ﰡ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿حم (١) عسق (٢) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) ﴾قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا أَثَرًا غَرِيبًا عَجِيبًا مُنْكَرًا، فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَير، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ الحَوْطي، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ أَرْطَاةَ بْنِ الْمُنْذِرِ (١) قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ -وَعِنْدَهُ حُذيفة بْنُ الْيَمَانِ-: أَخْبِرْنِي عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿حم عسق﴾ قَالَ: فَأَطْرَقَ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ كَرَّرَ مَقَالَتَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ وَكَرِهَ مَقَالَتَهُ، ثُمَّ كَرَّرَهَا الثَّالِثَةَ فَلَمْ يُحِرْ إِلَيْهِ شَيْئًا. فَقَالَ حُذَيْفَةُ (٢) : أَنَا أُنْبِئُكَ بِهَا، قَدْ عَرَفْتُ لِمَ كَرِهَهَا؟ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يُقَالُ لَهُ "عَبْدُ الْإِلَهِ" -أَوْ: عَبْدُ اللَّهِ-يَنْزِلُ عَلَى نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْمَشْرِقِ تُبْنَى عَلَيْهِ مَدِينَتَانِ (٣)، يَشُقُّ النَّهْرُ بَيْنَهُمَا شَقًّا، فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ فِي زَوَالِ مُلْكِهِمْ وَانْقِطَاعِ دَوْلَتِهِمْ وَمُدَّتِهِمْ، بَعَثَ اللَّهُ عَلَى إِحْدَاهُمَا نَارًا لَيْلًا فَتُصْبِحُ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةً وَقَدِ احْتَرَقَتْ، كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَكَانَهَا، وَتُصْبِحُ صَاحِبَتُهَا مُتَعَجِّبَةً: كَيْفَ أَفْلَتَتْ؟ فَمَا هُوَ إِلَّا بَيَاضُ يَوْمِهَا ذَلِكَ، حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهَا كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهَا وَبِهِمْ جَمِيعًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿حم عسق﴾ يَعْنِي: عَزِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِتْنَةٌ وَقَضَاءٌ حُمّ: ﴿حُمَّ﴾ عَيْنٌ: يَعْنِي عَدْلًا مِنْهُ، سِينٌ: يَعْنِي سَيَكُونُ، ق: يَعْنِي واقع بِهَاتَيْنِ الْمَدِينَتَيْنِ (٤).
وَأَغْرَبَ مِنْهُ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ جِدًّا وَمُنْقَطِعٌ، فَإِنَّهُ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الخُشَني الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: صَعِدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ هَلْ سَمِعَ مِنْكُمْ أَحَدٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَسِّرُ ﴿حم عسق﴾ ؟ فَوَثَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنَا: قَالَ: " ﴿حم﴾ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى" قَالَ: فَعَيْنٌ؟ قَالَ: "عَايَنَ الْمُوَلُّونَ عَذَابَ يَوْمِ بَدْرٍ" قَالَ: فَسِينٌ؟ قال: "سيعلم الذين ظلموا أي منقلب
(٢) في أ: "فقال له حذيفة".
(٣) في ت، م، أ: "مدينتين".
(٤) تفسير الطبري (٢٥/٥) ورواه نعيم بن حماد في الفتن برقم (٥٦٨) من طريق أبي المغيرة عن أرطأة بن المنذر عمن حدثه عن ابن عباس فذكره.
وَقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أَيْ: كَمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ، كَذَلِكَ أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَالصُّحُفَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ. وَقَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ الْعَزِيزُ﴾ أَيْ: فِي انْتِقَامِهِ، ﴿الْحَكِيمُ﴾ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
قَالَ: الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللَّهِ-عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَس، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيّ فَيَفْصِمُ عَنِّي قَدْ وَعَيت مَا قَالَ. وَأَحْيَانًا يَأْتِينِي الْمَلَكُ رجُلا فَيُكَلِّمُنِي، فَأَعِي مَا يَقُولُ" قَالَتْ عَائِشَةُ (٢) فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لِيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ (٣).
وَقَدْ (٤) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عائشة، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ؛ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ يَنْزِلُ عَلَيْكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ: "مِثْلَ (٥) صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ فيفصمُ عَنِّي وَقَدْ وعَيتُ مَا قَالَهُ" قَالَ: "وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ" قَالَ: "وَأَحْيَانًا يَأْتِينِي الْمَلَكُ فَيَتَمَثَّلُ لِي فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ" (٦).
وَقَالَ: الْإِمَامُ (٧) أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (٨)، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ تُحِسُّ بِالْوَحْيِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَسْمَعُ صَلَاصِلَ ثُمَّ أَسْكُتُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَمَا مِنْ مَرَّةٍ يُوحَى إليَّ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تُقبَض" تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (٩).
وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ إِتْيَانِ الْوَحْيِ إِلَى رسول الله ﷺ في أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ﴾ أي: الْجَمِيعُ عَبِيدٌ لَهُ وَمِلْكٌ لَهُ، تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَصْرِيفِهِ، ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ [الرَّعْدِ: ٩] ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [سَبَأٍ: ٢٣] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ: أَيْ فَرَقًا، مِنَ الْعَظَمَةِ ﴿وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غَافِرٍ: ٧].
(٢) في ت: "عائشة رضي الله عنها".
(٣) الموطأ (١/٢٠٢) وصحيح البخاري برقم (٢) وصحيح مسلم برقم (٢٣٣٣).
(٤) في أ: "ولقد".
(٥) في أ: "فقال: في مثل".
(٦) المعجم الكبير (٣/٢٥٩).
(٧) في ت: "وروى".
(٨) في ت: عمر".
(٩) المسند (٢/٢٢٢).
قال : الإمام مالك - رحمه الله - عن هشام بن عُرْوَة عن أبيه، عن عائشة : أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أحيانًا يأتيني مثل صَلْصَلَةِ الجَرَس، وهو أشده عَلَيّ فيفصم عني قد وَعَيت ما قال. وأحيانا يأتيني الملك رجُلا فيكلمني، فأعي ما يقول " قالت عائشة١ فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصّد عرقا.
أخرجاه في الصحيحين، ولفظه للبخاري٢.
وقد٣ رواه الطبراني عن عبد الله ابن الإمام أحمد، عن أبيه، عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن الحارث بن هشام ؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف ينزل عليك الوحي ؟ فقال :" مثل٤ صلصلة الجرس فيفصمُ عني وقد وعَيتُ ما قاله " قال :" وهو أشده علي " قال :" وأحيانا يأتيني الملك فيتمثل لي فيكلمني فأعي ما يقول " ٥.
وقال : الإمام٦ أحمد : حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد، عن عبد الله بن عمرو٧، رضي الله عنهما، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله، هل تحس بالوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إليَّ إلا ظننت أن نفسي تُقبَض " تفرد به أحمد٨.
وقد ذكرنا كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شرح البخاري، بما أغنى عن إعادته هاهنا، ولله الحمد والمنة.
٢ - (٣) الموطأ (١/٢٠٢) وصحيح البخاري برقم (٢) وصحيح مسلم برقم (٢٣٣٣)..
٣ - (٤) في أ: "ولقد"..
٤ - (٥) في أ: "فقال: في مثل"..
٥ - (٦) المعجم الكبير (٣/٢٥٩)..
٦ - (٧) في ت: "وروى"..
٧ - (٨) في ت: عمر"..
٨ -(٩) المسند (٢/٢٢٢)..
وقوله :﴿ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ إعلام بذلك وتنويه به.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ، ﴿اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ: شَهِيدٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، يُحْصِيهَا وَيَعُدُّهَا عَدًّا، وَسَيَجْزِيهِمْ بِهَا أَوْفَرَ الْجَزَاءِ. ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ أَيْ: إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ، ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ أَيْ: وَاضِحًا جَلِيًّا بَيِّنًا، ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ وَهِيَ مَكَّةُ، ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ أَيْ: مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَسُمِّيَتْ مَكَّةُ "أُمَّ الْقُرَى"؛ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ، لِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي مَوَاضِعِهَا. وَمِنْ أَوْجَزِ ذَلِكَ وَأَدَلِّهِ مَا قَالَ (١) الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِي، أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِي بْنِ الْحَمْرَاءِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (٢) -وَهُوَ وَاقِفٌ بالحَزْوَرَة فِي سُوقِ مَكَّةَ-: "وَاللَّهِ، إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ" (٣).
وَهَكَذَا رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ (٤) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ﴾، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أَيْ: لَا شَكَّ فِي وُقُوعِهِ، وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ [التَّغَابُنِ: ٩] أَيْ: يَغْبَن أَهْلُ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هُودٍ: ١٠٣-١٠٥] (٥).
قَالَ (٦) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا لَيْث، حَدَّثَنِي أَبُو قَبِيلٍ الْمَعَافِرِيُّ، عَنْ شُفَيّ (٧)
(٢) في ت: "قال".
(٣) المسند (٤/٣٠٥).
(٤) سنن الترمذي برقم (٣٩٢٥) والنسائي في السنن الكبرى برقم (٤٢٥٢) وسنن ابن ماجه برقم (٣١٠٨).
(٥) قبلها في ت، م، أ: " (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة) ".
(٦) في ت: "روى".
(٧) في أ: "شقيق".
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا، عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَبَكْرِ بْنِ مُضَرَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي قَبِيلٍ، عَنْ شُفَيّ بْنِ مَاتِعٍ (٤) الْأَصْبَحِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، بِهِ (٥).
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَسَاقَهُ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ (٦)، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ. وَعِنْدَهُ زِيَادَاتٌ مِنْهَا: ثُمَّ قَالَ: "فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، عَدْلٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" (٧).
وَرَوَاهُ (٨) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن أبيه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ -كَاتِبِ اللَّيْثِ-عَنِ اللَّيْثِ، بِهِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي قَبِيل، عَنْ شُفَيٍّ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَذَكَرَهُ (٩).
ثُمَّ رُوِيَ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ وَهْب، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وحَيْوَة بْنِ (١٠) شُرَيْح، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ؛ أَنَّ أَبَا فِرَاسٍ (١١) حَدَّثَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ نَفَضَهُ نَفْضَ المزْوَد (١٢)، وَأَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ ذُرِّيَّتِهِ، فَخَرَجَ أَمْثَالَ النَّغَف، فَقَبَضَهُمْ قَبْضَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، ثُمَّ أَلْقَاهُمَا، ثُمَّ قَبَضَهُمَا فَقَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (١٣).
وَهَذَا الْمَوْقُوفُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَاللَّهُ أعلم.
(٢) في م: "بعمل أهل الجنة".
(٣) في م، ت، أ: "بعمل أهل النار"
(٤) في أ: "رافع".
(٥) المسند (٢/١٦٧) وسنن الترمذي برقم (٢١٤١) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٤٧٣).
(٦) في م: "بكير".
(٧) معالم التنزيل للبغوي (٧/١٨٥).
(٨) في ت: "روى".
(٩) تفسير الطبري (٢٥/٧).
(١٠) في أ: "عن".
(١١) في ت: "عن أبي فراس".
(١٢) في م: "المرود".
(١٣) تفسير الطبري (٢٥/٧).
وقال : ابن جرير : حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي سويد، حدثه عن ابن حجيرة : أنه بلغه ٢ أن موسى، عليه السلام، قال :: يا رب خَلقُك الذين٣ خلقتهم، جعلت منهم فريقا في الجنة وفريقا في النار، لو ما أدخلتهم كلهم الجنة ؟ ! فقال : يا موسى، ارفع ذَرْعك. فرفع، قال : قد رفعت. قال : ارفع. فرفع، فلم يترك شيئا، قال : يا رب قد رفعت، قال : ارفع. قال : قد رفعت، إلا ما لا خير فيه. قال : كذلك أدخل خلقي كلهم الجنة، إلا ما لا خير فيه.
