بِهِمْ وَأَشَدُّ حُزْنًا عَلَى مَوْتِهِمْ، وَأَلَمًا لِفِرَاقِهِمْ، إِنَّ فِي مَوْتِ الْعُلَمَاءِ لَغُرْبَةٌ لِلْغُرَبَاءِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْآلَامَ تَزْدَادُ، وَهَذَا الْحُزْنَ يَشْتَدُّ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ حِينَمَا نَكُونُ قَدْ عَرَفْنَا هَذَا الْعَالِمَ أَوْ عَاصَرْنَاهُ، وَلَمَسْنَا فَضْلَهُ وَاسْتَفَدْنَا عِلْمَهُ.
وَهَذَا الْقَدْرُ كُنَّا فِيهِ سَوَاءً نَحْوَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَشَيْخِنَا الْأَمِينِ خَاصَّةً.
وَإِنِّي كَأَحَدِ أَبْنَائِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ تَلَامِيذِهِ أَقِفُ الْيَوْمَ مُعَزِّيًا مُتَعَزِّيًا، وَمُتَرْجِمًا مُتَرَحِّمًا،
أَقُولُ لِلسَّائِلِ لَمَّا سَأَلَ | مَنْ ذَا نُعَزِّي فِيمَا نَزَلَ |
كُلُّ مَنْ لَاقَيْتَ فَعَزِّهِ | وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فِي الْأُوَلِ |
عَزِّ الْجَمِيعَ بِمَوْتِهِ | وَأَعْلِمْهُ أَنَّ الْخَطْبَ جَلَلٌ |
مَوْتُ الْعَالِمِ رُزْءُ الْعَالَمِ | فِي مَوْتِهِ يَأْتِي الْخَلَلُ |
لَوْ نَزَلَ الرُّزْءُ بِقِمَّةٍ | فَوْقَ الْجِبَالِ لَهَدَّ الْجَبَلَ |
خَيْرُ التَّعَازِي فِي أَنَّنَا | نُرَدُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ |
نَعَمْ أَقِفُ مُعَزِّيًا مُتَعَزِّيًا مُتَرْجِمًا مُتَرَحِّمًا كَمَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ: " مَا لَكُمْ تَأْخُذُونَ الْعِلْمَ عَنَّا وَتَسْتَفِيدُونَ مِنَّا، ثُمَّ تَذْكُرُونَنَا فَلَا تَتَرَحَّمُونَ عَلَيْنَا "، إِنَّهُ رَبْطٌ أَصِيلٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَالِمِ، وَتَنْبِيهٌ أَكِيدٌ عَلَى أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِفَضْلِ الْعَالِمِ شُكْرٌ وَتَقْدِيرٌ لِنَفْسِ الْعِلْمِ.
رَحِمَ اللَّهُ شَيْخَنَا رَحْمَةً وَاسِعَةً، وَرَحِمَ اللَّهُ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
وَقَدْ قَامَ الْخَلَفُ بِحَقِّ السَّلَفِ فِي حِفْظِ تَارِيخِهِمْ بِالتَّرْجَمَةِ لَهُمْ خِدْمَةً لِتُرَاثِهِمْ وَإِحْيَاءً لِذِكْرَاهُمْ وَمَا أُثِرَ عَنِ السَّخَاوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ وَرَّخَ مُؤْمِنًا فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهُ ". أَيْ مَنْ تَرْجَمَ لَهُ وَأَرَّخَهُ. وَهَا هُمْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ يُعَايِشُونَ كُلَّ جِيلٍ بِسِيرَتِهِمْ وَتَارِيخِهِمْ فِي أُمَّهَاتِ الْكُتُبِ.
وَإِنِّي لَأَعْتَقِدُ حَقًّا أَنَّ تَرَاجِمَ الرِّجَالِ مَدَارِسُ الْأَجْيَالِ، أَيْ فِي عُلُومِهِمْ وَمَعَالِمِ حَيَاتِهِمْ.
وَإِنَّ مِثْلَ شَيْخِنَا الْأَمِينِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَحَقِيقٌ بِتَرْجَمَتِهِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْ مَنْهَجِ حَيَاتِهِ فِي تَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ.
إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَحُسْنِ جِوَارِهِ
فَقِيدَ الْعِلْمِ يَا عَلَمَ الرِّجَالِ | نَعَاكَ الْعِلْمُ فِي حِلَقِ السُّؤَالِ |
نَعَمْ فَقَيْدَ الدَّرْسِ يَا عَلَمَ الرِّجَالِ | ، نَعَاكَ الدَّرْسُ فِي فَصْلِ الْمَقَالِ |
وَفِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ ٢٠ ١٢ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْغَائِبِ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَصَلَّى عَلَيْهِ صَاحِبُ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صَالِحٍ آلِ صَالِحٍ إِمَامُ وَخَطِيبُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَرَئِيسُ الدَّائِرَةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ، وَمَحَاكِمِ مِنْطَقَةِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مُبَاشَرَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْحُجَّاجِ مَا لًا يُحْصَى عَدَدًا.
وَمِنْ غَرِيبِ الصُّدَفِ وَحُسْنِ التَّفَاؤُلِ أَنْ يَقْرَأَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا.
وَقَدْ سَأَلْتُ فَضِيلَتَهُ عَنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَهُوَ قَاصِدٌ لِهَذِهِ الْآيَاتِ وَمُخْتَارٌ لَهَا، أَمْ جَاءَتْ عَفْوًا؟ فَقَالَ حَفِظَهُ اللَّهُ: بَلْ عَفْوًا، لِمُلَاحَظَةٍ عَلَيْهَا؟ قُلْتُ: إِنَّهَا مِنْ أَغْرَبِ الصُّدَفِ، لِأَنَّكَ صَلَّيْتَ عَلَى الشَّيْخِ الْأَمِينِ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَهَا، فَظَنَنْتُ أَنَّكَ قَصَدْتَ إِلَيْهَا. وَلَكِنَّهُ مِنَ الْمُنَاسَبَاتِ الْحَسَنَةِ، تَغَمَّدَ اللَّهُ الْفَقِيدَ بِرَحْمَتِهِ وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ جَنَّتِهِ إِنَّهُ جَوَّادٌ كَرِيمٌ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، كَمَا صُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَفِي مَسَاجِدِ الدَّوَادِمِيِّ.
مَا مَاتَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ لَهُ فِي كُلِّ دَائِرَةٍ مِنْ دَوَائِرِ الْحُكُومَةِ فِي أَنْحَاءِ الْبِلَادِ ابْنًا مِنْ أَبْنَائِهِ، وَفِي قُطْرٍ إِسْلَامِيٍّ بَعْثَةٌ مِنَ الْبَعَثَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِمِنَحِ الْجَامِعَةِ التَّعْلِمِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ.
مَا مَاتَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَرَكَ فِي كُلِّ مَكْتَبَةٍ وَفِي كُلِّ مَنْزِلٍ (أَضْوَاءَ الْبَيَانِ) تُبَدِّدُ الظَّلَامَ وَتَهْدِي السَّبِيلَ.
فَلَا يَبْعُدُ وَلَا يُعَالِي مَنْ يَقُولُ: مَا مَاتَ مَنْ خَلَّفَ هَذَا التُّرَاثِ، وَأَدَّى تِلْكَ الرِّسَالَةَ فِي حَيَاتِهِ، يُبْقِي أَثَرًا خَالِدًا عَلَى مَرِّ الْأَجْيَالِ وَالْقُرُونِ.
لَقَدْ أَدَّى رِسَالَةً عُظْمَى، وَانْتَقَلَ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى لِيَحْصُدَ مَا زَرَعَ وَيَجْنِيَ ثِمَارَ مَا غَرَسَ، وَيَنْعَمَ بِمَا قَدَّمَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً.
لَقَدْ عَاشَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مُنْذُ سِنِينَ حِينَ قَدِمَ لِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ، ثُمَّ اعْتَزَمَ الْمُقَامَ وَعَمِلَ فِي كُبْرَيَاتِ مَعَاهِدِ الْعِلْمِ وَجَامِعَاتِهِ، وَأَلَّفَ وَحَاضَرَ، وَلَمْ تُكْتَبْ عَنْهُ كَلِمَةٌ وَلَمْ يَكُنْ يَرْضَى بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ. لَقَدْ كَانَتْ أَعْمَالُهُ تُتَرْجِمُ عَنْهُ وَمُؤَلَّفَاتُهُ تُعَرِّفُ بِهِ حَتَّى عَرَفَهُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْقَاصِي وَالدَّانِي، وَالْعَالِمُ وَالْعَامِّيُّ، فَلَمْ تَكُنْ وَفَاتُهُ رُزْءًا عَلَى فَرْدٍ أَوْ أُسْرَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ أَوْ قُطْرٍ، وَلَكِنْ عَلَى الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ.
وَمَا كَتَبْتُ عَنْهُ سِوَى كَلِمَةٍ مُوجَزَةٍ اسْتَقَيْتُهَا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ عِنْدَ طَبْعِ أَوَّلِ مُحَاضَرَةٍ لَهُ بِالْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَطُبِعَتْ فِي مُقَدِّمَتِهَا.
وَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَمْ يُكْتَبْ عَنْهُ أَيْضًا إِلَّا تَعْرِيفٌ مُوجَزٌ بِالنَّشْأَةِ وَالْمَوْلِدِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ.
وَالْآنَ وَقَدْ تَحَتَّمَتِ الْكِتَابَةُ عَنْهُ لَا تَعْرِيفًا بِهِ، فَهُوَ أَعْرَفُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ، فَهُوَ الْعَلَمُ الْخَفَّاقُ، وَالطَّوْدُ الْأَشَمُّ، وَالشَّمْسُ الْمُشْرِقَةُ فَلَيْسَتِ الْكِتَابَةُ لِلتَّعْرِيفِ، وَلَكِنْ لِرَسْمِ خُطَاهُ وَبَيَانِ مَنْهَجِهِ، مِمَّا سَمِعْتُ مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَمَسْتُهُ مِنْ حَيَاتِي مَعَهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ. وَإِنِّي
جَانِبُ تَرْجَمَةٍ لَهُ وَبَيَانٍ لِحَقِيقَتِهِ وَتَعْرِيفٍ بِشَخْصِهِ وَمَنْزِلَتِهِ، وَجَانِبُ سِيرَتِهِ وَمَنْهَجِهِ. بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَهْجًا يُسَارُ عَلَيْهِ وَمَنْهَجًا يُقْتَدَى بِهِ وَمُؤَثِّرًا يُؤَثِّرُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ أَرَادَ السَّيْرَ فِي سَبِيلِهِ وَالنَّسْجَ عَلَى مِنْوَالِهِ، وَالِاسْتِفَادَةَ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
وَالْكِتَابَةُ عَنْ أَيِّ شَخْصٍ مِنْ هَذَيْنِ الْجَانِبَيْنِ تُعْتَبَرُ بِمَثَابَةِ شَخْصِيَّتِهِ فِي إِبْرَازِ صُورَتِهِ وَبَيَانِ مَكَانَتِهِ وَفِيهَا تَقْيِيمُهُ فِي عَظَمَتِهِ أَوْ تَوَسُّطِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَيُّ عَالِمٍ أَوْ طَالِبِ عِلْمٍ فَإِنَّ لَهُ شَخْصِيَّةً مُزْدَوِجَةً، فِي حَيَاتِهِ الْعَامَّةِ وَسُلُوكِهِ الْعَامِّ. وَحَيَاتِهِ الْخَاصَّةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَمَنْهَجِهِ فِي تَحْصِيلِهِ وَنَشْرِهِ، وَالْكِتَابَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَكُونُ عَنِ التَّرْجَمَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالسِّيرَةِ الْعِلْمِيَّةِ.
وَقَدْ مَثَّلَتِ الْمَكْتَبَاتُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِتَرَاجِمِ وَسِيَرِ الْأَعْلَامِ مِنَ الرِّجَالِ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى عُصُورِ التَّدْوِينِ وَامْتَدَّتْ إِلَى الْيَوْمِ، حِفْظًا لِلتُّرَاثِ الْإِسْلَامِيِّ، وَتَسْجِيلًا لِلرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ تَكُنِ الْكِتَابَةُ عَنْ أَيِّ شَخْصٍ وَافِيَةً إِلَّا بِتَعَدُّدِ الْكُتَّابِ عَنْهُ وَتُسْتَخْلَصُ الْحَقِيقَةُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا كُتِبَ عَنْهُ، لِأَنَّ كُلَّ كَاتِبٍ عَنْ أَيِّ شَخْصٍ لَنْ يَخْلُوَ مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ:
١ - إِمَّا مُوَالٍ مُتَأَثِّرٌ: فَقَدْ يَقَعُ تَحْتَ تَأْثِيرِ الْعَاطِفَةِ، فَيَنْظُرُ مِنْ زَاوِيَةٍ وَاحِدَةٍ. فَيُقَالُ فِيهِ
وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ
".
٢ - وَإِمَّا زَاوِيَةُ مُعَادٍ مُنْفَعِلٍ: فَيَقَعُ تَحْتَ طَائِلَةِ الِانْفِعَالِ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ تَتِمَّةُ الْبَيْتِ السَّابِقِ: "
كَمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا
".
٣ - وَإِمَّا بَعِيدٌ مُعْتَدِلٌ: يَرْغَبُ التَّقْيِيمَ بِمِيزَانِ الِاعْتِدَالِ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَفُوتُهُ مَا لَمْ يَكُنْ حَرِيصًا عَلَيْهِ، بِدُونِ تَقْصِيرٍ.
وَمِنْ هُنَا لَمْ تَكُنْ كِتَابَةُ كَاتِبٍ عَنْ إِنْسَانٍ مَا مُطَابِقَةً كُلَّ التَّطَابُقِ وَمُكْتَمِلَةً غَايَةَ الِاكْتِمَالِ.
وَقَدْ يَتَحَرَّجُ الْأَصْدِقَاءُ مَخَافَةَ التُّهْمَةِ وَالتَّأَثُّرِ بِالْأُلْفَةِ أَوْ يَتَوَقَّفُ الْأَعْدَاءُ مُكْتَفِينَ
وَفَضِيلَةُ الْوَالِدِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ شَخْصِيَّةٌ مُتَمَيِّزَةٌ وَسِيرَةٌ وَاضِحَةٌ يَعْرِفُهَا كُلُّ مَنْ لَقِيَهُ أَوْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ أَوِ اسْتَمَعَ دَرْسَهُ أَوْ قَرَأَ كُتُبَهُ أَوْ حَتَّى سَمِعَ عَنْهُ. وَقَدْ طَبَّقَتْ شُهْرَتُهُ الْآفَاقَ.
وَإِنَّ الْكِتَابَةَ عَنْ مِثْلِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمِنْ أَشَقِّ مَا يَكُونُ لِتَعَدُّدِ جَوَانِبِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَانْفِسَاحِ مَجَالَاتِهِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا مَرْجِعَ لِمَنْ يَكْتُبُ عَنْهُ إِلَّا الْخُلْطَةَ وَطُولَ الْعِشْرَةِ وَتَصَيُّدَ الْأَخْبَارِ مِنْ ذَوِيِهِ الْأَخْيَارِ.
