تفسير سورة الشورى

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُوْرَةُ الشُّوْرَي
مكية، وقال مقاتل: فيها مدني ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ﴾ إلى ﴿الصُّدُورِ﴾ ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ﴾ إلى ﴿مِنْ سَبِيلٍ﴾، وآيها: ثلاث وخمسون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف وخمس مئة وثمانية وثمانون حرفًا، وكلمها: ثماني مئة وست وستون كلمة، وهذه السورة أول المفصل على أحد القولين في مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، والقول الثّاني: أنّه من سورة النجم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿حم (١) عسق (٢)﴾.
[١ - ٢] ﴿حم (١) عسق﴾ تقدّم ذكر الإمالة، ومذهب أبي جعفر في تقطيع الحروف أول غافر، وأشبع ورش مد (ع) بخلاف عنه؛ كأول سورة مريم، قال ابن عبّاس: "إنَّ (حم عسق) هذه الحروف بأعيانها نزلت في كلّ كتب الله المنزلة على كلّ نبي أُنزل عليه كتاب الله (١) " (٢) ولذلك قال تعالى:
(١) لفظ الجلالة "الله" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٧٣)، و"تفسير الرازي" (٢٧/ ١٢٣). قال الرازي: وهذا عندي بعيد.
169
﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ وفُصِلَتْ (حم) من (عسق)، ولم يفعل ذلك بـ (كهيعص) لتجري هذه مجرى الحواميم أخواتها، ولأنّهما عُدَّا آيتين، و (كهيعص) عُدَّت آية واحدة، والأقوال في هذه كالأقوال في أوائل السور.
وعن ابن عبّاس -رضي الله عنه-: أنّه قال: " (ح) حلمه (م) مجده (ع) علمه (س) سناؤه (ق) قدرته، أقسم الله بها" (١).
وروي عن علي -رضي الله عنه-: أنّه كان يستفيد علم الفتن والحروب من هذه الحروف الّتي في أوائل السور (٢).
وروى حذيفة بن اليمان: "أن رجلًا يقال له: عبد الإله، أو عبد الله ينزل على نهر من أنّهار المشرق يبني عليه مدينتين يشق النهر بينهما شقًّا، فتهلك إحدى المدينتين ليلًا، ثمّ تصبح الأخرى سالمة، فيجتمع فيها جبابرة
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٧٣)، و"فتح القدير" للشوكاني (٤/ ٥٢٥)، وقال: وقيل غير ذلك ممّا هو متكلّف متعسف لم يدلَّ عليه دليل، وجاءت به حجة ولا شبهة حجة.
(٢) قال القاضي أبو بكر بن العربي في فوائد رحلته: ومن الباطل علم الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد تحصَّل لي فيها عشرون قولًا وأزيد، ولا أعرف أحدًا يحكم عليها بعلم ولا يصل منها إلى فهم. انظر: "الإتقان " للسيوطي (٢/ ٢٦)، وفي مقدمة من نفى هذا العلم عن سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، هذا ولمّا سئل السبكي عن دلالة ﴿كهيعص﴾ فكان من إجابته -رحمه الله-:.. وأكثر ذلك يكون معصية ممَّا يجب إنكارُه وبعضه ممّا جربناه فلم نجده صحيحًا ممّا لا فائدة فيه. انظر: "فتاوى السبكي" (٢/ ٥٦٣).
170
المدينتين متعجبين من سلامتها، فتهلك من اللَّيلة القابلة، وإن (حم) معناه: حتم (١) هذا الأمر، و (عين) معناه: عدلًا من الله، و (سين): سيكون ذلك، و (قاف) معناه: يقع ذلك بهم" (٢).
* * *
﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣)﴾.
[٣] ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثل ما في هذه السورة من المعاني.
﴿يُوحِي إِلَيْكَ﴾ يا محمّد ﴿وَإِلَى﴾ الرسل ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أي: كما أوحينا إليك، وأوحينا إليهم. قرأ ابن كثير: (يُوحَى) بفتح الحاء مجهولًا، القائم مقام الفاعل (إليك)، وقرأ الباقون: بكسر الحاء معلومًا، فالفاعل (الله) تعالى، وقرأ أبان عن عاصم: (نُوحِي) بنون العظمة (٣)، فعلى قراءة ابن كثير (كَذَلِكَ) مبتدأ، خبره (يُوحَى)، وعلى قراءة الباقين (اللَّهُ) مبتدأ، خبره (العزيزُ الحكيمُ)، وقال (يُوحِي) مضارعًا دون (أَوْحَى)؛ للإيذان أن إيجاد مثله عادته، و (العزيزُ الحكيمُ) صفتان له مقررتان لعلو شأن الموحى به.
(١) في "ت": "حُمَّ".
(٢) رواه الطّبريّ في "تفسيره" (٢١/ ٤٩٧). قال ابن كثير في "تفسيره" (٤/ ١٠٧): غريب عجيب.
(٣) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (٣/ ٤٩)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٨٠)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٧٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٨٣ - ٨٤).
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)﴾.
[٤] ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ملكًا وخلقًا.
﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾ في قدره ﴿الْعَظِيمُ﴾ في سلطانه.
* * *
﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥)﴾.
[٥] ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ﴾ قرأ نافع، والكسائي: (يَكَادُ) بالياء مذكرًا؛ لتذكير الجمع، والباقون: بالتاء مؤنثًا (١)؛ لتأنيث (السَّمَوَات)، و (كادَ) من أفعال المقاربة.
﴿يَتَفَطَّرْنَ﴾ قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم: (يَنْفَطِرْنَ) بالنون وكسر الطاء مخففة؛ وقرأ الباقون: بالتاء وفتح الطاء مشددة (٢)؛ أي: يتشققن ﴿مِنْ فَوْقِهِنَّ﴾ أي: كلّ (٣) منها تنفطر فوق الّتي تليها، أو من فوق الأرضين السبع، من قول المشركين: ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ [البقرة: ١١٦].
﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ يقولون: سبحان الله، وقيل: يصلون.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٨٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٨٤).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٨٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٨٤).
(٣) في "ت" زيادة: "من" بعد "كلّ".
﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ من المؤمنين ﴿أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ الّذي يطلب هذا منه؛ إذ هذه أوصافه، وهو أهل المغفرة.
* * *
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦)﴾.
[٦] ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ شركاء.
﴿اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾ رقيب يحصي أعمالهم؛ ليجازي بها.
﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ بموكَّل بهم، ولا بلازم لأمرهم حتّى يؤمنوا، والوكيل: المقيم على الأمر، وما في هذا (١) اللّفظ من موادعة، فهو منسوخ بآية السيف.
* * *
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧)﴾.
[٧] ﴿وَكَذَلِكَ﴾ ومثلَ ذلك الإيحاء البين.
﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ مكّة؛ أي: أصل البلاد، والمراد: أهلها، ولذلك عطف عليها ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ (مَنْ) في الأغلب لمن يعقل؛ يعني: قرى الأرض كلها.
﴿وَتُنْذِرَ﴾ النَّاس ﴿يَوْمَ الْجَمْعِ﴾ هو يوم القيامة؛ أي: تخوفهم إياه؛ لما
(١) في "ت": "هذه".
فيه مِنْ عذاب مَنْ كفر، ويسمى يوم الجمع؛ لاجتماع أهل الأرض وأهل السماء فيه.
﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أي: في نفسه وذاته، وارتياب الكفار فيه لا يعتد به، ثمّ بعد الجمع يتفرقون.
﴿فَرِيقٌ﴾ مرتفع على خبر الابتداء المضمرة أي: هم فريق.
﴿فِي الْجَنَّةِ﴾ هم المؤمنون ﴿وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ هم الكافرون.
* * *
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٨)﴾.
[٨] ثمّ قرن (١) تعالى تسلية نبيه بأن عرفه بأن الأمور موقوفة على مشيئته تعالى، فقال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ على دين واحد، وهو الإسلام.
﴿وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ﴾ إيمانَه، وهو من سبقت له السعادة عنده.
﴿فِي رَحْمَتِه﴾ في دين الإسلام.
﴿وَالظَّالِمُونَ﴾ الكافرون الميسرون لعمل الشقاوة.
﴿مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ ينقذهم من عذابه تعالى.
(١) في "ت": "قوَّى".
﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩)﴾.
[٩] ﴿أَمِ اتَّخَذُوا﴾ وهذا كلام منقطع ممّا قبله، وليس بمعادلة، ولكن الكلام كأنّه (١) أضرب عن حجة لهم أو مقالة مقررة، فقال: بل اتخذوا ﴿مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ شركاء وأندادًا، و (الفاء) بعد جواب شرط مقدر، تقديره: بعد نفي جميع الآلهة إنَّ أرادوا وليًّا حقًّا.
﴿فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾ لك يا محمّد ولمن اتبعك.
﴿وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى﴾ يبعثهم من قبورهم.
﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قدرته تعطي هذا وتقتضيه.
* * *
﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠)﴾.
[١٠] ثمّ أُمر - ﷺ - أن يقول للمؤمنين حيث اختلفوا هم و (٢) المشركون بين يديه:
﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ﴾ أنتم والكفار.
﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ من الدِّين وغيره ﴿فَحُكْمُهُ﴾ مردود ﴿إِلَى اللَّهِ﴾.
(١) "كأنّه" زيادة من "ت".
(٢) "و": سقط من "ت".
﴿ذَلِكُمُ﴾ الموصوفُ بهذا الوصف.
﴿اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ في جميع الأمور.
﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ أَرْجِع.
* * *
﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)﴾.
[١١] ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: خالق الآفاق.
﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي: من جنسكم. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (جَعَل لَّكُمْ) بإدغام اللام الأولى في الثّانية (١).
﴿أَزْوَاجًا﴾ حلائلَ، وليس الأزواج هاهنا الأنواع ﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا﴾ ذكرًا وأنثى؛ إكرامًا لكم.
﴿يَذْرَؤُكُمْ﴾ يخلقكم، والضمير للأناسي والأنعام، فغلّب الأناسي.
