ﰡ
مدنية، وآيها: ست آيات، وحروفها: ثمانون حرفًا، وكلمها عشرون كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١)﴾.[١] ﴿قُلْ أَعُوذُ﴾ قرأ ورش عن نافع في السورتين: بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وهو اللام، وقرأ الباقون: بتحقيق الهمزة مع إسكان اللام قبلها (١) ﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾ الّذي يملك عليهم أمورَهم، وهو إلههم ومعبودهم، وخُصُّوا بالذكر وإن كان ربَّ كلّ مخلوق (٢)؛ تشريفًا لهم.
* * *
﴿مَلِكِ النَّاسِ (٢)﴾.
[٢] ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾.
(٢) "وإن كان رب كلّ مخلوق" زيادة من "ت".
[٣] ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾ عطف بيان لربِّ؛ لأنّه قد يقال لغيره: ربُّ النَّاس؛ كقوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١]، وقد يقال: ملكُ النَّاس، وأمّا إلهُ النَّاس، فمختصٌّ به تعالى، لا شركة فيه، فجعل غاية للبيان، وتكرير النَّاس؛ لما في الإظهار من مزيد البيان، وعطف البيان للبيان، فكأنّه مَظِنَّة للإظهار دون الإضمار.
* * *
﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (٤)﴾.
[٤] ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ﴾ اسم من أسماء الشيطان، سمي به؛ لكثرة ملابسته إياه، وهو أيضًا ما توسوس به شهواتُ النفس وتسوِّلُه.
﴿الْخَنَّاسِ﴾ الكثيرِ التأخرِ، له رأس كرأس الحية، يحتم على القلب، فإذا ذكرَ العبدُ ربه، خنس؛ أي: تأخر، فإذا غفل عن ذكر الله، رجع فوضع رأسه على ثمرة القلب، فمنَّاه وحدَّثه.
* * *
﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥)﴾.
[٥] ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ إذا غفلوا عن ذكر ربهم، والوسوسة: الصوت الخفي.
* * *
﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)﴾.
[٦] ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ يعني: يدخل في الجني، ويوسوس له؛
وسمي الجن جنًّا؛ لاجتنانهم؛ أي: استتارهم، والناسُ ناسًا؛ لظهورهم؛ من الإيناس، وهو الإبصار، كما سموا بشرًا؛ من البشرة، وهو وجه الجلد.
قرأ أبو عمرو، والكسائي: بإمالة فتحة النون من (النَّاسِ) (٢) حيث وقع هذا الاسم مجرورًا في جميع القرآن، وروي عن الأوّل: الفتح، والوجهان صحيحان عنه من رواية الدوري، وقرأ الباقون: بالفتح (٣)، والله أعلم.
* * *
(٢) "النَّاس" زيادة من "ت".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٧٠٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤٤٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ٢٨١).
روي عن ابن كثير -رحمه الله- أنّه كان إذا انتهى في آخر الختمة إلى ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ قرأ سورة ﴿الحمد لله رب العالمين﴾، وخمسَ آياتٍ من أول سورة البقرة على عدد الكوفي، وهو إلى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ لأنّ هذا يسمى الحالَّ والمرتَحِلَ، ومعناه: أنّه حلَّ في قراءته آخر الختمة، وارتحل إلى ختمة أخرى، وصار العمل على هذا في أمصار المسلمين في قراءة ابن كثير وغيرها.
وورد النص عن الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- أنّه إذا قرأ سورة النَّاس، يدعو عقب ذلك، فلم يستحب أن يصل ختمته بقراءة شيء، وروي عنه قول آخر بالاستحباب (١).
وقد ورد الحديث الشريف عن النّبيّ - ﷺ -: "أفضلُ الأعمالِ الحالُّ المُرْتَحِلُ" (٢).
وروي عن ابن عبّاس: "أن رجلًا قال: يا رسول الله! أيُّ الأعمال
(٢) انظر تخريج الحديث الآتي.
وروي أيضًا عن ابن عبّاس بزيادة، وهي: يا رسول الله! وما الحالَّ المرتحل؟ قال "فتح القرآن وختمه، صاحب القرآن يضرب من أوله إلى آخره، ومن آخره إلى أوله، كلَّما حلَّ ارتحلَ" (٢).
وعنه - ﷺ -: "أنّه أمر عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يدعو عند ختم القرآن بهذا الدُّعاء، وهو: "اللهمَّ إنِّي أسأَلُكَ إخباتَ المُخْبِتين، وإخلاصَ الموقنين، ومرافقة الأبرار، واستحقاق حقائق الإيمان، والغنيمةَ من كلِّ بِرّ، والسلامةَ من كلّ إثم، ووجوبَ رحمتك، وعزائمَ مغفرتك، والفوزَ بالجنة، والخلاصَ من النار" (٣).
