ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال أبو إِسحاق: بلغني مِنْ حَيث أثق بِه أن سورةَ الأنعام نزلتْ كلهاجملة واحدة، نزل بها سبعون ألف ملك لهم زَجَل بالتسبيح، وأن أكثرها
احتجاج على مشركي العرب. على من كذَب بالبعث والنشور، فابتدأ اللَّه
عزَّ وجلَّ بحمده فقال:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)
فذكر أعظم الأشياء المخلوقة لأن السماءَ بغير عمد ترونها والأرض
غيرُ مائِدةٍ بنا، ثم ذكر الظلُماتِ والنورَ، وذكَر أمرَ الليل والنهار، وهو مما به قِوَامُ الخَلق، فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن هذه خَلْق له، وأن خالقها لا شيءَ مثْلُه.
وأعلم مع ذلك أن الذين كفروا بِرَبهِم يَعدِلونَ، أي يجعلون لِلَّهِ عَدِيلاً.
فيعبدون الحجارة المَوَاتَ، وهم يُقرون أنَّ الله خَالِق مَا وَصف، ثم أعلمهم
اللَّه عزَّ وجلَّ أنه خَلَقهم مِنْ طِين، وذكر في غَيرِ هذا المَوْضع أحوالَ
المخلوقين في النُطَفِ والعَلَقِ والمُضَغِ المخَلَّقَةِ وَغَيرِ المخَلَّقَةِ، وذلك أن
المشركين شَكوا في البعث وقالوا: (مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)
فأعلمهم
على أن يخلقَ مِثلَهَا، - وهُويُحيِيهِمْ بَعدَ مَوتهِم، فقال عزَّ وجلَّ:
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢)
أي جعل لحياتكم أجلاً أي وَقْتاً تَحيون فيه.
(وأجَلٌ مُسَمًى عنْدَه) يعني أمرَ الساعة والبعث، (ثُمَّ أنتم) بعد هذا البيان. (تَمتَرَوُنَ) أي تَشكونَ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣)
" في " موصولة في المعنى بما يدل عليه اسم اللَّه، المعنى هو الخالق
العالم بما يصلحُ به أمرُ السماءِ والأرضِ، المعنى هوَ المتفرد بالتدبِير في
السَّمَاوَات والأرض، ولو قلت هو زيد في البيت والدار لم يجز إِلا أن يكون في الكلام دليلٌ على أن زَيداً يدبر أمر البيت والدار، فيكون المعنى هو المدَبِّر في الدارِ والبيتِ، ولو قلتَ هو المعتَضِد الخليفة في الشرق والغَربِ، أو قلت هو المعتَضِدُ في الشرق والغَربِ جَازَ على هذا.
ويجوز أن يكون خَبَراً بعد خبرٍ كأنه قيل إِنه هو اللَّه، وهو في السَّمَاوَات وفي الأرض، ومثل هذا القول الأول -
(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ)
ويجوز أن يكون وهو الله في السَّمَاوَات وفي الأرض، أي هو المعبود فيهما، وهذا نحو القول الأَول.
قوله عزَّ وجلَّ: (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٥)
دَل بهذا أنهم كانوا يستهزئُون، وقد ذَكر استهزاؤهم في غير هذا
المكان، ومعنى إِتيانه أي تَأوِيله: المعنى سيعلَمُونَ ما يؤول إِليه استهزاؤُهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
وَقِيلَ القرنُ ثَمَانُون سنةً وقيل سَبعونَ، والذي يقع عندي - واللَّه أعلم - أن
القرن أهلُ مُدةٍ كان فيها نبي أو كان فيها طبقة من أهل العلم.
قَلَّت السنُونَ أو كثرت.
والدليل على هذا قول النبي - ﷺ - خَيركم قَرْنِي، أي أصحَابِي، رحمة اللَّه عليهم ثمَ الذين يَلُونَهم يَعني التابعين، ثم الذين يلونهم يعني الذين أخذُوا عَن التَابِعين.
وجائز أن يكون القرن لجملة الأمة وهؤُلاء قُرون فيها.
وإِنما اشتقاق القرن من الاقتران، فتأويله أن القرن الذين كانوا
مقْتَرِنِينَ في ذلك الوقت، والذين يأتون بعدهم ذوو اقتران آخر.
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا).
أي ذات غيث كثير، ومِفْعَال من أسماءَ المبالغة يقال دِيمَةُ مِدْرَار، إِذا
كان مطرها غَزِيراً دائماً، وهذا كقولهم امرأة مِذْكار، إِذا كانت كثيرة الولادة للذكور، وَكَذَا مِئْنَاثٌ في الإناث.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
أعلم الله عزَّ وجلَّ أنهم قد أصِلُوا في السَّيئ البَاطِل في دفع النبوة.
لأنهم قد رَأوا القَمَر انشقً فأعرَضُوا، وقالوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.
وكذلك يقولون في كل ما يَعْجِزُ عنه المخلوقون سحر، هذا عين الدفع
سِحرْ كما أنهم قالوا في انشقاق القمر سحر.
* * *
(وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨)
يعنون على النبي - ﷺ -.
(وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ).
يعني - واللَّه أعلم - أن الآيات مما لا يَقَعُ مَعَهُ إِنْظَارْ.
ومعنى (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لتم بإِهْلَاكِهِمْ.
و" قُضِيَ " في اللغة على ضُروبٍ كَلَها يَرجِعُ إِلىٍ معنى انقطاع الشيءِ وتمامه، فمنه قوله تعالى: (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) معناه ثُمَّ حَتَمَ بعد ذلك فأتمَّه، ومِنْه الأمر وهو قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) معناه أمَرَ إِلا أنَّه أمر قَاطِع حَتْمٌ.
ومنه الإعلَامُ وقوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) أي أعلمناهم إِعلاماً قاطعاً، ومنه القضاءُ الفَصلُ في
الحُكْمِ، وهو قوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)
ومثل ذلك قولك قَد قَضَى القَاضي بَينَ الخُصُوم، أي قد قطع بينهم في الحكم، ومن ذلك قد قضى فلان دَيْنَه، تأويله قطع ما لغريمه عليه فأدَّاه إِلَيه وَقَطع ما بَينَه وبَينَه.
وكل ما أُحكِم فقد قُضِيَ، تقول قد قضيت هذا الثوب، وقد قضَيتُ هَذه الدارَ إِذا عَمِلْتُها وأحكمت عمَلها.
قال أبو ذُؤَيب الهذلي:
وعليهما مسرودتان قضاهما... داودُ أو صَنَع السَّوابغَ تبَّع
أي لو أرسلنا إِليهم مَلَكاً لم نرسله إِلا في صورة إِنْسَانٍ، لأن الملَكَ فيمَا
قِيلَ لو نَظَرِ إِلَيه نَاظِر على هَيئَتِه لَصَعقِ، وكانت الملائكةُ تأتي الأنبِيَاءَ في
صورَةِ الإنْس، فمن ذلك أن جِبرِيلَ كان يأتي النبي عليه السلام إذَا نَزَل
بِالوَحيِ في صورة دِحْيَةَ الكَلْبِى ومنه نبأ الخَصْم إِذ تَسَوَّرُوا المِحْرابَ، لأنَّهُمَا
ورَدَا على دَاودَ وهُما مَلَكانِ في صورَة رَجلَين يَخْتصِمَانِ إِليه.
ومنه أنَّ الملائِكةَ أتتْ إبراهيم في صورة الضِّيفان وكذلك أتتْ لوطاً، فلذلك قيل: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ).
يقال لبَست الأمْرَ عَلَى القوم ألْبِسه إِذا شَبَّهتُه عَلَيهِم، وأشكَلْتُه عليهم.
وكانوا هم يَلْبِسونَ عَلَى ضَعَفَتِهِمْ في أمر النبي - ﷺ - فيقولون: إِنما هذا بشر مثلكم فقال (ولو أنزلنا ملكاً) فرأوا هُمُ المَلَكَ رَجُلًا لكان يَلْحَقُهُمْ فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفتهم منهم.
* * *
وقوله: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (١٠)
الحَيْقُ في اللغَةِ ما يشتمل على الإِنسان من مكروه فَعَلَهُ.
ومنه قوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)، أي لا تَرجع عاقبةُ
مَكْرُوهِهِ إِلَّا عليهم.
ْوقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢)
اللَّه عزَّ وجلَّ تفضل على العباد بأن أمهَلَهُم عِنْدَ كفرهم وَإِقْدَامِهم على
على نفسه، فأما (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) فهو احتجاج على المشركين
الذين دفعوا البعث، فقال عزَّ وجاق: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
أي: إِلى اليوم الذي أنكرتموه، كما تقول قد جمعت هُؤلاءِ إِلى هُؤلاءِ، أي ضممت بينهم في الجَمع.
وقوله: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ).
ذكر الأخفش أن " الذين " بدل من الكاف والميم.
المعنى ليجمعن هؤُلاءِ المشركين الذين خسروا أنفسهم إِلى هذا اليوم الذي يجحدونه ويكفرون به، والذي عندي أن قوله: (الذين خَسرُوا انفُسَهم).
في موضع رفع على الابتداءِ، وخبره (فهم لا يومنون) لأن " لَيَجْمَعنَّكم " مشتمل على سائر الخلق.
على الذين خسروا أنفسهم وَغَيْرِهم، وهذه اللام في ليجمعنَّكم لام قسم.
فجائز أن يَكون تمامُ الكَلَامِ كَتَبَ ربكُمْ عَلَى نَفْسِه الرحمةَ، ثم استأنف فقال
لَيَجْمَعنَّكم، وكأنَّ المعنى: واللَّه ليجمعنكم، وجائز أن - يكون ليجمعنكم بدلاً من الرحمة مُفَسِّراً لها، لأنه لما قال كتب ربكم على نفسه الرحمة فَسَّر ررحمته بأنه يُمْهلهم إِلى يوم القيامة، ويكون في الِإمهال ما فسرنا آنفاً
* * *
وقوله: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣)
هذا أيضاً احتجاج على المشركين لأنهم لم يُنْكِرُوا أنَّ مَا استقر في
الليل والنَّهَارِ لِلَّهِ، أي هو خالقه وَمُدَبِّره، فالذي هو كذلك قادر على إِحياءِ
الموتى، ثم زَادَ في الاحتجاج والبيان فقال عزَّ وجلَّ: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤)
فإن قال قائل فقوله: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) معناه انشقت فكيف
يكون الفَطْرُ في معنى الخَلْق والانفطار في معنى الانشقاق؛ فإِنهما يَرْجِعَان إِلى
شِيءٍ واحد، لأن معنى فطرهما خَلقهما خلْقاً قاطعاً، - والانْفِطَار والفُطُورُ تقَطع وتشقق.
وقوله: (وَهو يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ).
وًيقْرَأ " ولا يَطْعَمُ "، والاختيار عند البصراء بالعربية، وهو يُطْعمُ وَلَا يَطعَمُ
بفتح الياء في الثاني. قالوا معناه: وهو يرزق وُيطْعِم ولا يَأْكل لأنه الحي الذي ليس كمثله شيء، ومن قرأ (ولا يُطْعَمْ) فالمعنى أنه المولى الذي يَرْزُق وَلاَ يُرْزَقُ، كما أن بعض الْعَبيد يَرْزُق مولاه.
والاختيار في " فاطِر " الجرُ لأنَّه مِن صفة الله جلَّ وعزَّ، والرفع والنصب جائزان على المدح لله جلَّ وعزَّ والثَّناءِ عليه.
فمن رفع فعلى إِضمار هو. المعنى هو فاطر السَّمَاوَات والأرض، وهو
يُطعِم ولا يُطعم، ومن نصب فعلى معنى اذكر، وأعني بهذا الاحتجاج عليهم، لأن من فطر السَّمَاوَات والأرض وأَنشأَ ما فيهما وأحكم - تدبيرهما وأطعم من فيهما فهو الذي ليس كمثله شيء.
* * *
وقوله: (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
أي من يَصْرِفْ اللَّهُ عنه العذاب يومئذ - يعني يوم القيامة الذي ذكر أنهم
يجمعون فيه، وتُقْرأ أيضاً (من يُصرَف عَنْهُ يومئذ فقد رَحمِه)، أَي من يُصْرَف عنه العذابُ يومئذ.
* * *
وقوله: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)
عَلَيْهم باللَّه الواحِد الذي خلق السموات الأرض وخلق الظلمات والنور.
وخلقهم أطواراً على ما بَين في كتابه، وأمر أن يعْلِمهم أن شهادة اللَّه بأنه
واحد، وَإِقامة البراهين في توحيده أكبر شهادةً، وأن القرآن الذي أتى به يشهد له بأنه رسوله فقال: (قل اللَّهُ شهيدٌ بَيْني وَبَيْنَكمْ)، الذي اعترفتم بأنه خالق هذه الأشياء:
(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ).
ففي الِإنذار دليل على نبوته، لأنه لَمْ يَأت أحد بمثله، ولا يأتي بمثله
لأن فيه أخبارَ الأمم السالفة، جاءَ بها عليه السلام.
وهو أُمِّيٌّ لا يقرأ الكُتُبَ، وأنبأ بما سيكون، وكان ما أنبأ به حقًا، ثم قال: (واللَّه يَعْصمك من النَّاس)
وكان - ﷺ - مَعْصُوماً منهم.
وقال: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)
فأظهر الله دين الإِسلام على سائر الأديان بالحجة القاطعة.
وغَلَبَة المسلمين على أكثر أقطار الأرض
وقال في إليهود. وكانوا في وقت مبعثه أعزَ قومٍ وأمتنه:
(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ)، فَهُمْ أذلَّاءُ إِلى يوم القيامةِ.
فأنبأ الله في القرآن بما كان وما يكون، وأتى به مؤَلَّفاً تأْلِيفاً
لم يَقْدرْ أحد مِن العرب أن يأْتيَ بسورة مثله، وهو في الوقت الذي قيل لهم
ليأْتوا بسورة من مثله، خُطَباءُ شعراءُ لم يكن عندهم أوْجَزَ من الكَلام المنثور.
والموزون، فعجزوا عن ذلك.
* * *
وقوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠)
أي يَعرِفون محمداً - ﷺ - أنَّه نَبي كما يَعرفُونَ أبنَاءَهُم، وُيروَى عن عمرَ بنِ الخطابِ أنهُ قال
قال نَعَم، لأن الله بعث أمِينه في سَمائه إِلى أمِينِه في أرضِه بِنعتِه فعرفْتُه، فأمّا ابني فما أدري ما أحدَثَتْ أُمُّه. فقال صدقت يا حمزة.
وقوله: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).
رفع على نعت (الذين آتيناهم الكتاب) وجائز أن يكون على الابتداءِ.
ويكون (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) خَبَره.
والذين خسروا أنفسهم الأشبه أن يكون ههنا يعني بِه أهل الكتاب.
وجائز أن - يكون يعني به جملة الكفار من أهل الكتاب وغَيرِهم.
* * *
وقوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣)
إِنْ شِئْتَ نصبت " فِتْنَتَهم " على خَبرِ يَكنْ، ويكون أن قَالوا هو الاسم
وأنث " تكن " وهو (إِلا أن قَالُوا) لأن " أن قالوا " ههنا هو الفتنة.
ويجوز أن يكون تأويل " أن قَالوا " إِلا مَقَالَتُهم.
ويجوز رفع الفتنة وتأْنيث " تكن " ويكون الخبر (أَنْ قَالُوا)
والاسم (فِتْنَتُهُمْ).
ويجوز ُ ثم لَم يَكًنْ فتنتَهُم إِلا أن قالوا، فتذكر " يكن " لأنه
معلق ب (أَنْ قَالُوا)، ويجوز ثم لم يكن فتنتهم بالياءِ ورفع الفتنة، لأن الفتنة
والافتتان في معنَى واحد.
وتأويل هذه الآية تأْويل حسن في اللغة لطيف لا يفهمه إِلا من عرف
معانيَ الكلام وتَصَرُّفَ العربِ فِي ذلك، واللَّه جلَّ وعزَّ ذَكَرَ في هذه
أعلم اللَّهُ أنه لم يكن افتتانهم بشركهم، وإِقَامتُهم عليه إِلا أن تَبرأوا مِنه وانْتَفَوا مِنْه، فَحَلَفُوا أنهم ما كانوا مشركين.
وَمِثْلُ ذَلِكَ في اللغة أنْ ترى إِنْسَاناً يُحِب غَاوِياً، فإِذا وقع في هَلَكَةٍ
تَبرأ منه، فتقول له ما كانت محبتك لفلان إِلا أن انْتَفَيتَ مِنْه.
ويجوز (وَاللَّهِ رَبِّنَا) على جر (رَبِّنَا) على النعتِ والثناءِ لقوله (وَاللَّهِ).
ويجوز (وَاللَّهِ رَبَّنَا) بنصب (رَبَّنَا)، ويكون النصب على وجهين، على الدعاءِ، قالوا واللَّه يا رَبِّنَا ما كنَا مشركين.
ويجوز نصبه على أعني: المعنى أعني (رَبِّنَا).
وأذْكر ربنا، ويجوز رفعه على إِضمار هو، ويكون مَرفُوعاً عَلَى المَدحِ.
والقراءَةُ الْجَر والنَّصبُ، فأمَّا الرفع فلا أعلَمُ أحداً قرأ به.
* * *
وَقَوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥)
(أَكِنَّةً) جمع كِنان وهو الغِطاءُ، مثل عِنَان وأعِنَّة.