﴿فِيهِ﴾ في هذا التّدبير، وهو جعلُ النَّاس والأنعام أزواجًا يكون بينهم توالد.
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ﴾ أي: ليس كهو ﴿شَيْءٌ﴾ يزاوجه ويناسبه، والمراد من (مثله): ذاتُه، والشيء: عبارة عن الموجود، قال ابن عبّاس: "ليس له نظير" (٢)، فالتوحيد إثبات ذات غير مشبهة للذوات، ولا معطلة من
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٤٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٨٦).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٧٧).
الصفات، ليس كذاته ذوات (١)، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، ولا كصفته صفة، إِلَّا من جهة موافقة اللّفظ اللّفظ، وجَلَّت الذات القديمة أن تكون لها صفة حديثة؛ كما استحال أن تكون للذات المحدثة صفة قديمة، وحيث تراءى في مرآة القلب صورة، أو خطر بالخاطر مثال، أو ركنت النفس إلى كيفية، فليجزم بأن الله بخلافه؛ إذ كلّ ذلك من سمات الحدوث؛ لدخوله في دائرة التحديد والتكييف اللازمين للمخلوق، المنزهِ عنهما الخالق تعالى، ولقد أقسم سيد الطائفة الجنيد بأنّه ما عرف اللهَ إِلَّا اللهُ.
﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ لكل ما يُسْمَع ويُبْصر.
* * *
﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ تقدّم تفسيره في سورة الزمر.
﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ يوسِّع ويضيِّق؛ لأنّ مفتاح الرزق بيده ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فيفعله على ما تقتضيه حكمته.
* * *
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى
(١) في "ت": "ذات".
الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣)}.
[١٣] ﴿شَرَعَ﴾ بَيَّنَ.
﴿لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾ وهو أول أنبياء الشّريعة.
﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ من القرآن وشرائع الإسلام ﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ﴾ قرأ هشام عن ابن عامر: (إِبْرَاهَامَ) بألف بين الهاء والميم (١) ﴿وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ ثمّ بين المشروع المشترك فيه هؤلاء، وهو:
﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ وهو توحيد الله وطاعته، وما به يكون الإنسان مسلمًا.
﴿وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ في القدر المشترك بينكم من الدِّين، ولم يردّ الاشتراك في جميع الشرائع؛ لأنّها متفاوتة؛ لقوله تعالى:
﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨]، ثمّ أخبر تعالى نبيه - ﷺ - بصعوبة موقع هذه الدّعوة إلى إقامة الدِّين على المشركين بالله العابدين للأصنام بقوله:
﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ﴾ يا محمّد.
﴿إِلَيْهِ﴾ من التّوحيد، ثمّ سلَّاه عنهم بقوله:
﴿اللَّهُ يَجْتَبِي﴾ يختار ﴿إِلَيْهِ﴾ أي: لدينه (٢).
﴿مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ﴾ بالتوفيق.
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٨٦).
(٢) "أي: لدينه" زيادة من "ت".
﴿مَنْ يُنِيبُ﴾ يُقبل إلى طاعته، وكان نبيّنا - ﷺ - قبل البعثة متعبدًا في الفروع بشرع من قبلَه مطلقًا، وقيل: مُعَيَّن، فقيل: آدم، أو نوح، أو إبراهيم، أو موسى، أو عيسى، وقيل: بوضع شريعة اختارها، وقيل: بالإلهام، ولم يكن - ﷺ - على ما كان عليه قومه باتِّفاق الأئمة وإجماع الأُمَّة.
قال الإمام أحمد رضي الله عنه: من زعمه، فقول سوء.
وامتناع المعصية منه - ﷺ - قبل البعثة عقلًا مبني على التقبيح العقلي، وبعدها معصوم من تعمد ما يُخِلُّ بصدقه فيما دلت المعجزة على صدقه من رسالة وتبليغ بالاتفاق.
* * *
﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا﴾ أي: أهلُ الكتاب ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ بأن التفرق ضلال ﴿بَغْيًا﴾ لأجل البغي الحاصل.
﴿بَيْنَهُمْ﴾ المؤدي إلى اختلاف الرأي وافتراق الكلمة.
﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾ بتأخير العذاب والجزاء.
﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ وهو يوم القيامة.
﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ في الدنيا، وغلب المحقُّ المبطلَ.
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ﴾ من اليهود والنصارى المعاصرين لمحمد - ﷺ -.
﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أي: من بعد مَنْ تقدمهم ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ من محمّد - ﷺ - ﴿مُرِيبٍ﴾ ووصف الشك بمريب مبالغة فيه.
* * *
﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿فَلِذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التّوحيد ﴿فَادْعُ﴾ أنت إلى ربك، وبلغ ما أُرسلت به ﴿وَاسْتَقِمْ﴾ على دينهم.
﴿كَمَا أُمِرْتَ﴾ أي: دُمْ على استقامتك؛ لأنّه كان مستقيمًا، وفي هذا المعنى قال النّبيّ - ﷺ -: "شيبتني هودٌ وأخواتُها"، فقيل له: لم ذلك؟ فقال: "لأنّ فيها ﴿فَاْسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ " (١)، وهذا خطاب له - ﷺ - بحسب قوته في أمر الله تعالى، وقال هو لأمته بحسب ضعفهم: "استقيموا ولَنْ تُحصوا" (٢).
﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ يعني: قريشًا فيما كانوا يهوونه من أن يعظِّم محمّد - ﷺ - آلهتَهم، وغير ذلك.
﴿وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ﴾ يعني: جميع الكتب المنزلة من عند الله، وهو أمر يعم سائر أمته.
(١) تقدّم تخريجه.
(٢) رواه ابن ماجه (٢٧٧)، كتاب: الطّهارة، باب: المحافظة على الوضوء، والإمام أحمد في "المسند" (٥/ ٢٧٦)، من حديث ثوبان رضي الله عنه. وصححه المنذري في "الترغيب والترهيب" (١/ ٩٧).
﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ﴾ واللام بمعنى أن؛ أي: أمرت بأن أعدل.
﴿بَيْنَكُمُ﴾ في الحكم، ولا أطالبكم بأكثر ممّا افترض الله عليكم.
﴿اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ خالق كلّ شيء.
﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ وكلٌّ مجازى بعمله.
﴿لَا حُجَّةَ﴾ لا مخاصمة ﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾ نسخها آية القتال.
﴿اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا﴾ يوم القيامة ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ وعيد للكفار.
* * *
﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ﴾ أي: في توحيده.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ أي: من بعد ما أجاب المسلمون بالإيمان.
﴿حُجَّتُهُمْ﴾ مجادلتهم ﴿دَاحِضَةٌ﴾ باطلة.
﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ في الآخرة.
* * *
﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ﴾ القرآن ﴿بِالْحَقِّ﴾ في أحكامه.
﴿وَالْمِيزَانَ﴾ العدلَ، سمي ميزانًا؛ لأنّ الميزان آلة الإنصاف، ولما سئل - ﷺ - عن السّاعة، نزل:
﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ﴾ (١) أي: البعث ﴿قَرِيبٌ﴾.
* * *
﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (١٨)﴾.
[١٨] ثمّ وصف تعالى حال الجهلة المكذبين بها، فقال:
﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا﴾ استهزاء ﴿الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾ بقيامها.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾ خائفون من شدائدها.
﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا﴾ أي: مجيئها ﴿الْحَقُّ﴾ الواقع.
﴿أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ﴾ يجادلون ﴿فِي السَّاعَةِ﴾ وإبطال مجيئها عنادًا.
﴿لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ عن الحق.
* * *
﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ بارٌّ بعباده بصنوف من البرّ ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾ ما يشاء (٢)، فيخص كلًّا من عباده بنوع من البرّ على ما اقتضته حكمته.
﴿وَهُوَ الْقَوِيُّ﴾ القادر ﴿الْعَزِيزُ﴾ الّذي لا يُغلب.
* * *
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٧٨).
(٢) "ما يشاء" زيادة من "ت".
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ﴾ عملَها؛ أي: من كان يريد بعمله الآخرةَ.
﴿نَزِدْ لَهُ فِي﴾ جزاء ﴿حَرْثِهِ﴾ بتضعيف الحسنة إلى العشر، وتزاد إلى ما شاء الله.
﴿وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا﴾ يريد بعمله الدنيا ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ ما قُسم له بلا تضعيف ﴿وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ لأنه لم يعمل لها. قرأ أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: (نُؤْتِهْ) بسكون الهاء، واختلف عن أبي جعفر، وقرأ يعقوب، وقالون عن نافع: بكسر الهاء من غير صلة، واختلف عن أبي جعفر وهشام، وقرأ الباقون، وهم ابن كثير، وابن عامر، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، وورش عن نافع: بصلتها، واختلف عن هشام (١).
* * *
﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿أَمْ﴾ أي: بل ﴿لَهُمْ شُرَكَاءُ﴾ والهمزة للتقرير والتقريع،
(١) انظر: "الكشف" لمكي (١/ ٣٤٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٠٥ - ٣٠٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٨٧).
وشركاؤهم شياطينهم ﴿شَرَعُوا لَهُمْ﴾ أي: عملوا شريعة لهم.
﴿مِنَ الدِّينِ﴾ الفاسد، وهو الشرك.
﴿مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ لأنّه سبحانه منزه أن يأذن في عمل الباطل.
﴿وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ﴾ أي: القضاء السابق بتأجيل الجزاء.
﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أي: بين الكافرين والمؤمنين في الدنيا.
﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الآخرة.
* * *
﴿تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿تَرَى الظَّالِمِينَ﴾ المشركين يوم القيامة ﴿مُشْفِقِينَ﴾ وَجِلين.
﴿مِمَّا كَسَبُوا﴾ من السيئات ﴿وَهُوَ﴾ أي: جزاء كسبهم ﴿وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ أشفقوا، أو لم يشفقوا. قرأ أبو عمرو (وَهُو وَّاقعٌ) بإدغام الواو في الواو (١).
