تفسير سورة الشورى

أضواء البيان
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الشُّورَى قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ».
وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْوَحْيِ، أَوْ مِثْلَ ذَلِكَ الْكِتَابِ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبِلَكَ اللَّهُ.
يَعْنِي أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْمَعَانِي قَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْكَ مِثْلَهُ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ، وَأَوْحَاهُ مِنْ قَبْلِكَ إِلَى رُسُلِهِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - كَرَّرَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي جَمِيعِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّنْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَاللُّطْفِ الْعَظِيمِ، لِعِبَادِهِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ. اهـ مِنْهُ.
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي قَوْلِهِ: (كَذَلِكَ يُوحِي) بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُوحَى بِاسْمِ الْمَفْعُولِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ الَّذِي هُوَ الْإِيحَاءُ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَاءِ الَّذِينَ فِي قَبْلِهِ الَّذِينَ أَوْحَى إِلَيْهِمْ، كَمَا أَوْحَى إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَسْمَاءَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ»، وَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يَقْصُصْ خَبَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِمْ وَأَرْسَلَهُمْ لِقَطْعِ حُجَجِ الْخَلْقِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
[٤ ١٦٣ - ١٦٥].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِيهِ الثَّنَاءَ عَلَى نَفْسِهِ بِاسْمِهِ الْعَزِيزِ وَاسْمِهِ الْحَكِيمِ بَعْدَ ذِكْرِهِ إِنْزَالَهُ وَحْيَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» الْمَذْكُورَةِ: وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا بَعْدَ ذِكْرِهِ إِيحَاءَهُ إِلَى رُسُلِهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الزُّمَرِ» أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - إِذَا ذَكَرَ تَنْزِيلَهُ لِكِتَابِهِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بَعْضَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ.
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ: (يُوحِي) بِكَسْرِ الْحَاءِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هَذِهِ فَقَوْلُهُ: (اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) - فَاعِلُ يُوحِي.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ (يُوحَى إِلَيْكَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَقَوْلُهُ: (اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ يُوحَى، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «النُّورِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ [٢٤ ٣٦ - ٣٧].
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ الْوَحْيِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [١٦ ٦٨] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.
وَصَفَ نَفْسَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِالْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ، وَهُمَا مِنَ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [٧ ٥٤].
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ وَصْفِهِ - تَعَالَى - نَفْسَهُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ الْمُتَضَمِّنَتَيْنِ لِكُلِّ كَمَالٍ وَجَلَالٍ - جَاءَ مِثْلُهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [٢ ٢٥٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [٤ ٣٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [١٣ ٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٤٥ ٣٧]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ نَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ (تَكَادُ) بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ ; لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ مُؤَنَّثَةٌ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ (يَكَادُ) بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ السَّمَاوَاتِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ.
وَقَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ أَبِي عَمْرٍو، وَشُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ (يَتَفَطَّرْنَ) بِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْيَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، مُضَارِعُ تَفَطَّرَ، أَيْ تَشَقَّقُ.
وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ (يَنْفَطِرْنَ) بِنُونٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْيَاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ، مُضَارِعُ انْفَطَرَتْ، كَقَوْلِهِ: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [٨٢ ١] أَيِ انْشَقَّتْ.
وَقَوْلُهُ: تَكَادُ، مُضَارِعُ كَادَ، الَّتِي هِيَ فِعْلُ مُقَارَبَةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا تَعْمَلُ فِي الْمُبْتَدَإِ وَالْخَبَرِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا فِعْلَ مُقَارَبَةٍ، أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى قُرْبِ اتِّصَافِ الْمُبْتَدَإِ بِالْخَبَرِ.
وإذًا، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ السَّمَاوَاتِ قَارَبَتْ أَنْ تَتَّصِفَ بِالتَّفَطُّرِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَالِانْفِطَارِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَبَ مُقَارَبَةِ السَّمَاوَاتِ لِلتَّفَطُّرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ - فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ كِلَاهُمَا يَدُلُّ لَهُ قُرْآنٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرُنَّ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، وَهِيبَةً وَإِجْلَالًا، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - قَبْلَهُ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [٤٢ ٤] ; لِأَنَّ عُلُوَّهُ وَعَظَمَتَهُ سَبَّبَ لِلسَّمَاوَاتِ ذَلِكَ الْخَوْفَ وَالْهَيْبَةَ وَالْإِجْلَالَ، حَتَّى كَادَتْ تَتَفَطَّرُ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ مُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ وَاضِحَةٌ; لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ السَّمَاوَاتِ فِي غَايَةِ الْخَوْفِ مِنْهُ - تَعَالَى - وَالْهَيْبَةِ وَالْإِجْلَالِ لَهُ، وَكَذَلِكَ سُكَّانُهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَهُمْ (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أَيْ يُنَزِّهُونَهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ مَعَ إِثْبَاتِهِمْ لَهُ كُلَّ كَمَالٍ وَجَلَالٍ، خَوْفًا مِنْهُ وَهِيبَةً وَإِجْلَالًا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [١٣ ١٣]. وَقَالَ - تَعَالَى -: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [١٦ ٤٩ - ٥٠].
39
فَهُمْ لِشِدَّةِ خَوْفِهِمْ مِنَ اللَّهِ وَإِجْلَالِهِمْ لَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَيَخَافُونَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَلِذَا يَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ، وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْوَجْهِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا [٣٣ ٧٢] ; لِأَنَّ الْإِشْفَاقَ الْخَوْفُ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ يَعْنِي لِخُصُوصِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ وَتَابُوا إِلَى اللَّهِ وَاتَّبَعُوا سَبِيلَهُ، كَمَا أَوْضَحَهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [٤٠ ٧].
فَقَوْلُهُ: لِلَّذِينَ آمَنُوا - يُوَضِّحُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: لِمَنْ فِي الْأَرْضِ. ٥ وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا قَوْلُهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي اسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ -: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [٤٠ ٧] لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى عَدَمِ اسْتِغْفَارِهِمْ لِلْكُفَّارِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ شِدَّةِ عِظَمِ الْفِرْيَةِ الَّتِي افْتَرَاهَا الْكُفَّارُ عَلَى خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ كَوْنِهِ اتَّخَذَ وَلَدًا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَهَذَا الْوَجْهُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [١٩ ٨٨ - ٩٣]. كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ.
وَغَايَةُ مَا فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ آيَةَ «الشُّورَى» هَذِهِ فِيهَا إِجْمَالٌ فِي سَبَبِ تَفَطُّرِ السَّمَاوَاتِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُوَضَّحًا فِي آيَةِ «مَرْيَمَ» الْمَذْكُورَةِ. وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ حَقٌّ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَوْجُهٌ.
قِيلَ: (يَتَفَطَّرْنَ)، أَيِ السَّمَاوَاتُ. (مِنْ فَوْقِهِنَّ) أَيِ الْأَرَضِينَ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا الْقَوْلِ كَمَا تَرَى.
40
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ فَوْقِهِنَّ)، أَيْ كُلُّ سَمَاءٍ تَتَفَطَّرُ فَوْقَ الَّتِي تَلِيهَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَالَ: مِنْ فَوْقِهِنَّ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ أَعْظَمَ الْآيَاتِ وَأَدُلَّهَا عَلَى الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، وَهِيَ: الْعَرْشُ، وَالْكُرْسِيُّ، وَصُفُوفُ الْمَلَائِكَةِ الْمُرْتَجَّةُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ حَوْلَ الْعَرْشِ، وَمَا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ آثَارِ مَلَكُوتِهِ الْعُظْمَى، فَلِذَلِكَ قَالَ: يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أَيْ يَبْتَدِئُ الِانْفِطَارُ مِنْ جِهَتِهِنَّ الْفَوْقَانِيَّةِ.
أَوْ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ جَاءَتْ مِنَ الَّذِي تَحْتَ السَّمَاوَاتِ، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: يَتَفَطَّرْنَ مِنْ تَحْتِهِنَّ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي جَاءَتْ مِنْهَا الْكَلِمَةُ، وَلَكِنَّهُ بُولِغَ فِي ذَلِكَ، فَجُعِلَتْ مُؤَثِّرَةً فِي وِجْهَةِ الْفَوْقِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَكَدْنَ يَتَفَطَّرْنَ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي فَوْقَهُنَّ، دَعِ الْجِهَةَ الَّتِي تَحْتَهُنَّ.
وَنَظِيرُهُ فِي الْمُبَالَغَةِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ فَجَعَلَ الْحَمِيمَ مُؤَثِّرًا فِي أَجْزَائِهِمُ الْبَاطِنَةِ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَهَذَا إِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ سَبَبَ التَّفَطُّرِ الْمَذْكُورِ هُوَ افْتِرَاؤُهُمْ عَلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِمُ: اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا [١٩ ٨٨].
وَقَدْ قَدَّمْنَا آنِفًا أَنَّهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ سُورَةُ «مَرْيَمَ» الْمَذْكُورَةُ، وَعَلَيْهِ فَمُنَاسِبَةُ قَوْلِهِ: وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ لِمَا قَبْلَهُ - أَنَّ الْكُفَّارَ وَإِنْ قَالُوا أَعْظَمَ الْكُفْرِ وَأَشْنَعَهُ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ بِخِلَافِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُدَاوِمُونَ ذِكْرَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ.
وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [٤١ ٣٨]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [٦ ٨٩]. كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ «فُصِّلَتْ».
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
أَكَّدَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الْمُخْتَصُّ بِذَلِكَ.