فأمَّا (أَنْ يَفْقَهُوهُ) فمنصوب على أنه مَفْعولٌ له، والمعنى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً، لكراهة أن يفقهوه فلما حذفت اللام نصبت الكراهة، ولما حذفت الكراهة انتقل نصبها إِلى أنْ.
وقوله: (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا).
الوقر: ثقل السمع وهو بالفتح، يقال في أذنه وَقْر، وقد وُقِرَتْ الأذن
توقَر.
قال الشاعر:
والوِقْر - بكسر الواو - أن يحمل البعير أو غيره مقدار ما يطيق، يقال عليه
وِقْرٌ، ونَخْلةٌ موقِرٌ وَموقرة بالكسر أكثر، وموقِر مِثْل مرضِع، أَي ذات وقْرِ، كما أن تلك ذات رَضاعٍ، وإِنما فعل بهم ذَلكَ مجازَاة لهم بإِقامتهم على كَفْرِهِم.
وليس المعنى أنهم لم يَفْهَموه ولم يَسمَعوه، ولكنهم لَما عَدَلُوا عَنْه وصَرَفُوا
فِكْرهم عَما هم علَيه، في سوءِ العاقبة كانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع.
وقوله: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا).
أي: كل علامة تَدلهم على نبوتكَ، ثم أعلم الله عزَّ وجلَّ مقدارَ
احتجاجِهِم وجَدَلِهم وأنهم إِنما يستعملون في الاحتجاج أن يقولوا هذا أساطير
الأولين، ويقولون افترى على الله كذباً، فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أنهم ليس
يعَارِضُونَ ما احتُج بِه عَلَيهم من الحق، حيث قيل لهم: (فَأْتوا بسورَةٍ مِن
مِثلِهِ)، وحَيثُ شَق لهم القمرَ، وحيث أنزل على نبيه عليه السلام
(واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
فما أتى أحدٌ بسورةٍ ولا قدَرَ على ضَر النبي - ﷺ -
ولا على قَتْلِهِ، وأنبأ عزَّ وجلَّ بما سيكون في كتابِهِ فَوُجدَ ذلكَ أجمَعُ.
فقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).
واحدها إِسطار، وأسطُورة. وتأْويل السَّطْر في اللغة أن تَجعَل شيئاً مُمتَدا
أَسطار، قَال رُؤبةُ.
إِني وأسطارٍ سُطِرنَ سَطْرَا... لقائلٌ يا نَصرُ نَصراً نَصْرَا
وجمع أسْطَار أسَاطير، فعلى هذا - عِنْدي - أَساطير الأولينَ.
ومن قال سَطَر. فجمعه أسطُر، وجمعُ الجمع أساطِرَة، وأساطير
قال الشماخ في جمع سَطْر:
كما خط عبرانية يمنية... بتيماءَ حبَر ثم عرَّض أسطرَا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٢٦)
أي عن النبي - ﷺ - أنْ يُتَبعَ، وَينْأونَ عنه، أي يتَبَاعَدونَ عنه، يقال: نأيتُ عن الشيْءِ أنأَى نأْياً، إِذَا بَعُدت عنه، والنُّؤى حاجز يُجعَل حول البيت لَئِلا يَدخُلَهُ الماءُ من خَارِجٍ، تحفَر حَفِيرَة حولَ البَيتِ فيجْعَلُ تُرابُها على شَفِيرِ الحَفِيرةِ.
فيمنَغ الترابً الماءَ أن يدخل من خارِجٍ، وهو مأْخوذ مِنَ النَأيِ أَي مباعِذ
للماءِمن البيْتِ.
وقال بعضهم: إِنه يعنى به بعض أَهل النبي - ﷺ -، أي وهم ينهون عن أَذَى النَّبِي - ﷺ - ويَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ، أَي لا يَتّبعُونَهُ.
والكلامُ مُتصِل بذكر جَماعَةِ أَهل الكتاب، والمشركين.
* * *
قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧)
القراءَة - أكثر ها بالفتْح والتَفْخِيم، والِإمالة حسنة جَيدَةُ، وهي مذهب
أبي عمرو. أعني كسر الألف من " النَّارِ "، وإِنما حَسُنَتْ الِإمالة في قوله
(كمثل الحِمَارِ يحمل أسفاراً)، وأصحَاب النَّارِ، لأن الراءَ بعد الألف
مكسورة، وهي، حرف كأنَّه مكَرر في اللسان، فصارت الكسرة فيه كالكسرتين.
ومعنى (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) يحتمل ثلاثة أوجه - جائز أن يكونوا عَايَنُوها.
وجائز أن يكونوا عليها وَهِيَ تَحتَهم، والأجود أن يكون معنى وقفوا على النار أُدخِلوها فَعَرَفوا مقدارَ عَذَابهَا، كما تقول في الكلام: قد وَقَفْتَ على ما عندَ فلانٍ، تريد قد فهمته وتَبَينْتَه.
(فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
أكثر القراءِ بالرفع في قوله: (وَلَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا)، ويكون المعنى أَنَّهم
تمنوا الرد، وضمِنوا أنهم لا يُكَذِّبونَ.
المعنى: يا ليتنا نرد، ونحن لاَ نكذب، بآيات ربنا رُدِدنا أم لم نرد، ونكونَ من المؤمنين، أي قَد عَايَنا وَشَاهَدنَا مَا لَا نكَذْب مَعَه أبداً.
قال سيبويه مِثله دَعني ولا أعود، أي وأنا لا أعود تَركْتَنِي أو لم تَتْرُكْني.
ويجوز الرفع على وجه آخر، على معنى يا ليتَنَا نرد، ويا ليتنا لا نكَذِّبَ بآيات رَبِّنَا، كأنَّهم تَمنَّوا الرد والتوفيق للتصديق، ونَكون منَ المؤمِنينَ الرفع والنصب أيضاً فيه جَائِزَانِ، فأمَّا النَصب فعلى يا ليتنا نرد وتكون يا ليتنا نرد ولا نكذب
لَيتَ مَصِيرَكَ يَقَعُ، وَإِكْرَامَنَا، ويكون المعنى: لَيتَ ردَّنا وقع وأن لا نُكذِّبَ.
أي إِن رُدِدْنا لم نكذبْ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٢٨)
أي بل ظهر للذين اتَبَعُوا الغُوَاةَ ما كان الغواةُ يخفون عنهم من أمر
البعث والنشُورِ. لأن المتصِلَ بهذا قولُه عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).
فأنكروا البعث ليُجرَّئوا عنى المعاصي.
(وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ).
قال بعضهم لَو رُدوا ولم يُعَايِنوا العَذَاب، لعَادُوا، كأنَّه يَذْهب إِلى أنهم
لَم يُشَاهِدوا ما يضطرهم إِلى الارتِدَاع، وهذا - عَلَّهُ - بيّنٌ.
لأن هذا القول منهم بعد أن بُعِثوا وعَلِمُوا أمرَ القِيَامَةِ وَعَايَنُوا النَّارَ، فالمعنى أن أكثر من عايَنَ مِنَ اليَهودِ والمشركين قَدْ عَلِمَ أن أمر اللَّهِ حَق فرَكَنَ إِلى الرفَاهِيةِ، وأن الشيء متأخر عنه إِلى أمدٍ كما فَعَل إِبليس الذي قد شاهد من بَراهين الله ما لا غاية بعده، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنهم لَوْ رُدُّوا لعَادُوا لأنهم قَدْ كَفَرُوا بَعْدَ وُجُوبِ الحُجةِ عَلَيْهم.
وقال بعض المفسرين: إن النبي - ﷺ - سئل فقيل له: ما بال أهْل النار عملوا في عُمْرٍ قصيرٍ بعَمل أهل النار فَخُلِّدُوا في النارِ وأهلُ الجنة عملوا في عمر قصير بعمل أهل الجنَّةِ فخلدوا في الجنَّةِ، فقال: إِن الفريقين كان كل واحدٍ مِنهمَا على أنه لو عاش أبداً عَمِل بذلك العَمَل.
* * *
وقوله: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (٣١)
فُجاءَةً.
قال الشاعر:
ولكنهم ماتوا ولم أخْشَ بغتةً... وأفْظَعُ شيء حين يَفْجَؤكَ البَغْت
وقوله: (يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مافَرطْنَا فِيهَا).
إِن قال قائل: ما معنى دُعَاءِ الحَسْرَةِ، وَهِيَ لاَ تعقل ولا تجيب؟
فالجواب عن ذلك أن العربَ إذا اجْتَهدتْ في الإخْبارِ عنْ عَظِيم تقع فيه
جعلته نداءً، فلفظه لفظ ما ينبَّه، والمنبَّه غَيرُهُ.
مثل قَوله عزَّ وجلَّ: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ).
وقوله: (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ)
وقوله: (يَا وْيلنَا من بعثنا من مَرْقَدِنَا هَذَا)..
فهذا أبلغ من أن تقول: أنا حَسِرٌ عَلَى العباد، وأبلغ من أن تقول: الحسرة علينا في تفريطنا.
قال سيبويه: " إنَّكَ إذا قلت يا عجباه، فكأنك قلت احضُرْ وتعال يا
عجبُ فإنه مِنْ أزمَانِكَ، وتأويل " يا حَسْرتَاهُ " انتَبهُوا على أننا قد خسرنا " وهذا مثله في الكلام في أنك أدْخَلْتَ عليه يا للتنبيه، وأنت تريد الناس قولك: لَا أريَنَّكَ هَهنَا، فلفظُك لفْظُ النَاهِي نفسه، ولكنه لمَا علم أن الِإنسان لا يحتاج أن يلفظ بنهي نَفْسِه دَخل المخَاطَبُ في النَهيِ فصار المعنى: لا تكونَنَّ ههنا،
ومعنى: (فَرطْنَا فِيها) قَدَّمْنَا العَجْزَ.
وقوله: (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أوزَارَهُمْ).
أي يحملون ثِقل ذُنوبهم، وهذا مَثل. جائز أن يكون جُعِل ما ينالهم
من العذاب بمنزلة أثقل ما يُحَمَّل، لأن الثقل قد يستعمل في الوِزْرِ، وفي
الحال، فَتقُول في الحال قد ثقل على خطاب فلان، تأويله قد كَرهتُ خِطَابَه
كراهةً اشْتَدت عَلَيَّ، فتأويل الوزر الثقل من هذه الجهة، واشتقاقه من الوزر، وهو الجَبَل الذي يَعْتَصِم بِه الملك والنبي، أي يُعينُه.
ومنه قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا).
سأل مُوسَى رَبَّه أن يجعل أخاه وزيراً له.
وكذلك قوله تعالى: (ألَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ).
أي بِئس الشّيءُ شيئاً أي يَحْملونه، وقد فسرنا عمل نعم وبئس فيما
مضى من الكتاب، وكذلك (سَاءَ مَثَلاً القوْمُ) أي: مثل القوم.
* * *
وقوله: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)
(لَا يُكَذِّبُونَكَ) ولا يُكْذِبُونك، ومعنى كذَبْتُه قُلت لَه كذبْتَ، ومَعْنى أكذبتُهُ ادعيت أن ما أتى به كذِب، وتفسير قوله: (لَا يُكَذِّبُونَكَ)، أي لا يَقْدِرُونَ أن يقولوا لك فيما أنْباتَ به مِما فِي كُتُبِهُمْ كذبت.
ووجه آخر: إنهم لا يكذبونك بقلوبهم، أي يَعْلَمُون أنك صادق.
لأنهم إِنما جحدوا براهين الله جلَّ وعزَّ وجائز أن يكون فإِنَّهم لا
يُكذبونك، أي أنت عندهم صادق، لأنه - ﷺ - كان يُسمَّى فيهم الأمين قبل الرسالة، ولكنهم جحدوا بألسنتهم ما تشهد قلوبهم يكذبهم فيه.
ثم عَزَّى الله نبيه وصَبرهُ بأن أخبره أن الرسلَ قبلَه قد كَذبتهم أمم فقال:
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)
أي إِذ قال الله لرسوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وإِذ قال:
(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) فَلا مبدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا يخلف الله وعده ولا
يغلب أولياءَه أحَدٌ.
ثم أعلم الله عزَّ وجلَّ رسُوله أنه يأتي من الآيات بما أحب، وأنه - ﷺ - بشر لا يقدر على الِإتيان بآية إلا بما شاءَ الله من الآيات فقال:
(وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٥)
أي إِن كان عَظمَ عليك أن أعْرضوا إِذ طَلبوا منك أنْ تُنزِّلَ عليهم ملَكاً.
لأنهم قالوا: (لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَك) ثم أعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أنهم لو نزلتْ
عليهم الملائِكة وأتاهم عظيم من الآيات ما آمَنُوا.
وقوله: (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ).
يَخْرِقُهُ من باطن الأرْض إلى جلدَة الأرض فإِذا بَلَغَ الجلدة أرَقها حتى إن
رابَة دَبِيب رفع برأسه هذا المكان وخرج منه. ومن هذا سُمِّيَ المنافق
منافقاً، لأنه أبطن غير ما أظهر، كالنافقاءِ الذي ظاهرهُ غَيْرُ بَينٍ، وباطنه حَفْر
في الأرْض.
وقوله: (أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ).
والسُّلَّم مشتق من السَّلامَةِ، وهو الشيءُ الذي يسلمك إِلى مصعدك.
المعنى فإِن استطعت هذا فافعل، وليس في القرآن فَافعَل لأنه قد يحذف ما
في الكلام دليل عليه، ومثل ذلك قولك: إن رأيت أن تمضي معنا إلى فلان.
ولا تذكر فافعل.
فأعلمَ اللَّهُ نبيه - ﷺ - أنَّه لا يستطيع أن يأْتي بآية إلا بإِذن اللَّه. وإِعلامه النبي هذا هو إِعْلام الخلق أنهم إنما اقترحوا هم الآيات وأعلم الله جلَّ وعزَّ أنَّه قادر على أن يُنزلَ آية آية، وأنَّه لو أُنزلت الملائكة وكلمهم
الموتى ما كانوا ليُؤمنوا إلا أن يشاء اللَّه.
وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى).
فيه غير قوْل، فأحدُها أنه لو شاءَ الله أن يَطْبَعَهُم عَلى الهدى لفعل
ذلك، وقول آخر: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى)
أي: لو شاءَ لأنْزَل عليهم آية تَضْطرهم إِلى الِإيمان كقوله جلَّ وعزَّ: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (٤).
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦)
أي الذين يسمعون سَماعَ قَابِلِينَ، وجَعَلَ من لم يَقْبَل بِمَنْزلَة الأصم.
قال الشاعر:
أصَمَّ عَمَّا سَاءَه سَميعُ
(والمَوتَى يَبعَثُهم اللَّهُ).
أي يحييهم (ثم إِليه يُرْجَعُون).
* * *
وقوله: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٧)
(قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً)
أي آية تجمعهم على الهُدَى.
* * *
وقوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)
يجوز ولا طائر بالرفع على العطف على موضع دابَّة.
التأْويل وما دابَّة في الأرض ولا طائر، والجر أجود وأكبر على معنى وما من دابة وَلاَ طَائرٍ.
وقال (يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) على جهة التوكيد لأنك قد تقول للرجل: طِرْ في حاجتي أي أسرع، وجميع ما خلق اللَّه عزَّ وجلَّ فليس يخلو من هاتين المنزلتين، إِما أنْ يَدِبَّ أَو يَطيرَ.
(إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ).
أَي: في الخلق والموت والبعث.
الساعة اسم للوقت الذي يُصْعَقُ فيه العباد، واسم للوقت الذي يُبْعَثُ
فيه العباد، والمعنى إن أتتكم الساعة التي وُعِدْتُم فيها بالبَعْثِ والفناءِ، لأنَّ
قبلَ البعث موتَ الخلق كله.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (أغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ).
أي أتدعون هذه الأصنَام والحجارةَ التي عبدتموها من دون اللَّه، فاحتج
اللَّه عليهم بما لا يَدْفَعُونَه، لأنهم كانوا إذا مَسَّهُمُ الضر دعوا اللَّه.
وقال النحويون في هذه الكاف التي في قوله: (أَرَأَيْتَكُمْ) غَيرَ قَولٍ:
قال الفراء لفظها لفظ نصبٍ، وتأويلها تأْويل رفع، قال: ومثلها الكاف
في قوله: دُونَك زيداً، قال: الكاف في موضع خفض، وتأويلها تأْويل الرفع، لأن المعنى خذ زيداً.
وهذا لم يقله من تقدَّم من النحويين، وهو خطأٌ لأن قولك أرأيتكَ زيداً
ما شأنُه! تصير " أرأيت " قد تعدت إلى الكاف وإِلى زيد.
فيصير لـ " رأيتَ " اسمان، فيصير المعنى أرأيت نفسك زيداً ما حاله.
وهذا محال.
والذي يذهب إِليه النحويون الموثوقُ بعلمهم أن الكاف لا موضع لها.
وإنما المعنى أرأيت زيداً ما حاله. وإِنما الكاف زيادة في بيان الخطاب.
وهي المعتمد عليها في الخطاب، اعلم أنك تقول إِذا كانت الكاف زائدة
للخطاب، للواحد الذكر: أرأيتكَ زيداً ما حَالُه بفتح التاءِ والكاف، وتقول
للمؤَنث أرَأيتَكِ زيداً ما حاله يا امرأة، وتفتح على أصل خِطابِ الذكر، وتكسر الكاف لأنها قد صارت آخر ما في الكلمة والمبيّنة عن الخطاب، وتقول
وتثنية المؤنث كتثنية المذكر في كل شيء، فإنْ عديتَ الفاعِل إلى المفعول في هذا الباب، صارت الكاف مَفْعُولَه، تَقُولُ: رَأيتُنِي عالماً بِفُلاَنٍ، فإذا سألت عن هذا الشرطِ قُلْتَ للرجل:
أرأيتَكَ عَالِماً بِفُلَانٍ، وتقول للاثنين على هذا: أرأيتاكما عالمين بفلانٍ.