وَحَيْثُ إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ هُمْ تَلَامِذَتُهُ وَأَبْنَاؤُهُ، وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ قَدْ أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِصُحْبَتِهِ وَطُولِ مُلَازَمَتِهِ لَيْلَ نَهَارٍ، وَكَثْرَةِ مُرَافَقَتِهِ فِي الظَّعْنِ وَالْأَسْفَارِ. دَاخِلَ وَخَارِجَ الْمَمْلَكَةِ. وَسَمِعْتُ مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ وَالْكَثِيرَ جِدًّا، فَإِنِّي لَأَجِدُنِي تَتَجَاذَبُنِي عَوَامِلُ الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ. فَإِذَا اسْتَحْضَرْتُ كُلَّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ، وَتَصَوَّرْتُ كُلَّ مَا لَمَسْتُهُ فِيهِ أَجِدُنِي أَحَقَّ النَّاسِ بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ.
وَإِذَا تَذَكَّرْتُ مَكَانَتَهُ وَتَرَاءَتْ لِي مُنْزِلَتُهُ وَأَحْسَسْتُ تَأْثِيرَهُ عَلَى نَفْسِي تَلَاشَتْ مِنْ ذِهْنِي كُلُّ مَعَانِي الْكِتَابَةِ أَمَامَ تِلْكَ الشَّخْصِيَّةِ الْمِثَالِيَّةِ وَتَرَاجَعَتْ بَعِيدًا عَنْ مَيَادِينِ الْكِتَابَةِ عَنْهُ.
وَلَكِنْ إِذَا كَانَ كُلُّ كَاتِبٍ لَا يَسْتَطِيعُ تَقْيِيمَ كُلِّ شَخْصِيَّةٍ تَقْيِيمًا حَقِيقِيًّا يَدُلُّ عَلَى الشَّخْصِ دَلَالَةً مُطَابِقَةً، وَفِي أُسْلُوبِ الْمُسَاوَاةِ. لَا مُوجِزًا وَلَا مُطْنِبًا. إِذَا كَانَ هَذَا حَالُ كُلِّ كَاتِبٍ مَعَ كُلِّ شَخْصٍ.
وَإِذَا كَانَ تِلْمِيذُ الشَّيْخِ أَحَقَّ بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ فَمَا لِي لَا أُدْلِي بِدَلْوِي بِالدِّلَاءِ، وَأُعْمِلُ قَلَمِي مَعَ الْأَقْلَامِ، وَأُبْدِي مَا عِنْدِي سَوَاءٌ مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ مُبَاشَرَةً أَوْ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ، أَوْ لَمَسْتُهُ مِنْ جَوَانِبِ حَيَاتِهِ وَسِيرَتِهِ.
دُونَ انْطِلَاقٍ مَعَ الْعَاطِفَةِ إِلَى حَدِّ الْإِطْنَابِ، وَدُونَ إِحْجَامٍ مَعَ الْوَجَلِ وَالتَّهَيُّبِ وَالْوَجَلِ إِلَى حَدِّ الْإِيجَازِ. إِنَّهُ لَشَيْخِي، وَأَعِزُّ عَلَيَّ مِنْ وَالِدِي.
إِنَّهُ حَقًّا وَالِدِي حِسًّا وَمَعْنًى، لَقَدْ عِشْتُ فِي كَنَفِهِ سَنَوَاتٍ مَعَهُ فِي بَيْتِهِ، وَقَدْ يُظِلُّنَا سَقْفٌ وَاحِدٌ فِي غُرْفَةٍ وَاحِدَةٍ أَمَدًا طَوِيلًا.
وَأَعَزُّ مِنَ الْإِيثَارِ مَا مَنَحَنِي مِنَ الْعُلُومِ وَالْآثَارِ، وَالتَّوْجِيهِ الْأَدَبِيِّ، وَالْفَضْلِ الْخُلُقِيِّ، وَالسُّمُوِّ النَّفْسِيِّ، فِي مَجَالِسِهِ وَأَحَادِيثِهِ، وَدُرُوسِهِ مِنْ غَيْرِ مَا حَدٍّ وَبِدُونِ تَقَيُّدٍ بِوَقْتٍ، إِذْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّ مَجَالِسِهِ مَجَالِسُ عِلْمٍ، وَكُلُّ أَحَادِيثِهِ أَحَادِيثُ أَدَبٍ وَتَوْجِيهٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْضِيرٍ لِدَرْسٍ، وَلَا مُرَاجَعَةٍ لِجَوَابٍ عَلَى سُؤَالٍ.
وَلَمْ يَكُنْ لِي مَعَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ مَعَ كَثْرَةِ الْإِخْوَانِ الدَّارِسِينَ عَلَيْهِ الْمُقِيمِينَ مَعَهُ فِي بَيْتِهِ إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ هُوَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِمُدَّةِ سَنَتَيْنِ دِرَاسِيَّتَيْنِ وَنَحْنُ بِالرِّيَاضِ. قَرَأْتُ فِي خِلَالِهِمَا تَفْسِيرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
كَانَتْ تِلْكَ الدِّرَاسَةُ عَلَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ هِيَ رَأْسُ مَالِي فِي جُلِّ تَحْصِيلِي، وَعَلَيْهَا أَسَاسُ دِرَاسَتِي الْحَقِيقِيَّةِ سَوَاءٌ فِي الْمُقَرَّرَاتِ أَوْ غَيْرِهَا. لِأَنَّ فِيهَا جَمِيعَ أَبْوَابِ الْفِقْهِ. وَعَلَى مَبَاحِثِهَا تَنْطَبِقُ جُلُّ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ. وَلَا يَبْعُدُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ مَا بَعْدَهَا مِنَ السُّوَرِ يُعْتَبَرُ تَفْسِيرًا لَهَا، أَوْ أَنَّ مَنْ أَتْقَنَ تَفْسِيرَهَا سَهُلَ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ مَا بَعْدَهَا. وَقَدْ كَانَتْ دِرَاسَتُهَا سَبَبًا فِي تَأْلِيفِ كِتَابِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، وَأَضْوَاءِ الْبَيَانِ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِثْرَ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ.
مَعَ مَا دَرَسْتُ مِنَ الْأُصُولِ وَمَبَادِئٍ فِي الْمَنْطِقِ وَدَقَائِقَ فِي الْبَلَاغَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
لَقَدْ وَجَدْتُ مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا لَمْ أَجِدْهُ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا وَأَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَجِدْ مِنْهُ مَا وَجَدْتُهُ أَنَا مِنْهُ. فَلَئِنْ شَرُفْتُ بِخِدْمَتِهِ فَلَقَدْ حَظِيتُ بِصُحْبَتِهِ. فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنِّي أَحْسَنَ الْجَزَاءِ.
وَإِنَّ صَاحِبَ مِثْلِ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ مَعَ مِثْلِ هَذِهِ الشَّخْصِيَّةِ لَيُحِسُّ بِثِقَلِ دُيُونِهِ عَلَى كَاهِلِهِ، وَيَلْمِسُ عِظَمَ الْمِنَّةِ تُطَوِّقُ عُنُقَهُ. فَهَلْ أَسْتَطِيعُ تَوْفِيَةَ هَذَا الْجَانِبِ فَحَسْبُ، فَضْلًا عَنِ الْجَوَانِبِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعُ التَّرْجَمَةِ وَالسِّيرَةِ، وَهَلْ يَتَأَتَّى مِنِّي الْإِحْجَامُ عَنِ الْكِتَابَةِ وَأَنَا مَدِينٌ بِمِثْلِ تِلْكَ الدُّيُونِ، مُكَبَّلٌ بِتِلْكَ الْمِنَنِ مِمَّا يَجْعَلُنِي أَحَقَّ بِقَوْلِ الْقَائِلِ:
كَلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةُ نَاصِبِ | وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءِ الْكَوَاكِبِ |
تَطَاوَلَ حَتَّى قُلْتُ لَيْسَ بِمُنْقَضٍ | وَلَيْسَ الَّذِي يَرْعَى النُّجُومَ بِآيِبِ |
وَصَدْرٍ أَرَاحَ اللَّيْلُ عَازِبُ هَمِّهِ | تَضَاعَفَ فِيهِ الْحُزْنَ مِنْ كُلِّ جَانِبِ |
عَلَيَّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ | لِوَالِدِهِ لَيْسَتْ بِذَاتِ عَقَارِبِ |
وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهُمُو | أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ |
وَتَجَلُّدِي لِلسَّامِعِينَ أُرِيهُمُو | شَمْسَ الْحَقِيقَةِ مِنْ سَنَاءٍ تَطْلُعُ |
وَإِنَّ قَصَّرْتُ عَنْ حَقِّهِ فَلَا عُذْرَ لِي فِي التَّقْصِيرِ.
وَإِنِّي لَأَعْتَبِرُ مَا أُقَدِّمُهُ بِدَايَةً لَا نِهَايَةً وَتَذْكِرَةً لِلْآخَرِينَ مِنْ حَاضِرِينَ وَغَائِبِينَ، لَعَلَّهُمْ يُتِمُّونَ مَا بَقِيَ، وَيُكْمِلُونَ مَا نَقَصَ.
وَإِذَا كَانَتِ التَّرَاجِمُ وَالسِّيَرُ تَنْقَسِمُ إِلَى ذَاتِيَّةٍ وَغَيْرِ ذَاتِيَّةٍ. وَالذَّاتِيَّةُ هِيَ مَا يَكْتُبُهَا الشَّخْصُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ طُفُولَتِهِ إِلَى رُجُولَتِهِ. وَيُسَجِّلُ مَا جَرَى لَهُ وَعَلَيْهِ. وَهِيَ أَصْدَقُ مَا تَكُونُ إِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مُعْتَدِلًا أَمِينًا.
وَقَدْ تَرْجَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْهُمُ:
١ - ابْنُ سِينَا الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٤٢٨ كَانَتْ تَرْجَمَتُهُ لِنَفْسِهِ مَرْجِعًا لِكُلِّ مَنْ كَتَبَ عَنْهُ مِنْ تَلَامِيذِهِ.
٢ - وَالْعِمَادُ الْأَصْفَهَانِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٥٩٧ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ " الْبَرْقِ الشَّامِيِّ ".
٣ - وَابْنُ الْخَطِيبِ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٧٧٦.
٤ - وَابْنُ خَلْدُونَ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٨٠٥، وَالسُّيُوطِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَالتَّرْجَمَةُ غَيْرُ الذَّاتِيَّةِ مَا يَكْتُبُ غَيْرُهُ عَنْهُ.
وَإِنَّ مَا أُقَدِّمُهُ فِي هَذَا الْمَجَالِ لَيَجْمَعُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الذَّاتِيِّ، وَغَيْرِ الذَّاتِيِّ، لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا قَالَهُ هُوَ عَنْ نَفْسِهِ وَسَمِعْتُهُ مِنْهُ مُبَاشَرَةً. كَمَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا عَرَفْتُهُ وَلَمَسْتُهُ مِنْ حَيَاتِهِ مُدَّةَ صُحْبَتِي لَهُ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا سَمِعْتُهَا مِنْهُ مُبَاشَرَةً:
الِاسْمُ: هُوَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ وَهُوَ عَلَمٌ مُرَكَّبٌ مِنِ اسْمَيْنِ، وَذِكْرُ مُحَمَّدٍ تَبَرُّكٌ.
وَاللَّقَبُ: آبَّا بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ مِنَ الْإِبَاءِ.
وَاسْمُ أَبِيهِ: مُحَمَّدٌ الْمُخْتَارُ بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ نُوحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَيِّدِي أَحْمَدَ بْنِ الْمُخْتَارِ مِنْ أَوْلَادِ الطَّالِبِ أَوْ بِك وَهَذَا مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِ كَرَيْرِ بْنِ الْمُوَافِي بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ جَاكنَ الْأَبَرِّ، جَدِّ الْقَبِيلَةِ الْكَبِيرَةِ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْجِكْنِيِّينَ. وَيَعْرِفُونَ بِتجكَانْت.
نَسَبُ الْقَبِيلَةِ: وَيَرْجِعُ نَسَبُ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ إِلَى حِمْيَرَ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْمُورِيتَانِيُّ مُحَمَّد فَال وَلَدُ الْعَيْنَيْنِ مُسْتَدِلًّا بِفَصَاحَتِهِمْ عَلَى عُرُوبَتِهِمْ:
إِنَّا بَنُو حَسَنٍ دَلَّتْ فَصَاحَتُنَا | أَنَّا إِلَى الْعَرَبِ الْأَقْحَاحِ نَنْتَسِبُ |
إِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَاتٌ أَنَّنَا عَرَبٌ | فَفِي «اللِّسَانِ» بَيَانٌ أَنَّنَا عَرَبُ |
انْظُرْ إِلَى مَا لَنَا مِنْ كُلِّ قَافِيَةٍ | لَهَا تَنُمُّ شُذُورُ الزِّبْرِجِ الْقَشِبُ |
يَا قَائِلًا طَاعِنًا فِي أَنَّنَا عَرَبٌ | قَدْ كَذَّبَتْكَ لَنَا لُسْنٌ وَأَلْوَانُ |
وَسْمُ الْعُرُوبَةِ بَادٍ فِي شَمَائِلِنَا | وَفِي أَوَائِلِنَا عِزٌّ وَإِيمَانُ |
آسَادُ حِمْيَرَ وَالْأَبْطَالُ مِنْ مُضَرٍ | حُمْرُ السُّيُوفِ فَمَا ذَلُّوا وَلَا هَانُوا |
لَنَا الْعُرُوبَةُ الْفُصْحَى وَإِنَّا | أَحَقُّ الْعَالَمِينَ بِهَا اضْطِلَاعًا |
عَنِ الْكُتُبِ اقْتَبَسْتُمُوهَا انْتِفَاعًا | بِمَا فِيهَا وَنَرْضَعُهَا ارْتِضَاعًا |
الْمَوْطِنُ: كَانَ مَسْقَطُ رَأْسِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ عِنْدَ مَاءٍ يُسَمَّى (تَنْبهَ) مِنْ أَعْمَالِ مُدِيرِيَّةِ (كِيفَا) مِنَ الْقُطْرِ الْمُسَمَّى بِشِنْقِيطَ وَهُوَ دَوْلَةُ مُورِيتَانْيَا الْإِسْلَامِيَّةُ الْآنَ.
عِلْمًا بِأَنَّ كَلِمَةَ شِنْقِيطَ كَانَتْ وَلَا تَزَالُ اسْمًا لِقَرْيَةٍ مِنْ أَعْمَالِ مُدِيرِيَّةٍ أصَارَ فِي أَقْصَى مُورِيتَانْيَا فِي الشَّمَالِ الْغَرْبِيِّ.
نَشْأَتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَبْلَ الْحَدِيثِ عَنْ نَشْأَتِهِ يَحْسُنُ إِيجَازُ نُبْذَةٍ عَنِ الْبِيئَةِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ.
تُعْتَبَرُ الْحَيَاةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ بِحَسَبِ الْمُوَاطِنِينَ قِسْمَيْنِ: عَرَبٌ وَعَجَمٌ وَالْعَرَبِيَّةُ لُغَةُ الْجَمِيعِ.
أَمَّا الْعَمَلُ: فَالْعَجَمُ أَكْثَرُ أَعْمَالِهِمُ الزِّرَاعَةُ وَالصِّنَاعَةُ وَسُلَالَتُهُمْ مِنَ الزُّنُوجِ.
وَأَمَّا الْعَرَبُ فَقِسْمَانِ: طَلَبَةٌ وَغَيْرُ الطَّلَبَةِ. وَالطَّلَبَةُ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالتِّجَارَةُ، وَغَيْرُهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التِّجَارَةُ وَالْإِغَارَةُ. وَهُمْ قَبَائِلُ عِدَّةٌ، وَمِنَ الْقَبَائِلِ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الطَّلَبُ، وَمِنْهَا مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الْإِغَارَةُ وَالْقِتَالُ.