٢ - (٣) في ت: "وروى ابن جرير بسنده"..
٣ - (٤) في ت: "الذي"..
وَأَحَادِيثُ الْقَدَرِ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنْهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ، وَجَمَاعَةٍ جَمَّةٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أَيْ: إِمَّا عَلَى الْهِدَايَةِ أَوْ عَلَى الضَّلَالَةِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى فَاوَتَ بَيْنَهُمْ، فَهَدَى مَنْ يَشَاءُ (٢) إِلَى الْحَقِّ، وَأَضَلَّ مَنْ يَشَاءُ عَنْهُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾
وَقَالَ: ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي سُوَيْدٍ، حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ حُجَيْرَةَ: أَنَّهُ بَلَغَهُ (٣) أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ:: يَا رَبِّ خَلقُك الَّذِينَ (٤) خَلَقْتَهُمْ، جَعَلْتَ مِنْهُمْ فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقًا فِي النَّارِ، لَوْ مَا أَدْخَلْتَهُمْ كُلَّهُمُ الْجَنَّةَ؟! فَقَالَ: يَا مُوسَى، ارْفَعْ ذَرْعك. فَرَفَعَ، قَالَ: قَدْ رَفَعْتُ. قَالَ: ارْفَعْ. فَرَفَعَ، فَلَمْ يُتْرَكْ شَيْئًا، قَالَ: يَا رَبِّ قَدْ رَفَعْتُ، قَالَ: ارْفَعْ. قَالَ: قَدْ رَفَعْتُ، إِلَّا مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. قَالَ: كَذَلِكَ أُدْخِلُ خَلْقِي كُلَّهُمُ الْجَنَّةَ، إِلَّا مَا لَا خَيْرَ فِيهِ.
﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) ﴾
(٢) في أ: "شاء".
(٣) في ت: "وروى ابن جرير بسنده".
(٤) في ت: "الذي".
﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي ﴾ أي : الحاكم في كل شيء، ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ أي : أرجع في جميع الأمور.
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَمُخْبِرًا أَنَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَقُّ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ أَيْ: مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، ﴿فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ أَيْ: هُوَ الْحَاكِمُ فِيهِ بِكِتَابِهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النِّسَاءِ: ٥٩]..
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي﴾ أَيِ: الْحَاكِمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ أَيْ: أَرْجِعُ فِي جَمِيعِ الأمور.
وَقَوْلُهُ: ﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾ أَيْ: يَخْلُقُكُمْ فِيهِ، أَيْ: فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَزَالُ يَذْرَؤُكُمْ (١) فِيهِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَنَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ، مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾ أَيْ: فِي الرَّحِمِ. وَقِيلَ: فِي الْبَطْنِ. وَقِيلَ: فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْخِلْقَةِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَنَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ.
وَقِيلَ: "فِي" بِمَعْنَى "الْبَاءِ"، أَيْ: يَذْرَؤُكُمْ بِهِ.
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ أَيْ: لَيْسَ كَخَالِقِ الْأَزْوَاجِ كُلِّهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾
وَقَوْلُهُ: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي "سُورَةِ الزُّمَرِ"، وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ الْحَاكِمُ فِيهِمَا، ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ أَيْ: يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ وَالْعَدْلُ التَّامُّ، ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾، فَذَكَرَ أَوَّلَ الرُّسُلِ بَعْدَ آدَمَ وَهُوَ نُوحٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ وَآخِرَهُمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ وَهُمْ: إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ انْتَظَمَتْ ذِكْرَ الْخَمْسَةِ كَمَا اشْتَمَلَتْ آيَةُ "الْأَحْزَابِ" عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ: ٧]. وَالدِّينُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ هُوَ: عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥]. وفي
ثم قال [ الله ] ١ تعالى :﴿ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ أي : لولا الكلمة السابقة من الله بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد، لعجل لهم العقوبة في الدنيا سريعًا.
وقوله :﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ يعني : الجيل المتأخر بعد القرن الأول المكذّب للحق ﴿ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾ أي : ليسوا على يقين من أمرهم، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا بُرهان، وهم في حيرة من أمرهم، وشك مريب، وشقاق بعيد.
وَقَوْلُهُ: ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ أَيْ: شَقَّ عَلَيْهِمْ وَأَنْكَرُوا مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ مِنَ التَّوْحِيدِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ أَيْ: هُوَ الَّذِي يُقدّر الْهِدَايَةَ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَيَكْتُبُ الضَّلَالَةَ عَلَى مَنْ آثَرَهَا عَلَى طَرِيقِ الرُّشْدِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ أَيْ: إِنَّمَا كَانَ مُخَالَفَتُهُمْ لِلْحَقِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَيْهِمْ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا البغيُ والعنادُ وَالْمُشَاقَّةُ.
ثُمَّ قَالَ [اللَّهُ] (٣) تَعَالَى: ﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ أَيْ: لَوْلَا الْكَلِمَةُ السَّابِقَةُ مِنَ اللَّهِ بِإِنْظَارِ الْعِبَادِ بِإِقَامَةِ حِسَابِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ، لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا سَرِيعًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ يَعْنِي: الْجِيلَ الْمُتَأَخِّرَ بَعْدَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ الْمُكَذِّبِ لِلْحَقِّ ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾ أَيْ: لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَإِنَّمَا هُمْ مُقَلِّدُونَ لِآبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرهان، وَهُمْ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَشَكٍّ مُرِيبٍ، وَشِقَاقٍ بَعِيدٍ.
﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) ﴾
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى عَشْرِ كَلِمَاتٍ مُسْتَقِلَّاتٍ، كُلٌّ مِنْهَا مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، [لَهَا] (٤) حُكْمٌ بِرَأْسِهِ-قَالُوا: وَلَا نَظِيرَ لَهَا سِوَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ، فَإِنَّهَا أَيْضًا عَشَرَةُ (٥) فُصُولٍ كَهَذِهِ.
قَوْلُهُ (٦) ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ﴾ أَيْ: فَلِلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الدِّينِ الَّذِي وَصَّيْنَا بِهِ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَكَ أَصْحَابَ الشَّرَائِعِ الْكِبَارِ الْمُتَّبَعَةِ كَأُولِي الْعَزْمِ وَغَيْرِهِمْ، فادعُ النَّاسَ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ أَيْ: وَاسْتَقِمْ أَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ فِيمَا اخْتَلَقُوهُ، وَكَذَّبُوهُ وَافْتَرَوْهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ﴾ أَيْ: صَدَّقْتُ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنْزَلَةِ مِنَ السَّمَاءِ على
(٢) زيادة من ت، م، أ.
(٣) زيادة من م.
(٤) زيادة من ت، أ.
(٥) في ت: "عشر".
(٦) في ت: "فقوله".
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ أَيْ: فِي الْحُكْمِ كَمَا أَمَرَنِي اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ أَيْ: هُوَ الْمَعْبُودُ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَنَحْنُ نُقِرُّ بِذَلِكَ اخْتِيَارًا، وَأَنْتُمْ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوهُ اخْتِيَارًا، فَلَهُ يَسْجُدُ مَنْ فِي الْعَالَمِينَ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ أَيْ: نَحْنُ بُرَآءُ مِنْكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [يُونُسَ: ٤١].
وَقَوْلُهُ: ﴿لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لَا خُصُومَةَ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ السَّيْفِ. وَهَذَا مُتَّجَهٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَآيَةَ السَّيْفِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾ [سَبَأٍ: ٢٦].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ أي: المرجع والمآب يوم الحساب.
يَقُولُ تَعَالَى -مُتَوَعِّدًا الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ-: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ أَيْ: يُجَادِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، لِيَصُدُّوهُمْ عَمَّا سَلَكُوهُ مِنْ طَرِيقِ الْهُدَى، ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أَيْ: بَاطِلَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، ﴿وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾ أَيْ: مِنْهُ، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: جَادَلُوا الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَا اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، لِيَصُدُّوهُمْ عَنِ الْهُدَى، وَطَمِعُوا أَنْ تَعُودَ الْجَاهِلِيَّةُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالُوا لَهُمْ: دِينُنَا خَيْرٌ مِنْ دِينِكُمْ، وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، وَأَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ. وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ يَعْنِي: الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ ﴿وَالْمِيزَانَ﴾، وَهُوَ: الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الْحَدِيدِ: ٢٥] وَقَوْلُهُ: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٧-٩].
وقوله :﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾ فيه ترغيب فيها، وترهيب منها، وتزهيد في الدنيا.
وقد رُوي من طرق تبلغ درجة التواتر، في الصحاح والحسان، والسنن والمسانيد، وفي بعض ألفاظه ؛ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جَهْوَرِيّ، وهو في بعض أسفاره فناداه فقال : يا محمد. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من صوته " هاؤم ". فقال : متى الساعة ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ويحك، إنها كائنة، فما أعددت لها ؟ " فقال : حُب الله ورسوله. فقال :" أنت مع من أحببت٢.
فقوله في الحديث :" المرء مع من أحب "، هذا متواتر لا محالة، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة، بل أمره بالاستعداد لها.
وقوله :﴿ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ ﴾ أي : يحاجّون في وجودها ويدفعون وقوعها، ﴿ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ﴾ أي : في جهل بين ؛ لأن الذي خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى، كما قال :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ].
٢ - (٢) رواه البخاري في صحيحه برقم (٦١٦٧) ومسلم في صحيحه برقم (٢٦٣٩) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه..
وَقَوْلُهُ: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾ أَيْ: يَقُولُونَ: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [سَبَأٍ: ٢٩]، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ (١) ذَلِكَ تَكْذِيبًا وَاسْتِبْعَادًا، وَكُفْرًا وَعِنَادًا، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾ أَيْ: خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ وُقُوعِهَا ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ﴾ أَيْ: كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَهَا عَامِلُونَ مِنْ أَجْلِهَا.
وَقَدْ رُوي مِنْ طُرُقٍ تَبْلُغُ دَرَجَةَ التَّوَاتُرِ، فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ، وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ؛ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْتٍ جَهْوَرِيّ، وَهُوَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا مِنْ صَوْتِهِ "هَاؤُمُ". فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيْحَكَ، إِنَّهَا كَائِنَةٌ، فَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ " فَقَالَ: حُب اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَقَالَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ (٢).
فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ"، هَذَا مُتَوَاتِرٌ لَا مَحَالَةَ، وَالْغَرَضُ أَنَّهُ لَمْ يُجِبْهُ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، بَلْ أَمَرَهُ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ﴾ أَيْ: يُحَاجُّونَ فِي وُجُودِهَا وَيَدْفَعُونَ وُقُوعَهَا، ﴿لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ أَيْ: فِي جَهْلٍ بَيِّنٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، كَمَا قَالَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الرُّومِ: ٢٧].
﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ لُطْفِهِ بِخَلْقِهِ فِي رِزْقِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، لَا يَنْسَى أَحَدًا مِنْهُمْ، سَوَاءٌ فِي رِزْقِهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [هُودٍ: ٦] وَلَهَا (٣) نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أَيْ: يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، ﴿وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ أَيْ: لَا يعجزه شيء.
(٢) رواه البخاري في صحيحه برقم (٦١٦٧) ومسلم في صحيحه برقم (٢٦٣٩) مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٣) في ت: "ولهذا".
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هَاهُنَا مُقَيَّدَةٌ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي "سُبْحَانَ" وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١٨-٢١].
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُغيرة، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٣) قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بالسَّنَاء وَالرِّفْعَةِ، وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمِنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ" (٤).
وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ أَيْ: هُمْ لَا يَتَّبِعُونَ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَكَ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ، بَلْ يَتَّبِعُونَ مَا شَرَعَ لَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ، مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وَتَحْلِيلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْقِمَارِ، إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الضَّلَالَاتِ وَالْجَهَالَةِ (٥) الْبَاطِلَةِ، الَّتِي كَانُوا قَدِ اخْتَرَعُوهَا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَالْعِبَادَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَالْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيّ بْنِ قَمَعَة يَجُر قُصْبَه فِي النَّارِ" (٦) لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ. وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ أَحَدَ مُلُوكِ خُزَاعَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَهُوَ الَّذِي حَمَل قُرَيْشًا عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أَيْ: لَعُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ، لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِنْظَارِ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ، ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أَيْ: شَدِيدٌ مُوجِعٌ (٧) فِي جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا﴾ أَيْ: فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، ﴿وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ أَيِ: الَّذِي يَخَافُونَ مِنْهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، هَذَا حَالُهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، وَهُمْ فِي هَذَا الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هذا:
(٢) في أ: "يجعل".
(٣) زيادة من ت.
(٤) رواه البغوي في شرح السنة (١٤/٣٣٥) من طريق الثوري به.
(٥) في أ: "الجهالات".
(٦) انظر تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية: ١٠٣ من سورة المائدة.
(٧) في ت، أ: "وجيع".
قَالَ: الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَبَّارُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ (١) عَنْ أَبِي طَيْبَة، قَالَ: إِنَّ الشَّرْب مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَتُظِلُّهُمُ السَّحَابَةُ فَتَقُولُ: مَا أمْطِرُكُم. قَالَ: فَمَا يَدْعُو دَاعٍ مِنَ (٢) الْقَوْمِ بِشَيْءٍ إِلَّا أَمْطَرَتْهُمْ، حَتَّى إِنَّ الْقَائِلَ مِنْهُمْ لَيَقُولُ: أَمْطِرِينَا كَوَاعِبَ أَتْرَابًا.
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، بِهِ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ أَيِ: الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَالنِّعْمَةُ التَّامَّةُ السابغة الشاملة العامة.
(٢) في أ: "في".
والدليل على هذا أن هذه الآية هاهنا مقيدة بالآية التي في " سبحان " وهي قوله تعالى :﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ﴾ [ الإسراء : ١٨ - ٢١ ].
وقال الثوري، عن مُغيرة، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب [ رضي الله عنه ]٣ قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بشر هذه الأمة بالسَّنَاء والرفعة، والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب " ٤.
٢ - (٢) في أ: "يجعل"..
٣ - (٣) زيادة من ت..
٤ - (٤) رواه البغوي في شرح السنة (١٤/٣٣٥) من طريق الثوري به..
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" رأيت عمرو بن لُحَيّ بن قَمَعَة يَجُر قُصْبَه في النار " ٢ لأنه أول من سيب السوائب. وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة، وهو أول من فعل هذه الأشياء، وهو الذي حَمَل قريشا على عبادة الأصنام، لعنه الله وقبحه ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي : لعوجلوا بالعقوبة، لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم المعاد، ﴿ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي : شديد موجع٣ في جهنم وبئس المصير.
٢ - (٦) انظر تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية: ١٠٣ من سورة المائدة..
٣ - (٧) في ت، أ: "وجيع"..
أين من هو في العَرَصَات في الذل والهوان والخوف المحقق عليه بظلمه، ممن هو في روضات الجنات، فيما يشاء من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذ، فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قال : الحسن بن عرفة : حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري١ عن أبي طَيْبَة، قال : إن الشَّرْب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول : ما أمْطِرُكُم. قال : فما يدعو داع من ٢ القوم بشيء إلا أمطرتهم، حتى إن القائل منهم ليقول : أمطرينا كواعب أترابا.
رواه ابن جرير، عن الحسن بن عرفة، به.
ولهذا قال تعالى :﴿ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ أي : الفوز العظيم، والنعمة التامة السابغة الشاملة العامة.
٢ - (٢) في أ: "في"..
يَقُولُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ رَوْضَاتِ الْجَنَّةِ، لِعِبَادِهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ: ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أَيْ: هَذَا حَاصِلٌ لَهُمْ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، بِبِشَارَةِ اللَّهِ لَهُمْ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى هَذَا الْبَلَاغِ وَالنُّصْحِ لَكُمْ مَا لَا تُعْطُونِيهِ، وَإِنَّمَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ أَنْ تَكُفُّوا شَرَّكُمْ عَنِّي وَتَذَرُونِي أُبَلِّغُ رِسَالَاتِ (١) رَبِّي، إِنْ لَمْ تَنْصُرُونِي فَلَا تُؤْذُونِي بِمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ طَاوُسًا (٢) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَجِلْتَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، فَقَالَ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ (٣).
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ شُعْبَةَ بِهِ. وَهَكَذَا رَوَى عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، والعَوْفي، وَيُوسُفُ بْنُ مِهْران وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ (٤) حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ يَزِيدَ الطَّبَرَانِيُّ وَجَعْفَرٌ الْقَلَانِسِيُّ قَالَا حدثنا
(٢) في ت: "روى البخاري بسنده".
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٨١٨) والمسند (١/٢٢٩).
(٤) في ت: "وروى الطبراني".
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ حَسَنِ بْنِ مُوسَى: حَدَّثَنَا قَزَعَة يَعْنِي ابْنَ سُوَيد -وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ-عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ قَزَعة بْنِ سُوَيْدٍ-عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا آتَيْتُكُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى أَجْرًا، إِلَّا أَنْ تُوَادوا اللَّهَ، وَأَنْ تَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ" (٢).
وَهَكَذَا رَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، مِثْلَهُ.
وَهَذَا كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِقَوْلٍ ثَانٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: ﴿إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ أَيْ: إِلَّا أَنْ تَعْمَلُوا بِالطَّاعَةِ الَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ زُلْفَى.
وَقَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ مَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، رِوَايَةً عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَوَدُّونِي فِي قَرَابَتِي، أَيْ: تُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ وَتَبَرُّوهُمْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي الدَّيْلَمِ قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَسِيرًا، فَأُقِيمَ عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ، قَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَتَلَكُمْ وَاسْتَأْصَلَكُمْ، وَقَطَعَ قَرْنَيِ الْفِتْنَةِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: أَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَقَرَأْتَ آلَ حم؟ قَالَ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ، وَلَمْ أَقْرَأْ آلَ حم. قَالَ: مَا قَرَأْتَ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ ؟ قَالَ: وَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ (٣) هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَقَالَ: أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعيّ: سَأَلْتُ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ فَقَالَ: قُرْبَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ (٤).
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ، حَدَّثَنِي يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتِ الْأَنْصَارُ: فَعَلْنَا وَفَعَلْنَا، وَكَأَنَّهُمْ فَخَرُوا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -أَوِ: الْعَبَّاسُ، شَكَّ عَبْدُ السَّلَامِ-: لَنَا الْفَضْلُ عَلَيْكُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ تَكُونُوا أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمُ اللَّهُ بِي؟ " قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَلَمْ تَكُونُوا ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "أَفَلَا تُجِيبُونِي؟ " قَالُوا: مَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَلَا تَقُولُونَ: أَلَمْ يخرجك قومك فآويناك؟ أو لم يكذبوك فصدقناك؟ أو لم يَخْذُلُوكَ فَنَصَرْنَاكَ"؟ قَالَ: فَمَا زَالَ يَقُولُ حَتَّى جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ، وَقَالُوا: أَمْوَالُنَا وَمَا فِي أَيْدِينَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. قَالَ: فَنَزَلَتْ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (٥).
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ، عن عبد السلام، عن
(٢) المسند (١/٢٦٨).
(٣) في ت، أ: "لأنتم".
(٤) تفسير الطبري (٢٥/١٧).
(٥) تفسير الطبري (٢٥/١٦).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ -فِي قَسْمِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ-قَرِيبٌ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وذكْرُ نُزُولِهَا فِي الْمَدِينَةِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَلَيْسَ يَظْهَرُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَبَيْنَ السِّيَاقِ مُنَاسَبَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا علي بن الحسين، حَدَّثَنَا رَجُلٌ سَمَّاهُ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْأَشْقَرُ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (١) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِمَوَدَّتِهِمْ؟ قَالَ: "فَاطِمَةُ وَوَلَدُهَا، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ" (٢).
وَهَذَا إِسْنَادٌ (٣) ضَعِيفٌ، فِيهِ مُبْهَمٌ لَا يُعْرَفُ، عَنْ شَيْخٍ شِيعِيٍّ مُتَخَرّق (٤)، وَهُوَ حُسَيْنٌ الْأَشْقَرُ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ. وَذِكْرُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمَدِينَةِ بَعِيدٌ؛ فَإِنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ لِفَاطِمَةَ أَوْلَادٌ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بَعْلِيٍّ إِلَّا بَعْدَ بَدْرٍ مِنَ (٥) السَّنَةِ الثانية من الهجرة.
والحق تفسير الآية بِمَا فَسَّرَهَا بِهِ الْإِمَامُ حَبرُ الْأُمَّةِ، وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ [رَحِمَهُ اللَّهُ] (٦) وَلَا تُنْكَرُ الْوَصَاةُ (٧) بِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَالْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَاحْتِرَامِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ، فَإِنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةٍ طَاهِرَةٍ، مِنْ أَشْرَفِ بَيْتٍ وُجِدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَخْرًا وَحَسَبًا وَنَسَبًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِلسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الصَّحِيحَةِ الْوَاضِحَةِ الْجَلِيَّةِ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمْ، كَالْعَبَّاسِ وَبَنِيهِ، وَعَلِيٍّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، رَضِيَ الله عنهم أجمعين.
و [قد ثَبَتَ] (٨) فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ بغَدِير خُمّ: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي، وَإِنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ" (٩).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ (١٠)، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قُرَيْشًا إِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَقُوهُمْ بِبِشْرٍ حَسَنٍ، وَإِذَا لَقُونَا لَقُونَا بِوُجُوهٍ لَا نَعْرِفُهَا؟ قَالَ: فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَدْخُلُ قَلْبَ الرَّجُلِ الْإِيمَانُ حَتَّى يُحِبَّكُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ" (١١).
ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ (١٢) حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: دَخَلَ الْعَبَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّا لَنَخْرُجُ فَنَرَى قُرَيْشًا تُحدث، فإذا رأونا
(٢) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١١/٤٤٤) من طريق حرب الطحان عن حسين الأشقر به.
(٣) في أ: "الإسناد".
(٤) في أ: "مخترق".
(٥) في أ: "في".
(٦) زيادة من ت، م، أ.
(٧) في ت: "ولا ينكر الوصاية".
(٨) زيادة من ت، أ.
(٩) صحيح مسلم برقم (٢٤٠٨) بنحوه من حديث زيد بن الأرقم.
(١٠) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(١١) المسند (١/٢٠٧).
(١٢) في ت: "ثم روى الإمام أحمد".
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدٍ قَالَ: سمعتُ أَبِي يُحَدِّثُ (٤) عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ارْقُبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ (٥).
وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ لَعَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَاللَّهِ لِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي (٦) (٧).
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْعَبَّاسِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَاللَّهِ لَإِسْلَامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إليَّ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ؛ لَأَنَّ إِسْلَامَكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ.