41
وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ - قَدْ جَاءَا مُوَضَّحَيْنِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا اخْتِصَاصُهُ هُوَ - جَلَّ وَعَلَا - بِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [٣ ١٣٥]. وَالْمَعْنَى لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي الْحَدِيثِ «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي» الْحَدِيثَ. وَفِيهِ «وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ; فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ».
وَوَجْهُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ - هُوَ أَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ.
وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: هُوَ تَوْكِيدُهُ - تَعَالَى - أَنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ; فَإِنَّهُ أَكَّدَ ذَلِكَ هُنَا بِحَرْفِ الِاسْتِفْتَاحِ الَّذِي هُوَ (أَلَا)، وَحَرْفِ التَّوْكِيدِ الَّذِي هُوَ (إِنَّ). وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [٣٩ ٥٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ الْآيَةَ [٢٠ ٨٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [٥٣ ٣٢]. وَقَوْلِهِ فِي الْكُفَّارِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [٨ ٣٨]. وَقَوْلِهِ فِي الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [٥ ٧٤]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
فَنَرْجُو اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - الْكَرِيمَ الرَّءُوفَ الْغَفُورَ الرَّحِيمَ - أَنْ يَغْفِرَ لَنَا جَمِيعَ ذُنُوبِنَا، وَيَتَجَاوَزَ عَنْ جَمِيعِ سَيِّئَاتِنَا، وَيُدْخِلَنَا جَنَّتَهُ عَلَى مَا كَانَ مِنَّا، وَيَغْفِرَ لِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ. أَيْ أَشْرَكُوا مَعَهُ شُرَكَاءَ يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِهِ، كَمَا أَوْضَحَ - تَعَالَى - ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ [٣٩ ٣].
42
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [٢ ٢٥٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [٣ ١٧٥]. أَيْ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ الْآيَةَ [٤ ٧٦].
وَقَدْ وَبَّخَهُمْ - تَعَالَى - عَلَى اتِّخَاذِهِمُ الشَّيْطَانَ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا.
وَقَدْ أَمَرَ - جَلَّ وَعَلَا - بِاتِّبَاعِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، نَاهِيًا عَنِ اتِّبَاعِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُتَّخَذِينَ مِنْ دُونِهِ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [٧ ٣].
وَقَدْ عَلِمْتَ مِنَ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ أَوْلِيَاءَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ وَعَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: الشَّيَاطِينُ، وَمَعْنَى عِبَادَتِهِمْ لِلشَّيْطَانَ طَاعَتُهُمْ لَهُ فِيمَا يُزَيِّنُ لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، فَشِرْكُهُمْ بِهِ شِرْكُ طَاعَةٍ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى عِبَادَتِهِمْ لِلشَّيَاطِينِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ الْآيَةَ [٣٦ ٦٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ إِبْرَاهِيمَ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ الْآيَةَ [١٩ ٤٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [٤ ١١٧]، أَيْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [٣٤ ٤١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [١٦ ١٠٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [٦ ١٢١]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: هُوَ الْأَوْثَانُ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى الْآيَةَ [٣٩ ٣].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ، أَيْ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ حَافَظٌ
43
عَلَيْهِمْ كُلَّ مَا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَفِي أَوَّلِهِ اتِّخَاذُهُمُ الْأَوْلِيَاءَ يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَفِي الْآيَةِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لِكُلِّ مُشْرِكٍ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ.
أَيْ لَسْتَ يَا مُحَمَّدُ بِمُوَكَّلٍ عَلَيْهِمْ تَهْدِي مَنْ شِئْتَ هِدَايَتَهُ مِنْهُمْ، بَلْ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ فَحَسْبُ، وَقَدْ بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ.
وَالْوَكِيلُ عَلَيْهِمْ هُوَ اللَّهُ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [١١ ١٢]. وَقَالَ - تَعَالَى -: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [١٠ ٩٩ - ١٠٠]. وَقَالَ - تَعَالَى -: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [٦ ٣٥]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ لَيْسَ مَنْسُوخًا بِآيَةِ السَّيْفِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [٢٦ ١٩٤ - ١٩٥]. وَفِي «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [٣٩ ٢٨]. وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا.
خَصَّ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِنْذَارَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُمِّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا، وَالْمُرَادُ بِأُمِّ الْقُرَى مَكَّةُ - حَرَسَهَا اللَّهُ -.
وَلَكِنَّهُ أَوْضَحَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّ إِنْذَارَهُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [٧ ١٥٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [٢٥ ١].
44
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ الْآيَةَ [٣٤ ٢٨]. كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْجَوَابَ عَنْ تَخْصِيصِ أُمِّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا هُنَا، وَفِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ الْآيَةَ [٦ ٩٢]. فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فَقُلْنَا فِيهِ: وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ حَوْلَهَا شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَرْضِ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ حَوْلَهَا لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْقَرِيبَ مِنْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ - حَرَسَهَا اللَّهُ - كَجَزِيرَةِ الْعَرَبِ مَثَلًا، فَإِنَّ الْآيَاتِ الْأُخَرَ، نَصَّتْ عَلَى الْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [٢٥ ١]. وَذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ - لَا يُخَصِّصُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إِلَّا أَبُو ثَوْرٍ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ وَاضِحًا بِأَدِلَّتِهِ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ»، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَقَوْلِهِ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [٢٦ ٢١٤] ; فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إِنْذَارِ غَيْرِهِمْ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - اهـ مِنْهُ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ [٤٢ ٧].
تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ حُكْمِ إِيحَائِهِ - تَعَالَى - إِلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ - إِنْذَارَ يَوْمِ الْجَمْعِ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى أَيْ لِأَجْلِ أَنْ تُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَأَنْ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ، فَحُذِفَ فِي الْأَوَّلِ أَحَدَ الْمَفْعُولَيْنِ، وَحُذِفَ فِي الثَّانِي أَحَدَهُمَا، فَكَانَ مَا أُثْبِتَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا دَلِيلًا عَلَى مَا حُذِفَ فِي الثَّانِي، فَفِي الْأَوَّلِ حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَالتَّقْدِيرُ «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى»، أَيْ أَهْلَ مَكَّةَ «وَمَنْ حَوْلَهَا»، عَذَابًا شَدِيدًا إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَفِي الثَّانِي حُذِفَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، أَيْ وَتُنْذِرَ النَّاسَ يَوْمَ الْجَمْعِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ تُخَوِّفُهُمْ مِمَّا فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْأَوْجَالِ; لِيَسْتَعِدُّوا لِذَلِكَ فِي دَارِ الدُّنْيَا.
45
وَالثَّانِي: أَنَّ يَوْمَ الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ (لَا رَيْبَ فِيهِ)، أَيْ لَا شَكَّ فِي وُقُوعِهِ.
وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ - جَاءَا مُوَضَّحَيْنَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ.
أَمَّا تَخْوِيفُهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ الْآيَةَ [٢ ٢٨١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ الْآيَةَ [٤٠ ١٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [٧٣ ١٧ - ١٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [٨٣ ٤ - ٦]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا: وَهُوَ كَوْنُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ (لَا رَيْبَ فِيهِ) فَقَدْ جَاءَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ [٤ ٨٧]. وَقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [٣ ٢٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا الْآيَةَ [٢٢ ٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ الْآيَةَ [٤٥ ٣٢]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْجَمْعِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ فِيهِ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ. وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [٥٦ ٤٩ - ٥٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [٧٧ ٣٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْآيَةَ [٤ ٨٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [٦٤ ٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [١١ ١٠٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [٣ ٢٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [١٨ ٤٧].
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - شُمُولَ ذَلِكَ الْجَمْعِ لِجَمِيعِ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [٦ ٣٨]. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْجَمْعِ الْمَذْكُورَةُ كَثِيرَةٌ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.
46
مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ، وَجَعَلَ مِنْهُمْ فَرِيقًا سُعَدَاءَ، وَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَفَرِيقًا أَشْقِيَاءَ وَهُمْ أَصْحَابُ السَّعِيرِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [٦٤ ٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [١١ ١١٨ - ١١٩]، أَيْ وَلِذَلِكَ الِاخْتِلَافِ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَشَقِيٍّ وَسَعِيدٍ - خَلَقَهُمْ - عَلَى الصَّحِيحِ -. وَنُصُوصُ الْوَحْيِ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا: «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» - وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [١١ ١١٩] عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [٥١ ٥٦]. وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي سُورَةِ «الذَّارِيَاتِ».
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى السَّعِيرِ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْحَجِّ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ الْآيَةَ [٢٢ ٤]. وَالْجَنَّةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْبُسْتَانُ.
وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى:
كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبِيِّ مَقْتَلَةٍ مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقًا
فَقَوْلُهُ: جَنَّةً سُحُقًا، يَعْنِي بُسَتَانًا طَوِيلَ النَّخْلِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ هِيَ دَارُ الْكَرَامَةِ الَّتِي أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَالْفَرِيقُ: الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ، وَيَجُوزُ تَعَدُّدُهُ إِلَى أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نُصَيْبٍ: فَقَالَ فَرِيقُ الْقَوْمِ، لَا وَفَرِيقُهُمْ نَعَمْ، وَفَرِيقٌ قَالَ وَيْحَكَ مَا نَدْرِي
وَالْمُسَوِّغُ لِلِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ فِي قَوْلِهِ: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ)، أَنَّهُ فِي مَعْرِضِ التَّفْصِيلِ.
وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَلَمَّا دَنَوْتُ تَسَدَّيْتُهَا فَثَوْبًا نَسِيتُ وَثَوبًا أَجُرْ
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ.
مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْأَحْكَامِ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، لَا إِلَى غَيْرِهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. ُُ
47
فَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ فِي حُكْمِهِ كَالْإِشْرَاكِ بِهِ فِي عِبَادَتِهِ، قَالَ فِي حُكْمِهِ: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [١٨ ٢٦]. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ وَلَا تُشْرِكْ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا بِصِيغَةِ النَّهْيِ.