وَقَبِيلَةٌ الْجكنِيِّينَ خَاصَّةً قَدْ جَمَعَتْ بَيْنَ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَفُرُوسِيَّةِ الْقِتَالِ. مَعَ عِفَّةٍ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَفِي هَذَا الْجَوِّ كَانَ طَلَبُ الْعِلْمِ عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ سَوَاءٌ فِي حَلِّهِمْ أَوْ تِرْحَالِهِمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِهِمُ الْعَلَّامَةُ الْمُخْتَارُ بْنُ بُونَا:
وَنَحْنُ رَكْبٌ مِنَ الْأَشْرَافِ مُنْتَظَمُ | أَجَلُّ ذَا الْعَصْرِ قَدْرًا دُونَ أَدْنَانَا |
قَدِ اتَّخَذْنَا ظُهُورَ الْعِيسِ مَدْرَسَةً | بِهَا نُبَيِّنُ دِينَ اللَّهِ تِبْيَانًا |
وَفِي هَذَا الْجَوِّ وَتِلْكَ الْبِيئَةِ نَشَأَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: تُوُفِّيَ وَالِدِي وَأَنَا صَغِيرٌ أَقْرَأُ فِي جُزْءِ عَمَّ، وَتَرَكَ لِي ثَرْوَةً مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْمَالِ، وَكَانَتْ سُكْنَايَ فِي بَيْتِ أَخْوَالِي وَأُمِّي ابْنَةُ عَمِّ أَبِي، وَحَفِظْتُ الْقُرْءَانَ عَلَى خَالِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَارِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ نُوحٍ جَدِّ الْأَبِ الْمُتَقَدِّمِ.
طَلَبُهُ لِلْعِلْمِ: حَفِظَ الْقُرْءَانِ فِي بَيْتِ أَخْوَالِهِ عَلَى خَالِهِ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعُمُرُهُ عَشْرُ سَنَوَاتٍ.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ تَعَلَّمْتُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ (الْمُصْحَفِ الْأُمِّ) عَنِ ابْنِ خَالِي سَيِّدِي مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَارِ، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ التَّجْوِيدَ فِي مَقْرَأِ نَافِعٍ بِرِوَايَةِ وَرْشٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يَعْقُوبَ الْأَزْرَقِ وَقَالُونَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي نَشِيطٍ، وَأَخَذْتُ عَنْهُ سَنَدًا بِذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ وَعُمُرِي سِتَّةَ عَشَرَ سَنَةً.
أَنْوَاعُ الدِّرَاسَةِ فِي الْقُرْءَانِ: تُعْتَبَرُ الدِّرَاسَةُ فِي عُلُومِ الْقُرْءَانِ مَنْهَجًا مُتَكَامِلًا لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْحِفْظِ وَالْأَدَاءِ، بَلْ تَتَنَاوَلُ مَعْرِفَةَ رَسْمِ الْمُصْحَفِ أَيْ نَوْعَ كِتَابَتِهِ مَا كَانَ مَوْصُولًا أَوْ مَفْصُولًا، وَمَا رُسِمَ فِيهِ الْمَدُّ أَوْ كَانَ يُمَدُّ بِدُونِ وُجُودِ حَرْفِ الْمَدِّ، وَقَدْ يَكُونُ حَرْفًا صَغِيرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
ثُمَّ ضَبْطُ مَا فِيهِ مِنْ مَنْشَأَيْهِ فِي الرَّسْمِ أَوِ التِّلَاوَةِ. وَمِنَ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا رَجَزُ (مُحَمَّدِ بْنِ بُوجَهْ) الْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ بِالْبَحْرِ، تَعَرَّضَ فِيهِ لِكُلِّ كَلِمَةٍ جَاءَتْ فِي الْقُرْءَانِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِلَى سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَرَّةً أَيْ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُشْتَبِهَةِ، وَأَفْرَدَ كُلَّ عَدَدٍ بِفَصْلٍ فَمَثَلًا: كَلِمَةُ (أَعْيُنُهُمْ) بِالرَّفْعِ جَاءَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ فِيهَا:
أَعْيُنُهُمْ بِالرَّفْعِ مِنْ غَيْرِ حُضُورْ | مِنْ بَعْدُ كَانَتْ وَتَوَلَّتْ وَتَدُورْ |
أَشْيَاعُ بِالْعَيْنِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرْ | فِي سَبَإٍ مِنْ قَبْلُ بِأَنَّهُمْ ذُكِرْ |
فِي سُورَةِ الْقَمَرِ خَاطِبْ وَانْصِبَا | وَجَلِّهِ وَغَيْبَتُهُ فِي سَبَأٍ |
وَفِي سُورَةِ سَبَأٍ تَكُونُ تِلَاوَتُهَا بِالْغَيْبَةِ وَالْجَرِّ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ وَهَذِهِ دِرَاسَةٌ لَا تَكَادُ تُوجَدُ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَهِيَ مِنَ الْمَهَامِّ الْعِلْمِيَّةِ لِحِفْظِهَا رَسْمَ الْقُرْءَانِ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ وَهِيَ مِنْ آثَارِ تَعَهُّدِ اللَّهِ بِحِفْظِ هَذَا الْقُرْءَانِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِهِ سُبْحَانَهُ.
ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ دَرَسْتُ بَعْضَ الْمُخْتَصَرَاتِ فِي فِقْهِ مَالِكٍ كَرَجَزِ الشَّيْخِ ابْنِ عَاشِرٍ، وَفِي أَثْنَائِهَا أَيْضًا دَرَسْتُ دِرَاسَةً وَاسِعَةً فِي الْأَدَبِ عَلَى زَوْجَةِ خَالِي أُمِّ وَلَدِ الْخَالِ أَيْ أَنَّ وَلَدَ خَالِهِ يُعَلِّمُهُ الْعُلُومَ الْخَاصَّةَ بِالْقُرْآنِ، وَأُمُّهُ تُعَلِّمُهُ الْأَدَبَ، قَالَ: أَخَذْتُ عَنْهَا مَبَادِئَ النَّحْوِ كَالْأُجْرُومِيَّةِ وَتَمْرِينَاتٍ وَدُرُوسٍ وَاسِعَةٍ فِي أَنْسَابِ الْعَرَبِ وَأَيَّامِهِمْ، وَالسِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ، وَنَظْمَ الْغَزَوَاتِ لِأَحْمَدَ الْبَدَوِيِّ الشِّنْقِيطِيِّ وَهُوَ يَزِيدُ عَلَى ٥٠٠ بَيْتٍ وَشُرُوحَهُ لِابْنِ أُخْتِ الْمُؤَلِّفِ الْمَعْرُوفِ بِحَمَّادٍ، وَنَظَرَ عَمُودِ النَّسَبِ لِلْمُؤَلِّفِ وَهُوَ يُعَدُّ بِالْآلَافِ، وَشَرْحَهُ لِابْنِ أُخْتِهِ الْمَذْكُورِ عَلَى خُصُوصِ الْعَدْنَانِيِّينَ، لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ شَرْحِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَحْطَانِيِّينَ.
هَذِهِ دِرَاسَةٌ فِي عُلُومِ الْقُرْءَانِ وَالْأَدَبِ وَالسِّيَرِ وَالتَّارِيخِ كَانَتْ فِي بَيْتِ أَخْوَالِهِ عَلَى أَخْوَالِهِ وَأَبْنَاءِ أَخْوَالِهِ وَزَوْجَاتِ أَخْوَالِهِ، أَيْ كَانَ بَيْتُ أَخْوَالِهِ الْمَدْرَسَةَ الْأُولَى إِلَيْهِ. أَمَّا بَقِيَّةُ الْفُنُونِ فَقَالَ:
أَوَّلًا: الْفِقْهُ الْمَالِكِيُّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ السَّائِدُ فِي الْبِلَادِ دَرَسْتُ مُخْتَصَرَ خَلِيلٍ - بَدَأَ دِرَاسَتَهُ فِيهِ عَلَى الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ إِلَى قِسْمِ الْعِبَادَاتِ - ثُمَّ دَرَسَ عَلَيْهِ النِّصْفَ مِنْ أَلْفِيَّةِ ابْنِ مَالِكٍ. ثُمَّ أَخَذَ بَقِيَّةَ الْفُنُونِ عَلَى مَشَايِخَ مُتَعَدِّدَةٍ، فِي فُنُونٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكُلُّهُمْ مِنَ الْجكنِيِّينَ وَمِنْهُمْ مَشَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ فِي الْبِلَادِ مِنْهُمُ:
٢ - وَالشَّيْخُ أَحْمَدُ الْأَفْرَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَارِ.
٣ - وَالشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ.
٤ - وَالْفَقِيهُ مُحَمَّدٌ النِّعْمَةُ بْنُ زَيْدَانَ.
٥ - وَالْفَقِيهُ الْكَبِيرُ أَحْمَدُ بْنُ مُودْ.
٦ - وَالْعَلَّامَةُ الْمُتَبَحِّرُ فِي الْفُنُونِ أَحْمَدُ فَال بْنُ آدُهْ.
وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَشَايِخِ الْجكنِيِّينَ.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ أَخَذْنَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ كُلَّ الْفُنُونِ: النَّحْوَ، وَالصَّرْفَ، وَالْأُصُولَ، وَالْبَلَاغَةَ. وَبَعْضَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ.
أَمَّا الْمَنْطِقُ وَآدَابُ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ فَقَدْ حَصَّلْنَاهُ بِالْمُطَالَعَةِ.
هَذَا مَا أَمْلَاهُ عَلَيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَجَّلْتُهُ عَنْهُ.
عِلْمًا بِأَنَّ الْفَنَّ الَّذِي دَرَسَهُ عَلَى الْمَشَايِخِ أَوْ مُطَالَعَةً مِنَ الْكُتُبِ، لَمْ يَقْتَصِرْ فِي تَحْصِيلِهِ عَلَى دِرَاسَتِهِ، بَلْ كَانَ دَائِمًا يُدِيمُ النَّظَرَ وَيُوَاصِلُ التَّحْصِيلَ حَتَّى غَدَا فِي كُلٍّ مِنْهُ كَأَنَّهُ مُتَخَصِّصٌ فِيهِ، بَلْ وَلَهُ فِي كُلٍّ مِنْهُ اجْتِهَادَاتٌ وَمَبَاحِثُ مُبْتَكَرَةٌ، سَنُلِمُّ بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ إِيرَادِ الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ لِدِرَاسَتِهِ وَآثَارِهِ الْعِلْمِيَّةِ.
مَنْهَجُهُ الْعِلْمِيُّ فِي الدِّرَاسَةِ:
وَقَبْلَ إِيرَادِ الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ لَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي دِرَاسَتِهِ، نُلِمُّ بِالْمَنْهَجِ الْعَامِّ السَّائِدِ فِي بِلَادِهِ لِكَافَّةِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ وَطَرِيقَةِ تَحْصِيلِهِ.
تُعْتَبَرُ طَرِيقَةُ الدِّرَاسَةِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ جُزْءًا مِنْ حَيَاةِ الْبَوَادِي حِلًّا وَارْتِحَالًا. وَإِذَا أَقَامَ أَحَدُ الْمَشَايِخِ فِي مَكَانٍ تَوَافَدَ عَلَيْهِ الطُّلَّابُ لِلدِّرَاسَةِ عَلَيْهِ وَمَكَثَ حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْهُ، وَقَدْ يُقِيمُ بِصِفَةٍ دَائِمَةٍ لِدَوَامِ الدِّرَاسَةِ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ لَهُ «الْمُرَابِطُ» نَظَرًا لِإِقَامَتِهِ الدَّائِمَةِ لِنَشْرِ الْعِلْمِ.
فَيَنْزِلُونَ حَوْلَ بَيْتِهِ وَيَبْنُونَ لَهُمْ خِيَامًا أَوْ مَسَاكِنَ مُؤَقَّتَةً. وَيَكُونُ لَهُمْ مَجْلِسُ عِلْمٍ لِلدَّرْسِ وَالْمُنَاقَشَةِ وَالِاسْتِذْكَارِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَابِطُ مُخْتَصًّا بِفَنٍّ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَدْرُسُ عِدَّةَ فُنُونٍ. فَإِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِفَنٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّ دُرُوسَهُ تَكُونُ فِي هَذَا الْفَنِّ مُوَزَّعَةً فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ مِنْهُ بِحَسَبِ مَجْمُوعَاتِ الطُّلَّابِ، فَقَدْ تَكُونُ مَجْمُوعَةٌ فِي الْبِدَايَةِ مِنْهُ، وَمَجْمُوعَةٌ فِي النِّهَايَةِ وَأُخْرَى فِي أَثْنَائِهِ وَهَكَذَا. فَتَتَقَدَّمُ كُلُّ مَجْمُوعَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَتَدْرُسُ عَلَى الشَّيْخِ، ثُمَّ تَأْتِي الْمَجْمُوعَةُ الْأُخْرَى وَهَكَذَا.
وَإِذَا كَانَ يَدْرُسُ عِدَّةَ فُنُونٍ، فَإِنَّهُ يُقَسِّمُ طُلَّابَ كُلِّ فَنٍّ عَلَى النَّحْوِ الْمُتَقَدِّمِ.
إِفْرَادُ الْفُنُونِ: وَلَا يَحِقُّ لِطَالِبٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ فَنَّيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، بَلْ يَدْرُسُ فَنًّا حَتَّى يُكْمِلَهُ كَالنَّحْوِ مَثَلًا، ثُمَّ يَبْدَأُ فِي الْبَلَاغَةِ حَتَّى يُكْلِمَهَا. وَهَكَذَا يَبْدَأُ مَثَلًا فِي الْفِقْهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ ثُمَّ يَبْدَأُ فِي الْأُصُولِ حَتَّى يُكْمِلَهُ. سَوَاءٌ دَرَسَهَا عَلَى عِدَّةِ مَشَايِخَ أَوْ عَلَى شَيْخٍ وَاحِدٍ.
طَرِيقَةُ الدِّرَاسَةِ الْيَوْمِيَّةِ: يَبْدَأُ الطَّالِبُ بِكِتَابَةِ الْمَتْنِ فِي اللَّوْحِ الْخَشَبِيِّ فَيَكْتُبُ قَدْرَ مَا يَسْتَطِيعُ حِفْظَهُ، ثُمَّ يَمْحُوهُ، ثُمَّ يَكْتُبُ قَدْرًا آخَرَ حَتَّى يَحْفَظَ مَقْرَأً مِنَ الْفَنِّ حَسَبَ التَّقْسِيمِ الْمَعْهُودِ. فَمَثَلًا النَّحْوُ، تُعْتَبَرُ الْأَلْفِيَّةُ أَرْبَعَةَ مَقَارِئٍ، وَيُعْتَبَرُ مَتْنُ خَلِيلٍ فِي الْفِقْهِ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ.