فَحَالُ الشَّيْخَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَا أَفْضَلَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي حَيّان التيمي، حدثني يزيد ابن حَيَّانَ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وحُسَيْن بْنُ مَيْسَرة، وَعُمَرُ (٨) بْنُ مُسْلِمٍ إِلَى زَيْدِ (٩) بْنِ أَرْقَمَ، فَلَمَّا جَلَسْنَا إِلَيْهِ قَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: لَقَدْ لقيتَ يَا زَيْدُ (١٠) خَيْرًا كَثِيرًا، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمِعْتَ حَدِيثَهُ وَغَزَوْتَ مَعَهُ، وَصَلَّيْتَ مَعَهُ. لَقَدْ رَأَيْتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا. حَدِّثْنَا يَا زَيْدُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ كَبُرت (١١) سِنِّي، وَقَدِمَ عَهْدِي، وَنَسِيتُ بَعْضَ الَّذِي كُنْتُ أَعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا حَدَّثْتُكُمْ فَاقْبَلُوهُ، وَمَا لَا فَلَا تُكَلّفونيه. ثُمَّ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطِيبًا فِينَا، بِمَاءٍ يُدْعَى خُمّا -بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ-فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَذَكَرَ وَوَعَظَ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، أَوَّلُهُمَا: كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، وَقَالَ: "وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي" فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: إِنَّ نِسَاءَهُ من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرم الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وَآلُ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَكُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قال: نعم.
وهكذا رواه مسلم [في فضائل] (١٢) وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيّان به (١٣).
(٢) في ت، أ: "امرئ مسلم".
(٣) المسند (١/٢٠٧).
(٤) في ت: "وروى البخاري بإسناده".
(٥) صحيح البخاري برقم (٣٧١٣).
(٦) في أ: "أحب إلي من أن أصل قرابتي".
(٧) صحيح البخاري برقم (٣٧١٢).
(٨) في ت، أ: "وعمرو".
(٩) في أ: "يزيد".
(١٠) في أ: "يزيد".
(١١) في ت، أ: "والله لقد كبرت".
(١٢) زيادة من ت، م، أ.
(١٣) المسند (٤/٣٦٦) وصحيح مسلم برقم (٢٤٠٨) والنسائي في السنن الكبرى برقم (٨١٧٥).
تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ التِّرْمِذِيُّ (٣) ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا (٤) حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (٥) قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَخْطُبُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي: أَهْلَ بَيْتِي"
تَفَرَّدَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا (٦)، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ.
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِين، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ (٧) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ (٨) مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي (٩) بِحُبِّ اللَّهِ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي بِحُبِّي"
ثُمَّ قَالَ (١٠) حَسَنٌ غَرِيبٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (١١).
وَقَدْ أَوْرَدْنَا أَحَادِيثَ أُخَر عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الْأَحْزَابِ: ٣٣] (١٢)، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهَا هَاهُنَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيد، حَدَّثَنَا مُفَضَّلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَنَش قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ الْبَابِ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ أَنْكَرَنِي فَأَنَا أَبُو ذَرٍّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّمَا مَثَلُ أهل بيتي فيكم مَثَل سفينة نوح،
(٢) في ت: "بين".
(٣) سنن الترمذي برقم (٣٧٨٨).
(٤) في ت: "وروى الترمذي".
(٥) في ت: "عبد الله رضي الله عنه".
(٦) سنن الترمذي برقم (٣٧٨٦).
(٧) قي ت: "وروى الترمذي أيضا عن ابن عباس".
(٨) في ت: "يغدوكم به".
(٩) في ت: "فأحبوني".
(١٠) في ت: "وقال".
(١١) سنن الترمذي برقم (٣٧٨٩).
(١٢) انظر تفسير الآية: ٣٣ من سورة لأحزاب.
وقوله :﴿ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ﴾ ليس معطوفا على قوله :﴿ يختم ﴾ فيكون مجزوما، بل هو مرفوع على الابتداء، قاله ابن جرير، قال : وحذفت من كتابته " الواو " في رسم المصحف الإمام، كما حذفت في ١ قوله :﴿ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴾ [ العلق : ١٨ ] وقوله :﴿ وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ﴾ [ الإسراء : ١١ ].
وقوله :﴿ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ﴾ معطوف على ﴿ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ ﴾ أي : يحققه ويثبته ويبينه ويوضحه بكلماته، أي : بحججه وبراهينه، ﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ أي : بما تكنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر.
هَذَا بِهَذَا الْإِسْنَادِ ضَعِيفٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾ أَيْ: وَمَنْ يَعْمَلُ حَسَنَةً ﴿نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾ أَيْ: أَجْرًا وَثَوَابًا، كَقَوْلِهِ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النِّسَاءِ: ٤٠].
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: [إِنَّ] (٢) مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا، وَمِنْ جَزَاءِ السَّيِّئَةِ (السَّيِّئَةَ) بَعْدَهَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ أَيْ: يَغْفِرُ الْكَثِيرَ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَيُكَثِّرُ الْقَلِيلَ مِنَ الْحَسَنَاتِ، فَيَسْتُرُ وَيَغْفِرُ، وَيُضَاعِفُ فَيَشْكُرُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ أَيْ: لَوِ افْتَرَيْتَ عَلَيْهِ كَذِبًا كَمَا يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ ﴿يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ أَيْ: لَطَبَعَ عَلَى قَلْبِكَ وَسَلَبَكَ مَا كَانَ آتَاكَ مِنَ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الْحَاقَّةِ: ٤٤-٤٧] أَيْ: لَانْتَقَمْنَا مِنْهُ أَشَدَّ الِانْتِقَامِ، وَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَحْجِزَ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: ﴿يَخْتِمْ﴾ فَيَكُونَ مَجْزُومًا، بَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: وَحُذِفَتْ مِنْ كِتَابَتِهِ "الْوَاوُ" فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، كَمَا حُذِفَتْ فِي (٣) قَوْلِهِ: ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ [الْعَلَقِ: ١٨] وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١١].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾ مَعْطُوفٌ عَلَى ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ﴾ أَيْ: يُحَقِّقُهُ وَيُثْبِتُهُ وَيُبَيِّنُهُ وَيُوَضِّحُهُ بِكَلِمَاتِهِ، أَيْ: بِحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ، ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أَيْ: بِمَا تُكِنُّهُ الضَّمَائِرُ، وَتَنْطَوِي عَلَيْهِ السَّرَائِرُ.
﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ إِلَيْهِ إِذَا تَابُوا وَرَجَعُوا إِلَيْهِ: أَنَّهُ مِنْ كَرَمِهِ وَحِلْمِهِ أَنَّهُ يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَيَسْتُرُ وَيَغْفِرُ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النِّسَاءِ: ١١٠] وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مسلم، رحمه الله، حيث قال:
(٢) زيادة من ت، م، أ.
(٣) في ت، أ: "من".
وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ (٤) (٥).
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ (٦) فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَخَافُ أَنْ يَقْتُلَهُ الْعَطَشُ فِيهِ" (٧).
وَقَالَ هَمَّامُ بْنُ الْحَارِثِ: سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ الرَّجُلِ يَفْجُرُ بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَرَأَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ الْآيَةَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ الْقَاضِي، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ هَمَّامٍ فَذَكَرَهُ (٨).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ أَيْ: يَقْبَلُ التَّوْبَةَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ فِي الْمَاضِي، ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ أَيْ: هُوَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَا فَعَلْتُمْ وَصَنَعْتُمْ وَقُلْتُمْ، وَمَعَ هَذَا يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي يَسْتَجِيبُ لَهُمْ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ يَسْتَجِيبُ الدُّعَاءَ لَهُمْ (٩) [لِأَنْفُسِهِمْ] (١٠) وَلِأَصْحَابِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ. وَحَكَاهُ عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ، وَأَنَّهُ جَعَلَهَا كَقَوْلِهِ: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٥].
ثُمَّ رَوَى هُوَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَبْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا مُعَاذٌ بِالشَّامِ فَقَالَ: أَنْتُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَنْتُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ. وَاللَّهِ إِنِّي أَرْجُو أَنْ يُدْخِلَ اللَّهُ مَنْ تَسْبُونَ مِنْ فَارِسَ وَالرُّومِ الْجَنَّةَ، وَذَلِكَ بِأَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا عَمِلَ لَهُ -يَعْنِي أحدُهم عَمَلًا-قَالَ: أَحْسَنْتَ رَحِمَكَ (١١) اللَّهُ، أَحْسَنْتَ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾
(٢) في ت: "عمه رضي الله عنه".
(٣) صحيح مسلم برقم (٢٧٤٧).
(٤) في ت: "مثله".
(٥) صحيح مسلم برقم (٢٧٤٤).
(٦) في ت: "راحلته".
(٧) تفسير عبد الرزاق (٢/١٥٦) وقد روى متصلا، فرواه مسلم في صحيحه برقم (٢٦٧٥) مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ همام ابن منبه عن أبي هريرة به.
(٨) تفسير الطبري (٢٥/١٨).
(٩) في ت، م: "لهم الدعاء".
(١٠) زيادة من ت، م.
(١١) في ت، م، أ: "يرحمك".
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (٤) قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ قَالَ: "الشَّفَاعَةُ لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، مِمَّنْ صَنَعَ إِلَيْهِمْ مَعْرُوفًا (٥) فِي الدُّنْيَا" (٦).
وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ اللَّخْمِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ قَالَ: يُشَفَّعُونَ فِي إِخْوَانِهِمْ، ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ قَالَ: يُشَفَّعُونَ فِي إِخْوَانِ إِخْوَانِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ لَمَّا ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، ذَكَرَ الْكَافِرِينَ وَمَا لَهُمْ عِنْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ الْمُوجِعِ الْمُؤْلِمِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ وَحِسَابِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ﴾ أَيْ: لَوْ أَعْطَاهُمْ فَوْقَ حَاجَتِهِمْ مِنَ الرِّزْقِ، لَحَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، أَشَرًا وَبَطَرًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يُقَالُ: خَيْرُ الْعَيْشِ مَا لَا يُلْهِيكَ وَلَا يُطْغِيكَ. وَذَكَرَ قَتَادَةُ حَدِيثَ: "إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" وَسُؤَالَ السَّائِلِ: أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ أَيْ: وَلَكِنْ يَرْزُقُهُمْ مِنَ الرِّزْقِ مَا يَخْتَارُهُ مِمَّا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ فَيُغْنِي مَنْ يَسْتَحِقُّ الْغِنَى، وَيُفْقِرُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْفَقْرَ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ: "إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ (٧) لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ"
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا﴾ أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِيَاسِ النَّاسِ مِنْ نُزُولِ الْمَطَرِ، يُنَزِّلُهُ عَلَيْهِمْ فِي وَقْتِ حَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾ [الرُّومِ: ٤٩].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ﴾ أَيْ: يَعُمُّ بِهَا الْوُجُودَ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ القُطْر وتلك الناحية.
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) في ت: "كقوله".
(٤) في ت: "روى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الله".
(٥) في أ: "المعروف".
(٦) ورواه أبي عاصم في السنة برقم (٨٤٦) من طريق محمد بن مصفى عن بقية به، وفي إسيناده إسماعيل الكندي. قال الذهبي في الميزان (١/٢٣٥) :"عن الأعمش، وعنه بقية، بخبر عجيب منكر".
(٧) في ت: "من".
ثم روى هو وابن أبي حاتم، من حديث الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن سلمة بن سبرة قال : خطبنا معاذ بالشام فقال : أنتم المؤمنون، وأنتم أهل الجنة. والله إني أرجو أن يدخل الله من تسبون من فارس والروم الجنة، وذلك بأن أحدكم إذا عمل له - يعني أحدُهم عملا - قال : أحسنت رحمك ٣ الله، أحسنت بارك الله فيك، ثم قرأ :﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾
وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية أنه جعل٤ [ مثل ]٥ قوله :﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ كقوله :﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ﴾ [ الزمر : ١٨ ] أي : هم الذين يستجيبون للحق ويتبعونه، كقوله تبارك وتعالى :﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ﴾ [ الأنعام : ٣٦ ] والمعنى الأول أظهر ؛ لقوله ٦ تعالى :﴿ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ أي : يستجيب دعاءهم ويزيدهم فوق ذلك ؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا بقية، حدثنا إسماعيل بن عبد الله الكندي، حدثنا الأعمش، عن شقيق عن عبد الله٧ قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ قال :" الشفاعة لمن وجبت له النار، ممن صنع إليهم معروفا ٨ في الدنيا " ٩.
