ﰡ
[تفسير سورة الشورى]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الشُّورَى مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْهَا أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ:" قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى " «١» [الشورى: ٢٣] إلى آخرها. وهي ثلاث وخمسون آية.
[سورة الشورى (٤٢): الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)قوله تعالى:" حم. عسق" قَالَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ: سَأَلْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ الْفَضْلِ «٢»: لِمَ قَطَعَ" حم" مِنْ" عسق" وَلَمْ تُقْطَعْ" كهيعص" وَ" المر" وَ" المص"؟ فَقَالَ: لِأَنَّ" حم. عسق" بَيْنَ سُوَرٍ أَوَّلُهَا" حم" فَجَرَتْ مَجْرَى نَظَائِرِهَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، فَكَأَنَّ" حم" مُبْتَدَأٌ وَ" عسق" خَبَرُهُ. وَلِأَنَّهَا عُدَّتْ آيَتَيْنِ، وَعُدَّتْ أَخَوَاتُهَا اللَّوَاتِي كُتِبَتْ جُمْلَةً آيَةً وَاحِدَةً. وَقِيلَ: إِنَّ الْحُرُوفَ الْمُعْجَمَةَ كُلَّهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا أُسُّ الْبَيَانِ وَقَاعِدَةُ الْكَلَامِ، ذَكَرَهُ الْجُرْجَانِيُّ. وَكُتِبَتْ" حم. عسق" مُنْفَصِلًا وَ" كهيعص" مُتَّصِلًا لِأَنَّهُ قِيلَ: حم، أَيْ حُمَّ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَفَصَلُوا بَيْنَ مَا يُقَدَّرُ فِيهِ فِعْلٌ وَبَيْنَ مَا لَا يُقَدَّرُ. ثُمَّ لَوْ فُصِلَ هَذَا وَوُصِلَ ذَا لَجَازَ، حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ" حم. سق" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
(٢). في ز: الحسن بن المفضل وفي ل: الحسن بن الفضل.
(٢). وروى بفتح أوله وطائه.
(٣). في بعض النسخ." حكمه" بالكاف.
مِنَ الْمَلِكِ الْمَعْبُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ صَاحِبِ كِتَابٍ إِلَّا وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ:" حم. عسق"، فَلِذَلِكَ قَالَ:" يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ" الْمَهْدَوِيُّ: وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ (" حم. عسق" مَعْنَاهُ أَوْحَيْتُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ). وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَمُجَاهِدٌ" يُوحَى" (بِفَتْحِ الْحَاءِ) عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. فَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مُضْمَرًا، أَيْ يُوحَى إِلَيْكَ الْقُرْآنُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ، وَيَكُونُ اسْمُ اللَّهِ مَرْفُوعًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، التَّقْدِيرُ: يُوحِيهِ اللَّهُ إِلَيْكَ، كَقِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي بَكْرٍ" يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ «٢» رِجالٌ" [النور: ٣٧ - ٣٦] أي يسبحه رجال. وأنشد سيبويه:
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارِعٌ بِخُصُومَةٍ... وَأَشْعَثُ مِمَّنْ طَوَّحَتْهُ الطوائح «٣»
فقال: لبيك يَزِيدُ، ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ يَنْبَغِي أَنْ يَبْكِيَهُ، فَالْمَعْنَى يَبْكِيهِ ضَارِعٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: اللَّهُ يُوحِيهِ. أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ إِضْمَارِ مُبْتَدَإٍ أَيِ الْمُوحِي اللَّهُ. أَوْ يَكُونُ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ" الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ". وَقَرَأَ الْبَاقُونَ" يُوحِي إِلَيْكَ" بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَرَفْعِ الِاسْمِ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ." لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ" تَقَدَّمَ في غير موضع «٤».
(٢). راجع ج ١٢ ص ٢٧٥
(٣). رواية البيت كما في كتاب سيبويه وخزانة الأدب:
لبيك يَزِيدُ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ
وهذا البيت نسبه سيبويه للحارث بن نهيك. ونسبه صاحب خزانة الأدب لنهشل بن حري في مرثية يزيد. (راجع الشاهد الخامس والأربعين).
(٤). راجع ج ٢ ص ٦٩ طبعه ثانية. وج ٣ ص ٢٧٨. [..... ]
[سورة الشورى (٤٢): آية ٥]
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥)قَوْلُهُ تَعَالَى:" تَكادُ السَّماواتُ" قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ." يَتَفَطَّرْنَ" قَرَأَ «١» نَافِعٌ وَغَيْرُهُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ وَالتَّشْدِيدِ فِي الطَّاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ والمفضل وأبو عبيد" ينفطرن" من الانفطار، كقول تعالى:" إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ" «٢» [الانفطار: ١] وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" مَرْيَمَ" بَيَانُ هَذَا «٣». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ" أَيْ تَكَادُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَنْفَطِرُ فَوْقَ الَّتِي تَلِيهَا، مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ:" اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً" «٤» [البقرة: ١١٦]. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ:" يَتَفَطَّرْنَ" أَيْ يَتَشَقَّقْنَ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ فَوْقَهُنَّ. وَقِيلَ:" فَوْقِهِنَّ"، فَوْقَ الْأَرَضِينَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ لَوْ كُنَّ مِمَّا يَعْقِلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ" أَيْ يُنَزِّهُونَهُ عَمَّا لَا يَجُوزُ فِي وَصْفِهِ، وَمَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ. وَقِيلَ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ جُرْأَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَيُذْكَرُ التَّسْبِيحُ فِي مَوْضِعِ التَّعَجُّبِ. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ تَسْبِيحَهُمْ تَعَجُّبٌ مِمَّا يَرَوْنَ مِنْ تَعَرُّضِهِمْ لِسَخَطِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَسْبِيحُهُمْ خُضُوعٌ لِمَا «٥» يَرَوْنَ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ. وَمَعْنَى" بِحَمْدِ رَبِّهِمْ" بِأَمْرِ رَبِّهِمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ." وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ" قَالَ الضَّحَّاكُ: لِمَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وقاله السدي. بيانه في سورة المؤمن:" وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا" [غافر: ٧]. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْمَلَائِكَةُ هُنَا حَمَلَةَ الْعَرْشِ. وَقِيلَ: جَمِيعُ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قول الكلبي. وقال وهب ابن مُنَبِّهٍ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ:" وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا". قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، لِأَنَّهُ خَبَرٌ، وَهُوَ خَاصٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا رَأَتِ الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتُبِرَا وَبُعِثَا إِلَى الْأَرْضِ لِيَحْكُمَا بينهم، فافتتنا بالزهرة
(٢). راجع ج ١٩ ص ٢٤٢.
(٣). راجع ج ١١ ص ١٥٦.
(٤). راجع ج ٢ ص ٨٥.
(٥). في ك: مما يرون.
[سورة الشورى (٤٢): آية ٦]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦)
(٢). راجع ج ١٤ ص ٣٥٦
(٣). راجع ج ٩ ص ٢٨٥
(٤). راجع ج ١٥ ص ٢٩٥
[سورة الشورى (٤٢): آية ٧]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا" أَيْ وَكَمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَإِلَى مَنْ قَبْلِكَ هَذِهِ الْمَعَانِي فَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عربيا بيناه بلغة العرب. وقيل: أَيْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا بِلِسَانِ قَوْمِكَ، كَمَا أَرْسَلْنَا كُلَّ رَسُولٍ بِلِسَانِ قَوْمِهِ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ «١»." لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى " يَعْنِي مَكَّةَ. قِيلَ لِمَكَّةَ أُمُّ الْقُرَى لِأَنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِهَا." وَمَنْ حَوْلَها" مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ." وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ" أَيْ بِيَوْمِ الْجَمْعِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ." لَا رَيْبَ فِيهِ" لَا شَكَّ فِيهِ." فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ النَّصْبَ عَلَى تَقْدِيرِ: لِتُنْذِرَ فريقا في الجنة وفريقا في السعير.
[سورة الشورى (٤٢): آية ٨]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً" قَالَ الضَّحَّاكُ: أَهْلُ دِينٍ وَاحِدٍ، أَهْلُ ضَلَالَةٍ أَوْ أَهْلُ هُدًى." وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ" قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فِي الْإِسْلَامِ." وَالظَّالِمُونَ" رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ" مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ" عُطِفَ عَلَى اللَّفْظِ. وَيَجُوزُ" وَلا نَصِيرٍ" بِالرَّفْعِ على الموضع و" مَنْ" زائدة.
[سورة الشورى (٤٢): آية ٩]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩)قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمِ اتَّخَذُوا" أَيْ بَلِ اتَّخَذُوا." مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ" يَعْنِي أَصْنَامًا." فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ" أَيْ وَلِيُّكَ يَا مُحَمَّدُ وَوَلِيُّ مَنِ اتَّبَعَكَ، لا ولي سواه «١»." وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى " يُرِيدُ عِنْدَ الْبَعْثِ." وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ لَا يَقْدِرُ على شي.