فَإِذَا حَفِظَ الطَّالِبُ مَقْرَأً مِنَ الْفَنِّ تَقَدَّمَ لِلدِّرَاسَةِ فَيَشْرَحُهُ لَهُ الشَّيْخُ شَرْحًا وَافِيًا بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ مِنْ تَحْصِيلٍ، دُونَ أَنْ يَفْتَحَ كِتَابًا، أَوْ يَحْضُرَ فِي مَرْجِعٍ ثُمَّ يَقُومُ هَؤُلَاءِ لِلِاسْتِذْكَارِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَمُنَاقَشَةِ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ، وَقَدْ يَأْخُذُونَ بَعْضَ الشُّرَّاحِ لِمُقَابَلَتِهِ عَلَى مَا سَمِعُوهُ أَوْ يَرْجِعُونَ إِلَى بَعْضِ الْحَوَاشِي، وَلَا يَجْتَازُونَ ذَاكَ الْمَكَانَ مِنَ الدَّرْسِ حَتَّى يَرَوْا أَنَّهُمْ قَدْ حَصَّلُوا كُلَّ مَا فِيهِ. وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ سُرْعَةٍ أَوْ إِنْهَاءِ كِتَابٍ بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ فَهْمِ وَتَحْصِيلِ مَا فِي الْبَابِ، وَقَدْ ذَكَرُوا عَنْ بَعْضِ الطُّلَّابِ مِمَّنْ عُرِفُوا بِالذَّكَاءِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّحْصِيلِ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَزِيدُ فِي مَتْنِ خَلِيلٍ عَلَى سَطْرَيْنِ فَقَطْ. فَقِيلَ لَهُ لِمَ لَا تَزِيدُ وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى
الْحَيَاةُ الدِّرَاسِيَّةُ:
دِرَاسَةُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ كَانَتْ دِرَاسَةُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ، إِلَّا أَنَّهُ تَمَيَّزَ بِبَعْضِ الْأُمُورِ، قَلَّ أَنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ، نُوجِزُ مِنْهَا كَالْآتِي:
١ - فِي مَبْدَأِ دِرَاسَتِهِ: تَقَدَّمَ أَنَّهُ أُتِيحَ لَهُ فِي بَادِئِ دِرَاسَتِهِ مَا لَمْ يُتَحْ لِغَيْرِهِ حَيْثُ كَانَ بَيْتُ أَخْوَالِهِ مَدْرَسَتَهُ الْأُولَى، فَلَمْ يَرْحَلْ فِي بَادِئِ أَمْرِهِ لِلطَّلَبِ، وَكَانَ وَحِيدَ وَالِدَيْهِ، فَكَانَ فِي مَكَانِ التَّدَلُّلِ وَالْعِنَايَةِ.
٢ - قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُنْتُ أَمِيلُ إِلَى اللَّعِبِ أَكْثَرَ مِنَ الدِّرَاسَةِ حَتَّى حَفِظْتُ الْحُرُوفَ الْهِجَائِيَّةَ وَبَدَأُوا يُقْرِئُونَنِي إِيَّاهَا بِالْحَرَكَاتِ، بَا فُتْحَةُ بَا، بِي كَسْرَةُ بِي، بُو ضَمَّةُ بُو، وَهَكَذَا ت د ث. فَقُلْتُ لَهُمْ أَوَ كُلُّ الْحُرُوفِ هَكَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقُلْتُ: كَفَى إِنِّي أَسْتَطِيعُ قِرَاءَتَهَا كُلَّهَا عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ كَيْ يَتْرُكُونَنِي فَقَالُوا: اقْرَأْهَا، فَقَرَأْتُ بِثَلَاثَةِ حُرُوفٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ وَتَنَقَّلْتُ إِلَى آخِرِهَا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، فَعَرَفُوا أَنِّي فَهِمْتُ قَاعِدَتَهَا وَاكْتَفَوْا مِنِّي بِذَلِكَ وَتَرَكُونِي. وَمِنْ ثَمَّ حُبِّبَتْ إِلَيَّ الْقِرَاءَةُ.
٣ - وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَمَّا حَفِظْتُ الْقُرْءَانَ، وَأَخَذْتُ الرَّسْمَ الْعُثْمَانِيَّ، وَتَفَوَّقْتُ فِيهِ عَلَى الْأَقْرَانِ عُنِيَتْ بِي وَالِدَتِي وَأَخْوَالِي أَشَدَّ عِنَايَةٍ، وَعَزَمُوا عَلَى تَوْجِيهِي لِلدِّرَاسَةِ فِي بَقِيَّةِ الْفُنُونِ. فَجَهَّزَتْنِي وَالِدَتِي بِجَمَلَيْنِ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ مَرْكَبِي وَكُتُبِي، وَالْآخِرُ عَلَيْهِ نَفَقَتِي وَزَادِي، وَصَحِبَنِي خَادِمٌ وَمَعَهُ عِدَّةُ بَقَرَاتٍ، وَقَدْ هَيَّأَتْ لِي مَرْكَبِي كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنْ مَرْكَبٍ وَمَلَابِسَ كَأَحْسَنِ مَا تَكُونُ فَرَحًا بِي وَتَرْغِيبًا لِي فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَهَكَذَا سَلَكْتُ سَبِيلَ الطَّلَبِ وَالتَّحْصِيلِ.
تَقُومُ الْحَيَاةُ الدِّرَاسِيَّةُ عَلَى أَسَاسِ مَنْعِ الْكُلْفَةِ وَتَمَامِ الْأُلْفَةِ سَوَاءٌ بَيْنَ الطُّلَّابِ أَنْفُسِهِمْ أَوْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَيْخِهِمْ مَعَ كَمَالِ الْأَدَبِ وَوَقَارِ الْحِشْمَةِ. وَقَدْ تَتَخَلَّلُهَا الطُّرَفُ الْأَدَبِيَّةُ وَالْمُحَاوَرَاتُ الشِّعْرِيَّةُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى بَعْضِ الْمَشَايِخِ لِأَدْرُسَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُنِي مِنْ قَبْلُ، فَسَأَلَ عَنِّي مَنْ أَكُونُ، وَكَانَ فِي مَلَأٍ مِنْ تَلَامِذَتِهِ فَقُلْتُ مُرْتَجِلًا:
هَذَا فَتًى مِنْ بَنِي جَاكَانَ قَدْ نَزَلَا | بِهِ الصِّبَا عَنْ لِسَانِ الْعُرْبِ قَدْ عَدَلَا |
رَمَتْ بِهِ هِمَّةٌ عَلْيَاءُ نَحْوَكُمْ | إِذْ شَامَ بَرْقَ عُلُومٍ نُورُهُ اشْتَعَلَا |
فَجَاءَ يَرْجُو رُكَامًا مِنْ سَحَائِبِهِ | تَكْسُو لِسَانَ الْفَتَى أَزْهَارُهُ حُلَلًا |
إِذْ ضَاقَ ذَرْعًا بِجَهْلِ النَّحْوِ ثُمَّ أَبَا | أَلَّا يُمَيِّزَ شَكْلَ الْعَيْنِ مِنْ فَعَلَا |
قَدْ أَتَى الْيَوْمَ صَبًّا مُولَعًا كَلِفًا | بِالْحَمْدِ لِلَّهِ لَا أَبْغِي لَهُ بَدَلًا |
وَقَدْ مَضَى رَحِمَهُ اللَّهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ قُدُمًا وَقَدْ أَلْزَمَهُ بَعْضُ مَشَايِخِهِ بِالْقِرَانِ. أَيْ أَنَّ يَقْرِنَ بَيْنَ كُلِّ فَنَّيْنِ حِرْصًا عَلَى سُرْعَةِ تَحْصِيلِهِ وَتَفَرُّسًا لَهُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَانْصَرَفَ بِهِمَّةٍ عَالِيَةٍ فِي دَرْسٍ وَتَحْصِيلٍ.
وَقَدْ خَاطَبَهُ بَعْضُ أَقْرَانِهِ فِي أَمْرِ الزَّوَاجِ فَقَالَ فِي ذَلِكَ، وَفِي الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ:
دَعَانِي النَّاصِحُونَ إِلَى النِّكَاحِ | غَدَاةَ تَزَوَّجَتْ بِيضُ الْمِلَاحِ |
فَقَالُوا لِي تَزَوَّجْ ذَاتَ دَلٍّ | خَلُوبَ اللَّحْظِ جَائِلَةَ الْوِشَاحِ |
تَبَسَّمُ عَنْ نَوْشَرَةٍ رِقَاقِ | يَمُجُّ الرَّاحَ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ |
كَأَنَّ لِحَاظَهَا رَشَقَاتُ نَبْلٍ | تُذِيقُ الْقَلْبَ آلَامَ الْجِرَاحِ |
وَلَا عَجَبَ إِذَا كَانَتْ لِحَاظٌ | لِبَيْضَاءِ الْمَحَاجِرِ كَالرِّمَاحِ |
فَكَمْ قَتَلَا كَمِّيًّا ذَا وَلَاحِي | ضَعِيفَاتُ الْجُفُونِ بِلَا سِلَاحِ |
فَقُلْتُ لَهُمْ دَعُونِي إِنَّ قَلْبِي | مِنَ الْعِيِّ الصُّرَاحِ الْيَوْمَ صَاحِي |
وَلِي شَغْلٌ بِأَبْكَارٍ عَذَارَى | كَأَنَّ وُجُوهَهَا ضَوْءُ الصَّبَاحِ |
أَرَاهَا فِي الْمَهَارِقِ لَابِسَاتٍ | بِرَاقِعَ مِنْ مَعَانِيهَا الصِّحَاحِ |
أَبِيتُ مُفَكِّرًا فِيهَا فَتَضْحَى | لِفَهْمِ الْفَدْمِ خَافِضَةَ الْجَنَاحِ |
أَبَحْتُ حَرِيمَهَا جَبْرًا عَلَيْهَا | وَمَا كَانَ الْحَرِيمُ بِمُسْتَبَاحِ |
حَدَّثَنِي رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: جِئْتُ لِلشَّيْخِ فِي قِرَاءَتِي عَلَيْهِ فَشَرَحَ لِي كَمَا كَانَ يَشْرَحُ،
فَقَدْ بَاتَ مُفَكِّرًا فِيهَا فَأَضْحَتْ | لِفَهْمِ الْفَدْمِ خَافِضَةَ الْجَنَاحِ |
وَتِلْكَ هِيَ آفَةُ الدِّرَاسَةِ النِّظَامِيَّةِ الْيَوْمَ وَكُنْتُ كُلَّمَا ضَجِرْتُ فِي تَحْقِيقِهَا، تَذَكَّرْتُ قِصَّتَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصَبَرْتُ حَتَّى حَصَّلْتُهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَكَانَ مِنْ بَعْدِ الظُّهْرِ إِلَى هَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَلَكِنْ كَمْ كَانَتْ لَذَّتِي وَارْتِيَاحِي.
وَمَعَ هَذِهِ الشَّاعِرِيَّةِ الرَّقْرَاقَةِ وَالْمَعَانِي الْعِذَابِ الْفَيَّاضَةِ وَالْأُسْلُوبِ السَّهْلِ الْجَزْلِ، فَقَدْ كَانَ يَتَبَاعَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْلِ الشِّعْرِ مَعَ وَفْرَةِ حِفْظِهِ إِيَّاهُ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ أَبْيَاتٌ يَقُولُ فِيهَا:
أُنْقِذْتُ مِنْ دَاءِ الْهَوَى بِعِلَاجٍ | شَيْبٍ يَزِينُ مُفَارِقِي كَالتَّاجِ |
قَدْ صَدَّنِي حِلْمُ الْأَكَابِرِ عَنْ لَمِيِّ | شَفَةِ الْفَتَاةِ الطَّفْلَةِ الْمِغْنَاجِ |
مَاءُ الشَّبِيبَةِ زَارِعٌ فِي صَدْرِهَا | رُمَّانَتَيْ رَوْضٍ كَحُقِّ الْعَاجِ |
وَكَأَنَّهَا قَدْ أَدْرَجَتْ فِي بُرْقُعٍ | يَا وَيْلَتَاهُ بِهَا شُعَاعَ سِرَاجِ |
وَكَأَنَّمَا شَمْسُ الْأَصِيلِ مُذَابَةٌ | تَنْسَابُ فَوْقَ جَبِينِهَا الْوَهَّاجِ |
يُعْلَى لِمَوْقِعٍ فِي خِدْرِهَا | فَوْقَ الْحَشِيَّةِ نَاعِمِ الدِّيبَاجِ |
لَمْ يَبْكِ عَيْنِي بَيْنَ حَيٍّ جِيرَةً | شَدُّوا الْمَطِيَّ بِأَنْسَعِ الْأَحْدَاجِ |
نَادَتْ بِأَنْغَامِ اللُّحُونِ حُدَاتُهُمْ | فَتَزَيَّلُوا وَاللَّيْلُ أَلْيَلُ دَاجِي |
لَا تَصْطَبِينِي عَاتِقٌ فِي دَلِّهَا | رَقَّتْ فَرَاقَتْ فِي رِقَاقِ زُجَاجِ |
مَخْضُوبَةٌ مِنْهَا بَنَانُ مُدِيرِهَا | إِذْ لَمْ تَكُنْ مَقْتُولَةً بِمِزَاجِ |
طَابَتْ نُفُوسُ الشِّرْبِ حَيْثُ أَدَارَهَا | رَشَأٌ رَمَى بِلِحَاظِ طَرْفٍ سَاجِي |
أَوْ ذَاتُ عُودٍ أَنْطَقَتْ أَوْتَارَهَا | بِلُحُونِ قَوْلٍ لِلْقُلُوبِ شَوَاجِي |
فَتَخَالُ رَنَّاتِ الْمَثَانِي أَحْرُفًا | قَدْ رُدِّدَتْ فِي الْحَلْقِ مِنْ مُهْتَاجِ |
وَلَوْلَا الشِّعْرُ بِالْعُلَمَاءِ يُزْرِي | لَكُنْتُ الْيَوْمَ أَشْعَرَ مِنْ لَبِيَدِ |
وَمَعَ هَذَا فَقَدْ كَانَتْ لَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ عِدَّةُ مُؤَلِّفَاتٍ نَظْمًا فِي عِدَّةِ فُنُونٍ سَيَأْتِي بَيَانُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
أَعْمَالُهُ فِي الْبِلَادِ: كَانَتْ أَعْمَالُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَعَمَلِ أَمْثَالِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الدَّرْسَ وَالْفُتْيَا، وَلَكِنَّهُ كَانَ قَدِ اشْتُهِرَ بِالْقَضَاءِ وَبِالْفِرَاسَةِ فِيهِ، وَرَغْمَ وُجُودِ الْحَاكِمِ الْفَرَنْسِيِّ إِلَّا أَنَّ الْمُوَاطِنِينَ كَانُوا عَظِيمِي الثِّقَةِ فِيهِ فَيَأْتُونَهُ لِلْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ وَيَفِدُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمَاكِنَ بَعِيدَةٍ أَوْ حَيْثُ يَكُونُ نَازِلًا.
طَرِيقَتُهُ فِي الْقَضَاءِ: كَانَ إِذَا أَتَى إِلَيْهِ الطَّرَفَانِ اسْتَكْتَبَهُمَا رَغْبَتَهُمَا فِي التَّقَاضِي إِلَيْهِ وَقَبُولَهُمَا مَا يَقْضِي بِهِ، ثُمَّ يَسْتَكْتِبُ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ وَيَكْتُبُ جَوَابَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَسْفَلَ كِتَابَةِ الدَّعْوَى وَيَكْتُبُ الْحُكْمَ مَعَ الدَّعْوَى وَالْإِجَابَةَ وَيَقُولُ لَهُمَا اذْهَبَا بِهَا إِلَى مَنْ شِئْتُمَا مِنَ الْمَشَايِخِ أَوِ الْحُكَّامِ.