وقال قتادة عن إبراهيم النخعي اللخمي في قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ قال : يشفعون في إخوانهم، ﴿ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ قال : يشفعون في إخوان إخوانهم.
وقوله :﴿ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ لما ذكر المؤمنين وما لهم من الثواب الجزيل، ذكر الكافرين وما لهم عنده يوم القيامة من العذاب الشديد الموجع المؤلم يوم معادهم وحسابهم.
٢ - (١٠) زيادة من ت، م..
٣ - (١١) في ت، م، أ: "يرحمك"..
٤ - (١) في ت، م: "جعله"..
٥ - (٢) زيادة من ت، أ..
٦ - (٣) في ت: "كقوله"..
٧ - (٤) في ت: "روى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الله"..
٨ - (٥) في أ: "المعروف"..
٩ - (٦) ورواه أبي عاصم في السنة برقم (٨٤٦) من طريق محمد بن مصفى عن بقية به، وفي إسناده إسماعيل الكندي. قال الذهبي في الميزان (١/٢٣٥): "عن الأعمش، وعنه بقية، بخبر عجيب منكر"..
وقال قتادة : كان يقال : خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك. وذكر قتادة حديث :" إنما أخاف عليكم ما يخرج الله من زهرة الحياة الدنيا " وسؤال السائل : أيأتي الخير بالشر ؟ الحديث.
وقوله :﴿ وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ أي : ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم، وهو أعلم بذلك فيغني من يستحق الغنى، ويفقر من يستحق الفقر. كما جاء في الحديث المروي :" إن من عبادي لمن١ لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه ".
وقوله :﴿ وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ﴾ أي : يعم بها الوجود على أهل ذلك القُطْر وتلك الناحية.
قال قتادة : ذكر لنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين، قُحط المطر وقنط الناس ؟ فقال عمر، رضي الله عنه : مطرتم، ثم قرأ :﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ﴾ ١.
﴿ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ أي : هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله.
﴿وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ أَيْ: هُوَ الْمُتَصَرِّفُ لِخَلْقِهِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ الْعَاقِبَةِ فِي جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَفْعَلُهُ.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ:﴾ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ وَسُلْطَانِهِ الْقَاهِرِ ﴿خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا﴾ أَيْ: ذَرَأَ فِيهِمَا، أَيْ: فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ وَهَذَا يَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَسَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ، عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ، وَطِبَاعِهِمْ وَأَجْنَاسِهِمْ، وَأَنْوَاعِهِمْ، وَقَدْ فَرَّقَهُمْ فِي أَرْجَاءِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، ﴿وَهُوَ﴾ مَعَ هَذَا كُلِّهِ ﴿عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَسَائِرَ الْخَلَائِقِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، فَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ الْحَقِّ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أَيْ: مَهْمَا أَصَابَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنَ الْمَصَائِبِ فَإِنَّمَا هُوَ (٢) عَنْ سَيِّئَاتٍ تَقَدَّمَتْ لَكُمْ ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ أَيْ: مِنَ السَّيِّئَاتِ، فَلَا يُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا بَلْ يَعْفُو عَنْهَا، ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [فَاطِرٍ: ٤٥] وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَب وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزَن، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ، حَتَّى الشَّوْكَةِ (٣) يُشَاكُهَا" (٤).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُليَّة، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ: قَرَأْتُ فِي كِتَابِ أَبِي قِلابَةَ قَالَ: نَزَلَتْ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزَّلْزَلَةِ: ٧، ٨] وَأَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ، فَأَمْسَكَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَرَاءٍ مَا عَمِلْتُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ؟ فَقَالَ: "أَرَأَيْتَ مَا رَأَيْتَ مِمَّا تَكْرَهُ، فَهُوَ مِنْ مَثَاقِيلِ ذَرّ الشَّرِّ، وَتُدَّخَرُ مَثَاقِيلُ الْخَيْرِ حَتَّى تُعْطَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالَ: قَالَ أَبُو إِدْرِيسَ: فَإِنِّي أَرَى مِصْدَاقَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ (٥).
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عن أنس (٦)، قال: والأول أصح.
(٢) في ت، أ: "هي".
(٣) في ت، أ: "بالشوكة".
(٤) صحيح البخاري برقم (٥٦٤١، ٥٦٤٢) وصحيح مسلم برقم (٢٥٧٣) "من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما".
(٥) تفسير الطبري (٢٥/٢٠).
(٦) تفسير الطبري (٢٥/٢١).
وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وعَبْدة، عَنْ أَبِي سُخَيلة قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ... فَذَكَرَ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا (٤).
ثُمَّ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ [نَحْوَهُ] (٥) مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْقُوفًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي جُحَيفَة قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثٍ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَعيَه (٦) ؟ قَالَ: فَسَأَلْنَاهُ فَتَلَا (٧) هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ قَالَ: مَا عَاقَبَ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّي عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِي عَفْوِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ (٨) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ -يَعْنِي ابْنَ يَحْيَى-عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ-هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ فِي جَسَدِهِ يُؤْذِيهِ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ" (٩).
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ (١٠)، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُكَفِّرُهَا، ابْتَلَاهُ اللَّهُ بالحَزَنِ لِيُكَفِّرَهَا" (١١).
وَقَالَ (١٢) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ -هُوَ الْبَصْرِيُّ-قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ خَدْش عُودٍ، وَلَا اخْتِلَاجِ عِرْقٍ، وَلَا عَثْرة قَدَمٍ، إِلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ" (١٣).
وَقَالَ (١٤) أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا هُشَيمْ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الحسن، عن
(٢) في أ: "أيديكم ويعفو عن كثير".
(٣) في ت: "والله".
(٤) المسند (١/٨٥).
(٥) زيادة من أ.
(٦) في أ: "يصيبه".
(٧) في ت: "قبل".
(٨) في ت: "وروى".
(٩) المسند (٤/٩٨) قال الهيثمي في المجمع (٣/٣٠١) :"رجال أحمد رجال الصحيح".
(١٠) في ت، م: "عن مجاهد، وروى أيضا".
(١١) المسند (٦/١٥٧).
(١٢) في ت: "وروى".
(١٣) ورواه هناد بن السري في الزهد برقم (٤٣١) من طريق إسماعيل بن مسلم به مرسلا.
(١٤) في ت: "وروى".
[قَالَ:] (١) وَحَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الحمَّاني، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ أَبِي الْبِلَادِ (٢) قَالَ: قُلْتُ لِلْعَلَاءِ بْنِ بَدْرٍ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾، وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرِي وَأَنَا غُلَامٌ؟ قَالَ: فَبِذُنُوبِ وَالِدَيْكَ.
وَحَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافسي، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عَبْدِ العزيز بن أبي راود، عَنِ الضَّحَّاكِ (٣) قَالَ: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَفِظَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ (٤) إِلَّا بِذَنْبٍ، ثُمَّ قَرَأَ الضَّحَّاكُ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾. ثُمَّ يَقُولُ الضَّحَّاكُ: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن.
(٢) في أ: "أبي العلا".
(٣) في ت: "وروى أيضا عن الضحاك".
(٤) في أ: "سيبه".
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُليَّة، حدثنا أيوب قال : قرأت في كتاب أبي قِلابَةَ قال : نزلت :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [ الزلزلة : ٧، ٨ ] وأبو بكر يأكل، فأمسك وقال : يا رسول الله، إني لراء ما عملت من خير وشر ؟ فقال :" أرأيت ما رأيت مما تكره، فهو من مثاقيل ذَرّ الشر، وتدخر مثاقيل الخير حتى تعطاه يوم القيامة " قال : قال أبو إدريس : فإني أرى مصداقها في كتاب الله :﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾٤.
ثم رواه من وجه آخر، عن أبي قِلابَةَ، عن أنس٥، قال : والأول أصح.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، حدثنا مروان بن معاوية الفَزَاري، حدثنا الأزهر بن راشد الكاهلي، عن الخَضْر بن القَوَّاس البجلي، عن أبي سخيلة ٦ عن علي، رضي الله عنه قال : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عز وجل، وحدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال :﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾. وسأفسرها لك يا علي :" ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا، فبما كسبت أيديكم٧ والله تعالى أحلم من أن يُثَنِّى عليه العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله٨ تعالى أكرم من أن يعود بعد عفوه "
وكذا رواه الإمام أحمد، عن مروان بن معاوية وعَبْدة، عن أبي سُخَيلة قال : قال علي. . . فذكر نحوه مرفوعا ٩.
ثم روى ابن أبي حاتم [ نحوه ] ١٠ من وجه آخر موقوفا فقال : حدثنا أبي، حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا أبو سعيد بن أبي الوضاح، عن أبي الحسن، عن أبي جُحَيفَة قال : دخلت على علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقال : ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يَعيَه١١ ؟ قال : فسألناه فتلا١٢ هذه الآية :﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ قال : ما عاقب الله به في الدنيا فالله أحلم من أن يُثَنِّي عليه العقوبة يوم القيامة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة.
وقال١٣ الإمام أحمد : حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا طلحة - يعني ابن يحيى - عن أبي بُرْدَةَ، عن معاوية - هو ابن أبي سفيان، رضي الله عنهما، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كَفَّرَ الله عنه به من سيئاته " ١٤.
وقال أحمد أيضا : حدثنا حسين، عن زائدة، عن ليث، عن مجاهد١٥، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها، ابتلاه الله بالحَزَنِ ليكفرها " ١٦.
وقال ١٧ ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن - هو البصري - قال في قوله :﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ قال : لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والذي نفس محمد بيده، ما من خَدْش عود، ولا اختلاج عرق، ولا عَثْرة قدم، إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر " ١٨.
وقال١٩ أيضا : حدثنا أبي، حدثنا عمر بن علي، حدثنا هُشَيمْ، عن منصور، عن الحسن، عن عمران بن حصين، رضي الله عنه، قال : دخل عليه بعض أصحابه وقد كان ابتلي في جسده، فقال له بعضهم إنا لَنَبْتَئِسُ لك لما نرى فيك. قال : فلا تبتئس بما ترى، فإن ما ترى بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، ثم تلا هذه الآية :﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾
[ قال :] ٢٠ وحدثنا أبي : حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحمَّاني، حدثنا جرير عن أبي البلاد٢١ قال : قلت للعلاء بن بدر :﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾، وقد ذهب بصري وأنا غلام ؟ قال : فبذنوب والديك.
وحدثنا أبي : حدثنا علي بن محمد الطَّنَافسي، حدثنا وكيع، عن عبد العزيز بن أبي راود، عن الضحاك٢٢ قال : ما نعلم أحدا حفظ القرآن ثم نسيه٢٣ إلا بذنب، ثم قرأ الضحاك :﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾. ثم يقول الضحاك : وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن.
٢ - (٣) في ت، أ: "بالشوكة"..
٣ - (٤) صحيح البخاري برقم (٥٦٤١، ٥٦٤٢) وصحيح مسلم برقم (٢٥٧٣) "من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما"..
٤ - (٥) تفسير الطبري (٢٥/٢٠)..
٥ - (٦) تفسير الطبري (٢٥/٢١)..
٦ - (١) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده"..
٧ - (٢) في أ: "أيديكم ويعفو عن كثير"..
٨ - (٣) في ت: "والله"..
٩ - (٤) المسند (١/٨٥)..
١٠ - (٥) زيادة من أ..
١١ - (٦) في أ: "يصيبه"..
١٢ - (٧) في ت: "قبل"..
١٣ - (٨) في ت: "وروى"..