وللجميع أرأَيتموكم عَالِمينَ بفلان، لأن هذا في تأويل أرأيتم أنفُسَكم. وتقول للمرأة: أرأيتكِ عالمة بفلَانٍ - بكسر التاءِ والكاف - وتقول للاثنين أرأيتُما كما عالمين بفلان وللجماعة أرأيْتَكُن عالمات بفلان فعلى هذا قياس هذين البابين.
* * *
وقوله: (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (٤١)
(بل) استدراك، وإيجاب بَعد نفي، تقول: مَا جَاءَ زَيدٌ بل عَمْرو فأعلمهم
الله جلَّ وعزَّ أنهم لا يدعون في حال الشدائد إلا إياهُ، وفي ذلك أعظم الحجة
عليهم، لأنهم قد عبدوا الأصنام.
وقوله: (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ).
المعنى فيكشف الضر الذي من أجله دَعَوْتُمْ، وهذا على اتساع الكلام.
مثل سَل القَريَةَ: المعنى سَلْ أهْلَ القرية.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ).
" وتنسون " ههنا على ضربين: جائز أن يكون تَنْسَوْنَ تَتْرُكُونَ، وجائز أن
يكون المعنى إنكم في ترككم دعاءَهم بمنزلة من يَسْهُونَ.
قِيلَ الباسَا " الجوع، والضراءُ النقص في الأموال والأنفس.
والمعنى أن اللَّه جلَّ ثناؤه أعلم نبيَه - ﷺ - أنَّه قد أرْسَل الرسلَ قبله إلى قوم بلغوا من القسوة إلى أن أخِذوا
بالشدة في أنْفسِهم وأمْوَالِهم ليخضعوا ويَذِلوا لأمْرِ اللَّه، لأنَّ القُلوبَ تخْشع.
والنفوسَ تضْرَع عند ما يكون من أمر الله في البأساءِ والضراءِ.
فَلَمْ تخْشَعْ ولم تَضْرَعْ.
وقال: (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).
ومعنى لعل ترج، وهذا الترجي للعباد، أخَذَهم اللَّه بذلك ليكونَ ما
يَرجوه العباد منه بالتضرع، كما قال عزَّ وجلَّ في قصة فرعون:
(لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)
قال سيبويه: المعنَى اذهبا على رجائكما، واللَّه عالم بما يكون
وراءَ ذلك.
* * *
وقوله: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣)
المعنى فهَلَّا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا.
(وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي أقاموا على كفرهم.
* * *
وقوله: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤)
أي فتحنا عليهم أبْوَابَ كل شَيْءٍ كان مغلقاً عليهم من الخير.
(حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا).
أي حتى إذا ظَنُّوا أنَّ كل مَا نَزلَ بهم لم يكن انْتِقَاماً مِنَ اللَّه جلَّ وعزَّ.
وأنهم لَمَّا فُتحَ عليهم ظَنوا أن ذلك باسْتِحْقَاقِهِمْ (أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً).
أي فاجأهم عذابُنَا من حيث لا يَشعرون.
" المبلس " الشديد الحسرة، واليائس الحزين.
* * *
وقوله: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٥)
حَمِد الله عزَّ وجلَّ نفسه على أن قطع دَابِرَهُم، واسْتَأصل شأْفَتَهمْ.
لأنه جلَّ وعزَّ أرسل إليهم الرسُلَ، وأنْظرَهمْ بَعْدَ كُفْرِهِم، وَأخَذَهُمْ بِالْبَأسَاءِ
والضراء فبالغ جلَّ وعزَّ في إنْذَارِهِمْ وإمْهَالِهِمْ، فحَمِدَ نفْسَهُ، لأنه محمودٌ في
إمْهَالِهِ مَنْ كفَرَ بِهِ وانتظارِه تَوْبَتَه.
* * *
وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦)
أي بسمعكم، ويكون ما عطف على السمع داخلًا في القصة إِذ كان
معطوفاً على السمع.
وقوله: (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ).
أي " يُعْرِضُونَ ". أعلم الله جلَّ وعزَّ أنَّه يُصَرفُ لهم الآيات، وهي العلامات
التي تدل على توحيده، وصحة نبوة نَبِيهِ - ﷺ - ثم هم يُعْرضون عما وضح لهم وظهر عندهم.
* * *
وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)
الْبَغْتَةُ الْمفَاجَأة، والجهر أو يَأتِيَهِمْ وَهمْ يَرَوْنَه.
(هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ).
علمتم أَنكم ظالمون.
* * *
وقوله: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨)
أي ليس إِرْسَالُهم بأن يأتوا الناس بما يَقْتَرِحُون عليهم من الآيات وإنَّمَا
يأتون من الآيات بما يبَين الله به براهينهم، وإِنما قصدُهم التبشيرُ
والِإنذارُ.
* * *
وقوله: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠)
هذا متصل بقوله: (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ). فأعلمهم النبي - ﷺ - أنه لا يملك خزائِنَ الله التِي بِهَا يَرزُق وُيعْطِي، وأنه لا يعلم الْغَيْبَ فيخبِرَهُمْ بِمَا غَابَ عَنْه مِمَّا مضَى، وما سَيَكُونُ إلا بِوَحْيٍ من اللَّهِ جلَّ وعزَّ.
(وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ).
أي الْملَك يشاهِد من أمورِ الله عزَّ وجلَّ ما لا يشَاهِدهُ الْبشر، فأعْلَمهمْ
أنه يتبعُ الوحْي فقال: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ).
أي ما أنْبأتكم به مِنْ غيبِ فيما مضى، وفيما سيكُون فهو بوحي من
اللَّه، فَأمَّا الِإنْباءُ بِما مَضَى، فإخَبار بقصصٍ الأمَمِ السالِفةِ، والإخبَارُ بما
سيكون كقوله: (غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ).
فوجد من ذلك ما أنبأ به، ونحو قوله: (واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِن النَّاسِ)
وقوله: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)
وما يُرْوى مِن الأخبَار عنه بما يَكُون أكثرُ من أن يُحْصَى.
* * *
وقوله: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١)
قوله: (وَأَنْذِرْ بِهِ)، أي بالقُرْآن، وإِنما ذكر الذين يخافون الحشر، دُونَ
غَيْرهم وهو - ﷺ - منذر جميع الْخلْقِ، لأن الًذِين يَخافُونَ الْحَشرَ الحجةُ عليهم أوجبُ، لأنهم أفهمُ بِالْميعاد.
فهم أحَدُ رَجُلَيْنِ، إِمًا رَجلٌ مُسْلِم فيؤَدي حق اللَّهِ في إِسْلاَمِهِ، وإِما رَجُلُ مِنْ أهلِ الْكِتَابِ، فأهلُ الْكِتَابِ أجمعُونَ مُعْتَرِفُونَ
بأن اللَّه جَل ثَنَاوه خَالِقهمْ، وَأنَّهمْ مَبْعوثون.
وقوله: (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ).
لأن النصارى، واليهود ذكرت أنَّها أبناءُ اللَّه وأحِباؤُه، فأعلمَ اللَّهُ أنَّه لا
ولي له إِلَّا المؤمنون، وأنَّ أهلَ الكُفْر ليسَ لهم عنْ دُون اللَّهِ ولي وَلَا شَفِيع.
* * *
وقوله: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)
كان قوم من المشركين أرادوا الحيلة على النبي - ﷺ - فقالوا لوْ باعَدْت عَنك
هَؤُلاءِ السفْلة والْعَبِيدَ لجَلَسَ إِليك الكبراءُ والأشْرَافُ.
وكانوا عَنَوْا بالذين قَدرُوا أن يباعِدَهم النبي - ﷺ - صُهَيْباً وخَبَّاباً، وعمَّار بنَ يَاسرٍ وسلمانَ الفارِسي وبلالاً.
فأَعلم اللَّه عزَّ وجلََّ، أن أمْرَ الدِّين هو المقَدَّم، ونهاه أنْ يُبَاعِدَ هَؤُلَاءِ، وَأَعْلَمَهُ أنهم يُرِيدُون ما عند الله فَشهِدَ لهم بصحة النيات وأنهم مُخْلِصُونَ في ذلك للهِ، فقال: (يُرِيدُونَ وَجْههُ)، أي يُرِيدُونَ اللَّهَ ويقْصِدُونَ الطُرقَ التي أمرهم بقصدها وإِنما قَدرُوا بهذا أن يُبَاعِدَهُم فتكونَ لهم حُجة عَلَيْهِ.
واللَّه قد أعلم
لَك واتبَعَكَ الأرْذَلُونَ)، وقالوا: (مَا نَرَاك اتبَعَكَ إلا الَّذِينَ هُمْ أرَاذِلُنَا).
وقوله عزَّ وجل: (فتَكُونَْ مِنَ الظَّالِمِينَ).
جوابُ (ولا تَطْردُ)، وقوله " فتطردَهم " جواب (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ).
* * *
ومعنى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)
أي اخْتَبَرْنا وَابْتَلَيْنا، (لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا).
أَي ليكُونَ ذَلك آيةً أنَّهم اتبَعُوا الرسُولُ وصَبَرُوا عَلى الشدة، وهم في
حال شديدة.
* * *
وقوله: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤)
أي الذين يُصَدقُون بِحُجَجِنا، وبراهينَنَا (فَقُلْ سَلَام عَلَيْكُمْ).
خلا سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يذكر أن السلام في اللغة أربعة أشياء
فمنها سَلَّمْتُ سَلاماً - مصدر سَلَّمْتُ، ومنها السلام جمع سلامة، ومنها
السلام اسم من أسماءِ الله تعالى، ومنها السلامُ شجر، ومنه قوله:
إِلَّا سلامٌ وَحَرْمَلُ.
ومعنى السلام الذي هو مصدر سَلَّمْتُ، إنَّه دعاء للإِنْسَانِ أن يَسْلَم من
و"السلَامُ " اسمٌ من أسْمَاءِ اللَّه "
تأويله - واللَّه واعلم - ذُو السلَامِ أي هو الذي يملك السلام الذي هو تخليص من المكروه، فأما السلامُ الشجَر فهو شَجَر عِظَامٌ قوِي أحْسَبُه سُميَ بِذلك لسلَامَتِهِ مِنَ الآفاتِ.
والسِّلام الْحِجَارَةُ الصلْبَةُ سميت بذلك لسلامتها من الرخاوة، والصلْح
يُسَمَّى السِّلْمَ والسَّلْم والسَّلَمَ، سمي بهذا لأن معناه السلامة مِنَ الشَر. والسَّلْم دَلْوٌ لَهَا عُرْوَة وَاحِدَة نحو دَلْوِ السَّقَائِينَ، سُميتْ الذَلْوُ سَلْماً لأنها أقَل عُرًى من سائر الدِّلاء فهِى أسلَمُهَا من الآفاتِ والسُّلَّمُ الذي يرتقى عليه سُمِّي بهذا لأنه يُسَلِّمُك إِلى حَيْث تريدُ، والسُّلَّمُ السبَبُ إلى الشَيءِ، سُمِّي بهذا لأنهُ يؤدي إِلَى غَيْرِهِ، كما يُؤَدي السُّلَّمُ الذي يُرْتَقَى عَلَيْهِ.
* * *
وقوله: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
بفتحهما جميعاً، ويجوز أن يكونَ " إنَّه - فإِنَّه " بكسرهما جميعاً ويجوز
فتح الأولى وكسر الثانية، ويجوز كسر الأولى وفتح الثانية.
فأما فتح الأولى والثانية فعلى أن موضع أن الأولى نصب.
المعنى: كتب ربكم على نفسه الْمَغْفِرَةَ، وهي بَدَل مِنَ الرحْمَةِ.
كأنَّه قال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وهي المغفرة للمذْنِبِينَ التائبين، لأن معنى إنَّه (غفورٌ رحيم) المغفرة منه.
ويجوز أن تكون الثانية وقعت مَؤكدة للأولى، لأن المعنى: كتب ربكم أنه (غَفُورٌ رحيم) فلما طال الكلام أعيد ذكر إِنَّ.
فأما كسرهما جميعاً فعلى مذهب الحكاية، كأنَّه لما قال
(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) قال: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بالكسر.
قلت فهو غفُورٌ رَحِيمٌ. إِلا أن الكلام بـ إِنَّ أوكدُ. وَمَنْ كسرَ الأولَى فعل ما ذكرنا من الحكاية، وَإِذا فتح الثانية مع كسر الأولى. لأن مَعناها المصدَرُ، والخبرُ محذُوفٌ.
المعنى إِنه مَن عَمِل كذا وَكذا فمغفرةُ اللَّه له.
ومن فتح الأولى وكسرَ الثانِيةَ فالمعنى رَاجعٌ إلى المَصْدَرِ.
وكأنَكَ لَم تَذْكُر إن الثانية، المعنى كتب ربكم على نفسه أنه غفورٌ رَحِيمْ.
ومعنى (كتب) أوجَبَ ذَلِكَ إيجاباً مَؤكَداً، وجائز أن يكون كتب ذلك في
اللوح المحفوظ، وإِنما خوطب الخلقُ بما يعقلون، فهم يعقلون أن توكيد
الشيء المؤَخر إِنما يحفظ بالكِتَابِ، ونحن نشرح ذلك في موضعه شرحاً أوكد
من هذا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
ومعنى: يعملون السوءَ بجهالة، أي ليس بأنهم يجهلون أنه سُوء.
لو أتى المسلم ما يجهل أنَّه سوءٌ لكان كمن لم يتعمد سوءاً، ولَم يُوقع سوءاً.
وقولك عمل فلان كذا وكذا بجهالة يحتمل أمرين، فأحدُهما أنَّه عمله
وهو جاهل بالمكروه فيه، أي لم يعرف أن فيه مكروهاً، والآخر أقدم عليه على بصيرة، وَعَلِمَ أن عاقبته مكروهة، قآثر العَاجِلَ فجعل جاهلًا، فإِنه آثر القليل على الراحة الكثيرة والعافية الدائمة.
فهذا معنى: (مَنْ عَمِلَ مِنْكُم سُوءًا بِجَهَالَةٍ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)
يقرأ بالتاءِ والياءِ، فمن قرأ بالتاءِ فلان السبيل الطريق، وَهُو يُذكر
ويَؤنْثُ، ويجوز وجه ثالث: ولتَستَبينَ سبيلَ المُجرِمِينَ - بنصب السبيل -، لأن المعنى ولتستبين أنت يا محمد سبيلَ المجرمين.
فإِن قال قائل أفلم يكن النبي - ﷺ - مُستبيناً
سبِيلَ المجرمين؟
فالجواب في هذا أن جميع ما يخاطب به
فكأنَّه قال ولتستبينوا المجرمين، أي لتَزْدَادُوا استِبَانَةً لها، ولم يحتج أن يَقُولَ ولتَستبين سبيل المؤْمنين مع ذكر سبيل المجرمين، لأن سبيل المجرمين إذا استبانت فقد بانت معها سبيل المؤمنين.
وجائز أن يكون المعنى: ولتستبين سبيلُ المجرمين ولتستبين سبيلُ
المؤْمنين. إلا أن الذكر والخطاب ههنا في ذكر المجرمين فَذُكِرُوا وتُرِكَ
ذِكر سبيل المؤْمنين، لأن في الكلام دَليلاً عليها
كما قال عزْ وجلَّ: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ) ولم يقُلْ تقيكم البردَ، لأن الساترَ يَستُر منَ الحَرِ والبَردِ.
ولكن جرى ذكر الحرِّ لأنهم كانوا في مكانهم أكثرَ مُعَانَاةً له مِن البرد.
* * *
وقوله: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦)
كانوا يعبدون الأصنام، وقالوا (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
فأعلم اللَّه عزْ وجل أنه لا يُعبَدُ غَيرُه.
وقوله: (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ).
أَي إنما عَبَدْتموهَا عَلى طَريقِ الهَوَى لا على طريق البيِّنَةِ والبُرهان.
وقوله: (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا).
معنى إِذَن معنى الشرط، المعنى قَدْ ضَلَلتُ إِنْ عَبَدْتُها.
وقوله: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ).
أي وما أنا من النبيين الذين سلكوا طريق الهدى
* * *
وقوله: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (٥٧)
(وَكَذبتُمْ بِهِ) هذه الهاءُ كناية عن البيان، أي وكذبتم بالبيان، لأن
البينة والبيان في معنى وَاحدٍ، ويكون " وكذبتم به " أي بما أتَيْتُكُمْ به.
لأنه هو البيان.
وقوله. (مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ).
والذي استعجلوا به الآيات التي اقْتَرَحُوهَا عَلَيه. فأعلم - ﷺ - أن ذلك عند الله، فقال:
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ).
هذه كتبت ههنا بغير ياء على اللفظ، لأن الياء أسقطت لالتقاء السَّاكنين
كما كتبوا.. (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة) بغير واو.
وقرئت: (يَقْضِ الْحَقَّ)، وقرأ ابن عباس (يقضي بالحق)، إلا أنَّ القُراءَ لا يقرأون (يقضي بالحق) لمخالفة المصحف.