أَمَّا الْمَشَايِخُ فَلَا يَأْتِي أَحَدَهُمْ قَضِيَّةٌ قَضَاهَا إِلَّا صَدَّقُوا عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْحُكَّامُ فَلَا تَصِلُهُمْ قَضِيَّةٌ حَكَمَ فِيهَا إِلَّا نَفَّذُوا حُكْمَهُ حَالًا. وَكَانَ يَقْضِي فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْحُدُودِ وَكَانَ لِلدِّمَاءِ قَضَاءٌ خَاصٌّ.
وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدَ أَعْضَاءِ هَذِهِ اللَّجْنَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ بِلَادِهِ حَتَّى عَلَا قَدْرُهُ وَعَظُمَ تَقْدِيرُهُ، وَكَانَ عَلَمًا مِنْ أَعْلَامِهَا وَمَوْضِعَ ثِقَةِ أَهْلِهَا وَحُكَّامِهَا وَمَحْكُومِهَا.
خُرُوجُهُ مِنْ بِلَادِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ خُرُوجُهُ مِنْ بِلَادِهِ لِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ وَعَلَى نِيَّةِ الْعَوْدَةِ وَكَانَ سَفَرُهُ بَرًّا، كَتَبَ فِيهِ رِحْلَةً ضَمَّنَهَا مَبَاحِثَ جَلِيلَةً كَانَ آخِرُهَا مَبْحَثَ الْقَضَايَا الْمُوَجَّهَةِ فِي الْمَنْطِقِ مَعَ عُلَمَاءِ أُمِّ دُرْمَانَ بِالْمَعْهَدِ الْعِلْمِيِّ بِالسُّودَانِ.
وَبَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى هَذِهِ الْبِلَادِ تَجَدَّدَتْ نِيَّةُ بَقَائِهِ. وَلَعَلَّ مِنَ الْخَيْرِ وَبَيَانِ الْوِقَاعِ ذِكْرُ سَبَبِ بَقَائِهِ: لَقَدْ كَانَ فِي بِلَادِهِ كَغَيْرِهِ يَسْمَعُ الدِّعَايَةَ ضِدَّ هَذِهِ الْبِلَادِ بِاسْمِ الْوَهَّابِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الصِّدْقِ قَدْ تَغَيَّرَ مِنْ وِجْهَاتِ النَّظَرِ «وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا هَيَّأَ لَهُ الْأَسْبَابَ» وَمِنْ عَجِيبِ الصُّدَفِ أَنْ يَنْزِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَعْضِ مَنَازِلِ الْحَجِّ بِجِوَارِ خَيْمَةِ الْأَمِيرِ خَالِدِ السّديرِيِّ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَكَانَ الْأَمِيرُ خَالِدٌ يَبْحَثُ مَعَ جُلَسَائِهِ بَيْتًا فِي الْأَدَبِ وَهُوَ ذَوَّاقَةٌ أَدِيبٌ وَامْتَدَّ الْحَدِيثُ إِلَى أَنْ سَأَلُوا الشَّيْخَ لَعَلَّهُ يُشَارِكُهُمْ فَوَجَدُوا بَحْرًا لَا سَاحِلَ لَهُ، وَمِنْ تِلْكَ الْجِلْسَةِ وَذَاكَ الْمَنْزِلِ تَعَدَّلَتِ الْفِكْرَةُ بَلْ كَانَتْ تِلْكَ الْخَيْمَةُ بِدَايَةَ مُنْطَلَقٍ لِفِكْرَةٍ جَدِيدَةٍ، وَأَوْصَاهُ الْأَمِيرُ إِنْ هُوَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَنْ يَلْتَقِيَ بِالشَّيْخَيْنِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الزَّاحِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صَالِحٍ حَفِظَهُ اللَّهُ.
وَفِي الْمَدِينَةِ الْتَقَى بِهِمَا رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ صَرِيحًا مَعَهُمَا فِيمَا يَسْمَعُ عَنِ الْبِلَادِ وَكَانَا حَكِيمَيْنِ فِيمَا يَعْرِضَانِ عَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ مَذْهَبٍ فِي الْفِقْهِ وَمَنْهَجٍ فِي الِعَقِيدَةِ.
وَكَانَ أَكْثَرُهُمَا مُبَاحَثَةً مَعَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صَالِحٍ. وَأَخِيرًا قَدَّمَ لِلشَّيْخِ كِتَابَ الْمُغْنِي كَأَصْلٍ لِلْمَذْهَبِ وَبَعْضَ كُتُبِ الشَّيْخِ ابْنِ تَيْمِيَةَ كَمَنْهَجٍ لِلْعَقِيدَةِ، فَقَرَأَهَا الشَّيْخُ وَتَعَدَّدَتِ اللِّقَاءَاتُ وَطَالَتِ الْجِلْسَاتُ فَوَجَدَ الشَّيْخُ مَذْهَبًا مَعْلُومًا لِإِمَامٍ جَلِيلٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَرَغِبَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْجِوَارِ الْكَرِيمِ وَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ أَعْظَمَ مِنْ تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَمَّ ذَلِكَ بِأَمْرٍ مِنْ جَلَالَةِ الْمَلِكِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ الشَّيْخَانِ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ وَدَرَسَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صَالِحٍ الصَّرْفَ وَالْبَيَانَ عَلَيْهِ. رَحِمَ اللَّهُ الْمَوْتَى وَحَفِظَ اللَّهُ الْأَحْيَاءَ.
وَهُنَا كَلِمَةٌ يَجِبُ أَنْ تُقَالَ لِلْحَقِيقَةِ وَلِطَلَبَةِ الْعِلْمِ خَاصَّةً نَضَعُهَا فِي مِيزَانِ الْعَدَالَةِ وَقَانُونِ الْإِنْصَافِ: لَقَدْ كَانَ لِجُلُوسِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَائِدَةٌ مُزْدَوِجَةٌ اسْتَفَادَ وَأَفَادَ.
أَمَّا اسْتِفَادَتُهُ فَأَمْرٌ حَتْمِيٌّ وَمَنْطِقُهُ عِلْمِيٌّ لِلْآتِي:
وَهُوَ أَنَّ مَنْهَجَ الدِّرَاسَةِ فِي بِلَادِهِ كَانَ مُنْصَبًّا أَكْثَرَ مَا يَكُونُ عَلَى الْفِقْهِ، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فَقَطْ. وَعَلَى الْعَرَبِيَّةِ مَتْنًا وَأُسْلُوبًا، وَالْأُصُولِ وَالسِّيرَةِ وَالتَّفْسِيرِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ دَرَسَ الْمَنْطِقَ بِالْمُطَالَعَةِ وَلَمْ تَكُنْ دِرَاسَةُ الْحَدِيثِ تَحْظَى بِمَا يَحْظَى بِهِ غَيْرُهَا لِلِاقْتِصَارِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَكَانَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِمَامًا فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا هُوَ شَائِعٌ فِي الْبِلَادِ.
وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الْبَقَاءِ وَبَدَأَ التَّدْرِيسَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَخَالَطَ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ وَجَدَ مَنْ يُمَثِّلُ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ، وَمَنْ يُنَاقِشُ فِيهَا، وَوَجَدَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ دِرَاسَةً لَا تَقْتَصِرُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ. بَلْ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ، فَكَّانِ لَا بُدَّ مِنْ دِرَاسَةِ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ بِجَانِبِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَبِمَا أَنَّ الْخِلَافَ الْمَذْهَبِيَّ لَا يُنْهِيهِ إِلَّا الْحَدِيثُ أَوِ الْقُرْءَانِ، فَكَانَ لِزَامًا مِنَ التَّوَسُّعِ فِي دِرَاسَةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ سَاعَدَ الشَّيْخَ عَلَى هَذَا التَّوَسُّعِ وَالِاسْتِيعَابِ وَقُوَّةِ الِاسْتِدْلَالِ وَدِقَّةِ التَّرْجِيحِ مَا هُوَ مُتَمَكِّنٌ فِيهِ مِنْ فَنِّ الْأُصُولِ وَالْعَرَبِيَّةِ، مَعَ تَوَسُّعِهِ فِي دِرَاسَةِ الْحَدِيثِ، وَبِالْأَخَصِّ الْمَجَامِيعُ كَنَيْلِ الْأَوْطَارِ وَفَتْحِ الْبَارِي وَغَيْرِهَا.
وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي مَنْهَجِهِ فِي أَضْوَاءِ الْبَيَانِ حِينَمَا يَعْرِضُ لِمَبْحَثٍ فِقْهِيٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَيَسْتَوْفِيَ فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، وَيُرَجِّحُ مَا يَظْهَرُ لَهُ بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَقْلًا كَانَ أَوْ نَقْلًا.
وَهَذَا الْمَنْهَجُ هُوَ سَبِيلُ أَهْلِ التَّحْصِيلِ، الدَّأْبُ عَلَى الدِّرَاسَةِ، وَمُوَاصَلَةُ الْمُطَالَعَةِ وَالتَّنْقِيحِ.
وَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ تَضَعُ بَيْنَ يَدَيْ طَالِبِ الْعِلْمِ مَنْهَجَ الِاسْتِزَادَةِ فِي التَّحْصِيلِ وَطُمُوحَهُ فِيهِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ أَبَدًا: طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ مَالٍ هَذَا جَانِبُ اسْتِفَادَتِهِ، أَمَّا جَانِبُ إِفَادَتِهِ فَهُوَ مَا سَنَتَحَدَّثُ عَنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
أَوَّلًا: فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ: يُعْتَبَرُ التَّدْرِيسُ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ مِنْ أَهَمِّ التَّدْرِيسِ فِي كُبْرَيَاتِ جَامِعَاتِ الْعَالَمِ، فِي نَشْرِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْجَامِعَةُ الْأُولَى لِلتَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ مُنْذُ عَهْدِ النُّبُوَّةِ. وَحِينَ كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْتِي لِتَعْلِيمِ الْإِسْلَامِ فِي مَجَالِسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمُنْذُ كَانَتْ مَجَالِسُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. إِذْ كَانَتِ الْمَدِينَةُ الْعَاصِمَةَ الْعِلْمِيَّةَ وَظَلَّتْ مُحَافِظَةً عَلَى مَرْكَزِهَا الْعِلْمِيِّ، وَلَمْ تَخْلُ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ مِنْ عَالِمٍ يَقُومُ بِحَقِّ اللَّهِ فِيهَا.
وَقَبْلَ مَجِيءِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ قَبْلَهُ الشَّيْخُ الطَّيِّبُ رَحِمَهُ اللَّهُ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ كَثِيرًا. وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ١٣٦٣ هـ. فَكَانَ جُلُوسُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلتَّدْرِيسِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ امْتِدَادًا لِمَا كَانَ قَبْلَهُ، مَعَ مَنْ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ آنَذَاكَ مِنْ تَلَامِيذِ الشَّيْخِ الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ دَرْسُ الشَّيْخِ فِي التَّفْسِيرِ، خَتَمَ الْقُرْءَانَ مَرَّتَيْنِ.
مَنْهَجُهُ فِي دَرْسِهِ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّفْسِيرَ لَا يَنْحَصِرُ فِي مَوْضُوعٍ فَهُوَ شَامِلٌ عَامٌّ بِشُمُولِ الْقُرْءَانِ وَعُمُومِهِ، فَكَانَ الْمَنْهَجُ أَوَّلًا بَيَانَ الْمُفْرَدَاتِ ثُمَّ الْإِعْرَابَ وَالتَّصْرِيفَ ثُمَّ الْبَلَاغَةَ مَعَ إِيرَادِ الشَّوَاهِدِ عَلَى مَا يُورَدُ.
ثُمَّ يَأْتِي إِلَى الْأَحْكَامِ إِنْ كَانَ مَوْضُوعُ الْآيَةِ فِقْهًا، فَيَسْتَقْصِي بِاسْتِنْتَاجِ الْحُكْمِ وَبَيَانِ الْأَقْوَالِ وَالتَّرْجِيحِ لِمَا يَظْهَرُ لَهُ. وَيَدْعَمُ ذَلِكَ بِالْأُصُولِ وَبَيَانِ الْقُرْءَانِ وَعُلُومِ الْقُرْءَانِ مِنْ عَامٍّ
وَإِذَا كَانَتِ الْآيَةُ فِي قَصَصٍ أَظْهَرَ الْعِبَرَ مِنَ الْقِصَّةِ وَبَيَّنَ تَارِيخَهَا وَقَدْ يَرْبِطُ الْحَاضِرَ بِالْمَاضِي كَرَبْطِ تَكَشُّفِ النِّسَاءِ الْيَوْمَ بِفِتْنَةِ إِبْلِيسَ لِحَوَّاءَ فِي الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا، وَفِتْنَتِهِ لِلْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى طَافُوا بِالْبَيْتِ عَرَايَا رِجَالًا وَنِسَاءً وَهَا هُوَ يَسْتَدْرِجُهُنَّ فِي التَّكَشُّفِ شَيْئًا فَشَيْئًا. بَدَأَ بِكَشْفِ الْوَجْهِ ثُمَّ الرَّأْسِ ثُمَّ الذِّرَاعَيْنِ... إلخ. فَكَانَ أُسْلُوبًا عِلْمِيًّا وَتَرْبَوِيًّا فِي آنٍ وَاحِدٍ، كَمَا كَانَ أَحْكَامًا وَحُكْمًا.
وَكَانَ دَرْسُهُ أَشْبَهَ بِحَدِيقَةٍ غَنَّاءَ احْتَوَتْ أَشْهَرَ الثِّمَارِ وَأَجْمَلَ الْأَزْهَارِ، فِي تَنْسِيقِ الْغَرْسِ وَجَمَالِ الْجَدَاوِلِ تَشْرَحُ الصَّدْرَ وَتَشْفِي الْقَلْبَ وَتَرُوقُ لِلْعَيْنِ. فَيَسْتَفِيدُ مِنْهُ جَمِيعُ النَّاسِ وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مَا طَابَ لَهُ وَمَا وَسِعَهُ.
وَقَدْ يَسْتَطْرِدُ لِلْقَاعِدَةِ بِمَبْحَثٍ كَامِلٍ كَمَا اسْتَطْرَدَ فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ فِي رَدِّهِ الْقِيَاسَ بِإِتْيَانِهِ بِأَنْوَاعِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ، وَقَدْ طُبِعَ فِي نِهَايَةِ مُذَكِّرَةِ الْأُصُولِ تَعْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ. وَبِهَذَا الشُّمُولِ وَالِاسْتِقْصَاءِ لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ مَجَالًا لِسُؤَالٍ وَلَمْ يَبْقَ لِذِي حَاجَةٍ تَسَاؤُلٌ.
وَأَذْكُرُ كَلِمَةً لِقَاضِي قَرْيَةِ «قرو» فِي مُورِيتَانْيَا بَعْدَ أَنْ سُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ مَهَامَّ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ، وَأَجَابَ إِجَابَةً مُسْتَفِيضَةً مُفَصَّلَةً كَافِيَةً. قَالَ قَاضِي قرو: لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ هُنَا كَلَامٌ فَقَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ. وَلَا سُؤَالَ فَقَدْ زَالَ اللَّبْسُ، وَإِنَّ الْحُضُورَ بَيْنَ أَحَدِ رَجُلَيْنِ، عَالِمٌ فَقَدْ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ سُؤَالٌ، وَجَاهِلٌ فَلَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ.
فَكَانَ نَفْعُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ لِلْمُقِيمِ وَالْقَادِمِ لِلْقَاصِي وَالدَّانِي نَفْعًا عَظِيمًا.