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ﴾ أي: أطيب بقاعها، وهي المواضع المؤنقة، وهي مرتفعة في الأغلب، وهي الممدوحة عند العرب وغيرهم.
﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ﴾ أي: ما يشتهون ثابتٌ لهم ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ الّذي يصغُر دونه ما لغيرهم في الدنيا.
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٤٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٨٨).
﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿ذَلِكَ﴾ المعَدُّ لهم في الجنة ﴿الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ﴾ به.
﴿عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: (يَبْشُرُ) بفتح الياء وإسكان الباء وضم الشين مخففة؛ من بَشَرَ، وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين مشددة (١)؛ من بَشَّرَ، وهما لغتان بمعنى البشارة.
﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ أي: على تبليغ الرسالة ﴿أَجْرًا﴾ نفعًا منكم.
﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ استثناء منقطع، معناه: لكن أسألكم أن تودوا قرابتي التي هي قرابتكم، قال ابن عباس: "لم يكنْ بطنٌ من قريش إلا له فيهم قرابة" (٢).
روي أنها لما نزلت، قيل: يا رسول الله! من قرابتك من هؤلاء؟ قال: "عليٌّ وفاطمةُ وابناها" (٣)، وقيل: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس (٤).
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٥)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٨٨ - ٨٩).
(٢) رواه البخاري (٤٥٤١)، كتاب: التفسير، باب قوله: ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
(٣) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (١٢٢٥٩) عن ابن عباس، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٧/ ١٠٣): فيه جماعة ضعفاء وقد ثقوا كلهم، وضعفهم جماعة، وبقية رجاله ثقات.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٨١).
﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً﴾ يكسِبْ طاعة ﴿نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾ بتضعيفها.
﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ ساترٌ ذنوبَ (١) عبيده ﴿شَكُورٌ﴾ مجازٍ على الدقيقة من الخير، لا يضيع عنده لعامل عمل.
...
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿أَمْ﴾ أي: بل ﴿يَقُولُونَ﴾ كفار مكة: ﴿افْتَرَى﴾ محمد.
﴿عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ بنسبته القرآن إلى الله ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ أي: ينسيك القرآن، والمراد: الرد على مقالة الكفار، وبيان إبطالها، وذلك كأنه يقول: وكيف يصح أن تكون مفتريًا، وأنت من الله بمرأى ومسمع، ولو شاء الله أن يختم على قلبك، فلا تعقل ولا تنطق، ولا يستمر افتراؤك؟! فمقصد اللفظ هذا المعنى، وحذف ما يدل عليه الظاهر اختصارًا واقتصارًا، وهذا التأويل تهديد لهم، وقيل: المعنى: يختم على قلبك بالصبر، فلا تتأذى منهم، وهذا التأويل تسلية له - ﷺ -.
قال ابن عطية (٢): هذا التأويل لا يتضمن الرد على مقالتهم.
﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ وهو الكفر، فعل مستقبل خبر من الله تعالى أنه يمحو الباطل ولا بد، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، وكتبت (يَمْحُ) في المصحف بحاء مرسلة، كما كتبوا ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ﴾ [الإسراء: ١١] إلى غير ذلك مما ذهبوا
(١) في "ت": "عيوب".
(٢) في "المحرر الوجيز" (٥/ ٣٥).
فيه إلى الحذف والاختصار نظرًا إلى اللفظ وحملًا للوقف على الوصل.
﴿وَيُحِقُّ الْحَقَّ﴾ يُثبت الإسلام.
﴿بِكَلِمَاتِهِ﴾ بوحيه وقضائه، وقد فعل الله تعالى ذلك، فمحا باطلهم، وأعلى كلمة الإسلام.
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بما تضمره القلوب، فيجازي كلًّا بعمله.
...
﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٢٥)﴾.
[٢٥] قال ابن عباس: لما نزل ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ ووقع في قلوب قوم منها شيء، وقالوا: يريد أن يحثنا على أقاربه من بعده، فنزل جبريل، فأخبره أنهم اتهموه، وأنزل هذه الآية، فقال القوم: يا رسول الله! فإنا (١) نشهد أنك صادق، فنزل: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ﴾ (٢) أي: من ﴿عِبَادِهِ﴾ يريد: أولياءه وأهل طاعته، والتوبة: الرجوع عن الذنب ندمًا، والعزم ألَّا يعود إليه أبدًا ﴿وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ إذا تيب منها، فيمحوها ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (تَفْعَلُونَ) بالخطاب؛ لأنه خطاب للمشركين، وقرأ الباقون: بالغيب (٣)؛ لأنه بين خبرين عن قوم.
(١) "فإنا" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٨٢)، و"تفسير القرطبي" (١٦/ ٢٦).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٨٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٥)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٨٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٩٠).
﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (٢٦)﴾.
[٢٦] فقال قبله: ﴿عَنْ عِبَادِهِ﴾، وبعده: ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي: يجيب تعالى دعاء المؤمنين الصالحين إذا دعوه.
﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ زيادة على ثواب عملهم؛ تفضلًا منه.
﴿وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضل.
...
﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ﴾ قال خباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع، فتمنيناها، فأنزل الله الآية (١). والبغي: الطغيان والعتو في الأرض ﴿وَلَكِنْ يُنَزِّلُ﴾ من الأرزاق.
﴿بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ﴾ مصلحة لعباده.
﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ يعلم ما ظهر من أمرهم وما بطن. قرأ الكوفيون، ونافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (يُنَزِّلُ) بفتح النون وتشديد الزاي، والباقون وهم ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (يُنْزِلُ) بإسكان النون وتخفيف الزاي (٢)، واختلافهم في الهمزتين من (يَشَاءُ إِنَّهُ) كاختلافهم
(١) انظر: "الكشاف" للزمخشري (٤/ ٢٢٨)، و"تفسير الرازي" (٢٧/ ١٤٧).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٧٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =
فيهما من (مَنْ نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّىَ) في سورة الحج [الآية: ٥].
في الحديث: عن النبي - ﷺ -، عن جبريل، عن الله سبحانه: "وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه [إلا الفقر، ولو أغنيته، لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه] (١) إلا الغنى، ولو أفقرته، لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمته، لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو أصححته، لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم، إني عليم خبير" (٢).
...
﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ المطر. قرأ نافع، وأبو جعفر، وعاصم، وابن عامر: (يُنَزِّلُ) بالتشديد كما تقدم، والباقون: بالتخفيف.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا﴾ أيسوا منه، روي أن الله حبس المطر على أهل مكة سبع سنين حتى قنطوا، ثم أنزل الله المطر، فذكَّرهم تعالى نعمتَه.
= (٢/ ٢١٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٩٠).
(١) ما بين معكوفتين سقط من "ت".
(٢) رواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء" (ص: ٩)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (٨/ ٣١٨)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٤١/ ٢٨٥)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وإسناده ضعيف. وانظر: "العلل المتناهية" لابن الجوزي (١/ ٤٥).
﴿وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ﴾ وهي الشمس، فذلك تعديد نعمة غير الأولى (١)، وذلك أن المطر إذا جاء بعد القنط، حسن موقعه، فإذا دام، سئم، فتجيء الشمس بعده عظيمة المواقع.
﴿وَهُوَ الْوَلِيُّ﴾ لأهل طاعته ﴿الْحَمِيدُ﴾ المستحق للحمد على كل حال.
...
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ﴾ أي: فَرَّقَ.
﴿فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ﴾ أي: وقت يشاء.
﴿قَدِيرٌ﴾ متمكن منه، والمراد: يوم القيامة عند الحشر من القبور.
...
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ بلية وشدة.
﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ فبسبب معاصيكم. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (بِمَا كَسَبَتْ) بغير فاء قبل الباء، وكذلك هي في مصاحف المدينة والشام، وقرأ الباقون: بالفاء، وكذلك هي في مصاحفهم (٢)، فالقراءة
(١) "غير الأولى" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٥)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٨٥)، و"النشر في =
بالفاء جواب ما قبل؛ لأنها شرطية محلها رفع ابتداء، ومن حذف الفاء، جعل ما في أول الآية مبتدأ، و (بِمَا كَسَبَتْ) خبرها.
قال - ﷺ -: " ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ﴾ من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا، ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾، والله أكرم من أن يُثَنِّيَ عليكم العقوبة في الآخرة" (١) ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ من الذنوب، فلا يعاقب عليها. قال - ﷺ -: "والذي نفسي بيده! ما من خَدْشٍ، ولا عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر" (٢).
...
﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ بفائتين ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ هربًا حيثما كنتم.
﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ يدفع عنكم المصائب.
= القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٩١).
(١) رواه أحمد في "المسند" (١/ ٨٥)، وأبو يعلى الموصلي في "المسند" (٤٥٣). قال الهيثمي في "المجمع" (٧/ ١٠٤): فيه أزهر بن راشد، وهو ضعيف.
(٢) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" (٣/ ١٩٢)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (٨/ ٥٥٨)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (١٠/ ٣٢٧٨).
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ﴾ السفن. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (الْجَوَارِي) بإثبات الياء وصلًا، وقرأ ابن كثير، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين، وأمال فتحة الواو حيث وقع: الدوري عن الكسائي (١).
﴿فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾ أي: كالجبال، وكل مرتفع عَلَم.
...
﴿إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿إِنْ يَشَأْ﴾ شرط ﴿يُسْكِنِ الرِّيحَ﴾ جوابه، وتعطف عليه ﴿فَيَظْلَلْنَ﴾ أي: السفن ﴿رَوَاكِدَ﴾ سواكنَ ﴿عَلَى ظَهْرِهِ﴾ أي: ظهر البحر.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أي: لكل مؤمن؛ لأن من صفته الصبر في الشدة، والشكر في الرخاء. قرأ نافع، وأبو جعفر:
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٨١)، و "التيسير" للداني (ص: ١٩٥)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٨)، وَقَرأَها الكسائي (الجوري) بالإمالة في "الكشف" لمكي (١/ ١٧١)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٩١ - ٩٢).
