تفسير سورة الأنعام

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

[سورة الأنعام]

فاتحة سورة الأنعام
لا يخفى على المستضيئين المستنيرين من اشعة نور الوجود اللائح عن مشكوة العدم التي هي عبارة عن طلسمات التعينات وشباك الهويات الظاهرة في عالم الكون والفساد المنعكسة من آثار الأسماء والصفات ان سر ظهور كمالات الوجود من سراب العدم انما هو لغاية جلاء الوجود وصفائه الى حيث لم يدرك لو لم يكن في مقابلة مرآة مجلوة يتراءى فيها ما انعكس منه ولو لم يكن له مقابل غير العدم لذلك ما انعكس كمالاته إلا منه والمحجوب المقيد بسجن الطبيعة ما يرى الوجود والموجود الا هذه العكوس المنعكسة والاظلال المرئية المستحدثة في سراب العدم من الأمواج الحادثة في بحر الوجود حسب التجليات الحبية ولم يتفطن الى مبدئها ومنشئها ولهذا عدل عن طريق الحق وضل عن سواء السبيل ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور والمكاشف المشاهد بنور الله المستغرق بمطالعة جماله لا يرى في الوجود الا هو وكل ما ظهر في العالم من الآثار فمن تجلياته المنتشئة من أوصافه الذاتية ومن تطورات أسمائه الكمالية الجمالية والجلالية وسر التكاليف الموردة في الكتب الإلهية والآثار النبوية انما هو للتحقق والتقرب الى ما عليه الوجود الحقي من الاعتدال والاستواء الذي هو صراط الله الا قوم الا عدل لذلك الهم سبحانه خلص عباده الذين تحققوا بوحدة الوجود وانكشفوا بنوره المستقل ان يواظبوا على حمده وثنائه دائما مستمرا ليتمكنوا بمقام الشكر الذي هو أعلى مقام العارف بالله إذ الشكر انما يحصل بقدر رفع حجب التعينات رأسا ورؤية عموم ما ظهر وبطن من نعم الوجود وما يتفرع عليه من مقتضيات الكرم والجود من المنعم الحقيقي والمفضل المعنوي وذلك لا يكون الا بالفناء فيه والبقاء ببقائه ومتى فنى العارف فيه فقد تحقق بمقام الشكر وتكلم لسان حاله ومقاله بشكر منعمه وهو ايضا بحول الله وقوته ولهذا اخبر سبحانه من حمده وشكره لنفسه تعليما لعباده قائلا متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المستغنى بذاته عن عموم الأكوان الرَّحْمنِ عليها بافاضة نور الوجود من محض الجود والامتنان الرَّحِيمِ عليها باقدارها على مواظبة الحمد والثناء له أداء لحق شيء من الانعام والإحسان
[الآيات]
الْحَمْدُ الثناء المشعر بالاطاعة والانقياد التام المنبئ عن كمال التعظيم والتبجيل الذاتي الصادر عن السنة عموم ما ظهر من شئون الوجود وانعكس من اظلال أسمائه وصفاته ودخل في حيطة الوجود الحق واعترف بتوحيده وحمده حالا ومقالا وباستقلاله وتوحده سبحانه في ملكه وملكوته ازلا وابدا ثابت لِلَّهِ المستقل بالالوهية المتفرد في ربوبيته المستحق بأنواع العبودية ذاتا وصفات وكيف لا يستحق سبحانه بالعبودية والتعظيم إذ هو القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ وقدر السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى علويات الأسماء والصفات الفعالة وسفليات الطبائع والأركان القابلة لآثار العلويات وَجَعَلَ ايضا الظُّلُماتِ اى حجب التعينات وَالنُّورَ اى ظل الوجود المنبسط عليها ثُمَّ بعد ما ظهر اشراق نور الوجود ولمع شمس الذات على صفحات الكائنات المحجوبون الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ اى ستروا بهويتهم الباطلة هوية الحق السارية في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق ازلا وابدا يَعْدِلُونَ يميلون وينحرفون عن طريق الحق واستقلاله جهلا وعنادا
وكيف يسترون هويته ويعدلون عن طريقه مع انه هُوَ الخالق الموجد الَّذِي خَلَقَكُمْ وقدر وجودكم أولا مِنْ طِينٍ جماد قريب من العدم ثُمَّ قَضى وقدر أَجَلًا لحياتكم المستعارة الظلية في النشأة الاولى
وَأَجَلٌ مُسَمًّى مقدر عِنْدَهُ لفنائكم الحقيقي فيه سبحانه في النشأة الاخرى ثُمَّ أَنْتُمْ بعد ما علمتم وتحققتم منشأكم ونشأتكم الاولى الصورية تَمْتَرُونَ تشكون وترددون في النشأة الاخرى المعنوية الحقيقية جهلا وعنادا
وَكيف تشكون فيها ايها الشاكون الجاهلون مع انه هُوَ اللَّهُ القادر المقتدر المتوحد المتفرد المتجلى فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ بكمال الاستقلال والاستيلاء يَعْلَمُ منكم بعلمه الحضوري سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ من خير وشر ونفع وضر في نشأتكم الاولى
وَمن امارات كفرهم وسترهم وامترائهم ومرائهم ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ عظيمة دالة على توحيد الحق بلسان رسول من الرسل العظام مع انها قد كانت مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ المتوحد في الربوبية إِلَّا كانُوا من غاية كفرهم وجهلهم عَنْها مُعْرِضِينَ
ومن غاية اعراضهم والحادهم عن طريق الرشد فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ المطابق للواقع الذي هو القرآن الجامع لَمَّا جاءَهُمْ بلسان من هو أعلى مرتبة ومكانة عند الله وأكمل دينا وأقوم طريقا فكذبوه واستهزؤا به فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ وسيظهر لهم في النشأة الاولى والاخرى أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ واخبار ما يفترون لأنفسهم حين نزول العذاب عليهم في الدنيا بضرب الذلة والمسكنة المستمرة والجزية والصغار المؤبد وفي الآخرة بالعذاب والنكال المخلد
أَيشكون في نزول العذاب الآجل والعاجل ويترددون فيه أولئك الشاكون المترددون ولَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ من اهل القرون الماضية كعاد وثمود وغيرهما مع انا قد مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ وقررناهم فيها قادرين على امور عظام وآثار جسام ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ولم نجعل في وسعكم من السعة وطول المكث والترفه والاستيلاء التام وكمال البسطة والرخاء وَمع ذلك أَرْسَلْنَا السَّماءَ اى المطر عَلَيْهِمْ مِدْراراً مغرارا كثيرا وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ دائما متجددا تتميما لترفههم وتنعمهم وبالجملة امهلناهم زمانا طويلا كذلك فَأَهْلَكْناهُمْ بعد ذلك بِذُنُوبِهِمْ التي صدرت عنهم من تكذيب الأنبياء وبعموم ما جاءوا به من لدنا وافسادهم في الأرض بأنواع الفسادات وَبعد ما استأصلناهم بالمرة قد أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
وَبالجملة لا تبال يا أكمل الرسل بتكذيباتهم واقتراحاتهم ولا ترج منهم الايمان بك وبكتابك لأنهم من غاية انهماكهم في الغي والضلال لَوْ نَزَّلْنا من مقام جودنا عَلَيْكَ كِتاباً مكتوبا فِي قِرْطاسٍ ورق فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ حين نزوله لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من خبث بواطنهم وجهلهم الجبلي إِنْ هذا اى ما هذا الذي جئت به إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ عظيم ظاهر سحريته وكذبه إذ الورق لا تنزل من السماء الا بسحر
وَايضا قالُوا من شدة شقاقهم ونفاقهم معك يا أكمل الرسل ان كان هذا المدعى نبيا لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يصدق نبوته فنصدقه قل لهم في جوابهم نيابة عنا وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً على مقتضى سنتنا في الأمم الماضية لَقُضِيَ الْأَمْرُ اى لتحقق امر إهلاكهم البتة إذ ما ننزل الملك الا للاهلاك والتعذيب بمقتضى سنتنا المستمرة في الأمم الماضية ثُمَّ بعد نزول الملك لينكرون له ويكذبونه البتة وبعد ذلك لا يُنْظَرُونَ ولا يمهلون ساعة بل يعذبون كالأمم السالفة
وَايضا لَوْ جَعَلْناهُ اى الرسول المنزل إليهم مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا اى على صورته إذ لا يمكن للبشر ان يرى الملك على صورته لمهابته لذلك ما جاء جبرائيل عليه السّلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الا على صورته دحية الكلبي رضى الله عنه وَايضا لم يمكنهم الاستفادة منه لعدم الجنسية وان أنزلنا
على صورة البشر لَلَبَسْنا ولخلطنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ اى مثل ما يخلطون على أنفسهم من ان البشر لا يليق بالرسالة فلم يصدقوه ايضا
وَبالجملة لا تحزن ولا تضطرب يا أكمل الرسل من إيذائهم واستهزائهم معك واصبر على أذاهم فانه لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فصبروا على ما كذبوا واستهزؤا وأوذوا فَحاقَ وأحاط من الجوانب بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ وبال ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فاهلكوا واستؤصلوا مما استهزؤا وان أنكروا قصة إهلاكهم
قُلْ لهم سِيرُوا فِي الْأَرْضِ التي هي مقر الفراعنة ومنزل الاكاسرة والقياصرة ومضرب خيام الخواقين المعتبرة معتبرين ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ الذين كذبوا الرسل عتوا وعنادا بحيث لم يبق من رسومهم وآثارهم واطلالهم وارباعهم أصلا مع انهم كانوا اولى قوة وذوى بأس شديد
قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا تبكيتا وإلزاما لِمَنْ ما ظهر فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تصرفا وتملكا إيجادا وإظهارا اعداما وافناء قُلْ ايضا أنت يا أكمل الرسل بعد ما بهتوا وتحيروا في الجواب لِلَّهِ المتوحد المتفرد بالتجلى والظهور والتصرف مطلقا إذ قد كَتَبَ أوجب والزم سبحانه عَلى نَفْسِهِ وذاته حين كان ولم يكن معه شيء الرَّحْمَةَ العامة اى التجلي والاستيلاء بمقتضى اسمه الرّحمن العام على عروش درائر الأكوان المنعكسة من أوصافه الذاتية لَيَجْمَعَنَّكُمْ سبحانه ايها العكوس والاظلال بمقتضى اسمه الرّحيم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ التي هي الطامة الكبرى المرتفعة فيها نقوش الغير والسوى مطلقا واعلموا انه لا رَيْبَ فِيهِ اى في جمعه ورفعه عند ذوى البصائر والنهى المتأملين في سرائر الظهور والإظهار والبطون والإخفاء واما القوم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ باقتصار النظر في هذه الاظلال والتماثيل الزائغة الزائلة التي لإقرار لها ولا مدار للذاتها وشهواتها أصلا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالرجوع الى مأمن التوحيد ومقر التجريد والتفريد وأولئك هم الضالون في تيه الحرمان الباقون في ظلمة الإمكان
وَكيف تنكرون جمعه وتوحيده سبحانه مع ان لَهُ ما سَكَنَ اى عموم ما بطن فِي اللَّيْلِ اى مرتبة الباطن والغيب المطلق وَكذا ما ظهر وانكشف في النَّهارِ اى مرتبة الظاهر والشهادة المطلقة وَهُوَ بذاته السَّمِيعُ بكل ما سمع الْعَلِيمُ بكل ما علم وأدرك لا يخفى عليه شيء مما ظهر وبطن
قُلْ يا أكمل الرسل لمن أنكر توحيد الحق واثبت له شريكا ومع ذلك يريد ان يرغبك الى الشرك عتوا وعنادا إلزاما له وتبكيتا أَغَيْرَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له أصلا أَتَّخِذُ وَلِيًّا مولّيا ووكيلا لا كون مشركا مثلك مع كونه سبحانه فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى موجدهما ومظهرهما من كتم العدم بالاستقلال بلا مظاهرة ومشاركة وَهُوَ يُطْعِمُ المحتاجين وَلا يُطْعَمُ لتنزهه عن الاكل والشرب خص سبحانه بعدم الاتصاف بهذه الصفة لأنها من أقوى اسباب الإمكان وأجل امارات الحدوث وأظهرها والباقي متفرع عليها قُلْ يا أكمل الرسل المرسل لعموم البرايا إِنِّي أُمِرْتُ من عند ربي أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وأطاع وانقاد واظهر التوحيد الذاتي وادعوا الناس جميعا اليه وَايضا قد نهيت انا خاصة على وجه المبالغة والتأكيد من عنده سبحانه بقوله لا تَكُونَنَّ أنت يا أكمل الرسل بحال من الأحوال وشأن من الشئون مِنَ الْمُشْرِكِينَ المثبتين الوجود لغير الحق اصالة من الاظلال والعكوس
وبعد ما أمرت يا أكمل الرسل بما أمرت ونهيت ايضا عما نهيت قُلْ لمن تبعك لعلهم ينتبهون ايضا إِنِّي بعد ما تحققت بمقام
الكشف والشهود أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي وخرجت عن مقتضى توحيده الذاتي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم العرض الأكبر الذي تجزى فيه كل نفس بما تسعى
مَنْ يُصْرَفْ العذاب عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ الحق له وحققه بمقام الكشف والشهود وَذلِكَ التحقق والانكشاف هو الْفَوْزُ الْمُبِينُ لأهل العناية والوصول
وَبعد ما تحققت أنت يا أكمل الرسل بمقام المعرفة وتقررت في مقر التوحيد إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ المدبر المراقب عليك بِضُرٍّ بلية وعناء لحكمة ومصلحة فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ إذ لا شيء سواه ولا متصرف غيره وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ عطية وغناء وبذل وعطاء فَهُوَ ايضا منه إذ هو عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الخير والشر والنفع والضر قَدِيرٌ مقتدر يحيط قدرته بعموم المقدورات والمرادات
وَكيف لا يكون قديرا على كل ما أراد إذ هُوَ الْقاهِرُ العزيز الغالب فَوْقَ عِبادِهِ يتصرف فيهم كيف يشاء بالإرادة والاختيار وَهُوَ الْحَكِيمُ المتقن في تدبيراتهم الْخَبِيرُ بحوائجهم يعطيهم ما ينبغي لهم ويمنعهم عما يضرهم بالإرادة والاختيار وان جادلوك واستشهدوا منك شاهدا على نبوتك ورسالتك
قُلْ لهم إلزاما وتبكيتا أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ وأتم شَهادَةً من الله قُلْ بعد ما تعين ذلك اللَّهُ المحيط بعموم مظاهره ومصنوعاته شَهِيدٌ حاضر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمن جملة شهادته وحضوره انه قد أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ الجامع لفوائد الكتب السالفة من عنده لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ايها المكلفون الموجودون حين نزوله عما يضركم ويغويكم وأبشركم به بما ينفعكم ويهديكم وَكذا مَنْ بَلَغَ له خبر وحيه ونزوله من الأسود والأحمر الى انقراض النشأة الاولى إذ انا ما أرسلت الا الى كافة البرايا بشيرا ونذيرا على مقتضى التوحيد الذاتي أَإِنَّكُمْ ايها المنهمكون في بحر الحيرة والضلال لَتَشْهَدُونَ بعد وضوح البرهان أَنَّ مَعَ اللَّهِ المتوحد بذاته المستقل بالالوهية آلِهَةً أُخْرى مشاركة له في ملكه ووجوده قُلْ لا أَشْهَدُ انا ما تشهدون به أنتم ظلما وزورا بل قُلْ بمقتضى ما كوشفت به إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ متفرد بالالوهية والربوبية ليس لغيره وجود حتى يشارك معه بل لا موجود الا هو ولا اله سواه وَبالجملة إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أنتم بالله الواحد الأحد من الاظلال الباطلة والتماثيل العاطلة
ثم قال سبحانه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ من اليهود والنصارى يَعْرِفُونَهُ اى محمدا صلّى الله عليه وسلّم بحليته وأوصافه المذكورة في كتبهم كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بلا شائبة شك ووهم وبالجملة الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالشرك والتحريف فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ به وبنبوته ورسالته عنادا ومكابرة
وَمَنْ أَظْلَمُ عند الله وأوجب للبطش والانتقام مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وحرف كتابه عنادا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ المنزلة على رسوله المبين لطريق توحيده مكابرة بلا سند ودليل عقلي او نقلي ومع ذلك يطلبون ويتوقعون الفوز والفلاح من عنده سبحانه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى العقل والنقل التاركون ايضا متابعة من أيده الحق وأرسله الى الخلق لإشاعة توحيده وتبليغ أحكامه اللائقة بوحدة ذاته ولإزاحة الشرك وإزالته بالمرة