ثَانِيًا: فِي سَنَةِ ١٣٧١ هـ افْتُتِحَتِ الْإِدَارَةُ الْعَامَّةُ بِالرِّيَاضِ عَلَى مَعْهَدٍ عِلْمِيٍّ، تَلَاهُ عِدَّةُ مَعَاهِدَ وَكُلِّيَّتَا الشَّرِيعَةِ وَاللُّغَةِ.
وَاخْتِيرَ لِلتَّدْرِيسِ فِي الْمَعْهَدِ وَالْكُلِّيَّتَيْنِ نُخْبَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ دَاخِلِ وَخَارِجِ الْمَمْلَكَةِ. وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِمَّنِ اخْتِيرَ لِذَلِكَ فَتَوَلَّى تَدْرِيسَ التَّفْسِيرِ وَالْأُصُولِ إِلَى سَنَةِ ١٣٨١ هـ حِينَ افْتُتِحَتِ الْجَامِعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِالْمَدِينَةِ.
آثَارُهُ فِي الرِّيَاضِ: كَانَتْ مُدَّةُ اخْتِيَارِهِ لِلتَّدْرِيسِ بِالرِّيَاضِ عَشْرَ سَنَوَاتٍ دِرَاسِيَّةٍ، يَعُودُ
كَانَتِ الرِّيَاضُ عَاصِمَةَ نَجْدٍ عِلْمِيًّا وَسِيَاسِيًّا وَكَانَ يَفِدُ إِلَيْهَا طُلَّابُ الْعِلْمِ مِنْ أَنْحَاءِ نَجْدٍ لِأَخْذِ الْعِلْمِ عَنْ آلِ الشَّيْخِ. وَكَانَ مَرْكَزُ الدِّرَاسَةِ وَالتَّدْرِيسِ فِي الْمَسَاجِدِ إِلَّا خَوَاصَّ الطُّلَّابِ لَدَى سَمَاحَةِ الْمُفْتِي فَيَدْرُسُونَ عَلَيْهِ بَعْضَ الدُّرُوسِ فِي بَيْتِهِ ضُحًى، وَكَانَتِ الدِّرَاسَةُ عِمَادُهَا التَّوْحِيدُ وَالْفِقْهُ وَالتَّفْسِيرُ وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ وَالسِّيرَةُ وَالنَّحْوُ، وَكَانَتْ دِرَاسَةً مُبَارَكَةً تَخَرَّجَ عَلَيْهَا جَمِيعُ عُلَمَاءِ نَجْدٍ، حَتَّى جَاءَتْ تِلْكَ الْحَرَكَةُ الْعِلْمِيَّةُ الْجَدِيدَةُ، أَوْ تَنْظِيمُ الدِّرَاسَةِ الْجَدِيدُ فِي عَامِ ١٣٧١ هـ.
نَشْأَةُ هَذِهِ الْحَرَكَةِ: كَانَتْ نَشْأَتُهَا كَمَا سُمِعْتُ مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتِجَابَةً لِرَغْبَةِ الْمَرْحُومِ جَلَالَةِ الْمَلِكِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ لِجَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ وَهُمْ فِي مَجْلِسِهِ الْخَاصِّ: لَقَدْ كَانَتِ الرِّيَاضُ مَلِيئَةً بِالْعُلَمَاءِ عَامِرَةً بِالدُّرُوسِ. وَانْتَقَلَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَمْ يَخْلُفْهُمْ مَنْ يُمَاثِلُهُمْ، وَأَرَدْتُ تَعَاوُنَكُمْ مَعَ سَمَاحَةِ الْمُفْتِي فِي تَرْبِيَةِ جِيلٍ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ عَنِ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ وَالْعَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ، فَنَحْنُ وَأَنْتُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْمَسْؤُولِيَّةِ. فَكَانَتْ هَذِهِ النَّهْضَةُ تَرْعَاهَا عِنَايَةٌ مَلَكِيَّةٌ وَتَقُومُ عَلَيْهَا كَفَاءَةٌ عِلْمِيَّةٌ، تَوَلَّى إِدَارَةَ الْمَعْهَدِ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّطِيفِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَرِئَاسَتُهُ لِسَمَاحَةِ الْمُفْتِي، وَافْتُتِحَتِ الدِّرَاسَةُ عَلَى طُلَّابِ حِلَقِ الْمَسَاجِدِ الْأَكْفَاءِ وَفِيهِمْ خَوَاصُّ طُلَّابِ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَبْنَاؤُهُ. صُنِّفَتِ الدِّرَاسَةُ عَلَى ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ ثَانَوِيَّةٍ وَمِنْهَا إِلَى الْكُلِّيَّةِ، يُغَذِّي هَذَا الْقِسْمَ قِسْمٌ تَمْهِيدِيٌّ يَأْخُذُ مِنْ رَابِعَةِ ابْتِدَائِيٍّ وَيَدْرُسُ خَامِسَةَ وَسَادِسَةَ وَمِنْ ثَمَّ لِلْمَعْهَدِ الثَّانَوِيِّ فَالْكُلِّيَّتَيْنِ.
الْمَنْهَجُ الْعِلْمِيُّ: وُضِعَ الْمَنْهَجُ الْعِلْمِيَّ لِتِلْكَ الدِّرَاسَةِ عَلَى أَسَاسٍ فِي الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَتَكْمِيلٍ مِنَ الْمَوَادِّ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَعُلُومِ الْآلَةِ مِنْ مُصْطَلَحٍ وَأُصُولٍ حَتَّى الْحِسَابِ وَالتَّقْوِيمِ وَالْخَطِّ وَالْإِمْلَاءِ وَالتَّجْوِيدِ. فَكَانَ قَوِيًّا فِي مَوْضُوعِهِ شَامِلًا فِي مَنْهَجِهِ. وَكَانَ الطُّلَّابُ مِنَ الصَّفْوَةِ الَّذِينَ دَرَسُوا فِي الْمَسَاجِدِ الْمُتَعَطِّشِينَ لِلْعُلُومِ مُتَطَلِّعِينَ لِلتَّوَسُّعِ وَكَانَ الْقَائِمُونَ عَلَى التَّدْرِيسِ نُخْبَةً مُمْتَازَةً مِنَ الْأَجِلَةِ الْفُضَلَاءِ مِنْ وَطَنِيِّينَ وَأَزْهَرِيِّينَ. فَكَانَ الْجَوُّ حَقًّا جِدًّا عِلْمِيًّا الْتَقَتْ فِيهِ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ مِنْ طُلَّابٍ جَيِّدِينَ مَعَ عَزِيمَةٍ مَاضِيَةٍ مِنْ مَشَايِخَ مُجْتَهِدِينَ. كَانَ يَسُودُهُمُ الشُّعُورُ بِأَنَّ هَذِهِ طَلِيعَةُ نَهْضَةٍ عِلْمِيَّةٍ وَاسِعَةٍ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَوَالِدٍ لِلْجَمِيعِ وَكَانَ دَرْسُهُ التَّفْسِيرَ وَالْأُصُولَ. فَكَانَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَجَالُ الْوَاسِعُ لِجَمِيعِ
فِي مَسْجِدِ الشَّيْخِ: وَفِي مَسْجِدِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَدَأَ دَرْسُ الْأُصُولِ لِكِبَارِ الطَّلَبَةِ فِي قَوَاعِدِ الْأُصُولِ، حَضَرَهُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ وَكَانَ يَتَوَافَدُ إِلَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ الرِّيَاضِ، وَكَانَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْإِفْرِيقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَدْرُسُ الْحَدِيثَ وَكَانَ دَرْسُ الْأُصُولِ بِمَثَابَةِ فَتْحٍ جَدِيدٍ فِي هَذَا الْفَنِّ
فِي بَيْتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَمَّا كَانَ الدَّرْسُ فِي الْأُصُولِ فِي الْمَسْجِدِ عَامًّا - وَفِي الطَّلَبَةِ مِنْ خَوَاصِّهِمْ رَغِبُوا فِي دَرْسٍ خَاصٍّ فِي بَيْتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَكَانَ لَهُمْ دَرْسٌ خَاصٌّ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَكَانَ بَيْتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَدْرَسَةٍ سَوَاءٌ لِأَبْنَائِهِ الَّذِينَ رَافَقُوهُ لِلدِّرَاسَةِ عَلَيْهِ وَقَدْ أَمْلَى شَرْحًا عَلَى مَرَاقِي السُّعُودِ فِي بَيْتِهِ عَلَى أَخِينَا أَحْمَدَ الْأَحْمَدِ الشِّنْقِيطِيِّ.
لَقَدْ كَانَ لِتَدْرِيسِهِ هَذَا سَوَاءٌ رَسْمِيَّا فِي الْمَعْهَدِ وَالْكُلِّيَّتَيْنِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي الْمَنْزِلِ - كَانَ لَهُ أَثَرٌ طَيِّبٌ وَنَتَائِجُ حَسَنَةٌ لَا يَسَعُ مُتَحَدِّثٌ التَّحَدُّثَ عَنْهَا بِقَدْرِ مَا تَحَدَّثَتْ هِيَ عَنْ نَفْسِهَا فِي أَعْمَالِ كَافَّةِ الْمُتَخَرِّجِينَ مِنْ تِلْكَ الْمَعَاهِدِ وَالْكُلِّيَّتَيْنِ الْمُنْتَشِرَتَيْنِ فِي أَنْحَاءِ الْمَمْلَكَةِ الْمُبْرِزِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَفِي أَعْلَى مَنَاصِبَ فِي كَافَّةِ الْوِزَارَاتِ.
وَلَا يُغَالِي مَنْ يَقُولُ إِنَّ كُلَّ مَنْ تَخَرَّجَ أَوْ يَتَخَرَّجُ فَهُوَ إِمَّا تِلْمِيذٌ لَهُ أَوْ لِتَلَامِيذِهِ فَهُمْ بِمَثَابَةِ أَبْنَائِهِ وَأَحْفَادِهِ وَكَفَى.
تَقْدِيرُ الْمَسْؤُولِينَ لَهُ: لَقَدْ كَانَ بِعِلْمِهِ وَنُصْحِهِ وَجُهْدِهِ وَعِفَّتِهِ مَوْضِعَ تَقْدِيرٍ مِنْ جَمِيعِ الْمَسْؤُولِينَ وَبِالْأَخَصِّ أَصْحَابُ الْفَضِيلَةِ آلُ الشَّيْخِ وَصَاحِبُ الْجَلَالَةِ الْمَلِكُ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَصَاحِبُ السُّمُوِّ الْمَلَكِيِّ الْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ تَقْدِيرًا لَهُ. وَقَدْ مَنَحَهُ جَلَالَةُ الْمَلِكِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَمْرًا بِالْجِنْسِيَّةِ لِجَمِيعِ مَنْ يَنْتَمِي إِلَيْهِ وَفِي كَفَالَتِهِ ثِقَةً بِهِ وَإِكْرَامًا لَهُ.
وَلَمَّا زَارَ الْمَلِكُ مُحَمَّدٌ الْخَامِسُ مَلِكُ الْمَغْرِبِ الرِّيَاضَ اسْتَأْذَنَ فِي صُحْبَةِ الشَّيْخِ إِلَى
وَهَكَذَا قَدِمَ الرِّيَاضَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَرْحِيبٍ وَإِكْرَامٍ وَانْتَقَلَ مِنْهَا فِي إِعْزَازٍ وَإِكْبَارٍ بَعْدَ أَنْ تَرَكَ فِيهَا أَطْيَبَ الْآثَارِ، وَسَاهَمَ فِي أَكْبَرِ نَهْضَةٍ عِلْمِيَّةٍ فِي الْبِلَادِ.
دَوْرُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: إِنَّ مَنْ يَعْرِفُ نَشْأَةَ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَقَدْ عَرَفَ الْحَرَكَةَ الْعِلْمِيَّةَ الْحَدِيثَةَ بِالرِّيَاضِ لَيَقُولُ إِنَّ افْتِتَاحَ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ امْتِدَادٌ لِلْحَرَكَةِ الْعِلْمِيَّةِ الْحَدِيثَةِ بِالرِّيَاضِ.
وَالْمُتَتَبِّعُ لِلْحَرَكَاتِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ لَيَقُولُ إِنَّ افْتِتَاحَ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي ذَلِكَ التَّارِيخِ عِنَايَةٌ مِنَ اللَّهِ وَتَدَارُكٌ لِلتَّعْلِيمِ الْإِسْلَامِيِّ حِينَمَا أُصِيبَتْ بَعْضُ دُورِ الْعِلْمِ الْكُبْرَى بِهِزَّاتٍ فِي بَرَامِجِهَا.
فَكَانَ إِيجَادُهَا امْتِدَادًا لِلْحَرَكَةِ الْعِلْمِيَّةِ الْحَدِيثَةِ بِالرِّيَاضِ وَمَجِيئُهَا آنَذَاكَ تَدَارُكًا لِبَعْضِ مَا فَاتَ، وَلَعَلَّهَا جُزْءٌ مِنْ تَحْقِيقِ الْحَدِيثِ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ عَقِيدَةٌ وَعَمَلٌ وَالْعِلْمُ قَبْلَهُ.
وَمِنْ هُنَا نُجَدِّدُ أَوْ نَتَذَكَّرُ أَهَمِّيَّةَ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمَدَى وُجُودِهَا بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَبِالتَّالِي مَجِيءُ أَبْنَاءِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ إِلَيْهَا لِلدِّرَاسَةِ وَلِلتَّرْبِيَةِ فِي هَذَا الْجَوِّ الرُّوحِيِّ لِتَبْرُزَ لَنَا قِيمَةُ الْعَمَلِ فِي الْجَامِعَةِ وَأَنَّ رِسَالَتَهَا تَرْبَوِيَّةٌ بِجَانِبِ أَنَّهَا عِلْمِيَّةٌ، وَأَنَّهَا مَنَعَتِ الِانْتِسَابَ دُونَ الْحُضُورِ لِهَذَا الْغَرَضِ نَفْسِهِ.
وَقَدْ كَانَ لِوَالِدِنَا رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَجَالَاتِ الْيَدُ الطُّولَى وَالْمَجْهُودُ الْأَكْبَرُ فَلَمْ يَدَّخِرْ وِسْعًا فِي تَعْلِيمٍ وَلَمْ يَتَوَانَ فِي تَوْجِيهٍ، سَوَاءٌ فِي دُرُوسِهِ أَوْ أَحَادِيثِهِ أَوْ مُحَاضَرَاتِهِ مَعَ الطُّلَّابِ أَوِ الْمُدَرِّسِينَ فَكَانَ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ وَالدَّاعِيَةِ النَّاصِحِ الْأَمِينِ. تَحَمَّلَ عَنْهُ تَلَامِيذُهُ إِلَى أَنْحَاءِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ حِينَمَا وَصَلَتْ مِنَحُ الدِّرَاسَةِ بِالْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِبُلْدَانِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ، فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ وَلَوِ ادِّعَاءً أَوْ تَجَوُّزًا إِنَّهُ كَانَ بِحَقٍّ فِي مَنْزِلَةِ [الشَّيْخِ ابْنِ تَيْمِيَةَ]، فِي هَذَا الْوَقْتِ. ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
وَقَدْ كَانَ بِجَانِبِ التَّعْلِيمِ عُضْوَ مَجْلِسِ الْجَامِعَةِ سَاهَمَ فِي سَيْرِهَا وَمَنَاهِجِهَا،
وَفِي سَنَةِ ٨٦ هـ افْتُتِحَ مَعْهَدُ الْقَضَاءِ الْعَالِي بِالرِّيَاضِ بِرِآسَةِ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَفِيفِي وَكَانَتِ الدِّرَاسَةُ فِيهِ ابْتِدَاءً عَلَى نِظَامِ اسْتِقْدَامِ الْأَسَاتِذَةِ الزَّائِرِينَ فَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِمَّنْ يَذْهَبُ لِإِلْقَاءِ الْمُحَاضَرَاتِ الْمَطْلُوبَةِ فِي التَّفْسِيرِ وَالْأُصُولِ.