١٤ - (٩) المسند (٤/٩٨) قال الهيثمي في المجمع (٣/٣٠١): "رجال أحمد رجال الصحيح"..
١٥ - (١٠) في ت، م: "عن مجاهد، وروى أيضا"..
١٦ - (١١) المسند (٦/١٥٧)..
١٧ - (١٢) في ت: "وروى"..
١٨ - (١٣) ورواه هناد بن السري في الزهد برقم (٤٣١) من طريق إسماعيل بن مسلم به مرسلا..
١٩ - (١٤) في ت: "وروى"..
٢٠ - (١) زيادة من ت، أ..
٢١ - (٢) في أ: "أبي العلا"..
٢٢ - (٣) في ت: "وروى أيضا عن الضحاك"..
٢٣ - (٤) في أ: "سيبه"..
يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، تَسْخِيرُهُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ فِيهِ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، وَهِيَ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، أَيْ: كَالْجِبَالِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، أَيْ: هِيَ (١) فِي الْبَحْرِ كَالْجِبَالِ فِي الْبَرِّ،.
﴿إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ﴾ أَيِ: الَّتِي تَسِيرُ بِالسُّفُنِ (٢)، لَوْ شَاءَ لَسَكَّنَهَا حَتَّى لَا تَتَحَرَّكَ (٣) السُّفُنُ، بَلْ تَظَلَّ رَاكِدَةً لَا تَجِيءُ وَلَا تَذْهَبُ، بَلْ وَاقِفَةً عَلَى ظَهْرِهِ، أَيْ: عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ﴾ أَيْ: فِي الشَّدَائِدِ ﴿شَكُورٍ﴾ أَيْ: إِنَّ فِي تَسْخِيرِهِ الْبَحْرَ وَإِجْرَائِهِ الْهَوَى بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لِسَيْرِهِمْ، لَدَلَالَاتٍ عَلَى نِعَمِهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ ﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ﴾ أَيْ: فِي الشَّدَائِدِ، ﴿شَكُورٍ﴾ فِي الرَّخَاءِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا﴾ أَيْ: وَلَوْ شَاءَ لَأَهْلَكَ السُّفُنَ وَغَرَّقَهَا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا الَّذِينَ هُمْ رَاكِبُونَ عَلَيْهَا (٤) ﴿وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ﴾ أَيْ: مِنْ ذُنُوبِهِمْ. وَلَوْ أَخَذَهُمْ بِجَمِيعِ ذُنُوبِهِمْ لِأَهْلَكَ كُلَّ مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ (٥).
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا﴾ أَيْ: لَوْ شَاءَ لَأَرْسَلَ الرِّيحَ قَوِيَّةً عَاتِيَةً، فَأَخَذَتِ السُّفُنَ وَأَحَالَتْهَا (٦) عَنْ سَيْرِهَا الْمُسْتَقِيمِ، فَصَرَفَتْهَا ذَاتَ الْيَمِينِ أَوْ ذَاتَ الشِّمَالِ، آبِقَةً لَا تَسِيرُ عَلَى طَرِيقٍ، وَلَا إِلَى جِهَةِ مَقْصِدٍ.
(٢) في ت: "تسير بها السفن".
(٣) في ت: "يتحرك".
(٤) في ت، م، أ: "فيها".
(٥) في م: "كل من يركب في البحر"، وفي أ: "كل من يركب البحر".
(٦) في ت، أ: "فأجالتها"ن وفي م: "فاجتالتها".
٢ - (٣) في ت: "يتحرك"..
وقال بعض علماء التفسير : معنى قوله :﴿ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا ﴾ أي : لو شاء لأرسل الريح قوية عاتية، فأخذت السفن وأحالتها ٣ عن سيرها المستقيم، فصرفتها ذات اليمين أو ذات الشمال، آبقة لا تسير على طريق، ولا إلى جهة مقصد.
وهذا القول هو يتضمن هلاكها، وهو مناسب للأول٤، وهو أنه تعالى لو شاء لسكن الريح فوقفت، أو لقواه فشردت وأبقت وهلكت. ولكن من لطفه٥ ورحمته أنه يرسله بحسب الحاجة، كما يرسل المطر بقدر الكفاية، ولو أنزله كثيرا جدا لهدم البنيان، أو قليلا لما أنبت الزرع ٦ والثمار، حتى إنه يرسل إلى مثل بلاد مصر سيحا من أرض أخرى غيرها٧ ؛ لأنهم لا يحتاجون إلى مطر، ولو أنزل عليهم لهدم بنيانهم، وأسقط جدرانهم.
٢ - (٥) في م: "كل من يركب في البحر"، وفي أ: "كل من يركب البحر"..
٣ - (٦) في ت، أ: "فأجالتها"ن وفي م: "فاجتالتها"..
٤ - (١) في ت، أ: "للقول الأول"..
٥ - (٢) في أ: "لطف الله"..
٦ - (٣) في ت، م: "الزروع"..
٧ - (٤) في أ: "عليها"..
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ أَيْ: لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْ بَأْسِنَا وَنِقْمَتِنَا، فَإِنَّهُمْ مَقْهُورُونَ بِقُدْرَتِنَا.
﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُحَقِّرًا بِشَأْنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ وَالنَّعِيمِ الْفَانِي، بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أَيْ: مَهْمَا حَصَلْتُمْ وَجَمَعْتُمْ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهِيَ دَارٌ دَنِيئَةٌ فَانِيَةٌ زَائِلَةٌ لَا مَحَالَةَ، ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ أَيْ: وَثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَهُوَ بَاقٍ سَرْمَدِيٌّ، فَلَا تُقَدِّمُوا الْفَانِيَ عَلَى الْبَاقِي؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ أَيْ: لِلَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى تَرْكِ الْمَلَاذِّ فِي الدُّنْيَا، ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أَيْ: لِيُعِينَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ﴾ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ فِي "سُورَةِ الْأَعْرَافِ" ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ أَيْ: سَجِيَّتُهُمْ [وَخَلْقُهُمْ وَطَبْعُهُمْ] (٥) تَقْتَضِي الصَّفْحَ وَالْعَفْوَ عَنِ النَّاسِ، لَيْسَ سَجِيَّتُهُمُ الِانْتِقَامَ مِنَ النَّاسِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ (٦) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا (٧) عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ: مَا لَهُ؟ تَرِبَتْ جَبِينُهُ" (٨).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ (٩)، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَذِلُّوا، وكانوا إذا قدروا عفوا.
(٢) في أ: "لطف الله".
(٣) في ت، م: "الزروع".
(٤) في أ: "عليها".
(٥) زيادة من أ.
(٦) رواه البخاري في صحيحه برقم (٦١٢٦) من حديث عائشة بلفظ: "وما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم بها الله".
(٧) في أ: "للرجل".
(٨) رواه البخاري في صحيحه برقم (٦٠٣١) مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٩) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
وقد ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله٢ وفي حديث آخر :" كان يقول لأحدنا٣ عند المعتبة : ما له ؟ تربت جبينه " ٤.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن زائدة، عن منصور٥، عن إبراهيم قال : كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا، وكانوا إذا قدروا عفوا.
٢ - (٦) رواه البخاري في صحيحه برقم (٦١٢٦) من حديث عائشة بلفظ: "وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم بها الله"..
٣ - (٧) في أ: "للرجل"..
٤ - (٨) رواه البخاري في صحيحه برقم (٦٠٣١) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه..
٥ - (٩) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده"..
٢ - (٢) زيادة من ت..
٣ - (٣) زيادة من ت..
٢ - (٥) في ت، م، أ: "عنهم"..
٣ - (٦) زيادة من ت..
٤ - (٧) في ت: "أعصم"..
٥ - (٨) في ت، م: "بنت"..
٦ - (٩) في أ: "ولله الحمد والمنة"..
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ أَيْ: فِيهِمْ قُوَّةُ الِانْتِصَارِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ وَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ، لَيْسُوا بِعَاجِزِينَ وَلَا أَذِلَّةٍ، بَلْ يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِقَامِ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مع هذا إذا قدروا وعفوا، كَمَا قَالَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِإِخْوَتِهِ: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] (٤) ﴾ [يُوسُفَ: ٩٢]، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مُؤَاخَذَتِهِمْ وَمُقَابَلَتِهِمْ عَلَى صَنِيعِهِمْ إِلَيْهِ، وَكَمَا عَفَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ الثَّمَانِينَ الَّذِينَ قَصَدُوهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَنَزَلُوا مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ، فَلَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِمْ مَنَّ عَلَيْهِمْ (٥) مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ، وَكَذَلِكَ عَفْوُهُ عَنْ غَوْرَث بْنِ الْحَارِثِ، الَّذِي أَرَادَ الْفَتْكَ بِهِ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (٦) حِينَ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتا، فَانْتَهَرَهُ فَوَضَعَهُ مِنْ يَدِهِ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّيْفَ مِنْ يَدِهِ، وَدَعَا أَصْحَابَهُ، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ، وَعَفَا عَنْهُ. وَكَذَلِكَ عَفَا عَنْ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ (٧)، الَّذِي سَحَرَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَعْرِضْ لَهُ، وَلَا عَاتَبَهُ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ عَفْوُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنِ الْمَرْأَةِ الْيَهُودِيَّةِ -وَهِيَ زَيْنَبُ أُخْتُ (٨) مَرْحَبٍ الْيَهُودِيِّ الْخَيْبَرِيِّ الَّذِي قَتَلَهُ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ-الَّتِي سَمَّتِ الذِّرَاعَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَأَخْبَرَهُ الذِّرَاعُ بِذَلِكَ، فَدَعَاهَا فَاعْتَرَفَتْ فَقَالَ: "مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ" قَالَتْ: أَرَدْتُ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا مِنْكَ، فَأَطْلَقَهَا، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَكِنْ لَمَّا مَاتَ مِنْهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ قَتَلَهَا بِهِ، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ (٩).
﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ (٤٣) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤]
(٢) زيادة من ت.
(٣) زيادة من ت.
(٤) زيادة من أ.
(٥) في ت، م، أ: "عنهم".
(٦) زيادة من ت.
(٧) في ت: "أعصم".
(٨) في ت، م: "بنت".
(٩) في أ: "ولله الحمد والمنة".
[وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا كَانَتِ الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةً: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمُقْتَصِدٌ، وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ، ذَكَرَ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَذَكَرَ الْمُقْتَصِدَ وَهُوَ الَّذِي يُفِيضُ بِقَدْرِ حَقِّهِ لِقَوْلِهِ: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، ثُمَّ ذَكَرَ السَّابِقَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ ثُمَّ ذَكَرَ الظَّالِمَ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ فَأَمَرَ بِالْعَدْلِ، وَنَدَبَ إِلَى الْفَضْلِ، وَنَهَى مِنَ الظُّلْمِ] (٣).
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ أَيْ: لَيْسَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ فِي الِانْتِصَارِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ (٤) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزيع (٥) حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا (٦) ابْنُ عَوْن قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُ عَنِ الِانْتِصَارِ: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ (٧) بْنِ جُدْعَانَ عَنْ أُمِّ مُحَمَّدٍ -امْرَأَةِ أَبِيهِ-قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: زَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ (٨) -قَالَتْ: قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَنَا زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، فَجَعَلَ يَصْنَعُ بِيَدِهِ شَيْئًا فَلَمْ يَفْطِن لَهَا، فَقُلْتُ بِيَدِهِ حَتَّى (٩) فَطَّنته لَهَا، فَأَمْسَكَ. وَأَقْبَلَتْ زَيْنَبُ تُقْحِمُ لِعَائِشَةَ، فَنَهَاهَا، فَأَبَتْ أَنْ تَنْتَهِيَ. فَقَالَ لِعَائِشَةَ: "سُبّيها" فَسَبَّتْهَا فَغَلَبَتْهَا، وَانْطَلَقَتْ زَيْنَبُ فَأَتَتْ عَلِيًّا فَقَالَتْ: إِنَّ عَائِشَةَ تَقَعُ بِكُمْ، وَتَفْعَلُ بِكُمْ. فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَقَالَ (١٠) لَهَا "إِنَّهَا حِبَّةُ أَبِيكِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ" فَانْصَرَفَتْ، وَقَالَتْ لِعَلِيٍّ: إِنِّي قُلْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ لِي كَذَا وَكَذَا. قَالَ: وَجَاءَ عَلِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ (١١).