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ونجمعهم جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا استهزاء وتفضيحا وتعريضا لهم على رؤس الملأ أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ انهم آلهة مستحقة للعبادة والايمان وتعتقدون انهم يشفعون لكم وينقذونكم من العذاب ائتوا بهم واحضروهم لينقذوكم من عذابنا
ثُمَّ بعد ما سمعوا ما سمعوا لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ
وحيلتهم للخلاص إِلَّا أَنْ قالُوا مقسمين معتذرين وَاللَّهِ رَبِّنا وبحقك يا مولانا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ لك غيرك عابدين لسواك
انْظُرْ ايها المعتبر الرائي كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في مقعد الصدق ومحل اليقين وَانظر ايضا كيف ضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عن نظرهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ به على الله من الشركاء الذين يعتقدون انهم شفعاء عند الله يخلصونهم من عذاب الله
وَمِنْهُمْ اى من جملة أولئك المشركين المعتذرين مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل حين تلاوتك القرآن وهم وان لم يفهموه قد أنكروا عليه واستهزؤا به عنادا ومكابرة كيف يفهمونه وَقد جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً اى اغطية واغشية كثيفة كراهة أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وصمما يمنع عن استماعه وَمن غاية انكارهم وعنادهم إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ دالة على توحيد الحق وتمجيده لا يُؤْمِنُوا بِها عنادا ومكابرة حَتَّى إِذا جاؤُكَ من افراط عتوهم وعنادهم يُجادِلُونَكَ في آيات الله بما لا يليق بشأنها حيث يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا سترا للحق وترويجا للباطل إِنْ هذا اى ما هذا الكتاب الذي اتى به محمد إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وأكاذيبهم القديمة انما سطروها لتضليل ضعفاء العوام
وَهُمْ بهذا الطعن والقدح يَنْهَوْنَ عَنْهُ اى يقصدون إضلال المسلمين عن متابعة الرسول والايمان به وبكتابه وَلكن لا يعلمون انهم في أنفسهم يَنْأَوْنَ عَنْهُ اى يبعدون عنه وعن هدايته عتوا واستكبارا وَإِنْ يُهْلِكُونَ اى ما يهلكون بهذا التضليل والخداع إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ان ضرر اضلالهم وخداعهم لا يتجاوز عنهم لأنهم هم قد ختم الله العليم الحكيم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم في الدنيا والآخرة
وَلَوْ تَرى ايها الرائي إِذْ وُقِفُوا اى حين أشرفوا عَلَى النَّارِ وتحققوا الوقوع والإيقاع عنوة وعنفا لرأيت امرا فظيعا فجيعا فَقالُوا حينئذ من غاية تفزعهم وتفجعهم متمنين يا لَيْتَنا نُرَدُّ على أعقابنا التي قد كنا فيها وَلا نُكَذِّبَ يومئذ بِآياتِ رَبِّنا التي قد جاءتنا فيها فكذبناها عتوا واستكبارا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدقين بمن جاءنا بها
بَلْ بَدا وظهر لَهُمْ ومنهم حينئذ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ من حقية الكتب والرسل عنادا واستكبارا فتمنوا حين البأس واليأس ضجرا لا عزما صادقا صحيحا بحيث لو ردوا لآمنوا البتة بل وَالله لَوْ رُدُّوا اى لو فرض ردهم الى الدنيا بعد علمهم ووقوفهم على اهوال الآخرة لما آمنوا ايضا بل لَعادُوا ورجعوا البتة من خبث طينتهم لِما نُهُوا عَنْهُ يعنى الى الكفر ايضا عنادا ومكابرة وَبالجملة إِنَّهُمْ في هذا التمني ايضا لَكاذِبُونَ البتة لكون جبلتهم واصل فطرتهم على الكذب لا يزول عنهم أصلا
وَكيف لا يكونون مجبولين على فطرة الكذب والعناد إذ هم قالُوا من خبث بواطنهم حين دعاهم الرسول الى الايمان بالله وباليوم الآخر إِنْ هِيَ اى ما الحيوة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا اى التي كنا عليها فيها وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ من قبورنا كما زعم هؤلاء السفهاء
وَلَوْ تَرى ايها المعتبر الرائي إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ اى حين وقفوا وصفوا عند ربهم ليحاسبوا بما عملوا لرأيتهم حيارى سكارى مضطرين مضطربين قالَ لهم حينئذ سبحانه من وراء سرادقات العز والإجلال تقريعا وتوبيخا أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ ايها الحمقاء الكافرون المكذبون به قالُوا بعد ما كوشفوا وعوينوا معتذرين متفجعين مصدقين مقسمين بَلى وَرَبِّنا قد آمنا به وصدقنا قالَ سبحانه منكرا عليهم مقرعا الآن لن ينفعكم ايمانكم ايها المسرفون المفرطون فيما مضى
بل فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وتكذبون به في النشأة الاولى التي هي دار الفتن والاختبار. ثم قال سبحانه توبيخا لهم وتقريعا
قَدْ خَسِرَ وخاب خيبة ابدية الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ المتجلى في عموم الأنفس والآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق سيما بعد نزول الآيات الدالة عليه وارشاد الرسل والأنبياء والأولياء لهم اليه حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ المعدة للعرض والجزاء بَغْتَةً فجاءة قالُوا بعد ما انكشفوا به وتيقنوا له متحسرين خائبين خاسرين يا حَسْرَتَنا كلمة تحسر وتأسف عَلى ما فَرَّطْنا فِيها اى في النشأة الاولى من الإنكار والتكذيب وعدم الايمان وَهُمْ في تلك الحالة يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ وآثامهم اى وبالها وما يترتب عليها عَلى ظُهُورِهِمْ خائبين محرومين عن مطالعة وجه الله الكريم أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أولئك البعداء الوازرون المفرطون في الدنيا ويحرمون به في العقبى عن لقاء المولى
وَبالجملة مَا الْحَياةُ الدُّنْيا التي هم يحصرون الحيوة عليها ويحرمون أنفسهم عن الحيوة الحقيقية لأجلها إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ يلعب بهم ويلهيهم ويشغلهم عن الحيوة الازلية الابدية السرمدية وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ وحياتها الحقيقية ولذّاتها المعنوية خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ عن محارم الله ومنهياته في الحيوة الصورية أَفَلا تَعْقِلُونَ ولا تميزون ايها العقلاء المميزون بين الحياتين ولا تعلمون اى اللذتين خير لكم وألذ عندكم وأدوم دونكم.
ثم قال سبحانه قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ اى الشان لَيَحْزُنُكَ ويؤذيك القول الَّذِي يَقُولُونَ في حقك يا أكمل الرسل أولئك المعاندون المكابرون من انك كاذب ساحر مجنون شاعر وغيرها لا تبال بهم وبقولهم فَإِنَّهُمْ في الحقيقة لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ الخارجين عن حدود الله المنصرفين عن مقتضى أحكامه بِآياتِ اللَّهِ المنزلة عليك من عنده سبحانه لهداية التائهين من عباده يَجْحَدُونَ ينكرون ويعاندون جحودا وعنادا على سبيل الإصرار والاستكبار وبالجملة فاصبر على أذاهم يا أكمل الرسل الى ان يحل عليهم غضب من الله المنتقم الغيور
وَالله يا أكمل الرسل لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ مثل ما كذبت أنت فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا الذي قد وعدناهم ونصرناهم وانتقمنا لهم عن عدوهم فكانوا هم الغالبين المقصورين على الغلبة والنصر وَبالجملة لا تيأس من نصر الله وتأييده لك من امهال الله إياهم إذ لا مُبَدِّلَ ولا محول لِكَلِماتِ اللَّهِ المنتقم المقتدر التي قد سبقت منه سبحانه لنصر أنبيائه ورسله وَكيف تيأس أنت وتقنط لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ومن قصصهم وحكاياتهم المشهورة المعروفة ما يكفيك عن التردد فيه
وَإِنْ كانَ قد كَبُرَ وشق عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ عن الايمان والانقياد لك وضاق صدرك وقل صبرك من عدم ايمانهم بك وحضورهم عندك فَإِنِ اسْتَطَعْتَ من غاية حرصك لإيمانهم وانقيادهم أَنْ تَبْتَغِيَ وتطلب أنت نَفَقاً ومنفذا فِي الْأَرْضِ وتأتى اليه أَوْ سُلَّماً ومرقاة فِي السَّماءِ لتعرج نحوها فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ يعنى حتى تأتيهم بآية دالة على الجائهم الى الايمان فافعل على مقتضاها والا فاصبر حتى يأتى الله بامره من عنده إذ الأمور مرهونة بأوقاتها ومالك الا التبليغ وَبالجملة لَوْ شاءَ اللَّهُ الحكيم العليم هدايتهم لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ أنت مِنَ الْجاهِلِينَ بان الأمور كلها بيد الله واختياره يهدى من يشاء ويضل من يشاء فلا تحرص على ايمانهم وهدايتهم ولا تجتهد فيما لا يسع فيه جهدك وطاقتك لأنك لا تهدى من أحببت هذا تأديب من الله لرسوله وتنبيه منه عليه وأمثال هذا في القرآن كثيرة
فكيف تتطلب وتتوقع أنت هدايتهم ايها الرسول الداعي
إِنَّما يَسْتَجِيبُ اى ما يطلب اجابة الدعوة وقبولها الا الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الدعوة عن رضى ويلقون السمع وقلوبهم حاضرة بفهمها وهم بأنفسهم يطلبون الحيوة الحقيقية وهؤلاء الهلكى ليسوا من الطالبين للحياة الحقيقية بل ما هم الا الموتى حقيقة وان كانوا في صورة الأحياء وَالْمَوْتى صورة يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ القادر المقتدر في النشأة الاخرى ويحييهم بالحيوة الحقيقية في يوم الحشر والجزاء حتى يطلعوا حينئذ على ما فاتهم في النشأة الاولى لكن ما تنفعهم تلك الحيوة والاطلاع الا الحسرة والندامة على ما فات عنهم في دار العمل والاختبار ثُمَّ بعد ما أحياهم واطلعهم سبحانه إِلَيْهِ لا الى غيره من العكوس والاظلال يُرْجَعُونَ ويساقون لجزاء ما عملوا في الدنيا من تكذيب الآيات والرسل ومن الاستهزاء بهم
وَمن غاية بغضهم وعنادهم معك يا أكمل الرسل قالُوا اى بعضهم لبعض ان كان محمد نبيا صلّى الله عليه وسلّم لَوْلا وهلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ اى آية اقترحناها منه او آية تلجئنا الى الايمان به او آية تستأصلنا بالمرة مع ان دعواه ان ربه يقوى ويقدر على جميعها قُلْ لهم يا أكمل الرسل إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء قادِرٌ بالقدرة الغالبة التامة الكاملة عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً من أية آية اقترحتموها أنتم متى تعلقت ارادته ومشيئته وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ان الله فعال لما يريد ولو أنزلها لأنزل البتة عقيبها البلاء كما انزل على الأمم الماضية
وَكيف لا يقدر سبحانه على عموم المرادات والمقدورات مع انه ما مِنْ دَابَّةٍ تتحرك فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ في الجو بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ محفوظة أحوالها وأرزاقها وآجالها عندنا بحيث لا نهمل شيأ من حوائجها بل تثبت ونكتب الكل في لوحنا المحفوظ وكتابنا المبين على التفصيل بحيث ما فَرَّطْنا وأفرطنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ من حوائجهم وأحوالهم ثُمَّ بعد ما حفظوا ورزقوا زمانا حسب تعيناتهم وهوياتهم إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ويرجعون رجوع الظل الى ذي الظل
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على قدرتنا الغالبة الكاملة صُمٌّ عن استماع كلمة الحق من السنة الرسل وَبُكْمٌ عن التنطق بها مع انهم قد تيقنوا بها وبالجملة هم مغمورون فِي الظُّلُماتِ اى الحجب الكثيفة الناشئة من هوياتهم الباطلة وهياكلهم الفاسدة العاطلة وبالجملة مَنْ يَشَأِ اللَّهُ المدبر الحكيم إضلاله بمقتضى اسمه المذل المضل يُضْلِلْهُ حتما بلا تأثير هداية وارشاد أصلا وَمَنْ يَشَأْ هدايته يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيده بلا تأثير ضلال وإضلال مطلقا إذ كل ميسر لما خلق له
قُلْ لهم يا أكمل الرسل امحاضا للنصح أَرَأَيْتَكُمْ اى أخبروني صريحا إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ في يوم الجزاء أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ الموعودة التي أنتم تحشرون فيها الى الله هائمين حائرين أَغَيْرَ اللَّهِ المنقذ من العذاب المنجى من الحيرة والهيمان تَدْعُونَ للانقاذ والإنجاء أم تدعونه تضرعا وتلتجئون نحوه استعاذة بينوا الى أمركم في حين اضطراركم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في الأقوال والاخبار
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ وتتضرعون إذ لا ملجأ ولا ملاذ لكم سواه فَيَكْشِفُ عنكم ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ من الضر والبلاء إِنْ شاءَ وتعلق مشيته وارادته وَلا شك انكم تَنْسَوْنَ حينئذ ما تُشْرِكُونَ له من الاظلال الباطلة والتماثيل العاطلة وقل لهم ايضا متى سمعتم مآل أمركم وغاية حالكم وشأنكم فتضرعوا الى الله في جميع أحوالكم والتجؤا نحوه ومع ذلك لم يقبلوا منك قولك ونصحك البتة لخبث
باطنهم
وَاعلم انا لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا من مقام جودنا ولطفنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ وايدناهم بآيات ظاهرة ومعجزات باهرة فكذبوهم فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ رجاء ان يتضرعوا إلينا ويلتجئوا نحونا فلم يتضرعوا ولم يلتجئوا
فَلَوْلا وهلا إِذْ جاءَهُمْ اى لهؤلاء المصرين المعاندين بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وما هو من عدم تأثرهم من البأساء والضراء بل يتأثرون وينزعجون وَلكِنْ قد قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وغلظت غشاوتهم وَزَيَّنَ اى حبب وحسن لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عدم المبالات بآيات الله وتكذيب رسله والاعراض عن دينه
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ من البأساء والضراء ولم يتذكروا ولم يتعظوا بها فَتَحْنا عَلَيْهِمْ ابتلاء وفتنة أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ نافع لهم وخير وامهلناهم عليها زمانا حَتَّى إِذا فَرِحُوا واعجبوا بِما أُوتُوا مترفهين متنعمين بطرين مغرورين بالنعم ناسين المنعم بالمرة أَخَذْناهُمْ بأنواع البلاء بَغْتَةً فجاءة فَإِذا هُمْ حينئذ مُبْلِسُونَ متحسرون آيسون خائبون محرومون
فَقُطِعَ واستؤصل هكذا دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وصاروا بترا مقطوعين العقب بحيث لم يبق من خلفهم من استخلفهم واستدبرهم وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على هلاكهم واستئصالهم الى حيث لم يبق منهم ومن شؤم كفرهم ونفاقهم على وجه الأرض شائبة
قُلْ لهم يا أكمل الرسل ايضا امحاضا للنصح لعلهم ينتبهون أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ فاصمكم وَأَبْصارَكُمْ فاعماكم وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بغطاء الغفلة بحيث لا تحسون ولا تفهمون شيأ أصلا مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ الواحد الأحد القادر المقتدر يَأْتِيكُمْ ويرجعكم بِهِ اى بالمأخوذ انْظُرْ ايها الناظر المعتبر كَيْفَ نُصَرِّفُ ونكرر لهم الْآياتِ كي يتنبهوا تارة عقلا وتارة تذكيرا وعظة وتارة عبرا وأمثالا ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ اى ثم انظر كيف يعرضون عن جميعها من قساوة قلوبهم وخبث طينتهم
