ﰡ
عليك ايها السالك المترقب لشهود الحق من ذرائر عموم المجالى والمظاهر الظاهرة في الأنفس والآفاق ان تصفى سرك وضميرك أولا من وساوس مطلق الأوهام والخيالات العائقة عن التوجه الى صرافة الوحدة الذاتية وتخلى خلدك عن مطلق الإضافات الصارفة عن ذلك بان تكون في نفسك متوجها الى ربك الذي هو عبارة عن حصة لاهوتك ونشأة جبروتك خاليا عنك وعن لوازم ناسوتك وعوارض بشريتك بالمرة بحيث لا شعور لك بما جرى على هويتك أصلا وبالجملة كن فانيا في الله باقيا ببقائه ناظرا بنوره الى وجهه الكريم تفز بنعيم الجنات وعظيم اللذات مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
[سورة الشورى]
فاتحة سورة الشورى
لا يخفى عليك وعلى من تحقق بمرتبة التوحيد وتمكن عليها بلا تردد وتلون ان عموم مراتب الأنبياء والرسل ومشارب الأولياء التابعين لهم المقتفين أثرهم انما هي على صرافة الوحدة الذاتية المسقطة لعموم الكثرات والإضافات وان ما انزل الله على سبيل الوحى والإلهام من الكتب والصحف انما هو لبيان الطرق الموصلة إليها ولهذا نبه سبحانه حبيبه على طريق توحيده بعد ما خاطبه متيمنا باسمه العظيم بِسْمِ اللَّهِ الذي به ظهر على ما ظهر وبطن بصرافة وحدته الذاتية المحيطة بالكل الرَّحْمنِ على عموم الكائنات بافاضة الوجود الذي هو منشأ جميع الكمالات الرَّحِيمِ على خواصها وخلاصتها بالإيصال الى منبع ماء الحياة الذي هو وحدة الذات المسقطة لمطلق الإضافات
[الآيات]
حم
عسق يا حامل وحى الله وما حي الوجود عن غيره وعالم سرائر قدره وعارف سر سريان وحدته الذاتية على قلوب خلص عباده من الأنبياء والأولياء
كَذلِكَ اى مثل ما ذكر في هذه السورة من سرائر التوحيد والأخلاق المرضية يُوحِي إِلَيْكَ يا أكمل الرسل في كتابك هذا وَكذا إِلَى الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِكَ من الأنبياء والرسل في كتبهم وصحفهم اللَّهُ المتوحد بذاته المحيط بعموم مظاهره ومصنوعاته المستقل بأمر الإرسال والإنزال والوحى والإلهام الْعَزِيزُ الغالب في امره وشأنه الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله وتدبيراته الجارية في ملكه وملكوته إذ
لَهُ مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وتصرفا إيجادا واعداما إبداء واعادة وَبالجملة هُوَ الْعَلِيُّ المستقل بالعلو في مطلق ملكه وملكوته الْعَظِيمُ في شأنه وامره لا عظمة ولا علو الا له ولا حول ولا قوة الا به ولا حكم ولا حكمة الا منه ومن كمال عزته وعظمته
تَكادُ السَّماواتُ السبع يَتَفَطَّرْنَ بالياء التحتاني والتاء الفوقاني او بالياء التحتاني والنون معناه على كلتا القرائتين يتشققن مِنْ فَوْقِهِنَّ اى من فوق السموات ومن فوق الأرضين السبع من كمال خشية الله ورهبته خوفا من تجليه عليهن باسمه القهار المفنى لعموم الأغيار مطلقا وَالْمَلائِكَةُ ايضا من خشيتهم عن قهر الله وغضبه يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ تعديدا لنعمه المتوالية المترادفة إليهم مع اضافة الشعور والإدراك وأداء لحقوق ربوبيته ومقتضيات ألوهيته وشكرا على إعطاء التمكن والاقتدار على مواظبة عبوديته ومشاهدة آثار سلطنته وعظمته وَيَسْتَغْفِرُونَ ايضا باذنه وبمقتضى امره لِمَنْ فِي الْأَرْضِ من خلص عباده الموحدين المجبولين على صورته المجعولين
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ سبحانه أَوْلِياءَ يوالونهم كولايته سبحانه ويتوجهون نحوهم مثل توجهه لا تلتفت يا أكمل الرسل إليهم ولا تبال بشأنهم إذ اللَّهُ المحيط بذواتهم وأفعالهم وصفاتهم حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ عليم بأعمالهم ونياتهم فيحاسبهم عليها ويجازيهم بمقتضاها وَبالجملة ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ كفيل تخلصهم عن مفاسد أعمالهم ومقابح أفعالهم بل ما أنت الا مبلغ ونذير وبعد ما بلغت وأنذرت لم يبق من أمرك شيء
وَكَذلِكَ اى مثل ما أوحينا وأنزلنا الى من قبلك من الأنبياء والرسل كتبا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل ايضا قُرْآناً عَرَبِيًّا نظما وأسلوبا لِتُنْذِرَ بانذاراته أُمَّ الْقُرى يعنى اهل مكة شرفها الله وَمَنْ حَوْلَها من أقطارها وانحائها كما انذر الأنبياء الماضون اقوامهم عن مطلق الأمور المنافية لسلوك طريق التوحيد وسبيل الهداية والرشد وَتُنْذِرَ خاصة عن الأهوال والأحزان الحاصلة لهم يَوْمَ الْجَمْعِ والحشر والاجتماع على المحشر والموقف بين يدي الله الذي لا رَيْبَ فِيهِ اى في إتيانه ووقوعه وبعد ما اجتمعوا فيه حيارى وسكارى تائهين هائمين يساقون بعد ما يحاسبون نحو الجنة والنار فَرِيقٌ منهم فِي الْجَنَّةِ مسرورون مقبولون وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ محزونون مطرودون