و (يقضي الحق) فيه وجهان: جائز أن يكون الحق صفة للمصدر، المعنى
يَقْضِي القَضَاءَ الحق، ويجوز أن يكون يقضي الحق يَصنَع الحق، أي كل ما
صنَعَه عزَّ وجلَّ فهو حق وحِكمة، إلا أن (وَهُوَخَير الفَاصِلين) يدل على معنى
القضاءِ الذي هو الحكم، فأما قضى في معِنى صنع فمثله قول الهُذَلي.
وعليهما مسرودتان قضاهما... داودُ أو صَنَع السَّوابغَ تبَّع
به فهو من أقاصيص الحق.
* * *
وقوله: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٥٩)
معنى مفاتح الغيب، أي عنده الوصلةُ إلى علمِ الغَيْبِ، وكل مَا لاَ يُعْلمَ
إذا اسْتُعلِمَ يقال فيه افتَحْ عَلى.
قوله: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا).
المعنى: أنه يَعْلَمُها سَاقِطَة وثَابتَةً، وأنْتَ تَقُول: مَا يجيئك أحد إلا وأنَا
أعْرِفه، فليس معناه إلا وأنا أعرفه في حال مَجيئه فقط.
ويجوز (وَلَا حَبَّةٍ) ويجوز (وَلَا حَبَّةٌ). فمن رفع فعلى ضربين، جائز أنْ
يكونَ على معنى ما تسقط ورقَةٌ وَلاَ حبة في ظلماتِ الأرضِ ولا رَطب وَلَا
يَابس (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).
و (فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) هنا على معنيين يَتَصَرف، ويجوز أن يكون معنى
(فِي كِتَاب مُبين) أن يكون اللَّه أثبت ذلك فى كتاب من قبل أن يُخْلَقَ كما
قال: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)، فأعلم أنه قد أثبت ما خلق من قبل خلقه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠)
أي يُنيمُكَمْ فيتوَفى نفوسَكم التي بها تميزون كما قال - عزَّ وجلَّ -:
(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا).
ومعنى: (يَبْعَثكُمْ فِيه).
(لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى).
أي يَبْعَثكُمْ من نومكم إلى أنْ تَبلُغُوا أجَالكمْ.
* * *
وقوله: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (٦١)
الحفظة الملائكة، واحِدهم حَافِظَ والجمع حَفَظَةَ. مثل كاتِبِ وَكَتَبَة.
وفَاعِل وفَعَلَة.
وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَاا).
أي هؤلاءِ الحَفَظَةُ لِأنه قال: (وُيرْسِل عليكمْ حَفَظَةً).
(وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ).
أي لا يَغْفُلون ولا يَتَوانَوْنَ، ومعنى التفْريطِ في اللغَةِ، تقدمة العجز.
فالمعنى أنهم لا يعجزون.
* * *
وقوله: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣)
يجوز في القراءَة يُنْجِيكم بالتخفيف.
لقوله: (لَئِنْ أنْجيتنَا). و (لئن أنْجَانا)
والأجود (يُنَجِّيكُمْ) بالتشْدِيد للكَثْرةِ.
ومعنى (ظُلُماتِ البَر والبَحَرِ) شَدَائِد البَر والبَحْرِ، والعَرَبُ تَقول لِليومِ
الذيْ تلقى فيه شِدةً يَوْم مُظْلِم، حتى إنهم يقولون يوم ذُو كواكب أي قد
اشْتَدتْ ظُلْمَتُه حتى صَارَ كالليل.
قِال الشاعر.
وأنشدوا:
فِدًى لبني ذُهْلِ بنِ شيبان ناقتي... إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعَا
فمعنء: (ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) شدائدهما.
وقوله: (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً).
بالضم والكسر في (خُفُية)، والمعنى تدعونه مُظْهِرين الضراعةَ، وهي شدة
الفَقْر إلى الشيءِ والحَاجة، وتدعُونَه خُفية أي تدعونه في أنفسكم تُضْمِرُون في
فقركم وحاجاتكم إليه كما تضمرون.
وقوله: (لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ).
أي في أي شدة وقَعتَم قُلْتُم: لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
فأمَر اللَّه عزَّ وجلَّ - أنْ يسألهم على جهة التوبيخ لهم والتقرير بأنه
ينجيهم ثُمَّ هُمْ يُشركُون مَعه الأصنَامَ التي عَلِمُوا أنهَا مِن صَنْعَتِهِم، أنَّها لا تنفع ولا تضر، وأنه قادر على تعذيبهم فقال: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)
نحو الحجارة التي أمْطَرَهَا على قومِ لُوط، ونحو الطوفان الذي غرقَ به
قَومَ فِرعَوْن.
(أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُم).
(أو يَلبِسَكُم شِيعَاً).
معنى (يَلبِسَكم) يخلط أمرَكم خَلْطَ اضطراب، لا خلط اتفاق يقال لبَسْتُ
الأمر ألْبِسُه لم أبينه، وخلطت بعضه بِبَعض ويقال: لبِستُ الثوبَ ألْبَسُه.
ومعنى (شِيعاً) أي يجْعَلكم فِرَقاً، لا تكونون شيعة وَاحدةً فإِذا كنتم
مختلفين قاتل بعضكم بعضاً، وهو معنى قوله (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ).
ويروى أن النبي - ﷺ - سأل اللَّه جلَّ وعزَّ ألَّا يَبْتَلِيَ هذه الأمة بعذاب يَستأصِلُها به، وَألَّا يُذيق بعضها بأسَ بَعض، فأجابَه في صرف العذاب، ولم يُجِبْهُ في ألا يذيق بعضها بأسَ بعض وأن لا تختلف.
* * *
(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦)
أي إِنما أدعوكم إلى. اللَّه وإِلى شريعته، ولم أومَر بحربكم ولا أخذكم
بالِإيمان كما يؤخذ الموكل بالشيءِ يُلزمُ بُلُوغ آخره.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)
أي لأخذكم بالإيمان على جهةِ الحَرْب، واضْطِرَارِكم إِليهِ ومُقَاتلتكم
عَليه، مُسْتقر، أي وَقْت.
(وَسَوْفَ تَعْلَمُون).
جائز أن يكون وعدهم بعذاب الآخرة، وجائز أن يكون وعدهم
بالحربِ، وأخذهم بالإِيمان شاءُوا أو أبَوْا، إِلا أنْ يُعْطِيَ أهْل الكِتاب
الجزية.
أي وما عليك أيها النبي وعلى المؤمنين من حسابهم أي من كفرهم.
ومُخالفتِهم أمرَ اللَّهِ.
(وَلَكِنْ ذِكْرَى).
أي ولكن عليكم أن تُذكرُوهم.
و (ذِكْرَى) يجوز أن يكون في موضع رفع ونصب، فمن نصب فالمعنى
ولكن ذكرُوهم ذِكْرَى، ومن رفع فعلى وجهين، أحدُهما ولكن عليكم أن
تُذَكرُوهم، كما قال: (إنْ عَلَيْكَ إلاَّ البلاغ). وجائز أن يكون: ولكن
الذين تأمرون به ذكرى.
(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
أيْ لِتُرجَى مِنْهم التقْوى.
* * *
وقوله: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
معنى تبْسل - بِعَمَلِهَا تكون غير قادرة على التخلص، والمسْتَبْسِلُ
المُسْتَسْلِمُ الذي يعلم أَنه لاَ يقدرُ عَلى التخلص.
قال الشاعر:
وَإبْسَالي بَنِيّ بغير جُرْم... بَعَونَاهُ وَلا بِدَم مُراقِ
أي إسلامي إياهُم، وقيل (أَنْ تُبْسَل) تَرْهَنَ، والمعنى واحد ويقال أسدُ
ويُقَالُ هذا بَسْل عَلَيْكَ أي حَرام عَليك فجائز أن يكون أسَدٌ بَاسِل من هذا، أي لا يُقْدَرُ عَلَيه، ويقال أعط الرافِيَ بسلَتَه، أي أجرَتَهُ، وإنما تأويله أنه عمل الشيءَ الذي قد استبسل صَاحِبُه مَعه.
* * *
وقوله: (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٧١)
(وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ)
أي نرجع إلى الكفر، ويقال لكل من أدبَرَ قَدْ رَجَعَ إلى خلف ورَجَعَ
القَهْقَرى.
وقوله: (كالذِي استهْوَتْه الشيَاطِينُ فِي الأرضِ).
أي كالذي زَينَتْ له الشياطِين هواه.
وقوله (حَيرَانَ).
منصوب على الحال، أي كالذي استهوته فِي حَالِ حَيرتِه.
وقوله: (لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى).
قيل في التفْسِيرِ يُعنى بهذا عبد الرحمن بن أبي بكر، (ائْتِنَا) أي تابِعنا في
إيماننا.
(وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
أي يدعونه ويقولون له (أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
العرب تقول أمَرْتُك بأنْ تفعل، وأمَرتُك لِتفْعَل، وَأمَرْتُك بأنْ تَفْعَلَ، فمن قال أمَرتُك بأن تفعَل فالباءُ للإلصاق، المعنى وقع الأمر بهذا الفِعلِ.
ومن قال أمَرتُك أنْ تفعل فعلى حذف الباءِ.
ومن قال أمرتك لتفعَل فقد أخبر بالعِلَّةِ التي لها وقع الأمر.
المعنى أمِرْنا للإسلام.
فيه وجهان أحدهما أن تكون أمرنا لأن نسلم ولأنْ نُقيم الصلاة ويجوز
أن يكون محمولًا على المعنى، لأن المعنى أُمِرنا بالإسْلَامِ. وبإقامة الصلاة.
ومَوضِع أن نصب، لأن الباء لما سقطت أَفْضى الفعل فنصب.
وفيه وجه آخر، يجوز أن يكون محمولًاعلى قوله:
(يَدْعُونه إلى الهُدى ائتِنا) (وأن أقيموالصلاة).
أي ويدعونه أن أقيموا الصلاة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)
(وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ).
نصب " يومَ " على وَجهين، أحدهما على معنى واتقُوهُ وَيوْمَ يَقُولُ فيكون
نسقاً على الهاءِ، كما قال عزَّ وجلَّ: (وَاتقُوا يوْماً لا تجزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس
شَيْئاً) والأجوَد أن يكون على معنى واذكر يقول كن فيكون، لأن بعده..
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ).
وفيه وجه ثالث وهو العطف على السَّمَاوَات والأرض.
المعنى وهو الذي خلق السَّمَاوَات والأرض بالحق وخلق يوم يقول
كن فيكون.
فإن قال قائل: إن يوْم القِيَامَةِ لم يَأتِ بَعْدُ. فإن مَا أنبأنا اللَّه بكونه
فحقيقته واقع لا محالة.
وقوله: (كُنْ فَيكون).
قال بعضهم: المخاطبة ههنا للصورِ المعنى ويوم يقول للصور كن
فيكون، وما ذكر من الصور يدل عليه.
وقيل إن قولُه (كُنْ) فيه أسماءُ جميع ما يخلق في ذلك الوقت المعنى:
وهذا ذكِرَ ليَدل على سرعة أمر البَعْثِ والساعة.
كأنه قال: ويوم يقول للخلق مُوتوا فيموتُون وانْتُشِرُوا فينْتشِرُون.
كأنه يَأمُر الحيَاة فتكون فيهم، والموت فيحلْ أولاً يفنى جميع الخلْقِ.
وقيل (ويوم يقولُ كُنْ فَيَكُون) (قَوْلُهُ) أي يأمر فيقع أمْرُه، و (الْحَقُّ) من
نعتِ (قَوْلُهُ) كما تقول: قد قلت فكانَ قولك، فالمعنى ليس أنك قلت فكان
الكلام، إنما المعنى أنه كان ما دلَّ عليه القول.
وعلى القول الأول قد رُفِعَ (قَوْلُهُ) بالابتداءِ و (الْحَقُّ) خبر الابتداءِ.
وقوله: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ).
يجوز أن يكون نصب (يومَ) على (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) مُبَيناً
عن قوله: (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ)، ويجوز أن يكون منصوباً بقوله (الحق).
المعنى. و " قَوْله الحق يَوْمَ يُنفخُ في الصورِ ".
فإِن قال قائل: للَّهِ الملك في كل وقت.
فلم خُصَّ يَوْمُ القِيامة، وَيوم ينفخُ في الصورِ؟
فالجواب في هذا أنه في اليوم الذي لا يظهر فيه من أحدٍ نفع لأحدٍ ولا ضَر. كما قال: (والأمر يَوْمَئِذٍ للَّهِ) والأمر في كل وقت للَّهِ جلَّ وعزَّ.
وقالوا في الصورِ قَولَيْن: قيل في التفسير: إن الصورَ اسم لقَرْنٍ يُنفخُ فِيهِ
وقيل: الصور جمع صورة، وكلاهما جائز، وأثبتُها في الحديث والرواية أن
الصور قرنٌ، والصور جمع صورة: أهل اللغة على هذا.
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ)
بالنصب والضم، فمن قرأ بالضم فعلى النداءِ، المعنى يا آزَر أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا. وليس بين النسَّابِيَنِ خِلاف أن اسم أبي إِبراهيم " تارِح " والذي
في القرآن يَدُل على أن: اسمه آزرُ، وقيل آزرُ عندهم ذَمٌّ في لُغتِهم، كأنه:
وَإذ قال إبراهيم لأبيهِ يا مخطئ أتتَخِذُ أصناماً.
وَإذا كان كذلك فالاختيار الرفعُ. وجائز أن يكون وصفاً له، كأنه قال: وإذ قال إِبراهيمُ لأبِيهِ المخطئ.
وقيل آزرُ اسمُ صنم، فإذا كان اسم صَنمٍ فموضعُه نصبٌ على إِضمار الفِعْلِ
كأنه قال وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخِذُ آزرَ إلهاً؟ أتتخذ أصناماً آلهة؟.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)
أي وَمِثلُ مَا وصَفْنا من قِصةِ إِبراهيم من قوله لأبيه ما قال نُرِيه ملكوت
السَّمَاوَاتِ والأرضِ، أي القدرة التي تقوى بها دلالته على توحيد اللَّه
جلَّ وعزَّ.
وتقول في الكلام لِمن فعل بك خيراً أو شرا كذلك أجزيك.
ومعنى قوله: (وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ).
أي نريه ملكوت السَّمَاوَات والأرض لما فعل، وليَثبُت على اليقين.
والملكُوت بمنزلة الملك، إِلا أن الملكوت أبلغ في اللغة من الملك، لأن
الواو والتاءَ تزادان للمبالغة، ومثل الملكوت الرغبُوت، والرهَبُوت.
وَوَزْنه من الفعل فَعَلُوت وفي المثل رَهَبُوتي خَيْرْ مِنْ رَغبُوتي، وهذا كقولهم، أو فرقاً خيراً من حُبَّ، وَمن روَى رَهَبُوتي خيرٌ من رحموتي فمعنى صحيح. يحقق من اللسان أن تكون له هيبة ترهب بها خير من أن يُرْحَم.
يقال جَنَّ عليه الليلُ وأجَنَّهِ الليلُ إِذا أظلمَ حَتى يَستتِر بظلمته ويقال لكل
ما سَتَر قَدْ جَنَّ، وقد أجَن، ويقال جَنَّه الليلُ، ولكن الاختيار جَنَّ عليه الليل وأجَنَّه الليلُ.
وقيل إِنَّ قومَ إبراهيم كانوا يعبدون الأصنامَ والشمسَ والقمرَ
والكواكِبَ، فلما بلغ إبراهيم المبلغ الذي يجب معه النظر، وتجب به على
العبد الحجة، نظر في الأشياءِ التي كان يَعبُدُها قومُه فلما رأى الكوكب
الذي كانوا يعبدونه، قال لهم هَذَا رَبِّي أي فى زعمكم، كما قال الله
جلَّ وعزَّ: (أيْنَ شركائي الذين كنتم تزعمون) فأضافهم إلى نفسه حكاية
لقولهم.
(فَلَمَّا أَفَلَ).
أي فلما غاب، يقال أفَلَ النجمُ يأفِل وبَأفُلُ أُفُولًا، إذا غَابَ:
(قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ).
أي لا أحب من كانت حالته أن يطلع وَيسِير على هيئةٍ يُتبين معها أنه
محدَث منتقل من مكان إلى مكان، كما يَفْعَلُ سائرُ الأشياءِ التي أجمعتم معي
على أنها ليست بآلهة، أي لا أتخِذُ ما هذه حالُه إلهاً، كما أنكم لا تتخذون
كل ما جرى مجرى هذا من سائر الأشياءِ آلِهة، ليس أنه جعل الحجة عليهم
أنَّ ما غاب ليس بإِله، لأن السماءَ والأرض ظاهرتان غيرُ غائِبَتَيْنِ وليس يُدعَى فيهما هذه الدعْوَى.
وإِنما أرادَ التبيِين لهم القريب، لأن غَيْبُوَبتهُ أقْربُ ما
وقد قيل إنه قال هذا وهو ينظر لِنفْسِه، فكأنه على هذا القول بمنزلة
قوله: - (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى).
وإبراهيم قد أنبأ اللَّهُ - عز وجل - عنه بقوله.
(إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، فلا شك أنه سلِيمٌ من أن يكون
الشك دَخَلُه في أمر اللَّه. واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون على إضمار القول، كأنه قال: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي)، كأنه قال: تَقُولُون هذا ربي، أى أنتم تقولون هذا رَبي، كما قال جلَّ وعزَّ: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا).
المعنى يقولان تقبل منا. واللَّه أعلم بحقيقة هذا.