قُلْ لهم ايضا أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ المنتقم الغيور بَغْتَةً بلا سبق مقدمة وامارة أَوْ جَهْرَةً اى بسبق المقدمات والأمارات هَلْ يُهْلَكُ اى ما يهلك بأمثال هذا العذاب الفجائى والجهرى إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى أوامر الله ونواهيه الجارية على السنة رسله المؤيدين من عنده
وَكيف لا نهلك الظالمين ولا نعذبهم إذ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ لمن آمن بنا وامتثل باوامرنا واجتنب عن نواهينا وَمُنْذِرِينَ لمن لم يؤمن ولم يمتثل ولم يجتنب فَمَنْ آمَنَ منهم بعد ما سمع الدعوة من السنة الرسل وَأَصْلَحَ بالإيمان والتوبة ما أفسد من قبل من الكفر والعصيان فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين وصولهم إلينا وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من سوء المنقلب والمآب
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة على رسلنا ولم يعملوا بمقتضاها منكرين عليها يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ اى يحيطهم العذاب من جميع جوانبهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بشؤم فسقهم وخروجهم عن مقتضى الأوامر والنواهي
قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة تليينا لقلوبهم القاسية لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ العليم الحكيم اى جميع مراداته ومقدوراته وَلا أَعْلَمُ انا ايضا الْغَيْبَ اى جميعه إذ هما مما استأثر الله به لا يحوم حوله احد من خلقه وَايضا لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إذ انا بشر من جنسكم بل أقول لكم إِنْ أَتَّبِعُ اى ما اتبع وما اقتدى إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ من عنده سبحانه لابلغكم وأخبركم باذنه والهداية والضلال بيد الله الكبير المتعال يهدى من يشاء ويضل من يشاء وان أنكروا لياقة البشر لوحى الله
والهامه قُلْ لهم على سبيل الإلزام هَلْ يَسْتَوِي عندكم البشر الْأَعْمى عن مطالعة عجائب مصنوعات الحق وغرائب مخترعاته وَالبشر الْبَصِيرُ المطالع المشاهد لها أَتشكون في ان ما بينهما من التفاوت الفاحش فَلا تَتَفَكَّرُونَ ولا تتأملون حتى ينكشف ويتميز عندكم الحق الصريح من الباطل الزائل الزائغ
وَبالجملة أَنْذِرْ بِهِ اى بما يوحى إليك يا أكمل الرسل المؤمنين الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ وهم في أنفسهم معتقدون ان لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ يولى أمرهم غيره وَلا شَفِيعٌ يشفع لهم عنده حتى ينقذهم من عذابه لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لكي يتقوا ويحسنوا العمل لرضاه
وَبعد ما أرسلناك يا أكمل الرسل لترويج الحق وتقوية اهله لا تَطْرُدِ ولا تبعد من عندك الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ اى في جميع اوقات النهار وَالْعَشِيِّ اى في جميع اوقات الليل وبالجملة هم مستغرقون جميع أوقاتهم بالتوجه نحوه سبحانه ما يُرِيدُونَ وما يقصدون بتوجههم هذا غير ان يطالعوا وَجْهَهُ الكريم وبالجملة لا تطرد هؤلاء الكرام من عندك بسبب ميلك الى ايمان اهل البدع والأهواء ومصاحبتهم ومجالستهم مع انهم ليسوا من اهل الفلاح ولا قابلين له بالإرشاد والإصلاح بل ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ وايمانهم مِنْ شَيْءٍ يعود إليك نفعه وايضا وَما مِنْ حِسابِكَ وإيمانك عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ ينفعهم او يضرهم بل كل منك ومنهم مجزى بما عمل مسئول محاسب عما فعل مالك فَتَطْرُدَهُمْ اى هؤلاء المؤمنين المريدين وجه الله في عموم أوقاتهم وحالاتهم سيما لأجل أولئك الحمقاء المنهمكين في الغي والضلال فَتَكُونَ أنت بواسطة طردهم وتبعيدهم مِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى العقل والشرع والمروة بالمرة روى ان قريشا قالوا لو طردت يا محمد هؤلاء السفلة أرادوا عمارا وصهيبا وسلمان وغيرهم من ضعفاء الأصحاب قد جلسنا إليك وحادثنا معك فقال عليه السّلام ما انا بطارد المؤمنين قالوا فاقمهم عن مجلسنا حين جلسنا معك. قال له عمر رضى الله عنه لو فعلت حتى ننظر الى ماذا يصيرون فقبل عليه السّلام قالوا فاكتب بذلك كتابا فدعا بالصحيفة وبعلى ليكتب فنزلت اى الآية فالقى عليه السّلام الصحيفة من يد
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ اى مثل ما فتنا بعض الناس ببعض في الأمور المتعلقة بمعاش الدنيا من المال والجاه والرياسة فتناهم في امور دينهم ايضا لِيَقُولُوا من غاية استبعادهم واستحقارهم أَهؤُلاءِ الضعفاء الفقراء الأراذل قد مَنَّ اللَّهُ المنعم المفضل عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا قال سبحانه توبيخا وتقريعا لهم بل هم أولئك الفقراء الصابرون على بلاء الله الشاكرون لنعمائه أَلَيْسَ اللَّهُ العالم بضمائر عباده بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ الصابرين منهم ومنكم ايها الشرفا الكافرون لنعمه
وَإِذا جاءَكَ يا أكمل الرسل اى المؤمنون الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا ويمتثلون بها بالغداة والعشى وهم يريدون وجهنا فَقُلْ لهم قبل تسليمهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ ايها المقبولون عند الله الراضون المرضيون ثم بشرهم بأنه قد كَتَبَ اى قضى وأوجب رَبُّكُمْ لاجلكم عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ والشفقة والمرحمة الى حيث أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً به يسيء نفسه عند الله مع كونه صادرا عنه تلك المساءة بِجَهالَةٍ لا عن قصد وإصرار ثُمَّ بعد ما علم وخامة عاقبته تابَ مِنْ بَعْدِهِ واستغفر ربه منيبا اليه وَأَصْلَحَ بالتوبة ما أفسد بالجهالة فَأَنَّهُ سبحانه غَفُورٌ يستر تلك المعصية عنكم رَحِيمٌ يقبل توبتكم بسبب إخلاصكم فيها
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ ونوضح الْآياتِ ليظهر طريق الحق وَلِتَسْتَبِينَ وتتميز سَبِيلُ
الْمُجْرِمِينَ المنحرفين عن منهج الرشد ومسلك السداد وعن طريق اهل الحق
قُلْ يا أكمل الرسل للمشركين الذين يعبدون آلهة غير الله إِنِّي نُهِيتُ وزجرت وصرفت بالدلائل القاطعة الدالة على توحيد الحق وكذا بالكشوف والمشاهدات الواردة الى من عنده سبحانه الصارفة عن الميل والتوجه الى الغير والسوى مطلقا أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ وتسمون أنتم ايها المسرفون المفرطون مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الهة باطلة باهويتكم الفاسدة قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ التي اخترعتموها أنتم من تلقاء انفسكم الهة وان اتبعت بمتابعتكم تلك التماثيل العاطلة قَدْ ضَلَلْتُ انا إِذاً مثل ما قد ضللتم أنتم وَبعد ما ضللت ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أصلا في شيء من الهداية كمثلكم
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ واضحة مِنْ معرفة رَبِّي وتوحيده وَأنتم قد كَذَّبْتُمْ بِهِ وبتوحيده وأشركتم له غيره واستوجبتم العقوبة العظيمة بشرككم ومع ذلك قد استهزأتم بي باستعجال العذاب مع انه ما عِنْدِي وليس بيدي وقبضة قدرتي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب والنكال بل إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ الحكيم العليم وما الأمر الا له وبيده وتحت قبضة قدرته ومشيته هو يَقُصُّ الْحَقَّ ويحكم فيه وهو يدمغ الباطل ويدفعه وَبالجملة هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ الحاكمين في عموم الوقائع والخطوب وجميع المصائب والملمات
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي وتحت قدرتي وبمقتضى مكنتى وطاقتي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من نزول العذاب والعقاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ اى لأهلككم اليوم بالمرة ولا رفع النزاع الواقع بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَلكن ليس لي هذه القدرة والمكنة بل اللَّهُ المطلع بسرائر عباده أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ المستوجبين للعذاب والنكال يأخذهم بظلمهم متى تعلقت ارادته
وَكيف لا يعلم ولا يطلع سبحانه على سرائر الأمور ومخفياتها إذ عِنْدَهُ وتحته قدرته وارادته مَفاتِحُ مطلق الْغَيْبِ ومقاليد عموم السرائر والخفيات لا يَعْلَمُها ولا يعلم اوقات ظهورها من الغيب الى الشهادة إِلَّا هُوَ إذ هو المحيط بجميع ما كان وما يكون ازلا وابدا حيث لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء ثم لما كانت الافهام قاصرة عن ادراك الغيب تنزل سبحانه عن تلك المرتبة الى ما هو اقرب الى الافهام فقال وَيَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ من الكائنات والفاسدات وتنزل منها ايضا فقال وَما تَسْقُطُ وتهوى مِنْ وَرَقَةٍ من اغصان الشجر إِلَّا يَعْلَمُها كيف تنزل ومتى تنزل والى اين تنزل ولأي شيء تنزل وَلا حَبَّةٍ ساقطة فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ اى مكا منها ومطاويها الى ان تصل الى مرتبتها الاصلية التي كانت عليها قبل سقوطها وَبالجملة لا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ من الكوائن والفواسد إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو عبارة عن حضرة علمه الحضوري المتحد بعينه وذاته الظاهرة في نفسها المظهرة لنفسها بنفسها إذ لا هو الا هو ولا شيء سواه ليس مثله شيء ولا دونه حي
وَكيف يخرج عن حيطة علمه شيء من الكائنات والفاسدات إذ هُوَ القادر المقتدر الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ اى يستر ويغيب استعداداتكم بِاللَّيْلِ اى في مقر البطون والغيب المطلق وَفي تلك المرتبة يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما جَرَحْتُمْ اى كسبتم واكتسبتم باستعداداتكم الجبلية وقابلياتكم الفطرية بِالنَّهارِ اى في فضاء البروز وعالم الشهادة من المعارف والحقائق المقتضية الباعثة للظهور والإظهار لو ظهرتم ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ويظهركم في فضاء الظهور وعالم الشهادة لِيُقْضى ويتم أَجَلٌ مُسَمًّى مقدر عنده لاكتسابكم
واقترافكم وظهور ما في استعدادكم ثُمَّ بعد انقضاء الأجل المسمى إِلَيْهِ لا الى غيره مَرْجِعُكُمْ رجوع الظل الى ذي الظل ثُمَّ بعد رجوعكم اليه يُنَبِّئُكُمْ اى يخبركم ويجازيكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وتكسبون في نشأة ظهوركم وشهادتكم من الأعمال الصالحة للقبول والثواب والفاسدة المستوجبة للرد والعقاب
وَبالجملة عليكم ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة ان لا تغفلوا عن مقتضيات توحيد الله ولا تخرجوا عن امتثال أحكامه الجارية على السنة رسله إذ هُوَ الْقاهِرُ القادر المقتدر العزيز الغالب فَوْقَ عِبادِهِ الرقيب المحافظ المراقب عليهم يحفظهم عما لا يعنيهم وَمن جملة محافظته سبحانه انه يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً من الملائكة يكتبون ويجمعون عموم ما صدر عنكم حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ اى الوقت الذي قدر الله المدبر الحكيم لانقضاء الأجل المسمى عنده تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا اى قد وفى عليه حسابه الملائكة الموكلون منا وَهُمْ اى الرسل الأمناء الموكلون لا يُفَرِّطُونَ ولا يفرطون ايضا أصلا فيما صدر عنهم
ثُمَّ بعد ما وفي الرسل حسابهم على الوجه الا عدل الا قوم رُدُّوا للجزاء إِلَى اللَّهِ المجازى الذي هو مَوْلاهُمُ الْحَقِّ العدل السوى القائم بالقسط العالم بجميع احوال عباده ليجازى كلا منهم على مقتضى علمه وخبرته أَلا لَهُ الْحُكْمُ والأمر والجزاء وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ لاعمال عباده بحيث لا يغيب عن حفظه وحسابه شيء منها
قُلْ لهم يا أكمل الرسل مَنْ يُنَجِّيكُمْ ويخلصكم مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ اى من شدائدها وأهوالها حين تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً متضرعين مجاهرين وَخُفْيَةً مناجين مسرين قائلين لَئِنْ أَنْجانا بلطفك يا مولانا مِنْ هذِهِ الأهوال والمخاوف لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمك الصارفين لها الى مقتضى ما امرتنا به ورضيت عنا بصرفها
قُلِ اللَّهُ المصلح لعموم أحوالكم يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَكذا مِنْ كُلِّ كَرْبٍ هم وغم قد الم بكم ثُمَّ بعد ما أنجاكم الله ايها المنهمكون في بحر الضلال أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ به سبحانه ما لا وجود له من العكوس والاظلال والتماثيل العاطلة وتكفرون بنعمة العقل المفاض من عنده لتتنبهوا به الى توحيده
قُلْ هُوَ الْقادِرُ المقتدر عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً نازلا مِنْ فَوْقِكُمْ مثل الرعد والبرق والصواعق الكائنة في الجو أَوْ حادثا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ مثل الزلزلة والغرق وغير ذلك أَوْ يَلْبِسَكُمْ ويخلط عليكم اهوائكم ويجعلكم شِيَعاً فرقا متخالفة متقابلة وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالقتل والسبي والاجلاء انْظُرْ ايها الرائي كَيْفَ نُصَرِّفُ نجدد ونكرر لهم الْآياتِ اى دلائل توحيدنا وشواهده لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ رجاء ان يتفطنوا الى سرائر توحيدنا وسريان هويتنا الذاتية في مظاهرنا ومع ذلك لم يتنبهوا
وَمن عدم تنبههم وتفطنهم قد كَذَّبَ بِهِ اى بعموم ما جاء من عندنا إليك يا أكمل الرسل في الكتاب الجامع لفوائد جميع الكتب السالفة قَوْمُكَ يعنى قريشا خذلهم الله ونسبوا إلينا وإليك ما لا يليق بشأننا وشأنك وَالحال انه هُوَ الْحَقُّ المطابق للواقع نزوله منا إليك قُلْ لهم في مقابلة تكذيبهم لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ موكل لحفظكم حتى احفظكم عما يضركم بل ما على الا البلاغ والوقاية والحفظ بيد الله وفي قبضة قدرته
واعلموا انه لِكُلِّ نَبَإٍ اى خبر وآيات نازلة من الله مُسْتَقَرٌّ مقر ومورد قرار وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ حين تقرره ونزوله في مورده في الدنيا والآخرة
وَإِذا رَأَيْتَ أنت يا أكمل الرسل المسرفين الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بالطعن والتكذيب فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ ولا تصاحبهم واخرج من بينهم حَتَّى لا تكون أنت سببا لاستهزائهم واستحقارهم وطعنهم ويَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ اى غير القدح والطعن فيه وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ الخروج من بينهم فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى والتذكر البتة مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الطاعنين على الله المنزه في ذاته عن عموم النقائص بما لا يليق بجنابه
وَان اتفق مجالسة المؤمنين معهم أحيانا ما يلزم ويعود عَلَى المؤمنين الَّذِينَ يَتَّقُونَ عن محارم الله مِنْ حِسابِهِمْ الذي هم يحاسبون عليه ويعاقبون لأجله مِنْ شَيْءٍ من الخطر والذلل وَلكِنْ ان اتفق جمعهم لزمهم ذِكْرى والموعظة الحسنة الناشئة من محض الحكمة إياهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ويحذرون عماهم عليه من الاستهزاء والتكذيب تأثرا واستحياء