[سورة الشورى (٤٢): آية ١٠]
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ" حِكَايَةُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ وَمَا خَالَفَكُمْ فِيهِ الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، فَقُولُوا لَهُمْ حُكْمَهُ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَيْكُمْ، وَقَدْ حَكَمَ أَنَّ الدِّينَ هُوَ الْإِسْلَامُ لَا غَيْرُهُ. وَأُمُورُ الشَّرَائِعِ إِنَّمَا تُتَلَقَّى مِنْ بَيَانِ اللَّهِ." ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي" أَيِ الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُوَ رَبِّي وَحْدَهُ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ: أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ ذَلِكُمُ اللَّهُ الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى وَيَحْكُمُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ هُوَ رَبِّي." عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ" اعْتَمَدْتُ." وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" أَرْجِعُ.
[سورة الشورى (٤٢): آية ١١]
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)
أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) قَوْلُهُ تَعَالَى:" فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" بِالرَّفْعِ عَلَى النَّعْتِ لِاسْمِ اللَّهِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ فَاطِرُ. وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى النِّدَاءِ، وَالْجَرُّ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْهَاءِ فِي" عَلَيْهِ". وَالْفَاطِرُ: الْمُبْدِعُ وَالْخَالِقُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢».. " جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً" قِيلَ معناه إناثا. وإنما
(٢). راجع ج ٦ ص ٣٩٧، ج ٩ ص ٢٧٠ و٣٤٦، ج ١٤ ص ٢٤ وما بعدها. ٣١٩
وَصَالِيَاتٍ كَكُمَا يُؤْثَفَيْنَ «٢»
فَأَدْخَلَ عَلَى الْكَافِ كَافًا تَأْكِيدًا لِلتَّشْبِيهِ. وَقِيلَ: الْمِثْلُ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وهو قول ثعلب: ليس كهو شي، نَحْوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا" «٣». [البقرة: ١٣٧]. وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ" فَإِنْ آمَنُوا بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا" قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ:
وَقَتْلَى كَمِثْلِ جُذُوعِ النَّ | خِيلِ يَغْشَاهُمْ مَطَرٌ مُنْهَمِرُ |
(٢). الصاليات: الأثافي، وهي الأحجار التي ينصب عليها القدر. ومعنى يؤثفين: ينصبن للقدر. (راجع خزانة الأدب في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة وكتاب سيبويه). [..... ]
(٣). آية ١٣٧ سورة البقرة.
وصالياتٍ كَكُمَا يُؤَثْفَيْنْ٣
فأدخل على الكاف كافا تأكيدا للتشبيه. وقيل : المثل زائدة للتوكيد، وهو قول ثعلب : ليس كهو شيء، نحو قوله تعالى :" فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا " ٤. [ البقرة : ١٣٧ ]. وفي حرف ابن مسعود " فان آمنوا بما آمنتم به فقد اهتدوا " قال أوس بن حجر :
وقتلَى كمثل جذوع النَّخِي***ل يغشاهم مطر منهمر
أي كجذوع. والذي يعتقد في هذا الباب أن الله جل اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته وحسنى أسمائه وعليّ صفاته، لا يشبه شيئا من مخلوقاته ولا يشبه به، وإنما جاء مما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق، فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي ؛ إذ صفات القديم جل وعز بخلاف صفات المخلوق ؛ إذ صفاتهم لا تنفك عن الأغراض والأعراض، وهو تعالى منزه عن ذلك، بل لم يزل بأسمائه وبصفاته على ما بيناه في ( الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى )، وكفى في هذا قوله الحق :" ليس كمثله شيء ". وقد قال بعض العلماء المحققين : التوحيد إثبات ذات غير مشبهة للذوات ولا معطلة من الصفات. وزاد الواسطي رحمه الله بيانا فقال : ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، ولا كصفته صفة إلا من جهة موافقة اللفظ، وجلت الذات القديمة أن يكون لها صفة حديثة، كما استحال أن يكون للذات المحدثة صفة قديمة. وهذا كله مذهب أهل الحق والسنة والجماعة. رضي الله عنهم !
٢ راجع ج ٧ ص ١١٣ طبعة أولى أو ثانية..
٣ الصاليات: الأثافي، وهي الأحجار التي ينصب عليها القدر. ومعنى يؤثفين: ينصبن للقدر. (راجع خزانة الأدب في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة وكتاب سيبويه)..
٤ آية ١٣٧ سورة البقرة..
[سورة الشورى (٤٢): آية ١٢]
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" تَقَدَّمَ فِي" الزُّمَرِ" «١» بَيَانُهُ. النَّحَّاسُ: وَالَّذِي يَمْلِكُ الْمَفَاتِيحَ يَمْلِكُ الْخَزَائِنَ، يُقَالُ لِلْمِفْتَاحِ: إِقْلِيدٌ، وَجَمْعُهُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، كَمَحَاسِنَ وَالْوَاحِدُ حَسَنٌ." يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" تَقَدَّمَ أيضا في غير موضع «٢».
[سورة الشورى (٤٢): الآيات ١٣ الى ١٤]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤)
(٢). راجع ج ١ ص ٦٢ ١ طبعه ثانية أو ثالثة. وج ٩ ص ٣١٤
(٢). في ل: أى بين.
(٣). في نسخ الأصل:" كما أن آدم أول رسول نبي بغير إشكال، إلا أن آدم" والتصويب عن ابن العربي.
(٤). في ز ك ل هـ: لم يكن معه إلا بنوه.
(٢). راجع ص ٢٨٦ من هذا الجزء.
«٥» مِنْ رَبِّكَ" فِي تَأْخِيرِ الْعِقَابِ عَنْ هَؤُلَاءِ." إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى" قِيلَ: الْقِيَامَةُ، لقوله تعالى:" بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ"»
[القمر: ٤٦]. وَقِيلَ: إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي قُضِيَ فِيهِ بِعَذَابِهِمْ." لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ" أَيْ بَيْنَ مَنْ آمَنَ وَبَيْنَ مَنْ كَفَرَ بِنُزُولِ الْعَذَابِ." وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ" يُرِيدُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى." مِنْ بَعْدِهِمْ" أَيْ مِنْ بَعْدِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْحَقِّ." لَفِي شَكٍّ" مِنَ الَّذِي أَوْصَى بِهِ الْأَنْبِيَاءُ. وَالْكِتَابُ هُنَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وَقِيلَ:" إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ" قريش." مِنْ بَعْدِهِمْ" من بعد اليهود النصارى." لَفِي شَكٍّ" مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ مِنْ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى" مِنْ بَعْدِهِمْ" مِنْ قَبْلِهِمْ، يَعْنِي مِنْ قَبْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَهُمُ الْيَهُودُ والنصارى.
(٢). راجع ج ٢ ص ٢٧
(٣). لفظة المدى ساقطة من ك.
(٤). راجع ج ١٧ ص ١٤٦
(٥). راجع ج ٢٠ ص ١٤٣ [..... ]
(٦). راجع ج ١١ ص ٢٦٠
[سورة الشورى (٤٢): آية ١٥]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ" لَمَّا أَجَازَ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ لِقُرَيْشٍ قِيلَ لَهُ:" فَلِذلِكَ فَادْعُ" أَيْ فَتَبَيَّنْتَ شَكَّهُمْ فَادْعُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى ذَلِكَ الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَوَصَّاهُمْ بِهِ. فَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها" «١» [الزلزلة: ٥] أي إليها. و" ذلِكَ" بِمَعْنَى هَذَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ" الْبَقَرَةِ" «٢». وَالْمَعْنَى فَلِهَذَا الْقُرْآنِ فَادْعُ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فَلِذَلِكَ فَادْعُ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّامَ عَلَى بَابِهَا، وَالْمَعْنَى: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ إِلَى الْقُرْآنِ فَادْعُ الْخَلْقَ." وَاسْتَقِمْ" خِطَابٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ قَتَادَةُ: أَيِ اسْتَقِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: أَيِ اسْتَقِمْ عَلَى الْقُرْآنِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتَقِمْ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ." وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ" أَيْ لَا تَنْظُرْ إِلَى خِلَافِ مَنْ خَالَفَكَ." وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ" أَيْ أَنْ أَعْدِلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ" «٣» [غافر: ٦٦]. وَقِيلَ: هِيَ لَامُ كَيْ، أَيْ لِكَيْ أَعْدِلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: لِأُسَوِّيَ بَيْنَكُمْ في الدين فأومن بِكُلِّ كِتَابٍ وَبِكُلِّ رَسُولٍ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: لِأَعْدِلَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَقِيلَ: هَذَا الْعَدْلُ هُوَ الْعَدْلُ فِي الْأَحْكَامِ. وَقِيلَ فِي التَّبْلِيغِ." اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ، أَيْ لَنَا دِينُنَا وَلَكُمْ دِينُكُمْ. قال: ثم نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ:" قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ" «٤» [التوبة: ٢٩] الْآيَةَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَعْنَى" لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ" لَا خُصُومَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. وَقِيلَ: لَيْسَ بمنسوخ،
(٢). راجع ج ١ ص ١٥٧ طبعه ثانية أو ثالثة.