قَدِ امْتَدَّ نَشَاطُهُ خَارِجَ الْمَمْلَكَةِ: إِذَا كَانَتِ الْجَامِعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فَتَحَتْ لِلْبِلَادِ نَوَافِذَ تُطِلُّ مِنْهَا عَلَى الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ، وَجَعَلَتْ مِنْ حَقِّ أُولَئِكَ الْأَبْنَاءِ مَا يَجِبُ مِنْ رِعَايَتِهِمْ، وَحَقِّ تِلْكَ الْأَقْطَارِ مَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْوِيَةِ أَوَاصِرِ الرَّوَابِطِ. فَكَانَتْ فِكْرَةُ إِرْسَالِ بَعَثَاتٍ إِلَى الْأَقْطَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَخَاصَّةً إِفْرِيقْيَا، فَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ بَعْثَةِ الْجَامِعَةِ إِلَى عَشْرِ دُوَلٍ أَفْرِيقِيَّةٍ بَدَأَتْ بِالسُّودَانِ، وَانْتَهَتْ بِمُورِيتَانْيَا مَوْطِنِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ، كَانَ لِهَذِهِ الْبَعْثَةِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ أَعْظَمُ الْأَثَرِ، وَأَذْكُرُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ أَفَاضِلِ الْبِلَادِ بِمُورِيتَانْيَا وَفِي حَفْلِ تَكْرِيمٍ لِلْبَعْثَةِ وَكَلَ إِلَيَّ فَضِيلَتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الْجَوَابِ فَكَانَ مِنْهَا أَنَّ الذِّكْرَيَاتِ لَتَتَحَدَّثُ وَإِنَّهَا لَسَاعَةٌ عَجِيبَةٌ أَدَارَتْ عَجَلَةَ الزَّمَانِ حَيْثُ نَشَأَ الشَّيْخُ فِي بِلَادِكُمْ ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْحِجَازِ ثُمَّ هَا هُوَ يَعُودُ إِلَيْكُمْ عَلَى رَأْسِ وَفْدٍ وَرِئَاسَةِ بَعْثَةٍ فَقَدْ نَبَتَتْ غَرْسَةُ عِلْمِهِ هُنَا عِنْدَكُمْ فَذَهَبَ إِلَى الْحِجَازِ فَنَمَتْ وَتَرَعْرَعَتْ فَامْتَدَّتْ أَغْصَانُهَا حَتَّى شَمَلَتْ بِوَارِفِ ظِلِّهَا بِلَادَ الْإِسْلَامِ شَرْقًا وَغَرْبًا وَهَا نَحْنُ فِي مَوْطِنِهِ نَجْنِي ثِمَارَ غَرْسِهَا وَنَسْتَظِلُّ بِوَارِفِ ظِلِّهَا. فَكَانَتْ تِلْكَ الرِّحْلَةُ حَقًّا حَلْقَةَ اتِّصَالٍ وَتَجْدِيدَ عَهْدٍ وَإِحْيَاءَ مَعَالِمٍ لِلْإِسْلَامِ.
وَكَانَ لَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعَدِيدُ مِنَ الْمُحَاضَرَاتِ وَالْمُحَادَثَاتِ سُجِّلَتْ كُلُّهَا فِي أَشْرِطَةٍ لَا تَزَالُ مَحْفُوظَةً، آمُلُ أَنْ أُوَفَّقَ لِنَقْلِهَا وَطَبْعِهَا إِتْمَامًا لِلْفَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَنَضُمُّ إِلَيْهَا مَنْهَجَهُ وَسُلُوكَهُ مَعَ الْحُكَّامِ وَصِغَارِ الطُّلَّابِ وَالْعَوَامِّ مِمَّا يَرْسُمُ الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ وَبِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.
فِي هَيْئَةِ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ: وَكَمَا شُكِّلَتْ هَيْئَةُ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ سَمَاحَةِ الْمُفْتِي رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهِيَ أَكْبَرُ هَيْئَةٍ عِلْمِيَّةٍ فِي الْبِلَادِ. كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدَ أَعْضَائِهَا. وَقَدْ تَرَأَّسَ إِحْدَى دَوْرَاتِهَا فَكَانَتْ لَهُ السِّيَاسَةُ الرَّشِيدَةُ وَالنَّتَائِجُ الْحَمِيدَةُ. سَمِعْتُ فَضِيلَةَ الشَّيْخِ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ صَالِحٍ حَفِظَهُ اللَّهُ وَهُوَ عُضْوٌ فِيهَا يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ قَبْلَهُ أَحْسَنَ إِدَارَةً مِنْهُ مَعَ بُعْدِ نَظَرٍ فِي الْأُمُورِ، وَحُسْنِ تَدَبُّرٍ لِلْعَوَاقِبِ.
فِي الرَّابِطَةِ: وَفِي رَابِطَةِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كَانَ عُضْوَ الْمَجْلِسِ التَّأْسِيسِيِّ لَمْ تَقِلَّ
حِينَمَا قَدِمَ مَنْدُوبُ إِيرَانَ وَقَدَّمَ طَلَبًا بِاعْتِرَافِ الرَّابِطَةِ بِالْمَذْهَبِ الْجَعْفَرِيِّ وَمَعَهُ وَثِيقَةٌ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ ذَاتِ الْوَزْنِ الْكَبِيرِ تُؤَيِّدُهُ عَلَى دَعْوَاهُ وَتُجِيبُهُ إِلَى طَلَبِهِ. فَإِنْ قَبِلُوا طَلَبَهُ دَخَلُوا مَأْزِقًا وَإِنْ رَفَضُوهُ وَاجَهُوا حَرَجًا فَاقْتَرَحُوا أَنْ يَتَوَلَّى الْأَمْرَ فَضِيلَتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جِلْسَةٍ خَاصَّةٍ. فَأَجَابَ فِي الْمَجْلِسِ قَائِلًا: لَقَدِ اجْتَمَعْنَا لِلْعَمَلِ عَلَى جَمْعِ شَمْلِ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ وَتَرَابُطِهِمْ أَمَامَ خَطَرِ عَدُوِّهِمْ، وَنَحْنُ الْآنَ مُجْتَمِعُونَ مَعَ الشِّيعَةِ فِي أُصُولٍ هِيَ:
الْإِسْلَامُ دِينُ الْجَمِيعِ وَالرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ الْجَمِيعِ، وَالْقُرْآنُ كِتَابُ اللَّهِ، وَالْكَعْبَةُ قِبْلَةُ الْجَمِيعِ، وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَمُجْتَمِعُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ قَتْلٍ وَشُرْبٍ وَزِنًا وَسَرِقَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ لِلِاجْتِمَاعِ وَالتَّرَابُطِ. وَهُنَاكَ أُمُورٌ نَعْلَمُ جَمِيعًا أَنَّنَا نَخْتَلِفُ فِيهَا وَلَيْسَ هَذَا مَثَارُ بَحْثِهَا، فَإِنْ رَغِبَ الْعُضْوُ الْإِيرَانِيُّ بَحْثَهَا وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ فِيهَا فَلْيَخْتَرْ مِنْ عُلَمَائِهِمْ جَمَاعَةً وَنَخْتَارُ لَهُمْ جَمَاعَةً وَيَبْحَثُونَ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ وَيُعْلَنُ الْحَقُّ وَيُلْتَزَمُ بِهِ. أَوْ يَسْحَبُ طَلَبَهُ الْآنَ. فَأَقَرَّ الْجَمِيعُ قَوْلَهُ وَسَحَبَ الْعُضْوُ طَلَبَهُ.
وَهَكَذَا كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَكِيمًا فِي تَعْلِيمِهِ حَكِيمًا فِي دَعْوَتِهِ حَكِيمًا فِي بَحْثِهِ وَإِقْنَاعِهِ. وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ كُلَّ الْوُضُوحِ فِي مُؤَلَّفَاتِهِ.
مُؤَلَّفَاتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مُؤَلَّفٍ يَحْكِي شَخْصِيَّةَ مُؤَلِّفِهِ فِي عِلْمِهِ وَفِي عَقْلِهِ بَلْ وَفِي اتِّجَاهِهِ كَمَا قَالُوا: مَنْ أَلَّفَ فَقَدِ اسْتَهْدَفَ، أَيْ لِأَنَّهُ يَعْرِضُ مَا عِنْدَهُ عَلَى أَنْظَارِ النَّاسِ. وَلِلشَّيْخِ تَآلِيفٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا فِي بِلَادِهِ وَمِنْهَا هُنَا. فَمَا كَانَ فِي بِلَادِهِ هُوَ:
١ - فِي أَنْسَابِ الْعَرَبِ نَظْمًا، أَلَّفَهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ يَقُولُ فِي أَوَّلِهِ:
سَمَّيْتُهُ بِخَالِصِ الْجُمَانِ فِي ذِكْرِ أَنْسَابِ بَنِي عَدْنَانَ وَبَعْدَ الْبُلُوغِ دَفَنَهُ قَالَ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى نِيَّةِ التَّفَوُّقِ عَلَى الْأَقْرَانِ، وَقَدْ لَامَهُ مَشَايِخُهُ عَلَى دَفْنِهِ وَقَالُوا: كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ تَحْوِيلُ النِّيَّةِ وَتَحْسِينُهَا.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَدْ نَدَبَا | لِأَنْ نَمِيزَ الْبَيْعَ عَنْ لَبْسِ الرِّبَا |
وَمَنَّ بِالْمُؤَلِّفِينَ كُتُبًا | تَتْرُكُ أَطْوَادَ الْجَهَالَةِ هَبًّا |
تَكْشِفُ عَنْ عَيْنِ الْفُؤَادِ الْحُجُبَا | إِذَا حِجَابٌ دُونَ عِلْمٍ ضُرِبَا |
حَمْدًا لِمَنْ أَظْهَرَ لِلْعُقُولِ | حَقَائِقَ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ |
وَكَشَفَ الرَّيْنَ عَنِ الْأَذْهَانِ | بِوَاضِحِ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ |
وَفَتَحَ الْأَبْوَابِ لِلْأَلْبَابِ | حَتَّى اسْتَبَانَتْ مَا وَرَاءَ الْبَابِ |
تِرْكَةُ الْمَيِّتِ بَعْدَ الْخَامِصِ | مِنْ خَمْسَةٍ مَحْصُورَةٍ عَنْ سَادِسِ |
وَحَصْرُهَا فِي الْخَمْسَةِ اسْتِقْرَاءٌ | وَانْبِذْ لِحَصْرِ الْعَقْلِ بِالْعَرَاءِ |
أَوَّلُهَا الْحُقُوقُ بِالْأَعْيَانِ | تَعَلَّقَتْ كَالرَّهْنِ أَوْ كَالْجَانِي |
وَكَزَكَاةِ التَّمْرِ وَالْحُبُوبِ | إِنْ مَاتَ بَعْدَ زَمَنِ الْوُجُوبِ |
أَمَّا مُؤَلَّفَاتُهُ هُنَا فَهِيَ:
١ - مَنْعُ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ. وَمَوْضُوعُهَا إِبْطَالُ إِجْرَاءِ الْمَجَازِ فِي آيَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَإِيفَاؤُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَقَدْ زَادَ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا بَعْدُ فِي آدَابِ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ.
٢ - دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيِ الْكِتَابِ، أَبَانَ فِيهِ مَوَاضِعَ مَا يُشْبِهُ التَّعَارُضَ فِي الْقُرْءَانِ كُلِّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، وَأَنَّ السُّؤَالَ مُتَنَوِّعٌ وَالْمَوَاقِفَ مُتَعَدِّدَةٌ. وَقَدْ طُبِعَ وَمَا قَبْلَهُ وَنَفِدَا.
٤ - آدَابُ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ: أَوْضَحَ فِيهِ آدَابَ الْبَحْثِ مِنْ إِيرَادِ الْمَسَائِلِ وَبَيَانِ الدَّلِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهُوَ أَيْضًا مُقَرَّرٌ فِي الْجَامِعَةِ وَمِنْ جُزْأَيْنِ.
٥ - أَضْوَاءُ الْبَيَانِ لِتَفْسِيرِ الْقُرْءَانِ بِالْقُرْءَانِ: وَهُوَ مَدْرَسَةٌ كَامِلَةٌ يَتَحَدَّثُ عَنْ نَفْسِهِ، طُبِعَ مِنْهُ سِتَّةُ أَجْزَاءٍ كِبَارٍ وَالسَّابِعُ تَحْتَ الطَّبْعِ، وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى نِهَايَةِ «قَدْ سَمِعَ». وَلَعَلَّ اللَّهَ يُسَيِّرُ وَيُوَفِّقُ مَنْ يَعْمَلُ إِلَى إِكْمَالِهِ وَلَوْ بِقَدْرِ الْمُسْتَطَاعِ. وَمِنْ عَجِيبِ الصُّدَفِ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَهُنَا الْعَدِيدُ مِنَ الْمُحَاضَرَاتِ ذَاتِ الْمَوَاضِيعِ الْمُسْتَقِلَّةِ طُبِعَتْ كُلُّهَا وَنَفِدَتْ وَهِيَ:
١ - آيَاتُ الصِّفَاتِ: أَوْضَحَ فِيهَا تَحْقِيقَ إِثْبَاتِ صِفَاتِ اللَّهِ.
٢ - حِكْمَةُ التَّشْرِيعِ: عَالَجَ فِيهَا الْعَدِيدَ مِنْ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِهِ.
٣ - الْمُثُلُ الْعُلْيَا: بَيَّنَ فِيهَا الْمِثَالِيَّةَ فِي الْعَقِيدَةِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْأَخْلَاقِ.
٤ - الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ: بَيَّنَ فِيهَا ضَابِطَ اسْتِعْمَالِهَا بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ.
٥ - حَوْلَ شُبْهَةِ الرَّقِيقِ: رَفَعَ اللَّبْسَ عَنِ ادِّعَاءِ اسْتِرْقَاقِ الْإِسْلَامِ لِلْأَحْرَارِ.
٦ - عَلَى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، أَلْقَاهَا بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ مُحَمَّدٍ الْخَامِسِ عِنْدَ زِيَارَتِهِ لِلْمَدِينَةِ، وَكُلُّهَا عَامَّةً نَافِعَةٌ جَدِيدَةٌ.
وَبِالتَّالِي فَقَدْ كَانَ لِمَنْهَجِهِ الْعِلْمِيِّ فِي أَبْحَاثِهِ وَتَدْرِيسِهِ وَفِي مُؤَلَّفَاتِهِ إِحْيَاءٌ لِعُلُومٍ دَرَسَتْ وَتَصْحِيحٌ لِمَفَاهِيمَ اخْتَلَفَتْ.