والذي عندي في هذا القول أنه قال لهم: تقُولونَ هذا رَبي، أي هذا
يُدَبرني، لأنه فيما يُرْوَى أنهم كانوا أصحاب نجوم، فاحتج عليهم بأن الذي
تزعمون أنه مُدَبِّرٌ إنما يرى فيه أثر مُدَبَّر لا غير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)
(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً).. (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا).
يقال قد بَزَغَ القمرُ إذا ابتدأ في الطلوع، وكذلك الشمس.
والحجة في الشمس والقمر كالحجة في الكوكب.
(لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ).
وهذا لا يوجب ذلك. لأن الأنبياءَ تسأل اللَّه أن يثَبتَهَا على الهدى وتعلم
أنه لولا هداية اللَّه ما اهتَدَتْ.
وإبراهيم يقول: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ).
* * *
وقوله: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)
(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا)
أي مَائِلاً إلى الإسلام ميلاً لا رجوع مَعَهُ، والحنف أن يكون في القدم ميل، وهو أن تميل إِبهام القدم إِلى إِبهام القدم، فتقبل هذه القدم على هذِه القَدم، ويكون ذلك خِلْقَةً. والحنيف الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت فيه.
ومعنى (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أي جعلت قصدي بعبادتي توحيدي اللَّه
عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله جل وعلا: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠)
المعنى حَاجوه في اللَّه، فقال: (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ).
ومحاجَتهم إِياه كانت - واللَّه أعلم - فيما عبَدوا مع اللَّه عزَّ وجلَّ من
الكواكب والشمس والقمر والأصنام، فقال: (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ).
أي في توحيد اللَّه.
(وَقدْ هَدَانِي).
وقد بين لي ما به اهتديت.
(وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ).
أي هذه الأشياء التي تعبدُونها لا تَضر ولا تنفع، ولا أخافها.
(إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا).
أخاف إلا مشيئة اللَّه.
* * *
(وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١)
أيٍ ولا تخافون أنتم شِرْكَكُمْ باللَّهِ ما لم يُنرلْ بِهِ عليكم سلطاناً، أي
حُجة بَينَة.
(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ).
أيْ أحَق بأن يأمَنَ من العذاب، المُوحِّد أمِ المُشْرك
* * *
وقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)
قالوا جائز أن يكون هذا قول اللَّه (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) غير حكاية عن
إِبراهيم، وجائز أن يكون إبراهيم قال ذلك.
* * *
وقوله: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤)
داود وصليمان نسق على نوح، كأنه قال: وهدينا داود وسليمان وجائز أن
يكون من ذرية نوح، وجائز أن يكون من ذرية إبرَاهيمَ، لأن ذِكْرَهُما جميعاً قد جرى. ، وأسماء الأنبياء التي جاءَت بعد قوله: (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ) نسق على نوح، إلا أن الْيَسَع يُقَال فيه اللَّيْسَع واليَسعَ، بتشديد اللام وتخفيفها.
* * *
وقوله: (وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧)
أي هدينا هُؤلاءِ، وهدينا بعض آبَائهم وَإِخْوَانِهمْ.
ومعنى قوله: (وَاجْتَبَيْناهُمْ).
مثل اخترناهم، وهو مأخوذ من جبيت الماءَ في الحوْضِ إذا جمعته.
(فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ).
أي: الذين قد كفَروا، ويكفرون، مِمن أرسلت إِليه.
(فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ).
أي قد وَكَلْنا بالإيمان بها، وَقِيلَ في هذه ثلاثة أقْوال.
قيل يعني بذلك الأنبياءَ الذين جرى ذكرهم آمنوا بما أتى به النبي - ﷺ - في وقت مَبعثِهم، وقيل يعني به الملائكة.
وقيل أيضاً يعني به مَنْ آمَنَ مِنْ أصحاب النبي وأتباعه.
وهو واللَّه أعلم يعني به الأنبياءَ الذين تقدموا لقوله تبارك وتعالى:
(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (٩٠)
أي الأنبياء الذين ذكرناهُمُ الذين هدى اللَّه فبهداهم اقتده
أي اصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا، فإن قومهم قد كذبوهم فصبروا على ما كذبوا وَأُوذُوا، فاقْتَدِ بِهِمْ.
وهذه الهاء التي في " اقتَدِهْ " إنما تثبت في الوقف، تبين بها كسرة
الدال، فإن وَصَلْتَ قلتَ " اقتدِ "
(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ).
قال أبو إسحاق: والذي أختار من أثِق بعلمه أن يُوقَف عند هذه الهاء.
وكذلك في قوله (فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (٢٠).
وكذلك (لَمْ يَتَسَنَّهْ) وكذلك (وما أدْراكَ ما هيهْ)
وقد بيَّنَّا ما في " يَتَسَنَّهْ " في سورة البقرة.
وقوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١)
اليهود - من منافقيهم - جاءُوا وهم يعاندون النبي - ﷺ - يجادلونه ويصُدُّون عنه.
وكان سِمَتُهم سِمَةَ الأحْبَارِ، وكانوا يتنعَّمُونَ ولا يتعبدونَ، فأعلمهم النبي - ﷺ - أن - في التوراة أن الله جلَّ وعزَّ لا يحب الحَبْرَ السَّمِين، فجحدوا التوراة، وقالوا: (مَا أنزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)، فقال الله عزَّ وجل: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا).
يُظهرون ما يُحبون من ذلك ويُخفون كثيراً.
(وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا).
أي عُلِّمْتُمْ على لسان محمد - ﷺ - (مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).
يقال لكل من كان في عمل لا يجدي إِنما أنت لاعب.
* * *
وقوله: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩٢)
(وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا).
تقرأ بالتاء والياء جميعاً في لِتُنْذِرَ المعنى أنزلناه للبركة والإنذار.
ومعنى أم القرى أي أهل أم القرى، و (مَنْ حَوْلَهَا) عطف عليهم.
وأُمّ الْقُرَى مكة سميت أُمَّ الْقُرَى لأنها كانت أعظم القرى شأناً.
* * *
وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)
جاءَ في التفسير أنه يعني به مسيلمة، وَصَاحِبَ صَنْعَاءَ، لأنهما ادعيا
النبوة.
موضع " من " جر.
المعنى: ومن أظلم ممن افترى ومن قال سَأنزِلُ مثل ما
أنزل اللَّه، وهذا جواب لقولهم: لو نشاءُ لقلنا مِثلَ هَذَا.
وقوله: (ولوْ ترىَ إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ).
جواب " لو " محذوف، المعنى: ولو ترى إذ الظالمون فِي غَمَرات المَوْتِ
لرأيت عذاباً عظيماً، ويقال لكل من كان في شي كثير: قد غَمرَ فُلاناً ذلك، ويقال قد غمر فلَاناً الدَّيْن، تأويله: قد كثر فصار فيما يعلم بمنزلة ما يُبْصَر قَدْ غَمَرَ وَغطى من كثرتِه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ).
(أي) عليهم بالعذاب.
ومعنى (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ).
فيه وجهان - الله أَعلم -.
يقولون (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) فجائز أن يكون كما تقول للذي تعذبهُ لأزْهقَنَّ
نفسك، ولأخرجَنَّ نَفْسك - فهم يقولون - واللَّه أعلم.
(أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) على هذا المعنى.
وجائز أن يكون المعنى خلِّصُوا أنفسكم. أي لستم تقدرون على
الخلاص.
(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ).
أي العذاب الذي يقع به العذاب الشديد.
أمَّا معنى (فُرَادَى) فكل وَاحدٍ مُنْفَرِدٌ مِن شريكه في الغَيِّ وشَقِيقهِ.
ومعنى: (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
جاءَ في التَفْسِير: عُرَاةً غُرْلًا، والغُرْلُ هُمُ الغُلْف. والذي تحتمله
اللغة أيضاً. كما بدأناكم أول مَرةٍ، أي كان بعثكم كخلقكم.
وقوله: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ).
الرفع أجود، ومعناه لقد تقطع وَصْلُكُم. والنصب جائز.
المعنى: لقد تقطع ماكنتم فيه من الشركة بينكم.
* * *
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥)
أي يشق الحبة اليابسة الميتة والنواة اليابسة فيُخْرِجُ مِنها ورقاً أخضَر.
وهو معنى، (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ).
أي يخرج النبات الغض الطرِيَّ الخَضِرَ من الحب اليابس.
(وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ).
ويخرج الحب اليابس من النَبات الحى النامي.
احتج اللَّه جل ثناؤُه عليهم بما يُشَاهدُونَ من خَلْقِه لأنَّهم أنكرُوا البعث
فأعلمهم أنه الذي خلق هذه الأشياءَ وأنه قادر على بعثهم.
وقوله: (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).
أي فمن أين تصرفونَ عن الحق.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّْ: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)
يكون معناه شاق الصبح، وهو راجع إلى معنى خالق الصبع.
وقوله: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا).
النصب في الشمس والقَمر هي القراءَة. والجر جائز على معنى وجاعل
(الشمس والقمر حسباناً)، لأن في جاعل معنى جَعَلَ.
وبه نصبتَ (سكناً) ولا يجوز جَاعِلُ الليلُ سكناً، لأن أسماءَ الفاعلين إذا كان الفعل قد رفع أضيفت إلى ما بعدها لَا غَيْر تقول هذا ضارِبَ زَيْدٍ أمْسِ.
فإجماع النحويين أنه لا يجوز في زيد النصْب، وعلى ذلك أكثر
الكوفيين، وبعض الكوفيين يجيز النصْبَ. فإذا قلت هذا مُعْطِي زَيْدٍ درهماً
فنصب الدرْهَمَ محمول على أعطى.
* * *
وقوله: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)
الأكثر في القراءَة (مُسْتَقَرٌّ) بفتح القاف، وقد قرئت بكسرها
و (مُسْتَوْدَعٌ) بالفتح لا غير.
وأما رفع مستقر ومستودع فعلى معنى لكم مستقَرٌّ ولكم مستودعٌ.
ومن قرأ بالكسر، فمستقر ومُسْتَوْدَع فعلى معنى فمنكم مستقر
ومنكم مستودَع.
وتأويل مستقر أي مستقر في الرحم ومستودَع أي منكم
مستودع في أصلاب الرجال، وعلى هذا أيضاً فمستَقَر بفتح القاف، ومستودَعٌ.
أي فلهم مستَقَر ولكم في الأصلاب مستودعٌ وجائز أن يكون فمستقِر -
بالكسر - ومستودعَ أي: فمنكم مستقر في الأحياءِ ومنكم مستودعَ أي مستقر في الدنيا موجود، ومستودَع في الأصلاب لم يخلق بعْدُ.
وجائز أن يكون
الثرى.
وهذه الأقوال كلها قد قيلت واللَّه أعلم بحقيقة ذلك
* * *
وقوله: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)
قال أهل اللغة أصل كلمة ماء ماه إلا أن الهمزة أبدلت من الهاءِ
لِخفَاءِ الهاءِ، والدليل على ذلك قولهم أمواه في جمعه، ومياه، ويصَغر مُويه.
قال الشاعر:
سَقى اللهُ أَمْواهاً عَرَفْتُ مَكانَها... جُراباً وَمَلْكوماً وبَذَّرَ والْغَمْرا
وقوله: (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا)
معنى خَضِر كمعنى أخْضَر، يقال اخْضر فهو
أخضر وخضِر، مِثل أعوز فهو أعْوَر وعَوِر.
وقوله: (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ).
(قِنْوَانٌ) جمع قِنْو مثل صِنْو وصِنْوَان، وإذا ثَنيتَ القِنْو فهما قِنْوانِ يا هذا
بكسر النون، والقنْوُ العِذْق بكسر العين وهي الكباسة، والعَذْق النخلة.
و (دَانِيَةٌ) أي قريبة المتناوَل، ولم يقل ومنها قنوان بعيدةٌ.
لأن في الكلام دليلاً أن البعيدة السحيقة من النخل قد كانت غير سحيقة، واجتزِئ بذكر القريبة عن ذكر البعيدة، كما قال عزَّ وجلَّ:
(سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ولم يقل وسرابيل تقيكم البرد.
لأن في الكلام دليلاً على أنها تقي البرد لأن ما يستر من الحر يستر من
البرد.
عطف على قوله (خضِراً) أي فأخرجنا من الماءِ خَضراً وجَناب من أعناب
والجنة البستان، وإنما سمي البستان جنة، وكل نبت متكاثف يستر بعضه بعضاً فهو جنة، وهو مشتق من جننت الشيءَ إذا سترته.
ومن هذا قيل للترس مِجَن لأنه يستر.
وقولى: (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ).
أي في الطعم وفيه مايشبه طعمُ بعضِه طعْمَ بَعْض.
وَقرَنَ الزيتُونَ بالرمان لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل
على الغصن من أوله إلى آخره.
قال الشاعر:
بورك الميت الغريب كما... بورك نَضْرُ الرمَّانِ والزيتون
ومعناه أن البركة في ورقه واشتماله على عوده كله.
وقوله: (انظُرُوا إلَى ثَمَرهِ).
يقال ثمرة وثَمَرٌ وثمَارٌ، وثُمُر جمع ثِمارٍ، فمن قرأ إلى ثُمُره بالضم أراد
جَمْعَ الجَمْعِ، وإن شئت قُلْت إلى ثمْره فخففت لثقل الضمةِ.
(وَيَنْعِهِ).
الينعُ النضْجُ، يقال يَنعَ الشجرُ وأينع إذا أدرك.
قال الشاعر:
قال أبو عبيدة البيت ليزيد بن معاوية أو للأحوص.
احتج اللَّه عليهم بتصريف ما خلق ونقْلِه من حال إلى حال، بما يعلمون
أنه لا يقدر عليه المخلوقونَ، وأنه كذلك يبعثهم لأنهم كانوا يُنكِرُونَ البَعْثَ
فقال لهم: (إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
فأعلمهم أن فيما قص دليلاً لمن صَدَّق.
* * *
وقوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠)
المعنى أنهم أطاعوا الجنَ فيما سولت لهم من شِرْكِهِمْ.
فَجَعَلُوهم شركاءَ للَّهِ عزَّ وجلَّ وكان بعضهم ينسب إلى الجن الأفعال التي لا تكونُ إلا لله عزَّ وجلَّ فقال: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ).
فالهاء والميم إن شئت كانت عائدة عليهم، أي فجعلوا للَّهِ الذي خلقهم
شركاءَ لا يخلقون. وجائز إن تكون الهاءَ والميم تعودان على الجن، فيكون
المعنى: وجعلوا للَّهِ شركاءَ الجن واللَّه خلق الجن.
وكيف يكون الشريك لله المحدَثَ الذي لم يكُنْ ثُمَّ كَانَ.
فأما نصب الجن فمن وجهين أحدهما أن يَكون الجن مفعولاً فيكون
المعنى وجعلوا للَّهِ الجن شركاءَ، ويكون الشركاء مفعولًا ثانياً كما قال:
(وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا).
وجائز أن يكون الجن بَدَلًا من (شرَكَاءَ) ومفسراً للشركاءَ.
وقوله: (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
الله، وزعمت النصارى أن المسيح ابنُ اللَّه، وذكرت إليهود أن عزيرَ ابنُ اللَّه، فأعلم جل ثناؤه أنهم اختلقوا ذلك بغير علم، أي لم يَذكُرُوه عَنْ عِلْم.
وإنما ذكروه تَكذباً.
وقوله: (سُبْحَانَه وَتَعَالَى).
أي: براءَته من السوءِ، ومعنى سبحانه التبْرِئَة عَنْ كُل سُوءٍ، لا اختلاف
بين أهل اللغة في معنى التسبيح أن التبرئة للَّهِ جلَّ وعزَّ.
* * *
وقوله: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١)
أي هو خالق السَّمَاوَات والأرض.
(أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ).
أي من أين يكون له وَلَدٌ، والولد لا يكون إلا من صَاحِبَةٌ.
(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ).
فاحتج جلَّ وعزَّ في نَفْيِ الْوَلَد بأنه خَالق كُل شيء، فليس كمثله شيء.
وكيف يكونُ الولدُ لمن لَا مِثْلَ لَه، فإِذا نسب إليه الولَدُ فَقَدْ جُعِلَ لَهُ مِثل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)
أعلم عزَّ وجلَّ أنَّه يُدْرِك الأبصارَ، وفي هذا الإعْلَام دَليلُ أن خَلْقَهُ لا
يُدْرِكُونَ الأبْصَارَ، أي لا يَعْرفونَ كيف حَقيقَةُ البَصَر، وما الشيء الذي صار به الِإنسان يُبْصرُ بعَيْنَيه دُونَ أنْ يُبْصِرَ من غيرهما من سائر أعضائه، فأعلم أنْ
خَلْقاً مِنْ خَلْقِهِ لَا يُدْرِك المخلوقون كنهه، ولا يحيطون بعلمه، فكيف به
عزَّ وجلَّ؟؟!!!
(وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
فأما ما جاءَ من الأخبار في الرؤية وصح عن رسول اللَّه فغير مدفوع.
وليس في هذه الآية دَلِيلٌ عَلَى دفْعِه، لأن معنى هذه الآية معنى إدراك
الشيء والإحاطة بحقيقته.
وهذا مذهب أهل السنة والعِلْمِ والحديث.
* * *
وقوله: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤)
أي قد جاءَكم القرآن الذي فيه البيانُ والبصائرُ.
(فَمَنْ أبْصَرَ فَلِنَفْسِه).
المعنى فلنفسه نَفْعُ ذَلِكَ.
(وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيهَا).