(٣). آية ٦٦ سورة غافر.
(٤). آية ٢٩ سورة التوبة.
[سورة الشورى (٤٢): آية ١٦]
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ" رَجَعَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ." مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ" قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ بَعْدِ مَا أَسْلَمَ النَّاسُ. قَالَ: وَهَؤُلَاءِ قَدْ تَوَهَّمُوا أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ تَعُودُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمُحَاجَّتُهُمْ قَوْلُهُمْ نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمُ الْفَضِيلَةَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَنَّهُمْ أَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ:" أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا" «٢» [مريم: ٧٣] فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ" أَيْ لَا ثَبَاتَ لَهَا كَالشَّيْءِ الَّذِي يَزِلُّ عَنْ مَوْضِعِهِ. وَالْهَاءُ فِي" لَهُ" يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا وَحَّدُوا اللَّهَ وَشَهِدُوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَتِهِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَنَصَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ. يُقَالُ: دَحَضَتْ حُجَّتُهُ دُحُوضًا بَطَلَتْ. وَأَدْحَضَهَا اللَّهُ. وَالْإِدْحَاضُ: الْإِزْلَاقُ. ومكان دحض ودحض أيضا
(٢). راجع ج ١١ ص ١٤٢.
[سورة الشورى (٤٢): آية ١٧]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ" يَعْنِي الْقُرْآنَ وَسَائِرَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ." بِالْحَقِّ" أَيْ بِالصِّدْقِ." وَالْمِيزانَ" أَيِ الْعَدْلَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْعَدْلُ يُسَمَّى مِيزَانًا، لِأَنَّ الْمِيزَانَ آلَةُ الْإِنْصَافِ وَالْعَدْلِ. وَقِيلَ: الْمِيزَانُ مَا بُيِّنَ فِي الْكُتُبِ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمِيزَانُ الْعَدْلُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. وَقِيلَ: هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى الطَّاعَةِ بِالثَّوَابِ وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ بِالْعِقَابِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمِيزَانُ نَفْسُهُ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ، أَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ وَعَلَّمَ الْعِبَادَ الْوَزْنَ بِهِ، لِئَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُمْ تَظَالُمٌ وَتَبَاخُسٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" «١» [الحديد: ٢٥]. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ. وَمَعْنَى أنزل الميزان. هو إلهامه للخلق أن يعملوه وَيَعْمَلُوا] بِهِ [. وَقِيلَ: الْمِيزَانُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقْضِي بَيْنَكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ." وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ" فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِهَا. يَحُضُّهُ عَلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالْعَدْلِ وَالسَّوِيَّةِ، وَالْعَمَلِ بِالشَّرَائِعِ قَبْلَ أَنْ يُفَاجِئَ الْيَوْمَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمُحَاسَبَةُ وَوَزْنُ الْأَعْمَالِ، فَيُوَفِّي لِمَنْ أَوْفَى وَيُطَفِّفُ لِمَنْ طَفَّفَ. فَ" لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ" أَيْ مِنْكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي. وَقَالَ:" قَرِيبٌ" وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةً، لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ لِأَنَّهَا كَالْوَقْتِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَالْمَعْنَى: لَعَلَّ الْبَعْثَ أَوْ لَعَلَّ مَجِيءَ السَّاعَةِ قَرِيبٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:" قَرِيبٌ" نَعْتٌ يُنْعَتُ بِهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْجَمْعُ بِمَعْنًى وَلَفْظٍ وَاحِدٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ" «٢» [الأعراف: ٥٦] قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكُنَّا قَرِيبًا وَالدِّيَارُ بَعِيدَةً | فَلَمَّا وصلنا نصب أعينهم غبنا |
(٢). آية ٥٦ سورة الأعراف. راجع ج ٧ ص ٢٢٧.
[سورة الشورى (٤٢): آية ١٨]
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨)قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها" يَعْنِي عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا غَيْرُ آتِيَةٍ، أَوْ إِيهَامًا لِلضَّعَفَةِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ." وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها" أَيْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ لِاسْتِقْصَارِهِمْ أَنْفُسَهُمْ مَعَ الْجَهْدِ فِي الطَّاعَةِ، كَمَا قَالَ:" وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ" «١» [المؤمنون: ٦٠]." وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ" أَيِ الَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا." أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ" أَيْ يَشُكُّونَ وَيُخَاصِمُونَ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ." لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ" أَيْ عَنِ الْحَقِّ وَطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، إِذْ لَوْ تَذَكَّرُوا لَعَلِمُوا أَنَّ الَّذِي أَنْشَأَهُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ إِلَى أَنْ بَلَغُوا مَا بَلَغُوا، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَهُمْ.
[سورة الشورى (٤٢): آية ١٩]
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَفِيٌّ بِهِمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: بَارٌّ بِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: رَفِيقٌ بِهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَطِيفٌ بِالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، حَيْثُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ جُوعًا بِمَعَاصِيهِمْ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: لَطِيفٌ بِهِمْ فِي الْعَرْضِ وَالْمُحَاسَبَةِ. قَالَ:
غَدًا عِنْدَ مَوْلَى الْخَلْقِ لِلْخَلْقِ مَوْقِفٌ | يُسَائِلُهُمْ فِيهِ الْجَلِيلُ وَيَلْطُفُ |
أَمُرُّ بِأَفْنَاءِ الْقُبُورِ كَأَنَّنِي | أَخُو فِطْنَةٍ وَالثَّوَابُ فِيهِ نَحِيفُ |
وَمَنْ شَقَّ فَاهُ اللَّهُ قَدَّرَ رِزْقَهُ | وَرَبِّي بِمَنْ يَلْجَأُ إِلَيْهِ لَطِيفُ |
(٢). آية ٢٠ سورة لقمان.
(٣). آية ٧٨ سورة الحج.
(٤). آية ٢٨ سورة النساء. [..... ]
(٥). راجع ج ٧ ص ٥٧ طبعه أولى أو ثانية.
غداً عند مولى الخلق للخلق موقفٌ | يُسَائِلُهم فيه الجليل ويلطف |
أمرُّ بأفناء القبور كأنني | أخو فطنة والثواب فيه نحيف |
ومن شقّ فاه الله قدر رزقه | وربي بمن يلجَا إليه لطيف |
٢ آية ٢٠ سورة لقمان..
٣ آية ٧٨ سورة الحج..
٤ آية ٢٨ سورة النساء..
٥ راجع ج ٧ ص ٥٧ طبعة أولى أو ثانية..
٦ آية ٣٢ سورة الزخرف..
٧ آية ٢٠ سورة الفرقان. راجع ج ١٣ ص ١٨..
[سورة الشورى (٤٢): آية ٢٠]
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ" الْحَرْثُ الْعَمَلُ وَالْكَسْبُ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: وَاحْرُثْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَدًا وَاعْمَلْ لِآخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَدًا. وَمِنْهُ سُمِّيَ الرَّجُلُ حَارِثًا. وَالْمَعْنَى: أَيْ مَنْ طَلَبَ بِمَا رَزَقْنَاهُ حَرْثًا لِآخِرَتِهِ، فَأَدَّى حُقُوقَ اللَّهِ وَأَنْفَقَ فِي إِعْزَازِ الدِّينِ، فَإِنَّمَا نُعْطِيهِ ثَوَابَ ذَلِكَ لِلْوَاحِدِ عَشْرًا إِلَى سَبْعِمِائَةٍ فَأَكْثَرَ." وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا" أَيْ طَلَبَ بِالْمَالِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ رئاسة الدُّنْيَا وَالتَّوَصُّلَ إِلَى الْمَحْظُورَاتِ، فَإِنَّا لَا نَحْرِمُهُ الرِّزْقَ أَصْلًا، وَلَكِنْ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ مَالِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً" «٣» [الاسراء: ١٩ - ١٨]. وَقِيلَ:" نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ" نُوَفِّقُهُ لِلْعِبَادَةِ وَنُسَهِّلُهَا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: حَرْثُ الْآخِرَةِ الطَّاعَةُ، أَيْ من أطاع فله الثواب. وقيل:" نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ" أي نعطيه الدُّنْيَا مَعَ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الْآيَةُ فِي الْغَزْوِ، أَيْ مَنْ أَرَادَ بِغَزْوِهِ الْآخِرَةَ أُوتِيَ الثَّوَابَ، وَمَنْ أَرَادَ بِغَزْوِهِ الْغَنِيمَةَ أُوتِيَ مِنْهَا. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ فِي الْكَافِرِ، يُوَسَّعُ لَهُ فِي الدُّنْيَا، أَيْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْتَرَّ بِذَلِكَ لِأَنَّ الدُّنْيَا لَا تَبْقَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي عَلَى نِيَّةِ الْآخِرَةِ مَا شَاءَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَا يُعْطِي عَلَى نِيَّةِ الدُّنْيَا إِلَّا الدُّنْيَا. وَقَالَ أَيْضًا: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (مَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ زِدْنَاهُ فِي عَمَلِهِ وَأَعْطَيْنَاهُ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَتَبْنَا لَهُ وَمَنْ آثَرَ دُنْيَاهُ عَلَى آخِرَتِهِ لم نجعل له نصيبا في الآخرة
(٢). آية ٢٠ سورة الفرقان. راجع ج ١٣ ص (١٨)
(٣). آية ١٨ وما بعدها سورة الاسراء.