وَقَالَ فِي الْإِشْرَاكِ بِهِ فِي عِبَادَتِهِ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [١٨ ١١٠]، فَالْأَمْرَانِ سَوَاءٌ كَمَا تَرَى إِيضَاحَهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -.
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْحَلَالَ هُوَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَالْحَرَامَ هُوَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَالدِّينَ هُوَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ، فَكُلُّ تَشْرِيعٍ مَنْ غَيْرِهِ بَاطِلٌ، وَالْعَمَلُ بِهِ بَدَلَ تَشْرِيعِ اللَّهِ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ - كُفْرُ بَوَاحٍ لَا نِزَاعَ فِيهِ.
وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ عَلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَأَنَّ اتِّبَاعَ تَشْرِيعِ غَيْرِهِ كُفْرٌ بِهِ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لِلَّهِ وَحْدَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [١٢ ٤٠]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ الْآيَةَ [١٢ ٦٧]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [٦ ٥٧]. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [٥ ٤٤]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [١٨ ٢٦]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [٢٨ ٨٨]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [٢٨ ٧٠]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [١٨ ٢٦].
وَأَمَّا الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ تَشْرِيعِ غَيْرِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ كُفْرٌ، فَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [١٦ ١٠٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [١٦ ١٢١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ الْآيَةَ [٣٦ ٦٠]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي «الْكَهْفِ».
48
مَسْأَلَةٌ
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ صِفَاتِ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لَهُ، فَعَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَتَأَمَّلَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ الَّتِي سَنُوَضِّحُهَا الْآنَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - وَيُقَابِلَهَا مَعَ صِفَاتِ الْبَشَرِ الْمُشَرِّعِينَ لِلْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ، فَيَنْظُرُ هَلْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ صِفَاتُ مَنْ لَهُ التَّشْرِيعُ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَتْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ - وَلَنْ تَكُونَ - فَلْيَتَّبِعْ تَشْرِيعَهُمْ.
وَإِنْ ظَهَرَ يَقِينًا أَنَّهُمْ أَحْقَرُ وَأَخَسُّ وَأَذَلُّ وَأَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَلْيَقِفْ بِهِمْ عِنْدَ حَدِّهِمْ، وَلَا يُجَاوِزْهُ بِهِمْ إِلَى مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ.
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي عِبَادَتِهِ أَوْ حُكْمِهِ أَوْ مُلْكِهِ.
فَمِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي أَوْضَحَ بِهَا - تَعَالَى - صِفَاتِ مِنْ لَهُ الْحُكْمُ وَالتَّشْرِيعُ قَوْلُهُ هُنَا: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ مُبَيِّنًا صِفَاتِ مَنْ لَهُ الْحُكْمُ: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [٤٢ ١٠ - ١٢].
فَهَلْ فِي الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ الْمُشَرِّعِينَ لِلنُّظُمِ الشَّيْطَانِيَّةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ الرَّبُّ الَّذِي تُفَوَّضُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ، وَيُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - أَيْ خَالِقُهُمَا وَمُخْتَرِعُهُمَا - عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لِلْبَشَرِ أَزْوَاجًا، وَخَلَقَ لَهُمْ أَزْوَاجَ الْأَنْعَامِ الثَّمَانِيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ [٦ ١٤٣]، وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَأَنَّهُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ - أَيْ يُضَيِّقُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ - وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
فَعَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْ تَتَفَهَّمُوا صِفَاتِ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُشَرِّعَ وَيُحَلِّلَ وَيُحَرِّمَ، وَلَا تَقْبَلُوا تَشْرِيعًا مِنْ كَافِرٍ خَسِيسٍ حَقِيرٍ جَاهِلٍ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [٤ ٥٩]، فَقَوْلُهُ فِيهَا: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ: فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ.
49
وَقَدْ عَجِبَ نَبِيُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ قَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ مَعَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمُحَاكَمَةَ إِلَى مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِصِفَاتِ مَنْ لَهُ الْحُكْمُ، الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِالطَّاغُوتِ، وَكُلُّ تَحَاكُمٍ إِلَى غَيْرِ شَرْعِ اللَّهِ فَهُوَ تَحَاكُمٌ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [٤ ٦٠].
فَالْكُفْرُ بِالطَّاغُوتِ الَّذِي صَرَّحَ اللَّهُ بِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ - شَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ كَمَا بَيَّنَهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [٢ ٢٥٦].
فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَمَنْ لَمْ يَسْتَمْسِكْ بِهَا فَهُوَ مُتَرَدٍّ مَعَ الْهَالِكِينَ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [١٨ ٢٦].
فَهَلْ فِي الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ الْمُشَرِّعِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ وَأَنْ يُبَالَغَ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ لِإِحَاطَةِ سَمْعِهِ بِكُلِّ الْمَسْمُوعَاتِ وَبَصَرِهِ بِكُلِّ الْمُبْصَرَاتِ؟ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ دُونَهُ مِنْ وَلِيٍّ؟
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [٢٨ ٨٨].
فَهَلْ فِي الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ الْمُشَرِّعِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ؟ وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ؟ وَأَنَّ الْخَلَائِقَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ؟
تَبَارَكَ رَبُّنَا وَتَعَاظَمَ وَتَقَدَّسَ أَنْ يُوصَفَ أَخَسُّ خَلْقِهِ بِصِفَاتِهِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [٤٠ ١٢].
50
فَهَلْ فِي الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ الْمُشَرِّعِينَ النُّظُمَ الشَّيْطَانِيَّةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ فِي أَعْظَمِ كِتَابٍ سَمَاوِيٍّ بِأَنَّهُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ؟
سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِكَ وَجَلَالِكَ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [٢٨ ٧٣].
فَهَلْ فِي مُشَرِّعِي الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّ لَهُ الْحَمْدَ فِي الْأَوْلَى وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُصَرِّفُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، مُبَيِّنًا بِذَلِكَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ، وَعَظَمَةَ إِنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ.
سُبْحَانَ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - جَلَّ وَعَلَا - أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي حُكْمِهِ أَوْ عِبَادَتِهِ أَوْ مُلْكِهِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [١٢ ٤٠].
فَهَلْ فِي أُولَئِكَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ هِيَ الدِّينُ الْقَيِّمُ؟
سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [١٢ ٦٧].
فَهَلْ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَتُفَوِّضَ الْأُمُورُ إِلَيْهِ؟
وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -:
51
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [٥ ٤٩ - ٥٠].
فَهَلْ فِي أُولَئِكَ الْمُشَرِّعِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّ حُكْمَهُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى؟ وَأَنَّ مَنْ تَوَلَّى عَنْهُ أَصَابَهُ اللَّهُ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِ؟ لِأَنَّ الذُّنُوبَ لَا يُؤَاخَذُ بِجَمِيعِهَا إِلَّا فِي الْآخِرَةِ؟ وَأَنَّهُ لَا حُكْمَ أَحْسَنُ مِنْ حُكْمِهِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ؟
سُبْحَانَ رَبِّنَا وَتَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [٦ ٥٧].
فَهَلْ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ يَقُصُّ الْحَقَّ، وَأَنَّهُ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ؟
وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا الْآيَةَ [٦ ١١٤ - ١١٥].
فَهَلْ فِي أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْكِتَابَ مُفَصَّلًا، الَّذِي يَشْهَدُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، وَبِأَنَّهُ تَمَّتْ كَلِمَاتُهُ صِدْقًا وَعَدْلًا - أَيْ صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الْأَحْكَامِ - وَأَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ؟
سُبْحَانَ رَبِّنَا، مَا أَعْظَمَهُ، وَمَا أَجَلَّ شَأْنَهُ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [١٠ ٥٩].
فَهَلْ فِي أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الرِّزْقَ لِلْخَلَائِقِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟ لِأَنَّ مِنَ الضَّرُورِيِّ أَنَّ مَنْ خَلَقَ الرِّزْقَ وَأَنْزَلَهُ هُوَ الَّذِي لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ؟
سُبْحَانَهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [٥ ٤٤].
52
فَهَلْ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْوَصْفَ بِذَلِكَ؟
سُبْحَانَ رَبِّنَا وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [١٦ ١١٦ - ١١٧].
فَقَدْ أَوْضَحَتِ الْآيَةُ أَنَّ الْمُشَرِّعِينَ غَيْرَ مَا شَرَّعَهُ اللَّهُ إِنَّمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ، لِأَجْلِ أَنْ يَفْتَرُوهُ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ، وَأَنَّهُمْ يُمَتَّعُونَ قَلِيلًا ثُمَّ يُعَذَّبُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي بُعْدِ صِفَاتِهِمْ مِنْ صِفَاتِ مَنْ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَ وَيُحَرِّمَ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [٦ ١٥٠].
فَقَوْلُهُ: هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ صِيغَةُ تَعْجِيزٍ، فَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ بَيَانِ مُسْتَنَدِ التَّحْرِيمِ. وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَتَّصِفُ بِصِفَاتِ التَّحْلِيلِ وَلَا التَّحْرِيمِ. وَلَمَّا كَانَ التَّشْرِيعُ وَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ - شَرْعِيَّةً كَانَتْ أَوْ كَوْنِيَّةً قَدَرِيَّةً - مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ - كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ - كَانَ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعًا غَيْرَ تَشْرِيعِ اللَّهِ قَدِ اتَّخَذَ ذَلِكَ الْمُشَرِّعَ رَبًّا، وَأَشْرَكَهُ مَعَ اللَّهِ.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا مِرَارًا وَسَنُعِيدُ مِنْهَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ - وَهُوَ مِنْ أَوْضَحِهِ وَأَصْرِحِهِ - أَنَّهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَعَتْ مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ حِزْبِ الرَّحْمَنِ وَحِزْبِ الشَّيْطَانِ فِي حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، وَحِزْبُ الرَّحْمَنِ يَتَّبِعُونَ تَشْرِيعَ الرَّحْمَنِ فِي وَحْيِهِ فِي تَحْرِيمِهِ، وَحِزْبُ الشَّيْطَانِ يَتَّبِعُونَ وَحْيَ الشَّيْطَانِ فِي تَحْلِيلِهِ.
وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا وَأَفْتَى فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ فَتْوَى سَمَاوِيَّةً قُرْآنِيَّةً تُتْلَى فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ».
وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمَّا أَوْحَى إِلَى أَوْلِيَائِهِ فَقَالَ لَهُمْ فِي وَحْيِهِ: سَلُوا مُحَمَّدًا عَنِ الشَّاةِ تُصْبِحُ مَيْتَةً، مَنْ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا؟ فَأَجَابُوهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا.
فَقَالُوا: الْمَيْتَةُ إِذًا ذَبِيحَةُ اللَّهِ، وَمَا ذَبَحَهُ اللَّهُ كَيْفَ تَقُولُونَ إِنَّهُ حَرَامٌ؟ مَعَ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ
53
إِنَّمَا ذَبَحْتُمُوهُ بِأَيْدِيكُمْ حَلَالٌ، فَأَنْتُمْ إِذًا أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ وَأَحَلُّ ذَبِيحَةً.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [٦ ١٢١]، يَعْنِي الْمَيْتَةَ، أَيْ وَإِنْ زَعَمَ الْكُفَّارُ أَنَّ اللَّهَ ذَكَّاهَا بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ بِسِكِّينٍ مِنْ ذَهَبٍ. وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [٦ ١٢١]، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْأَكْلِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا تَأْكُلُوا، وَقَوْلُهُ: لَفِسْقٌ، أَيْ خُرُوجٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعٌ لِتَشْرِيعِ الشَّيْطَانِ. وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [٦ ١٢١]. أَيْ بِقَوْلِهِمْ: مَا ذَبَحْتُمُوهُ حَلَالٌ وَمَا ذَبَحَهُ اللَّهُ حَرَامٌ، فَأَنْتُمْ إذًا أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ، وَأَحَلُّ تَذْكِيَةً، ثُمَّ بَيَّنَ الْفَتْوَى السَّمَاوِيَّةِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [٦ ١٢١] فَهِيَ فَتْوَى سَمَاوِيَّةٌ مِنَ الْخَالِقِ - جَلَّ وَعَلَا - صَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّ مُتَّبِعَ تَشْرِيعِ الشَّيْطَانِ الْمُخَالِفِ لِتَشْرِيعِ الرَّحْمَنِ - مُشْرِكٌ بِاللَّهِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مَثَّلَ بِهَا بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ لِحَذْفِ اللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ الْمَحْذُوفَةِ عَدَمُ اقْتِرَانِ جُمْلَةِ (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) بِالْفَاءِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْطًا لَمْ يَسْبِقْهُ قَسَمٌ لَقِيلَ: فَإِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَاقرُنْ بِفَا حَتْمًا جَوَابًا لَو جُعِلْ شَرْطًا لِأَنْ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَنْجَعِلْ
وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَحَذْفُ الْفَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ.
وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَأَنَّ ذَلِكَ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.
وَالثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [٤٢] بِحَذْفِ الْفَاءِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ خِلَافُ التَّحْقِيقِ.
بَلِ الْمُسَوِّغُ لِحَذْفِ الْفَاءِ فِي آيَةِ: إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ تَقْدِيرُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ الشَّرْطِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِحَذْفِ الْفَاءِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ جَوَابَ مَا أَحْرَتْ فَهُوَ مُلْتَزَمْ
وَعَلَيْهِ، فَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، فَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ لِحَذْفِ الْفَاءِ الْمَذْكُورِ. ُُ
54
وَالْمُسَوِّغُ لَهُ فِي آيَةِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أَنَّ (مَا) فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ مَوْصُولَةٌ، كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، أَيْ وَالَّذِي أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ كَائِنٌ وَوَاقِعٌ بِسَبَبِ مَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ.
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: فَمَا مَوْصُولَةٌ أَيْضًا، وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ جَائِزٌ كَمَا أَنَّ عَدَمَهُ جَائِزٌ، فَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ جَارِيَةٌ عَلَى أَمْرٍ جَائِزٍ.
وَمِثَالُ دُخُولِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [٢ ٢٧٤] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ (مَا) فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ شَرْطِيَّةٌ، وَعَلَيْهِ فَاقْتِرَانُ الْجَزَاءِ بِالْفَاءِ وَاجِبٌ.
أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ فَهِيَ مَوْصُولَةٌ لَيْسَ إِلَّا، كَمَا هُوَ التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -.
وَكَوْنُ (مَا) شَرْطِيَّةً عَلَى قِرَاءَةٍ، وَمَوْصُولَةً عَلَى قِرَاءَةٍ - لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ كَالْآيَتَيْنِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نَحْوِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الْأَنْعَامِ» الْمَذْكُورَةُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [١٦ ١٠٠]. فَصَرَّحَ بِتَوَلِّيهِمْ لِلشَّيْطَانِ، أَيْ بِاتِّبَاعِ مَا يُزَيِّنُ لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي مُخَالِفًا لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِشْرَاكٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ، وَصَرَّحَ أَنَّ الطَّاعَةَ فِي ذَلِكَ الَّذِي يُشَرِّعُهُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ وَيُزَيِّنُهُ عِبَادَةٌ لِلشَّيْطَانِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ فَقَدْ أَشْرَكَ بِالرَّحْمَنِ، قَالَ - تَعَالَى -: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا، وَيَدْخُلُ فِيهِمْ مُتَّبِعُو نِظَامِ الشَّيْطَانِ دُخُولًا أَوْلِيَاءُ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [٣٦ ٦٠ - ٦٢].
ثُمَّ بَيَّنَ الْمَصِيرَ الْأَخِيرَ لِمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [٣٦ ٦٣ - ٦٥]. وَقَالَ - تَعَالَى - عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [١٩ ٤٤] فَقَوْلُهُ:
55
(لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ) أَيْ بِاتِّبَاعِ مَا يُشَرِّعُهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، مُخَالِفًا لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ - تَعَالَى -: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [٤ ١١٧]، فَقَوْلُهُ: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا يَعْنِي مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [٣٤ ٤٠ - ٤١].
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَيْ يَتَّبِعُونَ الشَّيَاطِينَ وَيُطِيعُونَهُمْ فِيمَا يُشَرِّعُونَ وَيُزَيِّنُونَ لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ.
وَالشَّيْطَانُ عَالِمٌ بِأَنَّ طَاعَتَهُمْ لَهُ الْمَذْكُورَةَ إِشْرَاكٌ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [١٤ ٢٢]. فَقَدِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ بِهِ مِنْ قَبْلُ، أَيْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَكْفُرْ بِشِرْكِهِمْ ذَلِكَ إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ أَوْضَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا فِي الْحَدِيثِ لَمَّا سَأَلَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا [٩ ٣١] كَيْفَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا؟ وَأَجَابَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ - فَاتَّبَعُوهُمْ، وَبِذَلِكَ الِاتِّبَاعِ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا.
وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا أَحَلُّوا شَيْئًا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ، وَحَرَّمُوا شَيْئًا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّهُ - فَإِنَّهُمْ يَزْدَادُونَ كُفْرًا جَدِيدًا بِذَلِكَ مَعَ كُفْرِهِمُ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [٩ ٣٧].
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَطَاعَ غَيْرَ اللَّهِ فِي تَشْرِيعٍ مُخَالِفٍ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ - فَقَدْ أَشْرَكَ بِهِ مَعَ اللَّهِ، كَمَا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ [٦ ١٣٧]. فَسَمَّاهُمْ شُرَكَاءَ لَمَّا أَطَاعُوهُمْ فِي قَتْلِ الْأَوْلَادِ.
56
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [٤٢ ٢١] فَقَدْ سَمَّى - تَعَالَى - الَّذِينَ يُشَرِّعُونَ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ - شُرَكَاءَ، وَمِمَّا يَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنِ الشَّيْطَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ لِلَّذِينِ كَانُوا يُشْرِكُونَ بِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا: (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ) - أَنَّ ذَلِكَ الْإِشْرَاكَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْهُ: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي الْآيَةَ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «فَاطِرٍ».
وَقَوْلُهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا، أَيْ خَلَقَ لَكُمْ أَزْوَاجًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، كَمَا قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [١٦ ٧٢]. وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَزْوَاجِ الْإِنَاثُ، كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً الْآيَةَ [٣٠ ٢١]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [٥٣ ٤٥ - ٤٦]. وَقَوْلُهُ: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [٧٥ ٣٩]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [٩٢ ١ - ٣]. وَقَوْلُهُ فِي آدَمَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا الْآيَةَ [٤ ١]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِيهِ أَيْضًا: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا الْآيَةَ [٧ ١٨٩]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِيهِ أَيْضًا: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا الْآيَةَ [٣٩ ٦].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا هِيَ الثَّمَانِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ [٦ ١٤٣]. وَفِي قَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [٣٩ ٦]. وَهِيَ ذُكُورُ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَإِنَاثُهَا، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [٣ ١٤].
57
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ الظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: يَذْرَؤُكُمْ شَامِلٌ لِلْآدَمِيِّينَ وَالْأَنْعَامِ، وَتَغْلِيبُ الْآدَمِيِّينَ عَلَى الْأَنْعَامِ فِي ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: (يَذْرَؤُكُمْ) وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ.
وَالتَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: «فِيهِ» رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرَ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَالْأَنْعَامِ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُ جَعَلَ لِلْآدَمِيِّينَ إنَاثًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَجَعَلَ لِلْأَنْعَامِ أَيْضًا إِنَاثًا كَذَلِكَ، أَوْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَزْوَاجِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنْهُمَا مَعًا.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ (يَذْرَؤُكُمْ)، أَيْ يَخْلُقُكُمْ وَيَبُثُّكُمْ وَيَنْشُرُكُمْ (فِيهِ)، أَيْ فِيمَا ذَكَرَ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، أَيْ فِي ضِمْنِهِ عَنْ طَرِيقِ التَّنَاسُلِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ.
وَيُوَضَّحُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [٤ ١]. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ إِفْرَادِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) مَعَ أَنَّهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ عَائِدٌ إِلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَالْأَنْعَامِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ رُجُوعُ الضَّمِيرِ أَوِ الْإِشَارَةِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ إِلَى مُثَنَّى أَوْ مَجْمُوعٍ بِاعْتِبَارِ مَا ذُكِرَ مَثَلًا.
وَمِثَالُهُ فِي الضَّمِيرِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ الْآيَةَ [٦ ٤٦]. فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (بِهِ) مُفْرَدٌ، مَعَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْقُلُوبِ.
فَقَوْلُهُ: يَأْتِيكُمْ بِهِ أَيْ بِمَا ذَكَرَ مِنْ سَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوادٍ وَبَلَقْ كَأَنَّ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعَ الْبَهَقْ
فَقَوْلُهُ: كَأَنَّهُ، أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ خُطُوطٍ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقٍ. ُُ
58
وَمِثَالُهُ فِي الْإِشَارَةِ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [٢ ٦٨] أَيْ بَيْنَ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ فَارِضٍ وَبِكْرٍ، وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيِّ:
إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى وَكِلَا ذَلِكَ وَجْهٌ وَقُبُلْ
أَيْ كِلَا ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ، إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (فِيهِ) رَاجِعٌ إِلَى الرَّحِمِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: رَاجِعٌ إِلَى الْبَطْنِ، وَمَنْ قَالَ: رَاجِعٌ إِلَى الْجَعْلِ الْمَفْهُومِ مِنْ (جَعَلَ) وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: رَاجِعٌ إِلَى التَّدْبِيرِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ خِلَافُ الصَّوَابِ.
وَالتَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [٧ ٥٤].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ.
مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ هِيَ مَفَاتِيحُهُمَا، وَهُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، فَمُفْرَدُهَا إِقْلِيدٌ، وَجَمْعُهَا مَقَالِيدُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَالْإِقْلِيدُ الْمِفْتَاحُ. وَقِيلَ: وَاحِدُهَا مِقْلِيدٌ، وَهُوَ قَوْلٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي اللُّغَةِ.
وَكَوْنُهُ - جَلَّ وَعَلَا - لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ مَفَاتِيحُهُمَا، كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ وَحْدَهُ الْمَالِكُ لِخَزَائِنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ; لِأَنَّ مِلْكَ مَفَاتِيحِهَا يَسْتَلْزِمُ مِلْكَهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - مِثْلَ هَذَا فِي سُورَةِ «الزُّمَرِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٣٩ ٦٢ - ٦٣].
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الشُّورَى» هَذِهِ وَآيَةُ «الزُّمَرِ» الْمَذْكُورَتَانِ مِنْ أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ مَالِكُ خَزَائِنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ [٦٣ ٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [١٥ ٢١]. ُُ
وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ خَزَائِنَ رَحْمَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ [٣٨ ٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ [٥٢ ٣٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا [١٧ ١٠٠].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ الْآيَةَ [٣٤ ٣٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [٣٤ ٣٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [١٣ ٢٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ الْآيَةَ [١٦ ٧١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [٤٣ ٣٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا الْآيَةَ [٤ ١٣٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ الْآيَةَ [٦٥ ٧]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [٦٥ ٧] أَيْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ لِقِلَّتِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ.
أَيْ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ بَسْطَهُ لَهُ وَيَقْدِرُ، أَيْ يُضَيِّقُ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ تَضْيِيقَهُ عَلَيْهِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [٢١ ٨٧].
وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي بَعْضِ الْآيَاتِ حِكْمَةَ تَضْيِيقِهِ لِلرِّزْقِ عَلَى مَنْ ضَيَّقَهُ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ حُكْمِ ذَلِكَ أَنَّ بَسْطَ الرِّزْقِ لِلْإِنْسَانِ، قَدْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [٤٢ ٢٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [٩٦ ٦].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -:
60
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ الْآيَةَ [٣٣ ٧].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ.
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (فِيهِ)، رَاجِعٌ إِلَى الدِّينِ فِي قَوْلِهِ: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ).
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِافْتِرَاقِ فِي الدِّينِ - جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّهُ وَصَّى خَلْقَهُ بِذَلِكَ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا الْآيَةَ [٣ ١٠٣]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [٦ ١٥٣]. وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يَجْتَنِبُونَ هَذَا النَّهْيَ، وَهَدَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [٦ ١٥٩]. لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِلَى قَوْلِهِ: يَفْعَلُونَ - فِيهِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لَهُمْ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» : وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [٢٣ ٥٢ - ٥٤].
فَقَوْلُهُ: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً أَيْ: إِنَّ هَذِهِ شَرِيعَتُكُمْ شَرِيعَةً وَاحِدَةً، وَدِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ، وَرَبُّكُمْ وَاحِدٌ فَلَا تَتَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ.
وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا -: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَنِبُوا مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ فِيهِ تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ عَظِيمٌ عَلَى ذَلِكَ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» : إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [٢١ ٩٢ - ٩٣]. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ فِيهِ أَيْضًا تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي آخِرِ سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً الْآيَةَ [٢١ ٩٣].
61
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ افْتِرَاقُ الْيَهُودِ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةٍ، وَافْتِرَاقُ النَّصَارَى إِلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتِرَاقُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَأَنَّ النَّاجِيَةَ مِنْهَا وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
بَيِّنَ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّهُ (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) أَيْ شَقَّ عَلَيْهِمْ وَعَظُمَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، وَطَاعَتِهِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَلِعِظَمِ ذَلِكَ وَمَشَقَّتِهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي عَدَمِ سَمَاعِهِ لِشِدَّةِ كَرَاهَتِهِمْ لَهُ، بَلْ يَكَادُونَ يَبْطِشُونَ بِمَنْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ لِشِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ لَهَا.
وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَفِيهَا بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ عَادَةُ الْكَافِرِينَ مَعَ جَمِيعِ الرُّسُلِ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ إِلَى عَهْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - مَشَقَّةَ ذَلِكَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَكِبْرَهُ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ الْآيَةَ [١٠ ٧١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ نُوحٍ: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [٧١ ٧].
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى شِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ لِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ نُوحٌ، فَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّهُمْ كَبُرَ عَلَيْهِمْ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [٢٢ ٧٢]. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ الْآيَةَ - يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى شِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَكَرَاهِيَتِهِمْ لِسَمَاعِ تِلْكَ الْآيَاتِ.
وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ الْآيَةَ [٤١ ٢٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الزُّخْرُفِ» : لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [٤٣ ٧٨].
62
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» : أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [٢٣ ٧٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْقِتَالِ» : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [٤٧ ٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [٤٥ ٦ - ٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [٣١ ٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ الْآيَةَ [٤١ ٥]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْرَهُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَحْذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ أَنْ يُطِيعَهُمْ فِي بَعْضِ أَمْرِهِمْ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَتَائِجَ سَيِّئَةً مُتَنَاهِيَةً فِي السُّوءِ، كَمَا أَوْضَحَ - تَعَالَى - ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [٤٧ ٢٤ - ٢٨]. فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَحْذَرَ ثُمَّ يَحْذَرَ ثُمَّ يَحْذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ أَنْ يَقُولَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا، الَّذِينَ يَكْرَهُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ -: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَبِّبُ لَهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَكْفِيهِ زَجْرًا وَرَدْعًا عَنْ ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّهِ - تَعَالَى -: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [٤٧ ٢٧ - ٢٨].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ.
الِاجْتِبَاءُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَعْنَاهُ الِاخْتِيَارُ وَالِاصْطِفَاءُ.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّهُ - تَعَالَى - يَجْتَبِي مِنْ خَلْقِهِ مَنْ يَشَاءُ اجْتِبَاءَهُ.
وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بَعْضَ مَنْ شَاءَ اجْتِبَاءَهُ مِنْ خَلْقِهِ، فَبَيَّنَ أَنَّ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ إِلَى قَوْلِهِ: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [٢٢ ٧٧ - ٧٨].
63
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا الْآيَةَ [٣٥ ٣٢].
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مِنْهُمْ آدَمَ، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [٢٠ ١٢٢]. وَذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً إِلَى قَوْلِهِ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ الْآيَةَ [١٦ ١٢٠ - ١٢١]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اجْتِبَاءِ بَعْضِ الْخَلْقِ بِالتَّعْيِينِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أَيْ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يُنِيبُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ يَرْجِعُ إِلَى مَا يُرْضِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» : قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [١٣ ٢٧].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ.
تَقَدَّمَتِ الْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [٢ ١٣٦].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ.
بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْبَاطِلِ، وَقَوْلُهُ: الْكِتَابَ اسْمُ جِنْسٍ مُرَادٌ بِهِ جَمِيعُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» أَنَّ الْمُفْرَدَ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْجِنْسِ يُطْلَقُ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالْمِيزَانَ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْمِيزَانَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمِيزَانُ فِي الْآيَةِ هُوَ آلَةُ الْوَزْنِ الْمَعْرُوفَةُ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِيزَانَ مِفْعَالٌ، وَالْمِفْعَالُ قِيَاسِيٌّ فِي اسْمِ الْآلَةِ.
وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ - وَهُوَ أَنَّ الْمِيزَانَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ - فَالْمِيزَانُ الَّذِي هُوَ آلَةُ الْوَزْنِ الْمَعْرُوفَةُ دَاخِلٌ فِيهِ ; لِأَنَّ إِقَامَةَ الْوَزْنِ بِالْقِسْطِ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ.
64
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي أَنْزِلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ - أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ» : لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [٥٧ ٢٥].
فَصَرَّحَ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ أَنْزَلَ مَعَ رُسُلِهِ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِأَجْلِ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الرَّحْمَنِ» : وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [٥٥ ٧ - ٩].
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ: أَنَّ الْمِيزَانَ فِي سُورَةِ «الشُّورَى» وَسُورَةِ «الْحَدِيدِ» هُوَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَأَنَّ الْمِيزَانَ فِي سُورَةِ «الرَّحْمَنِ» هُوَ الْمِيزَانُ الْمَعْرُوفُ، أَعْنِي آلَةَ الْوَزْنِ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا بَعْضُ الْمَبِيعَاتِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ فِي سُورَةِ «الشُّورَى» وَسُورَةِ «الْحَدِيدِ» عَبَّرَ بِإِنْزَالِ الْمِيزَانِ لَا بِوَضْعِهِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ «الشُّورَى» : اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ. وَقَالَ فِي «الْحَدِيدِ» : وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [٥٧ ٢٥].
وَأَمَّا فِي سُورَةِ «الرَّحْمَنِ» فَقَدْ عَبَّرَ بِالْوَضْعِ لَا الْإِنْزَالِ، قَالَ: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [٥٥ ٧]. ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ آلَةُ الْوَزْنِ الْمَعْرُوفَةُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [٥٥ ٩] لِأَنَّ الْمِيزَانَ الَّذِي نُهُوا عَنْ إِخْسَارِهِ هُوَ أَخُو الْمِكْيَالِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [٢٦ ١٨١ - ١٨٣]. وَقَالَ - تَعَالَى -: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [٨٣ ١ - ٣]. وَقَالَ - تَعَالَى - عَنْ نَبِيِّهِ شُعَيْبٍ: وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ الْآيَةَ [١١ ٨٤]. وَقَالَ - تَعَالَى - عَنْهُ أَيْضًا: قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ الْآيَةَ [٧ ٨٥]. وَقَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» : وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [٦ ١٥٢]. وَقَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «بَنِي
65
إِسْرَائِيلَ» : وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.
فَإِنْ قِيلَ: قَدِ اخْتَرْتُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِيزَانِ فِي سُورَةِ «الشُّورَى» وَسُورَةِ «الْحَدِيدِ» - هُوَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِيزَانِ فِي سُورَةِ «الرَّحْمَنِ» هُوَ آلَةُ الْوَزْنِ الْمَعْرُوفَةُ، وَذَكَرْتُمْ نَظَائِرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي اخْتَرْتُمْ يُشَكَّلُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ ; لِأَنَّ الْكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ كُلُّهَا عَدْلٌ وَإِنْصَافٌ.
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِرَارًا مِنْ أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ إِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِصِفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ جَازَ عَطْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ تَنْزِيلًا لِلتَّغَايُرِ بَيْنَ الصِّفَاتِ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ فِي الذَّوَاتِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [٨٧ ١ - ٤]. فَالْمَوْصُوفُ وَاحِدٌ وَالصِّفَاتُ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَدْ سَاغَ الْعَطْفُ لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمِ
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ، مِنَ الْمُغَايَرَةِ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ هُوَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ.
وَأَمَّا الْمِيزَانُ: فَيَصْدُقُ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ الَّذِي لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ فِي الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِمَّا صَرَّحَ بِهِ فِيهَا.
فَالتَّأْفِيفُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [١٧ ٢٣]. مِنَ الْكِتَابِ ; لِأَنَّهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْكِتَابِ، وَمَنْعُ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ مَثَلًا الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالنَّهْيِ عَلَى التَّأْفِيفِ مِنَ الْمِيزَانِ، أَيْ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ رُسُلِهِ.
وَقَبُولُ شَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ فِي الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ الْمَنْصُوصُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [٦٥ ٢] مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ ; لِأَنَّهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِيهِ. ُُ
66
وَقَبُولُ شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ عُدُولٍ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ رُسُلِهِ.
وَتَحْرِيمُ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا الْآيَةَ [٤ ١٠]- مِنَ الْكِتَابِ.
وَتَحْرِيمُ إِغْرَاقِ مَالِ الْيَتِيمِ وَإِحْرَاقِهِ الْمَعْرُوفُ مِنْ ذَلِكَ - مِنَ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ رُسُلِهِ.
وَجَلْدُ الْقَاذِفِ الذَّكَرِ لِلْمُحْصَنَةِ الْأُنْثَى ثَمَانِينَ جِلْدَةً وَرَدُّ شَهَادَتِهِ، وَالْحُكْمُ بِفِسْقِهِ الْمَنْصُوصُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً إِلَى قَوْلِهِ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا الْآيَةَ [٢٤ ٤ - ٥]- مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ.
وَعُقُوبَةُ الْقَاذِفِ الذَّكَرِ لِذَكَرٍ مِثْلِهِ، وَالْأُنْثَى الْقَاذِفَةِ لِلذَّكَرِ أَوْ لِأُنْثَى بِمِثْلِ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْقُرْآنِ - مِنَ الْمِيزَانِ الْمَذْكُورِ.
وَحِلِّيَّةُ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ مَبْتُوتَةً، بِسَبَبِ نِكَاحِ زَوْجٍ ثَانٍ وَطَلَاقِهِ لَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، الْمَنْصُوصُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا [٢ ٢٣٠] أَيْ فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي بَعْدَ الدُّخُولِ وَذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ - فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا، أَيْ لَا جُنَاحَ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ مَبْتُوتَةً، وَالزَّوْجُ الَّذِي كَانَتْ حَرَامًا عَلَيْهِ - أَنْ يَتَرَاجَعَا بَعْدَ نِكَاحِ الثَّانِي وَطَلَاقِهِ لَهَا - مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ.
وَأَمَّا إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الثَّانِي بَعْدَ أَنْ دَخَلَ بِهَا وَكَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَحِلِّيَّتُهَا لِلْأَوَّلِ الَّذِي كَانَتْ حَرَامًا عَلَيْهِ - مِنَ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ رُسُلِهِ.
وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ الْمَذْكُورِ، وَأَكْثَرْنَا مِنَ الْأَمْثِلَةِ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ الْآيَةَ [٢١ ٧٨].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ الْآيَةَ [١٦ ١]. وَفِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ
67
- تَعَالَى -: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [٣٣ ٦٣]. وَفِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ الْآيَةَ [٤٠ ١٨].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ.
ذَكَرَ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَ مَسَائِلَ: الْأُولَى: أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالسَّاعَةِ يَسْتَعْجِلُونَ بِهَا، أَيْ يَطْلُبُونَ تَعْجِيلَهَا عَلَيْهِمْ، لِشِدَّةِ إِنْكَارِهِمْ لَهَا.
وَالثَّانِيَةَ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُشْفِقُونَ مِنْهَا، أَيْ خَائِفُونَ مِنْهَا.
وَالثَّالِثَةَ: أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ، أَيْ أَنَّ قِيَامَهَا وَوُقُوعَهَا حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ.
وَكُلُّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا اسْتِعْجَالُهُمْ لَهَا فَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ [١٣ ٦]. وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي هِيَ إِشْفَاقُ الْمُؤْمِنِينَ وَخَوْفُهُمْ مِنَ السَّاعَةِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [٢١ ٤٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [٢٤ ٣٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [٧٦ ٧].
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ عِلْمُهُمْ أَنَّ السَّاعَةَ حَقٌّ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّهَا لَا رَيْبَ فِيهَا ; لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ نَفْيَ الرَّيْبِ فِيهَا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالرَّيْبُ: الشَّكُّ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ الْآيَةَ [٣ ٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الْآيَةَ [٤ ٨٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ الْآيَةَ [٣ ٢٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ الْآيَةَ [٤٢ ٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [٢٢ ٦ - ٧]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [٢٥ ١١].
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يُمَارُونَ، مُضَارِعُ مَارَى يُمَارِي مِرَاءً وَمُمَارَاةً، إِذَا خَاصَمَ وَجَادَلَ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا [١٨ ٢٢].
وَقَوْلُهُ: لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ، أَيْ بَعِيدٍ عَنِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ الضَّلَالِ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، مَعَ الشَّوَاهِدِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [٢٦ ٢٠]. وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى. قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ «هُودٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا الْآيَةَ [١١ ٢٩]- أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَوَاتُ وَالسَّلَامُ - لَا يَأْخُذُونَ أَجْرًا عَلَى التَّبْلِيغِ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَآيَةِ «الشُّورَى» هَذِهِ، فَقُلْنَا فِيهِ:
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَا رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو مَالِكٍ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ - أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، أَيْ إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي قَرَابَتِي الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَتَكُفُّوا عَنِّي أَذَاكُمْ وَتَمْنَعُونِي مِنْ أَذَى النَّاسِ، كَمَا تَمْنَعُونَ كُلَّ مَنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مِثْلُ قَرَابَتِي مِنْكُمْ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ مِنْ قُرَيْشٍ رَحِمٌ، فَهَذَا الَّذِي سَأَلَهُمْ لَيْسَ
69
بِأَجْرٍ عَلَى التَّبْلِيغِ ; لِأَنَّهُ مَبْذُولٌ لِكُلِّ أَحَدٍ ; لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَوَدُّهُ أَهْلُ قَرَابَتِهِ وَيَنْتَصِرُونَ لَهُ مِنْ أَذَى النَّاسِ.