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الهادي لعباده وأراد هدايتهم جميعا لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً مقتصدة معتدلة على مقتضى صرافة الوحدة الذاتية واعتدالها الحقيقي وَلكِنْ راعى سبحانه مقتضيات أوصافه وأسمائه المتقابلة وشئونه المتخالفة لذلك يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ويوصله الى فضاء وحدته حسب جوده وحكمته عناية منه وفضلا وولاية لهم ونصرا وَالظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى العناية الإلهية وولايته حسب قهره وانتقامه إياهم إظهارا لكمال قدرته ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ يواليهم ويشفع لهم عنده سبحانه وَلا نَصِيرٍ ينقذهم من عذابه فظهر ان لا ولاية ولا نصرة الا لله ولا غالب الا هو وان زعموا آلهة سواه
أَمِ اتَّخَذُوا بل أخذوا واثبتوا مِنْ دُونِهِ سبحانه أَوْلِياءَ واعتقدوهم شركاء له سبحانه او شفعاء لهم عنده سبحانه فانه لا تنفعهم موالاتهم واتخاذهم هذا بل تضرهم وتغويهم فَاللَّهُ المستقل بالالوهية والربوبية هُوَ الْوَلِيُّ المقصور على الولاية لأولى في الوجود سواه وَهُوَ بكمال قدرته يُحْيِ الْمَوْتى ويميت الأحياء بالإرادة والاختيار لا فاعل في الوجود الا هو وَبالجملة هُوَ باستقلاله واختياره عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته قَدِيرٌ بلا فتور وقصور
وَبعد ما ثبت ان الولاية المطلقة والقدرة المحققة ثابتة لله منحصرة له لا فاعل في الوجود سواه فاعلموا ايها المكلفون بسلوك طريق الحق وتوحيده ان مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ اى من شعائر الدين ومعالم التوحيد واليقين واختلافكم فيه انه هل هو مفيد لكم في سلوككم أم مفسد فَحُكْمُهُ مفوض إِلَى اللَّهِ وامره موكول الى كتبه ورسله فعليكم التعبد والامتثال بما أمرتم به ونهيتهم عنه على ألسنة الكتب والرسل إذ لا مدبر لأموركم سواه ولا متصرف في الوجود الا هو ذلِكُمُ اللَّهُ الذي سمعتم نبذا من وصفه واستقلاله في ملكه وملكوته رَبِّي وربكم فاعبدوه حق عبادته وفوضوا أموركم كلها اليه وان خوفتمونى بغيره مع انه لا غير في الوجود معه فانا عَلَيْهِ
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مظهرهما وموجدهما من كتم العدم ومدبر ما يتكون بينهما من الطبائع والهيولى وصور المواليد والأركان ومن جملة تدبيراته سبحانه انه جَعَلَ وخلق لَكُمْ ايها المجبولون على فطرة التوحيد إبقاء لتناسلكم وتوالدكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ ومن بنى نوعكم أَزْواجاً من جنسكم وصنفكم وجعل بينكم مودة ورحمة إبقاء لنسلكم وَمِنَ الْأَنْعامِ ايضا أَزْواجاً تربية لكم وتتميما لمعاشكم وبالجملة يَذْرَؤُكُمْ يبثكم ويكثركم فِيهِ اى في عالم الظهور ونشأة الشهادة بهذا التدبير البديع كل ذلك لتعلموا وتعرفوا يقينا انه لَيْسَ كَمِثْلِهِ اى ليس مثله سبحانه شَيْءٌ يناسبه في الوجود ويماثله في التحقق والثبوت والمراد بالمثل المنفي هو ذاته اى لا يماثله ذاته فكيف غيره مثل قولهم مثلك لا يبخل بمعنى أنت لا تبخل والمراد به نفى التعدد عنه سبحانه مطلقا على سبيل المبالغة والتأكيد فثبت حينئذ ان لا موجود سواه ولا تحقق لغيره وَمتى ثبت هذا ظهر انه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ اى هو بذاته المنحصر على صفتي السمع والبصر وجميع الأوصاف الذاتية الكاملة الشاملة آثارها في عالمي الغيب والشهادة ونشأتى الاولى والاخرى إذ
لَهُ لا لغيره من الوسائل والأسباب العادية الظاهرة في اظلال المظاهر والمجالى مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مفاتيح خزائن العلويات من الأسماء والصفات وكذا مفاتيح السفليات من مظاهر الطبائع ومرايا الاعدام القابلة لانعكاس اشعة شمس الذات من مشكاة الأسماء والصفات إذ هو بذاته يَبْسُطُ ويفيض الرِّزْقَ الصوري والمعنوي لِمَنْ يَشاءُ من ظلاله وعكوسه وَيَقْدِرُ يقبض عن من يشاء منهم وبالجملة إِنَّهُ سبحانه بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته بِكُلِّ شَيْءٍ دخل تحت ظل وجوده حسب فضله وجوده عَلِيمٌ بعلمه الحضوري لا يعزب عن حضوره شيء مما ظهر وبطن وغاب وشهد ومن كمال توحده واستقلاله في تدبير ملكه وملكوته وحيطة علمه وشمول قدرته