[سورة الشورى (٤٢): آية ٢١]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ" أَيْ أَلَهُمْ! وَالْمِيمُ صِلَةٌ وَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيعِ. وَهَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ:" شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً" [الشورى: ١٣]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ" [الشورى: ١٧] كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، فَهَلْ لَهُمْ آلِهَةٌ شَرَعُوا لَهُمُ الشِّرْكَ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ! وَإِذَا اسْتَحَالَ هَذَا فَاللَّهُ لَمْ يَشْرَعِ الشرك، فمن أين يدينون به." وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ" يوم
[سورة الشورى (٤٢): آية ٢٢]
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ" أَيْ خَائِفِينَ" مِمَّا كَسَبُوا" أَيْ مِنْ جَزَاءِ مَا كَسَبُوا. وَالظَّالِمُونَ ها هنا الْكَافِرُونَ، بِدَلِيلِ التَّقْسِيمِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ." وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ" أَيْ نَازِلٌ بِهِمْ." وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ" الرَّوْضَةُ: الْمَوْضِعُ النَّزِهُ الْكَثِيرُ الْخُضْرَةِ. وَقَدْ مَضَى فِي" الرُّومِ" «٢»." لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ" أَيْ مِنَ النَّعِيمِ وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ." ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ" أَيْ لَا يُوصَفُ وَلَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ إِلَى كُنْهِ صِفَتِهِ، لِأَنَّ الْحَقَّ إِذَا قَالَ كَبِيرٌ فَمَنْ ذَا الَّذِي يقدر قدره.
[سورة الشورى (٤٢): آية ٢٣]
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)
(٢). راجع ج ١٤ ص ١١
(٢). آية ٤٧ سورة سبأ.
(٣). آية ٨٦ سورة ص.
(٤). آية ٧٢ سورة المؤمنون.
(٥). آية ٤٠ سورة الطور وآية ٤٦ سورة القلم
(٢). تقدم أنه قزعة بن سويد، وهو ممن يروى عن ابن أبي نجيح. (راجع تهذيب التهذيب). [..... ]
فيه مسألتان :
الأولى- قوله تعالى :" قل لا أسألكم عليه عليه أجرا " أي قل يا محمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة جعلا. " إلا المودة في القربى " قال الزجاج :" إلا المودة " استثناء ليس من الأول، أي إلا أن تودوني لقرابتي فتحفظوني. والخطاب لقريش خاصة. قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو مالك والشعبي وغيرهم. قال الشعبي : أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عنها، فكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوسط الناس في قريش، فليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده، فقال الله له :" قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " إلا أن تودوني في قرابتي منكم، أي تراعوا ما بيني وبينكم فتصدقوني. ف " القربى " ها هنا قرابة الرحم، كأنه قال : اتبعوني للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة. قال عكرمة : وكانت قريش تصل أرحامها فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قطعته ؛ فقال :( صلوني كما كنتم تفعلون ). فالمعنى على هذا : قل لا أسألكم عليه أجرا لكن أذكركم قرابتي، على استثناء ليس من الأول. ذكره النحاس. وفي البخاري عن طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى :" إلا المودة في القربى " فقال سعيد بن جبير : قربى آل محمد، فقال ابن عباس : عجلت ! إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال : إلا أن تصلوا ما بينكم من القرابة. فهذا قول. وقيل : القربى قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي لا أسألكم أجرا إلا أن تودوا قرابتي وأهل بيتي، كما أمر بإعظامهم ذوي القربى. وهذا قول علي بن حسين وعمرو بن شعيب والسدي. وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس : لما أنزل الله عز وجل :" قل لا أسالكم عيه أجرا إلا المودة في القربي " قالوا : يا رسول الله، من هؤلاء الذين نودهم ؟ قال :( علي وفاطمة وأبناؤهما ). ويدل عليه أيضا ما روي عن علي رضي الله عنه قال : شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حسد الناس لي. فقال :( أما ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذريتنا خلف أزواجنا ). وعن النبي صلى الله عليه وسلم :( حرمت الجنة على من ظلم أهل وآذاني في عترتي ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة ). وقال الحسن وقتادة : المعنى إلا أن يتوددوا إلى الله عز وجل ويتقربوا إليه بطاعته. ف " القربى " على هذا بمعنى القربة. يقال : قربة وقربى بمعنى، كالزلفة والزلفى. وروى قزعة بن سويد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم :( قل لا أسألكم على ما آتيتكم به أجرا إلا أن توادوا وتقربوا إليه بالطاعة ). وروى منصور وعوف عن الحسن " قل لا أسالكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " قال : يتوددون إلى الله عز وجل ويتقربون منه بطاعته. وقال قوم : الآية منسوخة وإنما نزلت بمكة، وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، وأمرهم الله بمودة نبيه صلى الله عليه وسلم وصلة رحمه، فلما هاجر آوته الأنصار ونصروه، وأراد الله أن يلحقه بإخوانه من الأنبياء حيث قالوا :" وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين " ١ [ الشعراء : ١٠٩ ] فأنزل الله تعالى :" قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله " ٢ [ سبأ : ٤٧ ] فنسخت بهذه الآية وبقوله :" قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين " ٣ [ ص : ٨٦ ]، وقوله. " أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير " ٤ [ المؤمنون : ٧٢ ]، وقوله :" أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون " ٥ [ الطور : ٤٠ ] قاله الضحاك والحسين بن الفضل. ورواه جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. قال الثعلبي : وليس بالقوي، وكفى قبحا بقول من يقول : إن التقرب إلى الله بطاعته ومودة نبيه صلى الله عليه وسلم وأهل بيته منسوخ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :( من مات على حب آل محمد مات شهيدا. ومن مات على حب آل محمد جعل الله زوار قبره الملائكة والرحمة. ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه أيس اليوم من رحمة الله. ومن مات على بغض آل محمد لم يرح٦ رائحة الجنة. ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له في شفاعتي ).
قلت : وذكر هذا الخبر الزمخشري في تفسيره بأطول من هذا فقال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من مات على حب آل محمد مات شهيدا ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان. ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير. ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له قبره بابان إلى الجنة. ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة. ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة. ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله. ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا. ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة ). قال النحاس : ومذهب عكرمة ليست بمنسوخة. قال : كانوا يصلون أرحامهم فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قطعوه فقال :( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني وتحفظوني لقرابتي ولا تكذبوني ).
قلت : وهذا هو معنى قول ابن عباس في البخاري والشعبي عنه بعينه، وعليه لا نسخ. قال النحاس : وقول الحسن حسن، ويدل على صحته الحديث المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثنا أحمد بن محمد الأزدي قال أخبرنا الربيع بن سليمان المرادي قال أخبرنا أسد بن موسى قال حدثنا قزعة - وهو ابن يزيد البصري٧ - قال حدثنا عبدالله بن أبي نجيع عن مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا أسألكم على ما أنبئكم به من البينات والهدى أجراً إلا أن توادوا الله عز وجل وأن تتقربوا إليه بطاعته ). فهذا المبين عن الله عز وجل قد قال هذا، وكذا قالت الأنبياء صلى الله عليه وسلم قبله :" إن أجري إلا على الله " [ سبأ : ٤٧ ].
الثانية- واختلفوا في سبب نزولها، فقال ابن عباس : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت تنوبه نوائب وحقوق لا يسعها ما في يديه، فقالت الأنصار : إن هذا الرجل هداكم الله به وهو ابن أخيكم، وتنوبه نوائب وحقوق لا يسعها ما في يديه فنجمع له ففعلوا، ثم أتوه به فنزلت. وقال الحسن : نزلت حين تفاخرت الأنصار والمهاجرون، فقالت الأنصار نحن فعلنا، وفخرت المهاجرون بقرابتهم من رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم. روى مقسم عن ابن عباس قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فخطب فقال للأنصار :( ألم تكونوا أذلاء فأعزكم الله بي. ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي. ألم تكونوا خائفين فأمنكم الله بي ألا تردون علي ) ؟ فقالوا : به نجيبك ؟ قال. ( تقولون ألم يطردك قومك فآويناك. ألم يكذبك قومك فصدقناك. . . ) فعدد عليهم. قال فجثوا على ركبهم فقالوا : أنفسنا وأموالنا لك. فنزلت :" قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " وقال قتادة : قال المشركون لعل محمد فيما يتعاطاه يطلب أجرا، فنزلت هذه الآية ؛ ليحثهم على مودته ومودة أقربائه. قال الثعلبي : وهذا أشبه بالآية، لأن السورة مكية.