وَقَدْ فَعَلَ لَهُ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ وَلَمْ يَكُنْ يَسْأَلُ أَجْرًا عَلَى التَّبْلِيغِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ.
وَإِذَا كَانَ لَا يَسْأَلُ أَجْرًا إِلَّا هَذَا الَّذِي لَيْسَ بِأَجْرٍ - تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ أَجْرًا، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
وَمِثْلُ هَذَا يُسَمِّيهِ الْبَلَاغِيُّونَ تَأْكِيدَ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ.
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ.
الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، أَيْ لَا تُؤْذُوا قَرَابَتِي وَعِتْرَتِي، وَاحْفَظُونِي فِيهِمْ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا.
لِأَنَّ الْمَوَدَّةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبَةٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَحْرَى قَرَابَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ - تَعَالَى -: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [٩ ٧١]. وَفِي الْحَدِيثِ «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا أُصِيبَ مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». وَالْأَحَادِيثُ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَإِذَا كَانَ نَفْسُ الدِّينُ يُوجِبُ هَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ عِوَضٍ عَنِ التَّبْلِيغِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ.
فَمَعْنَاهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا لَكِنْ أُذَكِّرُكُمْ قَرَابَتِي فِيكُمْ.
وَعَلَى الثَّانِي: لَكِنْ أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي قَرَابَتِي، فَاحْفَظُونِي فِيهِمْ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ - وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ -: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أَيْ إِلَّا أَنْ تَتَوَدَّدُوا إِلَى اللَّهِ، وَتَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ ; لِأَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ لَيْسَ أَجْرًا عَلَى التَّبْلِيغِ. ُُ
70
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أَيْ إِلَّا أَنْ تَتَوَدَّدُوا إِلَى قَرَابَاتِكُمْ وَتَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَاسِمٍ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا فَلَا إِشْكَالَ.
لِأَنَّ صِلَةَ الْإِنْسَانِ رَحِمَهُ لَيْسَتْ أَجْرًا عَلَى التَّبْلِيغِ، فَقَدْ عَلِمْتَ الصَّحِيحَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَظَهَرَ لَكَ رَفْعُ الْإِشْكَالِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى - مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [٣٤ ٤٧]- فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِيهِ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ.
مَعَ أَنَّ كثيرًا مِنَ النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ، فَيَحْسَبُونَ أَنَّ مَعْنَى إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي أَهْلِ قَرَابَتِي.
وَمِمَّنْ ظَنَّ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ السَجَّادُ ; حَيْثُ قَالَ لِقَاتِلِهِ يَوْمَ الْجَمَلِ: أُذَكِّرُكَ «حم» يَعْنِي سُورَةَ «الشُّورَى» هَذِهِ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَلْزَمُ حِفْظَهُ فِيهِمْ ; لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ فِي «حم» هَذِهِ: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى فَهُوَ يُرِيدُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ، يَظُنُّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَلِذَا قَالَ قَاتِلُهُ فِي ذَلِكَ:
يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرُ فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ
وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْبَيْتَ وَالْأَبْيَاتَ الَّتِي قَبْلَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ»، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ الْبَيْتَ الْمَذْكُورَ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ»، وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي قَائِلِ الْأَبْيَاتِ الَّذِي قَتَلَ مُحَمَّدًا السَّجَّادَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ يَوْمَ الْجَمَلِ، هَلْ هُوَ شُرَيْحُ بْنُ أَبِي أَوْفَى الْعَبْسِيُّ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ، أَوِ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ، أَوْ عِصَامُ بْنُ مُقْشَعِرٍّ، أَوْ مُدْلِجُ بْنُ كَعْبٍ السَّعْدِيُّ، أَوْ كَعْبُ بْنُ مُدْلِجٍ.
وَمِمَّنْ ظَنَّ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَا ظَنَّهُ مُحَمَّدٌ السَّجَّادُ الْمَذْكُورُ - الْكُمَيْتُ فِي قَوْلِهِ فِي أَهْلِ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
وَجَدْنَا لَكُمْ فِي آلِ حَامِيمَ آيَةً تَأَوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ وَمُعْرِبُ
وَالتَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىُُ
71
أَيْ إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي قَرَابَتِي فِيكُمْ وَتَحْفَظُونِي فِيهَا، فَتَكُفُّوا عَنِّي أَذَاكُمْ وَتَمْنَعُونِي مِنْ أَذَى النَّاسِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ أَهْلُ الْقُرَابَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا. الِاقْتِرَافُ مَعَنَاهُ الِاكْتِسَابُ، أَيْ مَنْ يَعْمَلْ حَسَنَةً مِنَ الْحَسَنَاتِ وَيَكْتَسِبْهَا - نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا، أَيْ نُضَاعِفْهَا لَهُ.
فَمُضَاعَفَةُ الْحَسَنَاتِ هِيَ الزِّيَادَةُ فِي حُسْنِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى تُوَضِّحُهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [٤ ٤٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [٦ ١٦٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [٢ ٢٤٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [٧٣ ٢٠]. فَكَوْنُهُ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا زِيَادَةٌ فِي حُسْنِهِ، كَمَا لَا يَخْفَى. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ.
بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [٩ ١٠٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ الْآيَةَ [٦٦ ٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [٣ ١٣٥]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى التَّوْبَةِ وَأَرْكَانَهَا وَإِزَالَةَ مَا فِي أَرْكَانِهَا مِنَ الْإِشْكَالِ فِي سُورَةِ «النُّورِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [٢٤ ٣١].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُنَزِّلُ مَا يَشَاءُ تَنْزِيلَهُ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَغَيْرِهَا
بِقَدَرٍ، أَيْ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا - وَهُوَ - جَلَّ وَعَلَا - أَعْلَمُ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فِي مِقْدَارِ كَلِّ مَا يُنَزِّلُهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [١٥ ٢١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [١٣ ٨]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «النُّورِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ الْآيَةَ [٢٤ ٥٧].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ.
قَوْلُهُ: (وَمِنْ آيَاتِهِ) أَيْ مِنْ عَلَامَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - الْجَوَارِي وَهِيَ السُّفُنُ، وَاحِدَتُهَا جَارِيَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [٦٩ ١١] يَعْنِي سَفِينَةَ نُوحٍ، وَسُمِّيَتْ جَارِيَةً لِأَنَّهَا تَجْرِي فِي الْبَحْرِ.
وَقَوْلُهُ: (كَالْأَعْلَامِ)، أَيْ كَالْجِبَالِ، شَبَّهَ السُّفُنَ بِالْجِبَالِ لِعِظَمِهَا.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْأَعْلَامَ الْقُصُورُ، وَعَنِ الْخَلِيلِ أَنَّ كُلَّ مُرْتَفِعٍ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ عَلَمًا، وَجَمْعُ الْعَلَمِ أَعْلَامٌ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَلِيلُ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ تَرْثِي أَخَاهَا صَخْرًا:
وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارٌ
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ جَرَيَانَ السُّفُنِ فِي الْبَحْرِ مِنْ آيَاتِهِ - تَعَالَى - الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [٣٦ ٤١ - ٤٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [٢٩ ١٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [٢ ١٦٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» : وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ الْآيَةَ [١٩ ١٤]. وَقَوْلِهِ فِي «فَاطِرٍ» : ُُ
وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ الْآيَةَ [٣٥ ١٢]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو (الْجَوَارِي) بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ فِي الْوَصْلِ فَقَطْ دُونَ الْوَقْفِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْيَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ مَعًا، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ (الْجِوَارِ) بِحَذْفِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ مَعًا.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (كَبِيرَ الْإِثْمِ)، بِكَسْرِ الْبَاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَرَاءٌ عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ.
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْبَاءِ بَعْدَهَا أَلْفٌ فَهَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ قَبْلَ الرَّاءِ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ.
وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أَيْ وَخَيْرٌ وَأَبْقَى أَيْضًا لِلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ.
وَالْفَوَاحِشُ جَمْعُ فَاحِشَةٍ. وَالتَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ الْفَوَاحِشَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مِنْ أَشْنَعِهَا; لِأَنَّ الْفَاحِشَةَ فِي اللُّغَةِ هِيَ الْخَصْلَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ فِي الْقُبْحِ، وَكُلُّ مُتَشَدِّدٍ فِي شَيْءٍ مُبَالِغٍ فِيهِ فَهُوَ فَاحِشٌ فِيهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ
فَقَوْلُهُ: الْفَاحِشُ، أَيِ الْمُبَالِغُ فِي الْبُخْلِ الْمُتَنَاهِي فِيهِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ وَعْدِهِ - تَعَالَى - الصَّادِقِ لِلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ بِمَا عِنْدَهُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَبَيَّنَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» أَنَّ مِنْ ذَلِكَ تَكْفِيرَهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهُمْ، وَإِدْخَالَهُمُ الْمُدْخَلَ الْكَرِيمَ وَهُوَ الْجَنَّةُ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [٤ ٣١]. وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ «النَّجْمِ» أَنَّهُمْ بِاجْتِنَابِهِمْ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ - يَصْدُقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الْمُحْسِنِينَ، وَوَعْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْحُسْنَى. ُُ
74
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا الْجَنَّةُ، وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ «الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ» فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [١٠ ٢٦] كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَآيَةُ «النَّجْمِ» الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [٥٣ ٣١]. ثُمَّ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ أَحْسَنُوا فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [٥٣ ٢٣].