هَكَذَا وَرَدَ هَذَا السِّيَاقُ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ يَأْتِي فِي رِوَايَاتِهِ بِالْمُنْكَرَاتِ غَالِبًا، وَهَذَا فِيهِ نَكَارَةٌ، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ خِلَافُ هَذَا السِّيَاقِ، كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ الْفَأْفَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ البَهِيّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا علمتُ حَتَّى دَخَلَتْ عليَّ زَيْنَبُ بِغَيْرِ إِذَنٍ وَهِيَ غَضْبَى، ثُمَّ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ إِذَا قَلَبَتْ لَكَ ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ ذُرَيّعَتَيهَا ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيَّ فَأَعْرَضْتُ عَنْهَا، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دُونَكِ فَانْتَصِرِي" فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهَا حَتَّى رَأَيْتُهَا وَقَدْ يَبِسَ رِيقُهَا فِي فَمِهَا، مَا (١٢) تَرُدُّ عَلَيَّ شَيْئًا. فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يتهلل وجهه. وهذا لفظ
(٢) زيادة من ت.
(٣) زيادة من ت، أ.
(٤) في ت: "وروى ابن جرير".
(٥) في أ: "سويع".
(٦) في ت: "عن".
(٧) في ت: "يزيد".
(٨) في ت: "عائشة رضي الله عنها".
(٩) في أ: "فقلت له حتى".
(١٠) في ت: "فقالت".
(١١) تفسير الطبري (٢٥/٢٤).
(١٢) في م: "لم".
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ (٢)، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدِ انْتَصَرَ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ -وَاسْمُهُ مَيْمُونٌ-ثُمَّ قَالَ: "لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ" (٣).
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ﴾ أَيْ: إِنَّمَا الْحَرَجُ وَالْعَنَتُ ﴿عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ أَيْ: يَبْدَؤُونَ النَّاسَ بِالظُّلْمِ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "الْمُسْتَبَّانُ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَد الْمَظْلُومُ".
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أَيْ: شَدِيدٌ مُوجِعٌ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ -أَخُو حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ-حَدَّثَنَا عُثْمَانُ الشَّحَّامُ، حَدَّثَنَا (٤) مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ فَإِذَا عَلَى الْخَنْدَقِ مَنْظَرَة، فَأُخِذْتُ فَانْطُلِقَ بِي إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْبَصْرَةِ، فَقَالَ: حَاجَتَكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. قُلْتُ حَاجَتِي إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ أَخُو بَنِي عَدِيٍّ. قَالَ: وَمَنْ أَخُو بَنِي عَدِيٍّ؟ قَالَ: الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ، اسْتَعْمَلَ صَدِيقًا لَهُ مَرَّةً عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا تَبِيتَ إِلَّا وَظَهْرُكَ خَفِيفٌ، وَبَطْنُكَ خَمِيصٌ، وَكَفُّكَ نَقِيَّةٌ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ (٥) ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ سَبِيلٌ، ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فَقَالَ (٦) صَدَقَ وَاللَّهِ وَنَصَحَ ثُمَّ قَالَ: مَا حَاجَتُكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: حَاجَتِي أَنْ تُلْحِقَنِي بِأَهْلِي. قَالَ: نَعَمْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ (٧).
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ الظُّلْمَ وَأَهْلَهُ وَشَرَّعَ الْقَصَاصَ، قَالَ نَادِبًا إِلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ﴾ أَيْ: صَبَرَ عَلَى الْأَذَى وَسَتَرَ السَّيِّئَةَ، ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ﴾
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: [يَعْنِي] (٨) لَمِنْ حَقِّ الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا، أَيْ: لَمِنَ الْأُمُورِ الْمَشْكُورَةِ وَالْأَفْعَالِ الْحَمِيدَةِ (٩) الَّتِي عَلَيْهَا ثَوَابٌ جَزِيلٌ وَثَنَاءٌ جَمِيلٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى الطَّرْسُوسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ يَزِيدَ -خَادِمُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ-قَالَ: سَمِعْتُ (١٠) الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ يقول (١١) إذا أتاك رجل
(٢) في ت: "وروى البزار بسنده".
(٣) سنن الترمذي برقم (٣٥٥٢) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (١٠/٣٤٧) وابن عدي في الكامل (٦/٤١٢) من طريق أبي الأحوص به، وقال ابن عدي: "لا أعلم من يرويه عن أبي حمزة غير أبي الأحوص".
(٤) في ت: "عن".
(٥) في أ: "قبلت".
(٦) في ت، أ: "فقال مروان".
(٧) المصنف لابن أبي شيبة (١٤/٦٣).
(٨) زيادة من أ.
(٩) في ت: "المحمودة".
(١٠) في ت: "وعن".
(١١) في ت: "قال".
قال ابن جرير١ حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزيع٢ حدثنا معاذ بن معاذ، حدثنا ٣ ابن عَوْن قال : كنت أسأل عن الانتصار :﴿ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ فحدثني علي بن زيد٤ بن جدعان عن أم محمد - امرأة أبيه - قال ابن عون : زعموا أنها كانت تدخل على أم المؤمنين عائشة٥ - قالت : قالت أم المؤمنين : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندنا زينب بنت جحش، فجعل يصنع بيده شيئا فلم يَفْطِن لها، فقلت بيده حتى٦ فَطَّنته لها، فأمسك. وأقبلت زينب تقحم لعائشة، فنهاها، فأبت أن تنتهي. فقال لعائشة :" سُبّيها " فسبتها فغلبتها، وانطلقت زينب فأتت عليا فقالت : إن عائشة تقع بكم، وتفعل بكم. فجاءت فاطمة فقال٧ لها " إنها حبة أبيك ورب الكعبة " فانصرفت، وقالت لعلي : إني قلت له كذا وكذا، فقال لي كذا وكذا. قال : وجاء علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في ذلك٨.
هكذا ورد هذا السياق، وعلي بن زيد بن جدعان يأتي في رواياته بالمنكرات غالبا، وهذا فيه نكارة، والحديث الصحيح خلاف هذا السياق، كما رواه النسائي وابن ماجه من حديث خالد بن سلمة الفأفاء، عن عبد الله البَهِيّ، عن عروة قال : قالت عائشة، رضي الله عنها : ما علمتُ حتى دخلت عليَّ زينب بغير إذن وهي غضبى، ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكر ذُرَيّعَتَيهَا ثم أقبلت علي فأعرضت عنها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم :" دونك فانتصري " فأقبلت عليها حتى رأيتها وقد يبس ريقها في فمها، ما٩ ترد علي شيئا. فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه. وهذا لفظ النسائي١٠.
وقال البزار : حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أبو غسان، حدثنا أبو الأحوص عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن الأسود١١، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من دعا على من ظلمه فقد انتصر ".
ورواه الترمذي من حديث أبي الأحوص، عن أبي حمزة - واسمه ميمون - ثم قال :" لا نعرفه إلا من حديثه، وقد تكلم فيه من قبل حفظه " ١٢.
٢ - (٥) في أ: "سويع"..
٣ - (٦) في ت: "عن"..
٤ - (٧) في ت: "يزيد"..
٥ - (٨) في ت: "عائشة رضي الله عنها"..
٦ - (٩) في أ: "فقلت له حتى"..
٧ - (١٠) في ت: "فقالت"..
٨ - (١١) تفسير الطبري (٢٥/٢٤)..
٩ - (١٢) في م: "لم"..
١٠ - (١) النسائي في السنن الكبرى برقم (١١٤٧٦) وسنن ابن ماجه برقم (١٩٨١) قال البوصيري في الزوائد (٢/١١٥): "هذا إسناد صحيح على شرط مسلم"..
١١ - (٢) في ت: "وروى البزار بسنده"..
١٢ - (٣) سنن الترمذي برقم (٣٥٥٢) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (١٠/٣٤٧) وابن عدي في الكامل (٦/٤١٢) من طريق أبي الأحوص به، وقال ابن عدي: "لا أعلم من يرويه عن أبي حمزة غير أبي الأحوص"..
﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي : شديد موجع.
قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا سعيد بن زيد - أخو حماد بن زيد - حدثنا عثمان الشحام، حدثنا١ محمد بن واسع قال : قدمت مكة فإذا على الخندق مَنْظَرَة، فأخذت فانطلق بي إلى مروان بن المهلب، وهو أمير على البصرة، فقال : حاجتك يا أبا عبد الله. قلت حاجتي إن استطعت أن تكون كما قال أخو بني عدي. قال : ومن أخو بني عدي ؟ قال : العلاء بن زياد، استعمل صديقا له مرة على عمل، فكتب إليه : أما بعد فإن استطعت ألا تبيت إلا وظهرك خفيف، وبطنك خميص، وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم، فإنك إذا فعلت ٢ ذلك لم يكن عليك سبيل، ﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ فقال٣ صدق والله ونصح ثم قال : ما حاجتك يا أبا عبد الله ؟ قلت : حاجتي أن تلحقني بأهلي. قال : نعم رواه ابن أبي حاتم٤.
٢ - (٥) في أ: "قبلت"..
٣ - (٦) في ت، أ: "فقال مروان"..
٤ - (٧) المصنف لابن أبي شيبة (١٤/٦٣)..
قال سعيد بن جبير :[ يعني ]١ لمن حق الأمور التي أمر الله بها، أي : لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة ٢ التي عليها ثواب جزيل وثناء جميل.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا عمران بن موسى الطرسوسي، حدثنا عبد الصمد بن يزيد - خادم الفضيل بن عياض - قال : سمعت٣ الفضيل بن عياض يقول٤ إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلا فقل :" يا أخي، اعف عنه ". فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال : لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله٥ عز وجل. فقل له٦ إن كنت تحسن أن تنتصر وإلا فارجع إلى باب العفو، فإنه باب واسع، فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور٧.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى - يعني ابن سعيد القطان - عن ابن عَجْلان، حدثنا سعيد بن أبي سعيد، ٨ عن أبي هريرة، رضي الله عنه أن رجلا شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال : يا رسول الله إنه كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت ! قال :" إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله حضر٩ الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان ". ثم قال :" يا أبا بكر، ثلاث كلهن حق، ما من عبد ظُلم بمظلمة فيغضي عنها لله، إلا أعز الله بها نَصْرَه، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة، إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة، إلا زاده الله بها قلة "
وكذا رواه أبو داود، عن عبد الأعلى بن حماد، عن سفيان بن عيينة - قال : ورواه صفوان بن عيسى، كلاهما عن محمد بن عَجْلان١٠ ورواه من طريق الليث، عن سعيد المَقْبُرِي، عن بشير بن المحرر، عن سعيد بن المسيب مرسلا١١.
وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى، وهو سببُ سبه للصديق١٢.
٢ - (٩) في ت: "المحمودة"..
٣ - (١٠) في ت: "وعن"..
٤ - (١١) في ت: "قال"..
٥ - (١) في ت: "ربي"..
٦ - (٢) في ت، أ: "قال له الفضيل"..
٧ - (٣) بعدها: "رواه ابن أبي حاتم"..
٨ - (٤) في ت: "وروى الإمام أحمد بسنده"..
٩ - (٥) في ت، م، أ: "وقع"..