شَرَعَ لَكُمْ اى قد قضى ووضع لكم ايها الاظلال المنهمكون في بحر الحيرة والضلال مِنَ الدِّينِ القويم والطريق المستقيم الموصل الى توحيده ما وَصَّى بِهِ نُوحاً اى دينا قد شرعه ووضعه سبحانه على نوح إذ هو أول من ظهر على نشأة التدين والتشرع في طريق التوحيد ألا وهو توحيد الأفعال وَهذا الدين الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل هو الدين الموصل الى توحيد الذات لذلك ختم ببعثك امر الرسالة والتشريع وبعد ما عين سبحانه مبدأ التوحيد ومنتهاه أشار الى ما بينهما من المراتب فقال وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى اى الأديان التي قد وضعناها على هؤلاء المشاهير وغيرهم من جماهير الأنبياء والرسل المتشرعين هي الأديان الموصلة الى توحيد الصفات وبالجملة قد وصينا لعموم ذوى الأديان أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ المنزل إليهم واستقيموا في الإطاعة والامتثال بأوامر الأديان ونواهيها وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ اى لا تختلفوا في اصل الدين الذي هو التوحيد الإلهي بحال وان كانت الطرق والمناهيج نحوه مختلفة باختلاف ذوى المراتب المترتبة بحسب اختلافاتهم في شئون الحق وتجلياته فلك يا أكمل الرسل ان تدعو الناس الى توحيد الذات المتضمن المستلزم لتوحيد الصفات والأفعال وان كان كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ اى قد شق وعظم عليهم ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اى دعوتك إياهم الى التوحيد الذاتي
وَبعد ما ثبت ان اصل الأديان كلها هو التوحيد وان الأنبياء والرسل انما جاءوا بأجمعهم لإظهاره وتبيينه وإعلاء كلمته ظهر ان الأمم الهالكة ما تَفَرَّقُوا وما اختلفوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً واقعا بَيْنَهُمْ عدوانا وظلما اعراضا عن الحق واهله وبالجملة ما ظهر بينهم ما ظهر من العداوة والبغضاء الا على سبيل المراء والافتراء وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وهي امهال انتقامهم وتأخيره إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وحكم عليهم حين اختلافهم ويوم تفرقهم فاستوصلوا فيه بالمرة حتما وَإِنَّ المختلفين المتفرقين الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ المنزل على أسلافهم مِنْ بَعْدِهِمْ اى من بعد انقراض أسلافهم لَفِي شَكٍّ مِنْهُ اى من الكتاب أمثال أولئك الاسلاف الضلال مُرِيبٍ موقع لهم في الريب والضلال لذلك اختلفوا معك يا أكمل الرسل وأنكروا على دينك وكتابك ولو كان لهم علم بكتابهم ما ظهروا عليك وما طعنوا في دينك وكتابك إذ الايمان والتصديق بكتاب من كتب الله ودين من اديانه ورسول من رسله يوجب الايمان بجميع الكتب والرسل والأديان بناء على الأصل الذي سمعت من التوحيد
فَلِذلِكَ الأصل الذي هو التوحيد الذاتي المسقط لعموم الاختلافات والإضافات فَادْعُ أنت يا أكمل الرسل من تدعوه من المجبولين على فطرة التوحيد والإسلام وَاسْتَقِمْ أنت في نفسك على جادة التوحيد كَما أُمِرْتَ من قبل ربك وثبت اقدام عزمك عليها معتدلا حنيفا مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ اى اهوية اصحاب الخلاف والاختلاف الضالين المترددين في اودية الجهالات واغوار الأوهام والخيالات المنافية لصفاء فضاء التوحيد وَقُلْ يا أكمل الرسل بعد ما قد صفا سرك وخلا خلدك عن مطلق الأوساخ والاكدار الموجبة للاختلاف والخلاف آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ اى بجميع ما انزل الله مِنْ كِتابٍ مبين موضح لطريق الحق وتوحيده وَقل بعد ذلك ايضا إظهارا لدعوتك إياهم أُمِرْتَ من قبل ربي لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ وأبين لكم طريق العدالة الإلهية حسب وحى الله والهامه إياي وبالجملة أنا مأمور من عنده بتبليغه وتبيينه إياكم لتربيتكم وتكميلكم إذ اللَّهُ المدبر لأمور عموم عباده رَبُّنا الذي ربانا لمصلحة الإرشاد والتكميل وَرَبُّكُمْ أراد ان يربيكم بالهداية والرشد وان لم نكن نحن معاشر الرسل والأنبياء مأمورين من عنده سبحانه لإصلاحكم وإرشادكم ما لنا معكم إذ لَنا أَعْمالُنا اى جزاء صالحها وفاسدها وَلَكُمْ ايضا أَعْمالُكُمْ كذلك إذ كل منا ومنكم مجزىّ بما كسب وعمل لا حُجَّةَ اى لا غلبة ولا خصومة بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ بعد ما بلغناكم ما أمرنا بتبليغه وأوضحنا لكم سبيل الحق وصراطه السوى وبالجملة اللَّهُ اى الذات الجامع المستجمع لجميع الأسماء والصفات يَجْمَعُ بَيْنَنا وبينكم ان تعلق مشيته بجمعنا وَكيف لا يجمع بيننا سبحانه إذ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ اى رجوع الكل نحوه كما ان صدوره منه سبحانه
وَبعد وضوح محجة الحق ومنهج المعرفة واليقين الَّذِينَ يُحَاجُّونَ يجادلون ويخاصمون متشبثين بأذيال المجادلات والمغالطات الواهية
اللَّهُ المدبر المصلح لأمور عباده الَّذِي أَنْزَلَ لإصلاحهم وإرشادهم الْكِتابَ اى جنس الكتاب النازل من عنده لتبيين مناهيج توحيده كلها ملتبسة بِالْحَقِّ الصريح المعرى عن الباطل الزاهق الزائل مطلقا وَانزل ايضا على طبق الكتاب موافقا له الْمِيزانَ اى جنس الاحكام والشرائع والأديان التي توزن بها اعمال الأنام وإخلاصهم فيها وثباتهم بها على جادة التوحيد ومنهج الإسلام فعليك يا أكمل الرسل وعلى من تبعك في عموم الأحوال والأوقات وجميع الحالات والمقامات امتثال عموم ما امر ونهى من احكام كتابك وان تزن أنت ومن معك أعمالكم وأخلاقكم وأحوالكم واطواركم كلها بميزان الشرع القويم والدين المستقيم وَبالجملة ما يُدْرِيكَ وما يعلمك ايها المجبول على فطرة الدراية والشعور لَعَلَّ السَّاعَةَ الموعودة التي قد تعذر دونها التدارك والتلافي قَرِيبٌ إتيانها وقيامها وعند قيامها تتندمون وما ينفعكم الندم حينئذ وان كان