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ: (إِلَّا اللَّمَمَ) - أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّمَمِ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ، وَمِنْ أَوْضَحِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ الْآيَةَ [٤ ٣١]. فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ سَبَبٌ لِغُفْرَانِ الصَّغَائِرِ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ.
وَيَدُلُّ لِهَذَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تُمَنِّي وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ».
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: (إِلَّا اللَّمَمَ) مُنْقَطِعٌ; لِأَنَّ اللَّمَمَ الَّذِي هُوَ الصَّغَائِرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَدْخُلُ فِي الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ الْمَقَامِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا [١٩ ٦٢].
وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، قَالُوا: وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى (إِلَّا اللَّمَمَ) إِلَّا أَنْ يَلُمَّ بِفَاحِشَةٍ مَرَّةً، ثُمَّ يَجْتَنِبُهَا وَلَا يَعُودُ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِ الرَّاجِزِ:
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ مَا أَلَمَّا
وَرَوَى هَذَا الْبَيْتَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مَرْفُوعًا. وَفِي صِحَّتِهِ مُرْفُوعًا نَظَرٌ. ُُ
75
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِاللَّمَمِ مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ.
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ هُوَ مَا قَدَّمَنَا لِدَلَالَةِ آيَةِ «النِّسَاءِ» الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَبَائِرَ الْإِثْمِ لَيْسَتْ مَحْدُودَةً فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَقَدْ جَاءَ تَعْيِينُ بَعْضِهَا، كَالسَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، أَيِ الْمُهَلِكَاتِ لِعِظَمِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذَفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ.
وَقَدْ جَاءَتْ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَعْيِينِ بَعْضِ الْكَبَائِرِ كَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَاسْتِحْلَالِ حُرْمَةِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْبَادِيَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَالسَّرِقَةِ، وَمَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ، وَمَنْعِ فَضْلِ الْكَلَإِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ.
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ، ثُمَّ قَتْلُ الرَّجُلِ وَلَدَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَهُ، ثُمَّ زِنَاهُ بِحَلِيلَةِ جَارِهِ. وَفِي بَعْضِهَا أَيْضًا «أَنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ تَسَبُّبَ الرَّجُلِ فِي سَبِّ وَالِدَيْهِ». وَفِي بَعْضِهَا أَيْضًا «أَنَّ سِبَابَ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالَهُ كُفْرٌ». وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مِنَ الْكَبَائِرِ.
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ الْوُقُوعَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ، وَالسَّبَّتَيْنِ بِالسَّبَّةِ».
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّ مِنْهَا جَمْعَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ».
وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْهَا الْيَأْسَ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَالْأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ». وَيَدُلُّ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [١٢ ٨٧]. وَقَوْلُهُ: فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [٧ ٩٩].
وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْهَا سُوءَ الظَّنِّ بِاللَّهِ». وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [٤٨ ٦].
وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْهَا الْإِضْرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ».
76
وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْهَا الْغَلُولَ». وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [٣ ١٦١]. وَقَدَّمْنَا مَعْنَى الْغَلُولِ فِي سُورَةِ «الْأَنْفَالِ»، وَذَكَرْنَا حُكْمَ الْغَالِّ.
وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا». وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [٣ ٧٧]. وَلَمْ نَذْكُرْ أَسَانِيدَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَنُصُوصَ مُتُونِهَا خَوْفَ الْإِطَالَةِ، وَأَسَانِيدُ بَعْضِهَا لَا تَخْلُو مِنْ نَظَرٍ، لَكِنَّهَا لَا يَكَادُ يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الصَّحِيحَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ ; فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ كُلُّ ذَنْبٍ اسْتَوْجَبَ حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ كُلُّ ذَنْبٍ جَاءَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ بِنَارٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ عَذَابٍ.
وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَدَّ الْكَبِيرَةِ بِأَنَّهَا هِيَ كُلُّ ذَنْبٍ دَلَّ عَلَى عَدَمِ اكْتِرَاثِ صَاحِبِهِ بِالدِّينِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْكَبَائِرَ أَقْرَبُ إِلَى السَّبْعِينَ مِنْهَا إِلَى السَّبْعِ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ مِنْهَا إِلَى سَبْعٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ أَنَّهَا لَا تَنْحَصِرُ فِي سَبْعٍ، وَأَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّهَا سَبْعٌ لَا يَقْتَضِي انْحِصَارَهَا فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى نَفْيِ غَيْرِ السَّبْعِ بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ مَفْهُومُ لَقَبٍ، وَالْحَقُّ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ.
وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَفْهُومُ عَدَدٍ - لَكَانَ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ أَيْضًا; لِأَنَّ زِيَادَةَ الْكَبَائِرِ عَلَى السَّبْعِ مَدْلُولٌ عَلَيْهَا بِالْمَنْطُوقِ.
وَقَدْ جَاءَ مِنْهَا فِي الصَّحِيحِ عَدَدٌ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعٍ، وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ، مَعَ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَيْسَ مِنْ أَقْوَى الْمَفَاهِيمِ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي ضَابِطِ الْكَبِيرَةِ أَنَّهَا كُلُّ ذَنْبٍ اقْتَرَنَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ مُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ، سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ بِنَارٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ عَذَابٍ، أَوْ كَانَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِيهِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ وَتَوْكِيدِهِ.
77
مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: إِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ كَبِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ الْآيَةَ [٤ ٣١]. وَقَوْلُهُ: إِلَّا اللَّمَمَ [٥٣ ٣٢] يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ، وَبَعْضَهَا صَغَائِرُ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
قَوْلُه - تَعَالَى -: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ الْآيَةَ [١٦ ١٢٦]. وَفِي سُورَةِ «الزُّمَرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ الْآيَةَ [٣٩ ١٧ - ١٨].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ «النَّحْلِ» وَآيَةِ «الزُّمَرِ» الْمَذْكُورَتَيْنِ آنِفًا.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ الْآيَةَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ الْآيَةَ [٧ ٥٣].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْآيَةَ [١٦ ٢].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا.
قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ - يُبَيِّنُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِيهِ مِنَّتَهُ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، بِأَنَّهُ عَلَّمَهُ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَلَّمَهُ تَفَاصِيلَ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا قَبْلَ ذَلِكَ.
78
فَقَوْلُهُ: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ) أَيْ مَا كُنْتَ تَعْلَمُ مَا هُوَ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، حَتَّى عَلَّمْتُكَهُ، وَمَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ تَفَاصِيلُ هَذَا الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، حَتَّى عَلَّمْتُكَهُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - أَنَّ الْإِيمَانَ شَامِلٌ لِلْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مَعَ الِاعْتِقَادِ.
وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا حَدِيثُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ الْمَشْهُورُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا...» الْحَدِيثَ، فَسَمَّى فِيهِ قِيَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَحَدِيثُ «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً»، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ «بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ».
وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، فَهُوَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - مَا كَانَ يَعْرِفُ تَفَاصِيلَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَأَوْقَاتَهَا، وَلَا صَوْمَ رَمَضَانَ، وَمَا يَجُوزُ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ تَفَاصِيلَ الزَّكَاةِ وَلَا مَا تَجِبُ فِيهِ وَلَا قَدْرَ النِّصَابِ وَقَدْرَ الْوَاجِبِ فِيهِ، وَلَا تَفَاصِيلَ الْحَجِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا الْإِيمَانُ.
وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ هَذِهِ الْأُمُورَ حَتَّى عَلَّمَهُ إِيَّاهَا بِأَنْ أَوْحَى إِلَيْهِ هَذَا النُّورَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ كِتَابُ اللَّهِ - جَاءَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ الْآيَةَ [٤ ١١٣]. وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا -: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [١٢ ٣].
فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «يُوسُفَ» هَذِهِ: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ، كَقَوْلِهِ هُنَا: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [٩٣ ٧] عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [٢٦ ٢٠]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ، الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (جَعَلْنَاهُ) رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا.
79
وَقَوْلُهُ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ، أَيْ وَلَكِنْ جَعْلَنَا هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ هِدَايَتَهُ مِنْ عِبَادِنَا.
وَسُمِّي الْقُرْآنُ نُورًا ; لِأَنَّهُ يُضِيءُ الْحَقَّ وَيُزِيلُ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ وَالشِّرْكِ.
وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نُورٌ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [٤ ١٧٤].
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [٧ ١٥٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [٥ ١٥ - ١٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا [٦٤ ٨].
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْقُرْآنُ نُورًا - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكْشِفُ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ، وَيَظْهَرُ فِي ضَوْئِهِ الْحَقُّ، وَيَتَمَيَّزُ عَنِ الْبَاطِلِ، وَيُمَيَّزُ بِهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ.
فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَسْتَضِيءَ بِنُورِهِ، فَيَعْتَقِدَ عَقَائِدَهُ، وَيُحِلَّ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ، وَيَمْتَثِلَ أَوَامِرَهُ، وَيَجْتَنِبَ مَا نَهَى عَنْهُ، وَيَعْتَبِرَ بِقَصَصِهِ وَأَمْثَالِهِ.
وَالسُّنَّةُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْعَمَلِ بِهِ، لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [٥٩ ٧].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ قَدْ بَيَّنَهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [١ ٦ - ٧].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي الْآيَةَ، قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ الْآيَةَ [٤١ ١٧]، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [٢٨ ٥٦].
80
وَالصِّرَاطُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ، وَالْمُسْتَقِيمُ: الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
أمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمُ
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ.
مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْأُمُورِ كُلِّهَا تَصِيرُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ تَرْجِعُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [١١ ١٢٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [٣ ١٠٩ - ١١٠]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. ُُُُ
Icon