أي فَعَلَى نَفْسه ضَرَرُ ذلك، لأن اللَّه جل ثناؤُه غَنِي عن خَلْقِه.
وقوله: (وَمَا أنَا عَليكم بِحَفِيظٍ).
أي لستُ آخذُكم بالإيمان أخْذَ الحفيظ والوكيل، وهذا قبل الأمر
بالقتال، فلما أمر النبي - ﷺ - بالقتال صار حفيظاً عليهم ومسيطراً على كل من تَوَلَّى.
* * *
وقوله: (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)
أي وَمِثْلَ ما بيَّنَّا نُبَيِّن الآيَات.
وموضعُ الكاف نَصبٌ. التي في أول كذلك.
المعنى ونصرف الآيات في مثل ما صرفناهما فيما تُلِيَ عَلَيكَ.
وقوله: (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ).
فيها خمسة أوجه، فالقراءَة دَرَستَ. بفتح الدال وفتح التاءِ ومعناه
وليقولوا قرأت كتُبَ أهل الكتاب وتقرأ أيضاً دَارَسْتَ، أي ذاكرت أهل
وقال بعضهم: (وليقولوا دَرَسَتْ) أي هذه الأخبارَ التي تَتْلُوهَا عَلَينَا
قديمة قد دَرَسَتْ، أي قد مضت وامَّحَتْ.
وذكر الأخْفَشُ دَرُستْ بضم الراءِ ومعناها (دَرَسَتْ) إلا أن درُست بضم الراءِ أشد مبالغة، وحَكَى دُرِسَتْ بكسر الراءِ أي قرئت.
وقوله: (وَلنُبيِّنَهُ لقَوم يَعلَمُون).
إن قال قائل: إنما صُرفَت الآياتُ ليقولُوا دَرَسْتَ؟
فالجواب في هذا أن السبب الذي أدَّاهُمْ إلى أنْ يقُولُوا دَرَسَتَ هُوَ تلاوة الآيات.
وهذه اللام يسميها أهل اللغة لام الصيرورة، وهذا كقوله تعالى:
(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)
فهم لم يلتقطوه يطلبون بأخذه أن يعاديهم ولكن
كانت عاقبة أمره أن صار لهم عدواً وحَزَناً.
وكما تقول: كتب فلان هذا الكتاب لِحَتْفِهِ، فهو لم يقصد بالكتاب أن يُهْلِكَ نَفْسَه، ولكن العَاقِبَةَ كانت الهلاكَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)
أي لو شاءَ اللَّه لجعلهم مؤمنين، وقيل لو شاءَ اللَّه لأنزل عليهم آية
تَضْطَرهم إلى الإيمان، وقال بعضهم (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا).
أي لو شاءَ لاستأصلهم فقطع سبب شركهم.
* * *
وقوله: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)
نُهُوا في ذلك الوقت قبل القِتالِ أن يَلْعَنُوا الأصْنَامَ التي يَعْبُدهَا
المشركُونَ.
أي فَيسُبًّوا اللَّه ظلماً، وقال بعضهم فيسبوا اللَّه عُدُوَّا.
وعَدُوَّا ههنا في معنى جماعة، كأنه قيل: فيسبوا اللَّه أعدَاءً.
وعُدُوًّا منصوب في هذا القول على الحال. وعَدْواً منصوب على
المصدَرِ على إرادة اللام، لأن المعنى فيعتدون عَدْوَاً، أييظلمون طلماً.
ويكون بإرادة اللام أأي فيبسوا الله للظلم، وفيها وجه آخر. فيبسوا الله عُدواً - بضم الدال - وهو في معنى عُدُوا ويقال في الظلم عَدَا فلان عَدْواً وعُدُواً، وعُدُواناً، وعَدَاءً. أي ظلماً جاوز فيه القدْرَا.
وقوله تعالى عزَّ وجلَّ: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ).
فيه غير قول: أنه بمنزلة (طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) فذلك تزيين أعمالهم.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بكفْرِهم).
وقال بعضهم: (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أي زَيَّنَ لكل أمَّةٍ العَمل الذي هو
فرض عليهم. والقول الأول أجوذ. لأنة بمنزلة (طَبَعَ الله عَلَى قُلوبهم). والدليل على ذلك، ونقض هذا قوله: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).
* * *
وقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٩)
أي اجتهدوا في المبالغة فى اليمين.
(لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا).
(لَنْ نُومِنَ لكَ حَتَى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله: (والملائكة قَبيلاً).
أي تأتي بهم كفيلًا، أي يَكْفُلون.
فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن الآيَاتِ عِنْدَ اللَّهِ.
ويروى أن المؤمنين قالوا: لو أنْزِلَ عليهم آية لعلهم كانوا يؤمنون، فقال
الله عزَّ وجلَّ: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ).
أي وما يُدريكم، أي لَستُم تعلمون الغيبَ، فلا تدرون أنهم يؤمنون.
كما تقول للرجل إذا قال لك: افْعَل بي كذا وكذا حتى أفْعَل كذا وكذا مما لا تعلم أنه يفعله لا محالة: ما يدريك. ثم استأنف فقال:
(أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ).
هذه هي القراءَة، وقرئت أيضاً (إِنَّها إذا جَاءَت لَا يؤمنون).
وزعم سيبويه عن الخليل أن معناها لعلها إذا جاءَت لا يؤمنون، وهي
قراءَة أهل المدينة، وقال الخليل: إنها كقولهم إِيت السوق أنك تشتري شيئاً، أي لعلك.
وقد قال بعضهم إنها " أن " التِي على أصل الباب، وجعل " لا " لَغْواً.
قال: والمعنى وما يُشْعِركم أنها إذا جاءَت يؤمِنُونَ، كما قال عزَّ وجلَّ: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (٩٥).
والذي ذكر أن " لا " لَغْوٌ غَالِطٌ، لأن ما كان لغواً لا يكون غير لغو.
من قرأ: إنها إذا جاءَت - بكسر إنَّ - فالإِجماع أن " لا " غير لغو، فليس
يجوز أن يكون معنى لفظةٍ مرةً النفي ومرة الإيجاب.
وقد أجمعوا أن معنى أن ههنا إذا فتحت معنى لعل، والإجماع أولى بالِإتباع.
وقد بينْتُ الحجة في دفع. ما قاله من زعم أن لا لغو.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)
هذا جواب قول المؤمنين: لعلهم يؤمنون.
فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنهم لا يؤمنون، وهذا كإِعْلام نوح: (أنهُ لَنْ يُؤمِنَ
مِنْ قَوْمِكَ إلا مَنْ قَدْ آمَنَ).
ومعنى (قُبُلًا) جمع قبيل، ومعناه الكفيل.
ويكون المعنى: وحَشَرْنَا عَليْهِم كل شيء قبيلاً قبيلاً.
ويجوز أن يكون قُبُلٌ جمعَ قبيل. ومعناه الكفيل.
ويكون المعنى: لو حشرنا عليهم كل شيءٍ ونجعل لهم بصحة ما نقول ما كانوا
ليؤمنوا، ويجوز أن يكون " قُبُلاً " في معنى ما يقابِلهم، أي لَوْ حَشَرْنَا عليهم كل شيء فقابَلهمْ.
ويجوز وحشرنا عليهم كل شيء قِبَلًا أيْ عِيَاناً، ويجوز قُبْلاً على تخفيف
قُبُل وكل ما كان على هذا المثال فتخفيفه جائز، نحو الصُّحف والصحْف
والكُتب والكتْبُ، والرسُل والرسْل.
وجائز أن يكون نُنَزِّلُ عليهم آية تضطرهم إلى الإيمَانِ.
* * *
وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (١١٢)
أي وكما جعلنا لك ولأُمَّتِك شياطين الجن والإنس أعداءً كذلك جَعَلْنَا
لِمَنْ تَقَدَّمَكَ من الأنبياءِ وأمَمِهم. و (عَدُوًّا) في معنى أعداءِ.
و (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) منصوب على البَدلِ مِنْ (عَدُوًّا).
ومفَسِّراً له.
ويجوز أن يكون (عَدُوًّا) مَنْصوباً على أنه مفعول ثان.
المعنى وكذلك شياطين الجن والإنس أعداءِ للأنبياءِ وأممهم.
(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا).
الزخرف في اللغة الزينة.
والمعنى أن بعضهم. يزَيِّن لبعض الأعمالَ القبيحة.
و (غُرُورًا) مَنْصوب على المصدَر، وهذا المصدرُ محمول على المعنى.
لأن مبنى إيحاءِ الزخْرف من القول معنى الغرور.
وكأنه قال يَغرونَ غُروراً.
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُة).
أيْ لَوْ شَاءَ الله لَمَنَع الشيَاطِينَ من الوَسْوَسَةِ للإنْس والجِنِّ ولكن اللَّهَ
يمتحن ما يعلم أنه الأبلغ في الحكمة والأجْزل في الثواب والأصْلَح للعبَادِ.
* * *
وقوله: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)
- معنى " لتَصغى " لتمِيلَ، أي وليَصِيرَ أمرهم إلى ذلك.
ويجوز، وَلتَصْغَى إِليْهِ أفْئِدَة.
يقال صَغَوْت أصْغَى مثل محوتُ أمْحى، وإِنما جاز أصغَى وكان ينبغي
أن يكونَ أصْغو لموضع الغَيْن، لأنها تفتح هي وأخواتها.
وهو أن يفعُل ويفْعِل
ومِثْلُ ذهَبَ يذهبُ، كأنه كان يَذْهُب، ويقال صَغَيْتُ أصْغَى أيضاً، وأصغَيْتُ، أَصغَى شاذ، وأصْغَيْتُ أصْغِي جيِّدٌ بَالغ كثير
وأفْئِدَة: جمع فؤاد، مثل غراب وأغربة.
ومعنى: (وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ).
جائز أن يكون وليعملوا ما هم عاملون من الذنوب، يقال قد اقترف فلان
ذنباً، أي قد عمل ذنباً.
ويجوز " ولْيقْتَرفُوا " أي ليخْتَلِقُوا ولْيَكْذِبُوا، وهذه لاَم أنْ، المعنى ولأن
يَرْضَوْه ولْيَقْتَرِفُوا على أن اللام لامُ أمر ومعناه معنى التهدُّدِ والوعيدِ، كما
تقول افْعَل ما شئت، فلفظه لفظ الأمر ومعناه معنى التهدُّدِ.
* * *
وقوله: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (١١٦)
أعْلَمَ اللَّه عزَّ وجلَّ - أن أكثرهم من الذين اتبعوا أكابِرَهم لَيْس عند
أنفسهم أنهم على بصائر، وأنهم إِنما يَظُنون، ومنهم من عانَدَ، ومن يعلم أن
النبي حق.
فإن قال قائل: كيف يعذبُون وهم ظانون، وهل يجوز أن يعَذَبَ من كفر
وهو ظَانٌّ، ومَن لم يكفر وهو على يقين؟
فالجواب في هذا أن اللَّه جل ثناؤُه قد ذكر أنَّه يعذَبُ على الظَنِّ.
وذلك قوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧).
والحجة
البصيرة من حيث يجب واقتصروا على الظن والجهل.
* * *
وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)
موضعا مَنْ " رفع بالابتداءِ، ولفظها. لفظ الاستفهام.
المعنى: إن ربك هو أعلم أي الناس يَضِل عن سبيله، وهذا مثل قوله:
(لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (١٢).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨)
معناه كلوا مما أخْلَصْتم ذبحه للَّهِ، والمنْعُ من الميْتَةِ دَاخِل في هذا.
وليس بين الناس اختلاف في أن المشركين ناظروا المسلمين، فقالوا لهم:
تتركون ما سبقكم الله إلى إماتَتِه وتأكلون ما أمَتُّم أنْتمْ فأعلم جلَّ وعزَّْ أن الميتةَ حرام وأن ما قصِدَ بتَزكِيته اتَبَاعُ أمْرِ اللَّه عزَّ وجلَّ فذلك الحَلال.
فقال: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩)
وَمَوْضِغ (أنْ) نَصْبٌ لأن " في " سقطت فَوَصَل المَعْنَى إلى (أنْ) فَنَصَبَها.
المعنى أي شيءٍ يقع لكم في أن لا تأكلوا.
وسيبويه يجيز أنْ يكونَ موضع (أنْ) جرا وإِن سَقَطتَ " في "، والنصْب عنده
أجود. -
قال أبو إسحاق: ولا اختلافَ بين الناسِ في أن الموضع نصْبٌ.
(وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ).
وحُرمَ جميعاً، أي فصل لكم الحلالَ مِن الحرامِ، وأحَلَّ لكمْ في
الاضطرار ما حَرَّمَ عليكم.
ومعنى ما اضْطُرِرْتم دعَتْكمُ شِدة الضرورَةِ، أي شِدة المَجَاعةِ إلى أكله.
(وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
أي إن الذين يُحِلُّون المَيْتة ويُناظِرونكم في إحلالها، وكذلك كل ما
يضلونَ فيه، إنما يتبعون فيه الهوى والشهوة ولا بَصِيرةَ ولا علمَ عندهم.
* * *
وقوله: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)
جاءَ في التفسير أن ظاهرهُ الزنَا، وباطنه اتخاذ الأخدان والأصدقاء على
جهة الريبة.
والذي يدُل عليه الكلام أن المعنى - واللَّه أعلم - اتركرا الإثم -
ظَهراً، أو بَطْناً، أي لا تقربوا ما حرَّم اللَّه عليكم جَهْراً ولا سِرًّا.
* * *
وقوله: جلَّ وعزَّ: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)
أي مِما لَمْ يُخْلَصْ ذبْحُه للَّهِ عزَّ وجلَّ.
(وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ومعنى الفِسْق الخروجُ عن الحق والدِّين، يقال فسقت
الرطبة، إذا خرجت عن قشرتها.
(وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ).
أي يُوَسوِسُ الشيطانُ لوَليِّه فَيُلْقي في قلبه الجدال بالباطِل، وهو ما
وصفنا من أن المُشْركين جادلوا المسلمين في الميتة. -
(وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).
هذه الآية فيها دليل أنَّ كل مَنْ أحَلَّ شيئاً مما حرمَ الله عليه أوحرَّم شيئاً
مما أحلَّ الله له فهو مُشرِكٌ.
لو أحلَّ مُحِل الميتة في غير اضطرار، أو أحل الزنا لَكان مُشركاً بإِجماع الأمَّةِ، وإن أطاع اللَّه في جميع ما أمر به، وإنما سُمِّي مُشْرِكاً لأنه اتبع غير اللَّه، فأشرك باللَّه غيره،
جاءَ في التفسير أنه يعني به النبي - ﷺ - وأبو جهل بن هشام فالنبي - ﷺ - هُدِيَ وأعْطِيَ نُورَ الإسْلامِ والنُبوةَ والحكمَةَ، وأبو جهل في ظلمات الكفر.
ويجوز أنْ تكون هذه الآية عامةً لكل من هداه الله ولكل من أضَلَّه اللَّهُ. فأعلم اللَّهَ جلَّ وعزَّ أن مَثَل المهْتدِي مَثَلُ الميتِ الذي أُحْييَ وجُعِلَ مستضيئاً يمشي في الناس بنور الحكمة والإيمان، ومثل الكافر مثل من هو في الظلمات لا يتخلص منها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (١٢٣)
موضع الكاف نصب معطوفة على ما قبلها، وهو قوله:
(كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
المعنى مثل ذلك الذي قصصنا عليك زُيَِّنَ لِلْكَافِرينَ عملُهم.
(وكذلك جعلنا) أي ومثلَ ذلك (جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا)، لأن الأكابر ما هم فيه من الرياسة والسَّعةِ أدعى لهم
إلى المكر والكفر، والدليل على ذلك قوله: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرزْقَ لعبادِهِ
لبغَوْا في الأرْضِ) وقوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ).
ومعنى: (وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ).
أي ذلك المكر يحيق بهمْ، لأنهم بمكرهم يُعَذَبُونَ.
* * *
وقوله: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)
هذه الهاءُ والميم تعودان على الأكابر الذين جَرَى ذِكْرُهُمْ لأنهم
عزَّ وجلَّ أنه أعلم من يصلح، فقال جلَّ وعزَّ: (وَلَقَدْ اخْتَرنَاهُمْ عَلَى عِلْم عَلَى العَاَلمِينَ).
وقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
أي هو أعلم بمَن يخْتَصُّ للرسالة.
وقال بعضهم لا يبلغ في تصديق الرسل إلا أن يكونوا قبل مَبعثهم مُطَاعِين
في قَوْمِهِمْ، لأن الطعن كان يتسع عَلَيْهم، ويقال إنما كانوا أكابرَ ورؤَساءَ
فاتبِعُوا.
(سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ).
أي هم وِإن كانوا أكابرَ في الدنيا سيصيبُهم صغارٌ عِنْد اللَّه أي مَذَلَّة.
و" عِند " متصلة بِـ (سيُصِيبُهم) عند اللَّه صغار.
وجائز أن تكون " عند " متصلة بصغار فيكون المعنى سيصيب الذين أجْرَمُوا صَغَارٌ ثابت لهم عند، للَّهِ.
ولا تصلح أن تكونَ " من " محذوفة من (عِنْدَ) إنما المحذوف (في) من
(عند) في المعنى إذا قلت: زيد عند عمروٍ
والمعنى زيد في حضرة عمرو.
* * *
(فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)
يروى عن ابن مسعودٍ أنه سأل النبي - ﷺ -:
وهَل ينشرح الصدر؟
فقال نعم، يدخل الْقَلْبَ النورُ، فقال ابن مسعودٍ: هل لذلك من علم؟
قال نعم، التجافي عن دَارِ الغُرُورِ، والإنابة إِلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل الموت.