يَسْتَعْجِلُ بِهَا وبقيامها استهزاء ومراء المنكرون الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ولا يصدقون بِهَا عنادا ومكابرة ويزعمون انه لا يلحقهم ما يوعدون فيها من العذاب الروحاني والجسماني وَالمؤمنون الَّذِينَ آمَنُوا بها وبعموم ما فيها من المواعيد والوعيدات الهائلة هم مُشْفِقُونَ خائفون مِنْها ومن إلمامها بغتة قبل تهيئة الزاد والاعداد وَذلك انهم يَعْلَمُونَ يقينا أَنَّهَا الْحَقُّ المحقق إتيانها وقيامها بلا مرية وريب أَلا تنبهوا ايها المؤمنون بكمال قدرة الله ووفور حكمته إِنَّ المسرفين الَّذِينَ يُمارُونَ ويشكون فِي قيام السَّاعَةِ الموعود إتيانها من قبل الحق مراء ومجادلة لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ بمراحل عن الهداية الموصلة الى مقر التوحيد إذ هم محجوبون بالأغشية الكثيفة الامكانية والاغطية الغليظة الهيولانية عن سريان الهوية الإلهية في عموم الهويات الغيبية والشهادية عن تجلياتها اللطفية والقهرية والجمالية والجلالية على مطلق المظاهر والمجالى حضورا وشهودا مع انه
اللَّهُ المنزه ذاته عن سمة الحدوث والإمكان المقدس أسماؤه وصفاته عن وصمة العيب والنقصان لَطِيفٌ بِعِبادِهِ الخلص من رق الأكوان بحيث يصير سمعهم وبصرهم وعموم قواهم وآلاتهم الى حيث أفناهم في ذاته وأبقاهم ببقائه يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ منهم بالرزق المعنوي الموصل الى مبدئهم ومعادهم ترحما عليهم وتلطفا معهم وَكيف لا إذ هُوَ الْقَوِيُّ القادر القدير المقتدر على عموم مقدوراته الصادرة منه بمقتضى حكمته الْعَزِيزُ الغالب على مطلق مراداته الجارية منه حسب اختياره. ثم لما أشار سبحانه الى كمال تنزهه وتقدس ذاته عن وصمة النقصان مطلقا والى كمال ترحمه وتلطفه مع خلص عباده قال
مَنْ كانَ منهم يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ اى يزرع في النشأة الاولى بذور الأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة ليحصد ما يترتب عليها من المثوبات والكرامات في النشأة الاخرى نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ونضاعف ثوابها لأجله ونعطه من اللذات الروحانية ما لا مزيد عليه تفضلا منا عليه وتكريما له وَمَنْ كانَ
تَرَى الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية عدوانا وظلما مُشْفِقِينَ خائفين مرعوبين مِمَّا كَسَبُوا اى من لحقوق وبال ما اكتسبوا من المعاصي والآثام وَالحال انه هُوَ واقِعٌ بِهِمْ لاحق لهم وما ينفعهم الإشفاق وعدمه لانقضاء نشأة التدارك وزمان التلافي. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية المستمرة وَترى ايضا ايها المعتبر الرائي المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق حين أخبرهم الرسل ودعاهم اليه حسب استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية وَمع ايمانهم بالله قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ اى قد أكدوا ايمانهم وتوحيدهم الذاتي بصوالح الأعمال والأخلاق ليدل ايضا على توحيد الصفات والأفعال هم في النشأة الاخرى لكمال اطاعتهم وانقيادهم متنعمون فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ اى متنزهات اليقين العلمي والعيني والحقي ولهذا قد حصل وحضر لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من اللذات المتجددة والفيوضات المترادفة وانواع الفتوحات والكرامات عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي أوصلهم الى كنف قربه وجواره وبالجملة ذلِكَ الفضل الذي أعد لأرباب العناية والتوحيد هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ والفوز العظيم الذي يستحقر دونه عموم اللذات والكرامات وبالجملة
ذلِكَ المذكور من الفوز والفضل هو الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ المنعم المفضل به عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة ذاته وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المفضية الموصلة لهم الى توحيد الأفعال والصفات قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما بينت لهم طريق الهداية والضلال وبلغت ما يوحى إليك للإرشاد والتكميل إياهم لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على تبليغى وتبشيرى إياكم أَجْراً جعلا منكم ونفعا دنيويا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى اى ما اطلب منكم نفعا دنيويا بل ما اطلب منكم الا محبة اهل بيتي ومودتهم ليدوم لكم طريق الاستفادة والاسترشاد منهم إذ هم مجبولون على فطرة التوحيد الذاتي وفطنة المعرفة الذاتية مثلي روى انها لما نزلت قيل يا رسول الله من قرابتك قال على وفاطمة وابناهما وكفاك شاهدا على ذلك ظهور الائمة الذين هم من أكابر اولى العزائم في طريق الحق وتوحيده صلوات الله وسلامه على أسلافهم