قوله تعالى :" ومن يقترف حسنة " أي : يكتسب. وأصل القرف الكسب، يقال : فلان يقرف لعياله، أي يكسب. والاقتراف الاكتساب، وهو مأخوذ من قولهم رجل قرفة، إذا كان محتالا. وقد مضى في " الأنعام " ٨ القول فيه. وقال ابن عباس :" ومن يقترف حسنة " قال المودة لآل محمد صلى الله عليه وسلم. " نزد له فيها حسنا " أي نضاعف له الحسنة بعشر فصاعدا. " إن الله غفور شكور " قال قتادة :" غفور " للذنوب " شكور " للحسنات. وقال السدي :" غفور " لذنوب آل محمد عليه السلام، " شكور " لحسناتهم.
٢ آية ٤٧ سورة سبأ..
٣ آية ٨٦ سورة ص..
٤ آية ٧٢ سورة المؤمنون..
٥ آية ٤٠ سورة الطور وآية ٤٦ سورة القلم..
٦ أي لم يشم ريحها، يقال: راح يريح، وراح يراح، وأراح يريح. والثلاثة قد روي بها الحديث..
٧ تقدم أنه قزعة بن سويد، وهو ممن يروي عن ابن أبي نجيح. (راجع تهذيب التهذيب)..
٨ راجع ج ٧ ص ٧٠..
[سورة الشورى (٤٢): آية ٢٤]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤)
[الاسراء: ١١] وَلِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ" يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ". وقال الزجاج: قول:" أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً" تَمَامٌ، وَقَوْلُهُ:" وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ" احْتِجَاجٌ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَوْ كَانَ مَا أَتَى بِهِ بَاطِلًا لَمَحَاهُ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ فِي الْمُفْتَرِينَ." وَيُحِقُّ الْحَقَّ" أَيِ الْإِسْلَامَ فَيُثْبِتُهُ «٥» " بِكَلِماتِهِ" أَيْ بِمَا أَنْزَلَهُ مِنَ الْقُرْآنِ." إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ" عَامٌّ، أَيْ بِمَا فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ. وَقِيلَ خَاصٌّ. وَالْمَعْنَى أَنَّكَ لَوْ حَدَّثْتَ نَفْسَكَ أَنْ تَفْتَرِيَ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لعلمه وطبع على قلبك.
[سورة الشورى (٤٢): آية ٢٥]
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥)
(٢). آية ١٧ من هذه السورة.
(٣). آية ١٨ سورة العلق.
(٤). آية ١١ سورة الاسراء.
(٥). في أح ز هـ: فبينه.
[سورة الشورى (٤٢): آية ٢٦]
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦)
" الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ وَيَسْتَجِيبُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ يَقْبَلُ عِبَادَةَ مَنْ أَخْلَصَ لَهُ بِقَلْبِهِ وَأَطَاعَ بِبَدَنِهِ. وَقِيلَ: يُعْطِيهِمْ مَسْأَلَتَهُمْ إِذَا دَعَوْهُ. وَقِيلَ: وَيُجِيبُ دُعَاءَ الْمُؤْمِنِينَ بِعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، يُقَالُ: أَجَابَ وَاسْتَجَابَ بِمَعْنًى، وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «٣». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ" يُشَفِّعُهُمْ فِي إِخْوَانِهِمْ." وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ" قَالَ: يُشَفِّعُهُمْ فِي إِخْوَانِ إِخْوَانِهِمْ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مَعْنَى" وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا" وَلْيَسْتَدْعِ الَّذِينَ آمَنُوا الْإِجَابَةَ، هَكَذَا حَقِيقَةُ مَعْنَى اسْتَفْعَلَ. فَ" الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ." وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ".
(٢). آية ١٠٤ راجع ج ٨ ص (٢٥٠)
(٣). راجع ج ٢ ص ٣٠٨ وما بعدها طبعه ثانية.
[سورة الشورى (٤٢): آية ٢٧]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧)فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- فِي نُزُولِهَا، قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ تَمَنَّوْا سَعَةَ الرِّزْقِ. وَقَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ: فِينَا نَزَلَتْ، نَظَرْنَا إِلَى أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ فَتَمَنَّيْنَاهَا فَنَزَلَتْ." لَوْ بَسَطَ" مَعْنَاهُ وَسَّعَ. وَبَسَطَ الشَّيْءَ نَشَرَهُ. وَبِالصَّادِ أَيْضًا." لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ" طَغَوْا وَعَصَوْا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَغْيُهُمْ طَلَبُهُمْ مَنْزِلَةً بَعْدَ مَنْزِلَةٍ وَدَابَّةً بَعْدَ دَابَّةٍ وَمَرْكَبًا بَعْدَ مَرْكَبٍ وَمَلْبَسًا بَعْدَ مَلْبَسٍ. وَقِيلَ أَرَادَ لَوْ أَعْطَاهُمُ الْكَثِيرَ لَطَلَبُوا مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، لِقَوْلِهِ: (لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِمَا ثَالِثًا) وَهَذَا هُوَ الْبَغْيُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: لَوْ جَعَلْنَاهُمْ سَوَاءً فِي الْمَالِ لَمَا انْقَادَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَلَتَعَطَّلَتِ الصَّنَائِعُ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالرِّزْقِ الْمَطَرَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الرِّزْقِ، أَيْ لَوْ أَدَامَ الْمَطَرَ لَتَشَاغَلُوا بِهِ عَنِ الدُّعَاءِ، فَيَقْبِضُ تَارَةً لِيَتَضَرَّعُوا وَيَبْسُطُ أُخْرَى لِيَشْكُرُوا. وَقِيلَ: كَانُوا إِذَا أَخْصَبُوا أَغَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَا يَبْعُدُ حَمْلُ الْبَغْيِ عَلَى هَذَا. الزَّمَخْشَرِيُّ:" لَبَغَوْا" مِنَ الْبَغْيِ وَهُوَ الظُّلْمُ، أَيْ لَبَغَى هَذَا عَلَى ذَاكَ وَذَاكَ عَلَى هَذَا، لِأَنَّ الْغِنَى مَبْطَرَةٌ مَأْشَرَةٌ، وَكَفَى بِقَارُونَ عِبْرَةً. وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي زَهْرَةَ الدُّنْيَا وَكَثْرَتَهَا). وَلِبَعْضِ الْعَرَبِ:
وَقَدْ جَعَلَ الْوَسْمِيُّ يَنْبُتُ بَيْنَنَا | وَبَيْنَ بَنِي دُودَانَ نَبْعًا وَشَوْحَطَا «١» |
[سورة الشورى (٤٢): آية ٢٨]
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨)
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو عمرو ويعقوب وابن وثاب والأعمش وحمزه وَالْكِسَائِيُّ" يُنْزِلُ" مُخَفَّفًا. الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ أَيْضًا وَالْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُمَا" قَنِطُوا" بِكَسْرِ النُّونِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُ هَذَا «٢». وَالْغَيْثُ الْمَطَرُ، وَسُمِّيَ الغيث غيثا لأنه يغيث
(٢). راجع ج: ١ ص ٣٦، ٦٧ وج ١٤ ص ٣٤
[سورة الشورى (٤٢): آية ٢٩]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" أَيْ عَلَامَاتِهِ الدَّالَّةَ عَلَى قُدْرَتِهِ." وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ" قَالَ مُجَاهِدٌ: يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ، وَقَدْ قَالَ تعالى:" وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ" «١» [النحل: ٨]. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ مَا بَثَّ فِي الْأَرْضِ دُونَ السَّمَاءِ، كَقَوْلِهِ:" يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ" «٢» [الرحمن: ٢٢] وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ الْمِلْحِ دُونَ الْعَذْبِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: تَقْدِيرُهُ وَمَا بَثَّ فِي أَحَدِهِمَا، فَحَذَفَ الْمُضَافَ. وَقَوْلُهُ:" يَخْرُجُ مِنْهُمَا" أَيْ مِنْ أَحَدِهِمَا." وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ" أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ." إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ".