يُروى عن ابن عباس أنه قال: الْحَرَج موضع الشجر الملتف، فكان
قلبَ الكافرَ لا تَصِلُ إِليه الحكمة.
كما لا تصل الراعية إلى الموضع الذي يلتف فيه الشجر.
وأهل اللغة أيضاً يقولونه: الشجر الملتف يقال له ألْحَرَج.
والحرج في اللغة أضيق الضيق والذي قال ابن عباس صحيح حَسَنٌ.
فالمعنى عند أهل اللغة إنَّه ضيق جدًّا.
ويجوز حَرِجاً - بكسر الراءِ - فمن قال حَرِج فهو بمنزلة قولهم: رجل
دَنِفٌ، لأن قولك دَنَف ههنا وَحَرَج ليس من أسماءِ الفاعلين. إِنما هو بمنزلة
قولهم: رَخلٌ عَدْل أي ذو عَدْل.
وقوله: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ).
وَيصَّاعَدُ أيضاً، وأصله يَتَصَاعَدُ ويَتَصَعَّدُ، إِلَّا أنَّ التَاءَ تدغم في الصًاد
لقربها منها.
ومعنى كأنما يصَّعَّد في السماءِ - واللَّه أعلم - كأنه قد كلف أن يَصْعَد
إِلى السماءِ إذَا دُعِيَ إلى الِإسلام مِنْ ضِيق صَدْرِهِ عنه.
ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - كأنَّ قلبه يصعد في السماءِ نبُوًّا على الِإسلام واستماع الحكمة.
(كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ).
أي مثل قصصنا عليك يجعل الله الرجس على الذين لا يُؤمنون.
وَالرَجْسُ اللعنةُ في الدنيا والعذابُ في الآخرة.
وقوله جلَّ وعزّ: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)
ودليله: (السَّلاَمُ الْمُومِنُ الْمُهَيْمِنُ).
ويجوز أن تكون سميت الجنة دار السلام لأنها دارُ السَلامة الدائمة التي لا تنقطع.
* * *
وقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨)
المعنى - واللَّه أعلم - فيقال لهم: (يَا مَعْشَر الْجِنَ قَدْ اسْتَكثَرْتُمْ مِنَ
الِإنْسَ).
المعنى قد استكثرتم ممن أضللتموهم من الإنس.
(وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ).
جاءَ في التفسير أن استمتاع الِإنس بالْجِن أن الرجُلَ كان إذا سافر سفراً
فخاف أو أصابَ صيداً، قال أعوذُ بِرَبِّ هذا الوادي، وبصاحب هذا الوادي يعني به الجِنَّ، واستمتاعُ الجِنِّ بالِإنس أنَّ الِإنْسِي قد اعترف له بأنَّه يقدر أن يدفع عنه.
والذي يدل عليه اللفظ - واللَّه أعلم - هو قبول الإنس من الجن ما كانوا
يُغْوُونهم به لِقَوْله: (اسْتَكْثَرْتُم مِنَ الِإنْسِ).
فأما من كان يقول هذا أعني يستعيذ بالجنِّ فقليل.
(قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ).
الْمَثْوَى الْمُقَامُ.
(خَالِدِينَ فِيهَا).
منصوب على الحال، المعنى: النار مُقَامُكم في حال خُلُودٍ دائم.
وقوله: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ).
معنى الاستثناء عندي ههنا - واللَّه أعلم - إِنَّمَا هو من يوم القيامة، لأن
جلَّ وعزَّ: (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ).
فيجوز واللَّه أعلم إلا ما شاءَ ربك من مقدار حشرهم ومحاسبتهم
ويجوز أن يكون إلا ما شاءَ ربك مما يزيدهم من العذاب.
وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
أي هو حكيم فيما جعله من جزائهم، وحكيم في غيره.
* * *
وقوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (١٣٠)
فقال: (رُسُلٌ مِنْكُمْ) وإِنما المرسل من الِإنس دون الجن، فإِنما جاز ذلك
لأن الجماعة تعقل وتخاطب، فالرسل: هم بعض من يعقل.
وهذا كقوله: عزَّ وجلَّ: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ).
وَإنَّمَا يخرجُ ذَلك مِنَ الْمِلْح.
أي البحر الذي ليس بعذبٍ، فقال منهما لأن ذكرهما قَدْ جُمِعَ.
فهذا جائز في اللغة، في كل ما اتَّفَقَ في أصله كما اتفقت الجِن مع الإنس في باب التمييز.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (١٣١)
زَعَمَ سيبويه أنَّ موضِعَ ذلك رفع.
المعنى: الأمر ذلك لأنه (لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ).
وقال بعضُهُم: يجوز أن يكون موضعها نصباً.
المعنى: قيل ذَلك لأنه
المعنى يدل على أمْر الإرسالِ، فكأنه - واللَّه أعلم - ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل أمْر عَذَاب مَنْ كذَّبَ بها لأنه لم يكن مهلك القرى بظلمِ، أيِ لا يهلكهم حتى يبعث إليهم رسولًا.
كما قال عزَّ وجلَّ: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٥).
وقوله: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣)
(كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ).
مَوضع الكاف نصب.
المعنى (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ) مثل ما أنشأكم.
يقال: أنشأَ اللَّه الخلق إذا خلقه وأبدأه، وكل من ابتدأ شيئاً فقد أنشأه.
ومن ذلك قولك فأنشأ الشاعر يقول، أي ابتدأ من نفسه، والنشَأ الصغارُ من الأولادُ.
قال نُصَيبٌ:
وَلَوْلَا أن يقال صَبَا نصَيبٌ... لقلت بنفسي النَشَأُ الصِّغَار
ولهذا يقال للصغار نَشءٌ حَسَنٌ، ونُشوءُ حَسَن، أي قد ظهر له ابتداء
حسن.
* * *
وقوله: (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)
ومكاناتكُمْ، المعنى اعملوا عَلَى تمكنكم.
ويجوز أن يكون المعنى اعملوا على ما أنتم عليه، ويقال للرجل إِذا أمرته أن يثبت على حال: على مكانتك يا فلان، أي أثبت على ما أنت عليه.
قد أعلمهم أن من عمل بعملهم فَإلى النار مصيرُه، فقال لهم: اقيموا
على ما أنتم عليه إِن رضيتم العذاب بالنار.
* * *
(وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨)
والحامي الذي حَمَى ظهرَه أنْ يُرْكَبَ، (وَأنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ
عَلَيْهَا).
فأعلم الله عزَّ وجلَّ انَّ ذَلِكَ افتَرَاء، أي يفعلون ذلك افتراءً عليه، وهو
منصوب بقوله: (لَا يَذْكُرُونَ اسمَ اللَّهِ).
وهذا يسميه سيبويه مَفْعُول لَهُ.
وَحَقِيقَتُة أن قوله: (لَا يَذْكُرونَ) بمعنَى يَفْتَرُون، فكأنه قال يفترون افتراءً.
* * *
(وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩)
وكأنَّه إذَا جَعَلُوا لأصْنَامِهِمْ مما في بطون الأنعام شيئاً
جَعَلُوه مَا يَكُون ذَكَراً مَوْلُوداً حيا يَأكُله الذكْرَان خَاصةً.
ولا يجيزون أن يأكلَ النساءُ شيئاً.
فإن كان ذكراً ميتاً اشترك فيه الرجَالُ والنساء
وهو قوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَا).
ثم قال: (خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا).
فهو على ضربين: أجودهما أن يكون أنثَ الْخَبَرَ، وجعل معنى " ما "
التأنيث لأنها في معنى الجماعة، كأنَّهم قالوا جَمَاعَةً مَا فِي بُطُون هذه الأنعام
الأنعام، والذي في بطون الأنعام ليس بمنزلة بعض الشيءِ، لأن قولك:
سَقَطَتْ بعض أَصَابعه " بعض أصابع " إصْبَعٌ وهي واحدة منها، والذي في بطون الأنعام: مَا في بَطْن كل وَاحِدَ غيرها.
وَمَنْ قال يجوز على أن الجملة اأعام فكأنه قال: وقالوا الأنعام التي في بطون الأنعام خَالِصَةٌ لذكورنا.
والقول الأول الذي شرحنا أبيَن، لقوله (وَمُحَرَّمٌ)، لأنه دليل على الحمل
المعنى في " ما " عَلَى اللفظ.
وقرأ بعضهم (خالصةً لِذكورنا)، فهو عندي - واللَّه أعلم - ما خَلصَ حَيا.
ويجوز (وإِن يَكنْ ميْتَةً) بالياء والتاءَات، ونَصْبَ (ميتة).
المعنى وإِن تكن تلك الحمول التي في البطون ميتةً، ومن قرأ وإن يكن
فعلى لفظ ما، المعنى إِن يكن ما في البطن ميتة، ويجوز " وإِنْ تكن مَيْتَةٌ "
بالتاءِ ورفع الميتة، ويكون " تَكنْ " بمعنى الحدوث والوقوع كأنَّه وإِن تَقَعْ مَيْتَة
وإن تَحْدُثْ مَيْتَة.
وقوله: (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهمْ).
المعنى - واللَّه أعلم - سيجزيهم جزاءَ وصفهم الذي هو كذِب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)
(سَفَهًا)
منصوب على معنى اللام أي للسفه، مثل فعلت ذلك حذرَ الشر.
ويجوز أن يكون منصوباً على تأويل المصدر، لأن قتلهم أولادهم قد سَفِهوا فيه، فكأنَّه قال: سفِهوا سَفْهاً، فقال
وقد فسرنا نصب (افتراءً).
ومعنى الافتراءِ ههنا الكذب.
ثم احتج الله عليهم ونَبَّه على عظم مَا أتَوْه فِي أنْ أقْدَمُوا على الْكَذِب على اللَّه وأقْدَمُوا على أن شَرعُوا من الدِّينِ مَا لمْ يَأذَنْ به اللَّهُ فقال:
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١)
فكأنه قال افتروا على اللَّه وهو المحدث للأشياءِ الفاعل ما لا يقدر أحدٌ
على الإتيان بمثله، فقال عزَّ وجل:
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ) أي: ابتدع جنَاتٍ مَعْرُوشاتٍ، والْجَناتُ الْبَسَاتِينُ.
(وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ).
ومعنى المعروشات ههنا الكروم.
(وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ).
في حال اختلاف أكْلُهِ. وهذه مسألة شديدة في النحو إِلا على من عرف
حقيقتها، لأن للقائل أن يقول كيف أنشأهُ في حَال اختلاف أكله وهو قد نشأ
من قبلِ وقُوعِ أكْلِهِ. وأكْلُه ثمره؟
فالجواب في ذلك أنه عزْ وجلَّ قدَّرَ إنشَاءَه بقوله: (هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ).
فأعلم عزَّ وجلَّ إنَّه المنشئ له في حال اخْتلافِ أكلِهِ، ويجوز أنشأه ولا
أكل فيه مختلفاً أكُلُه، لأن المعنى مُقَدِّراً ذلك فيه، كما تقول.: لتدخُلُنَّ منزل زيد آكلين شاربين، المعنى تدخلون مُقَدِّرِينَ ذلك.
وسيبويه دل على ذلك وبيَّنه في قوله: مررت برجل معه صقر - صائداً به غداً، فنصب صائداً على الحال، والمعنى مُقَدِّراً الصيد.
ومعنى (مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ).
ويكون أن يكون مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ، أنْ تكونَ الثمَارُ يُشْبِه بعضها بعضاً في النظر وتختلف في الطعوم.
وقوله: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ).
ثَمَرَ جمعُ ثَمَرَةٍ، ويجوز مِن ثمُرِهِ، ويكون الثمُر جمعُ ثِمَار فيكون بمنزلة
حُمُر جمع حمارٍ. ويجوز من ثمْره.. بإِسكان الميم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ).
يجوز الْحَصَادُ والحِصَادُ، وتقرأ بهما جميعاً، ومثله الجَداد والْجِدادَ
لِصِرَامَ النَّخل.
اختلف الناسُ في تأويل (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) فقيل إن الآية مكيَّةٌ.
وروي أن ثابت بن قيس بن شماس صَرَمَ خَمْسَمائَةِ نَخْلة ففرَّق ثِمَارَها كُلَّه
ولم يُدْخِلْ مِنْهُ شَيْئاً إلى مَنْزِله، فأنزل اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا).
فيكون على هذا التأويل أن الإنسان إذا أعطى كل ماله ولم يوصل إلى
عياله وأهله منه شيئاً فقد أسْرَفَ، لأنه جاءَ في الخبر: ابْدَأ بِمَنْ تعُول.
وقال قومٌ إِنها مَدَنية، ومعنى (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)، أدُّوا مَا افْتُرِضَ
عليكم في صَدَقَتِه، ولا اختلاف بين المسلمين في أمر الزكوات أن الثمار إذا
" هذا ليس كائناً " وحرموا ما أحل اللَّه، فلا يكون إِسرافٌ أبْيَنَ من صرف الأموال فيما يُسْخِط اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢)
نسق على الجنات، المعنى وهو الذي أنشأ جناتٍ، وأنشأ من الأنعامِ
حَمُولةً وَفَرْشاً والحَمولة الِإبل التي تُحَمَّلُ.
وأجْمَعَ أهل اللغة على أن الفَرْشَ صغارها.
وقال بعض المفسرين: الفرشُ صغارُ الِإبِلِ وإِن البقر والغَنم من الفرش
الذي جاءَ في التفسير، يدل عليه قوله:
(ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ)
وقوله (وَمِن الِإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِن الْبَقَرِ اثْنَيْنِ).
فلما جاءَ هذا بدلًا من قوله (حَمُولةً وَفَرْشاً) جعله للبقرِ والغنم مع الِإبل.
وقوله: (كُلُوا مِما رَزَقَكَمُ الله).
أي لا تُحَرِّموا ما حَرمْتم مما جرى ذكره.
(وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ).
في خُطوات ثلاثة أوجه: ضم الطاءِ وفتحها وإِسْكانها.
ومعنى خطوَاتِ الشيطانِ. طُرُق الشيطان، قال بعضهم تَخَطَي الشَيطانِ الحلالَ إِلى الحرام.
والذي تدل عليه اللغة أن المعنى لا تسلكوا الطريقَ الذي يُسَوِّله لَكَم
الشيطان.
بَدَل من (حَمُولَةً وَفَرْشًا) والزوج في اللغة الواحد الذي يكون معه آخر:
(مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ).
والضَّأْنُ جمع ضائن وضَأن، مثل تاجر وتَجْر.
(وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ).
هذا احتجاج عليهم. بَيَّن اللَّه عزَّ وجلَّ بِهِ فِرْيَتَهمْ وَكذِبَهمْ فيما ادَّعَوْه مِنْ
أن مَا فِي بُطونِ الأنْعَامِ حلال للذكور ومحرم على الإناث وما حرمُوا مِنْ سائر
ما وَصَفْنَا، فقيل لهم آلذَّكرَيْنِ حرَّمَ فإن كان حرمَ من الغنَمَ ذُكُورَهَا فكل
ذُكُورِها حرام، وإِن كان حرَّم الأنثيين فكل الإناثِ حَرَام، وإن كان حرمَ ما
اشتملت عليه أرحام الأنثيين فقد حرم الأوْلاَدَ، وكلُّهَا أوْلاَدٌ فَكُلُّها حَرَام.
وكذلك الاحتجاج في قوله: (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ).
فقيل لهم (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ).
أي فسروا ما حرمتم بعلم، أي وأنتم لا علم لكم لأنكم لا تؤمنُونَ
بكِتَاب.
* * *
(وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)
(أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا).
أي هل شاهدتم الله قد حرم هذَا إِذ كنْتُمْ لاَ تؤمِنُونَ برسول.
ثم بين ظلْمَهُم فقال:
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
وقد بَيَّن الاحتجاج أنهم لا يؤْمنون بِنَبيٍّ ولا يَدَّعُون أن نبياً خبَّرهم عن
الله أن هذا حرام، ولا أنهم شاهدوا اللَّه قد حَرَّمَ ذلك.
ثم قال:
فأعلمهم - ﷺ - أن التحريم والتحليل إنما يَقْبَلُه بالوَحي أو التنزيل فقال: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا).
والمسْفُوح المصْبُوب، فكأنه إذا ذَبَحوا أكَلُوا الدَّمَ كما يأكلونَ اللحمَ.
(أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ).
والرجْسُ اسم لما يُسْتقْذرُ، وللعذاب.
(أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ).
أي رُفِعَ الصوْتِ على ذَبْحِهِ باسمِ غَيْر اللَّهِ، وكانوا يذكرون أسماءَ
أوْثانَهم على ذَبَائحهم.
" فَفِسْق " عطف على لَحْمِ خِنْزِيرٍ، المعنى إلا أن يكون
المأكول ميتةً أو دَماً مسْفُوحاً أو لحمَ خِنْزِيرٍ أو فِسْقاً.
فسُمِّيَ ما ذكر عليه غير اسم اللَّه فِسْقاً، أي خُرُوجاً مِنَ الدِّينِ.
(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ).
أيْ دَعَتْه الضرُورةُ إلى أكْله فَأكَلَه غيرَ باغٍ، أي غير قاصد لتحليل ما
حرم اللَّه.
(وَلَا عَادٍ).
أي ولا مُجَاوزٍ للقَصْد وقَدْرَ الحاجة. و " العَادِي " الظالمُ.
(فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
أي يغفر لمن لم يَتَعَدَّ.