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى محمد عليه الصلاة والسلام عَلَى اللَّهِ كَذِباً واختلق آيات مفتريات ترويجا لمدعاه وما قولهم هذا وزعمهم بك يا أكمل الرسل وأمثاله إلا قول باطل وزعم زاهق زائغ زائل فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ الغنى بذاته عن عموم مظاهره ومصنوعاته يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ كما ختم على قلوبهم ويضلك عن طريق توحيده كما أضلهم وَكذلك ان يشاء الله العليم الحكيم يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ لو تعلق مشيته وَيُحِقُّ ويثبت الْحَقَّ الحقيق بالاطاعة والاتباع بِكَلِماتِهِ التي هي آيات القرآن بلا سفارتك ورسالتك وبالجملة إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بعلمه الحضوري بِذاتِ الصُّدُورِ فيظهر عليهم ومن أفواههم ما هو مكنون في صدورهم وضمائرهم ويجازيهم بمقتضاه
وَكيف لا يعلم سبحانه مكونات صدورهم مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ الصادرة عن محض الندم والإخلاص اللذين هما من افعال القلوب عَنْ عِبادِهِ المسترجعين نحوه بكمال الخشية والخضوع وَبعد قبول التوبة عنهم يَعْفُوا ويتجاوز عَنْ مطلق السَّيِّئاتِ الصادرة عنهم على سبيل الغفلة وَبالجملة يَعْلَمُ منكم سبحانه عموم ما تَفْعَلُونَ بظواهركم وبواطنكم على التفصيل بلا شذوذ شيء وفوت دقيقة ولا شك انكم لا تعلمونه كذلك
وَيَسْتَجِيبُ اى يجيب ويقبل توبة المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ترحما وإشفاقا بعد ما رجعوا نحوه تائبين نادمين عما فعلوا وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بدل إخلاصهم واستحيائهم منه سبحانه من الكرامات ما لا يكتنه وصفه وَالْكافِرُونَ الساترون بأباطيل هوياتهم وما صدر منها من الجرائم والآثام شمس الحق الحقيق بالكشف والظهور لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ حين رجعوا الى الله وحشروا نحوه مهانين صاغرين وبالجملة كفر عموم الكفرة واستكبارهم وضلالهم انما نشأ من كفرانهم بنعم الله وطغيانهم لأجلها على الله وعلى خلص عباده كما أشار اليه سبحانه بقوله
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ الصوري المستجلب المستتبع لانواع العتو والاستكبار لِعِبادِهِ المجبولين على الكفران والنسيان بمقتضى بشريتهم وبهيميتهم لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ بغيا فاحشا واستكبروا على عباد الله استكبارا مفرطا وظهروا على أوليائه ومشوا على وجه الأرض خيلاء مفتخرين بما لهم من الجاه والثروة والرياسة فسرى بغيهم واستكبارهم على الله وعلى أنبيائه ورسله فكفروا لذلك ظلما وعدوانا وَلكِنْ جرت سنته سبحانه واقتضت حكمته على انه يُنَزِّلُ ويفيض بِقَدَرٍ اى بمقدار وتقدير ما يَشاءُ على من يشاء بمقتضى حكمته ومشيته وبالجملة إِنَّهُ سبحانه بِعِبادِهِ اى باستعداداتهم وعموم أحوالهم خَبِيرٌ بَصِيرٌ يعلم منهم ما خفى عليهم وما ظهر دونهم
وَكيف لا يعلم سبحانه سرائر عباده وضمائرهم إذ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ حسب علمه وحكمته مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وايسوا من نزوله وَبتنزيله وامطاره يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ الواسعة على جميع اقطار الأرض وأرجائها عناية منه سبحانه الى سكانها من أجناس المواليد وأنواعها وأصنافها وَكيف لا يرحم سبحانه على مظاهره إذ هُوَ الْوَلِيُّ المتولى لعموم أمورهم
وَمِنْ آياتِهِ الدالة على كمال ولايته وتدبيره وتربيته خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى اظهار الكائنات العلوية والسفلية بامتداد اظلال أسمائه وصفاته عليها وَكذا خلق ما بَثَّ وبسط فِيهِما وركب منهما مِنْ دابَّةٍ ذي حياة وحركة وَبالجملة هُوَ سبحانه عَلى جَمْعِهِمْ اى جمع الاظلال والعكوس الى شمس الذات وقبضهم عليها بعد بثهم وبسطهم منها إِذا يَشاءُ ويريد قَدِيرٌ بلا فترة وتقصير
وَاعلموا ايها الاظلال الهالكة في أنفسها ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ مضرة مؤلمة فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ اى بسبب اقترافكم المعاصي والآثام وَمع ذلك يَعْفُوا سبحانه عَنْ كَثِيرٍ من المعاصي لا يعقبها بمصيبة تخفيفا لكم وتسهيلا