(٢). راجع ج ١٧ ص ١٦٣ [..... ]
[سورة الشورى (٤٢): الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ" بِمَا كَسَبَتْ" بِغَيْرِ فَاءٍ. الْبَاقُونَ" فَبِما" بِالْفَاءِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِلزِّيَادَةِ فِي الْحَرْفِ وَالْأَجْرِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: إِنْ قَدَّرْتَ أَنَّ" مَا" الْمَوْصُولَةُ جَازَ حَذْفُ الْفَاءِ وَإِثْبَاتُهَا، وَالْإِثْبَاتُ أَحْسَنُ. وَإِنْ قَدَّرْتَهَا الَّتِي لِلشَّرْطِ لَمْ يَجُزِ الْحَذْفُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَأَجَازَهُ الْأَخْفَشُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ" «١» [الانعام: ١٢١]. وَالْمُصِيبَةُ هُنَا الْحُدُودُ عَلَى الْمَعَاصِي، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا تَعَلَّمَ رَجُلٌ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ إِلَّا بِذَنْبٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" ثُمَّ قَالَ: وَأَيُّ مُصِيبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ نِسْيَانِ الْقُرْآنِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّمَا هَذَا عَلَى التَّرْكِ، فَأَمَّا الَّذِي هُوَ دَائِبٌ فِي تِلَاوَتِهِ حَرِيصٌ عَلَى حِفْظِهِ إِلَّا أَنَّ النِّسْيَانَ يغلبه فليس من ذلك في شي. وَمِمَّا يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْسَى الشَّيْءَ مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى يَذْكُرَهُ، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثِ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمِعَ قِرَاءَةَ رجل في المسجد فقال: (ماله رَحِمَهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي آيَاتٍ كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا). وَقِيلَ:" مَا" بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْمَعْنَى الَّذِي أَصَابَكُمْ فِيمَا مَضَى بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَإِذَا كَانَ يُكَفِّرُ عَنِّي بِالْمَصَائِبِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ فَمَا يَبْقَى بَعْدَ كَفَّارَتِهِ وَعَفْوِهِ! وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَدَّثَنَا بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" الْآيَةَ: (يَا عَلِيُّ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ. وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَيْكُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الآخرة وما عفا عنه
(٢). ضبط كسكارى (بالفتح) أو أحد الحواريين (شرح القاموس).
(٣). ج ٥ ص ٣٦٩
[سورة الشورى (٤٢): الآيات ٣٢ الى ٣٣]
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ" أَيْ وَمِنْ عَلَامَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ السُّفُنُ الْجَارِيَةُ فِي الْبَحْرِ كَأَنَّهَا مِنْ عِظَمِهَا أَعْلَامٌ. وَالْأَعْلَامُ: الْجِبَالُ، وَوَاحِدُ الْجَوَارِي جَارِيَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ" «٢» [الحاقة: ١١]. سُمِّيَتْ جَارِيَةً لِأَنَّهَا تَجْرِي فِي الْمَاءِ. وَالْجَارِيَةُ: هِيَ الْمَرْأَةُ الشَّابَّةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا يَجْرِي فِيهَا مَاءُ الشَّبَابِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَعْلَامُ الْقُصُورُ، وَاحِدُهَا عَلَمٌ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْهُ أَنَّهَا الْجِبَالُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: كُلُّ شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ عَلَمٌ. قَالَتِ الْخَنْسَاءُ تَرْثِي أَخَاهَا صَخْرًا:
وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ | كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ |
(٢). آية ١١ [سورة الحاقة]
[سورة الشورى (٤٢): الآيات ٣٤ الى ٣٥]
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا" أَيْ وَإِنْ يَشَأْ يَجْعَلْ الرِّيَاحَ عَوَاصِفَ فَيُوبِقِ السُّفُنَ، أَيْ يُغْرِقْهُنَّ بِذُنُوبِ أَهْلِهَا. وَقِيلَ: يُوبِقْ أَهْلَ السُّفُنِ." وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ" مِنْ أَهْلِهَا فَلَا يُغْرِقُهُمْ مَعَهَا، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ:" وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ" أَيْ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الذنوب فينجيهم الله من الهلاك. قال القشري: وَالْقِرَاءَةُ الْفَاشِيَةُ" وَيَعْفُ" بِالْجَزْمِ، وَفِيهَا إِشْكَالٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنُ الرِّيحَ فَتَبْقَى تِلْكَ السُّفُنُ رَوَاكِدَ وَيُهْلِكُهَا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا، فَلَا يَحْسُنُ عَطْفُ" يَعْفُ" عَلَى هَذَا، لِأَنَّهُ يَصِيرُ «٢» الْمَعْنَى: إِنْ يَشَأْ يَعْفُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى ذَلِكَ بَلِ الْمَعْنَى الْإِخْبَارُ عَنِ الْعَفْوِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْمَشِيئَةِ، فَهُوَ إِذًا عَطْفٌ عَلَى الْمَجْزُومِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَقَدْ قرأ قوم" وَيَعْفُ" بِالرَّفْعِ، وَهِيَ جَيِّدَةٌ فِي الْمَعْنَى." وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ" يَعْنِي الْكُفَّارَ، أَيْ إِذَا تَوَسَّطُوا الْبَحْرَ وَغَشِيَتْهُمُ الرِّيَاحُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ أَوْ بَقِيَتِ السُّفُنُ رَوَاكِدَ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ سِوَى اللَّهِ، وَلَا دَافِعَ لَهُمْ إِنْ أَرَادَ اللَّهُ إِهْلَاكَهُمْ فَيُخْلِصُونَ لَهُ الْعِبَادَةَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «٣»، وَمَضَى الْقَوْلُ فِي رُكُوبِ الْبَحْرِ فِي" الْبَقَرَةِ" «٤» وَغَيْرِهَا بِمَا يُغْنِي عن إعادته. وقرا نافع وابن عامر
(٢). في ح: لأنه إن يشأ يعف.
(٣). راجع ج ٨ ص ٣٢٥ وج ١٣ ص ٣ (٢٢٣)
(٤). راجع ج ٢ ص ١٩٥ طبعه ثانية.
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ | رَبِيعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ «٣» |
وَيُمْسِكُ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ | أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ «٤» |
[سورة الشورى (٤٢): آية ٣٦]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦)
(٢). آية ١٤٢ سورة آل عمران.
(٣). أبو قابوس: كنيته النعمان بن المنذر، يريد أنه كان كالربيع في الخصب لمجتديه، وكالشهر الحرام لجاره، أي لا يوصل إلى من أجاره. والمعنى: إن يمت النعمان يذهب خير الدنيا لأنها كانت تعمر به وبجوده وعدله ونفعه للناس، ومن كان في ذمته وسلطانه فهو آمن على نفسه محقون الدم كما يأمن الناس في الشهر الحرام على أموالهم ودمائهم.
(٤). ذناب كل شي: عقبه ومؤخره. واجب الظهر مقطوع السنام. يقول: إن مات بقينا في طرف عيش قد مضى صدره ومعظمه وختره، وقد بقي منه ذنبه. [..... ]
[سورة الشورى (٤٢): آية ٣٧]
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ" الَّذِينَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ مَعْطُوفٍ عَلَى قَوْلِهِ:" خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا" أي وهو للذين يجتنبون" كَبائِرَ الْإِثْمِ" وقد مَضَى الْقَوْلُ فِي الْكَبَائِرِ فِي" النِّسَاءِ" «١». وَقَرَأَ حمزة والكسائي" كَبائِرَ الْإِثْمِ" وَالْوَاحِدُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ عِنْدَ الْإِضَافَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها" «٢» [النحل: ١٨]، وَكَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: (مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا). الْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ هُنَا وَفِي" النَّجْمِ" «٣»." وَالْفَواحِشَ" قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي الزِّنَى. وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: كَبِيرُ الْإِثْمِ الشِّرْكُ. وَقَالَ قَوْمٌ: كَبَائِرُ الْإِثْمِ مَا تَقَعُ عَلَى الصَّغَائِرِ مَغْفُورَةٌ عِنْدَ اجْتِنَابِهَا. وَالْفَوَاحِشُ دَاخِلَةٌ فِي الْكَبَائِرِ، وَلَكِنَّهَا تَكُونُ أَفْحَشَ وَأَشْنَعَ كَالْقَتْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجُرْحِ، وَالزِّنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُرَاوَدَةِ. وَقِيلَ: الْفَوَاحِشُ وَالْكَبَائِرُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَكَرَّرَ لِتَعَدُّدِ اللَّفْظِ، أَيْ يَجْتَنِبُونَ الْمَعَاصِيَ لِأَنَّهَا كَبَائِرُ وَفَوَاحِشُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْفَوَاحِشُ مُوجِبَاتُ الْحُدُودِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ" أي يتجاوزون ويحملون عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُمَرَ حِينَ شُتِمَ بِمَكَّةَ. وَقِيلَ: فِي أَبِي بَكْرٍ حِينَ لامه الناس على
(٢). آية ٣٤ سورة إبراهيم. و١٨ سورة النحل.