وَان لم يتأثروا ولم يستحيوا ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي يدعون الهداية بسببه اى اتركهم مع دينهم يلعبون به لَعِباً وَلَهْواً ويجعلونه ملعبا وملهى ليس لهم منه تأثر أصلا بل يجرونه على اللسان ويلقونه على طرف اللثام وَكيف يتأثرون منه ولا يلعبون معه مع انهم هم قد غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بحيث عموا وصموا عن الأمور الاخروية بالمرة وَان أردت ان تذكر بالقرآن ذَكِّرْ بِهِ على من هو على خطر من الله مخافة أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ اى تسلمه وتوقعه النفس العاصية الى الهلاك الأبدي والبوار السرمدي بِما كَسَبَتْ له من العقائد الزائغة والمعاصي العائقة عن اقامة حدود الله إذ لَيْسَ لَها اى للنفس أية نفس كانت مِنْ دُونِ اللَّهِ المدبر المصلح وَلِيٌّ يولى أمرها وينقذها من العذاب وَلا شَفِيعٌ يشفع لها عند الله لتنجو من عذابه وَإِنْ تَعْدِلْ وتفد كُلَّ عَدْلٍ وكل ما يفدى به من امتعة الدنيا وزخارفها لا يُؤْخَذْ ولا يقبل شيء مِنْها اى من الفدية المفداة وبالجملة أُولئِكَ البعداء المطرودون عن روح الله هم الَّذِينَ أُبْسِلُوا وسلموا نفوسهم الى الهلاك بِما كَسَبُوا اى بشؤم ما اقترفت نفوسهم من المعاصي والآثام بحيث يعد ويهيأ لَهُمْ في الآخرة شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ يحرق بطونهم منه ومن مسرة المؤمنين فيها وَعَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم منه ومن رفعة مكانتهم عند الله كل ذلك بِما كانُوا يَكْفُرُونَ اى بسبب كفرهم وخروجهم عن حدود الله وان ادعى المشركون حقية دينهم ويدعوا المسلمين اليه
قُلْ لهم يا أكمل الرسل تعليما لمن تبعك أَنَدْعُوا ونعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ الخالق الرازق الفاعل المختار بالإرادة والاختيار ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا اى شيأ لا يقدر على جلب النفع ودفع الضر لنفسه فكيف لغيره وَبعبادة هؤلاء الهياكل لهلكى نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا التي كنا عليه من الشرك والطغيان سيما بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ للطيف الحكيم بنور التوحيد والعرفان كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ اى كالشخص الذي ذهب بعقله اى قد خبلته الشَّياطِينُ والاغوال المضلة وطرحته فِي الْأَرْضِ اى المهاوى العميقة والمهامة البعيدة وصار بسبب هذا حَيْرانَ قلقا حائرا تائها هائما وقد كان لَهُ أَصْحابٌ ورفقة يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى اى الى الطريق السالم الواضح المستقيم صائحا عليه قائلا له ائْتِنا ايها التائه الحائر حتى تهتدى الى الطريق الأقوم ونحن على الجادة المستقيمة ولم يسمع كلامهم ولم يقبل قولهم بل اقتفى اثر الغول المغوى حتى يضل ويهلك قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الهادي لعباده الى توحيده الذاتي هُوَ الْهُدى المقصور على الهداية الحقيقية الا وهو دين الإسلام المنزل على خير الأنام وَقد أُمِرْنا من عنده سبحانه حسب هدايته وإرشاده إيانا لِنُسْلِمَ
ونفوض جميع أمورنا لِرَبِّ الْعالَمِينَ إذ هو المستقل بتربية عموم مظاهره بحيث لا يجرى في ملكه الا ما يشاء
وَقد أمرنا ايضا من عنده سبحانه أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ واديموا الميل والتقرب نحوه وَاتَّقُوهُ واحذروا من سخطه وغضبه بارتكاب منهياته وَاعلموا انه سبحانه هُوَ الموجد المظهر الَّذِي إِلَيْهِ لا الى غيره من وسائل الاظلال والعكوس تُحْشَرُونَ وترجعون
وَكيف لا هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى أوجدهما واظهرهما من كتم العدم ملتبسا بِالْحَقِّ على مقتضى الحكمة المتقنة التي ما ترى فيها من فطور وفتور وَذلك يَوْمَ يَقُولُ بعد تعلق ارادته سبحانه ومشيئته بتكوينهما كُنْ فَيَكُونُ على الفور بلا تراخ ومهلة تنفيذا لسرعة نفوذ قضائه وبالجملة قَوْلُهُ سبحانه لاعدامهما ايضا في قيام الساعة الْحَقُّ المطابق للواقع بلا تخلف وَكيف يتصور التخلف في قوله سبحانه مع انه لَهُ الْمُلْكُ والملكوت كلها اصالة وله التصرف فيها بالاستقلال إيجادا واعداما ارادة واختيارا اذكر يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ لإعدام ما في الوجود وافنائه غيبا وشهادة إظهارا للقدرة الغالبة إذ هو عالِمُ الْغَيْبِ وجميع ما جرى ويجرى فيه وَكذا عالم الشَّهادَةِ وعموم ما ظهر ويظهر عليها ازلا وابدا وَهُوَ بذاته الْحَكِيمُ المتقن في إبداء عموم مظاهره من الغيب الْخَبِيرُ بجميع ما يترتب عليها في الشهادة بعد إعادتها
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين وقت إِذْ قالَ جدك إِبْراهِيمُ الخليل الجليل حين استيقظ من منام الغفلة وانتبه من نعاس النسيان لِأَبِيهِ المسمى آزَرَ العابد للأصنام أَتَتَّخِذُ وتأخذ يا أبت أَصْناماً تنحتها أنت بيدك آلِهَةً مستحقة للعبادة قادرة للإيجاد والاعدام والله إِنِّي قد تنبهت وتفطنت من ان هؤلاء الهياكل الهلكى لا تليق بالالوهية والربوبية مطلقا إذ الإله لا بد وان يكون متصفا بعموم أوصاف الكمال بلا وصمة تغير وزوال وتوهم تحول وانتقال أَراكَ يا أبت وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية عظيمة بعبادة هذه التماثيل العاطلة الباطلة واعتقادها معبودات حقة
وَكَذلِكَ اى ومثل ما نوقظه من منام الغفلة في امر الأصنام نُرِي ايضا إِبْراهِيمَ الخليل الجليل مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى عجائبهما وغرائبهما المودعة فيهما ليتأمل فيهما ويتفكر في كيفية تدبيراتهما وتصريفاتهما حتى ينكشف بكمال قدرة مبدعهما وقوة مخترعهما وَلِيَكُونَ هو مِنَ الْمُوقِنِينَ المنكشفين بأمرها لا من المشطرين المترددين المتحذين بعضها آلهة كعبدة الكواكب والمجسمة وغيرها
فَلَمَّا جَنَّ واظلم عَلَيْهِ اى على ابراهيم اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قد استنار بنوره وانكشف عنه الظلمة بسببه وظن ان انكشافه ذاتى مطلق دائم قالَ على مقتضى ظنه به هذا رَبِّي إذ هو نور يتجلى في الظلمة فيستحق الربوبية والعبودية فَلَمَّا أَفَلَ وغاب وانمحى قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فكيف اعبده وأخص العبادة له إذ الأفول والتغير انما هو من امارات الحدوث والحادث لا يستحق العبودية ولا يليق بالالوهية
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً مبتدأ في الطلوع منيرا له إشراقا واضاءة وانكشافا خيله انه هو سبحانه وحصره عليه لذلك قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ انمحق وانكسر قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي ولم ينكشف على امره لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ باعتقاد هذا البازغ الآفل الها واحدا أحدا فردا صمدا
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قاهرة لجميع الكواكب غالبة عليها مضيئة بنفسها مشرقة بحيث لا يتحقق انكشافها بسائر الكواكب أصلا بل وهي اى عموم
الكواكب قد انمحقت بها قالَ هذا رَبِّي إذ هو أتم انكشافا وأكمل اضاءة وانارة هذا أَكْبَرُ من الجميع فهي المستحق بالالوهية والربوبية فَلَمَّا أَفَلَتْ وتغيرت وانمحقت انكشف حينئذ الى نور لا افول له ولا تغير بل هو نور على نور يهد الله لنوره من يشاء قالَ يا قَوْمِ انى بعد ما كوشفت بنور الحق وعوينت بوجهه الكريم قد تحققت بتوحيده وتمكنت بمقر تجريده إِنِّي بَرِيءٌ جميع مِمَّا تُشْرِكُونَ أنتم به سبحانه من التماثيل الباطلة والاظلال الهالكة الآفلة
إِنِّي بعد ما اجتهدت في طريق التوحيد وبذلت جهدي في مسالكه وَجَّهْتُ وَجْهِيَ اى وجه قلبي الذي هو يلي الحق نحوه سبحانه بتوفيق منه وجذب من جانبه وتوجهت لِلَّذِي فَطَرَ قدر واظهر بلا مادة ومدة السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى العالم العلوي والسفلى حَنِيفاً مائلا عن عموم الأديان الباطلة والآراء الفاسدة وَبعد ما تحققت بما تحققت ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بحال من الأحوال بإثبات الوجود لغير الحق بل الوجود مطلقا منحصر به وما سواه انما هو اظلال أوصافه وعكوس تجلياته إذ لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون رجوع الظل الى ذي الظل
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ اى قد خاصموا معه في ادعائه التوحيد وعارضوه حيث قالوا أنترك ما يعبد آباؤنا بتسويلات نفسك يا ابراهيم قالَ أَتُحاجُّونِّي وتخاصمونى فِي اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد وتجادلون أنتم معى في توحيده وتخوفوننى من هذه التماثيل الباطلة العاطلة وَالحال انه قَدْ هَدانِ الله بلطفه الى مقر توحيده ومكنني فيه وَبعد ما قد انكشفت بتوحيد الله وباستقلاله بالتصرف في عموم مظاهره لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إذ لا نفع منه ولا ضر إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً مكروها يلحقني من جهته إذ هو ايضا بمشيته وهو من جملة مظاهره وهو سبحانه اعلم به إذ قد وَسِعَ وأحاط رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وتتفكرون لتميزوا بين المظهر والظاهر والعاجز والقادر
وَكَيْفَ أَخافُ انا من ما أَشْرَكْتُمْ مع انه لا ضرر يتوقع منه وَلا تَخافُونَ أنتم من غضب الله المنتقم الغيور مع أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ المتوحد بالالوهية المنزه في ذاته عن الشريك والنظير ما لَمْ يُنَزِّلْ الله بِهِ اى بشركته وألوهيته عَلَيْكُمْ سُلْطاناً اى حجة وبرهانا وبالجملة فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ اى الموحدون او المشركون أَحَقُّ بِالْأَمْنِ وأليق بالقبول بينوا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اى من ذوى العلوم والعقول.
ثم قال سبحانه الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وَبعد ما آمنوا لَمْ يَلْبِسُوا ولم يخلطوا ولم يستروا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ وخروج عن مقتضى الايمان والتوحيد أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله لَهُمُ الْأَمْنُ في مأمن الوحدة وَهُمْ مُهْتَدُونَ مقصورون على الهداية والتوحيد لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وَتِلْكَ القصة التي سمعت يا أكمل الرسل حُجَّتُنا ودليل وحدتنا قد آتَيْناها إِبْراهِيمَ امتنانا له وإرشادا ليغلب بها عَلى قَوْمِهِ ومن سننا القديمة انا نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ من عبادنا في العلم والحكمة والإيقان والمعرفة إِنَّ رَبَّكَ ايها المظهر الجامع للحق حَكِيمٌ في رفع درجات بعض عباده عَلِيمٌ باستعداداتهم وقابلياتهم
وَمن جملة تعظيمنا لإبراهيم عليه السّلام ورفعنا له درجته انا قد وَهَبْنا لَهُ من محض فضلنا وجودنا إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا اى هدينا كلا منهما الى توحيدنا وَكذلك نُوحاً هو جد ابراهيم قد هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ فيكون ابراهيم عليه السّلام وارثا لهداية نوح ومورثا لهداية اسحق ويعقوب وهو من أعظم النعم والهداية أكرم الكرم والعناية وَ
كذا قد هدينا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ اى ذرية ابراهيم داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ اى مثل جزاء هؤلاء الأنبياء المذكورين نَجْزِي عموم الْمُحْسِنِينَ مع الله المتشوقين بشرف لقائه
وَقد هدينا ايضا زَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ منهم مِنَ الصَّالِحِينَ لعناية الله وهدايته
وَايضا قد هدينا من ذرية ابراهيم إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَبالجملة كلًّا من هؤلاء المذكورين قد فَضَّلْنا بالحكمة والنبوة عَلَى الْعالَمِينَ اى على عموم الناس الموجودين في زمانهم
وَكذلك مِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ ممن لم يبلغ منهم مرتبة النبوة والحكمة فضلناهم بأنواع النعم وَاجْتَبَيْناهُمْ وانتخبناهم من بين الناس بأصناف الكرم وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيدنا
ذلِكَ اى سبب تقرب هؤلاء الأمناء الكرام هُدَى اللَّهِ اى محض هدايته وعنايته تفضلا عليهم وامتنانا يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ارادة واختيارا وَالله لَوْ أَشْرَكُوا بالله هؤلاء المهتدون المهديون بان اثبتوا الوجود والتحقق لغيره لَحَبِطَ اى ضاع واضمحل عَنْهُمْ ثواب ما كانُوا يَعْمَلُونَ مدة اعمارهم من الخيرات والمبرات وكانوا في حبوط أعمالهم كسائر المشركين. نعتصم بك من إنزال قهرك يا ذا القوة المتين
أُولئِكَ السعداء الأمناء الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ الجامع المبين لهم طريق تهذيب الظاهر والباطن وَالْحُكْمَ الفارق بين الحق والباطل في الوقائع على مقتضى الحكمة الإلهية وَالنُّبُوَّةَ المقتضية لاهتداء التائهين في بيداء الغفلة والضلال الى طريق التوحيد فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ المضلون الضالون عن طريق الحق يعنى قريشا خذلهم الله فَقَدْ وَكَّلْنا بِها وبمراعاتها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ من اهل العناية والتوفيق
أُولئِكَ المذكورون من الأنبياء هم الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ الهادي إياهم الى توحيده تفضلا عليهم فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ إذ مقصد اهل التوحيد واحد وان كانت الطرق مختلفة متفاوتة قُلْ يا أكمل الرسل لعموم من بعثت اليه كلاما صادرا عن محض الحكمة إشفاقا لهم لا أَسْئَلُكُمْ ولا أطمع منكم عَلَيْهِ اى على تبيين طريق التوحيد وتبليغ أوامر الحق ونواهيه أَجْراً جعلا إِنْ هُوَ وما الغرض من التبيين والتبليغ إِلَّا ذِكْرى وموعظة لِلْعالَمِينَ كي يتنبهوا على مبدأهم ومعادهم وما جبلوا وخلقوا لأجله
وَالقوم الذين أنكروا بعثتك وكذبوا موعظتك يا أكمل الرسل ما قَدَرُوا اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء حَقَّ قَدْرِهِ ولا قدر حقيته وما عرفوا ظهوره في الآفاق والأنفس واستقلاله بالتصرف فيها إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ الحكيم عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ اى التورية الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى من عند ربه ومن جعله نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ يستنيرون ويستكشفون منه ويهتدون به الى توحيد الله مع انكم تَجْعَلُونَهُ بأيديكم قَراطِيسَ وقد كانت ألواحا تُبْدُونَها وتظهرون منها ما يصلح لكم ويعين على مدعاكم وَتُخْفُونَ كَثِيراً مما لا يصلح لكم عنادا ومكابرة وَكيف تنكرون انزاله إذ عُلِّمْتُمْ منه ما لَمْ تَعْلَمُوا لا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ من الأمور المتعلقة بالظاهر والباطن قُلْ يا أكمل الرسل في الجواب بعد ما بهتوا اللَّهَ إذ هو المتعين للجواب ولا شيء غيره ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ مع أباطيلهم واراجيفهم يَلْعَبُونَ ويترددون وفي سكرتهم يعمهون فما بقي عليك شيء بعد ما بلغت رسالتك.
ثم قال سبحانه وَهذا كِتابٌ جامع لعموم
ما في الكتب السالفة من الفوائد على ابلغ وجه وآكده مع زيادات شريفة قد أَنْزَلْناهُ إليك يا أكمل الرسل مُبارَكٌ كثير الخير والبركة لك ولمن تبعك مُصَدِّقُ للكتاب الَّذِي أحكامه بَيْنَ يَدَيْهِ اى التورية والإنجيل وجميع الكتب والصحف النازلة من عند الله وَانما أنزلناه إليك لِتُنْذِرَ به أنت أُمَّ الْقُرى اى اهل مكة وَمَنْ حَوْلَها اى جميع اقطار الأرض وأرجائها إذ قد دحيت الأرض من تحتها على ما قيل لذلك صارت قبلة لجميع اهل الأرض وفرض حجها وطوافها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ من اهل الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ اى بالقرآن ايضا وَسبب ايمانهم به انهم هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ اى يراقبون ويداومون على الميل والتوجه نحو الحق مؤمنين بجميع شئونه وتجلياته ومن جملتها بل من أجلتها إنزال القرآن البالغ أعلى درجات اليقين في تبيين احوال النشأة الاولى والاخرى إذ هو منتخب منهما مخبر عنهما على وجه يعجز عنه عموم ارباب اللسان والبيان من البشر ومن له ادنى مسكة من ذوى العقول لا بد ان يؤمن به وبإعجازه الا من أضله الله وختم على قلبه
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بان قال بعثني الله نبيا كمسيلمة والأسود العنسي أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ كعبد الله بن ابى سرح وَمَنْ قالَ من كفار قريش سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ولو نشاء لقلنا مثل هذا وَلَوْ تَرى ايها المعتبر الرائي إِذِ الظَّالِمُونَ المفترون على الله المكذبون لكتبه ورسله مغمورون فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وسكراته وأهواله وَالْمَلائِكَةُ قائمون مسلطون عليهم باسِطُوا أَيْدِيهِمْ كالمتقاضي قائلين لهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ وأرواحكم ايها المفترون الكاذبون بأيديكم حتى تخلصوا عن أيدينا واعلموا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ اى المشتمل على انواع الهوان والمذلة بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَقد كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ عتوا وعنادا
وَالآن لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى عارين منفردين عما استكبرتم به من المال والجاه والثروة والرياسة كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ عارين عن جميعها وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وما تفضلنا وابتليناكم به في النشأة الاولى ليكون سبب بطركم وخيلائكم وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَايضا ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ معبوداتكم الَّذِينَ قد زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ اى في ايجادكم واظهاركم شُرَكاءُ معنا الآن لَقَدْ تَقَطَّعَ وانفصل بَيْنَكُمْ وبينهم وَضَلَّ اى قد غاب وخفى عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ انها شفعاؤكم ينقذونكم من عذاب الله قل يا أكمل الرسل للمنكرين للبعث والحشر المستبعدين المستحيلين احياء الأموات من العظام الرفات
إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على عموم ما أراد وشاء فالِقُ الْحَبِّ بالنبات وَفالق النَّوى بالشجرة وبفلقه وشقه وبكمال حكمه وحكمته يُخْرِجُ الْحَيَّ اى الحيوان والنبات مِنَ الْمَيِّتِ اى الحبة والنطفة وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ اى الحبة والنطفة مِنَ الْحَيِّ اى الحيوان والنبات ذلِكُمُ اللَّهُ المحي المميت الحي القيوم المستحق للالوهية والربوبية والمعبودية فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وتصرفون عنه الى غيره من الاظلال الباطلة ايها الحمقى العمي الآفكون وكيف تصرفون عنه مع انه هو بكمال قدرته وقوته
فالِقُ الْإِصْباحِ وشاق ظلام الليل يفلج الصبح لتكسبوا فيها اقواتكم ومعاشكم ايضا وَقد جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً لتستريحوا فيها من تعب الكد وهما من أقوى اسباب حياتكم وَايضا قد جعل لكم ولمعاشكم الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذواتي أدوار واطوار مختلفة وأوضاع متفاوتة شتاء وصيفا ربيعا وخريفا تتميما لأرزاقكم
واقواتكم وذلِكَ التدوير والتدبير كله تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ القادر الغالب على عموم صور التداوير والتدابير الْعَلِيمِ الحكيم في وضع هذا التدوير المخصوص المتعارف النافع لمعاش عباده
وَكيف تصرفون عنه سبحانه مع انه هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ولتدبير مصالحكم النُّجُومَ الزاهرات مرتكزة في السموات لِتَهْتَدُوا بِها وتوصلوا بهدايتها الى مطالبكم حين كنتم تائهين ضالين فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ اى في مفاوزه وبيادره وَالْبَحْرِ اى لججه واغواره وبالجملة قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ الدالة على توحيدنا واستقلالنا في التصرفات والتدبيرات الواردة في عالم الكون والفساد لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يستدلون وينتفعون بها ويتنبهون الى وحدة موجدها ومصرفها
وَايضا كيف يصرفون عنه سبحانه مع انه هُوَ القادر المقتدر الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وأظهركم بالتجلى الحبى مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي طبيعة العدم فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ اى قد قدر لكم أطوارا مختلفة وشئونا شتى متفاوتة لبعض قرار واستقرار ولبعض استيداع واستتار تتبدلون وتتحولون من حال الى حال على مقتضى تطوراتها وتجلياتها قَدْ فَصَّلْنَا وأوضحنا الْآياتِ الدالة على ان لا وجود لغيرنا من الاظلال ولا قرار ولا مدار لها أصلا لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ يتأملون ويتدبرون لينكشفوا بكيفية سريان الهوية الإلهية في صفحات المظاهر الكونية والكيانية
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ جانب السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ اى بالماء التفت سبحانه لئلا يتوهم اسناد الإخراج الى الماء نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ يعنى ينبت كل صنف من أوصاف النباتات فَأَخْرَجْنا مِنْهُ اى من النبات خَضِراً وهو الساق نُخْرِجُ مِنْهُ اى من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً وهو السنبلة وَأخرجنا ايضا مِنَ النَّخْلِ طلعها وقد ظهر مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ عنقود دانِيَةٌ قريبة للمتناول كثيرة وافرة ملتفة بعضها ببعض وَايضا قد أخرجنا وأظهرنا بالماء جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَكذا قد أخرجنا به الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ من أشجارها مُشْتَبِهاً بعضها ببعض وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ يعنى أنواعا مختلفة وأصنافا متفاوتة انْظُرُوا ايها الناظرون إِلى ثَمَرِهِ اى ثمر كل من المذكورات إِذا أَثْمَرَ اى حين خرج أولا صغيرا بلا لذة وانتفاع وَانظروا الى يَنْعِهِ نضجه وصلاحه ونفعه وكبره يوما فيوما ثم اعتبروا يا اولى الباب منها إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ اى دلائل واضحات على وجود الفاعل المختار الحكيم المتقن في فعله بلا مشاركة احد وممانعة ضد وند العليم الخبير بتطوراتها وتبدلاتها من حال الى حال متدرجا من كمال الى أكمل المربى لكل منها بما يناسبها ويلائمها على وجه الاعتدال الى ان يعود الى ما بدا لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ويوقنون بوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته
وَمع عجائب صنع هذا الصانع القديم وبدائع حكم هذا العليم الحكيم قد جَعَلُوا من غاية جهلهم ونهاية غفلتهم واثبتوا لِلَّهِ المتوحد في ذاته المنزه عن الشركة مطلقا شُرَكاءَ خصوصا الْجِنَّ الشياطين فيعبدونهم كعبادة الله ويمتثلون أوامرهم كاوامر الله وَالحال انهم عالمون بان الله خَلَقَهُمْ ومعبوداتهم وَمن جملة شركهم انهم خَرَقُوا لَهُ سبحانه اى اثبتوا له خرقا لعادة الله وسنته افتراء ومراء بَنِينَ كما قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وَبَناتٍ كما قالت العرب الملائكة بنات الله كل ذلك مختلق صادر منهم بِغَيْرِ عِلْمٍ ومعرفة بذات الصمد المنزه عن الأهل والولد سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ هؤلاء الظالمون المفرطون المفرطون
إذ هو سبحانه بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مبدعهما ومظهرهما
من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة وزواج وازدواج بل بالتجلى عليهما ومد الظل إليهما أَنَّى من اين يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وليس غيره احد وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ والولد انما يتصور بين المتجانسين وَهو سبحانه قد خَلَقَ اى أوجد واظهر كُلَّ شَيْءٍ بامتداد اظلال أوصافه الذاتية وعكوس شئونه الغيبية وتجلياته الحبية وعكوس شئونه العينية وَهُوَ بذاته بِكُلِّ شَيْءٍ مما ظهر من تجليات صفاته عَلِيمٌ لا يخفى عليه شيء
ذلِكُمُ اللَّهُ اى الظاهر المكشوف بحسب الذات الاحدية الموصوفة بالصفات الازلية الابدية السرمدية المتجلى بالتجليات اللطفية والقهرية رَبُّكُمْ موجدكم ومربيكم ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة الباطلة لا إِلهَ ولا موجود إِلَّا هُوَ بذاته الوحدانية وهو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ إذ كل ما ظهر وبدا انما هو من اظلال أسمائه وعكوس صفاته فَاعْبُدُوهُ إذ هو المستحق للعبادة والرجوع اليه لا غير وفوضوا أموركم كلها اليه وَكيف لا تفوضونها اليه مع انه هُوَ بذاته وأوصافه وأسمائه عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الكوائن والفواسد الحادثة في مظاهره وَكِيلٌ كفيل يوليها ويصرفها كيف يشاء حسب قدرته وارادته بالاختيار والاستقلال
وان كان لا تُدْرِكُهُ من غاية ظهوره وجلائه الْأَبْصارُ القاهرة عن ابصار انواره الباهرة وَكيف تدركه الأبصار إذ هُوَ بذاته يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ويبصرها ومبصر الأبصار لا يبصره الأبصار إذ هو سبحانه من غاية لطافته عين نور العين والعين لا تدرك نورها الذي به ابصارها وَكيف يدرك ويبصر سبحانه إذ هُوَ اللَّطِيفُ الدقيق الرقيق المنزه المتعالي عن المحاذاة والمقابلة والانطباع والانتقاش والمحاكاة مطلقا الْخَبِيرُ هو بخصوصه وانفراده عن عموم الاخبار الكائنة كيف يخبر عنه وبالجملة ما يرى الله الا الله وما يخبر عنه الا هو وما يطلع عليه سواه كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون رجوع الظل الى ذي الظل
قَدْ جاءَكُمْ وحصل عندكم ولاح دونكم ايها المجبولون على فطرة التوحيد بَصائِرُ كواشف وشواهد ناشئة مِنْ رَبِّكُمْ الذي أوجدكم وأظهركم عليها ورباكم بها ولها فَمَنْ أَبْصَرَ اى شهد وانكشف بها فَلِنَفْسِهِ اى عاد نفعه إليها وَمَنْ عَمِيَ واحتجب ايضا فَعَلَيْها عائد وبالها وَبالجملة ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ رقيب مصرف بل منبه مبلغ والوقاية بيد الله والتصرف تحت قدرته وارادته يهدى من يشاء ويضل من يشاء حسب اختياره.
ثم قال سبحانه وَكَذلِكَ اى ومثل ذلك المذكور نُصَرِّفُ ونكرر الْآياتِ الدالة على توحيدنا مرارا ونقررها كذلك تكرارا رجاء ان يتنبهوا بها فلم يتنبه منهم الا قليل بل اقل من القليل وغاية أمرهم ونهاية قدحهم وطعنهم في كتابك يا أكمل الرسل ان يصرفوا ضعفاء العوام عنك وعن قبول كتابك وَلِيَقُولُوا لك وفي حقك عند من آمن بك انك قد دَرَسْتَ وتعلمت هذه الأساطير الكاذبة القديمة من اهل الكذب فعليك ان لا تبالي بهم وبقولهم هذا وَبالجملة ما نصرفها ونكررها الا لِنُبَيِّنَهُ ونوضحه اى التوحيد الذاتي المدلول عليه بتصريف الآيات والدلائل لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ويستدلون بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة على وحدة الصانع الحكيم القادر العليم فخروج العوام وانصرافهم لا يخل بهذا المرام وان انصرفوا عنك ولم يقبلوا منك ما جئت به من الآيات دعهم وحالهم
اتَّبِعْ أنت بنفسك عموم ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ دلائل توحيد رَبِّكَ واستيقن بانه لا إِلهَ ولا موجود إِلَّا هُوَ بذاته وأسمائه وصفاته بالاستقلال والانفراد وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ واتركهم مع شركهم بعد ما تحققت وتمكنت
أنت في مقر عز التوحيد
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الهادي لعباده عدم اشراكهم ما أَشْرَكُوا وَبالجملة ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً مصرفا عنهم عموم ما لا يعنيهم بل ما جعلناك الا هاديا لهم مبلغا إياهم امارات الهداية وآيات السعادة وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ كفيل تقوم أنت بأمرهم وتشفع لهم وتتعب نفسك في إصلاحهم وصلاحهم
ثم قال سبحانه وَلا تَسُبُّوا اى لا تذكروا بالمساوى والمقابح ايها المؤمنون الموحدون الَّذِينَ يَدْعُونَ ويعبدون اى المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد يعنى أصنامهم وآلهتهم إذ هم من جملة المجالى والمظاهر لله مع انكم ان تسبوهم وآلهتهم فَيَسُبُّوا اللَّهَ ايضا من غاية جهلهم وحميتهم الجاهلية فأنتم حينئذ تكونون سببا لسب الله فيكون سبكم وتسببكم هذا عَدْواً تجاوزا وعدولا عن الحق الى الباطل بِغَيْرِ عِلْمٍ بعاقبته ومآله وبالجملة كَذلِكَ اى مثل تزييننا لكم دينكم وإلهكم وعملكم ايها المؤمنون قد زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم عَمَلَهُمْ والهم سواء كان حقا او باطلا إذ كل حزب بما لديهم فرحون وكل يعمل على شاكلته ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ اى يجازيهم على مقتضى ما عملوا من خير وشر وايمان وكفر
وَمن شدة نفاقهم واستهزائهم معك يا أكمل الرسل وتهكمهم بما جئت به من الآيات قد أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ اى مغلظين فيها مؤكدين لها تهكما والله لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ من مقترحاتهم لَيُؤْمِنُنَّ بِها اى بالآيات كلها البتة وبك ايضا قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما خاليا من وصمة الكذب ناشئا عن محض الحكمة إِنَّمَا الْآياتُ كلها لله ونزولها وانزالها عِنْدَ اللَّهِ المتعزز برداء العظمة والكبرياء وبقبضة قدرته وليس في وسعى وطاقتي شيء منها ومن لوازمها وَما يُشْعِرُكُمْ ويظهر لكم ايها المؤمنون الطالبون لإيمان هؤلاء الكفرة مع انكم لو تأملتم أنتم في شأنهم وظاهر حالهم لتفرستم أنتم بسيماهم ومن ظاهر حالهم بنور الايمان أَنَّها إِذا جاءَتْ إياهم ونزلت جميع مقترحاتهم لا يُؤْمِنُونَ بها البتة إذ قد طبع الله على قلوبهم بالكفر والنفاق
وَكيف يؤمنون بها مع انا نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ عن الميل نحو الحق مطلقا وَأَبْصارَهُمْ عن احساس شواهده وعلاماته وبالجملة هم لا يؤمنون بمطلق الآيات المقترحة النازلة أصلا كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ اى بعموم ما جاء من الحق أَوَّلَ مَرَّةٍ قبل اقتراحهم إذ لا تفاوت بين حقية الآيات سواء كانت مقترحة أم لا وَبالجملة نَذَرُهُمْ نمهلهم وندعهم فِي طُغْيانِهِمْ وعدوانهم المتجاوز عن الحد يَعْمَهُونَ يتحيرون ويترددون الى ان نأخذهم وننتقم عنهم
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ كما اقترحوا وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ببعثهم من قبورهم واوصوهم بالإيمان وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا اى جمعنا كل شيء عليهم وجعلناهم كفلاء لهم ليرشدوهم بأجمعهم الى الايمان ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا من خباثة بواطنهم وقساوة قلوبهم إذ قد ختم الله المقتدر الحكيم على قلوبهم بالكفر في سابق علمه إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ العليم الحكيم ايمانهم وقد كتبهم في لوح قضائه من المؤمنين وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ اى اكثر الناس يَجْهَلُونَ قضاء الله ومشيئته فيتمنون ايمانهم
وَكَذلِكَ اى مثل ما جعلنا لك يا أكمل الرسل عدوا يعاديك قد جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ من الأنبياء الماضين عَدُوًّا كذلك يعاديهم ويخاصمهم ويريد مقتهم وهلاكهم كمثل عدوك يعنى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بالمظاهرة والمعاونة بحيث يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ اى اباطيله واراجيفه غُرُوراً وتغريرا لضعفاء الأنام حتى يقدموهم على مخاصمة الأنبياء ومعاداتهم
ويظهروهم على الأنبياء بأنواع التغرير والتلبيس وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ايمانهم ما فَعَلُوهُ اى هذا الغرور يعنى ما قالوا هذا القول الزور المزخرف المموه وبالجملة فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ اى اتركهم مع كفرهم وفريتهم على الله بما لا يليق بشأنه وزخرفتهم وتلبيسهم فيه
وَما ذلك الغرور والزخرفة الا لِتَصْغى تميل وتركن إِلَيْهِ اى الى غرورهم وافترائهم وتتوجه نحوه أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ اى ليرضي كل منهم أنفسهم عما يزخرفون به لذلك الغرض الفاسد لكون جبلتهم عليه وَلِيَقْتَرِفُوا ويكتسبوا بسببه ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ مكتسبون من العقائد الرائغة المورثة لهم اصناف الآثام المثمرة إياهم انواع العذاب والآلام قل لهم يا أكمل الرسل ان أرادوا ان يتحاكموا ويتصالحوا معك بعد ما ظهر لك ولاح عندك تلبيسهم وتغريرهم إنكارا عليهم وتقريعا
أَفَغَيْرَ اللَّهِ المستقل بالحكم المبرم والتصرف المحكم أَبْتَغِي واطلب حَكَماً وحاكما عادلا يفصل بيني وبينكم ايها المعاندون المكابرون وَالحال انه سبحانه هُوَ العليم الحكيم الَّذِي قد أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ اى القرآن الفرقان مُفَصَّلًا مبينا واضحا مستغنيا عن التحاكم والترافع مطلقا وَبالجملة المكابرون المعاندون الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اى علمه ان أنصفوا في أنفسهم ولم يعاندوا يَعْلَمُونَ يقينا بشهادة كتبهم أَنَّهُ اى القرآن مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ السوى بلا ميل وانحراف الى الباطل أصلا فَلا تَكُونَنَّ أنت يا أكمل الرسل مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين المترددين في انهم عالمون بحقية القرآن وموافقته لكتبهم الا انهم يكابرون في تحريف كتبهم ويعاندون بادعاء تكذيب القرآن ظلما وزورا
وَبالجملة تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ اى قد انتهت وتناهت وبلغت الغاية القصوى ببيان كلمة التوحيد برسالتك يا أكمل الرسل اى قد ظهرت أنت في تبيينها وكشفها بما لم يظهر به احد من الأنبياء إذ الأنبياء انما ظهروا بتوحيد الصفات والأفعال دون توحيد الذات وأنت قد ظهرت به ولهذا ورد في شأنك من يطع الرسول فقد أطاع الله وان الذين يبايعونك انما يبايعون الله وقلت أنت بمقتضى وجدك ووجدانك وكشفك وشهودك من رآني فقد رآني فان الشيطان لا يتمثل بي وايضا قلت رأيت ربي في ليلة المعراج وغير ذلك من الآثار والاخبار الدالة على التوحيد الذاتي لذلك قلت أوتيت جوامع الكلم وبعثت لأتمم مكارم الأخلاق صِدْقاً وَعَدْلًا بلا كذب وعدم مطابقة في الاخبار والمواعيد وبلا ميل وانحراف في الاقصية والاحكام ومتى تمت كلمة ربك كذلك وبلغت غايتها فاعلم يا أكمل الرسل انه لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ سبحانه هذه ولا محول لها أصلا لذلك قد ختم ببعثتك ورسالتك امر النبوة والرسالة وسد باب الوحى والنزول وصرت أنت خاتم النبيين وختم المرسلين وَحينئذ ظهر انه سبحانه هُوَ السَّمِيعُ بعموم أقواله الْعَلِيمُ بجميع شئونه وتجلياته الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله
وَمتى تحققت يا أكمل الرسل بمرتبة الكشف والشهود وتمكنت في المقام المحمود إِنْ تُطِعْ وتتفق أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من اهل البدع والأهواء يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ المتوحد بالذات والصفات والأسماء إِنْ يَتَّبِعُونَ يعنى هم من غاية انهماكهم في الغفلة عن الله ما يتبعون ويتفقون إِلَّا الظَّنَّ الفاسد والوهم المزخرف الكاسد ولا شك ان الظن لا يغنى من الحق شيأ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ اى ما هم في ظنونهم وجهالاتهم الكاذبة واوهامهم الباطلة وخيالاتهم العاطلة سيما في الاعتقادات والاحكام الدينية الا انهم يخلطون ويزورون ويلبسون على أنفسهم واتباعهم حسدا وعنادا
وبالجملة إِنَّ رَبَّكَ
يا أكمل الرسل هُوَ أَعْلَمُ بعلمه الحضوري مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ من اصحاب التخمين والتقليد وَايضا هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ من ارباب المكاشفة والشهود فلا يفيد تغريرهم واضلالهم شيأ يعتد به وإذا علمتم ايها المؤمنون ان الهداية والضلال انما هو بيد الله الكبير المتعال وبمقتضى ارادته واختياره لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا بتحريم المباح وتحليل الشبهات والحرام
فَكُلُوا حسب ما قد أباح الله عليكم من الأزواج الثمانية وما يشابهها من الوحوش مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عند تذكيته وذبحه مبيحين محللين على انفسكم إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وباحكامه مصدقين موقنين
وَما لَكُمْ واى شيء عرض لكم أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالحال انه قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ربكم ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ في دينكم وكتابكم هذا في قوله حرمت عليكم الميتة والدم الآية فعليكم ان لا تأكلوا من المحرمات إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ فحينئذ يباح لكم منها مقدار سد جوعة وَإِنَّ كَثِيراً من الناس لَيُضِلُّونَ بأنفسهم ويضلون غيرهم من الضعفاء بتحليل المحرمات وتحريم المباحات بلا سند شرعي بل بِأَهْوائِهِمْ الباطلة بِغَيْرِ عِلْمٍ لهم بما عند الله ولا تتبعوهم ولا تقتفوا أثرهم إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عن حدود الله بمتابعة اهوائهم الفاسدة وآرائهم الباطلة فيجازيهم الله المنتقم الغيور على مقتضى علمه
وَذَرُوا ايها المؤمنون واتركوا بالإخلاص والندامة المؤكدة ظاهِرَ الْإِثْمِ اى الاقدام عليه والاتصاف به وَباطِنَهُ اى اخطاره واجراءه على القلب ايضا إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ ويميلون اليه متلذذين سَيُجْزَوْنَ في النشأة الاخرى بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ ويكسبون وبمقدار ما يتلذذون به
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ حين ذبحه وَإِنَّهُ اى أكلكم منه لَفِسْقٌ خروج عن حكم الله بمتابعة اهل البدع والأهواء الضالين عن طريق الحق بوسوسة الشياطين وَلا تغفلوا عن وسوستهم بحال من الأحوال إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ يلقون ويوسوسون دائما إِلى أَوْلِيائِهِمْ من اهل الأهواء لِيُجادِلُوكُمْ ويزوروا عليكم ايها المؤمنون حتى يضلوكم عن منهج الحق سيما في المآكل والمشارب وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ايضا لان من أطاع غير الله سيما في معصيته فقد أشرك به العياذ بالله
أَوَمَنْ كانَ منكم ايها المكلفون مَيْتاً بالجهل والكفر وانواع الشرك والضلال فَأَحْيَيْناهُ بالمعرفة والايمان وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يتلألأ من جبينه يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ هاديا مهتديا كَمَنْ مَثَلُهُ شأنه ووصفه انه مغمور فِي الظُّلُماتِ المتراكمة المتزاحمة عليه إلا وهي ظلمة الجهل والكفر والفسوق والعصيان والحال انه لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ناج عنها لعدم تناهيها فهو ومن أنقذه الله من ظلمة الضلالة بنور الهداية وهداه الى صراط مستقيم بنور دين الإسلام سيان متساويان كلا وحاشا شتان ما بينهما كَذلِكَ اى مثل تزيين الايمان للمؤمن قد زُيِّنَ حبب وحسن لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر والعصيان إذ كل حزب بما لديهم فرحون
وَكَذلِكَ اى كما جعلنا في مكة أكابر وصناديد يجرمون فيها جرائم عظيمة قد جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ اى صيرنا وقدرنا فيها أَكابِرَ كانوا مُجْرِمِيها ومترفيها وامهلناهم زمانا لِيَمْكُرُوا فِيها بأنواع المكر والحيل ليضلوا ضعفاء الأنام عن جادة الإسلام فيمكرون ويضلون وَهم بأجمعهم ما يَمْكُرُونَ حقيقة إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ إذ وبال مكرهم انما يعود عليهم وَهم ما يَشْعُرُونَ عوده حينئذ لشدة قساوتهم وعمههم وسيشعرون حين يؤخذون
عليها في النشأة الاخرى ويعلمون حينئذ اىّ منقلب ينقلبون
وَمن غاية جهلهم ونفاقهم ونهاية قسوتهم وشقاقهم إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ هادية لهم الى سبيل الرشد قالُوا من شدة بغضهم وعنادهم لَنْ نُؤْمِنَ بها ولن نصدقها ابدا حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ إذ نحن وهم سواء في البشرية بل نحن اولى منهم في الرياسة والنسب والحسب وانواع الفضائل والكمالات ومن اين يؤتى لهم ولم يؤت إلينا قل لهم يا أكمل الرسل الوحى والإيتاء بيد الله يؤتى من يشاء ما يشاء ويمنع ممن يشاء إذ اللَّهِ المدبر الحكيم أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ إذ لا عبرة عنده سبحانه بالرياسة والنسب بل قد تفضل على من تفضل من عباده بلا التفات منه سبحانه الى حسبه ونسبه بل يعطى سبحانه ما يعطى لمن يعطى حسب استعداده وقابليته المقدرة عنده سبحانه في سابق علمه ولوح قضائه وبالجملة لا تحزن يا أكمل الرسل عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ويقولون أولئك الماكرون المفرطون المسرفون واعلم انه سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا مغرورين على رئاستهم وجاههم ونسبهم ومالهم وينزل عليهم صَغارٌ مذلة وهوان عِنْدَ اللَّهِ المتعزز برداء المجد والجلال حين إحضارهم للحساب والجزاء وَبعد كشف حالهم وحسابهم لهم عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ وإذا كان الأمر بيد الله والشأن من عنده وحسب ارادته واختياره
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ المعز الهادي أَنْ يَهْدِيَهُ الى توحيده يَشْرَحْ صَدْرَهُ اى يفتحه ويوسعه لِلْإِسْلامِ اى التفويض والاستسلام وكمال الطاعة والانقياد الى حيث قد رضى لعموم ما قضى عليه المولى وبعد ما رضى بالقضاء فقد وسع الحق فيه فيستولى عليه فيفنيه عن هويته ويبقيه ببقائه السرمدي وَمَنْ يُرِدْ الله بمقتضى قهره وجلاله أَنْ يُضِلَّهُ عن فضاء توحيده وصفاء تجريده يَجْعَلْ الله صَدْرَهُ الذي من شأنه ان يسع الحق فيه ضَيِّقاً ضنكا حَرَجاً في غاية الضيق والقساوة باستيلاء لوازم الإمكان عليه بحيث قد ضاقت الأرض عليه من إلمام لوازم الإمكان فيتمنى الصعود الى عالم الأسباب من غاية اضطراره وتشتت باله واختلال حاله فصار كَأَنَّما يَصَّعَّدُ ويطلب الصعود فِي السَّماءِ من غاية اضطراره واحتياجه وهذا مثل يضرب لمن ضاق عليه طرق معاشه كَذلِكَ اى كحال من اضطر الى الصعود نحو السماء من إلمام لوازم الإمكان عليه يَجْعَلُ اللَّهُ المنتقم الغيور الرِّجْسَ اى خذلان الإمكان وخجل الحرمان في النشأة الاخرى عَلَى القوم الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بتوحيد الله وبسعة لطفه وجوده
وَهذا اى ما أنزلناه إليك يا أكمل الرسل من القرآن المبين لطريق المعرفة والايمان صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً لا عوج فيه أصلا موصلا الى توحيده الذاتي قَدْ فَصَّلْنَا وأوضحنا فيما أنزلناه إليك الْآياتِ الدالة على وحدة ذاتنا لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ يتعظون بها ويتذكرون منها الى مبدئهم الذي قد نشئوا منه وظهروا عنه الا وهو الوحدة الذاتية الإلهية التي هي عبارة عن الوجود المطلق الخالص عن مطلق القيود والحدود
وبالجملة لَهُمْ دارُ السَّلامِ اى مقام التفويض والاستسلام عِنْدَ رَبِّهِمْ بعد ما تحققوا بتوحيده وَهُوَ سبحانه بذاته وَلِيُّهُمْ ومولى أمورهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ اى بجميع ما كانوا يعملون من الأعمال والنيات فيها وجميع الحركات والسكنات الواقعة منهم في صدورها إذ هو سبحانه قد صار سمعهم وبصرهم ويدهم ورجلهم وعموم جوارحهم التي صدرت عنها أعمالهم وأفعالهم على ما نطق به الحديث القدسي صلوات الله على قائله
وَاذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
جَمِيعاً اى جميع من يتأتى منهم الإطاعة ويتوجه إليهم التكليف من الثقلين قائلين لهم منادين عليهم يا مَعْشَرَ الْجِنِّ والشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ اى استتبعتم وأضللتم كثيرا مِنَ الْإِنْسِ بايقاعهم في مواقع الفتن وتغريرهم الى المعاصي والمهالك والخروج عن مقتضيات الأوامر والنواهي واغرائهم الى مستلذات نفوسهم ومقتضيات شهواتهم وَبعد ما سمع الانس هذا النداء قالَ أَوْلِياؤُهُمْ اى اولياء الجن ومتابعوهم مِنَ الْإِنْسِ متذللين متحسرين رَبَّنَا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم فكفرنا بك بمتابعة هؤلاء الغواة فالآن ظهر الحق واضمحل الباطل نحن مقر بعموم ما جرى بيننا وبينهم إذ قد اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا منهم باغوائهم واغرائهم الى خلاف ما امرتنا أنت عليه بالسنة رسلنا يا ربنا وايضا استمتع بعضهم بِبَعْضٍ منا بالمتابعة والموالاة وَبَلَغْنا الآن أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا على ألسنة رسلك وكتبك يا مولانا فالآن قد جئناك خائبين خاسرين قالَ سبحانه من وراء سرادقات العز والحلال الآن قد انقرض دار الابتلاء ومضى زمان التدارك والاهتداء النَّارُ مَثْواكُمْ جميعا تابعا ومتبوعا ومأويكم ابدا خالِدِينَ فِيها مؤبدا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ العليم الحكيم وقتا ينقذكم منها كيلا تتعودوا بعذابها ويدخلكم باشد منها واقطع إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل حَكِيمٌ متقن في عموم أفعاله عَلِيمٌ بمقدار جزاء العصاة
وَكَذلِكَ اى مثل قول اولياء الانس للجن نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ من الانس بَعْضاً منهم ايضا ليفتضحوا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من المظالم بتغرير بعضهم بعضا.
ثم قال سبحانه امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
المفتضحين على رؤس الاشهاد لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
غلب الانس على الجن إذ لم يبعث من الجن نبي بل بعث الأنبياء كلهم من الانس الى الثقلين قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
ويدعونكم الى توحيد ذاتى وكمالات أوصافي وأفعالي يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
اى يوم القيمة والجزاءالُوا
مضطرين معترفين هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
يا ربنا بأنواع الجرائم والعصيان اليوم بعد ما ظهر لنا الأمر وانكشف الحجاب وصرنا مستحقين بأنواع العذاب والعقاب
ما ذلك الا ان قدرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
بحيث لم يبالوا بعموم ما جاءهم من عند ربهم لهديهم وإصلاحهم بل كذبوه واستهزؤا به
قد ادى عاقبة أمرهم في عتوهم وعنادهم الى ان هِدُوا
واعترفوالى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
مستحقين بأنواع العقوبة والعذاب واعلم ان إرسال الرسل وإنزال الكتب انما هو ليتنبهوا وينبهوا اى الرسل العصاة على ما هم عليه
ذلِكَ التنبيه والإرسال أَنْ لَمْ يَكُنْ اى لان لم يكن رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ اى بسبب ظلم صدر عنهم وَالحال انه أَهْلُها غافِلُونَ عن طريق الحق بلا تنبيه منبه وارشاد مرشد نبيه
وَاعلم يا أكمل الرسل وعلم ايضا عموم من تبعك من المؤمنين وذكرهم ان لِكُلٍّ من اهل التكاليف دَرَجاتٌ ودركات عند الله العليم الحكيم معدة إياهم حاصلة لهم مِمَّا عَمِلُوا من الصالحات والفاسدات وبمقتضاها وَما رَبُّكَ المطلع بضمائر عموم عباده بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ بمقتضى التكاليف التي كلفهم بها
وَالحال ان نفعه عائد إليهم إذ رَبُّكَ الْغَنِيُّ المستغنى بذاته عنهم وعن أعمالهم بالمرة صالحها وفاسدها الا انه سبحانه ذُو الرَّحْمَةِ والشفقة على من عمل بمقتضى التكليف امتنانا عليه وتفضلا بلا احتياج له سبحانه إليهم ولا الى عملهم بل إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ايها الناس الناسون حقوق ألوهيته وتوحيده سبحانه وعموم التكاليف الواقعة في طريقه وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ
ممن يعمل على مقتضى التكاليف الإلهية كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ قرنا بعد قرن بطنا بعد بطن مع انه يترحم عليكم ويبقيكم تفضلا وامتنانا قل لهم يا أكمل الرسل
إِنَّ ما تُوعَدُونَ ايها المكلفون من الحشر والنشر والجزاء لَآتٍ كائن ثابت لا محالة وبالجملة اعملوا على مقتضى التكليف الإلهي وَاعلموا انكم ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ عاجزين عن الإتيان بالمأمور حتى لا تؤاخذوا بترك التكاليف ولا تعذبوا به إذ لا تكلف نفس الا وسعها وبما في طاقتها وقدرتها
قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل الترحم والتحنن وإرخاء العنان مبالغة في طريق التعريض يا قَوْمِ اعْمَلُوا من المعاصي عَلى مَكانَتِكُمْ ومقدار مكنتكم وطاقتكم إِنِّي عامِلٌ ايضا من الصالحات المأمورة بمقتضى مكنتى وطاقتي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أنتم ونحن حين ينكشف الحجب ويرتفع الغشاء مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ اى العاقبة الحسنى والمثوبة العليا التي تترتب على أعمالنا في دار الجزاء يعنى أينا يفوز بها انا او أنتم غاية ما في الباب إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن حدود الله بمقتضى اهويتهم الفاسدة ولا يفوزون بسعادة وخير أصلا
وَمن جملة ما خرجوا عن مقتضى الحدود الإلهية بمتابعة اهويتهم الباطلة انهم قد جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ وبرأ وظهر مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا المعين المفروز لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا اى آلهتنا وشفعائنا فَما كانَ من أموالهم يفرز لِشُرَكائِهِمْ ان كان جيدا طيبا فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ولا يتجاوز عن شركائهم أصلا وَما كانَ لِلَّهِ ان كان جيدا فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ بأن استبدلوها بالرديء الذي كان لشركائهم وبالجملة ساءَ ما يَحْكُمُونَ هؤلاء الجاهلون إذ فعلهم واختيارهم هذا انما هو تفضيل المسترذل المفضول على الأجل الأفضل روى انهم كانوا يعينون شيأ من حرثهم ونتاجهم لله ويصرفونه الى الضيفان والمساكين وشيأ منهما لآلهتهم وينفقونه الى سدنة آلهتهم وخدامهم ويذبحون عندها ثم ان رأوا ما عينوا لله ازكى بدلوه بما لآلهتهم من الرديء وان رأوا ما لآلهتهم ازكى تركوه لها حبا لآلهتهم وترجيحا لجانبهم على جانب الله هذا مما اخترعوه من تلقاء أنفسهم وان افتروا الى كتبهم تغريرا وترويجا
وَكَذلِكَ اى مثل قسمتهم في القربات والصدقات قد زَيَّنَ اى حبب وحسن لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ اى آلهتهم الذين هم يعبدونهم من دون الله من الشياطين وما ذلك التزيين والتحسين الا لِيُرْدُوهُمْ اى يهلكوهم ويضلوهم بالإضلال والإغواء عن طريق الحق وَلِيَلْبِسُوا وليخلطوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ الذي وجب عليهم الانقياد والإطاعة ليصلوا الى طريق التوحيد وَبالجملة لَوْ شاءَ اللَّهُ الهادي لعباده هدايتهم ما فَعَلُوهُ اى ما قبلوا تزيينهم وتلبيسهم فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ اى اتركهم مع افترائهم الى ان نأخذهم وننتقم عنهم
وَايضا من جملة ما اخترعوا من تلقاء أنفسهم ونسبوها الى الله والى كتابه ترويجا وتغريرا انهم قالُوا هذِهِ المعينة المفروزة أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ حرام لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ إطعامه يعنون سدنة الأوثان وخدمتها من الرجال دون النساء فإنها تحل عليهم وتحرم على غيرهم وما هي ايضا الا بِزَعْمِهِمْ الفاسد ورأيهم الكاسد بلا حجة عقلية او نقلية وَايضا قالوا هذه أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وأرادوا البحائر والسوائب والحوامي على ما سبق في سورة المائدة وَقالوا ايضا هذه أَنْعامٌ معدة للتجارة او الحمل والظعن لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا يعنى لا يركبونها للحج كل ذلك من مخترعاتهم التي قد اخترعوها من اهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة ويفترون افْتِراءً عَلَيْهِ سبحانه ومراء بلا سند لهم نازل
من عنده سَيَجْزِيهِمْ الله المنتقم الغيور ويعذبهم بِما كانُوا يَفْتَرُونَ اى بشؤم افترائهم ومرائهم إياه سبحانه
وَمن جملة مفترياتهم على كتاب الله انهم قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ اى اجنة البحائر والسوائب ان كان حيا فهي خالِصَةٌ لِذُكُورِنا مخصوصة مباحة لهم أكلها وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا لا نصيب لهن فيها وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً يعنى ان يخرج ميتة فَهُمْ اى الذكور والإناث فِيهِ شُرَكاءُ بلا تفاوت وتخصيص سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ اى يجزيهم الله أقبح الجزاء على وصفهم وتفصيلهم هذا افتراء عليه إِنَّهُ حَكِيمٌ في جزاء المفترين عَلِيمٌ بمقداره وكيفيته
ثم قال سبحانه قَدْ خَسِرَ وخاب خيبة ابدية الاعراب الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً مخافة سبى او إملاق بِغَيْرِ عِلْمٍ منهم بما يئول أمرهم عليه ولا شك ان الرزاق والحافظ لعموم عباده هو الله لا هم وَايضا قد حَرَّمُوا على نفوسهم ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ واباحه عليهم من البحائر والسوائب وغيرها ونسبوا تحريمها افْتِراءً عَلَى اللَّهِ مراء وميلا الى الباطل وبالجملة قَدْ ضَلُّوا بارتكاب هذه الجرائم عن طريق الحق وَما كانُوا مُهْتَدِينَ الى توحيده ولا يرجى منهم الهداية والفلاح أصلا
وَكيف تضلون عن طريق الحق ايها الجاهلون المسرفون مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لمعاشكم في النشأة الاولى جَنَّاتٍ وحدائق من الكرم مَعْرُوشاتٍ مرتفعات من الأرض وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ بل مفروشات اى ملقيات على وجه الأرض وَانشأ لكم ايضا النَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ اى أكل كل واحد منهما رطبا ويابسا وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً بعضها ببعض وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ بل مختلف في الشكل والطعم ايضا كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ اى ثمرة كل من المذكورات حيث شئتم إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ اى اخرجوا حق الله منه على الوجه المفروض المبين في علم الاحكام يَوْمَ حَصادِهِ اى وقت إدراكه وبدوّ صلاحه وَلا تُسْرِفُوا في الاكل وان كان مباحا حتى لا تقسى قلوبكم ولا يكل ادراككم إِنَّهُ سبحانه لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ولا يرضى عنهم وعن فعلهم هذا إذ الاكل انما هو لقوام البدن وتقوية الروح والقوى على فعله وإسرافه يفضى الى التعطيل والتكليل والكسل المخل للحكمة الإلهية
وَإنشاء لكم ايضا مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً تحملون أثقالكم عليها يوم ظعنكم وَفَرْشاً تفرشون من أصوافها واشعارها واوبارها المنسوجة تحتكم يوم اقامتكم كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ واباحه عليكم منها وَلا تَتَّبِعُوا اثر خُطُواتِ الشَّيْطانِ ولا تسمعوا وساوسه في تحليل المحرمات وتحريم المباحات وبالجملة لا تتبعوا مقتضيات اهويتكم وأمانيكم التي هي من جنود الشياطين إِنَّهُ اى الشيطان وجنوده لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة فاجتنبوا من اغوائه واغرائه
واعلموا ايها المؤمنون ان الله سبحانه قد أباح لكم من الانعام ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ الكبش والنعجة وما يتولد منهما وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ التيس والعنز ايضا كذلك قُلْ يا أكمل الرسل لمن يدعى التحريم في هذين الجنسين إلزاما وتبكيتا آلذَّكَرَيْنِ الكبش والتيس حَرَّمَ منهما أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ النعجة والعنز أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ اى حرم في بطن الأنثيين من هذين الجنسين ذكرا كان او أنثى نَبِّئُونِي وأخبروني ايها المدعون تحريم شيء منها بِعِلْمٍ ثابت ومقدمة معلومة عندكم من نقل ونص دال على ان الله قد حرم شيأ من ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى التحريم
وَايضا قد أباح لكم ربكم ايها المؤمنون مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ يا أكمل الرسل للمجرمين المفترين آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ
من الجنسين المذكورين أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ يعنى لم يحرم ايضا شيأ منهما ولا ما في بطنهما ذكرا كان او أنثى أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أتدعون أنتم ايها المدعون انكم قد كنتم حضراء وقت إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا التحريم لأنه ما اخبر به نبي وما جاء به كتاب فبقى ان تدعوا الحضور عنده سبحانه وقت التحريم وأنتم ايها المفترون من زمرة المردودين المطرودين عن ساحة عز حضوره سبحانه فظهر أنه ما هي الا مفتريات صدرت من تسويلات نفوسكم وتلبيسات شياطين أوهامكم وخيالاتكم تفترونها على الله عدوانا وظلما فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ عن طريق الحق مع انه بِغَيْرِ عِلْمٍ وحى ونقل وارد نازل من عند الله بل من تلقاء نفسه تلبيسا وتغريرا لضعفاء العوام إِنَّ اللَّهَ المطلع بمخايل المفسدين لا يَهْدِي الى طريق توحيده الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ المفترين عليه سبحانه بأمثال هذه المفتريات الزائغة
قُلْ يا أكمل الرسل بمقتضى ما أوحينا إليك انا لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ اى في القرآن الجامع لأحكام الكتب السالفة المستحضر لها مُحَرَّماً اى طعاما قد حرمه الله عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ بل أجد كل ما يطعم حلالا مباحا إذ الأصل في الأشياء الحل إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً مات حتف انفه بلا ذكاة أَوْ دَماً مَسْفُوحاً سائلا جاريا مفروزا عن اللحم أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ نجس في نفسه لا يقبل الذكاة أصلا أَوْ ما يذبح من المحللات فِسْقاً وخروجا عن مقتضى الشرع بان أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ حين ذبحه من اسماء الأصنام وغيرها وما سوى هذه المستثنيات المذكورة فهو مباح فَمَنِ اضْطُرَّ ايضا الى تناول تلك المستثنيات حال كونه غَيْرَ باغٍ خارج عن الإسلام ظلما وعدوانا وَلا عادٍ مجاوز عن سد الجوعة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ لمن تناولها ضرورة رَحِيمٌ لا يؤاخذه عليه بل ان لم يتناول في محل الاضطرار وهلك كان عاصيا البتة لأنه تخريب لبيت الله وابطال لصنعه سيما بعد ما رخص
وَان سألوا عنك يا أكمل الرسل من محرمات الأمم الماضية قل لهم نيابة عنا عَلَى الَّذِينَ هادُوا ونسبوا الى دين اليهود قد حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وحافر يمكن ان يجرح معها وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ قد حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ من الشحم ظُهُورُهُما وهي الثروب وشحوم الكلى أَوِ حملته الْحَوايا يعنى الأمعاء أَوْ مَا اخْتَلَطَ من الشحوم بِعَظْمٍ كالالية ذلِكَ اى تحريم هذه الأشياء إياهم وان كان الأصل في الأشياء الحل والاباحة قد جَزَيْناهُمْ بها بِبَغْيِهِمْ اى بسبب ظلمهم وخروجهم عن مقتضيات حدودنا بلا ورود نص منا وَإِنَّا لَصادِقُونَ في عموم ما أوحينا إليك من الأقوال والاخبار والمواعيد والوعيدات
فَإِنْ كَذَّبُوكَ وعاندوك فيما تلونا عليك من الآيات فَقُلْ لهم امحاضا للنصح على مقتضى مرتبة النبوة رَبُّكُمْ الذي أوجدكم من كتم العدم ورباكم بأنواع اللطف والكرم ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وشفقة كاملة وافرة يمهلكم على ما أنتم عليه ويوسع عليكم على مقتضى لطفه وجماله وَالحال انه لا يُرَدُّ بَأْسُهُ وبطشه على مقتضى غيرته وحميته وجلاله عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا على الله بالخروج عن مقتضى أحكامه النازلة على السنة رسله
ثم قال سبحانه على سبيل الاخبار عما سيقع سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا على سبيل التكذيب والإنكار في عموم ما جئت به أنت يا أكمل الرسل لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أنت ترويه عنه وتدعيه بالنسبة إلينا وتعلق ارادته بتوحيدنا إياه ما أَشْرَكْنا البتة مع انه القادر المقتدر على عموم ما أراد بل وَلا أشرك ايضا آباؤُنا من قبل بل ما ظهر وما لاح شيم
الكفر والشرك بين عموم العباد مطلقا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ مما أخبرت تحريمه عنه بالنسبة إلينا بل ما هي الا مخترعات تخترع أنت من عندك وتنسبها الى الله تلبيسا وترويجا كَذلِكَ اى مثل تكذيبهم لك يا أكمل الرسل بأمثال هذه الهذيانات الباطلة قد كَذَّبَ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ الأنبياء وصاروا على تكذيبهم مصرين حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا الذي قد أنزلنا عليهم واستأصلناهم بتكذيبهم وان أردت إلزامهم وتبكيتهم قُلْ لهم مستفهما هَلْ حصل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ نقل صريح وحجة واضحة موردة من عند الله فَتُخْرِجُوهُ لَنا وتظهروه عندنا حتى نقبله ونتبعه فان لم يخرجوا ولم يظهروا فقل لهم إِنْ تَتَّبِعُونَ اى ما تتبعون أنتم إِلَّا الظَّنَّ الفاسد الذي لا يغنى من الحق شيأ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ وتكذبون على الله افتراء ومراء وقل لهم هذا ثم اعرض عنهم ودع مجادلتهم ومخاطبتهم
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما الزموا وأفحموا فَلِلَّهِ الحاكم على الإطلاق الفاعل بالاختيار والاستحقاق الْحُجَّةُ الواضحة الكاملة الْبالِغَةُ حد الكمال فَلَوْ شاءَ هدايتكم لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ اى لا وضح حجته عليكم ووفقكم الى قبوله ولكن لم يتعلق مشيئته على هدايتكم لذلك أصررتم واستكبرتم وإذا لم يتنبهوا بعد إلقاء الحجة عليهم بل قد أصروا على تقليد أحبارهم
قُلْ لهم يا أكمل الرسل هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ واحضروا أحباركم وعلماءكم الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ في كتابه هذا اى ما ادعيتم تحريمه فَإِنْ شَهِدُوا بعد ما حضروا افتراء على كتاب الله فَلا تَشْهَدْ أنت يا أكمل الرسل مَعَهُمْ ولا تقبل شهادتهم وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ونسبوا إليها ما هي خالية عنه ظلما وزورا فاعرض عنهم ودع مكالمتهم ومجالستهم وَاعلم يا أكمل الرسل ان الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ولا بالمجازاة والمكافاة الواقعة فيها مطلقا ولا يبالون من أمثال هذه المفتريات الباطلة وَهُمْ من غاية جهلهم بِرَبِّهِمْ الذي رباهم بأنواع اللطف والكرم يَعْدِلُونَ يشركون ويجعلون له عديلا تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
قُلْ لهم يا أكمل الرسل على مقتضى شفقة النبوة تَعالَوْا هلموا وأتوا ايها التائهون في بيداء الضلال أَتْلُ وأعد لكم ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ في نشأة الدنيا أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً من مظاهره ومصنوعاته إذ هو في نفسه واحد احد صمد فرد وتر ليس لغيره وجود حتى يشاركه ويماثله وَان لا تفعلوا بِالْوالِدَيْنِ اللذين هما سببان قريبان لظهوركم الا إِحْساناً لإحسانهما إليكم في حفظكم وحضانتكم وَان لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ ظلما ناشئا مِنْ خوف إِمْلاقٍ فقر وفاقة إذ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ ونتكفل لرزقكم وَإِيَّاهُمْ ايضا وَان لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ اى كبائر القبائح التي قد نهاكم الله عنها وحرمها عليكم ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَكذا لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ لكم قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ اى برخصة شرعية كالقود وقتل المرتد ورجم الزاني المحصن وغيرها من المحارم التي قد رخص الشرع بارتكابها كقتل اهل البغي وقطاع الطريق واهل الحرب إذ ارتكابها حينئذ من جملة المرخصات والمأمورات الشرعية ذلِكُمْ المذكور مفصلا مما وَصَّاكُمْ الله بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ رجاء ان تسترشدوا منه وتهتدوا الى توحيده
وَ
من جملة المحرمات التي حرمها الحق عليكم وكررها في كتابه مرارا ان لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
ولا تتصرفوا فيه إِلَّا بِالَّتِي
اى بالتصرفات التي هِيَ أَحْسَنُ
لليتيم واحوط لغبطته من تنمية ماله وحفظه
حَتَّى يَبْلُغَ
اليتيم أَشُدَّهُ
ورشده اى يسع منه التصرفات الشرعية شرعا وحينئذ يسلم اليه ماله بعد تجربته واختباره مرارا
وَمن جملتها ايضا ان لا تنقصوا ولا تخسروا في الكيل والوزن بل أَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
والعدل السوى ولا تنقصوا منهما وان كان الوفاء في غاية الصعوبة والعسرة فعليكم ان تبذلوا وسعكم وطاقتكم في تعديلهما وايفائهما مهما أمكن لكم وما هو خارج عن وسعكم معفو عنكم إذ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
ومقدار طاقتها ومكنتها
وَمن جملتها ايضا ان لا تميلوا ولا تحيفوا في الاحكام ايها الحكام بل إِذا قُلْتُمْ
وحكمتم حال كونكم حاكمين بين الخصمين فَاعْدِلُوا
في الحكومة وَلَوْ كانَ
المحكوم عليه اوله ذا قُرْبى
من ذوى قرابتكم وحميمكم فعليكم الاحتياط والمبالغة فيه
وَعليكم ايها الحكام ان لا تتجاوزوا في الاحكام عما حكم الله به مطلقا بل بِعَهْدِ اللَّهِ
الحكيم العليم أَوْفُوا
وبمقتضى حكمه وحكمه وفوا ذلِكُمْ
المذكور مما وَصَّاكُمْ
الله بِهِ
فاتقوا الله واحذروا من بطشه لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
رجاء ان تتذكروا وتتعظوا به ايها المتوجهون الى توحيده
ثم قال سبحانه وَاعلموا ايها المائلون نحو توحيدي أَنَّ هذا المذكور في هذا الكتاب سيما في هذه السورة من الأوامر والنواهي وعموم المحرمات والمحللات والاحكام والإشارات والآداب والمعاملات صِراطِي الموصل الى توحيدي مُسْتَقِيماً سويا بلا ميل واعوجاج فَاتَّبِعُوهُ حتى تفوزوا اليه وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ المتفرقة والطرق المختلفة المنحرفة المعوجة فَتَفَرَّقَ بِكُمْ وتضلكم عَنْ سَبِيلِهِ اى سبيل توحيده الذاتي ذلِكُمْ اى الاتباع المذكور مما وَصَّاكُمْ الله بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رجاء ان تحذروا بسببه عن سبل الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة المضلة عن طريق الحق وتوحيده
ثُمَّ اعلموا أنا قد آتَيْنا من مقام جودنا مُوسَى عليه السّلام الكليم الْكِتابَ اى التورية المبين لطريق التوحيد وعلمناه تَماماً كاملا عَلَى الوجه الَّذِي أَحْسَنَ بيانه وتوضيحه وَقد بينا فيه تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ من الكوائن والفواسد المتعلقة بعالم الملك والشهادة وَهُدىً من الحقائق والمعارف المتعلقة بعالم الغيب والملكوت وَرَحْمَةً من المكاشفات والمشاهدات المسقطة لعموم الإضافات مطلقا المفنية لنقوش الغير والسوى رأسا لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ رجاء ان يتحققوا بمراتب العلم والعين والحق
وَهذا اى القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ متمما لمقاصد الكتب السالفة مروجا لحكمها وأحكامها مُبارَكٌ كثير الخير والبركة والنفع لمن آمن به وصدقه فَاتَّبِعُوهُ ايها المتوجهون نحو التوحيد الذاتي وامتثلوا بجميع أوامره واجتنبوا عن عموم نواهيه وَاتَّقُوا عن تكذيبه وعن القدح فيه وفي من انزل اليه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ تكشفون وتفوزون به الى فضاء التوحيد
وانما أنزلنا القرآن بعد التورية والإنجيل وان كان اكثر احكام الكتب الإلهية مشتركة كراهة أَنْ تَقُولُوا ايها المؤمنون إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا اى اليهود والنصارى وعلى لسانهم ولغتهم فلا تقبلون الاحكام الإلهية معللين به قائلين وَإِنْ اى وانه قد كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ قراءتهم وتعلمهم لعدم علمنا بوضع لغتهم
لَغافِلِينَ أَوْ ان تَقُولُوا متحسرين متمنين لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ كما انزل عليهم لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ لحدة أذهاننا وصفاء صدورنا ومتى علم واطلع سبحانه من استعداداتكم هذا فَقَدْ جاءَكُمْ من عنده سبحانه لهديكم وايصالكم الى مقر توحيده بَيِّنَةٌ واضحة لائحة ناشئة مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم بافاضة استعدادات
التوحيد وقابلياته الدالة عليه مبينة له كاشفة إياه بالنسبة الى ذوى العلوم اليقينية والمعارف اللدنية وَهُدىً يرشدكم الى مرتبة اليقين العيني وَرَحْمَةٌ جذبة نازلة بكم من ربكم تستر هويتكم عن عيون بصائركم وتفنيكم في هوية الحق وبالجملة لو امتثلتم بمقتضاها لصار علمكم عينا وعينكم حقا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ سيما بعد ما سمع أوصافها وخواصها من الله وَصَدَفَ اى صد واعرض عَنْها عنادا واستكبارا والله سَنَجْزِي حسب اسمنا المنتقم الَّذِينَ يَصْدِفُونَ ويعرضون عَنْ آياتِنا اعراضا وتكذيبا سُوءَ الْعَذابِ اى عذابا يسوءهم ويشتد عليهم بِما كانُوا اى بشؤم ما كانوا يَصْدِفُونَ ويعرضون عنها ويستنكفون عن قبولها عتوا وعنادا بلا حجة قطعية بل ظنية ايضا
وبالجملة هَلْ يَنْظُرُونَ يعنى اهل مكة وما ينتظرون وما يستوفون الايمان والإطاعة إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ اى ملائكة العذاب كما أتوا للأمم الهالكة فيلجئهم الى الايمان مع انه لا ينفعهم حينئذ ايمانهم أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ اى يطلبون إتيان ربك يا أكمل الرسل معاينة كما طلب اليهود من موسى صلوات الله عليه حيث قالوا أرنا الله جهرة أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ الدالة على انقضاء النشأة الاولى المسماة بأشراط الساعة وبالجملة يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لكونها ملجئة اليه حين اضطرارها ولا عبرة للايمان حين البأس والإلجاء إذ الايمان امر تعبدي برهاني اختياري مع ان مدة التلافي قد انقضت وهي لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ يعنى سيما النفس التي لم تكن آمنت حين الدعوة وقبل ظهور الملجئ أَوْ لم تكن كَسَبَتْ وان آمنت من قبل على طرف اللسان منتظرين فِي إِيمانِها خَيْراً عملا مقبولا عند الله مشعرا بايقانها واطمينانها فيه وبالجملة قُلِ يا أكمل الرسل للمنتظرين المسرفين استهزاء انْتَظِرُوا الى ما تخيلتم وتوهمتم لحوقه علينا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ايضا الى حلول الوقت الموعود ونزول العذاب المعهود فيه عليكم بشؤم كفركم وشرككم.
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ الذي يوصلهم الى التوحيد الإلهي بلا منازعة ولا مخالفة وَكانُوا شِيَعاً اى صاروا فرقا وأحزابا مختلفة متعصبة كما قال صلّى الله عليه وسلّم افترقت اليهود الى احدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية الا واحدة وهي الناجية وافترقت النصارى الى ثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية الا واحدة وهي الناجية وتفترق أمتي على ثلثة وسبعين فرقة كلها في الهاوية الا واحدة وبالجملة لَسْتَ أنت يا أكمل الرسل مِنْهُمْ اى من أمرهم وشأنهم وإصلاحهم فِي شَيْءٍ بل إِنَّما أَمْرُهُمْ وشأنهم مفوض إِلَى اللَّهِ المنتقم الغيور الحكيم حين عرضوا عليه وحشروا نحوه ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ ويخبرهم بِما كانُوا يَفْعَلُونَ في النشأة الاولى التي هي دار الابتلاء والاختبار
وبالجملة مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فيها فَلَهُ على مقتضى الفضل الإلهي عَشْرُ أَمْثالِها في النشأة الاخرى جزاء له وامتنانا عليه وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فيها فَلا يُجْزى فيها إِلَّا مِثْلَها بمقتضى العدل الإلهي وَهُمْ في جزاء السيئة لا يُظْلَمُونَ بالزيادة مثل زيادة الحسنة بالأضعاف والآلاف إذ لا ظلم في ذلك اليوم سيما من الله القائم على جادة العدالة
قُلْ يا أكمل الرسل المبعوث الى كافة البرايا إِنَّنِي مع كوني بشرا أمثالكم قد هَدانِي رَبِّي الذي رباني بأنواع اللطف والكرم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيده الذاتي ولذلك آتاني من فضله دِيناً قِيَماً قويما مستقيما مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً مائلا عن عموم الأديان الباطلة والآراء الفاسدة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
في وقت من الأوقات
قُلْ يا أكمل الرسل المظهر للتوحيد الذاتي مفوضا جميع أمورك وما جرى عليك وظهر منك الى ربك إِنَّ صَلاتِي وميلى بعموم أعضائي وجوارحي وَسائر نُسُكِي وعباداتى التي هي سبب تقربي وتوسلي نحو الحق وَبالجملة لوازم مَحْيايَ وَمَماتِي كلها خالصة لِلَّهِ المتوحد المتصرف في ملكه وملكوته ما يشاء بالاستقلال والاختيار رَبِّ الْعالَمِينَ
لا شَرِيكَ لَهُ ينازعه ولا ضد له يكافئه ويماثله إذ لا موجود سواه ولا وجود لغيره أصلا وَبِذلِكَ التفويض والإخلاص والتسليم أُمِرْتُ من عنده سبحانه لسلوك طريق توحيده وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ الموحدين المسلمين المخلصين المظهرين الظاهرين بالتوحيد الذاتي
قُلْ يا أكمل الرسل مستوبخا مستقرعا لمن عاند في طريق التوحيد الذاتي وحادل معك في اثبات الشركاء له سبحانه ومع ذلك قد توقع منك موافقتك في شركه أَغَيْرَ اللَّهِ المتوحد في ذاته المتفرد في ألوهيته أَبْغِي واطلب واتخذ رَبًّا مربيا موليا وَالحال انه هُوَ بذاته وبعموم أسمائه وصفاته رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وخالقه وموحده من كتم العدم بالاستقلال وَبعد ما قلت لهم من كلمة الحق ما قلت دعهم مع شركهم وكفرهم إذ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ من الجرائم والآثام إِلَّا تحمل عَلَيْها آصارها واثقالها وَلا تَزِرُ لا تقترف ولا تحمل نفس وازِرَةٌ عاصية كافرة وِزْرَ أُخْرى بل كل منها رهينة بما كسبت ضمينة لما اقترفت ان خيرا فخير وان شرا فشر ثُمَّ بعد انقضاء النشأة الاولى إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ عموما رجوع الظل الى ذي الظل فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ اى يميز لكم الحق من الباطل والهداية من الضلال وَكيف تنكرون توحيد الحق وتربيته إياكم ايها المكابرون المفرطون
مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ اى خلفاء قابلين لمظهرية الحق وآثار عموم أسمائه وصفاته وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في الاتصاف بأوصافه والتخلق بأخلاقه كل ذلك لِيَبْلُوَكُمْ ويختبركم فِي ما آتاكُمْ من استعداداتكم وقابلياتكم هل تصرفونها الى ما حلقتم لأجله أم لا إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل سَرِيعُ الْعِقابِ على من ضيع استعداده الفطري فيما لا يعنيه وَإِنَّهُ ايضا لَغَفُورٌ لمن تنبه واستغفر رَحِيمٌ لمن تاب واستهدى بفضله وجوده
خاتمة سورة الانعام
عليك ايها المتوجه نحو الحق القاصد لسلوك طريق توحيده أنجح الله املك وأوصلك الى متبغاك ان تنتزع وتنحرف عن مقتضيات القوى النفسانية من عموم لذاتها الحسية الوهمية والخيالية وتتوجه بما فيك من مبادي القوى الروحانية الى مبدئها مقتفيا في توجهك هذا اثر ما وصل إليك من آثار النبي المختار الذي قد استخلفه الحق وأظهره على مقتضى جميع أوصافه وأسمائه واجتباه من عموم رسله وأنبيائه وأرسله مظهرا للتوحيد الذاتي وانزل عليه كتابا جامعا محتويا على عموم فوائد الكتب السالفة مع زيادات خلا عنها الجميع مبينا لطريق التوحيد على الوجه الأتم الأكمل الى حيث لم يبق بعد بعثته احتياج الى مبين آخر وهاد سواه لذلك قال سبحانه اليوم أكملت لكم دينكم الآية. وقال صلّى الله عليه وسلّم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وبعد بعثته عليه صلوات الرّحمن ونزول كتابه لم يبق للمسترشد المستهدى نحو التوحيد الذاتي الا الاتصاف والامتثال بما جاء به خاتم الرسالة صلى الله عليه وسلّم لذلك لم يكن الاجتهاد بعد بعثته الا في جزئيات الاحكام دون المعتقدات الكلية
Icon