١٠ - (٦) المسند (٢/٤٣٦) وسنن أبي داود برقم (٤٨٩٦، ٤٨٩٧)..
١١ - (٧) سنن أبي داود برقم (٤٨٩٧)..
١٢ - (٨) في ت، أ: "وهذا الحديث في غاية الحسن وهو مناسب للصديق"، وفي م: "وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى وهو مناسب للصديق"..
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ-عَنِ ابْنِ عَجْلان، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، (٤) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ! قَالَ: "إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ حَضَرَ (٥) الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ". ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ، مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلم بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ، إِلَّا أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا نَصْرَه، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً، إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً، إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا قِلَّةً"
وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ -قَالَ: وَرَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلان (٦) وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِي، عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْمُحَرِّرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا (٧).
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ سببُ سَبِّهِ لِلصِّدِّيقِ (٨).
﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) ﴾
(٢) في ت، أ: "قال له الفضيل".
(٣) بعدها: "رواه ابن أبي حاتم".
(٤) في ت: "وروى الإمام أحمد بسنده".
(٥) في ت، م، أ: "وقع".
(٦) المسند (٢/٤٣٦) وسنن أبي داود برقم (٤٨٩٦، ٤٨٩٧).
(٧) سنن أبي داود برقم (٤٨٩٧).
(٨) في ت، أ: "وهذا الحديث في غاية الحسن وهو مناسب للصديق"، وفي م: "وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فِي الْمَعْنَى وهو مناسب للصديق".
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ مَا شَاءَ (١) كَانَ وَلَا رَادَّ لَهُ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَلَا مُوجِدَ لَهُ (٢) وَأَنَّهُ مَنْ هَدَاهُ فَلَا مُضِل لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ (٣) فَلَا هَادِيَ لَهُ، كَمَا قَالَ: ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ [الْكَهْفِ: ١٧]
ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنِ الظَّالِمِينَ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ ﴿لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾ أَيْ: يَوْمَ القيامة يتمنون
(٢) في أ: "فلا مؤاخذة له".
(٣) في ت، م: "يضلل الله".
وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ أَيْ: عَلَى النَّارِ ﴿خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ﴾ أَيِ: الَّذِي قَدِ اعْتَرَاهُمْ بِمَا أَسْلَفُوا مِنْ عِصْيَانِ اللَّهِ، ﴿يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ قَالَ مجاهد: يعني ذليل، أَيْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا مُسَارقَة خَوْفًا مِنْهَا، وَالَّذِي يَحْذَرُونَ مِنْهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، وَمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا فِي نُفُوسِهِمْ، أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أَيْ: يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ﴾ أَيِ: الْخَسَارُ (٢) الْأَكْبَرُ ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أَيْ: ذَهَبَ بِهِمْ إِلَى (٣) النَّارِ فَعُدِمُوا لَذَّتَهُمْ فِي دَارِ الْأَبَدِ، وَخَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِمْ وَأَحْبَابِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ وَقَرَابَاتِهِمْ، (٤) فَخَسِرُوهُمْ، ﴿أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ﴾ أَيْ: دَائِمٍ سَرْمَدِيٍّ أَبَدِيٍّ، لَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا وَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أَيْ: يُنْقِذُونَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ﴾ أَيْ: لَيْسَ لَهُ خَلَاصٌ.
﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ (٤٨) ﴾
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَكُونُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْأُمُورِ الْعِظَامِ الْهَائِلَةِ حَذَّر مِنْهُ وَأَمَرَ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، فَقَالَ: ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ أَيْ: إِذَا أَمَرَ بِكَوْنِهِ فَإِنَّهُ كَلَمْحِ الْبَصَرِ يَكُونُ، وَلَيْسَ لَهُ دَافِعٌ وَلَا مَانِعٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ﴾ أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ حِصْنٌ تَتَحَصَّنُونَ فِيهِ، وَلَا مَكَانٌ يَسْتُرُكُمْ وَتَتَنَكَّرُونَ فِيهِ، فَتَغِيبُونَ عَنْ بَصَرِهِ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِكُمْ بِعِلْمِهِ وَبَصَرِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، ﴿يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾ [الْقِيَامَةِ: ١٠-١٢].
وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا﴾ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ ﴿فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ أَيْ: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٢]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ [الرَّعْدِ: ٤٠] وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ﴾ أَيْ: إِنَّمَا كَلَّفْنَاكَ أَنْ تُبْلِغَهُمْ رسالة الله إليهم.
(٢) في أ: "الخاسر".
(٣) في ت: "في".
(٤) في ت: "وأقربائهم".
ثم قال تعالى :﴿ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا ﴾ أي : إذا أصابه رخاء ونعمة فرح بذلك، ﴿ وَإِنْ تُصِبْهُمْ ﴾ يعني الناس ﴿ سيئة ﴾ أي : جدب ونقمة وبلاء وشدة، ﴿ فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ ﴾ أي : يجحد ما تقدم من النعمة١ ولا يعرف إلا الساعة الراهنة، فإن أصابته نعمة أشر وبطر، وإن أصابته محنة يئس وقنط، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ للنساء ] ٢ يا معشر النساء، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار " فقالت امرأة : ولِمَ يا رسول الله ؟ قال :" لأنكن تُكثرن الشكاية، وتكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم تركت يوما قالت : ما رأيت منك خيرا قط " ٣ وهذا حال أكثر الناس٤ إلا من هداه الله وألهمه رشده، وكان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فالمؤمن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " ٥.
٢ - (٢) زيادة من ت، م، أ..
٣ - (٣) رواه مسلم في صحيحه برقم (٧٩) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وبرقم (٨٠) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٤ - (٤) في ت، م: "النساء"..
٥ - (٥) رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٩٩) من حديث صهيب رضي الله عنه..
﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَالِكُهُمَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَأَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَ ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا﴾ أَيْ: يَرْزُقُهُ الْبَنَاتِ فَقَطْ -قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَمِنْهُمْ لُوطٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ أَيْ: يَرْزُقُهُ الْبَنِينَ فَقَطْ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ -لَمْ يُولَدْ لَهُ أُنْثَى،. ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾ أَيْ: وَيُعْطِي مَنْ يَشَاءُ مِنَ النَّاسِ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، أَيْ: مِنْ هَذَا وَهَذَا (٦). قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَمُحَمَّدٍ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ﴿وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا﴾ أَيْ: لَا يُولَدُ لَهُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَيَحْيَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَجَعَلَ النَّاسَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، مِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ مِنَ النَّوْعَيْنِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ هَذَا وَهَذَا، فَيَجَعَلُهُ عَقِيمًا لَا نَسْلَ لَهُ وَلَا يُولَدُ لَهُ، ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ﴾ أَيْ: بِمَنْ يَسْتَحِقُّ كُلَّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، ﴿قَدِيرٌ﴾ أَيْ: عَلَى مَنْ يَشَاءُ، مِنْ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ.
وَهَذَا الْمَقَامُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ عِيسَى: ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ﴾ [مَرْيَمَ: ٢١] أَيْ: دَلَالَةً لَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، حَيْثُ خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، فَآدَمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَحَوَّاءُ عَلَيْهَا السَّلَامُ، [مَخْلُوقَةٌ] (٧) مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَسَائِرُ الْخَلْقِ سِوَى عِيسَى [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (٨) مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ فَتَمَّتِ الدَّلَالَةُ بِخَلْقِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ﴾، فَهَذَا الْمَقَامُ فِي الْآبَاءِ، وَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي الْأَبْنَاءِ، وَكُلٌّ منهما أربعة أقسام، فسبحان العليم القدير.
(٢) زيادة من ت، م، أ.
(٣) رواه مسلم في صحيحه برقم (٧٩) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وبرقم (٨٠) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٤) في ت، م: "النساء".
(٥) رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٩٩) من حديث صهيب رضي الله عنه.
(٦) في ت: "هذا من هذا".
(٧) زيادة من ت.
(٨) زيادة من ت، م، وفي أ: "عيسى ابن مريم عليهما السلام".
وهذا المقام شبيه بقوله تعالى عن عيسى :﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾ [ مريم : ٢١ ] أي : دلالة لهم على قدرته، تعالى وتقدس، حيث خلق الخلق على أربعة أقسام، فآدم، عليه السلام، مخلوق من تراب لا من ذكر ولا أنثى، وحواء عليها السلام، [ مخلوقة ]٢ من ذكر بلا أنثى، وسائر الخلق سوى عيسى [ عليه السلام ] ٣ من ذكر وأنثى، وعيسى، عليه السلام، من أنثى بلا ذكر فتمت الدلالة بخلق عيسى ابن مريم، عليهما السلام ؛ ولهذا قال :﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾، فهذا المقام في الآباء، والمقام الأول في الأبناء، وكل منهما أربعة أقسام، فسبحان العليم القدير.
٢ - (٧) زيادة من ت..
٣ - (٨) زيادة من ت، م، وفي أ: "عيسى ابن مريم عليهما السلام"..
هَذِهِ مَقَامَاتُ (١) الْوَحْيِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَنَابِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى تَارَةً يَقْذِفُ فِي رَوْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَا يَتَمَارَى فِيهِ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ رُوح القُدُس نَفَثَ فِي رُوعي: إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا، فَاتَّقَوُا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ" (٢).
وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ بَعْدَ التَّكْلِيمِ، فَحُجِبَ عَنْهَا.
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا" الْحَدِيثَ (٣)، وَكَانَ [أَبُوهُ] (٤) قَدْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي عَالَمِ الْبَرْزَخِ، وَالْآيَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي الدَّارِ (٥) الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾ كَمَا يُنْزِلُ جِبْرِيلَ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (٦) وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، ﴿إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾، فَهُوَ عَلِيٌّ عَلِيمٌ خَبِيرٌ حَكِيمٌ.
وَقَوْلُهُ (٧) ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ يَعْنِي: الْقُرْآنَ، ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ﴾ أَيْ: عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي شُرِعَ لَكَ فِي الْقُرْآنِ، ﴿وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ﴾ أَيِ: الْقُرْآنَ ﴿نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فُصِّلَتْ: ٤٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّكَ﴾ [أَيْ] (٨) يَا مُحَمَّدُ ﴿لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وَهُوَ الْخُلُقُ (٩) الْقَوِيمُ. ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿صِرَاطِ اللَّهِ [الَّذِي] ﴾ (١٠) أَيْ: شَرْعُهُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ اللَّهُ، ﴿الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ﴾ أَيْ: رَبُّهُمَا وَمَالِكُهُمَا، وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا، الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، ﴿أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ﴾، أَيْ: تَرْجِعُ الْأُمُورُ، فَيَفْصِلُهَا وَيَحْكُمُ فِيهَا.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ " [حم] (١١) الشورى" والحمد لله رب العالمين.
(٢) ورواه البغوي في شرح السنة (١٤/٣٠٤) من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي عمن أخبره عن ابن مسعود به.
(٣) رواه الترمذي في السنن برقم (٣٠١٠) وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ".
(٤) زيادة من ت، أ.
(٥) في ت: "دار".
(٦) زيادة من م.
(٧) في ت: "فقوله".
(٨) زيادة من م.
(٩) في ت، م، أ: "الحق".
(١٠) زيادة من أ.
(١١) زيادة من أ.
ثم فسره بقوله :﴿ صِرَاطِ اللَّهِ [ الَّذِي ] ﴾ ١ أي : شرعه الذي أمر به الله، ﴿ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ﴾ أي : ربهما ومالكهما، والمتصرف فيهما، الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ﴿ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ﴾، أي : ترجع الأمور، فيفصلها ويحكم فيها.
آخر تفسير سورة " [ حم ] ٢ الشورى " والحمد لله رب العالمين.
٢ - (١١) زيادة من أ..