(٣). آية ٣٢
إِنِّي عَفَوْتُ لِظَالِمِي ظُلْمِي | وَوَهَبْتُ ذاك له على علمي |
ما زال يَظْلِمُنِي وَأَرْحَمُهُ | حَتَّى بَكَيْتُ لَهُ مِنَ الظُّلْمِ |
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ" قال عبد الرحمن ابن زَيْدٍ: هُمُ الْأَنْصَارُ بِالْمَدِينَةِ، اسْتَجَابُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ حِينَ أَنْفَذَ إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْهُمْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ." وَأَقامُوا الصَّلاةَ" أَيْ أَدَّوْهَا لمواقيتها بشروطها وهيئاتها. الثانية- قوله تعالى:" وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ" أَيْ يَتَشَاوَرُونَ فِي الْأُمُورِ. وَالشُّورَى مَصْدَرُ شَاوَرْتُهُ، مِثْلُ الْبُشْرَى وَالذِّكْرَى وَنَحْوَهُ. فَكَانَتِ الْأَنْصَارُ قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ إِذَا أَرَادُوا أَمْرًا تَشَاوَرُوا فِيهِ ثُمَّ عَمِلُوا عَلَيْهِ، فَمَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، قَالَهُ النَّقَّاشُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْ إِنَّهُمْ لِانْقِيَادِهِمْ إِلَى الرَّأْيِ فِي أُمُورِهِمْ مُتَّفِقُونَ لَا يَخْتَلِفُونَ، فَمُدِحُوا بِاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ قَطُّ إِلَّا هُدُوا لِأَرْشَدِ أُمُورِهِمْ. وقال
إِذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ | بِرَأْيِ لبيب أو مشورة حَازِمٍ «٢» |
وَلَا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضَةً | فَإِنَّ الْخَوَافِيَ قُوَّةٌ «٣» لِلْقَوَادِمِ |
(٢). البيتان لبشار بن برد. والخوافي: ريشات إذا ضم الطائر جناحيه خفيت. والقوادم: عشر ريشات في مقدم الجناح وهي كبائر الريش.
(٣). في الأصول" نافع".
(٤). راجع ج ٤ ص ٢٢٤
[آل عمران: ١٥٩]. وَالْمَشُورَةُ بَرَكَةٌ. وَالْمَشْوَرَةُ: الشُّورَى، وَكَذَلِكَ الْمَشُورَةُ (بِضَمِّ الشِّينِ)، تَقُولُ مِنْهُ: شَاوَرْتُهُ فِي الْأَمْرِ وَاسْتَشَرْتُهُ بِمَعْنًى. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ وَأَمْرُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ فَظَهْرُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ من ظهرها (. قال حديث غريب." مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ" أَيْ وَمِمَّا أَعْطَيْنَاهُمْ يَتَصَدَّقُونَ. وَقَدْ تقدم في" البقرة" «٢».
[سورة الشورى (٤٢): الآيات ٣٩ الى ٤٣]
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ" أَيْ أَصَابَهُمْ بَغْيُ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَغَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَآذَوْهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ مَكَّةَ، فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ بِالْخُرُوجِ وَمَكَّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنَصَرَهُمْ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: [الحج: ٤٠ - ٣٩]
(٢). راجع ج ١ ص ١٧٨ وما بعدها.
(٢). آية ٢٣٧ سورة البقرة.
(٣). آية ٤٥ سورة المائدة.
(٤). آية ٢٢ سورة النور. [..... ]
(٢). راجع ج ٢ ص (٣٣٥)
(٣). راجع ج ٤ ص ٢٠٧
(٢). في ز ل: مطالب بفعله مؤاخذ به.
(٢). في ابن العربي: أثبتها.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٢٤٤.
(٢). قال النووي" الأول بهمزة ممدودة على الاستفهام، والثاني بلا مد، والهاء فيهما مكسورة. قال القاضي: ورويناه بفتحهما معا، وأكثر أهل العربية لا يجيزون إلا الكسر".
(٣). في ابن العربي:" التحلل" وقد كتب على هامش نسخة من الأصل بخط الناسخ:" يقال تمحل أي احتال فهو متمحل قاله الجوهري".] [
[سورة الشورى (٤٢): آية ٤٤]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤)
[سورة الشورى (٤٢): آية ٤٥]
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها" أَيْ عَلَى النَّارِ لِأَنَّهَا عَذَابُهُمْ، فَكَنَّى عَنِ الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ بِحَرْفِ التَّأْنِيثِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ هُوَ النَّارُ، وَإِنْ شِئْتَ جَهَنَّمُ، وَلَوْ رَاعَى اللَّفْظَ لَقَالَ عَلَيْهِ. ثُمَّ قِيلَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ جَمِيعًا يُعْرَضُونَ عَلَى جَهَنَّمَ عِنْدَ انْطِلَاقِهِمْ إِلَيْهَا، قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ. وَقِيلَ: آلُ فِرْعَوْنَ خُصُوصًا، تُحْبَسُ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ سُودٍ تَغْدُو عَلَى جَهَنَّمَ وَتَرُوحُ، فَهُوَ عَرْضُهُمْ عَلَيْهَا، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ، تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ ذُنُوبُهُمْ فِي قُبُورِهِمْ، وَيُعْرَضُونَ عَلَى الْعَذَابِ فِي قُبُورِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي الْحَجَّاجِ." خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ" ذَهَبَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ إِلَى الْوَقْفِ عَلَى" خاشِعِينَ". وَقَوْلُهُ:" مِنَ الذُّلِّ" مُتَعَلِّقٌ بِ" يَنْظُرُونَ". وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ ب" خاشِعِينَ". وَالْخُشُوعُ الِانْكِسَارُ وَالتَّوَاضُعُ. وَمَعْنَى" يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ" أَيْ لَا يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ لِلنَّظَرِ رَفْعًا تاما، لأنهم ناكسو الرؤوس. وَالْعَرَبُ تَصِفُ الذَّلِيلَ بِغَضِّ الطَّرْفِ، كَمَا يَسْتَعْمِلُونَ فِي ضِدِّهِ حَدِيدَ النَّظَرِ إِذَا لَمْ يُتَّهَمْ بِرِيبَةٍ فَيَكُونُ عَلَيْهِ مِنْهَا غَضَاضَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ" أَيْ ذَلِيلٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ بِقُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عُمْيًا، وَعَيْنُ الْقَلْبِ طَرْفٌ خَفِيٌّ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالْقُرَظِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُسَارِقُونَ النَّظَرَ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَنْظُرُونَ مِنْ
[سورة الشورى (٤٢): آية ٤٦]
وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ" أَيْ أَعْوَانًا وَنُصَرَاءَ" يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ" أَيْ مِنْ عَذَابِهِ" وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ" أَيْ طَرِيقٍ يَصِلُ بِهِ إِلَى الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِ طَرِيقُ النجاة.
(٢). راجع ج ١٢ ص ١٠٨ [..... ]
[سورة الشورى (٤٢): آية ٤٧]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧)قَوْلُهُ تَعَالَى:" اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ" أَيْ أَجِيبُوهُ إِلَى مَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالطَّاعَةِ. اسْتَجَابَ وَأَجَابَ بِمَعْنًى، وَقَدْ تَقَدَّمَ." مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ" يُرِيدُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ لَا يَرُدُّهُ أحد بعد ما حَكَمَ اللَّهُ بِهِ وَجَعَلَهُ أَجَلًا وَوَقْتًا." مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ" أَيْ مِنْ مَلْجَأٍ يُنْجِيكُمْ مِنَ الْعَذَابِ." وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ" أَيْ مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُكُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: النَّكِيرُ بِمَعْنَى الْمُنْكَرِ، كَالْأَلِيمِ بِمَعْنَى الْمُؤْلِمِ، أَيْ لَا تَجِدُونَ يَوْمئِذٍ مُنْكِرًا لِمَا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، حَكَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَهُ الْكَلْبِيُّ. الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُنْكِرُوا الذُّنُوبَ الَّتِي يُوقَفُونَ عَلَيْهَا. وَقِيلَ:" مِنْ نَكِيرٍ" أَيْ إِنْكَارِ مَا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَالنَّكِيرُ وَالْإِنْكَارُ تَغْيِيرُ المنكر.
[سورة الشورى (٤٢): آية ٤٨]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنْ أَعْرَضُوا" أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ" فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً" أَيْ حَافِظًا لِأَعْمَالِهِمْ حَتَّى تُحَاسِبَهُمْ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: مُوَكَّلًا بِهِمْ لَا تُفَارِقُهُمْ دُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا، أَيْ لَيْسَ لَكَ إِكْرَاهُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ." إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ" وَقِيلَ: نُسِخَ هَذَا بِآيَةِ الْقِتَالِ." وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ" الْكَافِرَ." مِنَّا رَحْمَةً" رَخَاءً وَصِحَّةً." فَرِحَ بِها" بَطِرَ بِهَا." وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ" بَلَاءٌ وَشِدَّةٌ." بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ" أَيْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النِّعْمَةِ فَيُعَدِّدُ الْمَصَائِبَ وينسى النعم.
[سورة الشورى (٤٢): الآيات ٤٩ الى ٥٠]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)قَوْلُهُ تَعَالَى:" لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ" فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ." يَخْلُقُ مَا يَشاءُ" مِنَ الْخَلْقِ." يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ" قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو مَالِكٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَالضِّحَاكُ: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا لَا ذُكُورَ مَعَهُنَّ، وَيَهَبُ لِمَنْ يشاء ذكورا لا إناثا مَعَهُمْ، وَأَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ عَلَى الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ لِأَنَّهُمْ أَشْرَفُ فَمَيَّزَهُمْ بِسِمَةِ التَّعْرِيفِ. وَقَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ: إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَبْكِيرَهَا بِالْأُنْثَى قَبْلَ الذَّكَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:" يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ" فَبَدَأَ بِالْإِنَاثِ." أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً" قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَنْ تَلِدَ الْمَرْأَةُ غُلَامًا ثُمَّ تَلِدُ جَارِيَةً، ثُمَّ تَلِدُ غُلَامًا ثُمَّ تَلِدُ جَارِيَةً. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ أَنْ تَلِدَ تَوْأَمًا، غُلَامًا وَجَارِيَةً، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا. قَالَ الْقُتَبِيُّ: التَّزْوِيجُ ها هنا هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: زَوَّجْتُ إِبِلِي إِذَا جَمَعْتُ بَيْنَ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ." وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً" أَيْ لَا يُولَدُ لَهُ، يُقَالُ: رَجُلٌ عَقِيمٌ، وَامْرَأَةٌ عَقِيمٌ. وَعَقِمَتِ الْمَرْأَةُ تَعْقَمُ عَقْمًا، مِثْلُ حَمِدَ يَحْمَدُ. وَعَقُمَتْ تَعْقُمُ، مِثْلُ عَظُمَ يَعْظُمُ. وَأَصْلُهُ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ الْمُلْكُ الْعَقِيمُ، أَيْ تُقْطَعُ فِيهِ الْأَرْحَامُ بِالْقَتْلِ وَالْعُقُوقِ خَوْفًا عَلَى الْمُلْكِ. وَرِيحٌ عَقِيمٌ، أَيْ لَا تَلْقَحُ سَحَابًا وَلَا شَجَرًا. وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ عَقِيمٌ، لِأَنَّهُ لَا يَوْمَ بَعْدَهُ. وَيُقَالُ: نِسَاءٌ عُقُمٌ وَعُقْمٌ، قَالَ الشاعر «١»:
عُقِمَ النِّسَاءُ فَمَا يَلِدْنَ شَبِيهَهُ | إِنَّ النِّسَاءَ بمثله عقم |
(٢). قال القسطلاني:" أي يذللها تذليل من يوضع تحت الرجل، والعرب تضع الأمثال بالأعضاء ولا تريد أعيانها كقولها للنادم: سقط في يده".
(٣). قوله:" قط قط" بكسر الطاء وسكونها فيهما، ويجوز التنوين مع الكسر والمعنى: حسبي حسبي قد اكتفيت.
(٢). قوله:" تربت يداك". معناه: ما أصبت! وهو في الأصل بمعنى صار في يدك التراب ولا أصبت خيرا أي افتقرت، لكن لا يريدون به الدعاء على المخاطب، كما يقولون: قاتله الله، إلى غير ذلك. قوله" وألت": أي صاحت لما أصابها من شدة هذا الكلام. وروى بضم الهمزة مع التشديد، أي طعنت بالأدلة وهي الحربة. قال ابن الأثير: وفية بعد، لأنه لا يلائم لفظ الحديث.
(٢). في ابن العربي:" ومعتمدها". ويقال أنه عاش ثلاثمائة عام.
[سورة الشورى (٤٢): آية ٥١]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)
(٢). لفظة ذكر ساقطة من ح ز ل.
[سورة الشورى (٤٢): الآيات ٥٢ الى ٥٣]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ" أَيْ وَكَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ" رُوحاً" أَيْ نُبُوَّةً، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا. السُّدِّيُّ: وَحْيًا. الْكَلْبِيُّ: كِتَابًا. الرَّبِيعُ: هُوَ جبريل. الضحاك: هو القرآن. وهو قول
[الاسراء: ٨٥] عَلَى الْقُرْآنِ أَيْضًا" قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي" [الاسراء: ٨٥] أي يسئلونك مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا الْقُرْآنُ، قُلْ إِنَّهُ من أمر الله أنزله عَلَيَّ مُعْجِزًا، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، مَاذَا زَرَعَ الْقُرْآنُ فِي قُلُوبِكُمْ؟ فَإِنَّ الْقُرْآنَ رَبِيعُ الْقُلُوبِ كَمَا أَنَّ الْغَيْثَ رَبِيعُ الْأَرْضِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ" أَيْ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ الطَّرِيقَ إِلَى الْإِيمَانِ. وَظَاهِرُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ قَبْلَ الْإِيحَاءِ مُتَّصِفًا بِالْإِيمَانِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَهُوَ مِنْ مُجَوَّزَاتِ «٢» الْعُقُولِ، وَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْمُعْظَمُ أَنَّ اللَّهَ مَا بَعَثَ نَبِيًّا إِلَّا كَانَ مُؤْمِنًا بِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَفِيهِ تَحَكُّمٌ، إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ بِتَوْقِيفٍ مَقْطُوعٍ بِهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضٌ: وَأَمَّا عِصْمَتُهُمْ مِنْ هَذَا الْفَنِّ «٣» قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَلِلنَّاسِ فِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَالتَّشَكُّكِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ تَعَاضَدَتِ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ بِتَنْزِيهِهِمْ عَنْ هَذِهِ النَّقِيصَةِ مُنْذُ وُلِدُوا، وَنَشْأَتِهِمْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، بَلْ عَلَى إِشْرَاقِ أَنْوَارِ الْمَعَارِفِ وَنَفَحَاتِ أَلْطَافِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ طَالَعَ سِيَرَهُمْ مُنْذُ صِبَاهُمْ إِلَى مَبْعَثِهِمْ حَقَّقَ ذَلِكَ، كَمَا عُرِفَ مِنْ حَالِ مُوسَى وَعِيسَى وَيَحْيَى وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا" «٤» [مريم: ١٢] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أُعْطِيَ يَحْيَى الْعِلْمَ بِكِتَابِ اللَّهِ فِي حَالِ صِبَاهُ. قَالَ مَعْمَرٌ: كَانَ ابْنَ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، فَقَالَ لَهُ الصِّبْيَانُ: لِمَ لَا تَلْعَبُ! فَقَالَ: أَلِلَّعِبِ خُلِقْتُ! وَقِيلَ فِي قوله" مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ" «٥» [آل عمران: ٣٩] صَدَّقَ يَحْيَى بِعِيسَى وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَشَهِدَ لَهُ أَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ وَقِيلَ: صَدَّقَهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَكَانَتْ أُمُّ يَحْيَى تَقُولُ لِمَرْيَمَ إِنِّي أَجِدُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ تَحِيَّةً لَهُ. وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى كَلَامِ عِيسَى لِأُمِّهِ عند ولادتها إياه بقوله" أَلَّا تَحْزَنِي" «٦» [مريم: ٢٤] على قراءة من قرأ"
(٢). في ل: معجزات وفي ن: تجوزات [..... ]
(٣). كذا في الأصل
(٤). راجع ج ١١ ص ٨٧ و٩٤.
(٥). راجع ج ٤ ص ٧٦.
(٦). راجع ج ١١ ص ٨٧ و٩٤.
(٢). آية ٧٩ سورة الأنبياء.
(٣). آية ٧٩ سورة الأنبياء.
(٤). في الأصول:" خمسة عشر شهرا" راجع ج ٧ ص ٢٥.
(٥). آية ٥ سورة يوسف.
(٦). آية ١٤ سورة القصص.
(٢). في الأصول:" عندهما".
(٢). كذا في الأصول. [..... ]
(٣). في الأصول:" المطيب". قال ابن الأثير:" أصل الحلف المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق. فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صلوات الله عليه: (لا حلف في الإسلام). وما كان منه في الجاهلية على نصرة المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه فذلك الَّذِي قَالَ فِيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإسلام إلا شدة) يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق، وبذلك يجتمع الحديثان، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام. والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام". ويلاحظ أنه قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (شهدت غلاما مع عمومتي حلف المطيبين). اجتمع بنو هاشم وبنو زهرة وتيم في دار ابن جدعان في الجاهلية وجعلوا طيبا في جفنة وغمسوا أيديهم فيه وتحالفوا على التناصر والأخذ من المظلوم للظالم، فسموا المطيبين. وقال عليه السلام: (شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حلفا لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت). قال ابن الأثير: يعني حلف الفضول. (راجع نهاية ابن الأثير مادة حلف. طيب. فضل).
(٢). آية ١٢٣ سورة النحل.
(٣). آية ١٣ من هذه السورة.
(٤). آية ١٣٥ سورة البقرة.
(٢). آية ١٠٥ سورة البقرة.
(٣). راجع ج ٩ ص ٢٨٥.