وروي عن مجاهد: أن الدُّعاء عند ختم القرآن مستجاب.
وعن سفيان بن حبيب بن عميرة: إذا ختم الرَّجل القرآن، قَبَّلَ الملَكُ بين عينيه (٤)، وبلغَ ذلك الإمامَ أحمدَ، فاستحسنه.
(٢) انظر تخريج الحديث المتقدم.
(٣) رواه ابن النجار في "تاريخه" عن زر بن حبيش -رضي الله عنه- كما في "الدر المنثور" للسيوطي (٧/ ٣٤٤).
(٤) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٦١٨).
ونص الإمام أحمد على استحباب الدُّعاء عند الختم، وكذا جماعة من السلف، فيدعو بما أحب مستقبلَ القبلة، رافعًا يديه، خاضعًا لله -عَزَّ وَجَلَّ-، خاشعًا بين يديه، محسنًا التأدُّبَ مع الله تعالى، ولا يتكلف السجع في الدُّعاء، بل يجتنبه، ويثني على الله -عَزَّ وَجَلَّ- قبل الدُّعاء وبعده، ويصلّي على النّبيّ - ﷺ -، ويدعو وهو متيقن الإجابة، ويمسح وجهه بيديه بعد فراغه من الدُّعاء.
قال الشّيخ أبو سليمان الداراني - رحمه الله -: إذا سألتَ الله حاجةً، فابدأ بالصلاة على النّبيّ - ﷺ -، ثمّ ادع بما شئت، ثمّ اختم بالصلاة عليه - ﷺ - فإن الله سبحانه بكرمه يقبل الصلاتين، وهو أكرم من أن يدع ما بينهما (٢).
قال ابن عطاء: للدعاء أركان وأجنحة وأسباب وأوقات، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السَّماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح، فأركانه: حضور القلب، والرقة، والاستكانة، والخشوع، وتعلّق القلب بالله وقطعه من الأسباب، وأجنحته: الصدق، ومواقيته: الأسحار، وأسبابه: الصّلاة على النّبيّ - ﷺ - (٣).
اللهمَّ صلِّ على سيدنا محمّد، وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهمَّ صلِّ على جميع الأنبياء والمرسلين، حسبنا الله ونعم الوكيل.
(٢) انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لملا علي القاري (٣/ ٢٠).
(٣) انظر: "تفسير القرطبي" (٢/ ٣١١).
جمعته بالمسجد الأقصى الشريف -شرفه الله وعظَّمه- بقبة موسى -عَمَرها الله بذكره- تجاه باب السلسة أحدِ أبواب المسجد الشريف في نحو ثمانية عشر شهرًا، وكان الفراغ منه في بكرة يوم الجمعة الغراء، السابع من شهر رمضان المعظم قدره وحرمته من شهور سنة أربع عشرة وتسع مئة، ثمّ بيضته بالمحل الشريف المشار إليه، وكان الفراغ من تبييضه عند أذان الظهر من يوم الأحد الثّاني (١) والعشرين من شهر شوال المبارك سنة سبع عشرة وتسع مئة من الهجرة الشريفة النبوية المحمدية، على صاحبها أفضل الصّلاة والسلام، والتحية والإكرام، والحمد لله وحده، وصلّى الله على من لا نبيَّ بعده، ورضي الله عن أصحابه وأولاده وأزواجه وذريته وأهل بيته أجمعين (٢) (٣).
(٢) جاء في آخر النسخة الخطية "ت": "وقد وافق الفراغ من هذا الكتاب في ثامن عشر شهر رمضان المعظَّم قدرُه من شهور سنة ست عشرة وألف، أحسن الله ختامها، على يد أضعف العباد، الراجي عفوَ مالك المحامد، الفقير يحيى بن حامد، وذلك بالمسجد الأقصى الشريف المعظَّم قدرُه، نسأله حسن الخاتمة، والموت على الإسلام، إنّه قريب مجيب من دعاه، وما توفيقي إِلَّا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وصلّى الله على سيدنا محمّد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين".
(٣) يقول الفقير إلى الله تعالى: نور الدِّين بن صلاح الدِّين طالب الدومي الحنبلي: تم الفراغ من النظر الأخير في تحقيق هذا الكتاب المبارك في ليلة الجمعة التّاسع من ذي القعدة سنة ١٤٢٩ هـ، وذلك في مكتبتي العامرة، في مدينة دومة الزاهرة، من أعمال غوطة دمشق، من بلاد الشّام، حامدًا ومصليًّا ومسلمًا على النّبيّ محمّد وآله وصحبه، والحمد لله الّذي بنعمته تتم الصالحات.