(الرِّيَاحَ) بفتح الياء وألف بعدها على الجمع، والباقون: بإسكان الياء وحذف الألف على الإفراد (١).
...
﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤)﴾.
[٣٤] وتعطف على الجواب ﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ﴾ يهلِكْهن بالغرق.
﴿بِمَا كَسَبُوا﴾ من الذنوب، وتعطف على (يوبقهن).
﴿وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ﴾ منها.
...
﴿وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ تكذيبًا. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (وَيَعْلَمُ) برفع الميم [على الاستئناف، وقرأ الباقون: بنصبها عطفًا على تعليل محذوف (٢)، تقديره: لينتقم منهم] (٣)، وليعلم.
﴿مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ مهرب.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٧٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٩٢).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٧٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٩٢).
(٣) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ شرط، جوابه:
﴿فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ تتمتعوا به يسيرًا، ثم يزول.
﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ من الثواب ﴿خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ من حطام الدنيا.
﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حين أنفق جميع ماله، وتصدق به، فلامه الناس (١).
...
﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧)﴾.
[٣٧] وعطف على قوله: ﴿خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ﴾ هي الشرك، وقتل النفس، وقذف المحصن، وأكل مال اليتيم، والربا، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، وتقدم الكلام على ذلك في سورة النساء. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (كَبِيرَ) بكسر الباء من غير ألف ولا همزة على التوحيد إرادة الجنس، وقرأ الباقون: بفتح الباء والألف وهمزة مكسورة بعدها على الجمع (٢) ﴿وَالْفَوَاحِشَ﴾ هي موجبات الحدود.
﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ يكظمون الغيظ، ويتجاوزون.
(١) انظر: "تفسير القرطبي" (١٦/ ٢٥).
(٢) المصادر السابقة.
﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ﴾ أجابوه إلى ما دعاهم إليه من طاعته.
﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ الخمس.
﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ أي: يتشاورون فيه، لا ينفرد واحد منهم برأي دون صاحبه.
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ في سبل الخير، فهؤلاء صنف.
...
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ صنف؛ أي: ينتقمون من ظالميهم (١) من غير أن يعتدوا.
...
﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ سمي الجزاء سيئة؛ لتشابههما في الصورة.
﴿فَمَنْ عَفَا﴾ عن ظالمه ﴿وَأَصْلَحَ﴾ الودَّ بينه وبين خصمه بالعفو.
﴿فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ عِدَةٌ مبهمة تدل على عظم الموعود.
(١) "من ظالميهم" ساقطة من "ت".
﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ الذين يبتدئون بالسيئة، أو يتجاوزون في الانتقام.
...
﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ﴾ اقتصَّ ﴿بَعْدَ ظُلْمِهِ﴾ أي: بعد ظلم الظالم إياه.
﴿فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ طعن ولا عيب.
...
﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ تكبرًا.
﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ يعملون فيها بالمعاصي.
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ على ظلمهم وبغيهم.
...
﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ﴾ فلم ينتصر.
﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ منه.
﴿لَمِنْ عَزْمِ﴾ أي: محكم ﴿الْأُمُورِ﴾ ومتينها.
﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ﴾ أي: يخذله.
﴿اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ﴾ يلي هدايته.
﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾ يوم القيامة.
﴿يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ﴾ إلى الدنيا ﴿مِنْ سَبِيلٍ﴾؟
...
﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ على النار ﴿خَاشِعِينَ﴾ خاضعين.
﴿مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ﴾ إليها ﴿مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ ضعيف، يسارقون النظر إلى النار؛ خوفًا منها؛ كنظر المقتول إلى السياف.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا﴾ أي: يخسرون.
﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ بدخول النار ﴿وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي: الحور المعدة لهم في الجنة (١)، لو آمنوا.
﴿أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ﴾ دائم، وهذا تمام كلام المؤمنين، ويحتمل أنه تصديق من الله لهم.
(١) "في الجنة" ساقطة من "ت".
﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ من دون عذابه.
﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ﴾ طريق إلى الهداية.
...
﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ﴾ أجيبوا داعي الله؛ يعني: محمدًا - ﷺ -.
﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ لا يقدر أحد على دفعه، وهو يوم القيامة. قرأ حمزة: (لا مَرَدَّ لَهُ) بالمد بحيث لا يبلغ الإشباع.
﴿مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ﴾ من عذابه ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ﴾ أي: لا تقدرون أن تنكروا شيئًا مما اقترفتموه، تلخيصه: أنتم عجزة معترفون ثَمَّ بذنوبكم.
...
﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا﴾ عن إنذارك يا محمد.
﴿فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ تحفظ أعمالهم ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ ونُسخ هذا بآية السيف ﴿وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ أراد الجنس ﴿مِنَّا رَحْمَةً﴾ نعمة.
﴿فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ بلاء.
﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ﴾ الكافر ﴿كَفُورٌ﴾ يفرح بالنعم، ويكفر بسبب النقم.
...
﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ له التصرف فيهما بما يريد.
﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ من غير لزوم.
﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ لا اعتراض عليه.
قال - ﷺ -: "إنَّ من يُمْنِ المرأة تبكيرَها بالأنثى قبلَ الذكر"، وذلك أن الله تعالى يقول: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ (١) ألا ترى أنه بدأ بالإناث قبل الذكور، وقَدَّم (إناثًا)، ونكرهن، وعرف الذكر؛ لأنه في معرض أنه فعال لما يختار، لا لما يختاره العباد.
قال الكواشي: ويجوز أنهن قُدِّمن توبيخًا لمن كان يَئِدُهن، ونُكِّرْنَ إيماء إلى ضعفهن؛ ليُرْحَمْن، فيُحْسَنَ إليهن، ثم قدم الذكور عليهن بعدُ، مع
(١) رواه الديلمي في "مسند الفردوس" (٨١٨)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٤٧/ ٢٢٥)، من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. وإسناده ضعيف جدًّا، وصرح ابن الجوزي في "الموضوعات" (٢/ ٢٧٦) أنه موضوع. وانظر: "ميزان الاعتدال" للذهبي (٣/ ١٦٢).
جمعهن معهم منكرين؛ إيذانًا أن لا غناء لأحدهما عن الآخر، ولأنهما أصل الخلق، انتهى.
واختلاف القراء في الهمزتين من (يَشَاءُ إِنَاثًا) كاختلافهم فيهما من (يَشَاءُ إِنَّهُ) كما تقدم التنبيه عليه.
...
﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾ يجمع له بينهما، فيولد له الذكور والإناث.
﴿وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا﴾ فلا تلد، ولا يولد له، والعقم في اللغة: المنع.
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ يفعل ما يختار بحكمته.
...
﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)﴾.
[٥١] ولما قال اليهود للنبي - ﷺ -: ألا تكلم الله وتنظر إليه كموسى إن كنت نبيًّا؟ نزل: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ (١) أي: ما صح لأحد.
﴿أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا﴾ أي: إلهامًا.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٨٩ - ٩٠)، و"تفسير القرطبي" (١٦/ ٥٣).
﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ فيسمع صوتًا، ولا يرى شخصًا ﴿أَوْ يُرْسِلَ﴾ تعالى ﴿رَسُولًا﴾ إما جبريل، أو غيره ﴿فَيُوحِيَ﴾ تعالى إلى ذلك الرسول ﴿بِإِذْنِهِ﴾ باختياره تعالى.
﴿مَا يَشَاءُ﴾ من الوحي، فيكلم ذلك الرسول بالموحَى إليه الرسلَ؛ بأن يلقيه عليهم.
﴿إِنَّهُ عَلِيٌّ﴾ عن صفات المخلوقين ﴿حَكِيمٌ﴾ في صنعه. قرأ نافع (أَوْ يُرْسِلُ) برفع اللام على الاستئناف (فَيُوحِي) بإسكان الياء عطف على (يُرْسِلُ)؛ أي: ما جاز أن يفهم ما عنده تعالى أحد من البشر إلا من هذه الأوجه الثلاثة، أو بعضها، مع عدم الرؤية. وقرأ الباقون: بنصب اللام والياء عطفًا على محل (وَحْيًا) (١)؛ لأنه بتأويل المصدر فـ (مِنْ) في (مِنْ وَرَاءِ) متعلقة بمحذوف تقديره: إلا أن يوحي، أو أن يُسمع من وراء حجاب، أو أن يرسل، و (فيوحي) عطف على (يُرْسل)، وتقدم التنبيه على اختلافهم في الهمزتين من (يَشَاءُ إِنَّهُ) في الحرف المتقدم.
...
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: ومثل إيحائنا إلى الرسل.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٨٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٥)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٩٦).
﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ أي: نبوة؛ لأن الموحى إليه للدين كالروح للجسد.
﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي﴾ قبل الوحي ﴿مَا الْكِتَابُ﴾ أي: القرآنُ.
﴿وَلَا الْإِيمَانُ﴾ يعني: شرائعه ومعالمه، والأنبياء كانوا مؤمنين قبل الوحي، وكان محمد - ﷺ - يعبد على دين إبراهيم -عليه السلام-، وقيل: غيره.
في الحديث: أنه - ﷺ - كان يوحِّدُ، ويُبغض اللات والعزى، ويحج ويعتمر، ويتبع شريعة إبراهيم، وتقدم ذكر الخلاف في ذلك، وما كان يتعبد به قبل البعثة عند تفسير قوله: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ﴾ [الآية: ١٣].
﴿وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ﴾ أي: القرآنَ ﴿نُورًا نَهْدِي بِهِ﴾ أي: نُرشد.
﴿مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ بالتوفيق للقبول.
﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي﴾ لتدعو ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ دينِ الإسلام.
...
﴿صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)﴾.
[٥٣] وتبدل من (مُسْتَقِيمٍ) ﴿صِرَاطِ اللَّهِ﴾ أي: شرعِ الله ورحمتِه وجنته.
﴿الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ملكًا وخلقًا.
202
﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ أمور جميع الخلائق في الآخرة، وهي صائرة على الدوام إلى الله تعالى، وفيه وعد ووعيد للمطيعين والمجرمين، والله أعلم.
203
Icon