وَلو أراد سبحانه تعقيب كل معصية بمصيبة حسب عدله بلا غفر وتخفيف ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ له فِي الْأَرْضِ اى ليس لكم ان تفوتوا شيأ مما قضى سبحانه عليكم من المصائب المستتبعة لجرائمكم وآثامكم ان شاء وَالحال انكم عاجزون في انفسكم مقهورون تحت قبضة قهره وقدرته سبحانه إذ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يتولى أموركم ويحفظكم عما يضركم وَلا نَصِيرٍ ينصركم على أعاديكم ويدفع عنكم ما يؤذيكم ويعينكم على ما مسكم
وَايضا مِنْ جملة آياتِهِ الدالة على ولايته الكاملة وتدبيراته الشاملة الْجَوارِ اى السفن الجارية فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ اى كالجبال الرواسي في الثقل والعظمة
إِنْ يَشَأْ سبحانه يُسْكِنِ الرِّيحَ المجرية لهن فَيَظْلَلْنَ ويبقين تلك السفن حينئذ رَواكِدَ سواكن عَلى ظَهْرِهِ اى على ظهر البحر ولججه فضاع جميع من فيها وما فيها إِنَّ فِي ذلِكَ الإجراء والإرسال لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات على تولية الحق وتدبيره لِكُلِّ صَبَّارٍ حبس نفسه في مقام الرضا بما قسم له ربه شَكُورٍ بما ظهر عليه من آلائه ونعمائه
أَوْ ان يشاء يرسلهن إرسالا عنيفا بالرياح العاصفة حتى يُوبِقْهُنَّ او يغرقهن ويهلك بعض من فيهن بِما كَسَبُوا اى بشوم أعمالهم التي اقترفوها من البخل والحسد والحرص المفرط والأمل الطويل وغير ذلك من الأخلاق المذمومة وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ اى ومع ذلك يتجاوز سبحانه عن إهلاك أكثرهم وينجيهم عن ورطة الهلاك لحسن أعمالهم وخلوص نياتهم تفضلا منه سبحانه إياهم وتكريما لهم كل ذلك ليختبر سبحانه عباده وينتقم عنهم ويميز منهم اهل الرضا والتسليم عن غيرهم
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ اى يعلم المجادلون المكابرون فِي آياتِنا ومقتضياتها عدوانا وعنادا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب ومخلص من عذابنا ان تعلقت ارادتنا بانتقامهم وإهلاكهم وان استظهر اهل الحدال بالأموال والأولاد واستكبروا بها وافتخروا عليها قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا
فَما أُوتِيتُمْ وأعطيتم مِنْ شَيْءٍ حقير قليل ما هي الا من حطام الدنيا ومتاعها فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فانية بفنائها تتمتعون بها فيها مدة يسيرة ثم تمضون مع حسرة كثيرة وندامة طويلة وَما عِنْدَ اللَّهِ من اللذات الروحانية والكرامات المعنوية خَيْرٌ من الدنيا وما فيها بل من آلافها واضعافها وَأَبْقى اقدم وأدوم لِلَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وانكشفوا بكمالات أسمائه وأوصافه وتحققوا بشهود شئونه وتجلياته وَهم بعد ما تمكنوا في مقام الرضاء والتسليم وتوطنوا في أعظم سواد الفقر وأعلى درجات عالم اللاهوت عَلى رَبِّهِمْ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية يَتَوَكَّلُونَ يفوضون أمورهم
وَبالجملة هم الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وهي الآثام والجرائم المؤدية الى الشرك الجلى والخفى وَالْفَواحِشَ اى الصغائر المنتهية الى الكبائر بالرسوخ والإصرار وَايضا من جملة اخلاق هؤلاء المؤمنين المحسنين انهم إِذا ما غَضِبُوا من مكروه هُمْ يَغْفِرُونَ ويبادرون الى العفو والستر وكظم الغيظ وإصلاح ذات البين وإخراج الغل والحقد عن نفوسهم
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا اى أجابوا واقبلوا دعوة من دعاهم الى الطاعات والعبادات ومطلق الخيرات والحسنات لا لغرض دنيوى بل لِرَبِّهِمْ طلبا لمرضاته وهربا عن مساخطه وانتقاماته وَمع ذلك أَقامُوا الصَّلاةَ اى اداموا الميل والرجوع الى الله في جميع حالاتهم وَأَمْرُهُمْ اى عموم أمورهم المتعلقة لمعاشهم ومعادهم شُورى بَيْنَهُمْ اى هم متشاورون فيها مع إخوانهم بلا استبداد لهم فيها برأيهم ولا انفراد بعقلهم وَمن معظم أخلاقهم انهم مِمَّا رَزَقْناهُمْ وأبحنا لهم وأضفنا لهم من الرزق الصوري يُنْفِقُونَ في سبيلنا للفقراء والمساكين طالبين منا مرضاتنا ومثوباتنا
وَمن جملة أخلاقهم وأجلها انهم هم الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ ولإخوانهم الْبَغْيُ والعدوان من باغ ظالم وعدو عاد هُمْ يَنْتَصِرُونَ يبادرون الى الغلبة والانتصار غيرة على دين الله وحمية لحمى حدوده الموضوعة على مقتضى العدالة القويمة الإلهية عن طريان الظلم والعدوان وإظهارا لما أودع في صدورهم من فضله من خصلة الشجاعة المحمودة عند الله وعند عموم ارباب المروات من الأنبياء والأولياء إذ كلا طرفيها وهما الجبن والتهور مذمومان عقلا وشرعا والشجاعة المقتصدة بينهما محمودة جدا. ثم قال سبحانه تعليما لعباده طريق هدايته وإرشاده