فَمِمَّا أَحْيَا مِنَ الْعُلُومِ عِلْمُ الْأُصُولِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَالِاجْتِهَادُ التَّرْجِيحُ وَعُمْدَةُ الْمُجْتَهِدِ وَعِمَادُهُ، وَبِجَهْلِهِ لَا يَحِقُّ الِاجْتِهَادُ وَيَجِبُ التَّقْلِيدُ الْمَحْضُ. كَمَا يَقُولُونَ: جَهَلَةُ الْأُصُولِ عَوَامُّ الْعُلَمَاءِ: فَفَتَحَ - أَبْوَابَهُ وَسَهَّلَ صِعَابَهُ وَأَوْضَحَ قَوَاعِدَهُ، وَقَرَّبَ تَنَاوُلِهِ تَسْهِيلًا لِأَخْذِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَصَادِرِهَا وَرَدِّ الْفُرُوعِ إِلَى أُصُولِهَا.
كَمَا فَتَحَ أَبْوَابًا جَدِيدَةً وَأَحْدَثَ فُنُونًا طَرِيفَةً فِي عُلُومِ الْقُرْءَانِ مِنْ مِنْعِ الْمَجَازِ عَنِ الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ، إِثْبَاتًا لِمَعَانِي آيَاتِ الصِّفَاتِ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَسَدَّ بَابَ تَعْطِيلِهَا عَنْ دَلَالَتِهَا إِجْرَاءً لِلنَّصِّ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَإِبْقَاءً عَلَيْهِ فِي دَلَالَتِهِ.
وَمِنْ دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ تَصْدِيقِ آيِ الْكِتَابِ بَعْضَهُ بَعْضًا بِدُونِ تَعَارُضٍ وَلَا إِشْكَالٍ.
وَمِنْ تَسْلِيطِ أَضْوَاءِ الْبَيَانِ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْءَانِ بِالْقُرْءَانِ رَسَمَ فِيهِ الْمَنْهَجَ السَّلِيمَ لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَأَبَانَ أَحْكَامَهُ وَحُكْمَهُ وَفَتَحَ كُنُوزَهُ وَأَطْلَعَ نَفَائِيهِ وَنَشَرَ دُرَرَهُ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ.
وَكُلُّ ذَلِكَ فَتْحٌ جَدِيدٌ فِي عُلُومِ الْقُرْءَانِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عَلَى هَذَا النَّسَقِ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ تَكُنْ تُدْرَسُ بِهَذَا الْمَثَلِ.
كَمَا أَنَّهُ فِي غُضُونِهَا صَحَّحَ مَفَاهِيمَ مُخْتَلِفَةً مِنْهَا أَنَّ الْمَنْطِقَ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ عَنْهُ إِلَّا أَنَّهُ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ عَلَى النَّقْلِ وَمُصَادَمَةُ النَّصِّ بِالرَّأْيِ، وَكَانَ فِعْلًا وَسِيلَةَ التَّشْكِيكِ فِي الْعَقِيدَةِ بِاسْتِخْدَامِ قَضَايَا عَقِيمَةٍ. فَهَذَّبَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَبْحَاثِهِ وَأَحْسَنَ بِاسْتِخْدَامِهِ فَنَظَّمَ قَضَايَاهُ الْمُنْتِجَةَ وَرَتَّبَ أَشْكَالَهُ السَّلِيمَةَ وَاسْتَخْدَامَ قِيَاسَهُ فِي الْإِلْزَامِ. سَوَاءٌ فِي الْعَقِيدَةِ أَوْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَبَعْدَ أَنْ كَانَ يُسْتَخْدَمُ ضِدَّهَا أَصْبَحَ يَعْمَلُ فِي خِدْمَتِهَا. كَمَا وَضَّحَ ذَلِكَ فِي آدَابِ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ.
مَوَاقِفُهُ مَعَ الْحَقِّ: كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوِيًّا صُلْبًا لَيِّنًا سَهْلًا.
كَانَ قَوِيًّا صُلْبًا فِي بَيَانِهِ، لَيِّنًا سَهْلًا فِي الرُّجُوعِ إِلَى مَا ظَهَرَ إِلَيْهِ مِنْهُ.
فِي بَعْضِ الْأَعْوَامِ الَّتِي حَجَجْتُهَا مَعَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدِمْنَا مَكَّةَ يَوْمَ سَبْعٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَكَانَ مُفَرِدًا الْحَجَّ، وَفِي يَوْمِ الْعِيدِ صَحِبْتُهُ لِلسَّلَامِ عَلَى سَمَاحَةِ الْمُفْتِي رَحِمَهُ اللَّهُ بِمِنًى، فَسَأَلَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ نُسُكِهِ فَقَالَ: جِئْتُ مُفْرِدًا الْحَجَّ وَقَصْدًا فَعَلْتُ، فَأَدْرَكَ الْمُفْتِي رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَكِنْ تَلَطَّفَ مَعَ الشَّيْخِ وَقَالَ: أَهْوَ أَفْضَلُ عِنْدَكَ حَفِظَكَ اللَّهُ؟ فَأَجَابَ أَيْضًا
وَلَكَأَنِيٍّ بِهَذَا الْعَمَلِ مِنَ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ الَّذِي أَرَادَ بِهِ الْبَيَانَ عَمَلِيًّا صُورَةً مِمَّا وَقَعَ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَمَا بَلَغَهُ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَنْهَى عَنِ التَّمَتُّعِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ: كَيْفَ تَنْهَى عَنْ شَيْءٍ فَعَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ حَجًّا وَعُمْرَةً.
أَمَّا لِينُهُ مَعَ الْحَقِّ وَرُجُوعُهُ إِلَى مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ، فَفِي آخِرِ دُرُوسِهِ فِي الْحَرَمِ النَّبَوِيِّ فِي رَمَضَانَ الْمَاضِي فِي سُورَةِ «بَرَاءَةٌ» أَعْلَنَ عَنْ رُجُوعِهِ عَنِ الْقَوْلِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ. وَقَالَ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ مَنْسُوخَةً. وَكُنَّا نَقُولُ بِنَسْخِهَا فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، وَلَكِنْ ظَهَرَ لَنَا بِالتَّأَمُّلِ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ وَالتَّعْوِيلُ عَلَيْهِ.
وَمِمَّا وَقَعَ لِي مَعَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْبَرْتُهُ فِيهِ تَوَاضُعُهُ وَإِنْصَافُهُ سَمِعْتُ مِنْهُ فِي مَبْحَثِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ فِي أَضْوَاءِ الْبَيَانِ عِنْدَ سَرْدِ الْأَدِلَّةِ وَمُنَاقَشَتِهَا، أَنَّ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُوجِبِينَ حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الْيَمَنِيَّةِ وَمَعَهَا ابْنَتُهَا وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَسَأَلَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُؤَدِّينَ زَكَاةَ هَذَا؟ فَقَالَتْ: لَا. فَقَالَ: هُمَا حَسْبُكِ مِنَ النَّارِ. فَخَلَعَتْهُمَا وَأَلْقَتْ بِهِمَا.
وَأَجَابَ الْمَانِعُونَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ إِبَاحَةِ الذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ، فَتَسَاءَلْتُ مُسْتَوْضِحًا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَاذَا يُسَمَّى هَذَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُكُوتُهُ عَنْ لُبْسِهِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ وَسُؤَالُهُ عَنْ زَكَاتِهِ، فَقَالَ: عَجَبًا إِنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ وُجُودَ اللُّبْسِ عِنْدَ السُّؤَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهِ آنَذَاكَ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقِرُّ أَحَدًا عَلَى مُحَرَّمٍ وَلَا يَتَأَتَّى أَنْ يَسْكُتَ عَلَى لُبْسِهَا إِيَّاهُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ وَيَهْتَمُّ لِزَكَاتِهِ وَلَوْ أُعِيدَ طَبْعُ الْكِتَابِ لَنَبَّهْتُ عَلَيْهِ رَغْمَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَرَاجِعِ لَمْ تَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَهُوَ بِهَذَا يُلَقِّنُ طَلَبَةَ
هَذَا مَا وَسِعَنِي ذِكْرُهُ عَنْ حَيَاتِهِ الْعِلْمِيَّةِ فِي نَشْأَتِهِ وَتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَعَنْ تُرَاثِهِ الْعِلْمِيِّ فِي مُؤَلَّفَاتِهِ وَآثَارِهِ التَّرْبَوِيَّةِ فِي أَبْنَائِهِ وَأَبْنَاءِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً.
وَلَعَلَّ مِنْ أَبْنَائِهِ الْحُضُورِ أَوْ غَيْرِهِمْ مَنْ لَدَيْهِ الْمَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ.
أَمَّا النَّاحِيَةُ الشَّخْصِيَّةُ: فِي تَقْوِيمِهِ الشَّخْصِيِّ لِسُلُوكِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَآدَابِهِ، وَكَرْمِهِ، وَعِفَّتِهِ، وَزُهْدِهِ وَتَرَفُّعِ نَفْسِهِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ. فَهَذَا مَا يَسْتَحِقُّ أَنَّ يُفْرَدَ بِحَدِيثٍ، وَإِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ الْآنَ تَصْوِيرَهُ وَلَا يَسَعُنِي فِي هَذَا الْوَقْتِ تَفْصِيلُهُ. وَمَا كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ لَوْ أَنَّ لِلْفَضَائِلِ وَالْمَكْرُمَاتِ وَالشِّيَمِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ فِي الرِّجَالِ عُنْوَانًا يَجْمَعُهَا لَكَانَ هُوَ أَحَقَّ بِهِ.
وَإِذَا كَانَ عُلَمَاءُ الْأَخْلَاقِ يُعَنْوِنُونَ لِأُصُولِ الْأَخْلَاقِ وَالْفَضَائِلِ بِالْمُرُوءَةِ فَإِنَّ الْمُرُوءَةَ كَانَتْ شِعَارَهُ وَدِثَارَهُ. وَكَانَتْ هِيَ الَّتِي تَحْكُمُهُ فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِ سَوَاءٌ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَعَ إِخْوَانِهِ وَطُلَّابِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ، مَنْ عَرَفَهُمْ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ. وَقَدْ قَالَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ فِي حَيَاتِهِ: إِنَّهُ لَا عَيْبَ فِيهِ سِوَى عَيْبٍ وَاحِدٍ، هُوَ أَنَّنَا نَفْقِدُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَإِنَّ تَفْصِيلَ ذَلِكَ لَمَتْرُوكٌ لِمَنْ خَالَطَهُ عَنْ قُرْبٍ. وَقَدِ اسْتَعْصَى عَلَيَّ الْمُقَالُ فِي ذَلِكَ وَلِكَأَنِيٍّ بِقَوْلِ الْقَائِلِ:
أَهَابُكَ إِجْلَالًا وَمَا بِكَ سُلْطَةٌ | عَلَيَّ وَلَكِنْ مَلْءُ عَيْنٍ حَبِيبُهَا |
وَالْوَاقِعُ أَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ تُسَاوِي عِنْدَهُ شَيْئًا فَلَمْ يَكُنْ يَهْتَمُّ لَهَا. وَمُنْذُ وُجُودِهِ فِي الْمَمْلَكَةِ وَصِلَتِهِ بِالْحُكُومَةِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا لَمْ يَطْلُبْ عَطَاءً وَلَا مُرَتَّبًا وَلَا تَرْفِيعًا لِمُرَتَّبِهِ وَلَا حُصُولًا عَلَى مُكَافَأَةٍ أَوْ عِلَاوَةٍ وَلَكِنْ مَا جَاءَهُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ أَخَذَهُ، وَمَا حَصَلَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ
وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَقَدْ جِئْتُ مَعِي مِنَ الْبِلَادِ بِكَنْزٍ عَظِيمٍ يَكْفِينِي مَدَى الْحَيَاةِ وَأَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيَاعَ. فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْقَنَاعَةُ. وَكَانَ شِعَارُهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
الْجُوعُ يُطْرَدُ بِالرَّغِيفِ الْيَابِسَهْ | فَعَلَامَ تَكْثُرُ حَسْرَتِي وَوَسَاوِسِي |
لَا تَسُؤْ بِالْحِلْمِ ظَنًّا يَا فَتَى | إِنَّ سُوءَ الظَّنِّ بِالْعِلْمِ عَطَبْ |
لَا يُزَهِّدْكَ أَحَدٌ فِي الْعِلْمِ إِنْ | غَمَرَ الْجُهَّالُ أَرْبَابَ الْأَدَبْ |
إِنْ تَرَ الْعَالِمَ نِضْوًا مِرْمَلًا | صِفْرَ كَفٍّ لَمْ يُسَاعِدْهُ سَبَبْ |
وَتَرَى الْجَاهِلَ قَدْ حَازَ الْغِنَى | مُحْرِزَ الْمَأْمُولِ مِنْ كُلِّ أَرَبْ |
قَدْ تَجُوعُ الْأُسْدُ فِي آجَامِهَا | وَالذِّئَابُ الْغُبْشُ تَعْتَامُ الْقَتَبْ |
جَرِّعِ النَّفْسَ عَلَى تَحْصِيلِهِ | مَضَضَ الْمُرَّيْنِ ذُلٌّ وَسَغَبْ |
لَا نَهَابُ الشَّوْكَ قِطَافَ الْجَنَى | وَإِبَارَ النَّحْلِ مُشْتَارَ الضَّرَبْ |
أَمَّا مَكَارِمُ أَخْلَاقِهِ وَمُرَاعَاةُ شُعُورِ جُلَسَائِهِ، فَهَذَا فَوْقَ الِاسْتِطَاعَةِ، فَمُذْ صَحِبْتُهُ لَمْ أَسْمَعَ مِنْهُ مُقَالًا لِأَيِّ إِنْسَانٍ وَلَوْ مُخْطِئٍ عَلَيْهِ يَكُونُ فِيهِ جَرْحٌ لِشُعُورِهِ، وَمَا كَانَ يُعَاتِبُ إِنْسَانًا فِي شَيْءٍ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، وَكَانَ كَثِيرَ التَّغَاضِي عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَحِينَمَا كُنْتُ أُسَائِلُهُ فِي ذَلِكَ يَقُولُ:
لَيْسَ الْغَبِيُّ بِسَيِّدٍ فِي قَوْمِهِ | لَكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ الْمُتَغَابِي |
وَمِمَّا لُوحِظَ عَلَيْهِ فِي سَنَوَاتِهِ الْأَخِيرَةِ تَبَاعُدُهُ عَنِ الْفُتْيَا، وَإِذَا اضْطُرَّ يَقُولُ: لَا أَتَحَمَّلُ فِي ذِمَّتِي شَيْئًا، الْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: كَذَا وَكَذَا.
وَسَأَلْتُهُ مَرَّةً عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ فِي عَافِيَةٍ مَا لَمْ يُبْتَلَ وَالسُّؤَالُ ابْتِلَاءٌ، لِأَنَّكَ تَقُولُ عَنِ اللَّهِ وَلَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ أَمْ لَا. فَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نَصٌّ قَاطِعٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ التَّحَفُّظُ فِيهِ.
وَيَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا مَا قَتَلْتَ الشَّيْءَ عِلْمًا فَقُلْ بِهِ | وَلَا تَقُلِ الشَّيْءَ الَّذِي أَنْتَ جَاهِلُهْ |
فَمَنْ كَانَ يَهْوَى أَنْ يُرَى مُتَصَدِّرًا | وَيَكْرَهُ لَا أَدْرِي أُصِيبَتْ مُقَاتِلُهْ |
وَنَفَعَنَا اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَسَلَكَ بِنَا طَرِيقَةَ عَمَلِهِ بِمَا يُرْضِيهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنَّا، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ....