تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب التفسير المنير
.
لمؤلفه
وهبة الزحيلي
.
المتوفي سنة 1436 هـ
ﰡ
٩- الله مصدر التشريع والتحليل والتحريم، فلا يحق لإنسان الافئتات على حق الله في ذلك.
١٠- على الإنسان الاعتبار والاتعاظ بأحوال الأمم الغابرة التي كذبت الرسل، وعليه النظر في الكون للاستدلال بآياته الكثيرة على قدرة الله وعلمه وعظمته.
١١- الناس في الحياة في تسابق وتنافس واختبار، ليعلم المفسد من المصلح، والجزاء ينتظر الجميع، والله يمهل ولا يهمل ليتوب الإنسان ويصلح شأنه، ورحمة الله وسعت كل شيء.
أدلة وجود الله ووحدانيته والبعث
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١ الى ٣]
الإعراب:
الظُّلُماتِ مفعول جَعَلَ وهو يتعدى إلى مفعول واحد بمعنى خلق. وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أَجَلٌ: مبتدأ مرفوع، ومُسَمًّى: صفته. وخبره: عِنْدَهُ. وجاز أن يكون مبتدأ وإن كان نكرة لأنه وصفه بمسمى، والنكرة إذا وصفت قربت من المعرفة، فجاز أن يكون مبتدأ كالمعرفة.
١٠- على الإنسان الاعتبار والاتعاظ بأحوال الأمم الغابرة التي كذبت الرسل، وعليه النظر في الكون للاستدلال بآياته الكثيرة على قدرة الله وعلمه وعظمته.
١١- الناس في الحياة في تسابق وتنافس واختبار، ليعلم المفسد من المصلح، والجزاء ينتظر الجميع، والله يمهل ولا يهمل ليتوب الإنسان ويصلح شأنه، ورحمة الله وسعت كل شيء.
أدلة وجود الله ووحدانيته والبعث
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣)الإعراب:
الظُّلُماتِ مفعول جَعَلَ وهو يتعدى إلى مفعول واحد بمعنى خلق. وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أَجَلٌ: مبتدأ مرفوع، ومُسَمًّى: صفته. وخبره: عِنْدَهُ. وجاز أن يكون مبتدأ وإن كان نكرة لأنه وصفه بمسمى، والنكرة إذا وصفت قربت من المعرفة، فجاز أن يكون مبتدأ كالمعرفة.
129
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ هُوَ: كناية عن الأمر والشأن. واللَّهُ:
مبتدأ، وخبره: إما يَعْلَمُ، وتقديره: الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض. وإما أن يكون خبره فِي السَّماواتِ ويكون المعنى: هو المعبود في السموات.
البلاغة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ صيغة تفيد القصر، أي لا يستحق الحمد والثناء إلا الله.
جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ بينهما طباق.
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فيه استبعاد أن يعدلوا به غيره بعد قيام الأدلة على قدرته. وإظهار كلمة بِرَبِّهِمْ بوضعه موضع الضمير لزيادة التشنيع والتقبيح، كما أن إضافته إليهم لتربية المهابة والتذكير بمصدر النعمة.
سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الثناء بالجميل على الفعل الاختياري الحسن، تعليما لأصول الإيمان والثناء.
والمدح أعم من الحمد لأنه يحصل للعاقل ولغير العاقل، والحمد أعم من الشكر لأن الأول تعظيم الفاعل لأجل الإنعام عليك أو على غيرك، وأما الشكر فهو لأجل الإنعام الواصل إليك.
والفرق بين الخالق وبين الفاطر والرب: أن الخلق هو التقدير والعلم النافذ في جميع الكليات والجزئيات. والفاطر: الموجد المبدع، وفيه إشارة إلى صفة القدرة. والرب: مشتمل على الأمرين «١».
خَلَقَ الخلق: التقدير، أي جعل الشيء بمقدار معين بحسب علمه تعالى. وَجَعَلَ اي انشأ، والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية، والجعل عام يشمل الإنشاء مثل قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ويشمل التشريع والتقنين، كما في قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [المائدة ٥/ ٩٧] أي شرع، ويختص الجعل بأن فيه معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئا أو نقله من مكان إلى مكان «٢». وخص السموات والأرض بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات للناظرين.
مبتدأ، وخبره: إما يَعْلَمُ، وتقديره: الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض. وإما أن يكون خبره فِي السَّماواتِ ويكون المعنى: هو المعبود في السموات.
البلاغة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ صيغة تفيد القصر، أي لا يستحق الحمد والثناء إلا الله.
جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ بينهما طباق.
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فيه استبعاد أن يعدلوا به غيره بعد قيام الأدلة على قدرته. وإظهار كلمة بِرَبِّهِمْ بوضعه موضع الضمير لزيادة التشنيع والتقبيح، كما أن إضافته إليهم لتربية المهابة والتذكير بمصدر النعمة.
سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الثناء بالجميل على الفعل الاختياري الحسن، تعليما لأصول الإيمان والثناء.
والمدح أعم من الحمد لأنه يحصل للعاقل ولغير العاقل، والحمد أعم من الشكر لأن الأول تعظيم الفاعل لأجل الإنعام عليك أو على غيرك، وأما الشكر فهو لأجل الإنعام الواصل إليك.
والفرق بين الخالق وبين الفاطر والرب: أن الخلق هو التقدير والعلم النافذ في جميع الكليات والجزئيات. والفاطر: الموجد المبدع، وفيه إشارة إلى صفة القدرة. والرب: مشتمل على الأمرين «١».
خَلَقَ الخلق: التقدير، أي جعل الشيء بمقدار معين بحسب علمه تعالى. وَجَعَلَ اي انشأ، والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية، والجعل عام يشمل الإنشاء مثل قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ويشمل التشريع والتقنين، كما في قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [المائدة ٥/ ٩٧] أي شرع، ويختص الجعل بأن فيه معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئا أو نقله من مكان إلى مكان «٢». وخص السموات والأرض بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات للناظرين.
(١) تفسير الرازي: ١٢/ ١٤٢.
(٢) مثل قوله تعالى: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الأعراف ٧/ ١٨٩] وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً [الإسراء ١٧/ ٦] وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام ٦/ ١] لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار.
(٢) مثل قوله تعالى: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الأعراف ٧/ ١٨٩] وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً [الإسراء ١٧/ ٦] وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام ٦/ ١] لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار.
130
الظُّلُماتِ وَالنُّورَ أي أنشأ كل ظلمة ونور، وجمع الظلمات وأفرد النور لكثرة أسبابها، والنور واحد وإن تعددت مصادره. وقدمت الظلمات على النور، لأنها أسبق في الوجود، فقد وجدت مادة الكون المظلمة أولا. أما السبب في جمع السموات وإفراد الأرض مع أن الأرضين كثيرة وهي سبع كالسماوات لقوله تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق ٦٥/ ١٢] فهو أن السماء فاعل مؤثر، والأرض قابل متأثر، والمؤثر متعدد يحصل بسببه الفصول الأربعة وسائر الأحوال المختلفة، فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر، واختلت مصالح العالم، أما الأرض فهي قابلة للأثر، والقابل الواحد كاف في القبول «١». وهذا الخلق والإبداع، والإنشاء من دلائل وحدانية الله.
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مع قيام هذا الدليل. يَعْدِلُونَ يعدلون به غيره أي يجعلون له عدلا مساويا له في العبادة والدعاء. خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ بخلق أبيكم آدم منه. ثُمَّ قَضى أَجَلًا أي حكم به، وحدّد لكم أمدا تموتون عند انتهائه، والأجل: المدة المضروبة للشيء.
ثُمَّ أَنْتُمْ أيها الكفار. تَمْتَرُونَ تشكّون في البعث، بعد قيام الدلائل والعلم أنه ابتدأ خلقكم، ومن قدر على الابتداء، فهو أقدر على الإعادة.
وَهُوَ اللَّهُ مستحق للعبادة. يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ما تسرون وما تجهرون به بينكم.
وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ تعملون من خير وشر.
التفسير والبيان:
كل أنواع الحمد والثناء والشكر والمدح لله تعالى خالق السموات والأرض، فهو المستحق للحمد بما أنعم على العباد في خلقه السموات التي تشتمل على المصابيح الليلية من نجوم وكواكب وشمس وقمر، وعلى الفضاء سواء أكان فيه هواء أم لا، وعلى الأثير الذي ينقل الصوت، وعلى الأرض قرار المخلوقات ومصدر الخير والرزق والثروة وبيئة الحياة، فكل ذلك لخير البشر وما يتبعهم من الكائنات الحية. وحمد الله تعالى نفسه الكريمة تعليما للإيمان والثناء. وعبر بالحمد لله ولم يقل: أحمد الله، لإفادة الثبوت والدوام، ولبيان أن ماهية الحمد وحقيقته ثابتة
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مع قيام هذا الدليل. يَعْدِلُونَ يعدلون به غيره أي يجعلون له عدلا مساويا له في العبادة والدعاء. خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ بخلق أبيكم آدم منه. ثُمَّ قَضى أَجَلًا أي حكم به، وحدّد لكم أمدا تموتون عند انتهائه، والأجل: المدة المضروبة للشيء.
ثُمَّ أَنْتُمْ أيها الكفار. تَمْتَرُونَ تشكّون في البعث، بعد قيام الدلائل والعلم أنه ابتدأ خلقكم، ومن قدر على الابتداء، فهو أقدر على الإعادة.
وَهُوَ اللَّهُ مستحق للعبادة. يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ما تسرون وما تجهرون به بينكم.
وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ تعملون من خير وشر.
التفسير والبيان:
كل أنواع الحمد والثناء والشكر والمدح لله تعالى خالق السموات والأرض، فهو المستحق للحمد بما أنعم على العباد في خلقه السموات التي تشتمل على المصابيح الليلية من نجوم وكواكب وشمس وقمر، وعلى الفضاء سواء أكان فيه هواء أم لا، وعلى الأثير الذي ينقل الصوت، وعلى الأرض قرار المخلوقات ومصدر الخير والرزق والثروة وبيئة الحياة، فكل ذلك لخير البشر وما يتبعهم من الكائنات الحية. وحمد الله تعالى نفسه الكريمة تعليما للإيمان والثناء. وعبر بالحمد لله ولم يقل: أحمد الله، لإفادة الثبوت والدوام، ولبيان أن ماهية الحمد وحقيقته ثابتة
(١) تفسير الرازي: ١٢/ ١٤٨
131
لله تعالى، سواء استحضر ذلك بقلبه أم لا، أما إن قال: أحمد الله مع غفلة القلب عن استحضار المعنى كان كاذبا.
والمراد بالسموات: العوالم العلوية التي نراها فوقنا، والمراد بالأرض:
الكوكب الذي نعيش فيه. والأرض هنا: اسم للجنس، فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها، وكذلك النور، ومثله: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر ٤٠/ ٦٧].
وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في الليل والنهار، وجمع الظلمات وأفرد لفظ النور، لكثرة أسبابها كالعتمة والشرك والكفر، أما النور فهو واحد متعدد المصدر، ولكون النور أشرف، كقوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ. وجعل هنا: بمعنى خلق، لا يجوز غيره. والمراد بالظلمة كما قال السدي وجمهور المفسرين: ظلمة الليل، وبالنور: نور النهار، وفي ذلك ردّ على المجوس (الثّنوية) القائلين بإلهين اثنين: هما النور وهو الخالق للخير، والظلمة وهو الخالق للشر. وقال الحسن البصري: المراد منهما الكفر والإيمان «١».
وقال قتادة عن سبب التقديم: إنه تعالى خلق السموات قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار. أما الظلمات الحسية فجنسها وجد قبل النور، فقد وجدت مادة الكون أولا، وكانت دخانا مظلما أو سديما (نظرية السديم) كما يقول الفلكيون، ثم تكونت الشموس. وكذلك الظلمات المعنوية كالجهل والكفر والشرك أسبق وجودا من النور، فإن نور العلم والإيمان والتوحيد يحدث بعدئذ، كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل ١٦/ ٧٨].
ثم الذين كفروا وجحدوا نعمة الله الصانع بعد هذا كله يعدلون بالله غيره، أي يجعلون له عديلا مساويا له في العبادة وهو الشريك، مع أنه غير خالق
والمراد بالسموات: العوالم العلوية التي نراها فوقنا، والمراد بالأرض:
الكوكب الذي نعيش فيه. والأرض هنا: اسم للجنس، فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها، وكذلك النور، ومثله: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر ٤٠/ ٦٧].
وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في الليل والنهار، وجمع الظلمات وأفرد لفظ النور، لكثرة أسبابها كالعتمة والشرك والكفر، أما النور فهو واحد متعدد المصدر، ولكون النور أشرف، كقوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ. وجعل هنا: بمعنى خلق، لا يجوز غيره. والمراد بالظلمة كما قال السدي وجمهور المفسرين: ظلمة الليل، وبالنور: نور النهار، وفي ذلك ردّ على المجوس (الثّنوية) القائلين بإلهين اثنين: هما النور وهو الخالق للخير، والظلمة وهو الخالق للشر. وقال الحسن البصري: المراد منهما الكفر والإيمان «١».
وقال قتادة عن سبب التقديم: إنه تعالى خلق السموات قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار. أما الظلمات الحسية فجنسها وجد قبل النور، فقد وجدت مادة الكون أولا، وكانت دخانا مظلما أو سديما (نظرية السديم) كما يقول الفلكيون، ثم تكونت الشموس. وكذلك الظلمات المعنوية كالجهل والكفر والشرك أسبق وجودا من النور، فإن نور العلم والإيمان والتوحيد يحدث بعدئذ، كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل ١٦/ ٧٨].
ثم الذين كفروا وجحدوا نعمة الله الصانع بعد هذا كله يعدلون بالله غيره، أي يجعلون له عديلا مساويا له في العبادة وهو الشريك، مع أنه غير خالق
(١) تفسير القرطبي: ٦/ ٣٨٦
132
ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.
ثم خاطب الله المشركين الذين عدلوا به غيره مذكرا لهم بدلائل التوحيد والبعث فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ.. أي خلق أباكم آدم الذي هو أصلكم من طين، ثم تكاثرت ذريته في المشارق والمغارب، كما خلق سائر أحياء الأرض، وهي بعد الحياة بحاجة إلى النبات لأن الدم من الغذاء، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان المتولدة من النبات، فالمرجع إلى نبات الطين.
ثم حدّد تعالى أجل وجود الإنسان بدءا من الولادة إلى الممات، وهناك أجل آخر له يبدأ بالإعادة من القبور، فصار قضاء الله أجلين: الأول: ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني: ما بين الموت والبعث وهو البرزخ، وهو رأي الحسن.
وفسر ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله: ثُمَّ قَضى أَجَلًا أجل الموت، والأجل المسمى هو أجل القيامة.
وكل أجل مسمى عند الله، أي له بداية ونهاية محدودة لا تزيد ولا تنقص، ولا يعلمه غيره، ولو كان نبيا مرسلا أو ملكا مقرّبا، فالمقصود من الأجلين:
أجل الدنيا والإنسان، وأجل القيامة. قال تعالى عن الأول: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل ١٦/ ٦١].
ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ أي بالرغم من قيام الدلائل على التوحيد والبعث.
تشكّون أيها الكفار في خلقكم مرة ثانية أي في البعث وأمر الساعة، علما بأنه تعالى ابتدأ خلقكم من طين، وتكاثرت الذرية، فجعل أصل الإنسان نطفة من ماء مهين وأودعه في قرار مكين، وهيأ له فيه ظروف الحياة، وجعله يتنفس ويتغذى بدم الحيض، ولو تنفس بالهواء العادي أو أكل غير الدم لمات. ومن قدر على الابتداء، فهو على الإعادة أقدر.
ثم خاطب الله المشركين الذين عدلوا به غيره مذكرا لهم بدلائل التوحيد والبعث فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ.. أي خلق أباكم آدم الذي هو أصلكم من طين، ثم تكاثرت ذريته في المشارق والمغارب، كما خلق سائر أحياء الأرض، وهي بعد الحياة بحاجة إلى النبات لأن الدم من الغذاء، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان المتولدة من النبات، فالمرجع إلى نبات الطين.
ثم حدّد تعالى أجل وجود الإنسان بدءا من الولادة إلى الممات، وهناك أجل آخر له يبدأ بالإعادة من القبور، فصار قضاء الله أجلين: الأول: ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني: ما بين الموت والبعث وهو البرزخ، وهو رأي الحسن.
وفسر ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله: ثُمَّ قَضى أَجَلًا أجل الموت، والأجل المسمى هو أجل القيامة.
وكل أجل مسمى عند الله، أي له بداية ونهاية محدودة لا تزيد ولا تنقص، ولا يعلمه غيره، ولو كان نبيا مرسلا أو ملكا مقرّبا، فالمقصود من الأجلين:
أجل الدنيا والإنسان، وأجل القيامة. قال تعالى عن الأول: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل ١٦/ ٦١].
ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ أي بالرغم من قيام الدلائل على التوحيد والبعث.
تشكّون أيها الكفار في خلقكم مرة ثانية أي في البعث وأمر الساعة، علما بأنه تعالى ابتدأ خلقكم من طين، وتكاثرت الذرية، فجعل أصل الإنسان نطفة من ماء مهين وأودعه في قرار مكين، وهيأ له فيه ظروف الحياة، وجعله يتنفس ويتغذى بدم الحيض، ولو تنفس بالهواء العادي أو أكل غير الدم لمات. ومن قدر على الابتداء، فهو على الإعادة أقدر.
133
وأقام الله تعالى دليلا آخر على وجوده ووحدانيته، فقال: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ.. أي أنه المدعو الله، القائم في السموات والأرض المعبود فيها، المعروف بالألوهية، يعبده ويوحده كل من في السموات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر من الجن والإنس، أي أنه المتصف بهذه الصفات المعروفة، المعترف له بها في السموات والأرض، ونظير هذه الآية: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ، وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف ٤٣/ ٨٤] أي هو إله من في السماء، وإله من في الأرض.
يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ تأكيد وتقرير لما قبله، يعلم السر والجهر، ويستوي في علمه الخفاء والعلانية، فهو خبر بعد خبر وصفة بعد صفة، أو حال.
وقيل: المراد أنه الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض من سر وجهر، فيكون قوله: يَعْلَمُ متعلقا بقوله: فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ تقديره:
وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، ويعلم ما تكسبون. واختار الطبري قولا ثالثا: أن قوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وقف تام، ثم استأنف الخبر فقال: وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ.
وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ أي يعلم جميع أعمالكم خيرها وشرها، ويجازيكم عليها.
فقه الحياة أو الأحكام:
المقصود من هذه الآيات إيراد الدلائل على وجود الله ووحدانية الصانع لأن تقدير السموات والأرض بمقادير مخصوصة، لا يمكن حصوله إلا بتخصيص الفاعل المختار، وهو الله.
ويستنبط من الآيات ما يلي:
يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ تأكيد وتقرير لما قبله، يعلم السر والجهر، ويستوي في علمه الخفاء والعلانية، فهو خبر بعد خبر وصفة بعد صفة، أو حال.
وقيل: المراد أنه الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض من سر وجهر، فيكون قوله: يَعْلَمُ متعلقا بقوله: فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ تقديره:
وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، ويعلم ما تكسبون. واختار الطبري قولا ثالثا: أن قوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وقف تام، ثم استأنف الخبر فقال: وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ.
وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ أي يعلم جميع أعمالكم خيرها وشرها، ويجازيكم عليها.
فقه الحياة أو الأحكام:
المقصود من هذه الآيات إيراد الدلائل على وجود الله ووحدانية الصانع لأن تقدير السموات والأرض بمقادير مخصوصة، لا يمكن حصوله إلا بتخصيص الفاعل المختار، وهو الله.
ويستنبط من الآيات ما يلي:
134
١- الله تعالى هو المستحق لجميع أنواع المحامد على نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى.
٢- إثبات الألوهية لأن الحمد كله لله فلا شريك له.
٣- إقامة الأدلة على قدرة الله تعالى وعلمه وإرادته، بإخباره عن خلق السموات والأرض، أي الإيجاد والاختراع والإنشاء والإبداع، والخلق يكون بمعنى الاختراع، ويكون بمعنى التقدير، وكلاهما مراد هنا، وذلك دليل على حدوثهما فإنه تعالى رفع السماء بغير عمد، وجعلها مستوية من غير عوج، وجعل فيها الشمس والقمر آيتين، وزينها بالنجوم، وأودعها السحاب والغيوم علامتين، وبسط الأرض وأودعها الأرزاق والنبات، وبثّ فيها من كل دابة، وجعل فيها الجبال أوتادا، وسبلا فجاجا، وأجرى فيها الأنهار وشقّ البحار، وفجّر فيها العيون والآبار من الأحجار، كل ذلك دالّ على وحدانيته وعظيم قدرته.
وأتبع خلق الجواهر والذوات بخلق الأعراض والمستلزمات، وهي جعل الظلمات.
٤- الكفار جاحدون نعمة الله عليهم، فبالرغم من أن الله وحده خلق هذه الأشياء، يجعلون لله عدلا وشريكا. والتعبير ب «ثم» دليل على قبح فعل الكافرين لأن معنى الآية: أن خلقه السموات والأرض قد تقرر، وآياته قد سطعت، وإنعامه بذلك قد تبيّن، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم.
٥- ابتداء خلق الإنسان من طين لأن المراد من قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ آدم عليه السّلام، والخلق نسله، والفرع يضاف إلى أصله.
وفي إيراد خلق الإنسان بعد خلق السموات والأرض: بيان خلق العالم الكبير
٢- إثبات الألوهية لأن الحمد كله لله فلا شريك له.
٣- إقامة الأدلة على قدرة الله تعالى وعلمه وإرادته، بإخباره عن خلق السموات والأرض، أي الإيجاد والاختراع والإنشاء والإبداع، والخلق يكون بمعنى الاختراع، ويكون بمعنى التقدير، وكلاهما مراد هنا، وذلك دليل على حدوثهما فإنه تعالى رفع السماء بغير عمد، وجعلها مستوية من غير عوج، وجعل فيها الشمس والقمر آيتين، وزينها بالنجوم، وأودعها السحاب والغيوم علامتين، وبسط الأرض وأودعها الأرزاق والنبات، وبثّ فيها من كل دابة، وجعل فيها الجبال أوتادا، وسبلا فجاجا، وأجرى فيها الأنهار وشقّ البحار، وفجّر فيها العيون والآبار من الأحجار، كل ذلك دالّ على وحدانيته وعظيم قدرته.
وأتبع خلق الجواهر والذوات بخلق الأعراض والمستلزمات، وهي جعل الظلمات.
٤- الكفار جاحدون نعمة الله عليهم، فبالرغم من أن الله وحده خلق هذه الأشياء، يجعلون لله عدلا وشريكا. والتعبير ب «ثم» دليل على قبح فعل الكافرين لأن معنى الآية: أن خلقه السموات والأرض قد تقرر، وآياته قد سطعت، وإنعامه بذلك قد تبيّن، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم.
٥- ابتداء خلق الإنسان من طين لأن المراد من قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ آدم عليه السّلام، والخلق نسله، والفرع يضاف إلى أصله.
وفي إيراد خلق الإنسان بعد خلق السموات والأرض: بيان خلق العالم الكبير
135
بعد خلق العالم الصغير وهو الإنسان، وجعل فيه ما في العالم الكبير. وعلى هذا يكون كل إنسان مخلوقا من طين وماء مهين، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون ٢٣/ ١٢- ١٣].
٦- حدّد الله تعالى أجل الدنيا وأجل القيامة، وأجل الإنسان بالموت والبعث، فلا يعلم الإنسان متى يموت، ومتى يبعث. فالمراد من قوله: ثُمَّ قَضى أَجَلًا أي حكم أجلا وهو أجل الدنيا أو الموت، وقوله: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أجل ابتداء القيامة والآخرة.
٧- الله المعظم وهو المعبود في السموات وفي الأرض، وهو المنفرد بالتدبير فيهما، وهو الذي يعلم سرّ العباد وجهرهم في السموات وفي الأرض، فلا يخفى عليه شيء. وكل ذلك مع مراعاة القاعدة: وهي تنزيهه جلّ وعزّ عن الحركة والانتقال وشغل الأمكنة.
والله يعلم ما يكسبه كل إنسان من خير أو شر، والكسب: الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضرر، ولهذا لا يقال لفعل الله: كسب.
سبب كفر الناس بآيات ربّهم وإنذارهم بالعقاب
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤ الى ٦]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)
٦- حدّد الله تعالى أجل الدنيا وأجل القيامة، وأجل الإنسان بالموت والبعث، فلا يعلم الإنسان متى يموت، ومتى يبعث. فالمراد من قوله: ثُمَّ قَضى أَجَلًا أي حكم أجلا وهو أجل الدنيا أو الموت، وقوله: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أجل ابتداء القيامة والآخرة.
٧- الله المعظم وهو المعبود في السموات وفي الأرض، وهو المنفرد بالتدبير فيهما، وهو الذي يعلم سرّ العباد وجهرهم في السموات وفي الأرض، فلا يخفى عليه شيء. وكل ذلك مع مراعاة القاعدة: وهي تنزيهه جلّ وعزّ عن الحركة والانتقال وشغل الأمكنة.
والله يعلم ما يكسبه كل إنسان من خير أو شر، والكسب: الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضرر، ولهذا لا يقال لفعل الله: كسب.
سبب كفر الناس بآيات ربّهم وإنذارهم بالعقاب
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤ الى ٦]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)
136
الإعراب:
كَمْ خبرية اسم للعدد، منصوب بأهلكنا، لا بفعل يَرَوْا لأن الاستفهام وما يجري مجراه له صدر الكلام، فلا يعمل فيه ما قبله.
البلاغة:
مِنْ قَرْنٍ أي من أهل قرن، فهو مجاز مرسل من إطلاق المحل وإرادة الحال.
ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.
وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً عبّر عن المطر بالسماء من قبيل المجاز المرسل، وعلاقته السببية لأن المطر ينزل من السماء.
المفردات اللغوية:
وَما تَأْتِيهِمْ أي أهل مكّة. مِنْ صلة زائدة لاستغراق الجنس. آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ هي الآيات القرآنية المرشدة إلى وجود الله ووحدانيته والمثبتة نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم. مُعْرِضِينَ متولّين عنها، والإعراض: التولّي عن الشيء. بِالْحَقِّ القرآن أو دين الله الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم مشتملا على العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق. والحق في الأصل: الأمر الثابت المتحقّق في نفسه. أَنْباءُ أخبار، والمراد هنا عواقب استهزائهم، والأنباء: ما تضمّن القرآن من وعد بنصر الله لرسله، ووعيد لأعدائه بالهزيمة في الدّنيا والعذاب في الآخرة.
أَلَمْ يَرَوْا في رحلاتهم وأسفارهم إلى الشام واليمن وغيرهما. مِنْ قَرْنٍ أمّة من الأمم الماضية، والقرن من الناس: القوم الذين يعيشون في زمان واحد، ومدّته مائة سنة. وجمعه قرون، وقد جاء في القرآن مفردا وجمعا. مَكَّنَّاهُمْ أعطيناهم مكانا بالقوة والسّعة، ومكّنه في الأرض أو في الشيء: جعله متمكّنا من التّصرّف فيه. ومكّن له: أعطاه أسباب العزّة والتّمكّن في الأرض مثل قوله تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ [النور ٢٤/ ٥٥]، وقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً [القصص ٢٨/ ٥٧]، وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ أي المطر النازل من السماء. مِدْراراً متتابعا غزيرا. مِنْ تَحْتِهِمْ تحت مساكنهم. فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ بتكذيبهم الأنبياء.
قَرْناً آخَرِينَ أمّة أو جماعة آخرين.
المناسبة:
تكلّم الله تعالى في الآيات السابقة أوّلا عن التّوحيد، وثانيا في المعاد
كَمْ خبرية اسم للعدد، منصوب بأهلكنا، لا بفعل يَرَوْا لأن الاستفهام وما يجري مجراه له صدر الكلام، فلا يعمل فيه ما قبله.
البلاغة:
مِنْ قَرْنٍ أي من أهل قرن، فهو مجاز مرسل من إطلاق المحل وإرادة الحال.
ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.
وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً عبّر عن المطر بالسماء من قبيل المجاز المرسل، وعلاقته السببية لأن المطر ينزل من السماء.
المفردات اللغوية:
وَما تَأْتِيهِمْ أي أهل مكّة. مِنْ صلة زائدة لاستغراق الجنس. آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ هي الآيات القرآنية المرشدة إلى وجود الله ووحدانيته والمثبتة نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم. مُعْرِضِينَ متولّين عنها، والإعراض: التولّي عن الشيء. بِالْحَقِّ القرآن أو دين الله الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم مشتملا على العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق. والحق في الأصل: الأمر الثابت المتحقّق في نفسه. أَنْباءُ أخبار، والمراد هنا عواقب استهزائهم، والأنباء: ما تضمّن القرآن من وعد بنصر الله لرسله، ووعيد لأعدائه بالهزيمة في الدّنيا والعذاب في الآخرة.
أَلَمْ يَرَوْا في رحلاتهم وأسفارهم إلى الشام واليمن وغيرهما. مِنْ قَرْنٍ أمّة من الأمم الماضية، والقرن من الناس: القوم الذين يعيشون في زمان واحد، ومدّته مائة سنة. وجمعه قرون، وقد جاء في القرآن مفردا وجمعا. مَكَّنَّاهُمْ أعطيناهم مكانا بالقوة والسّعة، ومكّنه في الأرض أو في الشيء: جعله متمكّنا من التّصرّف فيه. ومكّن له: أعطاه أسباب العزّة والتّمكّن في الأرض مثل قوله تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ [النور ٢٤/ ٥٥]، وقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً [القصص ٢٨/ ٥٧]، وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ أي المطر النازل من السماء. مِدْراراً متتابعا غزيرا. مِنْ تَحْتِهِمْ تحت مساكنهم. فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ بتكذيبهم الأنبياء.
قَرْناً آخَرِينَ أمّة أو جماعة آخرين.
المناسبة:
تكلّم الله تعالى في الآيات السابقة أوّلا عن التّوحيد، وثانيا في المعاد
137
والبعث، وثالثا فيما يثبت الأمرين بالدّلائل الواضحة، ثمّ ذكر هنا ما يتعلّق بالنّبوة، فأبان سبب إعراض الكفار عن آيات ربّهم بعد إتيان النّبي صلّى الله عليه وسلّم بها، وهو إشراكهم بالله وتكذيبهم الرّسل، وأنذرهم عاقبة التّكذيب بالحقّ بدليل ما حلّ بالأمم قبلهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن المشركين المعاندين أنهم كلّما أتتهم معجزة وحجّة دامغة من دلائل وحدانية الله وصدق رسله الكرام، أعرضوا عنها، ولم ينظروا فيها، ولم يبالوا بها.
وما تأتي المشركين يا محمد بأي آية من آيات القرآن المنزّلة من ربّهم الذي ربّاهم، وتعهّدهم في حالتي الضعف والقوّة، وكفل لهم رزقهم، وأنعم عليهم بكل شيء في أنفسهم وفي الأرض والسماء، تلك الآيات الدّالة على بديع صنع الله، ما تأتيهم من آية إلا أعرضوا عنها استهزاء، كما قال تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء ٢١/ ٢].
وفسّر القرطبي الآية بالعلامة كانشقاق القمر ونحوها، وكذلك فسّر ابن كثير الآية بالمعجزة والحجّة على وحدانية الله.
وسبب ذلك الإعراض عن النّظر في آيات الله: تكذيبهم بالحقّ الذي جاءهم، وهو دين الإسلام الذي أتى به خاتم الأنبياء.
ثمّ هدّدهم وتوعّدهم على تكذيبهم بالحقّ بقوله: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أي بأنه لا بدّ أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التّكذيب، وسيجدون عاقبة أمرهم وهزئهم، كالقتل والسّبي والطّرد من البلاد، وقد تحقّق ذلك، فنزل بهم القحط، وحلّت بهم الهزيمة يوم بدر وفتح مكّة.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن المشركين المعاندين أنهم كلّما أتتهم معجزة وحجّة دامغة من دلائل وحدانية الله وصدق رسله الكرام، أعرضوا عنها، ولم ينظروا فيها، ولم يبالوا بها.
وما تأتي المشركين يا محمد بأي آية من آيات القرآن المنزّلة من ربّهم الذي ربّاهم، وتعهّدهم في حالتي الضعف والقوّة، وكفل لهم رزقهم، وأنعم عليهم بكل شيء في أنفسهم وفي الأرض والسماء، تلك الآيات الدّالة على بديع صنع الله، ما تأتيهم من آية إلا أعرضوا عنها استهزاء، كما قال تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء ٢١/ ٢].
وفسّر القرطبي الآية بالعلامة كانشقاق القمر ونحوها، وكذلك فسّر ابن كثير الآية بالمعجزة والحجّة على وحدانية الله.
وسبب ذلك الإعراض عن النّظر في آيات الله: تكذيبهم بالحقّ الذي جاءهم، وهو دين الإسلام الذي أتى به خاتم الأنبياء.
ثمّ هدّدهم وتوعّدهم على تكذيبهم بالحقّ بقوله: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أي بأنه لا بدّ أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التّكذيب، وسيجدون عاقبة أمرهم وهزئهم، كالقتل والسّبي والطّرد من البلاد، وقد تحقّق ذلك، فنزل بهم القحط، وحلّت بهم الهزيمة يوم بدر وفتح مكّة.
138
قال الرّازي: رتّب تعالى أحوال هؤلاء الكفار على مراتب ثلاث: إعراض عن التّأمّل في الدّلائل والتّفكّر في البيّنات، وكونهم مكذّبين بها، ثم كونهم مستهزئين بها، وكلّ مرتبة أشدّ مما قبلها لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذّبا به، بل يكون غافلا عنه، والمكذّب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حدّ الاستهزاء «١».
ثمّ بيّن الله تعالى أن الوعيد بالعذاب سنّة الله في المكذّبين، فقال: أَلَمْ يَرَوْا.. أي ألم يعلم هؤلاء المكذّبون بالحقّ أنّا أهلكنا كثيرا من الأمم السابقة قبلهم، مثل قوم عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط، الذين كذّبوا رسلهم، بالرّغم من إعطائهم من أسباب القوة والسّعة في الرّزق والاستقلال والملك، ما لم نعطهم مثله. والقرن: الأمّة من الناس، الذين يعيشون في عصر واحد مائة سنة. والرؤية في قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا رؤية القلب.
امتازوا بالغنى عن كفار قريش، فكانت الأمطار تنزل عليهم بكثرة وغزارة وتتابع، وكانت الأنهار تجري من تحت مساكنهم.
فلما كفروا بأنعم الله أهلكناهم بسبب ذنوبهم وتكذيبهم رسلهم، وأوجدنا من بعدهم قوما آخرين، وجيلا جديدا يعمرون البلاد، ويكونون أجدر بشكر النّعمة.
أي إن ذنوبهم التي أدّت إلى الهلاك نوعان: تكذيب الرّسل، وكفران النّعم، كما قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ. وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها [عاصمتها] رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [القصص ٢٨/ ٥٨- ٥٩].
ثمّ بيّن الله تعالى أن الوعيد بالعذاب سنّة الله في المكذّبين، فقال: أَلَمْ يَرَوْا.. أي ألم يعلم هؤلاء المكذّبون بالحقّ أنّا أهلكنا كثيرا من الأمم السابقة قبلهم، مثل قوم عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط، الذين كذّبوا رسلهم، بالرّغم من إعطائهم من أسباب القوة والسّعة في الرّزق والاستقلال والملك، ما لم نعطهم مثله. والقرن: الأمّة من الناس، الذين يعيشون في عصر واحد مائة سنة. والرؤية في قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا رؤية القلب.
امتازوا بالغنى عن كفار قريش، فكانت الأمطار تنزل عليهم بكثرة وغزارة وتتابع، وكانت الأنهار تجري من تحت مساكنهم.
فلما كفروا بأنعم الله أهلكناهم بسبب ذنوبهم وتكذيبهم رسلهم، وأوجدنا من بعدهم قوما آخرين، وجيلا جديدا يعمرون البلاد، ويكونون أجدر بشكر النّعمة.
أي إن ذنوبهم التي أدّت إلى الهلاك نوعان: تكذيب الرّسل، وكفران النّعم، كما قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ. وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها [عاصمتها] رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [القصص ٢٨/ ٥٨- ٥٩].
(١) تفسير الرازي: ١٢/ ١٥٧
139
والغرض من هذا وعظ أهل مكّة وتحذيرهم أن يصيبهم من العذاب والنّكال الدّنيوي ما حلّ بأشباههم ونظرائهم من القرون السّالفة، الذين كانوا أشدّ منهم قوّة وأكثر جمعا، وأكثر أموالا وأولادا، واستعلاء في الأرض وعمارة لها.
فقه الحياة أو الأحكام:
موقف الكفار من دعوات الأنبياء للإصلاح يتميّز بالإعراض والعناد، ويهمل العقل والفكر، ويقوم على التّهكّم والاستهزاء، وهذا ليس من سمات الرّجال العقلاء الذين يعتمدون على تقليد الأسلاف بدون رويّة ولا تفكّر.
من مظاهر هذا الموقف: تركهم النظر في الآيات التي يجب أن يستدلّوا بها على توحيد الله جلّ وعزّ من خلق السّموات والأرض وما بينهما، سواء أكانت الآية قرآنية، أم معجزة من معجزات النّبي صلّى الله عليه وسلّم التي أيّده الله بها، ليستدلّ بها على صدقه في جميع ما أتى به، كانشقاق القمر ونحوه، أم حجّة وبرهانا من الكون يرشد إلى ضرورة الاعتراف والإيمان بوجود إله واحد قديم حيّ غني عن جميع الأشياء، قادر لا يعجزه شيء، عالم لا يخفى عليه شيء من أحوال الأنبياء ومواقف أقوامهم منهم وغير ذلك.
ومن مظاهر موقفهم أيضا: تكذيبهم مشركي مكّة بالحقّ الثّابت من عند الله وهو القرآن وإرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم. ولكن الله تعالى توعّدهم بالعقاب وأنذرهم بالعذاب، فأمر نبيّه بالصّبر، وسوف يأتيهم أخبار استهزائهم وهو العذاب الذي سينزل بهم في الدّنيا كيوم بدر، والعذاب المنتظر لهم يوم القيامة.
وذكّرهم الحقّ تعالى بأحوال من قبلهم، فقال: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا...
أي ألا يعتبرون بمن أهلك الله من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم، والمعنى: ألم يعرفوا ذلك، فالله تعالى أمرهم بكلّ أسباب القوّة والسّعة والتّمكّن في الأرض أكثر مما مكّن لأهل مكّة من الأموال والأولاد والأعمار والجاه العريض والسّعة
فقه الحياة أو الأحكام:
موقف الكفار من دعوات الأنبياء للإصلاح يتميّز بالإعراض والعناد، ويهمل العقل والفكر، ويقوم على التّهكّم والاستهزاء، وهذا ليس من سمات الرّجال العقلاء الذين يعتمدون على تقليد الأسلاف بدون رويّة ولا تفكّر.
من مظاهر هذا الموقف: تركهم النظر في الآيات التي يجب أن يستدلّوا بها على توحيد الله جلّ وعزّ من خلق السّموات والأرض وما بينهما، سواء أكانت الآية قرآنية، أم معجزة من معجزات النّبي صلّى الله عليه وسلّم التي أيّده الله بها، ليستدلّ بها على صدقه في جميع ما أتى به، كانشقاق القمر ونحوه، أم حجّة وبرهانا من الكون يرشد إلى ضرورة الاعتراف والإيمان بوجود إله واحد قديم حيّ غني عن جميع الأشياء، قادر لا يعجزه شيء، عالم لا يخفى عليه شيء من أحوال الأنبياء ومواقف أقوامهم منهم وغير ذلك.
ومن مظاهر موقفهم أيضا: تكذيبهم مشركي مكّة بالحقّ الثّابت من عند الله وهو القرآن وإرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم. ولكن الله تعالى توعّدهم بالعقاب وأنذرهم بالعذاب، فأمر نبيّه بالصّبر، وسوف يأتيهم أخبار استهزائهم وهو العذاب الذي سينزل بهم في الدّنيا كيوم بدر، والعذاب المنتظر لهم يوم القيامة.
وذكّرهم الحقّ تعالى بأحوال من قبلهم، فقال: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا...
أي ألا يعتبرون بمن أهلك الله من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم، والمعنى: ألم يعرفوا ذلك، فالله تعالى أمرهم بكلّ أسباب القوّة والسّعة والتّمكّن في الأرض أكثر مما مكّن لأهل مكّة من الأموال والأولاد والأعمار والجاه العريض والسّعة
140
والجنود، ووفرة الأمطار، وينابيع الأرض، وجريان الأنهار من تحت دورهم ومساكنهم، استدراجا وإملاء لهم، ثم أهلكهم الله بخطيئاتهم وسيّئاتهم التي اقترفوها وبكفرهم الذي لازموه.
ويفهم من ذلك أنّ الذّنوب سبب الانتقام وزوال النّعم، فليحذر هؤلاء وأمثالهم من الإهلاك والدّمار. والإنذار عامّ لكلّ زمان ومكان، فهذا إنذار لكفار قريش وكلّ الكفار أنه سينزل بهم من العذاب مثلما نزل بأمم سابقة جزاء استهزائهم بأنبيائهم.
عناد الكفار والرّدّ على طلبهم بإنزال كتاب أو إرسال ملك
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧ الى ٩]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩)
المفردات اللغوية:
كِتاباً أي صحيفة مكتوبة ذات غرض واحد. قِرْطاسٍ ورق أو رقّ يكتب عليه.
فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ أبلغ من (عاينوه) لأنه أنفى للشّك. سِحْرٌ أي خداع وتمويه لا حقيقة له، ويقولون ذلك تعنتا وعنادا.
أُنْزِلَ هلا. لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لتّم أمر هلاكهم. ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون لتوبة أن معذرة، كعادة الله فيمن قبلهم عند وجود مقترحهم إذا لم يؤمنوا.
وَلَوْ جَعَلْناهُ أي المنزل إليهم. لَجَعَلْناهُ أي الملك. رَجُلًا أي على صورة رجل، ليتمكّنوا من رؤيته، إذ لا قوّة للبشر على رؤية الملك. لَلَبَسْنا لسترنا وغطّينا، والمراد: جعلنا أمرهم يلتبس عليهم فلا يعرفونه. ما يَلْبِسُونَ على أنفسهم، بأن يقولوا: ما هذا إلا بشر مثلكم، فيلتبس الأمر عليهم فلم يدروا أملك هو أم إنس، فلم يوقنوا أنه ملك ولم يصدّقوا به، وقالوا: ليس هذا ملكا، كما التبس على أنفسهم من حقيقة أمرك وصحة برهانك وشاهدك على نبوّتك.
ويفهم من ذلك أنّ الذّنوب سبب الانتقام وزوال النّعم، فليحذر هؤلاء وأمثالهم من الإهلاك والدّمار. والإنذار عامّ لكلّ زمان ومكان، فهذا إنذار لكفار قريش وكلّ الكفار أنه سينزل بهم من العذاب مثلما نزل بأمم سابقة جزاء استهزائهم بأنبيائهم.
عناد الكفار والرّدّ على طلبهم بإنزال كتاب أو إرسال ملك
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧ الى ٩]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩)
المفردات اللغوية:
كِتاباً أي صحيفة مكتوبة ذات غرض واحد. قِرْطاسٍ ورق أو رقّ يكتب عليه.
فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ أبلغ من (عاينوه) لأنه أنفى للشّك. سِحْرٌ أي خداع وتمويه لا حقيقة له، ويقولون ذلك تعنتا وعنادا.
أُنْزِلَ هلا. لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لتّم أمر هلاكهم. ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون لتوبة أن معذرة، كعادة الله فيمن قبلهم عند وجود مقترحهم إذا لم يؤمنوا.
وَلَوْ جَعَلْناهُ أي المنزل إليهم. لَجَعَلْناهُ أي الملك. رَجُلًا أي على صورة رجل، ليتمكّنوا من رؤيته، إذ لا قوّة للبشر على رؤية الملك. لَلَبَسْنا لسترنا وغطّينا، والمراد: جعلنا أمرهم يلتبس عليهم فلا يعرفونه. ما يَلْبِسُونَ على أنفسهم، بأن يقولوا: ما هذا إلا بشر مثلكم، فيلتبس الأمر عليهم فلم يدروا أملك هو أم إنس، فلم يوقنوا أنه ملك ولم يصدّقوا به، وقالوا: ليس هذا ملكا، كما التبس على أنفسهم من حقيقة أمرك وصحة برهانك وشاهدك على نبوّتك.
141
سبب النزول:
نزول الآية (٧) :
وَلَوْ نَزَّلْنا... قال الكلبي: إن مشركي مكّة قالوا: يا محمد، والله لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنّك رسول الله، فنزلت هذه الآية.
وقال في رواية أخرى: نزلت في النّضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء ١٧/ ٩٠].
نزول الآية (٨) :
وَقالُوا: أُنْزِلَ..:
روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال: «دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قومه إلى الإسلام وكلّمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب، والنّضر بن الحارث بن كلّدة، وعبدة بن عبد يغوث، وأبيّ بن خلف، والعاصي بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس ويرى معك، فأنزل الله في ذلك: وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ.
وإذا كانت قد أنزلت سور من القرآن تتضمن اقتراح المشركين إنزال ملك أو كتاب أو إنزال القرآن جملة واحدة، قبل هذه الآية، فلا مانع يمنع من تأكيد بيان هذا الاقتراح في مناسبة أخرى، إظهارا لعنادهم وتعنّتهم.
المناسبة:
ذكرت الآيات السابقة بعض المواقف من عناد المشركين، وتستمر الآيات هنا في بيان شبهات جحودهم وعنادهم ومكابرتهم للحقّ ومنازعتهم فيه، تلك
نزول الآية (٧) :
وَلَوْ نَزَّلْنا... قال الكلبي: إن مشركي مكّة قالوا: يا محمد، والله لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنّك رسول الله، فنزلت هذه الآية.
وقال في رواية أخرى: نزلت في النّضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء ١٧/ ٩٠].
نزول الآية (٨) :
وَقالُوا: أُنْزِلَ..:
روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال: «دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قومه إلى الإسلام وكلّمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب، والنّضر بن الحارث بن كلّدة، وعبدة بن عبد يغوث، وأبيّ بن خلف، والعاصي بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس ويرى معك، فأنزل الله في ذلك: وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ.
وإذا كانت قد أنزلت سور من القرآن تتضمن اقتراح المشركين إنزال ملك أو كتاب أو إنزال القرآن جملة واحدة، قبل هذه الآية، فلا مانع يمنع من تأكيد بيان هذا الاقتراح في مناسبة أخرى، إظهارا لعنادهم وتعنّتهم.
المناسبة:
ذكرت الآيات السابقة بعض المواقف من عناد المشركين، وتستمر الآيات هنا في بيان شبهات جحودهم وعنادهم ومكابرتهم للحقّ ومنازعتهم فيه، تلك
142
الشّبهات الموجّهة إلى الوحي وبعثة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، فصاروا منكرين أصول الدّين الثلاث: التّوحيد والبعث ونبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
التفسير والبيان:
يبيّن الله تعالى في هذه الآيات أسباب إعراض المشركين عن الإيمان، وتذرّعهم بشبهات واهية، ومطالبتهم إنزال صحيفة مكتوبة وإرسال ملك يؤيّد النّبي ويصدّقه، وهم في الحقيقة معرضون لا تؤثّر فيهم الحجج والبراهين، ولا يجديهم تنفيذ مقترحاتهم.
إن علّة تكذيبهم بالحقّ هي إعراضهم عن آيات الله وسدّ كلّ منافذ النّظر والفكر، وتعطيل كلّ طاقات الوعي والإدراك، فلو أنزلنا عليك يا محمد كتابا مدوّنا في ورق أو نحوه أو معلّقا بين السّماء والأرض، فعاينوه ورأوا نزوله ولمسوه بأيديهم، لقالوا: ما هذا إلا سحر مبين أي خداع وتمويه وتضليل لا حقيقة فيه.
وإنما قال: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لأن اللمس أقوى الدّلالات الحسيّة وأبعدها عن الخداع لأن البصر يخدع بالتخيّل. والتّعبير بقوله: نَزَّلْنا بالتّشديد، وقوله: كِتاباً فِي قِرْطاسٍ وهو لا يكون إلا فيه، وقوله: فَلَمَسُوهُ للمبالغة وتأكيد النزول، ثم يعرضون عنه قائلين: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
وهذا كما قال تعالى في مكابرتهم للمحسوسات: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا [أي حبست ومنعت] بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر ١٥/ ١٤- ١٥]، وقوله سبحانه: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً، يَقُولُوا: سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطّور ٥٢/ ٤٤].
هذا هو الرّدّ على اقتراحهم الأوّل وهو تنزيل كتاب من السّماء، ثم ردّ الله على اقتراحهم الثاني وهو إنزال ملك من السّماء يرونه ويكون مؤيّدا له، فقال تعالى: وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أي هلا أنزل الله مع الرّسول ملكا
التفسير والبيان:
يبيّن الله تعالى في هذه الآيات أسباب إعراض المشركين عن الإيمان، وتذرّعهم بشبهات واهية، ومطالبتهم إنزال صحيفة مكتوبة وإرسال ملك يؤيّد النّبي ويصدّقه، وهم في الحقيقة معرضون لا تؤثّر فيهم الحجج والبراهين، ولا يجديهم تنفيذ مقترحاتهم.
إن علّة تكذيبهم بالحقّ هي إعراضهم عن آيات الله وسدّ كلّ منافذ النّظر والفكر، وتعطيل كلّ طاقات الوعي والإدراك، فلو أنزلنا عليك يا محمد كتابا مدوّنا في ورق أو نحوه أو معلّقا بين السّماء والأرض، فعاينوه ورأوا نزوله ولمسوه بأيديهم، لقالوا: ما هذا إلا سحر مبين أي خداع وتمويه وتضليل لا حقيقة فيه.
وإنما قال: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لأن اللمس أقوى الدّلالات الحسيّة وأبعدها عن الخداع لأن البصر يخدع بالتخيّل. والتّعبير بقوله: نَزَّلْنا بالتّشديد، وقوله: كِتاباً فِي قِرْطاسٍ وهو لا يكون إلا فيه، وقوله: فَلَمَسُوهُ للمبالغة وتأكيد النزول، ثم يعرضون عنه قائلين: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
وهذا كما قال تعالى في مكابرتهم للمحسوسات: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا [أي حبست ومنعت] بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر ١٥/ ١٤- ١٥]، وقوله سبحانه: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً، يَقُولُوا: سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطّور ٥٢/ ٤٤].
هذا هو الرّدّ على اقتراحهم الأوّل وهو تنزيل كتاب من السّماء، ثم ردّ الله على اقتراحهم الثاني وهو إنزال ملك من السّماء يرونه ويكون مؤيّدا له، فقال تعالى: وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أي هلا أنزل الله مع الرّسول ملكا
143
يكون معه نذيرا ومؤيّدا له ونصيرا، كأنّهم فهموا أن الرّسالة السّماوية تتنافى مع البشرية، وهم يعلمون أنّ الرّسول بشر، كما قال تعالى: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٣٣]، وقال:
وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ، أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان ٢٥/ ٧] ومضمون ردّ الاقتراح الثّاني من جهتين:
أوّلا- وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً.. أي ولو أنزل الله ملكا كما اقترحوا لقضي الأمر بإهلاكهم، ثم لا يمهلون ليؤمنوا، بل لجاءهم من الله العذاب، كما قال تعالى:
ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ [الحجر ١٥/ ٨]، وقال:
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ، لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [الفرقان ٢٥/ ٢٢].
ثانيا- وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا.. أي ولو أنزلنا مع الرّسول البشر ملكا، لكان متمثلا بصورة الرّجل، ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ منه، ثم يعود الأمر كما كان ويقعون في اللّبس والاشتباه نفسه، الذي يلبسون على أنفسهم ويختلط الأمر عليهم باستنكار جعل الرّسول بشرا فإن هذا الرّجل سيقول لهم: إنّي رسول الله، كما يقول محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عباس في الآية:
يقول: لو أتاهم ملك، ما أتاهم إلا في صورة رجل لأنهم لا يستطيعون النّظر إلى الملائكة من النّور.
وقال قتادة: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ يقول: ما لبّس قوم على أنفسهم، إلا لبّس الله عليهم، واللّبس إنما هو من الناس.
فقه الحياة أو الأحكام:
إنّ إجابة المطالب المادية القائمة على التّعنّت والعناد، مثل إنزال المائدة على
وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ، أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان ٢٥/ ٧] ومضمون ردّ الاقتراح الثّاني من جهتين:
أوّلا- وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً.. أي ولو أنزل الله ملكا كما اقترحوا لقضي الأمر بإهلاكهم، ثم لا يمهلون ليؤمنوا، بل لجاءهم من الله العذاب، كما قال تعالى:
ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ [الحجر ١٥/ ٨]، وقال:
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ، لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [الفرقان ٢٥/ ٢٢].
ثانيا- وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا.. أي ولو أنزلنا مع الرّسول البشر ملكا، لكان متمثلا بصورة الرّجل، ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ منه، ثم يعود الأمر كما كان ويقعون في اللّبس والاشتباه نفسه، الذي يلبسون على أنفسهم ويختلط الأمر عليهم باستنكار جعل الرّسول بشرا فإن هذا الرّجل سيقول لهم: إنّي رسول الله، كما يقول محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عباس في الآية:
يقول: لو أتاهم ملك، ما أتاهم إلا في صورة رجل لأنهم لا يستطيعون النّظر إلى الملائكة من النّور.
وقال قتادة: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ يقول: ما لبّس قوم على أنفسهم، إلا لبّس الله عليهم، واللّبس إنما هو من الناس.
فقه الحياة أو الأحكام:
إنّ إجابة المطالب المادية القائمة على التّعنّت والعناد، مثل إنزال المائدة على
144
بني إسرائيل، وإنزال كتاب مكتوب في قرطاس أي صحيفة، وإنزال ملك من الملائكة لا تحقق الغرض، وسيظلّ الكافرون المشركون على موقفهم من الكفر والإعراض.
وهذا ما ردّ الله به على الاقتراح الأوّل للمشركين بإنزال كتاب، فلو أنزله وعاينوه ومسّوه باليد كما اقترحوا، لإزالة الرّيب والإشكال عنهم، لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم. وهذه الآية جواب لقولهم: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الإسراء ١٧/ ٩٣] فأعلم الله بما سبق في علمه من أنه لو نزل لكذّبوا به.
ثمّ ردّ الله على اقتراحهم الثاني بإنزال ملك: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ قال ابن عباس: لو رأوا الملك على صورته لماتوا إذ لا يطيقون رؤيته.
وقال الحسن البصري وقتادة: لأهلكوا بعذاب الاستئصال لأن الله أجرى سنّته بأن من طلب آية فأظهرت له فلم يؤمن، أهلكه الله في الحال.
وتكملة الرّدّ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أي لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلّا بعد التّجسيم بالأجسام الكثيفة لأن كلّ جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه فلو جعل الله تعالى الرّسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته، ولما أنسوا به، ولخافوا منه ومن مكالمته، فلا تتحقق المصلحة ولو تمثّل بصورة بشر لقالوا: لست ملكا، وإنما أنت بشر، فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم، وكانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر، فأتوا إبراهيم ولوطا في صورة الآدميين، وأتى جبريل النّبي صلّى الله عليه وسلّم في صورة دحية الكلبي.
أي إن هدفهم لا يتحقق فلو نزل بصورته الحقيقية لما أطاقوا رؤيته، ولو نزل بصورة رجل، التبس الأمر عليهم وقالوا: هذا ساحر مثلك.
وهذا ما ردّ الله به على الاقتراح الأوّل للمشركين بإنزال كتاب، فلو أنزله وعاينوه ومسّوه باليد كما اقترحوا، لإزالة الرّيب والإشكال عنهم، لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم. وهذه الآية جواب لقولهم: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الإسراء ١٧/ ٩٣] فأعلم الله بما سبق في علمه من أنه لو نزل لكذّبوا به.
ثمّ ردّ الله على اقتراحهم الثاني بإنزال ملك: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ قال ابن عباس: لو رأوا الملك على صورته لماتوا إذ لا يطيقون رؤيته.
وقال الحسن البصري وقتادة: لأهلكوا بعذاب الاستئصال لأن الله أجرى سنّته بأن من طلب آية فأظهرت له فلم يؤمن، أهلكه الله في الحال.
وتكملة الرّدّ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أي لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلّا بعد التّجسيم بالأجسام الكثيفة لأن كلّ جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه فلو جعل الله تعالى الرّسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته، ولما أنسوا به، ولخافوا منه ومن مكالمته، فلا تتحقق المصلحة ولو تمثّل بصورة بشر لقالوا: لست ملكا، وإنما أنت بشر، فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم، وكانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر، فأتوا إبراهيم ولوطا في صورة الآدميين، وأتى جبريل النّبي صلّى الله عليه وسلّم في صورة دحية الكلبي.
أي إن هدفهم لا يتحقق فلو نزل بصورته الحقيقية لما أطاقوا رؤيته، ولو نزل بصورة رجل، التبس الأمر عليهم وقالوا: هذا ساحر مثلك.
145
عاقبة المستهزئين والمكذّبين
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)
الأعراب:
فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ما كانُوا: في موضع رفع لأنه فاعل فَحاقَ وتقديره: حاق بهم عقاب ما كانوا به يستهزئون. وما: مصدرية، أي عقاب استهزائهم.
ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ عاقِبَةُ: اسم كان المرفوع. وكَيْفَ:
خبر كان المنصوب. وإنما قال: كان، ولم يقل كانت لوجهين:
أحدهما- لأن عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ في معنى: مصيرهم، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.
والثاني- لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي، فجاز تذكير فعلها، كقولهم: حسن دارك، واضطرم نارك.
البلاغة:
اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ تنكير بِرُسُلٍ للتكثير والتّفخيم.
المفردات اللغوية:
اسْتُهْزِئَ الاستهزاء: السّخرية، والاستهزاء بشخص: احتقاره والتّهكّم عليه، ويتبعه الضّحك غالبا. فَحاقَ نزل وأحاط بهم فلم يكن لهم منه مفرّ. والمراد أحاط العذاب بالساخرين، فكذا بمن استهزأ بك. عاقِبَةُ مصير أو آخر الأمر، مثل قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر ٣٥/ ٤٣] والحيق: ما ألم بالإنسان من مكر أو سوء يعمله.
المناسبة:
كانت اقتراحات بعض كفار مكّة كإنزال ملك من الملائكة مع الرّسول صلّى الله عليه وسلّم
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)
الأعراب:
فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ما كانُوا: في موضع رفع لأنه فاعل فَحاقَ وتقديره: حاق بهم عقاب ما كانوا به يستهزئون. وما: مصدرية، أي عقاب استهزائهم.
ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ عاقِبَةُ: اسم كان المرفوع. وكَيْفَ:
خبر كان المنصوب. وإنما قال: كان، ولم يقل كانت لوجهين:
أحدهما- لأن عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ في معنى: مصيرهم، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.
والثاني- لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي، فجاز تذكير فعلها، كقولهم: حسن دارك، واضطرم نارك.
البلاغة:
اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ تنكير بِرُسُلٍ للتكثير والتّفخيم.
المفردات اللغوية:
اسْتُهْزِئَ الاستهزاء: السّخرية، والاستهزاء بشخص: احتقاره والتّهكّم عليه، ويتبعه الضّحك غالبا. فَحاقَ نزل وأحاط بهم فلم يكن لهم منه مفرّ. والمراد أحاط العذاب بالساخرين، فكذا بمن استهزأ بك. عاقِبَةُ مصير أو آخر الأمر، مثل قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر ٣٥/ ٤٣] والحيق: ما ألم بالإنسان من مكر أو سوء يعمله.
المناسبة:
كانت اقتراحات بعض كفار مكّة كإنزال ملك من الملائكة مع الرّسول صلّى الله عليه وسلّم
146
أو إنزال ملك بالرّسالة، صادرة على سبيل الاستهزاء، وكان يضيق قلب الرّسول بسماع ذلك، فأنزل الله هاتين الآيتين للتّخفيف عما يلاقيه النّبي صلّى الله عليه وسلّم من سوء الأدب والهزء والسّخرية، وإنزال العذاب هو سنّة الله الثابتة في المكذّبين أنبياءهم.
فهذه تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم في تكذيب من كذّبه من قومه، ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدّنيا والآخرة.
التّفسير والبيان:
لقد استهزأ الأقوام الغابرون- وهذا تعبير بصيغة القسم من الله- بأنبيائهم الكرام، كما قال تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الحجر ١٥/ ١١] وذلك معاداة للإصلاح ودعوات الحقّ والتّوحيد والاستقامة، فليس كفار قريش منفردين بهذا الموقف، لكن كان جزاؤهم وجزاء أمثالهم من الساخرين إحاطة العذاب بهم.
وهذا إرشاد للنّبي صلّى الله عليه وسلّم ببيان سنّة الله في المكذّبين، وتسلية له حتى لا يضيق قلبه ذرعا، وتبشير له بالنّصر وحسن العاقبة، وقد أهلك الله خمسة من رؤساء قريش في يوم واحد، وهذا ما امتنّ الله به على نبيّه بقوله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر ١٥/ ٩٥].
وقل يا محمد للمشركين: فكّروا في أنفسكم، وانظروا ما أحلّ الله بالقرون الماضية الذين كذّبوا رسله وعاندوهم، من العذاب والنّكال والعقوبة في الدّنيا، مثل عاد وثمود وطسم وجديس وقوم فرعون وقوم لوط، انظروا واعتبروا، كيف كان عاقبة المكذّبين، مع ما ادّخر لهم من العذاب الأليم في الآخرة، وكيف نجّى الله رسله وعباده المؤمنين.
فهذه تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم في تكذيب من كذّبه من قومه، ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدّنيا والآخرة.
التّفسير والبيان:
لقد استهزأ الأقوام الغابرون- وهذا تعبير بصيغة القسم من الله- بأنبيائهم الكرام، كما قال تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الحجر ١٥/ ١١] وذلك معاداة للإصلاح ودعوات الحقّ والتّوحيد والاستقامة، فليس كفار قريش منفردين بهذا الموقف، لكن كان جزاؤهم وجزاء أمثالهم من الساخرين إحاطة العذاب بهم.
وهذا إرشاد للنّبي صلّى الله عليه وسلّم ببيان سنّة الله في المكذّبين، وتسلية له حتى لا يضيق قلبه ذرعا، وتبشير له بالنّصر وحسن العاقبة، وقد أهلك الله خمسة من رؤساء قريش في يوم واحد، وهذا ما امتنّ الله به على نبيّه بقوله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر ١٥/ ٩٥].
وقل يا محمد للمشركين: فكّروا في أنفسكم، وانظروا ما أحلّ الله بالقرون الماضية الذين كذّبوا رسله وعاندوهم، من العذاب والنّكال والعقوبة في الدّنيا، مثل عاد وثمود وطسم وجديس وقوم فرعون وقوم لوط، انظروا واعتبروا، كيف كان عاقبة المكذّبين، مع ما ادّخر لهم من العذاب الأليم في الآخرة، وكيف نجّى الله رسله وعباده المؤمنين.
147
ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ
ﰋ
ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ
ﰌ
ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ
ﰍ
ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ
ﰎ
ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ
ﰏ
فقه الحياة أو الأحكام:
الاستهزاء بالرّسل عادة قديمة معروفة، وكذلك نزول العذاب والهلاك بأولئك الأقوام المستهزئين بأنبيائهم أمر ثابت، وحق مقرر، وجزاء عادل.
والتاريخ أصدق شاهد، فلينظر كل ساخر ليعرف ما حلّ بالكفرة قبله من العقاب وأليم العذاب. والمكذّبون هنا: من كذّب الحقّ وأهله، لا من كذّب بالباطل.
ويؤخذ من الآية أن السّفر مندوب إليه إذا كان على سبيل العظة والاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الدّيار.
أدلة أخرى لإثبات الوحدانية والبعث
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢ الى ١٦]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
الاستهزاء بالرّسل عادة قديمة معروفة، وكذلك نزول العذاب والهلاك بأولئك الأقوام المستهزئين بأنبيائهم أمر ثابت، وحق مقرر، وجزاء عادل.
والتاريخ أصدق شاهد، فلينظر كل ساخر ليعرف ما حلّ بالكفرة قبله من العقاب وأليم العذاب. والمكذّبون هنا: من كذّب الحقّ وأهله، لا من كذّب بالباطل.
ويؤخذ من الآية أن السّفر مندوب إليه إذا كان على سبيل العظة والاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الدّيار.
أدلة أخرى لإثبات الوحدانية والبعث
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢ الى ١٦]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
148
الإعراب:
لَيَجْمَعَنَّكُمْ اللام: لام جواب القسم، وهي جواب كَتَبَ لأنه بمعنى: أوجب، ففيه معنى القسم.
الَّذِينَ خَسِرُوا إما مبتدأ، وخبره: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ودخلت الفاء في خبر الَّذِينَ لأن كل اسم موصول بجملة فعلية إذا وقع مبتدأ، فإنه يجوز دخول الفاء في خبره، كقولك: الذي يأتيني فله درهم. وإما منصوب على البدل من الكاف والميم في لَيَجْمَعَنَّكُمْ وهو بدل الاشتمال، وإليه ذهب الأخفش، والوجه الأول أوجه.
وقال الزمخشري: إنه منصوب على الذم، أو مرفوع، أي أريد الذين خسروا أنفسهم أو أنتم الذين خسروا أنفسهم.
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ يُصْرَفْ مبني للمجهول، ونائب الفاعل مقدر تقديره: من يصرف عنه العذاب يومئذ. وقرئ مبنيا للمعلوم، وفاعله: الله تعالى، وحذف المفعول وتقديره:
من يصرف الله عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه. والوجه الأول أوجه: لأنه أقل إضمارا، وكلما كان الإضمار أقل، كان أولى.
البلاغة:
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ من صيغ المبالغة.
المفردات اللغوية:
كَتَبَ فرض وأوجب إيجاب تفضل وكرم لَيَجْمَعَنَّكُمْ ليحشرنكم، والمقصود من الكلام: ليجازينكم بأعمالكم لا رَيْبَ فِيهِ لا شك. خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي تركوا ما يقتضيه العقل والعلم والمصلحة الحقيقية، وعرّضوا أنفسهم للعذاب. ما سَكَنَ ثبت. من السكون: ضد الحركة، وفيه اكتفاء بما ذكر عما يقابله، أي له ما سكن وما تحرك، مثل قوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل ١٦/ ٨١] أي والبرد. والمقصود: له تعالى كل شيء، فهو ربه وخالقه ومالكه.
وَلِيًّا ناصرا.
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي منشئهما ومبدعهما على غير مثال سابق. يُطْعِمُ يرزق.
وَلا يُطْعَمُ لا يرزق أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد. إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بعبادة غيره.
عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ أي من يبعد عنه العذاب.
رَحِمَهُ أي نجّاه من العذاب والأهوال، وأراد له الخير. الْفَوْزُ الْمُبِينُ النجاة الظاهرة.
لَيَجْمَعَنَّكُمْ اللام: لام جواب القسم، وهي جواب كَتَبَ لأنه بمعنى: أوجب، ففيه معنى القسم.
الَّذِينَ خَسِرُوا إما مبتدأ، وخبره: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ودخلت الفاء في خبر الَّذِينَ لأن كل اسم موصول بجملة فعلية إذا وقع مبتدأ، فإنه يجوز دخول الفاء في خبره، كقولك: الذي يأتيني فله درهم. وإما منصوب على البدل من الكاف والميم في لَيَجْمَعَنَّكُمْ وهو بدل الاشتمال، وإليه ذهب الأخفش، والوجه الأول أوجه.
وقال الزمخشري: إنه منصوب على الذم، أو مرفوع، أي أريد الذين خسروا أنفسهم أو أنتم الذين خسروا أنفسهم.
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ يُصْرَفْ مبني للمجهول، ونائب الفاعل مقدر تقديره: من يصرف عنه العذاب يومئذ. وقرئ مبنيا للمعلوم، وفاعله: الله تعالى، وحذف المفعول وتقديره:
من يصرف الله عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه. والوجه الأول أوجه: لأنه أقل إضمارا، وكلما كان الإضمار أقل، كان أولى.
البلاغة:
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ من صيغ المبالغة.
المفردات اللغوية:
كَتَبَ فرض وأوجب إيجاب تفضل وكرم لَيَجْمَعَنَّكُمْ ليحشرنكم، والمقصود من الكلام: ليجازينكم بأعمالكم لا رَيْبَ فِيهِ لا شك. خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي تركوا ما يقتضيه العقل والعلم والمصلحة الحقيقية، وعرّضوا أنفسهم للعذاب. ما سَكَنَ ثبت. من السكون: ضد الحركة، وفيه اكتفاء بما ذكر عما يقابله، أي له ما سكن وما تحرك، مثل قوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل ١٦/ ٨١] أي والبرد. والمقصود: له تعالى كل شيء، فهو ربه وخالقه ومالكه.
وَلِيًّا ناصرا.
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي منشئهما ومبدعهما على غير مثال سابق. يُطْعِمُ يرزق.
وَلا يُطْعَمُ لا يرزق أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد. إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بعبادة غيره.
عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ أي من يبعد عنه العذاب.
رَحِمَهُ أي نجّاه من العذاب والأهوال، وأراد له الخير. الْفَوْزُ الْمُبِينُ النجاة الظاهرة.
149
المناسبة:
هذه الآيات تأكيد لما سبق في إثبات أصول الدين الثلاثة: إثبات وجود الصانع وتوحيده، وتقرير البعث والمعاد والجزاء، وتقرير النبوة ورسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وذلك بإقامة الأدلة عليها بطريق السؤال والجواب، وهذا نمط آخر في الإثبات، لترسيخ العقيدة في القلب، واجتذاب الأنظار واستمالة السامع حتى لا يمل.
وإذا ثبت كون الله هو الخالق والمبدع والمنشئ للسموات والأرض وما فيهما من كل متحرك وساكن، ثبت كونه قادرا على الإعادة والحشر والنشر، وثبت أنه تعالى الملك المطاع، والملك المطاع: من له الأمر والنهي على عبيده، ولا بد حينئذ من مبلّغ، والمبلّغ هو النبي، فكانت بعثة الأنبياء والرسل من الله تعالى إلى الخلق أمرا لازما، وبذلك كانت الآية وافية بإثبات هذه الأصول الثلاثة.
التفسير والبيان:
قل يا محمد للمشركين من قومك: لمن هذه السموات والأرض، ولمن هذا الكون والوجود وما فيه؟ والمقصود من السؤال التبكيت والتوبيخ، لأنهم كانوا يعتقدون بأن الله هو الخالق، كما حكى تعالى عنهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان ٣١/ ٢٥].
قُلْ: لِلَّهِ هذا هو الجواب إما بالنيابة عنهم، لأنهم مقرّون بذلك، وإما بطريق الإلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه.
ومن صفات هذا الخالق التي ترغب في طاعته: صفة الرحمة، فإنه تعالى أوجب على ذاته الرحمة بخلقه. ومن مقتضيات الرحمة: الحشر يوم القيامة بلا شك للثواب والعقاب لأنه متى عرف الإنسان ما قد ينتظره أقبل على الخير وكفّ عن الشر، فكان إيجاد هذا الوازع النفسي طريقا لتهذيب النفوس والرحمة
هذه الآيات تأكيد لما سبق في إثبات أصول الدين الثلاثة: إثبات وجود الصانع وتوحيده، وتقرير البعث والمعاد والجزاء، وتقرير النبوة ورسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وذلك بإقامة الأدلة عليها بطريق السؤال والجواب، وهذا نمط آخر في الإثبات، لترسيخ العقيدة في القلب، واجتذاب الأنظار واستمالة السامع حتى لا يمل.
وإذا ثبت كون الله هو الخالق والمبدع والمنشئ للسموات والأرض وما فيهما من كل متحرك وساكن، ثبت كونه قادرا على الإعادة والحشر والنشر، وثبت أنه تعالى الملك المطاع، والملك المطاع: من له الأمر والنهي على عبيده، ولا بد حينئذ من مبلّغ، والمبلّغ هو النبي، فكانت بعثة الأنبياء والرسل من الله تعالى إلى الخلق أمرا لازما، وبذلك كانت الآية وافية بإثبات هذه الأصول الثلاثة.
التفسير والبيان:
قل يا محمد للمشركين من قومك: لمن هذه السموات والأرض، ولمن هذا الكون والوجود وما فيه؟ والمقصود من السؤال التبكيت والتوبيخ، لأنهم كانوا يعتقدون بأن الله هو الخالق، كما حكى تعالى عنهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان ٣١/ ٢٥].
قُلْ: لِلَّهِ هذا هو الجواب إما بالنيابة عنهم، لأنهم مقرّون بذلك، وإما بطريق الإلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه.
ومن صفات هذا الخالق التي ترغب في طاعته: صفة الرحمة، فإنه تعالى أوجب على ذاته الرحمة بخلقه. ومن مقتضيات الرحمة: الحشر يوم القيامة بلا شك للثواب والعقاب لأنه متى عرف الإنسان ما قد ينتظره أقبل على الخير وكفّ عن الشر، فكان إيجاد هذا الوازع النفسي طريقا لتهذيب النفوس والرحمة
150
بالعباد، ولولا خوف العذاب يوم القيامة، لامتلأت الدنيا فسادا وفوضى وإجراما، ولضجّ العالم، واختل نظام المجتمع، فصار التهديد بهذا اليوم من مظاهر الرحمة.
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لما خلق الخلق، كتب كتابا عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي»
أي لما أظهر قضاءه، وأبرزه لمن شاء، أظهر كتابا في اللوح المحفوظ أو فيما شاءه، مقتضاه خبر حق ووعد صدق أن رحمته تسبق غضبه وتزيد عليه.
وأخص الذين خسروا أنفسهم بإفسادها وتعطيلها استخدام العقل والعلم وعدم اهتدائها بالتذكير، كما أخصهم بالذم والتوبيخ من بين المجموعين إلى يوم القيامة وسبب الخسارة: أنهم لا يؤمنون، أي لا يصدقون بالبعث والمعاد، ولا يخافون شر ذلك اليوم. هذا هو الواقع، لكن قوله تعالى جعل عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم أنفسهم، والأمر على العكس.
والجواب كما ذكر الزمخشري: معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله لاختيارهم الكفر، فهم لا يؤمنون.
وليس ملك السموات والأرض مجرد ملك فراغ، وإنما هو ملك شامل لكل شيء فيهما من ساكن ومتحرك، الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه وتدبيره، لا إله إلا هو. وخص بالذكر ما سكن بالليل والنهار وإن كان داخلا في عموم ما في السموات والأرض، للدلالة على تصرفه تعالى بهذه الخفايا.
ثم إن كان ما في السموات والأرض خاضع لرقابة الله وتصرفه، فهو السميع المحيط سمعه بكل دقيق وكبير، يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء، وهو أيضا العليم المحيط علمه بكل ما دقّ وعظم، والشامل سمعه كل مسموع كأقوال عباده وأصواتهم. والذي وسع علمه كل معلوم كحركات
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لما خلق الخلق، كتب كتابا عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي»
أي لما أظهر قضاءه، وأبرزه لمن شاء، أظهر كتابا في اللوح المحفوظ أو فيما شاءه، مقتضاه خبر حق ووعد صدق أن رحمته تسبق غضبه وتزيد عليه.
وأخص الذين خسروا أنفسهم بإفسادها وتعطيلها استخدام العقل والعلم وعدم اهتدائها بالتذكير، كما أخصهم بالذم والتوبيخ من بين المجموعين إلى يوم القيامة وسبب الخسارة: أنهم لا يؤمنون، أي لا يصدقون بالبعث والمعاد، ولا يخافون شر ذلك اليوم. هذا هو الواقع، لكن قوله تعالى جعل عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم أنفسهم، والأمر على العكس.
والجواب كما ذكر الزمخشري: معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله لاختيارهم الكفر، فهم لا يؤمنون.
وليس ملك السموات والأرض مجرد ملك فراغ، وإنما هو ملك شامل لكل شيء فيهما من ساكن ومتحرك، الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه وتدبيره، لا إله إلا هو. وخص بالذكر ما سكن بالليل والنهار وإن كان داخلا في عموم ما في السموات والأرض، للدلالة على تصرفه تعالى بهذه الخفايا.
ثم إن كان ما في السموات والأرض خاضع لرقابة الله وتصرفه، فهو السميع المحيط سمعه بكل دقيق وكبير، يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء، وهو أيضا العليم المحيط علمه بكل ما دقّ وعظم، والشامل سمعه كل مسموع كأقوال عباده وأصواتهم. والذي وسع علمه كل معلوم كحركات
151
المخلوقات وأسرارهم، وكا ذلك مؤد إلى الرقابة الإلهية والتصرف التام بكل شيء.
ثم أمر الله نبيه المبلّغ شرعه أمرا بما لزم عما سبق وبما هو نتيجة له، فقال له: قل يا محمد: لا أتخذ وليا ناصرا ينفعني أو يدفع ضررا عني إلا الله وحده لا شريك له، فإنه فاطر السموات والأرض، أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق، وهذا مثل قوله تعالى: قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر ٣٩/ ٦٤].
وأما خلق السموات والأرض فكانتا أولا كتلة دخانية واحدة، ثم فصلتا، وهذا فيه أيضا فطر وشق، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء ٢١/ ٣٠].
وإن الله أيضا هو الذي يطعم ولا يطعم أي وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم، لأنه تعالى منزّه عن الحاجة إلى كل ما سواه، كما قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات ٥١/ ٥٦- ٥٨].
وفي هذه دلالة واضحة ترشد البشر إلى أنه يجب عليهم التماس الرزق من الله تعالى وحده، مع اتخاذ الأسباب الموصلة إليه من السعي والعمل والتدبير والبحث والتنقيب، لا من أي مخلوق سواه، سواء أكان بشرا أم صنما ووثنا، وسواء أكان البشر حاكما أم غير حاكم، فأرزاق العباد بيد الله تعالى وحده.
وإذ قامت لك يا محمد ولغيرك الأدلة على من يستحق الألوهية والعبادة واتخاذه وليا، فقل لهم: إني أمرت من ربي المتصف بهذه الصفات أن أكون أول من أسلم وخضع وذلّ وانقاد لله من هذه الأمة، ونهيت عن الشرك بالله أيا كان نوع الشرك، ومنه شرك الجاهلية القائم على اتخاذ الأصنام واسطة ووسيلة تقرب إلى الله زلفى.
ثم أمر الله نبيه المبلّغ شرعه أمرا بما لزم عما سبق وبما هو نتيجة له، فقال له: قل يا محمد: لا أتخذ وليا ناصرا ينفعني أو يدفع ضررا عني إلا الله وحده لا شريك له، فإنه فاطر السموات والأرض، أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق، وهذا مثل قوله تعالى: قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر ٣٩/ ٦٤].
وأما خلق السموات والأرض فكانتا أولا كتلة دخانية واحدة، ثم فصلتا، وهذا فيه أيضا فطر وشق، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء ٢١/ ٣٠].
وإن الله أيضا هو الذي يطعم ولا يطعم أي وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم، لأنه تعالى منزّه عن الحاجة إلى كل ما سواه، كما قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات ٥١/ ٥٦- ٥٨].
وفي هذه دلالة واضحة ترشد البشر إلى أنه يجب عليهم التماس الرزق من الله تعالى وحده، مع اتخاذ الأسباب الموصلة إليه من السعي والعمل والتدبير والبحث والتنقيب، لا من أي مخلوق سواه، سواء أكان بشرا أم صنما ووثنا، وسواء أكان البشر حاكما أم غير حاكم، فأرزاق العباد بيد الله تعالى وحده.
وإذ قامت لك يا محمد ولغيرك الأدلة على من يستحق الألوهية والعبادة واتخاذه وليا، فقل لهم: إني أمرت من ربي المتصف بهذه الصفات أن أكون أول من أسلم وخضع وذلّ وانقاد لله من هذه الأمة، ونهيت عن الشرك بالله أيا كان نوع الشرك، ومنه شرك الجاهلية القائم على اتخاذ الأصنام واسطة ووسيلة تقرب إلى الله زلفى.
152
ثم أمر الله نبيه ببيان جزاء من خالف الأمر والنهي السابقين فقال له:
قُلْ: إِنِّي أَخافُ.. أي قل لهم: إني أخشى إن عصيت الله ربي أن يصيبني عذاب يوم عظيم الهول والخطر وهو يوم القيامة الذي يحاسب الله فيه الخلائق حسابا شديدا على أعمالهم، ويجازيهم على ما يستحقون. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، والأمر يومئذ لله. وإذا كان هذا الإنذار موجها لنبي الله، فما بال الناس الآخرين؟! من يدفع عنه ذلك العذاب يومئذ، فقد رحمه الله ونجا، وذلك هو الفوز الساحق الظاهر الذي لا فوز أعظم منه، كما قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران ٣/ ١٨٥]. والفوز: حصول الربح ونفي الخسارة.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات تثبت أصول الاعتقاد: وهي التوحيد، والبعث والجزاء، والنبوة، وهي أدلة للاحتجاج على المشركين المنكرين، وأولها انتزاع الاعتراف بالخالق، وهم يعترفون بذلك وأن خالق السموات والأرض هو الله. وإذا لم يعترفوا فالحجة قائمة عليهم.
وإذا ثبت أن لله ما في السموات والأرض، وأنه خالق الكل إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم، فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب، ويبعثهم بعد الموت.
ولكنه تعالى كتب على نفسه الرحمة، أي وعد بها فضلا منه وكرما، فلذلك أمهل الناس حتى يعودوا لرشدهم، وهذا استعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه، وإخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة.
قُلْ: إِنِّي أَخافُ.. أي قل لهم: إني أخشى إن عصيت الله ربي أن يصيبني عذاب يوم عظيم الهول والخطر وهو يوم القيامة الذي يحاسب الله فيه الخلائق حسابا شديدا على أعمالهم، ويجازيهم على ما يستحقون. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، والأمر يومئذ لله. وإذا كان هذا الإنذار موجها لنبي الله، فما بال الناس الآخرين؟! من يدفع عنه ذلك العذاب يومئذ، فقد رحمه الله ونجا، وذلك هو الفوز الساحق الظاهر الذي لا فوز أعظم منه، كما قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران ٣/ ١٨٥]. والفوز: حصول الربح ونفي الخسارة.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات تثبت أصول الاعتقاد: وهي التوحيد، والبعث والجزاء، والنبوة، وهي أدلة للاحتجاج على المشركين المنكرين، وأولها انتزاع الاعتراف بالخالق، وهم يعترفون بذلك وأن خالق السموات والأرض هو الله. وإذا لم يعترفوا فالحجة قائمة عليهم.
وإذا ثبت أن لله ما في السموات والأرض، وأنه خالق الكل إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم، فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب، ويبعثهم بعد الموت.
ولكنه تعالى كتب على نفسه الرحمة، أي وعد بها فضلا منه وكرما، فلذلك أمهل الناس حتى يعودوا لرشدهم، وهذا استعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه، وإخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة.
153
ومن رحمته الإمهال إلى يوم القيامة، والاعلام بالجمع يوم القيامة، لإثابة الطائعين وتعذيب العاصين، وهذا الإنذار المسبق رحمة أيضا من الله بعباده لأنهم إذا علموا بأنه لا إفلات من الحساب، فكروا في أنفسهم، وأصلحوا أعمالهم، وصححوا إيمانهم.
ثم ذم الله تعالى الخاسرين أنفسهم بإهمالهم ما يقتضيه العقل والعلم من الإيمان الصحيح والاستقامة على دين الله وشرعه، وهؤلاء الخاسرون على الإطلاق لاختيارهم الكفر هم غير المؤمنين.
ومن الاحتجاج على المشركين: أن لله ما سكن وما تحرك في الكون. قال ابن عباس: نزلت الآية: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لأن كفار مكة أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: علمنا أنه ما يحملك على ما تفعل إلا الحاجة، فنحن نجمع لك من أموالنا حتى تصير أغنانا، وترجع عما أنت عليه، فنزلت الآية «١» أي قال الله تعالى: أخبرهم أن جميع الأشياء لله، فهو قادر على أن يغنيني.
وإذ قامت الأدلة على الإله الحق فكل إنسان مأمور بعبادته واتخاذه وليا ناصرا له في تحقيق النفع ودفع الضرر، وإسلام الوجه له والانقياد لأوامره، فهو الرزاق المطعم، يرزق ولا يرزق، وكذلك كل إنسان منهي عن الشرك واتخاذ الأنداد والوسطاء.
وعلى كل إنسان أن يخاف من عذاب الله يوم القيامة، فإنه عذاب شديد، ومن ينجو منه فقد شملته الرحمة والعناية الإلهية، وذلك أعظم فوز ونجاح للإنسان. اللهم اجعلني وذريتي وأبي وأمي وأهلي ومشايخي من الفائزين.
ثم ذم الله تعالى الخاسرين أنفسهم بإهمالهم ما يقتضيه العقل والعلم من الإيمان الصحيح والاستقامة على دين الله وشرعه، وهؤلاء الخاسرون على الإطلاق لاختيارهم الكفر هم غير المؤمنين.
ومن الاحتجاج على المشركين: أن لله ما سكن وما تحرك في الكون. قال ابن عباس: نزلت الآية: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لأن كفار مكة أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: علمنا أنه ما يحملك على ما تفعل إلا الحاجة، فنحن نجمع لك من أموالنا حتى تصير أغنانا، وترجع عما أنت عليه، فنزلت الآية «١» أي قال الله تعالى: أخبرهم أن جميع الأشياء لله، فهو قادر على أن يغنيني.
وإذ قامت الأدلة على الإله الحق فكل إنسان مأمور بعبادته واتخاذه وليا ناصرا له في تحقيق النفع ودفع الضرر، وإسلام الوجه له والانقياد لأوامره، فهو الرزاق المطعم، يرزق ولا يرزق، وكذلك كل إنسان منهي عن الشرك واتخاذ الأنداد والوسطاء.
وعلى كل إنسان أن يخاف من عذاب الله يوم القيامة، فإنه عذاب شديد، ومن ينجو منه فقد شملته الرحمة والعناية الإلهية، وذلك أعظم فوز ونجاح للإنسان. اللهم اجعلني وذريتي وأبي وأمي وأهلي ومشايخي من الفائزين.
(١) أسباب النزول للواحدي ١٢٢
154
قدرة الله على كشف الضر وشهادة الله للنّبي صلّى الله عليه وسلّم بالصدق ومجادلة المشركين في تعدد الآلهة
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)
الإعراب:
أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً أي: استفهام في محل رفع مبتدأ، وأَكْبَرُ خبره، وشَهادَةً تمييز منصوب، وفَوْقَ منصوب على الظرف، لا في الكاف، بل في المعنى الذي تضمنه لفظ: الْقاهِرُ كما تقول: زيد فوق عمرو في المنزلة، واللَّهُ شَهِيدٌ مبتدأ وخبر.
وَمَنْ بَلَغَ: في موضع نصب لأنه معطوف على الكاف والميم في لِأُنْذِرَكُمْ أي ولأنذر من بلغه القرآن، فحذف العائد، كقوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان ٢٥/ ٤١] أي: بعثه الله.
وقال تعالى: آلِهَةً أُخْرى ولم يقل: أخر لأن الآلهة جمع، والجمع يقع عليه التأنيث، ومنه قوله: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف ٧/ ١٨٠] وقوله: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه ٢٠/ ٥١].
المفردات اللغوية:
وَإِنْ يَمْسَسْكَ يصيبك، والمس أعم من اللمس، فيقال مسّه السوء أي أصابه.
بِضُرٍّ الضر: كل ما يسوء الإنسان في نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله، كالمرض والفقر. والضر يعقب الألم والحزن عادة. بِخَيْرٍ الخير: كل ما فيه نفع حقيقي طاهر في الحاضر أو المستقبل، كالعقل والعلم، والعدل، والمساواة والحرية، والصحة والغنى. والشر ضده: وهو ما لا نفع فيه أصلا أو ما كان ضرره أكبر من نفعه.
الْقاهِرُ القادر الغالب الذي لا يعجزه شيء مع الاستعلاء. الْحَكِيمُ في خلقه.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)
الإعراب:
أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً أي: استفهام في محل رفع مبتدأ، وأَكْبَرُ خبره، وشَهادَةً تمييز منصوب، وفَوْقَ منصوب على الظرف، لا في الكاف، بل في المعنى الذي تضمنه لفظ: الْقاهِرُ كما تقول: زيد فوق عمرو في المنزلة، واللَّهُ شَهِيدٌ مبتدأ وخبر.
وَمَنْ بَلَغَ: في موضع نصب لأنه معطوف على الكاف والميم في لِأُنْذِرَكُمْ أي ولأنذر من بلغه القرآن، فحذف العائد، كقوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان ٢٥/ ٤١] أي: بعثه الله.
وقال تعالى: آلِهَةً أُخْرى ولم يقل: أخر لأن الآلهة جمع، والجمع يقع عليه التأنيث، ومنه قوله: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف ٧/ ١٨٠] وقوله: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه ٢٠/ ٥١].
المفردات اللغوية:
وَإِنْ يَمْسَسْكَ يصيبك، والمس أعم من اللمس، فيقال مسّه السوء أي أصابه.
بِضُرٍّ الضر: كل ما يسوء الإنسان في نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله، كالمرض والفقر. والضر يعقب الألم والحزن عادة. بِخَيْرٍ الخير: كل ما فيه نفع حقيقي طاهر في الحاضر أو المستقبل، كالعقل والعلم، والعدل، والمساواة والحرية، والصحة والغنى. والشر ضده: وهو ما لا نفع فيه أصلا أو ما كان ضرره أكبر من نفعه.
الْقاهِرُ القادر الغالب الذي لا يعجزه شيء مع الاستعلاء. الْحَكِيمُ في خلقه.
155
سبب النزول: نزول مطلع الآية (١٩) :
قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً: أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس قال: جاء النحام بن زيد، وقروم بن كعب، وبحري بن عمر، فقالوا:
يا محمد، ما نعلم مع الله إلها غيره، فقال: لا إله إلا الله، بذلك بعثت، وإلى ذلك أدعو، فأنزل الله في قولهم: قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ الآية.
وقال الكلبي: إن رؤساء مكة قالوا: يا محمد، ما نرى أحدا يصدقك بما تقول من أمر الرسالة، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا من يشهد لك أنك رسول، كما تزعم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الحسن البصري وغيره: إن المشركين قالوا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزلت الآية.
المناسبة:
بيّن الله تعالى في الآيات السابقة أن من مقتضى رحمته إمهال الناس للحساب يوم القيامة، وصرف العذاب والفوز بنعيم الآخرة، ثم أردف ذلك ببيان مقتضى الرحمة في الدنيا من جلب الخير والنفع، ودفع الشر والضرر، وأنه لا يملك أحد التصرف في الدنيا سوى الله وحده.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه مالك الضر والنفع، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه.
قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً: أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس قال: جاء النحام بن زيد، وقروم بن كعب، وبحري بن عمر، فقالوا:
يا محمد، ما نعلم مع الله إلها غيره، فقال: لا إله إلا الله، بذلك بعثت، وإلى ذلك أدعو، فأنزل الله في قولهم: قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ الآية.
وقال الكلبي: إن رؤساء مكة قالوا: يا محمد، ما نرى أحدا يصدقك بما تقول من أمر الرسالة، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا من يشهد لك أنك رسول، كما تزعم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الحسن البصري وغيره: إن المشركين قالوا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزلت الآية.
المناسبة:
بيّن الله تعالى في الآيات السابقة أن من مقتضى رحمته إمهال الناس للحساب يوم القيامة، وصرف العذاب والفوز بنعيم الآخرة، ثم أردف ذلك ببيان مقتضى الرحمة في الدنيا من جلب الخير والنفع، ودفع الشر والضرر، وأنه لا يملك أحد التصرف في الدنيا سوى الله وحده.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه مالك الضر والنفع، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه.
156
فيقول بما معناه: وإن يصبك أيها الإنسان ضرر أو شدة من ألم أو فقر أو مرض أو حزن أو ذل ونحوه، فلا صارف له عنك ولا مزيل له إلا الله تعالى لأنه القادر على كل شيء، وكذلك إن يحصل كل خير من صحة أو غنى أو عز ونحوه، فهو أيضا من الله، لكمال قدرته على كل شيء، ولأنّه القاهر الغالب صاحب العزة والسلطان والكبرياء، وهو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، ودانت له الخلائق، وقهر كل شيء، وهو الحكيم في جميع أفعاله، الخبير بمواضع الأشياء، فلا يعطي إلا من يستحق، ولا يمنع إلا من يستحق. ونظير هذه الآية قوله تعالى: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر ٣٥/ ٢].
وفي الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد»
أي الغني.
ثم أيّد الله نبيه بشهادة هي أعظم الشهادات وأجلها، وأصحها وأصدقها:
وهي شهادة الله بين نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين، شهادة تدل على صدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم وتكشف حال أعدائه، فهو تعالى العالم بما جاء به هذا الرسول وما هم قائلون له. وتقدير الكلام: أي شهيد أكبر شهادة؟ فوضع (شيئا) مقام (شهيد) ليبالغ في التعميم. والجواب: الله أكبر شهادة، وهو شهيد بيني وبينكم، أو الله شهيد بيني وبينكم، وإذا كان هو الشهيد بينه وبينهم، فأكبر شيء شهادة شهيد له.
والآية تتضمن ردا قاطعا على المشركين الذين كانوا يقولون للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: من يشهد لك بأنك رسول الله؟
ثم أوضع الله مهمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهي تلقي الوحي وتبليغه للناس جميعا، فقال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ.. أي أنزل الله على هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة من عذاب الله إذا كفرتم أو عصيتم، وأبشركم بالجنة إذا آمنتم وأطعتم، وكذا لأنذر
وفي الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد»
أي الغني.
ثم أيّد الله نبيه بشهادة هي أعظم الشهادات وأجلها، وأصحها وأصدقها:
وهي شهادة الله بين نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين، شهادة تدل على صدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم وتكشف حال أعدائه، فهو تعالى العالم بما جاء به هذا الرسول وما هم قائلون له. وتقدير الكلام: أي شهيد أكبر شهادة؟ فوضع (شيئا) مقام (شهيد) ليبالغ في التعميم. والجواب: الله أكبر شهادة، وهو شهيد بيني وبينكم، أو الله شهيد بيني وبينكم، وإذا كان هو الشهيد بينه وبينهم، فأكبر شيء شهادة شهيد له.
والآية تتضمن ردا قاطعا على المشركين الذين كانوا يقولون للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: من يشهد لك بأنك رسول الله؟
ثم أوضع الله مهمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهي تلقي الوحي وتبليغه للناس جميعا، فقال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ.. أي أنزل الله على هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة من عذاب الله إذا كفرتم أو عصيتم، وأبشركم بالجنة إذا آمنتم وأطعتم، وكذا لأنذر
157
وأبشر كل من بلغة القرآن من العرب والعجم، فهو نذير لكل من بلغه، كقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود ١١/ ١٧].
أخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس مرفوعا قال: من بلغه القرآن فكأنما شافهته به، ثم قرأ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ».
وروى ابن جرير عن محمد بن كعب قال: «من بلغة القرآن فقد أبلغه محمد صلّى الله عليه وسلّم».
وروى عبد الرزاق عن قتادة في قوله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله».
وروى ابن المنذر وابن جرير وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن محمد بن كعب القرظي قال: «من بلغه القرآن فكأنما رأى النّبي صلّى الله عليه وسلّم». وهذه الكلمة مروية أيضا عن سعيد بن جبير. ثم أعلن الله براءته من المشركين القائلين بتعدد الآلهة، مبينا أن الواجب إعلان الشهادة بالوحدانية لله عز وجل فقال: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ.. وهذا استفهام إنكاري واستبعاد وتوبيخ وتقريع، فإنكم أيها المشركون تقرون بوجود آلهة أخرى مع الله، وإني لا أشهد شهادتكم، كما قال تعالى: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الأنعام ٦/ ١٥٠].
وأصرح بأن الإله هو إله واحد، وهو الله عزّ وجلّ، وإني أتبرأ مما تشركون به من الأصنام والأوثان وغيرها.
فقه الحياة أو الأحكام:
كل من يملك شيئا فله حق التصرف المطلق فيه، وكل من أوجد شيئا فهو القادر على جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والله مالك السموات والأرض ومن فيهن
أخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس مرفوعا قال: من بلغه القرآن فكأنما شافهته به، ثم قرأ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ».
وروى ابن جرير عن محمد بن كعب قال: «من بلغة القرآن فقد أبلغه محمد صلّى الله عليه وسلّم».
وروى عبد الرزاق عن قتادة في قوله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله».
وروى ابن المنذر وابن جرير وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن محمد بن كعب القرظي قال: «من بلغه القرآن فكأنما رأى النّبي صلّى الله عليه وسلّم». وهذه الكلمة مروية أيضا عن سعيد بن جبير. ثم أعلن الله براءته من المشركين القائلين بتعدد الآلهة، مبينا أن الواجب إعلان الشهادة بالوحدانية لله عز وجل فقال: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ.. وهذا استفهام إنكاري واستبعاد وتوبيخ وتقريع، فإنكم أيها المشركون تقرون بوجود آلهة أخرى مع الله، وإني لا أشهد شهادتكم، كما قال تعالى: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الأنعام ٦/ ١٥٠].
وأصرح بأن الإله هو إله واحد، وهو الله عزّ وجلّ، وإني أتبرأ مما تشركون به من الأصنام والأوثان وغيرها.
فقه الحياة أو الأحكام:
كل من يملك شيئا فله حق التصرف المطلق فيه، وكل من أوجد شيئا فهو القادر على جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والله مالك السموات والأرض ومن فيهن
158
وهو الخالق لكل شيء، فهو وحده القادر على جلب النفع لخلقه ودفع الضرر عن مخلوقاته، وأنت يا محمد وكل إنسان في الوجود إن تنزل بك شدة من فقر أو مرض فلا رافع ولا صارف له إلا هو وإن يصبك بعافية ورخاء ونعمة، فهو الكامل القدرة على كل شيء من الخير والضر.
والله أيضا هو القاهر الغالب المهيمن على عباده، ولكنه قهر بحكمة في أمره، وخبرة تامة دقيقة بأعمال عباده.
والله أكبر وأعظم وأصدق شيء يشهد، فهو شاهد حق بانفراده بالربوبية، وقد أقام الأدلة والبراهين في النفس والكون على توحيده، فقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم، وأودع في الفطرة الإنسانية ما يرشد إلى الإيمان بإله واحد متصف بصفات الكمال، وشهد العدول والعقلاء بوحدانيته، كما قال تعالى:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وَالْمَلائِكَةُ، وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران ٣/ ١٨].
وشهد الله بصدق رسالة الرسول: بإخباره في قرآنه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح ٤٨/ ٢٩] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً [البقرة ٢/ ١١٩].
وشهد الله أيضا بتأييده بالمعجزات التي من أهمها القرآن الكريم معجزة الإسلام الكبرى الدائمة إلى يوم القيامة. وشهدت الكتب السابقة له، وبشرت الرسل المتقدمون به، وذلك ما يزال قائما في كتب اليهود والنصارى.
كل هذه الشهادات المؤيدات تدل على أن الله شهيد بين نبيه محمد وبين المشركين على أنه بلغهم الرسالة، وأدى الأمانة، وصدق القول، ونصح للأمة، وعلى أن الله شهيد في إثبات الوحدانية والبراءة عن الشركاء والأنداد.
والنّبي صلّى الله عليه وسلّم مأمور بتبليغ القرآن والسنة لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ
والله أيضا هو القاهر الغالب المهيمن على عباده، ولكنه قهر بحكمة في أمره، وخبرة تامة دقيقة بأعمال عباده.
والله أكبر وأعظم وأصدق شيء يشهد، فهو شاهد حق بانفراده بالربوبية، وقد أقام الأدلة والبراهين في النفس والكون على توحيده، فقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم، وأودع في الفطرة الإنسانية ما يرشد إلى الإيمان بإله واحد متصف بصفات الكمال، وشهد العدول والعقلاء بوحدانيته، كما قال تعالى:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وَالْمَلائِكَةُ، وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران ٣/ ١٨].
وشهد الله بصدق رسالة الرسول: بإخباره في قرآنه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح ٤٨/ ٢٩] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً [البقرة ٢/ ١١٩].
وشهد الله أيضا بتأييده بالمعجزات التي من أهمها القرآن الكريم معجزة الإسلام الكبرى الدائمة إلى يوم القيامة. وشهدت الكتب السابقة له، وبشرت الرسل المتقدمون به، وذلك ما يزال قائما في كتب اليهود والنصارى.
كل هذه الشهادات المؤيدات تدل على أن الله شهيد بين نبيه محمد وبين المشركين على أنه بلغهم الرسالة، وأدى الأمانة، وصدق القول، ونصح للأمة، وعلى أن الله شهيد في إثبات الوحدانية والبراءة عن الشركاء والأنداد.
والنّبي صلّى الله عليه وسلّم مأمور بتبليغ القرآن والسنة لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ
159
بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
[المائدة ٥/ ٦٧].
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «بلّغوا عني ولو آية» وقال مقاتل: «من بلغه القرآن من الجن والإنس، فهو نذير له».
ومما أوحي إلى النبي الذي ينذر به: أن القول بالتوحيد هو الحق الواجب، وأن القول بالشرك باطل مردود.
وقد اشتدت حملة القرآن على الشرك والمشركين، فوبخهم وقرعهم وأنكر عليهم في هذه الآية وغيرها اتخاذ آلهة أخرى مع الله، وإن فرض أنهم طالبوا النبي بالشهادة على شركهم، فإنه لا يشهد شهادتهم، أو لا يشهد معهم. وإذ ثبت إبطال الشرك، فالقول بالوحدانية هو الأمر المتعين، والقول بتوحيد الله والبراءة عن الشرك هو ما يقوله النبي والمؤمنون.
وقد دل الكلام: قُلْ: لا أَشْهَدُ.. الآية على إيجاب التوحيد والبراءة عن الشرك من ثلاثة أوجه:
أولها- قوله: قُلْ: لا أَشْهَدُ أي لا أشهد بما تذكرونه من إثبات الشركاء.
وثانيها- قوله: قُلْ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وكلمة إِنَّما تفيد الحصر، والواحد صريح في التوحيد ونفي الشركاء.
وثالثها- قوله: إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشركاء «١».
[المائدة ٥/ ٦٧].
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «بلّغوا عني ولو آية» وقال مقاتل: «من بلغه القرآن من الجن والإنس، فهو نذير له».
ومما أوحي إلى النبي الذي ينذر به: أن القول بالتوحيد هو الحق الواجب، وأن القول بالشرك باطل مردود.
وقد اشتدت حملة القرآن على الشرك والمشركين، فوبخهم وقرعهم وأنكر عليهم في هذه الآية وغيرها اتخاذ آلهة أخرى مع الله، وإن فرض أنهم طالبوا النبي بالشهادة على شركهم، فإنه لا يشهد شهادتهم، أو لا يشهد معهم. وإذ ثبت إبطال الشرك، فالقول بالوحدانية هو الأمر المتعين، والقول بتوحيد الله والبراءة عن الشرك هو ما يقوله النبي والمؤمنون.
وقد دل الكلام: قُلْ: لا أَشْهَدُ.. الآية على إيجاب التوحيد والبراءة عن الشرك من ثلاثة أوجه:
أولها- قوله: قُلْ: لا أَشْهَدُ أي لا أشهد بما تذكرونه من إثبات الشركاء.
وثانيها- قوله: قُلْ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وكلمة إِنَّما تفيد الحصر، والواحد صريح في التوحيد ونفي الشركاء.
وثالثها- قوله: إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشركاء «١».
(١) تفسير الرازي: ١٢/ ١٧٩.
160
معرفة أهل الكتاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم والافتراء على الله وتبرؤ المشركين من الشرك في الآخرة
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
الإعراب:
الَّذِينَ خَسِرُوا إما نعت لقوله: الَّذِينَ قبله. وفاء: فَهُمْ عاطفة جملة على جملة، وإما مبتدأ مرفوع على استئناف الكلام، وخبره: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والفاء جواب.
وَمَنْ أَظْلَمُ مَنْ مبتدأ مرفوع، وهي بمعنى الاستفهام المتضمن للتوبيخ والنفي والمعنى: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا. وأَظْلَمُ: خبر المبتدأ، إلا أنه يفتقر إلى تمام، وتمامه: مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لأن «من» المصاحبة لأفعل التفضيل من تمامه، وهي بمعنى ابتداء الغاية. إِنَّهُ ضمير الشأن.
لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ اسم تَكُنْ المرفوع، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ قالُوا خبر تَكُنْ المنصوب، كأنه قال: لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم. ومن قرأ بالياء «يكن» ونصب فِتْنَتُهُمْ، جعل اسم يكن أَنْ قالُوا كأنه قال: لم يكن فتنتهم إلا مقالتهم. وأما تذكير يكن فلوجهين: أحدهما- لأن تأنيث الفتنة غير حقيقيّ، والثاني: لأن القول هو الفتنة في المعنى، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.
وَاللَّهِ رَبِّنا رَبِّنا: وصف لقوله: وَاللَّهِ ومن قرأ بالنصب فعلى النداء المضاف، وتقديره: يا ربّنا. وما كُنَّا مُشْرِكِينَ جواب القسم، ورَبِّنا اعتراض وقع بين القسم وجوابه.
البلاغة:
كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ فيه ما يسمى بالتشبيه المرسل المجمل.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
الإعراب:
الَّذِينَ خَسِرُوا إما نعت لقوله: الَّذِينَ قبله. وفاء: فَهُمْ عاطفة جملة على جملة، وإما مبتدأ مرفوع على استئناف الكلام، وخبره: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والفاء جواب.
وَمَنْ أَظْلَمُ مَنْ مبتدأ مرفوع، وهي بمعنى الاستفهام المتضمن للتوبيخ والنفي والمعنى: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا. وأَظْلَمُ: خبر المبتدأ، إلا أنه يفتقر إلى تمام، وتمامه: مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لأن «من» المصاحبة لأفعل التفضيل من تمامه، وهي بمعنى ابتداء الغاية. إِنَّهُ ضمير الشأن.
لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ اسم تَكُنْ المرفوع، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ قالُوا خبر تَكُنْ المنصوب، كأنه قال: لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم. ومن قرأ بالياء «يكن» ونصب فِتْنَتُهُمْ، جعل اسم يكن أَنْ قالُوا كأنه قال: لم يكن فتنتهم إلا مقالتهم. وأما تذكير يكن فلوجهين: أحدهما- لأن تأنيث الفتنة غير حقيقيّ، والثاني: لأن القول هو الفتنة في المعنى، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.
وَاللَّهِ رَبِّنا رَبِّنا: وصف لقوله: وَاللَّهِ ومن قرأ بالنصب فعلى النداء المضاف، وتقديره: يا ربّنا. وما كُنَّا مُشْرِكِينَ جواب القسم، ورَبِّنا اعتراض وقع بين القسم وجوابه.
البلاغة:
كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ فيه ما يسمى بالتشبيه المرسل المجمل.
161
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ فيه إيجاز بالحذف، أي تزعمونهم شركاء.
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا تعجب من كذبهم الغريب.
المفردات اللغوية:
يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون محمدا بنعته في كتابهم. وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ القرآن. نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا توبيخا. كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركاء لله. فِتْنَتُهُمْ كفرهم، والمعنى المراد: ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم، وقاتلوا عليه، وافتخروا به. ويجوز أن يكون المراد: ثم لم يكن جوابهم ومعذرتهم إلا أن قالوا، فسمي فتنة لأنه كذب.
كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بنفي الشرك عنهم. وَضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عنهم. ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي يفترونه على الله من الشركاء، يفترون ألوهيتها وشفاعتها.
المناسبة:
كانت الآيات السابقة بسبب سؤال موجه من المشركين لليهود والنصارى عن صفة محمد عليه الصلاة والسلام، فأنكروا دلالة التوراة والإنجيل على نبوته، فبيّن الله تعالى فيما سبق أن شهادة الله على صحة نبوته كافية في ثبوتها وتحققها، ثم بيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم: إنا لا نعرف محمدا عليه الصلاة والسلام لأنهم يعرفونه بالنبوة والرسالة كما يعرفون أبناءهم لما روي أنه لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام: أنزل الله على نبيه هذه الآية، فكيف هذه المعرفة؟
فقال: يا عمر، لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشدّ معرفة بمحمد مني بابني لأني لا أدري ما صنع النساء، وأشهد أنه حق من الله تعالى «١».
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا تعجب من كذبهم الغريب.
المفردات اللغوية:
يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون محمدا بنعته في كتابهم. وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ القرآن. نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا توبيخا. كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركاء لله. فِتْنَتُهُمْ كفرهم، والمعنى المراد: ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم، وقاتلوا عليه، وافتخروا به. ويجوز أن يكون المراد: ثم لم يكن جوابهم ومعذرتهم إلا أن قالوا، فسمي فتنة لأنه كذب.
كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بنفي الشرك عنهم. وَضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عنهم. ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي يفترونه على الله من الشركاء، يفترون ألوهيتها وشفاعتها.
المناسبة:
كانت الآيات السابقة بسبب سؤال موجه من المشركين لليهود والنصارى عن صفة محمد عليه الصلاة والسلام، فأنكروا دلالة التوراة والإنجيل على نبوته، فبيّن الله تعالى فيما سبق أن شهادة الله على صحة نبوته كافية في ثبوتها وتحققها، ثم بيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم: إنا لا نعرف محمدا عليه الصلاة والسلام لأنهم يعرفونه بالنبوة والرسالة كما يعرفون أبناءهم لما روي أنه لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام: أنزل الله على نبيه هذه الآية، فكيف هذه المعرفة؟
فقال: يا عمر، لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشدّ معرفة بمحمد مني بابني لأني لا أدري ما صنع النساء، وأشهد أنه حق من الله تعالى «١».
(١) تفسير الرازي: ١٢/ ١٧٩
162
التفسير والبيان:
إن الذين آمنوا آتيناهم الكتاب في الماضي وهم اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم نبي وأنه خاتم الرسل، كما يعرفون أبناءهم، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن الرسل المتقدمين والأنبياء فإن صفته في كتبهم واضحة، وإن الرسل كلهم بشّروا بوجود محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته وصفته وبلده ومهاجره وصفته أمته.
وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوته.
لهذا كان السبب في إنكار نبوته: ما قاله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.. أي إن إنكارهم نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ناشئ من خسارتهم أنفسهم، مثل إنكار المشركين بعد قيام الأدلة القاطعة على نبوته، فكل من الفريقين أهمل ما يقتضيه العقل والعلم والتاريخ، وآثر المشركون وعلماء اليهود والنصارى الحفاظ على مراكزهم في قومهم وتعصبهم لما عندهم، على الإيمان بنبوة هذا الرسول النّبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فهم إن أسلموا فقدوا زعامتهم، وتساووا مع بقية المسلمين.
هؤلاء من المشركين وأهل الكتاب الجاحدين الذين خسروا أنفسهم، لتعلقهم بحظوظ دنيوية حقيرة، ولضعف إرادتهم، وإهمالهم أخبار الأنبياء السابقين، هم الذين لا يؤمنون بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهم الذين جمعوا بين أمرين متناقضين، فكذبوا على الله بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة والبرهان الصحيح حيث قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، ولا آباؤنا، وقالوا: والله أمرنا بها، وقالوا: والملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا، ولم يؤمنوا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وهذا يدلّ على أن إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم خسارة للنفس، ثم أبان تعالى أن
إن الذين آمنوا آتيناهم الكتاب في الماضي وهم اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم نبي وأنه خاتم الرسل، كما يعرفون أبناءهم، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن الرسل المتقدمين والأنبياء فإن صفته في كتبهم واضحة، وإن الرسل كلهم بشّروا بوجود محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته وصفته وبلده ومهاجره وصفته أمته.
وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوته.
لهذا كان السبب في إنكار نبوته: ما قاله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.. أي إن إنكارهم نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ناشئ من خسارتهم أنفسهم، مثل إنكار المشركين بعد قيام الأدلة القاطعة على نبوته، فكل من الفريقين أهمل ما يقتضيه العقل والعلم والتاريخ، وآثر المشركون وعلماء اليهود والنصارى الحفاظ على مراكزهم في قومهم وتعصبهم لما عندهم، على الإيمان بنبوة هذا الرسول النّبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فهم إن أسلموا فقدوا زعامتهم، وتساووا مع بقية المسلمين.
هؤلاء من المشركين وأهل الكتاب الجاحدين الذين خسروا أنفسهم، لتعلقهم بحظوظ دنيوية حقيرة، ولضعف إرادتهم، وإهمالهم أخبار الأنبياء السابقين، هم الذين لا يؤمنون بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهم الذين جمعوا بين أمرين متناقضين، فكذبوا على الله بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة والبرهان الصحيح حيث قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، ولا آباؤنا، وقالوا: والله أمرنا بها، وقالوا: والملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا، ولم يؤمنوا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وهذا يدلّ على أن إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم خسارة للنفس، ثم أبان تعالى أن
163
الافتراء على الله ظلم للنفس: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى.. أي لا أحد أظلم ممن تقوّل على الله، فادعى أن الله أرسله، ولم يكن أرسله، ثم لا أحد أظلم ممن كذّب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته، ولا أحد أظلم لنفسه ممن زعم أن لله ولدا أو شريكا.
ويلاحظ أن المشركين جمعوا بين التكذيب على الله، والتكذيب بآيات الله الدالة على التوحيد وعلى إثبات رسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وعاقبة الظلم: عدم الفلاح، فلا يفلح المفتري ولا المكذب، ولا يفوز أحدهما أو كلاهما وكل ظالم يوم القيامة- يوم الحساب والجزاء.
وزيادة في الملامة والتبكيت يسأل المشركون المفترون يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريح وإنكار، فقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ.. أي واذكر يا محمد يوم نحشر أولئك المشركين جميعا سواء عبدة الأوثان أو أهل الكتاب وكل من ظلم نفسه وغيره، ثم نقول للذين أشركوا وهم أشدّ الناس ظلما: أين الشركاء من الأصنام والأنداد المعبودة من دون الله، التي كنتم تزعمون في الدنيا أنهم أولياؤكم ونصراؤكم من دون الله، وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى، ويشفعون لكم عنده، أين هم فلا يرون معكم؟ كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص ٢٨/ ٦٢] وقال تعالى: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام ٦/ ٩٤].
ولكنهم يحارون فلا يجدون جوابا مقنعا، فيبادرون إلى إنكار الشرك. ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ... أي لم تكن عاقبة شركهم أو كفرهم أو- كما صوب الطبري- لم تكن حجتهم أو قولهم عند اختبارنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله، إلا أن أقسموا بالله يوم القيامة: ما كنا مشركين.
ويلاحظ أن المشركين جمعوا بين التكذيب على الله، والتكذيب بآيات الله الدالة على التوحيد وعلى إثبات رسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وعاقبة الظلم: عدم الفلاح، فلا يفلح المفتري ولا المكذب، ولا يفوز أحدهما أو كلاهما وكل ظالم يوم القيامة- يوم الحساب والجزاء.
وزيادة في الملامة والتبكيت يسأل المشركون المفترون يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريح وإنكار، فقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ.. أي واذكر يا محمد يوم نحشر أولئك المشركين جميعا سواء عبدة الأوثان أو أهل الكتاب وكل من ظلم نفسه وغيره، ثم نقول للذين أشركوا وهم أشدّ الناس ظلما: أين الشركاء من الأصنام والأنداد المعبودة من دون الله، التي كنتم تزعمون في الدنيا أنهم أولياؤكم ونصراؤكم من دون الله، وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى، ويشفعون لكم عنده، أين هم فلا يرون معكم؟ كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص ٢٨/ ٦٢] وقال تعالى: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام ٦/ ٩٤].
ولكنهم يحارون فلا يجدون جوابا مقنعا، فيبادرون إلى إنكار الشرك. ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ... أي لم تكن عاقبة شركهم أو كفرهم أو- كما صوب الطبري- لم تكن حجتهم أو قولهم عند اختبارنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله، إلا أن أقسموا بالله يوم القيامة: ما كنا مشركين.
164
وهنا تساؤل ذكره الزمخشري: كيف يصحّ أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور، وعلى أن الكذب والجحود لا نفع فيه؟ ثم أجاب: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما، حيرة ودهشة. وهناك حالة مماثلة: يقولون وهم يعذبون في النار: ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، مع أنهم قد أيقنوا بالخلود ولم يشكّوا فيه.
ولكن هذا الإنكار حاصل منهم في بعض مواقف الحشر، توهما منهم أن ذلك ينفعهم، أما في موقف آخر فيعترفون بالشرك، كما قال تعالى: قالُوا: رَبَّنا، هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ
[النحل ١٦/ ٨٦] وقال تعالى:
وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء ٤/ ٤٢].
سئل ابن عباس عن هذه الآية وعن قوله: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فقال: أما قوله: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام، قالوا: تعالوا لنجحد: قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء ٤/ ٤٢]. أي أنهم في الحقيقة يعترفون بواقعهم، وفي الظاهر وحال التخبط في الإجابة ينكرون الشرك، فتارة يكذبون، وتارة يصدقون، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وذلك كله بسبب الدهشة والحيرة.
وتأويل الفتنة في تفسير ابن عباس: هي الشرك في الدنيا، لكن على تقدير مضاف: هو كلمة (عاقبة) أي أن أمر الشرك آل إلى نقيض المطلوب: وهو التبرؤ منه وتركه عند المحنة.
وما أحرج مواقف المجابهة بالحقائق وإظهار الكذب مواجهة، فيا له من خزي وعار! وهذا ما قاله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي تأمل
ولكن هذا الإنكار حاصل منهم في بعض مواقف الحشر، توهما منهم أن ذلك ينفعهم، أما في موقف آخر فيعترفون بالشرك، كما قال تعالى: قالُوا: رَبَّنا، هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ
[النحل ١٦/ ٨٦] وقال تعالى:
وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء ٤/ ٤٢].
سئل ابن عباس عن هذه الآية وعن قوله: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فقال: أما قوله: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام، قالوا: تعالوا لنجحد: قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء ٤/ ٤٢]. أي أنهم في الحقيقة يعترفون بواقعهم، وفي الظاهر وحال التخبط في الإجابة ينكرون الشرك، فتارة يكذبون، وتارة يصدقون، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وذلك كله بسبب الدهشة والحيرة.
وتأويل الفتنة في تفسير ابن عباس: هي الشرك في الدنيا، لكن على تقدير مضاف: هو كلمة (عاقبة) أي أن أمر الشرك آل إلى نقيض المطلوب: وهو التبرؤ منه وتركه عند المحنة.
وما أحرج مواقف المجابهة بالحقائق وإظهار الكذب مواجهة، فيا له من خزي وعار! وهذا ما قاله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي تأمل
165
وتعجب من كذبهم الصريح، بإنكارهم الشرك، وكذبهم باليمين الفاجرة بإنكار ما صدر عنهم.
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ثم انظر وتأمل أيضا كيف ذهب عنهم أو غاب عنهم ما كانوا يفترونه من الإشراك، حتى إنهم بادروا إلى نفي حدوثه منهم.
ونظيره قوله تعالى: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا: ضَلُّوا عَنَّا [غافر ٤٠/ ٧٣- ٧٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات مشهدين أو موقفين من مشاهد ومواقف الكفار.
المشهد الأول- أن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى يعرفون ما يدلّ على صفة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وصحة أمره، وصدقه، ورسالته، ولكنهم قوم معاندون، خسروا أنفسهم وضيعوا مصالحهم الحقيقية.
المشهد الثاني- أن المشركين عبده الأوثان ومنهم الذين اتخذوا عيسى إليها أو أبنا لله هم قوم ظلمة، لافترائهم الكذب على الله بأن نسبوا إليه ما ليس له، ولتكذيبهم بالمعجزات والبراهين الدالة على وحدانية الله وصدق محمد في نبوته.
ويحشر الجميع من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين يوم القيامة ويسألون سؤال توبيخ وإنكار، وسؤال إفضاح لا إفصاح عن الشركاء مع الله الذين زعموا أنهم شفعاء لهم عند الله، فما يكون قولهم أو معذرتهم أو حجتهم أو عاقبة شركهم إلا التبرؤ من الشرك. وهذا غاية الكذب، إذ ظللوا أنفسهم وزعموا أن الأصنام تقربهم إلى الله زلفى، وكذب المنافقون باعتذارهم بالباطل، وبكل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم.
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ثم انظر وتأمل أيضا كيف ذهب عنهم أو غاب عنهم ما كانوا يفترونه من الإشراك، حتى إنهم بادروا إلى نفي حدوثه منهم.
ونظيره قوله تعالى: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا: ضَلُّوا عَنَّا [غافر ٤٠/ ٧٣- ٧٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات مشهدين أو موقفين من مشاهد ومواقف الكفار.
المشهد الأول- أن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى يعرفون ما يدلّ على صفة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وصحة أمره، وصدقه، ورسالته، ولكنهم قوم معاندون، خسروا أنفسهم وضيعوا مصالحهم الحقيقية.
المشهد الثاني- أن المشركين عبده الأوثان ومنهم الذين اتخذوا عيسى إليها أو أبنا لله هم قوم ظلمة، لافترائهم الكذب على الله بأن نسبوا إليه ما ليس له، ولتكذيبهم بالمعجزات والبراهين الدالة على وحدانية الله وصدق محمد في نبوته.
ويحشر الجميع من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين يوم القيامة ويسألون سؤال توبيخ وإنكار، وسؤال إفضاح لا إفصاح عن الشركاء مع الله الذين زعموا أنهم شفعاء لهم عند الله، فما يكون قولهم أو معذرتهم أو حجتهم أو عاقبة شركهم إلا التبرؤ من الشرك. وهذا غاية الكذب، إذ ظللوا أنفسهم وزعموا أن الأصنام تقربهم إلى الله زلفى، وكذب المنافقون باعتذارهم بالباطل، وبكل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم.
166
مواقف من عناد المشركين حول القرآن الكريم
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)
الإعراب:
مَنْ يَسْتَمِعُ مَنْ: مبتدأ مرفوع، وخبره: مِنْهُمْ ووحد الفعل: يَسْتَمِعُ لأنه حمله على لفظ مَنْ. ولو حمل على المعنى لكان جائزا حسنا كقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ.
أَنْ يَفْقَهُوهُ تقديره: كراهية أن يفقهوه، فحذف المضاف. وقيل: تقديره: لئلا يفقهوه. أَساطِيرُ قيل: واحدها أسطورة، وقيل: إسطارة، وقيل: هو جمع الجمع واحدة أسطار، وأسطار: جمع سطر بفتح الطاء، كجمل وأجمال، وجيل وأجيال.
البلاغة:
وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً عبر بالأكنة في القلوب، والوقر في الآذان، وهو تمثيل بطريق الاستعارة، لإعراضهم عن القرآن.
يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا وضع الظاهر موضع الضمير لتسجيل الكفر عليهم.
يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ بينهما جناس ناقص.
المفردات اللغوية:
مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ إذا قرأت. أَكِنَّةً أغطية، جمع كنان: وهو الغطاء، كأسنة وسنان. أَنْ يَفْقَهُوهُ ألا يفهموا القرآن. وَقْراً صمما وثقل سمع، فلا يسمعونه سماع قبول.
آيَةٍ علامة دالة على صدق الرسول. يُجادِلُونَكَ يخاصمونك وينازعونك. أَنْ ما.
هذا القرآن. أَساطِيرُ أكاذيب وخرافات، جمع أسطورة. وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ أي ينهون
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)
الإعراب:
مَنْ يَسْتَمِعُ مَنْ: مبتدأ مرفوع، وخبره: مِنْهُمْ ووحد الفعل: يَسْتَمِعُ لأنه حمله على لفظ مَنْ. ولو حمل على المعنى لكان جائزا حسنا كقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ.
أَنْ يَفْقَهُوهُ تقديره: كراهية أن يفقهوه، فحذف المضاف. وقيل: تقديره: لئلا يفقهوه. أَساطِيرُ قيل: واحدها أسطورة، وقيل: إسطارة، وقيل: هو جمع الجمع واحدة أسطار، وأسطار: جمع سطر بفتح الطاء، كجمل وأجمال، وجيل وأجيال.
البلاغة:
وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً عبر بالأكنة في القلوب، والوقر في الآذان، وهو تمثيل بطريق الاستعارة، لإعراضهم عن القرآن.
يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا وضع الظاهر موضع الضمير لتسجيل الكفر عليهم.
يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ بينهما جناس ناقص.
المفردات اللغوية:
مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ إذا قرأت. أَكِنَّةً أغطية، جمع كنان: وهو الغطاء، كأسنة وسنان. أَنْ يَفْقَهُوهُ ألا يفهموا القرآن. وَقْراً صمما وثقل سمع، فلا يسمعونه سماع قبول.
آيَةٍ علامة دالة على صدق الرسول. يُجادِلُونَكَ يخاصمونك وينازعونك. أَنْ ما.
هذا القرآن. أَساطِيرُ أكاذيب وخرافات، جمع أسطورة. وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ أي ينهون
167
الناس عن اتباع النّبي صلّى الله عليه وسلّم. وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ يتباعدون عنه ويعرضون، فلا يؤمنون به. وَإِنْ يُهْلِكُونَ ما يهلكون بالنأي عنه إلا أنفسهم لأن ضرره عليهم.
سبب النزول:
نزول الآية (٢٥) :
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ: قال ابن عباس: إن أبا سفيان بن حرب، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، وأمية، وأبيا ابني خلف استمعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة، ما يقول محمد؟
قال: والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول، إلا أني أراه يحرك شفتيه يتكلم بشيء، وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأول، وكان يحدث قريشا، فيستملحون حديثه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
نزول الآية (٢٦) :
وَهُمْ يَنْهَوْنَ... : روى الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويتباعد عما جاء به.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد أبي هلال قالت: نزلت في عمومة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشد الناس عليه في السر.
قال مقاتل بعد ذكر رواية الحاكم: وذلك أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يردون سؤال النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو طالب:
سبب النزول:
نزول الآية (٢٥) :
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ: قال ابن عباس: إن أبا سفيان بن حرب، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، وأمية، وأبيا ابني خلف استمعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة، ما يقول محمد؟
قال: والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول، إلا أني أراه يحرك شفتيه يتكلم بشيء، وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأول، وكان يحدث قريشا، فيستملحون حديثه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
نزول الآية (٢٦) :
وَهُمْ يَنْهَوْنَ... : روى الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويتباعد عما جاء به.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد أبي هلال قالت: نزلت في عمومة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشد الناس عليه في السر.
قال مقاتل بعد ذكر رواية الحاكم: وذلك أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يردون سؤال النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو طالب:
168
والله، لا وصلوا إليك بجمعهم حتى أوسّد في التراب دفينا
فأنزل الله تعالى وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ الآية «١».
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى أحوال الكفار في الآخرة وما يكونون عليه من اضطراب، فمرة ينكرون الشرك، وأخرى يقرون به، أتبعه هنا ما يوجب اليأس من إيمان بعضهم.
التفسير والبيان:
من هؤلاء الكفار فريق يجيء ليستمع إلى قراءتك القرآن، والحال أنه لا تجزي عنهم شيئا، ولا يستفيدون شيئا لأنا قد جعلنا على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوا القرآن، وفي آذانهم ثقلا أو صمما عن السماع النافع لهم، كما قال تعالى:
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [البقرة ٢/ ١٧١]. أي إن إقامة الحواجز دون فهم القرآن وقبوله وتدبر معانيه، كان بسبب التقليد الأعمى وإعراضهم الناشئ عن تصميم وحزم ألا ينظروا فيما يسمعون نظرة تأمل وإمعان، ليميزوا بين الحق والباطل.
وهذا ما قررته الآية التالية: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها أي مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات والبراهين لا يؤمنوا بها، فلا فهم
فاصدع بأمرك، ما عليك غضاضة | وأبشر وقرّ بذاك منك عيبونا |
وعرضت دينا لا محالة أنه | من خير أديان البرية دينا |
لولا الملامة أو حذاري سبّة | لوجدتني سمحا بذاك مبينا |
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى أحوال الكفار في الآخرة وما يكونون عليه من اضطراب، فمرة ينكرون الشرك، وأخرى يقرون به، أتبعه هنا ما يوجب اليأس من إيمان بعضهم.
التفسير والبيان:
من هؤلاء الكفار فريق يجيء ليستمع إلى قراءتك القرآن، والحال أنه لا تجزي عنهم شيئا، ولا يستفيدون شيئا لأنا قد جعلنا على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوا القرآن، وفي آذانهم ثقلا أو صمما عن السماع النافع لهم، كما قال تعالى:
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [البقرة ٢/ ١٧١]. أي إن إقامة الحواجز دون فهم القرآن وقبوله وتدبر معانيه، كان بسبب التقليد الأعمى وإعراضهم الناشئ عن تصميم وحزم ألا ينظروا فيما يسمعون نظرة تأمل وإمعان، ليميزوا بين الحق والباطل.
وهذا ما قررته الآية التالية: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها أي مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات والبراهين لا يؤمنوا بها، فلا فهم
(١) أسباب النزول للواحدي ١٢٣
169
عندهم ولا إنصاف، كما قال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال ٨/ ٢٣].
حتى إنهم إذا جاؤوك يحاجونك ويناظرونك في الحق وفي دعوتك قالوا:
ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم، وما هو إلا نوع من الترهات والخرافات والقصص الأسطورية التي تدون وتشغل أذهان العامة.
وهم بالإضافة إلى تكذيبهم للنّبي صلّى الله عليه وسلّم ينهون الناس عن اتباع الحق وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم والانقياد للقرآن، ويبعدون هم عنه، فيجمعون بين الفعلين القبيحين، لا ينتفعون ولا يدعون أحدا ينتفع.
أو أن الآية نزلت في أبي طالب، كان ينهى الناس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن يؤذى أو أن يقتل، ويتباعد عنه.
وعاقبة ذلك أنهم ما يهلكون إلا أنفسهم بهذا الصنيع، ولا يعود وباله إلا عليهم، وهم لا يشعرون بذلك، بل يظنون أنهم يضرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد أهلك الله أولئك المعادين الجاحدين، إما في ساحات القتال كبدر وغيرها، أو ببلاء ونقمة خاصة، وسيتبعها هلاك الآخرة. وهذا من معجزات القرآن وإخباره بالمغيبات.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات عبرة وعظة بليغة تستوقف النظر والتأمل، إذ ما أصعب حجب الحقائق عن الإنسان وتركه يتيه في ظلمات الأهواء ويتردد في موج الضلالات.
فهؤلاء الكفار أذكياء وزعماء يسمعون ويفهمون، ولكن لما كانوا لا ينتفعون
حتى إنهم إذا جاؤوك يحاجونك ويناظرونك في الحق وفي دعوتك قالوا:
ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم، وما هو إلا نوع من الترهات والخرافات والقصص الأسطورية التي تدون وتشغل أذهان العامة.
وهم بالإضافة إلى تكذيبهم للنّبي صلّى الله عليه وسلّم ينهون الناس عن اتباع الحق وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم والانقياد للقرآن، ويبعدون هم عنه، فيجمعون بين الفعلين القبيحين، لا ينتفعون ولا يدعون أحدا ينتفع.
أو أن الآية نزلت في أبي طالب، كان ينهى الناس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن يؤذى أو أن يقتل، ويتباعد عنه.
وعاقبة ذلك أنهم ما يهلكون إلا أنفسهم بهذا الصنيع، ولا يعود وباله إلا عليهم، وهم لا يشعرون بذلك، بل يظنون أنهم يضرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد أهلك الله أولئك المعادين الجاحدين، إما في ساحات القتال كبدر وغيرها، أو ببلاء ونقمة خاصة، وسيتبعها هلاك الآخرة. وهذا من معجزات القرآن وإخباره بالمغيبات.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات عبرة وعظة بليغة تستوقف النظر والتأمل، إذ ما أصعب حجب الحقائق عن الإنسان وتركه يتيه في ظلمات الأهواء ويتردد في موج الضلالات.
فهؤلاء الكفار أذكياء وزعماء يسمعون ويفهمون، ولكن لما كانوا لا ينتفعون
170
بما يسمعون، ولا ينقادون إلى الحق، كانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم.
وقد أخبر الله تعالى عن أوضاع عنادهم وردهم الآيات بغير حجة لأنهم لمّا رأوا القمر منشقا قالوا: هذا سحر، ولمّا وجدوا القرآن معجزة سما ببلاغته عن فنون كلامهم وقولهم، قالوا: هذا أساطير الأولين.
وموقف الكفار يجمع كل فصول القبح والاستغراب والاستهجان، وقوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ عام في جميع الكفار، ينهون عن اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم، وينأون عنه، فلا يكتفون بإعراضهم، وإنما يصدون الناس عن دعوة الإسلام، وهم بهذا ما يهلكون إلا أنفسهم بإصرارهم على الكفر، وحملهم أوزار الذين يصدّونهم.
أما موقف أبي طالب فالله أعلم به، والرواية المشهورة:
ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله لعمه: «قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة، قال: لولا تعيّرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك، فأنزل الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص ٢٨/ ٥٦].
حال المشركين أمام النار أو كيفية هلاكهم
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩)
وقد أخبر الله تعالى عن أوضاع عنادهم وردهم الآيات بغير حجة لأنهم لمّا رأوا القمر منشقا قالوا: هذا سحر، ولمّا وجدوا القرآن معجزة سما ببلاغته عن فنون كلامهم وقولهم، قالوا: هذا أساطير الأولين.
وموقف الكفار يجمع كل فصول القبح والاستغراب والاستهجان، وقوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ عام في جميع الكفار، ينهون عن اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم، وينأون عنه، فلا يكتفون بإعراضهم، وإنما يصدون الناس عن دعوة الإسلام، وهم بهذا ما يهلكون إلا أنفسهم بإصرارهم على الكفر، وحملهم أوزار الذين يصدّونهم.
أما موقف أبي طالب فالله أعلم به، والرواية المشهورة:
ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله لعمه: «قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة، قال: لولا تعيّرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك، فأنزل الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص ٢٨/ ٥٦].
حال المشركين أمام النار أو كيفية هلاكهم
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩)
171
الإعراب:
وَلا نُكَذِّبَ... وَنَكُونَ النصب فيهما بتقدير أن، لتكون مع الفعل مصدرا، فتعطف بالواو مصدرا على مصدر، وتقديره: يا ليت لنا ردا وانتفاء من التكذيب وكونا من المؤمنين. والنصب على أنه جواب التمني لأن التمني ينزل منزلة الأمر والنهي والاستفهام في نصب الفعل المضارع بأن مضمرة.
ويجوز فيهما الرفع: إما عطفا على نُرَدُّ فجعل كله مما يتمناه الكفار يوم القيامة، فيكونون قد تمنوا ثلاثة أشياء وهي: أن يردوا، وألا يكونوا قد كذبوا، وأن يكونوا من المؤمنين.
وإما الرفع على القطع والاستئناف، فإنه يجوز في جواب التمني الرفع على العطف والاستئناف، فلا يدخلان في التمني، وتقديره: يا ليتنا نرد، ونحن لا نكذب، ونحن نكون من المؤمنين.
ويجوز رفع نُكَذِّبَ ونصب نَكُونَ والرفع على ما تقدم من العطف على نُرَدُّ. والنصب يكون على جواب التمني على ما تقدم، فيكون داخلا في التمني.
البلاغة:
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ تأكيد بمؤكدين هما: «إن» و «اللام» للإشارة إلى أن الكذب طبيعتهم.
المفردات اللغوية:
إِذْ وُقِفُوا عرضوا، يقال: وقف على الشيء: عرفه وتبينه وجواب لَوْ محذوف تقديره في آخر الآية: لرأيت هولا أو عجبا أو مشقات ونحو ذلك. بَدا لَهُمْ ظهر لهم يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ يكتمون، بقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين، بشهادة جوارحهم لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الشرك وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في وعدهم بالإيمان وَقالُوا أي منكرو البعث إِنْ هِيَ ما هي بِمَبْعُوثِينَ بعث الموتى: نشرهم ليوم البعث، أي القيامة. ونشر الميّي: عاش بعد الموت.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى صفة من ينهى عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وينأى عن طاعته ويبتعد عنه، بأنهم يهلكون أنفسهم، شرح كيفية ذلك الهلاك بهذه الآية، وصدور بعض التمنيات منهم بالعودة إلى الدنيا ليعملوا صالح الأعمال، ولكن الله كذبهم فيما يقولون.
وَلا نُكَذِّبَ... وَنَكُونَ النصب فيهما بتقدير أن، لتكون مع الفعل مصدرا، فتعطف بالواو مصدرا على مصدر، وتقديره: يا ليت لنا ردا وانتفاء من التكذيب وكونا من المؤمنين. والنصب على أنه جواب التمني لأن التمني ينزل منزلة الأمر والنهي والاستفهام في نصب الفعل المضارع بأن مضمرة.
ويجوز فيهما الرفع: إما عطفا على نُرَدُّ فجعل كله مما يتمناه الكفار يوم القيامة، فيكونون قد تمنوا ثلاثة أشياء وهي: أن يردوا، وألا يكونوا قد كذبوا، وأن يكونوا من المؤمنين.
وإما الرفع على القطع والاستئناف، فإنه يجوز في جواب التمني الرفع على العطف والاستئناف، فلا يدخلان في التمني، وتقديره: يا ليتنا نرد، ونحن لا نكذب، ونحن نكون من المؤمنين.
ويجوز رفع نُكَذِّبَ ونصب نَكُونَ والرفع على ما تقدم من العطف على نُرَدُّ. والنصب يكون على جواب التمني على ما تقدم، فيكون داخلا في التمني.
البلاغة:
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ تأكيد بمؤكدين هما: «إن» و «اللام» للإشارة إلى أن الكذب طبيعتهم.
المفردات اللغوية:
إِذْ وُقِفُوا عرضوا، يقال: وقف على الشيء: عرفه وتبينه وجواب لَوْ محذوف تقديره في آخر الآية: لرأيت هولا أو عجبا أو مشقات ونحو ذلك. بَدا لَهُمْ ظهر لهم يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ يكتمون، بقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين، بشهادة جوارحهم لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الشرك وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في وعدهم بالإيمان وَقالُوا أي منكرو البعث إِنْ هِيَ ما هي بِمَبْعُوثِينَ بعث الموتى: نشرهم ليوم البعث، أي القيامة. ونشر الميّي: عاش بعد الموت.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى صفة من ينهى عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وينأى عن طاعته ويبتعد عنه، بأنهم يهلكون أنفسهم، شرح كيفية ذلك الهلاك بهذه الآية، وصدور بعض التمنيات منهم بالعودة إلى الدنيا ليعملوا صالح الأعمال، ولكن الله كذبهم فيما يقولون.
172
التفسير والبيان:
يذكر الله تعالى حال الكفار إذا تبينوا يوم القيامة وعرفوا النار، وشاهدوا أهوالها وفظائعها، فلو رأيتهم أيها السامع وما بهم من هول وفزع لرأيت عجبا يصعب وصفه، حين تعرضهم ملائكة العذاب على النار، ثم يدخلونها ويعاينون شدتها، فيندمون ويتمنون العودة إلى الدنيا قائلين: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا... أي يا ليتنا نرجع إلى الحياة الدنيا، ولا نكذب بآيات الله وحججه الدالة على وحدانيته وصدق رسله، ونؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين، ونتوب من ذنوبنا، ونعمل صالحا يرضي الله سبحانه.
فرد الله عليهم بقوله بَلْ للإضراب الإبطالي لهذا التمني، وللإضراب عن إرادة الإيمان، فحالهم لم تتغير، وإنما ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة، وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة، وتظهر حقيقتهم لأنهم كانوا يخفون الكفر ولا يبدونه، أما المؤمن الحقيقي فيعلن إيمانه ولا يكتمه، ويتحملون عاقبة كفرهم من العقاب الشديد، كما قال تعالى:
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الحاقة ٦٩/ ١٨] فهي لا تخفى على أنفسهم ولا على ربهم، وقال تعالى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الزمر ٣٩/ ٤٧- ٤٨].
ثم كذّبهم الله صراحة في هذا الندم أو التمني، فقال: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا... أي لو ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما نهاهم الله عنه من الكفر والعناد والنفاق والمعاصي، فإن العصيان مستقر في أنفسهم، فديدنهم العناد، وطبعهم الكذب، ولو ردّوا إلى الدنيا لأنكروا مرة أخرى البعث والحساب والجزاء، وأقروا بحياة الدنيا ولم يؤمنوا بالآخرة، وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا فقط، نعيش ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، ولا ثواب ولا عقاب في الآخرة، بل لا
يذكر الله تعالى حال الكفار إذا تبينوا يوم القيامة وعرفوا النار، وشاهدوا أهوالها وفظائعها، فلو رأيتهم أيها السامع وما بهم من هول وفزع لرأيت عجبا يصعب وصفه، حين تعرضهم ملائكة العذاب على النار، ثم يدخلونها ويعاينون شدتها، فيندمون ويتمنون العودة إلى الدنيا قائلين: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا... أي يا ليتنا نرجع إلى الحياة الدنيا، ولا نكذب بآيات الله وحججه الدالة على وحدانيته وصدق رسله، ونؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين، ونتوب من ذنوبنا، ونعمل صالحا يرضي الله سبحانه.
فرد الله عليهم بقوله بَلْ للإضراب الإبطالي لهذا التمني، وللإضراب عن إرادة الإيمان، فحالهم لم تتغير، وإنما ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة، وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة، وتظهر حقيقتهم لأنهم كانوا يخفون الكفر ولا يبدونه، أما المؤمن الحقيقي فيعلن إيمانه ولا يكتمه، ويتحملون عاقبة كفرهم من العقاب الشديد، كما قال تعالى:
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الحاقة ٦٩/ ١٨] فهي لا تخفى على أنفسهم ولا على ربهم، وقال تعالى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الزمر ٣٩/ ٤٧- ٤٨].
ثم كذّبهم الله صراحة في هذا الندم أو التمني، فقال: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا... أي لو ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما نهاهم الله عنه من الكفر والعناد والنفاق والمعاصي، فإن العصيان مستقر في أنفسهم، فديدنهم العناد، وطبعهم الكذب، ولو ردّوا إلى الدنيا لأنكروا مرة أخرى البعث والحساب والجزاء، وأقروا بحياة الدنيا ولم يؤمنوا بالآخرة، وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا فقط، نعيش ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، ولا ثواب ولا عقاب في الآخرة، بل لا
173
آخرة، وما نحن بمبعوثين، أي ما هذه إلا الحياة الدنيا، ثم لا معاد بعدها.
وهؤلاء هم الماديون الملحدون الذين لا يؤمنون بالغيب.
فقه الحياة أو الأحكام:
الحقائق الإيمانية لا تتغير ولا تتبدل، ولا بد من حدوثها فإن وعد الله حق، والجنة حق، والنار حق، وسرعان ما تنكشف هذه الحقائق، ويفتضح الكفر والكفار، وينالون عذاب النار، فلو تراهم يعذبون في جهنم لرأيت أسوا حال، أو لرأيت منظرا رهيبا هائلا، أو لرأيت أمرا عجبا.
ولا يجدون مناصا أو مفردا من عذاب الله، ويتخبطون، ويتأملون، ويتمنون العودة إلى دار الدنيا لتصحيح العقيدة وإصلاح العمل، وترك التكذيب بآيات الله الدالة على وجوده ووحدانيته، وصدق رسله، ليكونوا مع صف المؤمنين في الدنيا، وفي حال أحسن من حالهم في الآخرة، في جنان الله وروضاته. ولكنهم يتمنون هذا الشيء ضجرا وقلقا، مع علمهم باليأس من العودة، لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لما كذبوا ولآمنوا، فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه، جزاء على ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا من النار.
وهم أمام العذاب وفي وسط النار يظهر لهم حقيقة ما كانوا يخفونه من الكفر والمعاصي، ولو ردّوا لصاروا ورجعوا إلى ما نهوا عنه من الشرك لعلم الله تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون، وقد عاين إبليس رأس الكفر ما عاين من آيات الله ثم عاند.
ودل قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ على الحال التي كانوا عليها في الدنيا من تكذيبهم الرسل، وإنكارهم البعث، كما دل على كذبهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من أنهم لا يكذبون، ويكونون من المؤمنين.
وهؤلاء هم الماديون الملحدون الذين لا يؤمنون بالغيب.
فقه الحياة أو الأحكام:
الحقائق الإيمانية لا تتغير ولا تتبدل، ولا بد من حدوثها فإن وعد الله حق، والجنة حق، والنار حق، وسرعان ما تنكشف هذه الحقائق، ويفتضح الكفر والكفار، وينالون عذاب النار، فلو تراهم يعذبون في جهنم لرأيت أسوا حال، أو لرأيت منظرا رهيبا هائلا، أو لرأيت أمرا عجبا.
ولا يجدون مناصا أو مفردا من عذاب الله، ويتخبطون، ويتأملون، ويتمنون العودة إلى دار الدنيا لتصحيح العقيدة وإصلاح العمل، وترك التكذيب بآيات الله الدالة على وجوده ووحدانيته، وصدق رسله، ليكونوا مع صف المؤمنين في الدنيا، وفي حال أحسن من حالهم في الآخرة، في جنان الله وروضاته. ولكنهم يتمنون هذا الشيء ضجرا وقلقا، مع علمهم باليأس من العودة، لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لما كذبوا ولآمنوا، فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه، جزاء على ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا من النار.
وهم أمام العذاب وفي وسط النار يظهر لهم حقيقة ما كانوا يخفونه من الكفر والمعاصي، ولو ردّوا لصاروا ورجعوا إلى ما نهوا عنه من الشرك لعلم الله تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون، وقد عاين إبليس رأس الكفر ما عاين من آيات الله ثم عاند.
ودل قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ على الحال التي كانوا عليها في الدنيا من تكذيبهم الرسل، وإنكارهم البعث، كما دل على كذبهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من أنهم لا يكذبون، ويكونون من المؤمنين.
174
وأرشد قوله تعالى: وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا إلى ما قالوا في الدنيا، وإلى أنهم قوم ماديون، لا يؤمنون بالآخرة، ولو ردّوا لعادوا إلى الكفر، واشتغلوا بلذة الحال، فهم قوم معاندون، أبت نفوسهم الأمارة بالسوء إلا المكث على الضلال والنفاق، والمكر والكيد، والكفر والمعاصي.
ألا فليتأمل العاقل مصير هؤلاء، وما يؤول إليه حالهم من الاضطراب والقلق وتمني الخلاص من العذاب الشديد، ولكن عدل الله يتنافى مع إعفائهم من العقاب، ورحمته بالخلائق جعلته يحذرهم وينذرهم ما يلاقونه في المستقبل المنتظر.
حال المشركين أمام ربهم في الآخرة وحقيقة الدنيا
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)
الإعراب:
وَلَوْ تَرى... : جواب لَوْ محذوف تفخيما للأمر وتعظيما للشأن، وتقديره: لعلمت حقيقة ما يصيرون إليه. وعَلى رَبِّهِمْ أي على سؤال ربهم، فحذف المضاف.
بَغْتَةً منصوب على المصدر في موضع الحال. والهاء في فِيها تعود على ما لأنه يريد ب ما الأعمال، كأنه قال: على الأعمال التي فرطنا فيها.
ألا فليتأمل العاقل مصير هؤلاء، وما يؤول إليه حالهم من الاضطراب والقلق وتمني الخلاص من العذاب الشديد، ولكن عدل الله يتنافى مع إعفائهم من العقاب، ورحمته بالخلائق جعلته يحذرهم وينذرهم ما يلاقونه في المستقبل المنتظر.
حال المشركين أمام ربهم في الآخرة وحقيقة الدنيا
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)
الإعراب:
وَلَوْ تَرى... : جواب لَوْ محذوف تفخيما للأمر وتعظيما للشأن، وتقديره: لعلمت حقيقة ما يصيرون إليه. وعَلى رَبِّهِمْ أي على سؤال ربهم، فحذف المضاف.
بَغْتَةً منصوب على المصدر في موضع الحال. والهاء في فِيها تعود على ما لأنه يريد ب ما الأعمال، كأنه قال: على الأعمال التي فرطنا فيها.
175
أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ: ما: نكرة في موضع نصب على التمييز بساء. وفي ساءَ: ضمير مرفوع يفسره ما بعده كنعم وبئس. وقيل: «ما» في موضع رفع بساء.
وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ الدار: مبتدأ، والْآخِرَةُ: صفة له، وخَيْرٌ: خبر المبتدأ. وقرئ ولدار الآخرة خير وتقديره: ولدار الساعة الآخرة خير، ولا بد من هذا التقدير لأن الشيء لا يضاف إلى صفته، فوجب تقدير موصوف محذوف، وهذه الإضافة في نية الانفصال.
البلاغة:
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ تشبيه بليغ حيث جعلت الدنيا اللعب واللهو نفسه مبالغة.
أَفَلا تَعْقِلُونَ الاستفهام للتوبيخ.
المفردات اللغوية:
وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ عرضوا على الله، لرأيت أمرا عظيما قالَ لهم على لسان الملائكة توبيخا أَلَيْسَ هذا البعث والحساب بَلى وَرَبِّنا إنه لحق تَكْفُرُونَ به في الدنيا كفروا بلقاء الله بالبعث حَتَّى غاية للتكذيب السَّاعَةُ القيامة: وهي موعد انقضاء أجل الدنيا والحياة وخراب العالم، وبدء الحياة الأخرى بَغْتَةً فجأة يا حَسْرَتَنا هي شدة التألم والندم على ما فات، ونداؤها مجاز، أي هذا أو انك فاحضري عَلى ما فَرَّطْنا قصرنا مع القدرة على الفعل فِيها أي الدنيا.
أَوْزارَهُمْ جمع وزر: وهو الحمل الثقيل، ويطلق شرعا على الإثم والذنب، كأنه لثقله على صاحبه كالحمل الذي يثقل ظهره، والمراد بقوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ تحمل مسئولية أفعالهم، بأن تأتيهم ذنوبهم عند البعث في أقبح شيء صورة، وأنتنه ريحا، فتركبهم أَلا ساءَ بئس ما يَزِرُونَ يحملونه حملهم ذلك وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي الاشتغال بها لَعِبٌ عمل لا يحقق نفعا ولا يدفع ضررا وَلَهْوٌ ما يشتغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، والمقصود أنه تعالى جعل أعمال الدنيا المحضة لعبا ولهوا واشتغالا بما لا يعني، ولا يعقب منفعة دائمة، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة، أما الطاعة وكل ما يعين عليها فمن أمور الآخرة. وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ أي الجنة خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك أَفَلا تَعْقِلُونَ فتؤمنوا.
وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ الدار: مبتدأ، والْآخِرَةُ: صفة له، وخَيْرٌ: خبر المبتدأ. وقرئ ولدار الآخرة خير وتقديره: ولدار الساعة الآخرة خير، ولا بد من هذا التقدير لأن الشيء لا يضاف إلى صفته، فوجب تقدير موصوف محذوف، وهذه الإضافة في نية الانفصال.
البلاغة:
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ تشبيه بليغ حيث جعلت الدنيا اللعب واللهو نفسه مبالغة.
أَفَلا تَعْقِلُونَ الاستفهام للتوبيخ.
المفردات اللغوية:
وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ عرضوا على الله، لرأيت أمرا عظيما قالَ لهم على لسان الملائكة توبيخا أَلَيْسَ هذا البعث والحساب بَلى وَرَبِّنا إنه لحق تَكْفُرُونَ به في الدنيا كفروا بلقاء الله بالبعث حَتَّى غاية للتكذيب السَّاعَةُ القيامة: وهي موعد انقضاء أجل الدنيا والحياة وخراب العالم، وبدء الحياة الأخرى بَغْتَةً فجأة يا حَسْرَتَنا هي شدة التألم والندم على ما فات، ونداؤها مجاز، أي هذا أو انك فاحضري عَلى ما فَرَّطْنا قصرنا مع القدرة على الفعل فِيها أي الدنيا.
أَوْزارَهُمْ جمع وزر: وهو الحمل الثقيل، ويطلق شرعا على الإثم والذنب، كأنه لثقله على صاحبه كالحمل الذي يثقل ظهره، والمراد بقوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ تحمل مسئولية أفعالهم، بأن تأتيهم ذنوبهم عند البعث في أقبح شيء صورة، وأنتنه ريحا، فتركبهم أَلا ساءَ بئس ما يَزِرُونَ يحملونه حملهم ذلك وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي الاشتغال بها لَعِبٌ عمل لا يحقق نفعا ولا يدفع ضررا وَلَهْوٌ ما يشتغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، والمقصود أنه تعالى جعل أعمال الدنيا المحضة لعبا ولهوا واشتغالا بما لا يعني، ولا يعقب منفعة دائمة، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة، أما الطاعة وكل ما يعين عليها فمن أمور الآخرة. وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ أي الجنة خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك أَفَلا تَعْقِلُونَ فتؤمنوا.
176
المناسبة:
لما حكى الله تعالى عن الكفار إنكارهم للحشر والنشر والبعث والقيامة، بيّن في هذه الآية كيفية حالهم في القيامة، ثم ذكر حقيقة الدنيا ومقارنتها بالآخرة.
التفسير والبيان:
ولو ترى حال المشركين حين تقفهم الملائكة بين يدي ربهم، لوجدت هول أمرهم، ورأيت أمرا خطيرا مدهشا لا يحدّه وصف.
وظاهر الآية غير مراد قطعا لأنه استعلاء على ذات الله تعالى، وهو باطل بالاتفاق، وإنما هذا من قبيل المجاز، فهو مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف الجاني بين يدي الحاكم ليعاتبه، وهم موقوفون ومحبوسون بوساطة الملائكة، امتثالا لأمر الله فيهم، كما قال: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات: ٣٧/ ٢٤]. وعبر بهذا التعبير: وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ للدلالة على أن أمرهم مقصور على الله، لا يتصرف فيهم غيره.
ثم يناقشهم الله على لسان الملائكة قائلا لهم: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ أي أليس هذا المعاد بحق، وليس بباطل كما كنتم تظنون.
أجابوا: بلى وربنا، أي أنه الحق الذي لا شك فيه، وأكدوا قولهم باليمين بالله، فشهدوا على أنفسهم بكفرهم، والمقصود أنهم يعترفون بكونه حقا مع القسم واليمين.
فرد الله عليهم: ذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم وتكذيبكم الذي دمتم عليه، ولم تفارقوه في الدنيا حتى الموت. وعبر بلفظ الذوق للدلالة على أنهم في كل حال يجدونه وجدان الذائق في قوة الإحساس به.
ثم أخبر تعالى بخبر عام: وهو خسارة من كذب بلقاء الله، وخيبته إذا
لما حكى الله تعالى عن الكفار إنكارهم للحشر والنشر والبعث والقيامة، بيّن في هذه الآية كيفية حالهم في القيامة، ثم ذكر حقيقة الدنيا ومقارنتها بالآخرة.
التفسير والبيان:
ولو ترى حال المشركين حين تقفهم الملائكة بين يدي ربهم، لوجدت هول أمرهم، ورأيت أمرا خطيرا مدهشا لا يحدّه وصف.
وظاهر الآية غير مراد قطعا لأنه استعلاء على ذات الله تعالى، وهو باطل بالاتفاق، وإنما هذا من قبيل المجاز، فهو مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف الجاني بين يدي الحاكم ليعاتبه، وهم موقوفون ومحبوسون بوساطة الملائكة، امتثالا لأمر الله فيهم، كما قال: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات: ٣٧/ ٢٤]. وعبر بهذا التعبير: وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ للدلالة على أن أمرهم مقصور على الله، لا يتصرف فيهم غيره.
ثم يناقشهم الله على لسان الملائكة قائلا لهم: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ أي أليس هذا المعاد بحق، وليس بباطل كما كنتم تظنون.
أجابوا: بلى وربنا، أي أنه الحق الذي لا شك فيه، وأكدوا قولهم باليمين بالله، فشهدوا على أنفسهم بكفرهم، والمقصود أنهم يعترفون بكونه حقا مع القسم واليمين.
فرد الله عليهم: ذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم وتكذيبكم الذي دمتم عليه، ولم تفارقوه في الدنيا حتى الموت. وعبر بلفظ الذوق للدلالة على أنهم في كل حال يجدونه وجدان الذائق في قوة الإحساس به.
ثم أخبر تعالى بخبر عام: وهو خسارة من كذب بلقاء الله، وخيبته إذا
177
جاءته الساعة بغتة، وندامته على ما فرط من العمل للآخرة، وما أسلف من قبيح القول. وسبب الخسارة: إنكار البعث والجزاء الذي يفسد الفطرة الإنسانية، ويؤدي إلى الشر والإثم لأن هذا الإنكار يحصرهمّ الكافرين في الاستمتاع بلذات الدنيا وشهواتها، والتنافس في متاعها، والغرور بالمجد والاستعلاء والسلطة على الآخرين.
هؤلاء الخاسرون يأتون للحساب يوم القيامة، وهم حاملون ذنوبهم وخطاياهم، يحملون أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم على ظهورهم، ألا ما أسوأ تلك الأثقال المحمولة، وبئس شيئا يزرون وزرهم، كقوله تعالى: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف ٧/ ١٧٧]. قال ابن عباس: الأوزار: الآثام والخطايا. أما قوله: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ فمعناه:
بئس الشيء الذي يزرونه أي يحملونه.
ذكر ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن السدي: أن الأعمال القبيحة أعمال الظالم تتمثل بصورة رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح، يحمله صاحبه يوم القيامة. وعن عمرو بن قيس الملائي: تتمثل الأعمال الصالحة بصورة رجل حسن الصورة طيب الريح، يحمله صاحبها يوم القيامة «١».
ثم جعل الله تعالى غالب أعمال الحياة الدنيا لعبا لا يفيد، ولهوا يشغل عن المصلحة الحقيقية، ومتاعها قليل زائل قصير الأجل، وأما العمل للآخرة فله منافع عظيمة، والآخرة خير وأبقى، خير لمن اتقى الكفر والمعاصي، ونعيمها نعيم دائم خير من نعيم الدنيا الفاني، أفلا تعقلون وتفهمون هذه الحقائق وهي أن الحياة الدنيا لعب ولهو، وزوال، ومزرعة للآخرة، فتؤمنوا وتعملوا عملا صالحا.
هؤلاء الخاسرون يأتون للحساب يوم القيامة، وهم حاملون ذنوبهم وخطاياهم، يحملون أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم على ظهورهم، ألا ما أسوأ تلك الأثقال المحمولة، وبئس شيئا يزرون وزرهم، كقوله تعالى: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف ٧/ ١٧٧]. قال ابن عباس: الأوزار: الآثام والخطايا. أما قوله: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ فمعناه:
بئس الشيء الذي يزرونه أي يحملونه.
ذكر ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن السدي: أن الأعمال القبيحة أعمال الظالم تتمثل بصورة رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح، يحمله صاحبه يوم القيامة. وعن عمرو بن قيس الملائي: تتمثل الأعمال الصالحة بصورة رجل حسن الصورة طيب الريح، يحمله صاحبها يوم القيامة «١».
ثم جعل الله تعالى غالب أعمال الحياة الدنيا لعبا لا يفيد، ولهوا يشغل عن المصلحة الحقيقية، ومتاعها قليل زائل قصير الأجل، وأما العمل للآخرة فله منافع عظيمة، والآخرة خير وأبقى، خير لمن اتقى الكفر والمعاصي، ونعيمها نعيم دائم خير من نعيم الدنيا الفاني، أفلا تعقلون وتفهمون هذه الحقائق وهي أن الحياة الدنيا لعب ولهو، وزوال، ومزرعة للآخرة، فتؤمنوا وتعملوا عملا صالحا.
(١) تفسير الطبري: ٧/ ١١٤
178
وقوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ دليل على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو.
فقه الحياة أو الأحكام:
الآيات تقرير واقعي لحال من وقع في قبضة الحاكم الذي يقضي في جريمته، وإذا كان الغالب على حال المتهمين الإنكار بين يدي قاضي الدنيا، فإن المتهم إذا لم يجد مفرا من الإقرار بجريمته، بادر إلى الاعتراف بكل ما عمل.
وهكذا شأن الكفار والمشركين إذا قدّموا للحساب بين يدي الله، أدركوا ألا فائدة من الإنكار، وحينئذ إذا سئلوا عن البعث والمعاد، أقسموا بالله أنه حق ثابت، فيكون الحكم الصادر في حقهم تنفيذ العقاب المقرر عليهم، جزاء وفاقا على كفرهم.
والنقاش يحدث من قبل الملائكة، تقول لهم بأمر الله: أليس هذا البعث وهذا العذاب حقا؟ فيقولون: بَلى وَرَبِّنا إنه حق. ولا تناقض بين هذا التساؤل وبين قوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ لأن السؤال يكون بواسطة الملائكة، والمراد بقوله وَلا يُكَلِّمُهُمُ: أنه لا يكلمهم بالكلام الطيب النافع.
ودلت الآيات على توضيح حالة أخرى من أحوال منكري البعث والقيامة وهي أمران: أحدهما- حصول الخسران للمكذبين بالبعث والقيامة والجزاء والحساب. والثاني- حمل الأوزار العظيمة على ظهورهم.
والمراد من الخسران: فوت الثواب العظيم وحصول العقاب الشديد وفي قولهم: يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا إشارة إلى أنهم لم يحصلوا لأنفسهم ما به يستحقون الثواب، أي أنهم قوم مقصرون. وقوله: فِيها أي في الصفقة، وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع، بدليل قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة ٢/ ١٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
الآيات تقرير واقعي لحال من وقع في قبضة الحاكم الذي يقضي في جريمته، وإذا كان الغالب على حال المتهمين الإنكار بين يدي قاضي الدنيا، فإن المتهم إذا لم يجد مفرا من الإقرار بجريمته، بادر إلى الاعتراف بكل ما عمل.
وهكذا شأن الكفار والمشركين إذا قدّموا للحساب بين يدي الله، أدركوا ألا فائدة من الإنكار، وحينئذ إذا سئلوا عن البعث والمعاد، أقسموا بالله أنه حق ثابت، فيكون الحكم الصادر في حقهم تنفيذ العقاب المقرر عليهم، جزاء وفاقا على كفرهم.
والنقاش يحدث من قبل الملائكة، تقول لهم بأمر الله: أليس هذا البعث وهذا العذاب حقا؟ فيقولون: بَلى وَرَبِّنا إنه حق. ولا تناقض بين هذا التساؤل وبين قوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ لأن السؤال يكون بواسطة الملائكة، والمراد بقوله وَلا يُكَلِّمُهُمُ: أنه لا يكلمهم بالكلام الطيب النافع.
ودلت الآيات على توضيح حالة أخرى من أحوال منكري البعث والقيامة وهي أمران: أحدهما- حصول الخسران للمكذبين بالبعث والقيامة والجزاء والحساب. والثاني- حمل الأوزار العظيمة على ظهورهم.
والمراد من الخسران: فوت الثواب العظيم وحصول العقاب الشديد وفي قولهم: يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا إشارة إلى أنهم لم يحصلوا لأنفسهم ما به يستحقون الثواب، أي أنهم قوم مقصرون. وقوله: فِيها أي في الصفقة، وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع، بدليل قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة ٢/ ١٦].
179
وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ إشارة إلى أنهم حصلوا لأنفسهم ما به استحقوا العذاب الشديد، ولا شك أن ذلك نهاية الخسران.
ودل قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ على قسمة أعمال الدنيا إلى قسمين: أعمال لا خير فيها ولا نفع، وهي أمور الدنيا المحضة، وهي الغالبة في أعمال الناس، وأعمال الآخرة التي لا لهو فيها ولا لعب وهي أفعال المتقين الأخيار، الذين عمروا دنياهم بصلاح الأعمال وخير الأقوال، روى ابن عبد البر عن أبي سعيد الخدري وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة- وقال: حديث حسن غريب- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الدنيا ملعونة ملعون. ما فيها إلا ما كان فيها من ذكر الله، أو أدّى إلى ذكر الله، والعالم والمتعلم شريكان في الأجر، وسائر الناس همج لا خير فيه».
وروي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها».
وروى الترمذي عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها شربة ماء».
ودل قوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ على أن الإنسان لا يفكر غالبا تفكيرا يتفق مع حقيقة مصلحته، وإنما قد يرتكب ما يلحق بنفسه الضرر، ودل أيضا على أن الزهد في الدنيا، أي عدم استيلاء حبها على قلبه أمر مرغوب فيه.
وأشارت هذه الآية: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا.. إلى أن منكري البعث والقيامة تعظم رغبتهم في الدنيا وتحصيل لذاتها، فذكر الله تعالى هذه الآية تنبيها على خساستها، ولكن يلاحظ أن هذه الحياة نفسها لا يمكن ذمها لأنها بإرادة الله وحكمته، وخلقه وإيجاده، ولأنه لا يمكن التوصل إلى السعادة الأخروية إلا فيها، وإنما المقصود أن الذات الحياة الدنيا وطيباتها لا دوام لها، ولا يبقى منها
ودل قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ على قسمة أعمال الدنيا إلى قسمين: أعمال لا خير فيها ولا نفع، وهي أمور الدنيا المحضة، وهي الغالبة في أعمال الناس، وأعمال الآخرة التي لا لهو فيها ولا لعب وهي أفعال المتقين الأخيار، الذين عمروا دنياهم بصلاح الأعمال وخير الأقوال، روى ابن عبد البر عن أبي سعيد الخدري وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة- وقال: حديث حسن غريب- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الدنيا ملعونة ملعون. ما فيها إلا ما كان فيها من ذكر الله، أو أدّى إلى ذكر الله، والعالم والمتعلم شريكان في الأجر، وسائر الناس همج لا خير فيه».
وروي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها».
وروى الترمذي عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها شربة ماء».
ودل قوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ على أن الإنسان لا يفكر غالبا تفكيرا يتفق مع حقيقة مصلحته، وإنما قد يرتكب ما يلحق بنفسه الضرر، ودل أيضا على أن الزهد في الدنيا، أي عدم استيلاء حبها على قلبه أمر مرغوب فيه.
وأشارت هذه الآية: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا.. إلى أن منكري البعث والقيامة تعظم رغبتهم في الدنيا وتحصيل لذاتها، فذكر الله تعالى هذه الآية تنبيها على خساستها، ولكن يلاحظ أن هذه الحياة نفسها لا يمكن ذمها لأنها بإرادة الله وحكمته، وخلقه وإيجاده، ولأنه لا يمكن التوصل إلى السعادة الأخروية إلا فيها، وإنما المقصود أن الذات الحياة الدنيا وطيباتها لا دوام لها، ولا يبقى منها
180
عند انقراض الحياة إلا الحسرة والندامة، كاللهو واللعب يلتذ به، ثم بعد انتهائه لا يبقى منه إلا الندامة.
وأومأ قوله تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ بصدد مقارنتها بالحياة الدنيا إلى أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا، وأن خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة.
ونتيجة المقارنة بين الدنيا والآخرة يتبين منها أن سعادات الدنيا وخيراتها مشوبة بعيوب كثيرة ونقصانات عديدة، وأن سعادات الآخرة مبرأة عنها، مما يدل قطعا على أن الآخرة أكمل وأفضل وأبقى وأحرى وأولى.
حزن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لإعراض قومه وبيان تكذيب الرسل المتقدمين
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)
الإعراب:
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بالتشديد، أراد به: لا ينسبونك إلى الكذب لأنهم لا يعرفونك بذلك، وإنما يعرفونك بالصدق، وكانوا يسمونه «محمدا الأمين» قبل النبوة. وتقرأ بالتخفيف، ومعناه: لا يصادفونك كاذبا ولا يجدونك كاذبا.
وأومأ قوله تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ بصدد مقارنتها بالحياة الدنيا إلى أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا، وأن خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة.
ونتيجة المقارنة بين الدنيا والآخرة يتبين منها أن سعادات الدنيا وخيراتها مشوبة بعيوب كثيرة ونقصانات عديدة، وأن سعادات الآخرة مبرأة عنها، مما يدل قطعا على أن الآخرة أكمل وأفضل وأبقى وأحرى وأولى.
حزن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لإعراض قومه وبيان تكذيب الرسل المتقدمين
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)
الإعراب:
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بالتشديد، أراد به: لا ينسبونك إلى الكذب لأنهم لا يعرفونك بذلك، وإنما يعرفونك بالصدق، وكانوا يسمونه «محمدا الأمين» قبل النبوة. وتقرأ بالتخفيف، ومعناه: لا يصادفونك كاذبا ولا يجدونك كاذبا.
181
مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ: فيها وجهان: أحدهما- أن تكون وصفا لمصدر محذوف وتقديره: ولقد جاءك مجيء من نبأ المرسلين، ويكون الفعل جاءَكَ دالا على المصدر المحذوف، وهذا مذهب سيبويه. والثاني- أن تكون زائدة، وتقديره: ولقد جاءك نبأ المرسلين، وهو مذهب الأخفش.
فَإِنِ اسْتَطَعْتَ إن: شرط، وجوابه محذوف، وتقديره: إن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض فافعل ذلك.
البلاغة:
كُذِّبَتْ رُسُلٌ نوّن كلمة رُسُلٌ للتكثير والتفخيم.
المفردات اللغوية:
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ قد: للتحقيق، وإنه: الضمير للشأن لَيَحْزُنُكَ الحزن: ألم نفسي يحدث بسبب فقد محبوب، أو امتناع مرغوب، أو حدوث مكروه. الذين يقولون لك من التكذيب فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ في السر، لعلمهم أنك صادق، والتكذيب: الرمي بالكذب.
بِآياتِ اللَّهِ القرآن يَجْحَدُونَ الجحود: إنكار ما ثبت في القلب، أو إثبات ما نفي فيه. لِكَلِماتِ اللَّهِ هي وعده ووعيده، وعده للرسل بالنصر، ووعيده لأعدائهم بالخذلان، كما قال تعالى في إنجاز الوعد: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة ٥٨/ ٢١] وقوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات ٣٧/ ١٧١- ١٧٣] وقال عز وجل في إنزال الوعيد: أَمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر ٥٤/ ٤٤- ٤٥] نَبَإِ النبأ: هو الخبر ذو الشأن العظيم كَبُرَ عظم وشق عليه وقعة إِعْراضُهُمْ الإعراض: التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه أو احتقارا له، والمراد: إعراضهم عن الإسلام، وقد كبر على الرسول صلّى الله عليه وسلّم إعراضهم لحرصه عليهم فَإِنِ اسْتَطَعْتَ صار في مقدورك باستكمال الأسباب التي تمكنك من فعله أَنْ تَبْتَغِيَ تطلب ما فيه كلفة ومشقة، ويكون في الخير كابتغاء رضوان الله، وفي الشر كابتغاء الفتنة نَفَقاً سربا في الأرض، وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج أَوْ سُلَّماً مصعدا أو مرقاة، مأخوذ من السلامة، لأنه الذي يسلمك إلى مكان صعودك، وتذكيره أفصح من تأنيثه. بِآيَةٍ معجزة مما اقترحوا.
المعنى: أنك لا تستطيع ذلك، فاصبر حتى يحكم الله وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هدايتهم لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ولكن لم يشأ ذلك، فلم يؤمنوا فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ بذلك، الجهل هنا: ضد
فَإِنِ اسْتَطَعْتَ إن: شرط، وجوابه محذوف، وتقديره: إن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض فافعل ذلك.
البلاغة:
كُذِّبَتْ رُسُلٌ نوّن كلمة رُسُلٌ للتكثير والتفخيم.
المفردات اللغوية:
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ قد: للتحقيق، وإنه: الضمير للشأن لَيَحْزُنُكَ الحزن: ألم نفسي يحدث بسبب فقد محبوب، أو امتناع مرغوب، أو حدوث مكروه. الذين يقولون لك من التكذيب فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ في السر، لعلمهم أنك صادق، والتكذيب: الرمي بالكذب.
بِآياتِ اللَّهِ القرآن يَجْحَدُونَ الجحود: إنكار ما ثبت في القلب، أو إثبات ما نفي فيه. لِكَلِماتِ اللَّهِ هي وعده ووعيده، وعده للرسل بالنصر، ووعيده لأعدائهم بالخذلان، كما قال تعالى في إنجاز الوعد: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة ٥٨/ ٢١] وقوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات ٣٧/ ١٧١- ١٧٣] وقال عز وجل في إنزال الوعيد: أَمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر ٥٤/ ٤٤- ٤٥] نَبَإِ النبأ: هو الخبر ذو الشأن العظيم كَبُرَ عظم وشق عليه وقعة إِعْراضُهُمْ الإعراض: التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه أو احتقارا له، والمراد: إعراضهم عن الإسلام، وقد كبر على الرسول صلّى الله عليه وسلّم إعراضهم لحرصه عليهم فَإِنِ اسْتَطَعْتَ صار في مقدورك باستكمال الأسباب التي تمكنك من فعله أَنْ تَبْتَغِيَ تطلب ما فيه كلفة ومشقة، ويكون في الخير كابتغاء رضوان الله، وفي الشر كابتغاء الفتنة نَفَقاً سربا في الأرض، وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج أَوْ سُلَّماً مصعدا أو مرقاة، مأخوذ من السلامة، لأنه الذي يسلمك إلى مكان صعودك، وتذكيره أفصح من تأنيثه. بِآيَةٍ معجزة مما اقترحوا.
المعنى: أنك لا تستطيع ذلك، فاصبر حتى يحكم الله وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هدايتهم لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ولكن لم يشأ ذلك، فلم يؤمنوا فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ بذلك، الجهل هنا: ضد
182
العلم، وليس كل جهل عيبا لأن الإنسان محدود العلم، وإنما العيب بجهل ما يجب عليه علمه، أو ما ينبغي عليه معرفته من الكمال في حقه.
سبب النزول: نزول الآية (٣٣) :
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ: روى الترمذي والحاكم عن علي: أن أبا جهل قال للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله:
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وهذا مروي أيضا عن أبي ميسرة.
وقال السّدّي: التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام، فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هنا من يسمع كلامك غيري، فقال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنّدوة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعلى هذا فإن الروايتين متفقتان على أن الآية قد نزلت في أبي جهل.
وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، كان يكذب النّبي صلّى الله عليه وسلّم في العلانية، وإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب، ولا أحسبه إلا صادقا، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
المناسبة:
الآيات استمرار في مناقشة الكفار ومشركي مكة ودعوتهم إلى الإسلام،
سبب النزول: نزول الآية (٣٣) :
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ: روى الترمذي والحاكم عن علي: أن أبا جهل قال للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله:
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وهذا مروي أيضا عن أبي ميسرة.
وقال السّدّي: التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام، فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هنا من يسمع كلامك غيري، فقال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنّدوة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعلى هذا فإن الروايتين متفقتان على أن الآية قد نزلت في أبي جهل.
وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، كان يكذب النّبي صلّى الله عليه وسلّم في العلانية، وإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب، ولا أحسبه إلا صادقا، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
المناسبة:
الآيات استمرار في مناقشة الكفار ومشركي مكة ودعوتهم إلى الإسلام،
(١) أسباب النزول للواحدي ١٢٣، أسباب النزول للسيوطي.
183
ومحاجتهم في التوحيد والنبوة والبعث. ناقش الله تعالى أولا فريقا من الكفار ينكر نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان ينكر رسالة البشر، ويطلب أن يكون الرسول من جنس الملائكة. ثم ناقش ثانيا فريقا آخر ينكر البعث والحشر والنشر بعد الموت، ثم ذكر هنا الرد على من كان يؤذي الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالقول، متهما إياه بالكذب في الظاهر، أو أنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون.
التفسير والبيان:
يواسي الله نبيه في تكذيب قومه له، ومخالفتهم إياه، وإيلامه بالإعراض عن دعوته، فيقول: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ أي قد علمنا بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم، كما جاء في قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف ١٨/ ٦] وباخِعٌ نَفْسَكَ أي مهلكها، وقوله: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر ٣٥/ ٨].
ومنشأ هذا التكذيب في الظاهر: هو العناد والجحود، كما قال تعالى:
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ.. أي لا يتهمونك بالكذب في الواقع، فأنت الصادق الأمين في نظرهم، فما جربوا عليك كذبا ولا خيانة، ولكنهم يعاندون الحق، ويجحدون بآيات الله، ويردونها بصدودهم.
روى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لقي أبا جهل فصافحه، فقال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟ فقال: والله، إني لأعلم إنه لنبي، ولكن متى كنا لنبي عبد مناف تبعا؟ وتلا أبو يزيد: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.
وقال أبو صالح وقتادة: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون.
هذا الموقف من المشركين شبيه تماما بموقف اليهود والنصارى المتقدم بيانه،
التفسير والبيان:
يواسي الله نبيه في تكذيب قومه له، ومخالفتهم إياه، وإيلامه بالإعراض عن دعوته، فيقول: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ أي قد علمنا بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم، كما جاء في قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف ١٨/ ٦] وباخِعٌ نَفْسَكَ أي مهلكها، وقوله: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر ٣٥/ ٨].
ومنشأ هذا التكذيب في الظاهر: هو العناد والجحود، كما قال تعالى:
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ.. أي لا يتهمونك بالكذب في الواقع، فأنت الصادق الأمين في نظرهم، فما جربوا عليك كذبا ولا خيانة، ولكنهم يعاندون الحق، ويجحدون بآيات الله، ويردونها بصدودهم.
روى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لقي أبا جهل فصافحه، فقال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟ فقال: والله، إني لأعلم إنه لنبي، ولكن متى كنا لنبي عبد مناف تبعا؟ وتلا أبو يزيد: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.
وقال أبو صالح وقتادة: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون.
هذا الموقف من المشركين شبيه تماما بموقف اليهود والنصارى المتقدم بيانه،
184
كل منهم يعلم حقيقة أن محمدا رسول الله، ولكنهم يعارضون الحق ويقاومونه عنادا منهم واستكبارا وحفاظا على مراكزهم بين الناس.
لهذا فلا تحزن أيها الرسول عليهم، واصبر على تكذيبهم وإيذائهم، كما صبر رسل الله قبلك وكما أوذوا، حتى يتوج الله جهودك بالفوز والغلبة، ويكلل مساعيك بتبليغ دعوتك بالنصر والانتقام من أعدائك المكذبين، كما نصر رسله الكرام السابقين.
ثم أكد تعالى هذا النصر وإنجازه لك كما نصر الرسل، فقال: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا تغيير ولا خلف في وعد الله ووعيده، فوعد الله بالنصر في الدنيا والآخرة نافذ منجز لعباده المؤمنين، وكذا وعيده لا حق بالكافرين، كما ذكرت من آيات مماثلة في بيان المفردات.
ونظير هذه قوله تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر ٣٥/ ٤] وقوله: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ [الحج ٢٢/ ٤٢].
والآية تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم بعد تسلية، وإرشاد إلى سنة شائعة في الرسل والأمم، وما على النبي إلا الصبر على الأذى والإعراض كما قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف ٤٦/ ٣٥] وقال أيضا: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا [المزمل ٧٣/ ١٠].
وقد تحقق فعلا أثر الصبر، ونجحت دعوة الإسلام، وانتشرت في المشارق والمغارب، وظهرت حكمة تكرار التسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأمثال هذه الآيات مع الأمر بالصبر مرارا وتكرارا لأن التأسي والاصطبار يهوّن المصائب، ويؤذن بالفرج: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الانشراح ٩٤/ ٥- ٦].
لهذا فلا تحزن أيها الرسول عليهم، واصبر على تكذيبهم وإيذائهم، كما صبر رسل الله قبلك وكما أوذوا، حتى يتوج الله جهودك بالفوز والغلبة، ويكلل مساعيك بتبليغ دعوتك بالنصر والانتقام من أعدائك المكذبين، كما نصر رسله الكرام السابقين.
ثم أكد تعالى هذا النصر وإنجازه لك كما نصر الرسل، فقال: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا تغيير ولا خلف في وعد الله ووعيده، فوعد الله بالنصر في الدنيا والآخرة نافذ منجز لعباده المؤمنين، وكذا وعيده لا حق بالكافرين، كما ذكرت من آيات مماثلة في بيان المفردات.
ونظير هذه قوله تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر ٣٥/ ٤] وقوله: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ [الحج ٢٢/ ٤٢].
والآية تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم بعد تسلية، وإرشاد إلى سنة شائعة في الرسل والأمم، وما على النبي إلا الصبر على الأذى والإعراض كما قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف ٤٦/ ٣٥] وقال أيضا: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا [المزمل ٧٣/ ١٠].
وقد تحقق فعلا أثر الصبر، ونجحت دعوة الإسلام، وانتشرت في المشارق والمغارب، وظهرت حكمة تكرار التسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأمثال هذه الآيات مع الأمر بالصبر مرارا وتكرارا لأن التأسي والاصطبار يهوّن المصائب، ويؤذن بالفرج: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الانشراح ٩٤/ ٥- ٦].
185
ثم أكدّ لله تعالى عدم تبديل كلماته بقوله: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي ولقد أخبرناك من أخبار المرسلين التي تفيد تكذيب الناس لهم وصبرهم ثم نصر الله لهم كما قال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر ٤٠/ ٥١] وقال أيضا: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم ٣٠/ ٤٧] والنصر مقيد كما هو واضح في هذه الآية وغيرها بشرط توافر الإيمان الصحيح وصدق المؤمنين، كما قال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج ٢٢/ ٤٠] وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد ٤٧/ ٧].
وأراد الله أن يستأصل شدة وقع الحزن والألم على قلب النّبي صلّى الله عليه وسلّم بسبب إعراض قومه عن دعوته، فقال له: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ... أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك، فإن استطعت أن تطلب لنفسك نفقا في أعماق الأرض، فتسير فيه، أو سلّما في أجواء السماء، فترقى فيها إلى ما فوقها، فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك، فأت بها، ولكنك مجرد رسول من عندنا، لا تستطيع شيئا إلا بإرادتنا، وكل رسول لا يقدر على شيء أبدا مما يعجز عنه البشر إلا بدعم من الله عز وجل.
ومن أمثلة اقتراحاتهم الإتيان بمعجزات مادية محسوسة كما طلب اليهود تماما:
تفجير ينبوع في الأرض، أو تنزيل كتاب من السماء ونحو ذلك، كما قال تعالى حاكيا مطالبهم: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ، حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ، قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ٩٠- ٩٣] أي أنك بشر لا تقدر على شيء مما يعجز عنه سائر البشر، ولا يستطيع إيجاده غير الله تعالى.
[الروم ٣٠/ ٤٧] والنصر مقيد كما هو واضح في هذه الآية وغيرها بشرط توافر الإيمان الصحيح وصدق المؤمنين، كما قال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج ٢٢/ ٤٠] وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد ٤٧/ ٧].
وأراد الله أن يستأصل شدة وقع الحزن والألم على قلب النّبي صلّى الله عليه وسلّم بسبب إعراض قومه عن دعوته، فقال له: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ... أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك، فإن استطعت أن تطلب لنفسك نفقا في أعماق الأرض، فتسير فيه، أو سلّما في أجواء السماء، فترقى فيها إلى ما فوقها، فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك، فأت بها، ولكنك مجرد رسول من عندنا، لا تستطيع شيئا إلا بإرادتنا، وكل رسول لا يقدر على شيء أبدا مما يعجز عنه البشر إلا بدعم من الله عز وجل.
ومن أمثلة اقتراحاتهم الإتيان بمعجزات مادية محسوسة كما طلب اليهود تماما:
تفجير ينبوع في الأرض، أو تنزيل كتاب من السماء ونحو ذلك، كما قال تعالى حاكيا مطالبهم: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ، حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ، قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ٩٠- ٩٣] أي أنك بشر لا تقدر على شيء مما يعجز عنه سائر البشر، ولا يستطيع إيجاده غير الله تعالى.
186
كل ذلك مرهون بإرادة الله ومشيئته، فلو شاء الله تعالى هدايتهم، لهداهم، بأن يخلق فيهم الإيمان كالملائكة، أو بأن يخلقهم مستعدين للإذعان للحق والإقرار بهدايات الرسل وما جاؤوا به من خير للعالم، ولكن شاء الله اختلافهم وتفاوتهم واختبارهم، كما قال تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس ١٠/ ٩٩] وقال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ...
[هود ١١/ ١١٨- ١١٩].
قال ابن عباس في قوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول.
وإذا عرفت يا محمد سنة الله في خلق الإنسان، وأنه لا تبديل لخلق الله، فلا تكونن أحد الجاهلين لسننه في ذلك، فتتأمل ما يكون مخالفا تلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية.
فقه الحياة أو الأحكام:
الحقيقة المستقرة في أذهان الكفار الذين عادوا دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صادق أمين، ما عرفوا عليه كذبا ولا خيانة، لذا فإنهم لا ينسبون إليه الكذب في الأمر الواقع نفسه، ولكنهم يزعمون أن ما جاء به من أخبار الغيب والإيمان بالبعث والجزاء كذب غير واقع. قال الرازي: ظاهر هذه الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ولكنهم يجحدون بآيات الله، ثم ذكر أربعة وجوه في نفي التكذيب وإثبات الجحود وهي:
١- إنهم ما كانوا يكذبونه في السر، ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية، ويجحدون القرآن والنبوة.
[هود ١١/ ١١٨- ١١٩].
قال ابن عباس في قوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول.
وإذا عرفت يا محمد سنة الله في خلق الإنسان، وأنه لا تبديل لخلق الله، فلا تكونن أحد الجاهلين لسننه في ذلك، فتتأمل ما يكون مخالفا تلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية.
فقه الحياة أو الأحكام:
الحقيقة المستقرة في أذهان الكفار الذين عادوا دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صادق أمين، ما عرفوا عليه كذبا ولا خيانة، لذا فإنهم لا ينسبون إليه الكذب في الأمر الواقع نفسه، ولكنهم يزعمون أن ما جاء به من أخبار الغيب والإيمان بالبعث والجزاء كذب غير واقع. قال الرازي: ظاهر هذه الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ولكنهم يجحدون بآيات الله، ثم ذكر أربعة وجوه في نفي التكذيب وإثبات الجحود وهي:
١- إنهم ما كانوا يكذبونه في السر، ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية، ويجحدون القرآن والنبوة.
187
٢- إنهم لا يقولون: إنه كذاب لأنهم جربوه الدهر الطويل، وما وجدوا منه الكذب البتة، وسموه بالأمين، ولكنهم جحدوا صحة النبوة والرسالة، واعتقدوا أنه تخيل كونه رسولا من عند الله.
٣- إن القوم ما كذبوك، وإنما كذبوني، لأن تكذيب الرسول كتكذيب المرسل، فهم بالرغم من ظهور المعجزات المؤيدة لدعواه، كذبوه، فكان تكذيبهم تكذيبا لآيات الله المؤيدة له.
٤- إنهم لا يخصونك بالتكذيب، بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا، ويقولون في كل معجزة: إنها سحر، فهم بهذا يكذبون جميع الأنبياء والمرسلين «١».
أما المواساة والتسلية للنبي وأمره بالصبر كما أمر جميع الرسل فهي أمور ضرورية للنجاح والغلبة. وفي الآية بشارة للرسول صلّى الله عليه وسلّم مؤكدة للتسلية بأن الله سينصره على القوم المكذبين الظالمين.
ولا تبديل لوعد الله بالنصر لرسله والمؤمنين، ووعيده للكافرين والفاسقين والعصاة، فذلك مبدأ عام اقتضاه العدل والحكمة وضرورة التفرقة بين الطائعين والمخالفين.
وأما محاولات تحقيق مطالب واقتراحات المشركين عن غير طريق الله، على سبيل الافتراض، فإنها فاشلة خائبة لأن كل معجزة تظهر على يد نبي أو رسول تكون بإرادة الله وإذنه، ولولا ذلك لما حدثت.
وأمر الهداية مرجعه إلى الله، فلو شاء لهدى الناس جميعا، بأن خلقهم مؤمنين وطبعهم عليه، وكذلك كفرهم بمشيئة الله.
٣- إن القوم ما كذبوك، وإنما كذبوني، لأن تكذيب الرسول كتكذيب المرسل، فهم بالرغم من ظهور المعجزات المؤيدة لدعواه، كذبوه، فكان تكذيبهم تكذيبا لآيات الله المؤيدة له.
٤- إنهم لا يخصونك بالتكذيب، بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا، ويقولون في كل معجزة: إنها سحر، فهم بهذا يكذبون جميع الأنبياء والمرسلين «١».
أما المواساة والتسلية للنبي وأمره بالصبر كما أمر جميع الرسل فهي أمور ضرورية للنجاح والغلبة. وفي الآية بشارة للرسول صلّى الله عليه وسلّم مؤكدة للتسلية بأن الله سينصره على القوم المكذبين الظالمين.
ولا تبديل لوعد الله بالنصر لرسله والمؤمنين، ووعيده للكافرين والفاسقين والعصاة، فذلك مبدأ عام اقتضاه العدل والحكمة وضرورة التفرقة بين الطائعين والمخالفين.
وأما محاولات تحقيق مطالب واقتراحات المشركين عن غير طريق الله، على سبيل الافتراض، فإنها فاشلة خائبة لأن كل معجزة تظهر على يد نبي أو رسول تكون بإرادة الله وإذنه، ولولا ذلك لما حدثت.
وأمر الهداية مرجعه إلى الله، فلو شاء لهدى الناس جميعا، بأن خلقهم مؤمنين وطبعهم عليه، وكذلك كفرهم بمشيئة الله.
(١) تفسير الرازي: ١٢/ ٢٠٤- ٢٠٥
188
فلا تكونن أيها الرسول بحرصك على إسلام قومك، ومحاولة تلبية مطالبهم وتنفيذ مقترحاتهم من الجاهلين بسنن الله في خلقه، ولا تحزن على كفرهم فتقارب حال الجاهلين.
ولا يشتد حزنك عليهم إذا كانوا لا يؤمنون لأنك لا تستطيع هدايتهم.
رفض المشركين دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم ومطالبتهم بتنزيل آية
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوانُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧)
الإعراب:
وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ: الْمَوْتى: في موضع نصب بفعل مقدر دل عليه يَبْعَثُهُمُ وتقديره: يبعث الله الموتى يبعثهم، كقولهم، مررت بزيد وعمرا كلمته. أي وكلّمت عمرا كلمته، فتكون قد عطفت جملة فعلية على جملة فعلية، فيكون معطوفا على قوله: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ. ويجوز أن يكون الْمَوْتى في موضع رفع، كقولهم: مررت بزيد وعمرو كلمته، والوجه الأول وهو النصب أوجه.
البلاغة:
وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فيه استعارة لأن الموتى عبارة عن الكفار لموت قلوبهم.
المفردات اللغوية:
يَسْتَجِيبُ دعاءك إلى الإيمان، يقال: أجاب الداعي واستجاب له، واستجاب دعاءه:
لبّاه وقام بما دعاه إليه تدريجيا، والفرق بين يستجيب ويجيب أن الأول فيه قبول لما دعي إليه والثاني قد يكون بالمخالفة. الَّذِينَ يَسْمَعُونَ سماع تفهم واعتبار وَالْمَوْتى أي الكفار، شبههم بهم في عدم السماع يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ في الآخرة ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ يردون، فيجازيهم بأعمالهم.
ولا يشتد حزنك عليهم إذا كانوا لا يؤمنون لأنك لا تستطيع هدايتهم.
رفض المشركين دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم ومطالبتهم بتنزيل آية
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوانُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧)
الإعراب:
وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ: الْمَوْتى: في موضع نصب بفعل مقدر دل عليه يَبْعَثُهُمُ وتقديره: يبعث الله الموتى يبعثهم، كقولهم، مررت بزيد وعمرا كلمته. أي وكلّمت عمرا كلمته، فتكون قد عطفت جملة فعلية على جملة فعلية، فيكون معطوفا على قوله: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ. ويجوز أن يكون الْمَوْتى في موضع رفع، كقولهم: مررت بزيد وعمرو كلمته، والوجه الأول وهو النصب أوجه.
البلاغة:
وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فيه استعارة لأن الموتى عبارة عن الكفار لموت قلوبهم.
المفردات اللغوية:
يَسْتَجِيبُ دعاءك إلى الإيمان، يقال: أجاب الداعي واستجاب له، واستجاب دعاءه:
لبّاه وقام بما دعاه إليه تدريجيا، والفرق بين يستجيب ويجيب أن الأول فيه قبول لما دعي إليه والثاني قد يكون بالمخالفة. الَّذِينَ يَسْمَعُونَ سماع تفهم واعتبار وَالْمَوْتى أي الكفار، شبههم بهم في عدم السماع يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ في الآخرة ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ يردون، فيجازيهم بأعمالهم.
189
وَقالُوا أي كفار مكةهلا وهي تفيد الحث على حصول ما بعدها آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ الآية: المعجزة المخالفة لسنن الله في خلقه كناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن نزولها بلاء عليهم لأنهم سيهلكون إن جحدوها.
المناسبة:
نزلت هذه الآية بعد وقعة حمراء الأسد بعد وقعة أحد، ولمّا بيّن الله تعالى في الآيات السابقة أن الناس صنفان متفاوتان في الاستعداد لقبول الهداية الإلهية: صنف يختار الهدى على الضلال، وصنف بالعكس، بيّن هنا أن الصنف الأول: هم الذين يسمعون الدلائل والبينات سماع تدبر وفهم، وأن الصنف الثاني: لا يفقهون ولا يسمعون، وإنما هم كالأموات.
التفسير والبيان:
لا يكبر عليك إعراض هؤلاء المعرضين عنك وعن الاستجابة لدعائك إذا دعوتهم إلى توحيد ربهم والإقرار بنبوتك فإنه لا يستجيب لدعائك إلا الذين يسمعون كلام الله سماع فهم وتدبر ووعي، فيصغون إلى الحق ويتبعون الرشاد.
أما الكفار المعرضون الذين تحرص على أن يصدقوك: فهم في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتا، ولا يعقلون دعاء، ولا يفقهون قولا لأنهم لا يتدبرون حجج الله، ولا يعتبرون آياته، ولا يتذكرون، فالسبب في عدم قبولهم الإيمان وعدم تركهم الكفر أنهم لا يفكرون تفكيرا صحيحا فيما أنزل الله، فصاروا بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون، أي إنهم موتى القلوب، فشبههم الله بأموات الأجساد.
والقصد من قوله: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ إيراد مثل لقدرته تعالى على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة، ثم إليه يرجعون للجزاء، فالله وحده القادر على إحيائهم بالإيمان، وأنت لا تقدر على هدايتهم.
المناسبة:
نزلت هذه الآية بعد وقعة حمراء الأسد بعد وقعة أحد، ولمّا بيّن الله تعالى في الآيات السابقة أن الناس صنفان متفاوتان في الاستعداد لقبول الهداية الإلهية: صنف يختار الهدى على الضلال، وصنف بالعكس، بيّن هنا أن الصنف الأول: هم الذين يسمعون الدلائل والبينات سماع تدبر وفهم، وأن الصنف الثاني: لا يفقهون ولا يسمعون، وإنما هم كالأموات.
التفسير والبيان:
لا يكبر عليك إعراض هؤلاء المعرضين عنك وعن الاستجابة لدعائك إذا دعوتهم إلى توحيد ربهم والإقرار بنبوتك فإنه لا يستجيب لدعائك إلا الذين يسمعون كلام الله سماع فهم وتدبر ووعي، فيصغون إلى الحق ويتبعون الرشاد.
أما الكفار المعرضون الذين تحرص على أن يصدقوك: فهم في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتا، ولا يعقلون دعاء، ولا يفقهون قولا لأنهم لا يتدبرون حجج الله، ولا يعتبرون آياته، ولا يتذكرون، فالسبب في عدم قبولهم الإيمان وعدم تركهم الكفر أنهم لا يفكرون تفكيرا صحيحا فيما أنزل الله، فصاروا بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون، أي إنهم موتى القلوب، فشبههم الله بأموات الأجساد.
والقصد من قوله: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ إيراد مثل لقدرته تعالى على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة، ثم إليه يرجعون للجزاء، فالله وحده القادر على إحيائهم بالإيمان، وأنت لا تقدر على هدايتهم.
190
ومن مظاهر عنادهم: مطالبتهم بإنزال آية من ربهم خارقة للعادة، كالناقة والعصا والمائدة، وتفجير الينابيع، وإنشاء البساتين المخضرة المحفوفة بأشجار النخيل والعنب، وإسقاط السماء قطعا عليهم، والإتيان بوفد أو جماعة من الملائكة، وإيجاد بيت من زخرف، وإنزال كتاب من السماء.
فرد الله عليهم بقوله: قُلْ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ... أي قل لهم أيها النبي: إن الله تعالى قادر على تنزيل آية مما اقترحوا، ولكن حكمته تقتضي تأخير ذلك، لأنه لو أنزلها على وفق ما طلبوا، ثم لم يؤمنوا، لعاجلهم بالعقوبة، كما فعل بالأمم السابقة، كما قال تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً، فَظَلَمُوا بِها، وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء ١٧/ ٥٩] وقال: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً، فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء ٢٦/ ٤].
ومعنى قوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ: أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية، ولكن حكمته اقتضت صرفه عن إنزالها، وأكثر هؤلاء القوم لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل التعنت والتعصب، فإن الله تعالى لا يعطيهم مطلوبهم، ولو كانوا عالمين عاقلين لطلبوا ذلك على سبيل طلب الفائدة، وحينئذ يعطيهم الله المطلوب على أكمل الوجوه، فإنزال آية مما اقترحوا يكون سببا في هلاكهم إن لم يؤمنوا.
يعني أن طلبهم آية مادية مع وجود هذه الآيات البينات القرآنية إنما هو محاولة تعجيز الرسول، فلو فرض حدوثها لما آمنوا ولقالوا: إنها سحر، كما قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام ٦/ ٧] وقالوا: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا، وَيَقُولُوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر ٥٤/ ٢].
فرد الله عليهم بقوله: قُلْ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ... أي قل لهم أيها النبي: إن الله تعالى قادر على تنزيل آية مما اقترحوا، ولكن حكمته تقتضي تأخير ذلك، لأنه لو أنزلها على وفق ما طلبوا، ثم لم يؤمنوا، لعاجلهم بالعقوبة، كما فعل بالأمم السابقة، كما قال تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً، فَظَلَمُوا بِها، وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء ١٧/ ٥٩] وقال: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً، فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء ٢٦/ ٤].
ومعنى قوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ: أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية، ولكن حكمته اقتضت صرفه عن إنزالها، وأكثر هؤلاء القوم لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل التعنت والتعصب، فإن الله تعالى لا يعطيهم مطلوبهم، ولو كانوا عالمين عاقلين لطلبوا ذلك على سبيل طلب الفائدة، وحينئذ يعطيهم الله المطلوب على أكمل الوجوه، فإنزال آية مما اقترحوا يكون سببا في هلاكهم إن لم يؤمنوا.
يعني أن طلبهم آية مادية مع وجود هذه الآيات البينات القرآنية إنما هو محاولة تعجيز الرسول، فلو فرض حدوثها لما آمنوا ولقالوا: إنها سحر، كما قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام ٦/ ٧] وقالوا: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا، وَيَقُولُوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر ٥٤/ ٢].
191
فقه الحياة أو الأحكام:
الاستجابة لدعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم تتطلب سماع آيات القرآن سماع إصغاء وتفهم وإرادة الحق، وهذا منهج المؤمنين الذين يقبلون ما يسمعون، فينتفعون به ويعملون.
أما الإعراض عن الدعوة فمنشؤه تعطيل طاقات الحواس، فهم لا يسمعون سماع تدبر، ولا يتفهمون الآيات فهم إمعان وروية، فصاروا كأنهم موتى لموت قلوبهم، لا موتى أجساد، وهذا سبيل الكفار.
وأما مطالبتهم تنزيل آية مادية محسوسة من ربهم فليس إلا تعنتا بعد ظهور البراهين، وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة مثله، لما فيه من الإخبار بالمغيبات، وسلامته من التناقض، وسمو نظمه.
ولكن أكثرهم لا يعلمون أن الله عز وجل إنما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة لعباده، ولا ينزل آية بسبب الطلب المتعنت المتعصب، أو لتعجيز الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه لا يقدر على شيء من إنزال الآيات أو غيرها إلا بمشيئة الله وإرادته.
كمال علم الله وتمام قدرته وعدم التفريط بشيء في القرآن
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)
الاستجابة لدعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم تتطلب سماع آيات القرآن سماع إصغاء وتفهم وإرادة الحق، وهذا منهج المؤمنين الذين يقبلون ما يسمعون، فينتفعون به ويعملون.
أما الإعراض عن الدعوة فمنشؤه تعطيل طاقات الحواس، فهم لا يسمعون سماع تدبر، ولا يتفهمون الآيات فهم إمعان وروية، فصاروا كأنهم موتى لموت قلوبهم، لا موتى أجساد، وهذا سبيل الكفار.
وأما مطالبتهم تنزيل آية مادية محسوسة من ربهم فليس إلا تعنتا بعد ظهور البراهين، وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة مثله، لما فيه من الإخبار بالمغيبات، وسلامته من التناقض، وسمو نظمه.
ولكن أكثرهم لا يعلمون أن الله عز وجل إنما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة لعباده، ولا ينزل آية بسبب الطلب المتعنت المتعصب، أو لتعجيز الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه لا يقدر على شيء من إنزال الآيات أو غيرها إلا بمشيئة الله وإرادته.
كمال علم الله وتمام قدرته وعدم التفريط بشيء في القرآن
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)
192
الإعراب:
ما مِنْ دَابَّةٍ وما... مِنْ شَيْءٍ من في المكانين: صلة زائدة تفيد التأكيد.
البلاغة:
يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ أكد الطيران بالجناحين وهو لا يكون عادة إلا بهما، لدفع توهم المجاز، لأن الطائر قد يستعمل مجازا للعمل كقوله: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ. صُمٌّ وَبُكْمٌ تشبيه بليغ، أي كالصم البكم في عدم السماع وعدم الكلام، فحذفت منه الأداة ووجه الشبه.
المفردات اللغوية:
دَابَّةٍ الدابة: كل ما يدب على الأرض من إنسان أو حيوان. والدبّ: المشي الخفيف طائِرٍ الطائر: كل ذي جناح يطير في الهواء، وجمعه طير. أُمَمٌ جمع أمة، وهي كل جماعة يجمعهم أمر كدين أو لغة أو صفة أو عمل أو زمان أو مكان. والمقصود من قوله: أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أنها كالإنسان في تدبير خلقها ورزقها وأحوالها ما فَرَّطْنا ما تركنا، التفريط في الأمر: التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت فِي الْكِتابِ هنا: اللوح المحفوظ يُحْشَرُونَ الحشر: الجمع والسّوق، وبعد الحشر يقضي الله بينهم، ويقتص للجماء من القرناء، ثم يقول لأنواع الحيوان: كونوا ترابا. بِآياتِنا القرآن صُمٌّ عن سماعها سماع قبول وَبُكْمٌ عن النطق بالحق فِي الظُّلُماتِ المراد هنا الكفر صِراطٍ طريق، والطريق المستقيم: هو دين الإسلام.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أنه قادر على إنزال الآيات وسائر المعجزات وأنه لو كان إنزالها مصلحة لهم لفعلها ولأظهرها، ذكر الدليل على ذلك: وهو رعايته وعنايته ورحمته وفضله على كل ما يدب على الأرض، فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات، لم يبخل بإظهار هذه المعجزات لو كان فيها مصلحة للمكلفين.
التفسير والبيان:
لا يوجد نوع من أنواع الدواب والطيور إلا وهي أمم مخلوقة أمثالكم أيها الناس وهي أيضا أصناف مصنفة مثلكم، لها أرزاقها وآجالها ونظامها وأحوالها
ما مِنْ دَابَّةٍ وما... مِنْ شَيْءٍ من في المكانين: صلة زائدة تفيد التأكيد.
البلاغة:
يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ أكد الطيران بالجناحين وهو لا يكون عادة إلا بهما، لدفع توهم المجاز، لأن الطائر قد يستعمل مجازا للعمل كقوله: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ. صُمٌّ وَبُكْمٌ تشبيه بليغ، أي كالصم البكم في عدم السماع وعدم الكلام، فحذفت منه الأداة ووجه الشبه.
المفردات اللغوية:
دَابَّةٍ الدابة: كل ما يدب على الأرض من إنسان أو حيوان. والدبّ: المشي الخفيف طائِرٍ الطائر: كل ذي جناح يطير في الهواء، وجمعه طير. أُمَمٌ جمع أمة، وهي كل جماعة يجمعهم أمر كدين أو لغة أو صفة أو عمل أو زمان أو مكان. والمقصود من قوله: أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أنها كالإنسان في تدبير خلقها ورزقها وأحوالها ما فَرَّطْنا ما تركنا، التفريط في الأمر: التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت فِي الْكِتابِ هنا: اللوح المحفوظ يُحْشَرُونَ الحشر: الجمع والسّوق، وبعد الحشر يقضي الله بينهم، ويقتص للجماء من القرناء، ثم يقول لأنواع الحيوان: كونوا ترابا. بِآياتِنا القرآن صُمٌّ عن سماعها سماع قبول وَبُكْمٌ عن النطق بالحق فِي الظُّلُماتِ المراد هنا الكفر صِراطٍ طريق، والطريق المستقيم: هو دين الإسلام.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أنه قادر على إنزال الآيات وسائر المعجزات وأنه لو كان إنزالها مصلحة لهم لفعلها ولأظهرها، ذكر الدليل على ذلك: وهو رعايته وعنايته ورحمته وفضله على كل ما يدب على الأرض، فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات، لم يبخل بإظهار هذه المعجزات لو كان فيها مصلحة للمكلفين.
التفسير والبيان:
لا يوجد نوع من أنواع الدواب والطيور إلا وهي أمم مخلوقة أمثالكم أيها الناس وهي أيضا أصناف مصنفة مثلكم، لها أرزاقها وآجالها ونظامها وأحوالها
193
وطبائعها، والله تعالى يدبرها ويرعى شأنها ويحسن إليها.
وخص دواب الأرض بالذكر لأنها المرئية للكفار، أما ملكوت السموات ففيه ما لا يعلمه إلا الله وحده، وفيه من الكائنات الحية ما لا يدرك حقيقته إلا الله، كما قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ، وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ [الشورى ٤٢/ ٢٩].
ولم يترك الله شيئا أبدا إلا ذكره في الكتاب: وهو اللوح المحفوظ: (وهو شيء مخلوق في عالم الغيب دوّن فيه كل ما كان وما سيكون من مقادير الخلق إلى يوم القيامة) أي أن علم جميع المخلوقات عند الله، ولا ينسى واحدا منها من رزقه وتدبيره، سواء كان في البر أو في البحر أو في الجو، كقوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [هود ١١/ ٦]. والأظهر عند الرازي وجماعة: أن المراد بالكتاب: القرآن لأن اللام للعهد السابق، والمعهود السابق: هو القرآن.
ثم يبعث الله جميع تلك الأمم من الناس والحيوان ويجمعها إليه يوم القيامة، ويجازي كلا منها، كما قال: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير ٨١/ ٥].
روى الإمام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى شاتين تنتطحان فقال: «يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان؟» قال: لا، قال: «لكن الله يدري وسيقضي بينهما».
وذكر عبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة».
وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ قال: يحشر الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا، فلذلك يقول الكافر: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ ٧٨/ ٤٠].
وخص دواب الأرض بالذكر لأنها المرئية للكفار، أما ملكوت السموات ففيه ما لا يعلمه إلا الله وحده، وفيه من الكائنات الحية ما لا يدرك حقيقته إلا الله، كما قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ، وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ [الشورى ٤٢/ ٢٩].
ولم يترك الله شيئا أبدا إلا ذكره في الكتاب: وهو اللوح المحفوظ: (وهو شيء مخلوق في عالم الغيب دوّن فيه كل ما كان وما سيكون من مقادير الخلق إلى يوم القيامة) أي أن علم جميع المخلوقات عند الله، ولا ينسى واحدا منها من رزقه وتدبيره، سواء كان في البر أو في البحر أو في الجو، كقوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [هود ١١/ ٦]. والأظهر عند الرازي وجماعة: أن المراد بالكتاب: القرآن لأن اللام للعهد السابق، والمعهود السابق: هو القرآن.
ثم يبعث الله جميع تلك الأمم من الناس والحيوان ويجمعها إليه يوم القيامة، ويجازي كلا منها، كما قال: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير ٨١/ ٥].
روى الإمام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى شاتين تنتطحان فقال: «يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان؟» قال: لا، قال: «لكن الله يدري وسيقضي بينهما».
وذكر عبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة».
وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ قال: يحشر الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا، فلذلك يقول الكافر: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ ٧٨/ ٤٠].
194
أما الكافرون الذين كذّبوا بآيات الله الدالة على الوحدانية وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فمثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم: وهو الذي لا يسمع، أبكم: وهو الذي لا يتكلم، لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع قبول:
ولا ينطقون بما عرفوا من الحق، وهم يتخبطون في ظلمات: ظلمة الشرك والوثنية، وظلمة عادات الجاهلية، وظلمة الجهل والأمية، فكيف يهتدي مثل الأصم والأبكم إلى الطريق، أو يخرج مما هو فيه؟ كقوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة ٢/ ١٧- ١٨] فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكير فيه.
والله هو المتصرف في خلقه بما شاء، فمن شاء إضلاله أضله ولم يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف، ومن شاء هدايته لطف به، وهداه إلى الصراط المستقيم وهو الإسلام لأنه من أهل اللطف. والقول باللطف مذهب المعتزلة.
فالإضلال والهداية بمشيئة الله حسب علمه أزلا بالمخلوقات، فمن أضله فلإعراضه عن دعوة الله الحق، واستكباره عن النظر في الدلائل الموصلة إلى الرشاد، ومن هداه، أي وفّقه إلى التفكير الجادّ واستخدام السمع والبصر والفؤاد أي العقل، فلأنه نظر نظرة مستقلة، دون تأثر بعوامل التقليد الموروثة.
فقه الحياة أو الأحكام:
الله قادر على كلّ شيء، رحيم بالمخلوقات، فكل الدواب والطيور جماعات مثل الجماعات الإنسانية، في أن الله خلقهم، وتكفّل بأرزاقهم، فلا ينبغي أن تظلموهم، أو تتجاوزوا فيهم ما أمرتم به، قال الزجاج في قوله: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أي في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص.
وهذا يرشدنا إلى ضرورة البحث والدرس في طبائع الحيوان، والاستفادة
ولا ينطقون بما عرفوا من الحق، وهم يتخبطون في ظلمات: ظلمة الشرك والوثنية، وظلمة عادات الجاهلية، وظلمة الجهل والأمية، فكيف يهتدي مثل الأصم والأبكم إلى الطريق، أو يخرج مما هو فيه؟ كقوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة ٢/ ١٧- ١٨] فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكير فيه.
والله هو المتصرف في خلقه بما شاء، فمن شاء إضلاله أضله ولم يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف، ومن شاء هدايته لطف به، وهداه إلى الصراط المستقيم وهو الإسلام لأنه من أهل اللطف. والقول باللطف مذهب المعتزلة.
فالإضلال والهداية بمشيئة الله حسب علمه أزلا بالمخلوقات، فمن أضله فلإعراضه عن دعوة الله الحق، واستكباره عن النظر في الدلائل الموصلة إلى الرشاد، ومن هداه، أي وفّقه إلى التفكير الجادّ واستخدام السمع والبصر والفؤاد أي العقل، فلأنه نظر نظرة مستقلة، دون تأثر بعوامل التقليد الموروثة.
فقه الحياة أو الأحكام:
الله قادر على كلّ شيء، رحيم بالمخلوقات، فكل الدواب والطيور جماعات مثل الجماعات الإنسانية، في أن الله خلقهم، وتكفّل بأرزاقهم، فلا ينبغي أن تظلموهم، أو تتجاوزوا فيهم ما أمرتم به، قال الزجاج في قوله: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أي في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص.
وهذا يرشدنا إلى ضرورة البحث والدرس في طبائع الحيوان، والاستفادة
195
منها، فإن جميع ما في الأرض مخلوق لمصلحتنا ومنفعتنا.
ودل قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أي للجزاء على أن البهائم تحشر كما يحشر الناس يوم القيامة،
روى مسلم في صحيحة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء- التي لا قرن لها- من الشاة القرناء».
ودل قوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ أن كل أمة من الدواب وغيرها تهتدي لمصالحها، والكفار لا يهتدون ولا ينتفعون بأسماعهم وأبصارهم، وهم في ظلمات الكفر يتيهون.
وأرشد قوله: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ... إلى أن الضلالة والهداية إلى الإسلام بمشيئة الله، على وفق علمه وحكمته واطلاعه الأزلي على حال كل إنسان، والله شاء ضلال الكافر وأراده لينفذ فيه عدله، ولكن لم يأمره به، وإنما دعاه إلى الإيمان، وأراد هداية المؤمن القائم على دين الإسلام، لينفذ فيه فضله. والمشيئة في الآية راجعة إلى الذين كذبوا، فمنهم من يضله ومنهم من يهديه.
قال الرازي: وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الإضلال إلا لمن يستحق عقوبة، كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين. ومشيئة الهدى والضلال، وإن كانت مجملة في هذه الآية، إلا أنها مخصصة مفصلة في سائر الآيات، فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات «١»، أي أن المجمل الغامض يفسر في ضوء الواضح المعلل.
وأما دلالة قوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ فهي تختلف باختلاف القولين في تفسير الكتاب، فعلى القول بأن المراد منه: الكتاب المحفوظ في
ودل قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أي للجزاء على أن البهائم تحشر كما يحشر الناس يوم القيامة،
روى مسلم في صحيحة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء- التي لا قرن لها- من الشاة القرناء».
ودل قوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ أن كل أمة من الدواب وغيرها تهتدي لمصالحها، والكفار لا يهتدون ولا ينتفعون بأسماعهم وأبصارهم، وهم في ظلمات الكفر يتيهون.
وأرشد قوله: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ... إلى أن الضلالة والهداية إلى الإسلام بمشيئة الله، على وفق علمه وحكمته واطلاعه الأزلي على حال كل إنسان، والله شاء ضلال الكافر وأراده لينفذ فيه عدله، ولكن لم يأمره به، وإنما دعاه إلى الإيمان، وأراد هداية المؤمن القائم على دين الإسلام، لينفذ فيه فضله. والمشيئة في الآية راجعة إلى الذين كذبوا، فمنهم من يضله ومنهم من يهديه.
قال الرازي: وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الإضلال إلا لمن يستحق عقوبة، كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين. ومشيئة الهدى والضلال، وإن كانت مجملة في هذه الآية، إلا أنها مخصصة مفصلة في سائر الآيات، فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات «١»، أي أن المجمل الغامض يفسر في ضوء الواضح المعلل.
وأما دلالة قوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ فهي تختلف باختلاف القولين في تفسير الكتاب، فعلى القول بأن المراد منه: الكتاب المحفوظ في
(١) تفسير الرازي: ١٢/ ٢٢١، وانظر أيضا: ٢/ ٤٨- ٥٣
196
ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ
ﰧ
ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ
ﰨ
ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ
ﰩ
ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ
ﰪ
ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ
ﰫ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ
ﰬ
العرش، تكون الآية دالة على إحاطة علم الله بجميع أحوال المخلوقات كلا وتفصيلا تاما، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الطبراني: «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة».
وعلى القول الثاني الذي استظهره الرازي بأن المراد منه القرآن، تكون الآية دالة على كمال الشريعة وإحاطة القرآن بجميع أصول الأحكام ومبادئ الإسلام وأخلاق الدين.
اللجوء إلى الله وحده في الشدائد
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٠ الى ٤٥]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤)
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)
الإعراب:
قُلْ: أَرَأَيْتَكُمْ التاء هنا: ضمير مرفوع متصل في موضع رفع فاعل، والكاف والميم لمجرد الخطاب، ولا موضع لهما من الإعراب.
مِنْ قَبْلِكَ مِنْ: صلة زائدة.
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الطبراني: «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة».
وعلى القول الثاني الذي استظهره الرازي بأن المراد منه القرآن، تكون الآية دالة على كمال الشريعة وإحاطة القرآن بجميع أصول الأحكام ومبادئ الإسلام وأخلاق الدين.
اللجوء إلى الله وحده في الشدائد
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٠ الى ٤٥]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤)
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)
الإعراب:
قُلْ: أَرَأَيْتَكُمْ التاء هنا: ضمير مرفوع متصل في موضع رفع فاعل، والكاف والميم لمجرد الخطاب، ولا موضع لهما من الإعراب.
مِنْ قَبْلِكَ مِنْ: صلة زائدة.
197
البلاغة:
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فيه قصر صفة على موصوف، أي لا تدعون غيره لكشف الضر.
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ كناية عن إهلاكهم بعذاب الاستئصال.
المفردات اللغوية:
أَرَأَيْتَكُمْ أي أخبروني، وهو أسلوب عربي يفيد التعجب والاستغراب مما يأتي بعده السَّاعَةُ القيامة المشتملة على العذاب بغتة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الأصنام تنفعكم فادعوها.
فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي يزيل ما تدعونه إلى أن يكشفه عنكم من الضر ونحوه إِنْ شاءَ كشفه وَتَنْسَوْنَ تتركون ما تُشْرِكُونَ به من الأصنام فلا تدعونه. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ رسلا فكذبوهم بِالْبَأْساءِ بالشدة والعذاب والقوة وشدة الفقر، وتطلق أيضا على الحرب والمشقة، والبأس: الشدة في الحرب وَالضَّرَّاءِ من الضر: ضد النفع، وهو المرض يَتَضَرَّعُونَ يتذللون، والتضرع: إظهار الضراعة والخضوع بتكلف مُبْلِسُونَ متحسرون يائسون من النجاة دابِرُ الْقَوْمِ آخرهم الذي يكون في أدبارهم.
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى غاية جهل أولئك الكفار، وأن علمه تعالى محيط بما في الكون، أبان شيئا آخر من حال الكفرة وهو أنه إذا نزلت بهم بلية أو محنة، فإنهم يفزعون إلى الله تعالى ويلجأون إليه، ولا يتمردون على طاعته، وذلك تأثرا منهم بالفطرة التي أودع فيها توحيد الله والحاجة إليه.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه الفعال لما يريد، المتصرف في خلقه بما يشاء، وأنه لا معقب لحكمه، ولا يقدر أحد على صرف حكمه عن خلقه، بل هو وحده لا شريك له الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء.
قل أيها الرسول للمشركين: أخبروني إن أتاكم عذاب الله، مثل الذي نزل
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فيه قصر صفة على موصوف، أي لا تدعون غيره لكشف الضر.
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ كناية عن إهلاكهم بعذاب الاستئصال.
المفردات اللغوية:
أَرَأَيْتَكُمْ أي أخبروني، وهو أسلوب عربي يفيد التعجب والاستغراب مما يأتي بعده السَّاعَةُ القيامة المشتملة على العذاب بغتة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الأصنام تنفعكم فادعوها.
فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي يزيل ما تدعونه إلى أن يكشفه عنكم من الضر ونحوه إِنْ شاءَ كشفه وَتَنْسَوْنَ تتركون ما تُشْرِكُونَ به من الأصنام فلا تدعونه. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ رسلا فكذبوهم بِالْبَأْساءِ بالشدة والعذاب والقوة وشدة الفقر، وتطلق أيضا على الحرب والمشقة، والبأس: الشدة في الحرب وَالضَّرَّاءِ من الضر: ضد النفع، وهو المرض يَتَضَرَّعُونَ يتذللون، والتضرع: إظهار الضراعة والخضوع بتكلف مُبْلِسُونَ متحسرون يائسون من النجاة دابِرُ الْقَوْمِ آخرهم الذي يكون في أدبارهم.
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى غاية جهل أولئك الكفار، وأن علمه تعالى محيط بما في الكون، أبان شيئا آخر من حال الكفرة وهو أنه إذا نزلت بهم بلية أو محنة، فإنهم يفزعون إلى الله تعالى ويلجأون إليه، ولا يتمردون على طاعته، وذلك تأثرا منهم بالفطرة التي أودع فيها توحيد الله والحاجة إليه.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه الفعال لما يريد، المتصرف في خلقه بما يشاء، وأنه لا معقب لحكمه، ولا يقدر أحد على صرف حكمه عن خلقه، بل هو وحده لا شريك له الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء.
قل أيها الرسول للمشركين: أخبروني إن أتاكم عذاب الله، مثل الذي نزل
198
بأمثالكم من الأمم السابقة كالخسف، والريح الصرصر العاتية، والصاعقة، والطوفان، أو أتتكم القيامة بأهوالها وخزيها ونكالها، أتدعون غير الله لكشف ما نزل بكم من البلاء؟ أم تدعون آلهتكم الأصنام التي تفزعون إليها، إن كنتم صادقين في اتخاذكم آلهة معه؟
ثم أجابهم عن هذا التساؤل الموجّه للتبكيت والإلزام بقوله: بَلْ للإبطال لما تقدم. والجواب أنكم في وقت الشدة والمحنة والضرورة لا تدعون أحدا سوى الله، فأنتم تدعونه لكشف وإزالة ما نزل بكم من الضرر، وهو يكشف ذلك على وفق حكمته ومشيئته، وتنسون ما تشركون أي تتركون آلهتكم، ولا تذكرون في ذلك الوقت إلا الله، كقوله عز وجل: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء ١٧/ ٦٧] وقوله: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٦٥] وقوله: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ، فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [لقمان ٣١/ ٣٢].
وذلك أن الله تعالى أودع في فطرة الإنسان التوحيد والإذعان للخالق الحقيقي، الباهر القدرة الذي تفوق قدرته كل شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وأما الشرك فهو شيء عارض موروث في الأقوام البدائية، حتى إذا نزلت المحنة تضرعوا إلى الله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم ٣٠/ ٣٠].
ثم ضرب الله المثل بالأمم السابقة وعقد قياسا للعبرة، وللإعلام بأن من سنته التشديد على عباده، ليرجعوا عن غيهم، ويعودوا إلى رشدهم فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا... أي لقد أرسلنا رسلا إلى أمم قبلك، فدعوهم إلى التوحيد وعبادة الله، فلم يستجيبوا لهم، فاختبرناهم بالبأساء والضراء، أي بالفقر وضيق العيش،
ثم أجابهم عن هذا التساؤل الموجّه للتبكيت والإلزام بقوله: بَلْ للإبطال لما تقدم. والجواب أنكم في وقت الشدة والمحنة والضرورة لا تدعون أحدا سوى الله، فأنتم تدعونه لكشف وإزالة ما نزل بكم من الضرر، وهو يكشف ذلك على وفق حكمته ومشيئته، وتنسون ما تشركون أي تتركون آلهتكم، ولا تذكرون في ذلك الوقت إلا الله، كقوله عز وجل: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء ١٧/ ٦٧] وقوله: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٦٥] وقوله: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ، فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [لقمان ٣١/ ٣٢].
وذلك أن الله تعالى أودع في فطرة الإنسان التوحيد والإذعان للخالق الحقيقي، الباهر القدرة الذي تفوق قدرته كل شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وأما الشرك فهو شيء عارض موروث في الأقوام البدائية، حتى إذا نزلت المحنة تضرعوا إلى الله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم ٣٠/ ٣٠].
ثم ضرب الله المثل بالأمم السابقة وعقد قياسا للعبرة، وللإعلام بأن من سنته التشديد على عباده، ليرجعوا عن غيهم، ويعودوا إلى رشدهم فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا... أي لقد أرسلنا رسلا إلى أمم قبلك، فدعوهم إلى التوحيد وعبادة الله، فلم يستجيبوا لهم، فاختبرناهم بالبأساء والضراء، أي بالفقر وضيق العيش،
199
والمرض والسقم والألم، لعلهم يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون إذ الشدائد تصقل النفوس، وتنبت الرجال وتهذب الأخلاق. وهذه الآية متصلة بما قبلها اتصال الحال بحال قريبة منها لأن المشركين سلكوا في مخالفة نبيهم مسلك من كان قبلهم، فكانوا متعرضين لأن ينزل بهم من البلاء ما نزل بمن كان قبلهم.
ثم أكد تعالى الحض على التضرع فقال: فهلا تضرعوا إلينا خاشعين تائبين حين جاءهم بأسنا وظهرت بوادر العذاب، ولكن لم يفعلوا وقست قلوبهم، أي ما رقّت ولا خشعت، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فلم يعتبروا، وزيّن لهم الشيطان أفعالهم من الشرك والفجور والمعاندة والمعاصي، ووسوس لهم بان يبقوا على ما كان عليه آباؤهم.
ثم نزل بهم العقاب مقرونا ببيان سببه وحيثياته، فقال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا «١».. أي لما أعرضوا عما ذكّرهم به رسلهم من الإنذار والبشارة، وتناسوه، وجعلوه وراء ظهورهم، وأصرّوا على كفرهم وعنادهم، فتحنا عليهم أبواب الرزق وألوان رخاء العيش والصحة والأمن وغير ذلك مما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم، حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الأموال والأولاد والأرزاق، أخذناهم على غفلة بعذاب الاستئصال، فإذا هم آيسون من النجاة ومن كل خير.
فهلك القوم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل والإبقاء على الشرك واستوصوا، فلم يبق منهم أحد، والثناء الخالص لله رب العالمين على إنعامه على رسله وأهل طاعته، ومعاقبة أهل الكفر والفساد. وهذا يشير إلى أن إبادة المفسدين نعمة من الله، وأن في الضراء والبأساء عبرة وعظة، وأن الانغماس في الترف وسعة المعيشة قد يكون استدراجا ومقدمة للعقاب، وأن ذكر الله واجب في خاتمة كل أمر.
ثم أكد تعالى الحض على التضرع فقال: فهلا تضرعوا إلينا خاشعين تائبين حين جاءهم بأسنا وظهرت بوادر العذاب، ولكن لم يفعلوا وقست قلوبهم، أي ما رقّت ولا خشعت، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فلم يعتبروا، وزيّن لهم الشيطان أفعالهم من الشرك والفجور والمعاندة والمعاصي، ووسوس لهم بان يبقوا على ما كان عليه آباؤهم.
ثم نزل بهم العقاب مقرونا ببيان سببه وحيثياته، فقال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا «١».. أي لما أعرضوا عما ذكّرهم به رسلهم من الإنذار والبشارة، وتناسوه، وجعلوه وراء ظهورهم، وأصرّوا على كفرهم وعنادهم، فتحنا عليهم أبواب الرزق وألوان رخاء العيش والصحة والأمن وغير ذلك مما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم، حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الأموال والأولاد والأرزاق، أخذناهم على غفلة بعذاب الاستئصال، فإذا هم آيسون من النجاة ومن كل خير.
فهلك القوم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل والإبقاء على الشرك واستوصوا، فلم يبق منهم أحد، والثناء الخالص لله رب العالمين على إنعامه على رسله وأهل طاعته، ومعاقبة أهل الكفر والفساد. وهذا يشير إلى أن إبادة المفسدين نعمة من الله، وأن في الضراء والبأساء عبرة وعظة، وأن الانغماس في الترف وسعة المعيشة قد يكون استدراجا ومقدمة للعقاب، وأن ذكر الله واجب في خاتمة كل أمر.
(١) ليس المراد به النسيان الغالب على الإنسان، وإنما بمعنى تركوا ما ذكّروا به. [.....]
200
روى أحمد عن عقبة بن عامر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج». ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ... الآية.
وفي رواية الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان: «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك منه استدراج».
أما المؤمن فلا يغتر بالنعمة ويصبر عند النقمة،
روى مسلم عن صهيب مرفوعا: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له».
فقه الحياة أو الأحكام:
الآية: قُلْ: أَرَأَيْتَكُمْ... حجة دامغة للمشركين، وهي مثل بارع في محاجّتهم ومجادلتهم، فهم عند الشدائد يرجعون إلى الله، وسيرجعون إليه يوم القيامة أيضا، فلم هذا الإصرار على الشرك في حال الرفاهية؟! مع أنهم في وقت الشدة يتناسون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب، وهذا دليل على اعترافهم به. ومن رحمة الله تعالى بعباده تذكيره بأحوال الأمم السابقة للعبرة والعظة، وأنه يؤدب عباده بالبأساء (المصائب في الأموال) والضّراء (المصائب في الأبدان) وبما شاء: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء ٢١/ ٢٣]. من أجل أن يرجعوا عما هم عليه من كفر وعصيان، ويثوبوا إلى رشدهم.
ولكن العناد يصحب الكفر غالبا، لذا عاتب الله تعالى الكفار على ترك الدعاء، وأخبر عنهم أنهم لم يتضرعوا حين نزول العذاب، وربما تضرعوا بغير إخلاص، أو حين مباشرة العذاب، وهو غير نافع لهم حينئذ.
ويفهم من ذلك أن الدعاء مأمور به في حال الرخاء والشدة، قال الله
وفي رواية الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان: «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك منه استدراج».
أما المؤمن فلا يغتر بالنعمة ويصبر عند النقمة،
روى مسلم عن صهيب مرفوعا: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له».
فقه الحياة أو الأحكام:
الآية: قُلْ: أَرَأَيْتَكُمْ... حجة دامغة للمشركين، وهي مثل بارع في محاجّتهم ومجادلتهم، فهم عند الشدائد يرجعون إلى الله، وسيرجعون إليه يوم القيامة أيضا، فلم هذا الإصرار على الشرك في حال الرفاهية؟! مع أنهم في وقت الشدة يتناسون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب، وهذا دليل على اعترافهم به. ومن رحمة الله تعالى بعباده تذكيره بأحوال الأمم السابقة للعبرة والعظة، وأنه يؤدب عباده بالبأساء (المصائب في الأموال) والضّراء (المصائب في الأبدان) وبما شاء: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء ٢١/ ٢٣]. من أجل أن يرجعوا عما هم عليه من كفر وعصيان، ويثوبوا إلى رشدهم.
ولكن العناد يصحب الكفر غالبا، لذا عاتب الله تعالى الكفار على ترك الدعاء، وأخبر عنهم أنهم لم يتضرعوا حين نزول العذاب، وربما تضرعوا بغير إخلاص، أو حين مباشرة العذاب، وهو غير نافع لهم حينئذ.
ويفهم من ذلك أن الدعاء مأمور به في حال الرخاء والشدة، قال الله
201
تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر ٤٠/ ٦٠] وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي- أي دعائي- سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر ٤٠/ ٦٠] وهذا وعيد شديد.
وأما وجود العناد من الكفار فدل عليه قوله تعالى: وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي صلبت وغلظت، وهي عبارة عن الكفر والإصرار على المعصية.
وهم في ذلك متأثرون بالشيطان: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي أغواهم بالمعاصي وحملهم عليها.
والإنعام على عبد ليس دليل الرضا عليه، وإنما إذا وجدت النعمة مع البقاء على المعصية، كان ذلك استدراجا من الله تعالى، كما قال: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم ٦٨/ ٤٥]. قال بعض العلماء: رحم الله عبدا تدبر هذه الآية:
حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً. وقال محمد بن النضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة. وقال الحسن البصري: والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا، فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه، وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها، إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه».
وأما وجود العناد من الكفار فدل عليه قوله تعالى: وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي صلبت وغلظت، وهي عبارة عن الكفر والإصرار على المعصية.
وهم في ذلك متأثرون بالشيطان: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي أغواهم بالمعاصي وحملهم عليها.
والإنعام على عبد ليس دليل الرضا عليه، وإنما إذا وجدت النعمة مع البقاء على المعصية، كان ذلك استدراجا من الله تعالى، كما قال: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم ٦٨/ ٤٥]. قال بعض العلماء: رحم الله عبدا تدبر هذه الآية:
حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً. وقال محمد بن النضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة. وقال الحسن البصري: والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا، فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه، وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها، إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه».
وإن تدمير الأقوام وإهلاك الأمم مأساة في عرفنا، ولكن في تقدير الله عبرة وعظة حتى لا يستشري الفساد. وتضمنت آية فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ | على وجوب ترك الظلم لما يؤدي إليه من العذاب الدائم، وتضمنت أيضا وجوب حمد الله تعالى الذي يعاقب الظلمة، حتى لا يدوم الفساد، وينضب عنصر الخير. |
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا | ومن نصب سبيل كانت التاء للخطاب، وهو مفعول به. |