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ قد اصابتك من احد من بنى نوعك سَيِّئَةٌ مِثْلُها لا أزيد منها اى إذا أساءك احد بسيئة فأنت ايها المكلف تسيئه بمثلها جزاء وعقوبة سمى الجزاء سيئة للازدواج والمشاكلة هذا بحسب الرخصة الشرعية واما بحسب العزيمة فَمَنْ عَفا وتجاوز عن المسيء والجاني خالصا لوجه الله وطلبا لمرضاته وَأَصْلَحَ بالصلح والإحسان ما أفسده بالجناية والإساءة فَأَجْرُهُ قد وقع عَلَى اللَّهِ وجزاؤه مفوض الى كرمه يجازيه بمقتضى فضله وجوده ما شاء الله وبالجملة إِنَّهُ سبحانه حسب عدالته الذاتية لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن الحدود الإلهية سيما في العقوبات والجنايات
وَلَمَنِ انْتَصَرَ وغلب على الظالمين بَعْدَ ظُلْمِهِ اى بعد ما ظلم منه منتقما عليه فَأُولئِكَ المنتصرون المنتقمون ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ بالمعاتبة والمعاقبة لأنهم منتقمون بالرخصة الشرعية بل
إِنَّمَا السَّبِيلُ بهما عَلَى المسرفين الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ اى يبتدئون بالظلم ويظهرون بينهم بالعدوان والطغيان وَيَبْغُونَ ويطلبون بظلمهم وطغيانهم فسادا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ بلا رخصة شرعية أُولئِكَ البعداء المتجاوزون عن الحدود الشرعية لَهُمْ في النشأة الاخرى عَذابٌ أَلِيمٌ هو إحراقهم بنار القطيعة لا عذاب أشد منه وأفزع
وَلَمَنْ صَبَرَ من المظلومين ولم ينتصر من الظالم ولم ينتقم منه كظما وهضما وَغَفَرَ اى عفا عنه وتجاوز مسترجعا الى الله طالبا الأجر منه سبحانه إِنَّ ذلِكَ العفو والصفح عند القدرة والرخصة لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ اى من الأمور التي آثرها أولوا العزائم الصحيحة من ارباب العناية ألا وهم الذين يرون من الله جميع ما يرون منحا ومحنا وفرحا وترحا ويوطنون نفوسهم على التسليم والرضاء بعموم ما جرى عليهم
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بمقتضى قهره وجلاله عن طريق توحيده فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ سواه ينصره او يدفع ما يؤذيه ويخذله مِنْ بَعْدِهِ اى بعد إضلال الله إياه واذلاله وَبعد ما ردهم سبحانه الى دار الانتقام بأنواع الخيبة والخسران تَرَى ايها الرائي الظَّالِمِينَ المغرورين بما هم عليه من الجاه والثروة والمفاخرة بالأموال والأولاد في دار الدنيا لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ النازل عليهم المحيط بهم من جميع جوانبهم يَقُولُونَ حينئذ اى بعضهم لبعض من شدة اضطرابهم واضطرارهم هَلْ إِلى مَرَدٍّ رجعة الى الدنيا وعود إليها مِنْ سَبِيلٍ حتى نعود ونستعد ليومنا هذا
وَهم في هواجس نفوسهم يتكلمون بهذا الكلام تحسرا وتضجرا تَراهُمْ ايها الرائي يُعْرَضُونَ ويساقون عَلَيْها اى على النار خاشِعِينَ خاضعين مِنَ الذُّلِّ والهوان المفرط الشامل لهم يَنْظُرُونَ حينئذ نحو النار مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ اى بنظرة خفية من تحت الاهداب بلا تحريك الأجفان من شدة رعبهم وخشيتهم منها كنظر من يؤمر بقتله الى سيف الجلاد وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا حين رأوا أعداءهم معذبين إِنَّ الْخاسِرِينَ المفسدين هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالظلم والضلال وَأَهْلِيهِمْ بالصد والإضلال لذلك استحقوا العذاب المخلد يَوْمَ الْقِيامَةِ والوبال المؤبد فيها أَلا اى تنبهوا ايها الابطال الاظلال المستظلون تحت لواء العدالة الإلهية إِنَّ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضاها باغواء الغوائل الامكانية والتسويلات الشيطانية معذبون فِي عَذابٍ مُقِيمٍ وعقاب دائم أليم
وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وينقذونهم من عذابه والحال انه قد أضلهم الله بمقتضى قهره وجلاله وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ المنتقم الغيور فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ الى الهداية والنجاة ولا الى الخروج من وبال ما يترتب على غيهم وضلالهم وبالجملة
اسْتَجِيبُوا ايها المكلفون بالاجابة والقبول لِرَبِّكُمْ الذي رباكم على فطرة التوحيد وتوجهوا نحوه مخلصين وأجيبوا داعيه محمدا صلّى الله عليه وسلم مصدقين مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ يحل فيه العذاب عليكم مع انه لا مَرَدَّ لَهُ اى لا دفع ولا رد للعذاب النازل فيه مِنَ اللَّهِ وبعد ما قد قضى سبحانه وحكم بتعذيبكم حتما ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ سواه وقد جرى حكمه بالعذاب وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ اى ما يتيسر لكم حينئذ انكار اسباب العذاب وموجباته إذ تشهد عليكم يومئذ جوارحكم وقواكم بما اقترفتم بها من الجرائم والآثام وبالجملة قل يا أكمل الرسل على سبيل العظة والتذكير لهم أمثال هذه المواعظ والتذكيرات نيابة عنا فان امتثلوا وقبلوا فقد اهتدوا
فَإِنْ أَعْرَضُوا عنها ولم يلتفتوا إليها عنادا ومكابرة فَما أَرْسَلْناكَ اى فاعلم انا ما أرسلناك يا أكمل الرسل عَلَيْهِمْ حَفِيظاً كفيلا يحفظهم عن جميع ما يضرهم ويغويهم بل إِنْ عَلَيْكَ اى ما عليك إِلَّا الْبَلاغُ وقد بلغت وبعد تبليغك ما بقي عليك من حسابهم من شيء. ثم أشار سبحانه الى وهن عزائم الإنسان وضعف عقائده فقال وَإِنَّا من مقام عظيم جودنا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ تفضلا مِنَّا إياه وتكريما بلا سبق استحقاق منه رَحْمَةً شاملة محيطة بعموم أعضائه وجوارحه قد فَرِحَ بِها وانبسط بحلولها وَإِنْ تُصِبْهُمْ حينا من الأحيان سَيِّئَةٌ من السيئات مؤلمة لهم مع انها بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وبشؤم ما اقترفوا لأنفسهم من المعاصي والآثام الجالبة لانواع المضرات فَإِنَّ الْإِنْسانَ المجبول على النسيان حينئذ كَفُورٌ مسرع الى الكفران مبادر الى الكفر والنسيان كأنه لم ير منا الانعام والإحسان قط فكيف تكفرون بوفور نعمة الحق
لِلَّهِ المحيط بكل المظاهر الموجد المظهر لها مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى التصرف على وجه الاستقلال في العلويات والسفليات وما بينهما من الممتزجات لذلك يَخْلُقُ ما يَشاءُ فيها ارادة واختيارا حيث يَهَبُ بمقتضى فضله وجوده لِمَنْ يَشاءُ من عباده إِناثاً محضا من الأولاد وقدمهن للتدرج من الأدنى الى الأعلى ونكرهن لان النكارة مطلوبة في حقهن وَيَهَبُ ايضا لِمَنْ يَشاءُ منهم الذُّكُورَ الخلص عرفهم لأنهم اولى بالتعريف وأحرى بالمعرفة
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ويخلط لهم ذُكْراناً وَإِناثاً مجتمعين ممتزجين وَايضا يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ منهم عَقِيماً بلا ولد وايلاد إظهارا لكمال قدرته واشعارا بانه لا تأثير للوسائل والأسباب العادية حتى ينسب توالدهم وتناسلهم الى اجتماع الأزواج والزوجات منهم كما هو المتبادر الى الأحلام السخيفة وبالجملة إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ باستعدادات عباده وقابلياتهم قَدِيرٌ على افاضة ما ينبغي لمن ينبغي كما ينبغي بمقتضى كرمه وجوده ارادة واختيارا بلا إيجاب والتزام من جانبه سبحانه. ثم لما شنع اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعيروه وطعنوا في نبوته مستهزئين به حيث قالوا له تهكما هلا تكلم الله معه ولم لم ينظر موسى الى الله تعالى إذ هو سبحانه أجل وأعلى من ان ينظر اليه العيون او يدركه الأبصار او يحيط به الآراء والأفكار انزل سبحانه هذه الآية تصديقا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم فقال
وَما كانَ اى ما صح وما جاز لِبَشَرٍ اى لجنسه وليس في وسعه واستعداده أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ مشافهة بلا سترة وحجاب إذ لا مناسبة بين المحدود والمحبوس في مضيق الابعاد والجهات وبين غير المحدود المستغنى عن الحدود والجهات مطلقا حتى تقع المكالمة بينهما إِلَّا وَحْياً اى الا تكلما ناشئا عن وحى الهامى او منامي أَوْ تكلما مسموعا مِنْ وَراءِ حِجابٍ اى وراء تعين من التعينات كما سمع موسى كلامه من وراء حجاب الشجر فكذلك يسمع العارف المتحقق بمقام الفناء في الله كلامه سبحانه دائما من وراء عموم المظاهر الناطقة بتسبيحه وتقديسه سبحانه حالا ومقالا أَوْ تكلما بالسفارة والترجمان بان يُرْسِلَ رَسُولًا من سدنة ذاته التي هي الملائكة الحاملون لكمالات أسمائه وصفاته فَيُوحِيَ الملك بِإِذْنِهِ سبحانه ما يَشاءُ ويسمعه من كلامه سبحانه لمن يشاء سبحانه من عباده وبالجملة إِنَّهُ سبحانه عَلِيٌّ في شأنه المختص به وكمالاته اللائقة له منزه متعال عن ان يحوم حول سرادقات عز سلطانه احد من خلقه فكيف ان يتكلموا معه بلا سترة وحجاب حَكِيمٌ في كمال تمنعه وكبريائه ونهاية تعززه وترفعه حيث تكلم تارة بالوحي والإلهام وتارة من وراء الحجاب والأستار وتارة بطريق السفارة والرسالة
وَكَذلِكَ اى مثل ما أوحينا الى من تقدم منك من الأنبياء والرسل وتكلمنا معهم بإحدى الطرق الثلاثة قد أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل ايضا لنتكلم معك رُوحاً منا تكريما لك وتعظيما لشأنك وتخصيصا لك من بين سائر الأنبياء لظهورك على نشأة التوحيد الذاتي مِنْ أَمْرِنا المتعلق لتدبيراتنا وتصرفاتنا في ملكنا وملكوتنا ألا وهو القرآن المنتخب من حضرة علمنا ولوح قضائنا سميناه روحا لأنا نحيى به أموات مطلق التعينات وخصصناك به مع انك ما كُنْتَ تَدْرِي وما تعلم وما تعرف قط قبل نزوله مَا الْكِتابُ المبين للاحكام المتعلقة بتهذيب الظاهر والباطن وَلَا الْإِيمانُ والاعتقاد المتعلق لتوحيد الحق وعرفانه لكونك اميا عاريا من طرق الاستفادة