فأما إعراب (آلذَّكَرَيْنِ) فالئصْبُ بـ (حَرَّمَ).
وَتَثْبُتُ ألف المعرفة مع ألف الاستفهام لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر،
وقد يجوز جمع أم حذف الألف لأن أم تدل على الاستفهام لأنه لو قيل ألرجلَ ضربت أم الغلامَ لَدَلَّتْ " أمْ " على أن الأول، داخل في الاستفهام.
وقد أجاز سيبويه أن يكون البيت على ذلك وهو قوله:
لَعَمْرُكَ ما أَدْري وإِن كنتُ دارياً شُعَيْثُ بنُ سَهْم أَمْ شُعْيْثُ بنُ مِنْقَرِ
فأجاز أن يكون على أشعيثُ بن سهم، ولكن القراءَة بتبيين الألف الثانية
في قوله: (آلذَّكَرَيْنِ).
* * *
وقوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (١٤٦)
ئعْنَى بِه الإبل والنعامُ، لأن النعام ذوات ظفر كالإبل.
(وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا).
فقال بعض الناس:. حُرمَتْ عليهم الثرُوب، وأحل لهم ما سواها مما
حملت الظهور.
(أَوِ الْحَوَايَا)
وهي المباعرُ واحدها حَاوِية وحاوِيَاءُ وحَوِيَّة.
(أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ).
نحو شحم الإلية. وهذا أكثر القولين، وقال قوم حُرمَتْ عَليهم الثروبُ.
وأحل لهم ما حملت الظهور وصارت الحوايا أو ما اختلط بعظم إِلا ما حملت
الظهور فإِنه غير محرم، و " أوْ " دخلت على طريق الِإباحة، كما قال جَلَّ وعزَّ:
فالمعنى كل هُؤلاءِ أهل أن يُعصَى.
فاعصِ هذا، واعصِ هذا
و" أو " بليغة في هذا المعنى، لأنك إِذا قلت: لا تطع زيداً وعمراً فجائز أن تكون نهيتني عن طاعتهما معاً في حال إِن أطَعتُ
زيداً على حِدَتِه لم أكُنْ عَصيتُكَ، وإذا قلتَ: لا تطعْ زيداً أو عمراً أوخالداً، فالمعنى أن هُؤلاءِ كلهم أهل ألا يُطاعَ فلا تطع واحداً منهم ولا تطع الجماعة.
ومثله جالس الحسن أو ابن سِيرين أو الشَعبي، فليس المعنى أني آمرك
بمجالسة وَاحد منهم، ولكن مَعْنَى " أوْ " الِإباحة.
المعنى كُلهم أهل أن يُجَالَس، فإِن جالست واحداً منهم فأنت مصيب وإِن جالست الجماعة فأنت مصيب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (١٤٨)
زعم سيبويه أن العَطْفَ بالظاهر على المضمر المرفوع قبيح، يستقبح
قمت وزيدٌ، وقام وزيدٌ، فإن جاءَت " لَا " حَسُنَ الكلامُ فقلت: لا قمتُ ولَا زيد، كما أَنَه إذا أَكد فقال قمت أَنت وزيد حَسُن، وهو جائز في الشعر.
فأما معنى الآية فإن اللَّه جل ثناؤُه أخبر عنهم بما سَيَقولُونَه، وقولهم:
(لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) جَعَلُوا هَذَا القَوْلَ حُجةَ فِي إِقامَتهمْ عَلى شِركِهِِم فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنَّ (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا).
والحُجَّةُ عَليهم في هذا أنهُم إِذا اعْتَقَدُوا أن كُل مَنْ كان على شيءٍ.
والأشياءً تجري بمشيئة الله تعالى - فهو على صَوابٍ فلاَ مَعنى إِذن - على
قولهم - للرسَالةِ والأنبياءِ، فيقال لهم: فالذين على دين يخالفكم، أليس هو
على ما شاءَ اللَّه، فينبغي ألا تَقُولوا إِنهمْ ضالُّونَ، وهو عزَّ وجلَّ يَفْعَلُ مَا يَشاء،
كل مَا يَقْدِرُ عَليهْ، فقال عزَّ وجلَّ:
(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)
فحجته البالغة تَبْيينهُ أنَّهُ الواحدُ وإرْسالُه الأنبياءَ بالحجج التي يعجز عنها
المخلوقون:
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)
زعم سيبويه أنها " ها، ضمت إليها " لُمَّ " وجَعلتا كالكلمة الواحدة.
فأكثر اللغات أن يقال هَلُمَّ للواحد والاثنين والجماعة.
بذلك جاءَ القرآن نحو قولهم: (هَلُمَّ إِلَيْنَا).
ومعنى (هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ) أي فهاتوا شهداءَكم، وقربوا شهداءَكم، ومن
العرب من يثني ويجمع ويؤَنث، فيقول للذكر هَلُمَّ، وللاثنين هلمَّا وللجماعة
هَلُمُّوا، ْ وللمرأَة هَلُمِّي وللاثنتين هلمَّا، وللنسوة هَلْمُمْنَ.
وفتحت الميم، لأنها مُدْغمة كما فتحت رُدَّ في الأمر لالتقاءِ السَّاكنين.
ولا يجوز هَلُم إلينا للواحد بالضم. كما يجوز في رُد الفتح؛ والضم والكسر، لأنها لا تتصرف.
وقوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)
فَـ " مَا " في مَوْصع نصب إِنْ شِئْتَ بـ (أَتْلُ).
والمعنى تعالوا أتْلُ الذي حرَّمَ ربكم عليكم، وجائز أن تكون " ما " منصوبة بـ (حَرَّم) لأن التلاوة بمنزلة القول.
كأنه قال: أقول أي شيءٍ حرَّم ربكم عليكم، أهذا أم هذا، فجائز أن يكون
الذي تَلاهُ عَلَيْهم قَوْله: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا).
ويكوِن (أَلَّا تُشْرِكُوا) منصوبة بمعنى طرح اللام أي: أبين لكم الحرامَ لئلاً تُشْرِكُوا بِه شَيْئاً، لأنهم
جلَّ وعزَّ فَصَارُوا بِذلك مُشْرِكينَ.
ويجوز أن يَكونَ (أَلَّا تُشْرِكُوا) مَحْمُولاً على المعنى، فيكون:
" أتل عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا به شيئاً "
فالمعنى أتْلُ عَليْكُم تَحْرِيمَ الشرْكِ بهِ.
وجائز أن يكون على معنى أوصِيكم (أَلَّا تُشْرِكُوا بِه شيئاً)
لأن قوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً) محمولٌ على معنى أوصيكم بالوالدين إحساناً.
وقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ).
أي لَا تَقْتُلُوا أولادكم من فَقْرٍ، أي من خَوْفِ فَقْرٍ.
(وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ).
بدل من الفواحش في موضع نصب.
المعنى لا تَقْرَبوا ما ظهر من الفواحش وما بطن، جاءَ في التفسير أنَّ مَا
بَطنَ منها الزنَا، وما ظهر اتخاذُ الأخْدَان وَالأصدقاءِ على جهة الريبة.
وظاهر الكلام أن الذي جرى من الشرك باللَّه عزَّ وجلَّ وقتل الأولاد وجميع ما حرَّموه مما أحَل اللَّهُ عزَّ وجلَّ فَوَاحش، فقال: ولا تَقْربوا هذه الفَوَاحِشَ مظْهرين ولَا مُبْطِنِينَ، واللَّه أعلم.
وقوله: (ذلِكمْ وَصَّاكمْ بِهِ).
يدل على أن معنى (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
* * *
وقوله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢)
قال بعضهم: التي هي أحسن رُكُوبُ دابتِه واستخدام خادِمه، وليس في
بما وُجِدَ إليه السبيل.
قوله: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).
" حَتَّى " محمولة على المعنى، المعنى احْفَظُوه عليه حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.
أي فإذا بلغ أشده فادفعوه إليه.
وبلوبخ أشُده أن يؤنَس منه الرُّشْدُ مَع أنْ يكونَ بالغاً.
وقال بعضهم: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) حَتى يَبْلُغ ثمانيَ عَشْرة سَنة، ولسْتُ أعْرفُ مَا وَجْهُ ذلك بأن يبلغَ قبل الثماني عشرة وَقد أنِسَ منه رشداً فدفْعُ مالِه إلَيه واجب.
وقوله " جلَّ وعزَّ: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى).
أي إذا شَهِدْتم أوْ حَكَمتُم فاعْدِلوا، ولو كان المشهودُ عليه أوْ لَهُ ذَا قربى.
* * *
(قوله: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤)
الأكثر في القراءَة بفتحَ النون، ويجوز (أحْسنُ) على إضْمارِ على
الذي هو أحسنُ. فأما الفتح فعلى أن (أحسنَ) فعل ماض مبني على الفتح.
وأجاز الكوفيون أن يكون في موضع جَر، وأن يكون صفة الذي، وهَذَا عند
البصريين خَطَأٌ فاحش، زعم البصريون أنهم لا يعرفون " الَّذِي " إلا
موْصُولَة، ولا تُوصَفُ إلا بَعْدَ تَمَام صلتها، وقد أجمع الكوفِيونَ مَعَهُمْ على أن الوَجْهَ صِلتُها، فيحتاجون أن يثبتوا أنها رفعت موصولة ولا صلة لها، فأمَّا دخول " ثم " في قوله: (ثُمَّ آتَيْنَا) وقد علمنا أن (ثُمَّ) لا يكون الذي بَعْدهَا أبداً مَعناه التقْدِيم أِ، وقد علمنا أن القرآن أنزل مِن بعْدِ موسى، وبعد التوراة.
فقال: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) فإنما دخلت ثم في العطف على التلاوة.
والمعنى قُلْ تَعَالَوْا أتْلُ مَا حَرَّمَ رَبكُمْ عَلَيكُمْ، أتْلُ عليْكم ألا تَقْتلُوا
أولادَكم، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله، ثم أتلو ما آتاه اللَّه موسى.
ومعنى (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) يكون على " تماماً على المحسن "
المعنى: تماماً من الله على المحسنين، ويكون (تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي على
الذي أَحْسَنَه مُوسَى مِنْ طاعَةِ اللَّهِ واتبَاع أمرِه.
ويجوز تماماً على الذي هُوَ أحْسنُ الأشْياءِ.
و" تمام " منصوب مفعول له، وكذلك وتفصيلاً لكل شيء.
المعنى آتيناه لهذه العلة أي للتمام والتفصيل.
* * *
وقوله: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥)
والمبارَكُ ما يأتي من قِبَلِهِ. الخيرُ الكثيرُ، وهو من نعت (كتاب)
ومن قرأ " أنْزَلْنَاهُ مُبَارَكاً " جاز ذلك في غير القراءَةِ، لأن المصحف لا يُخَالَفُ ألبَتَّةَ.
وقوله: (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
أيْ لِتَكونوا رَاجِينَ للرحْمَةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (١٥٦)
قال بعضهم: معناه أنْزَلْنَاهُ لئلا تَقُولُوا إِنما أنزِلَ الكتابُ أي أنزلناه لتنْقَطِعَ
حُجتُهمْ، وإِنْ كانت الحجةُ للَّهِ عزَّ وجلَّ، لأن الكتُبَ التي أنْزِلَتْ قبلَ
النبي - ﷺ - قد كانت فيها الحجة، ولم يكن اللَّه عَزَّ وجلَّ: لِيَتْركَ خَلقَه سُدًى بغير حجة، ولكن في تنزيل الكتاب والنبي - ﷺ - غاية الحجة، والزيادة في الإبَانةِ.
" لا " لَا يقولون جئتُ أنْ أكْرِمَك، أي لئلا أكرمَك، ولكن يجوز فعلت ذلك أن أكرمَك، على إضمار محبة أن أكرمك، وكراهة أن أكرمكَ، وتكون الحال تنبئ عن الضمير.
فالمعنى: أنزل الكتاب كراهة أن يقولوا: - إِنما أنزلت
الكتُب على أصحاب موسى وعيسى.
(وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ).
المعنى: وما كنا إلا غافلين عن تلاوة كتبهم.
* * *
(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)
(أَوْ تَقُولُوا) المعنى أو كراهة أنْ تَقُولُوا.
(لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ).
وإنما كانوا يقولون (لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ) لأنهم كانوا مُدِلِّين بالأذهان
وحُسْنِ الأفْهَام، وذلك أنهم يحفظون أشعارهم وأخبارهم وآثارهم، وهم
أُمِّيونَ لا يَكْتُبونَ.
وقوله: (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ).
أي فقد جاءَكم ما فيه البيان وقطعُ الشُّبُهَاتِ عَنْكُمْ.
* * *
وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ).
أي إلا أنْ تَأتِيهم ملائكةُ الموْتِ.
(أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ).
أو يأتي إهْلاَكُ رَبِّك إيَّاهم وانْتِقامُهُ مِنْهُم، إمَّا بعذَاب عاجل أو بالقيامة.
وهذا كقولنا: قَدْ نَزَلَ فُلان ببَلَد كَذا وكَذَا، وقد أتَاهُمْ فُلانٌ أي قَدْ أوْقَع بِهِمْ.
وقوله: (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ).
وقوله: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ).
أي لا يَنْفَعُها الإيمَانُ عِند الآية التي تضْطَركم إلى الإيمان، لأن اللَّه
جلَّ ثناؤه قال: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
وبعث الرسل بالآيات التي تُتدَبَّر، فيكون للمؤمِنِ بها ثوابٌ ولو بعث اللَّه على كل من لم يؤمن عذاباً، لاضطر الناس إلى الإيمان به: وسقط التكليف والجزاء.
* * *
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩)
قال بعضهم: هذه نزلت قبل الحرب، أي ليس عليك قِتَالُهم إنَّمَا أمْرُهُمْ
إلَى اللَّهِ.
ومعنى (وَكَانُوا شِيَعًا) أي كانوا مُتَفَرقِين فِي دِينهمْ.
يعنى به إليهود والنصارى، لأن النصارى بَعْضُها يكفر بعضاً وكذلك
اليهودُ، وهم أيضاً أهْلُ التوراة، وبعضهم يكفر بعضاً، أعني إليهود تكفر
النصارى، والنصارى تكفر إليهودَ.
وفي هذه الآية حَث على أن تكون كلمةُ المسلمين واحدة، وأن لا
يتفرقُوا في الدين وأن لا يبتدعوا البدع ما استطاعُوا.
فقوله: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ).
يدل على أن مَن فَرقَ دِينَه مِن أهْلِ مِلةِ الإسْلَامِ وابْتَدع البِدعَ فقد صَارَ
بِهِ مِنْهُمْ.
ومعنى شَيَّعْتُ في اللغة اتَّبَعتُ. والعرب تقول: شاعكم السِّلْمُ وأشاعكم
قال الشاعر:
ألا يا نخْلة من ذَاتِ عرقٍ... بَرود الظل شايعَكِ الظلام
وتقول: آتيتك غداً أو شيَعَهُ أي أو اليومَ الذي يتبعه، فمعنى الشيعة
الذين يتبع بعضهم بعضاً، ومعنى الشيعُ الفرقُ التي كل فرقة منهم يتبع
بعضهم بعضاً وليس كلهم متفقين.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦٠)
القراءَة: (فلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا)، والمعنى فله عَشْرُ حَسَنات أمثالها وكما يجوز
عندي خمسة أثواباً، ويجوز فله عَشْرُ مِثْلِها في غير القراءَة فيكون المثل في
لفظ الواحد وفي معنى الجميع، كما قال: ، (إنكم إذاً مِثْلُهمْ).
ومن قال أمثالها فهو كقوله: (ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)
وإنما جاءَ على المثل التوحيدُ.
وَأنْ يكون في معنى الجميع، لأنه على قدر ما يشبه به، تقول مررت بقوم
مِثلكم، وبقوم أمثالكم.
المجازاة على الحسنة من اللَّه جلَّ ثناؤُه بدخول الجنة شيء لا يُبْلَغُ وصفُ
مِقْدارِه، فإذا قال: عَشْرُ امثَالها.
أو قال: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ).
مع قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)، فمعنى هذا كله أن جزاءَ اللَّه جلَّ ثناؤُه على الحسنات على التضعيف للمثل الواحد الذي هو النهاية في التقدير في النفوس، ويضاعف
الله ذلك بما بين عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إِلى أضعاف كثيرة.
وأجمع المفسرون على قوله: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا)
لأن السيئة ههنا الشرك باللَّهِ.
وقالوا: (من جاءَ بالحسنة) هي قول لا إله إلا اللَّه، وأصل الحسنات
التوحيد، وأسوأ السيئات الكفر باللَّه جلَّ وعزَّ.
* * *
(قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١)
والصراط الدين الذي دلني على الذين الذي هو دين الحق، ثم فسر
ذلك فقال: (دِينًا قِيَمًا).
والقيم هو المستقيم، وقرئت (ديناً قَيِّمًا) وقِيِّم مصدر كالصغر والكبر، إلا
أنه لم يقل " قِوَمٌ " مثل قوله: (لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) لأن قولك قام قيماً
وأما نصب (دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا).
فمحمول على المعنى، لأنه لما قال: هَدَاني إلى صراطٍ مستقيم، دل على عَرفَنِي ديناً قِيماً.
ويجوز أن يكون على البدل من معنى هدَاني إلى صراط مستقيم.
المعنى هداني صراطاً مستقيماً، دِيناً قِيماً، كما قال - جلَّ وعزَّ -:
(وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا).
و (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) بدل من (دِينًا قِيَمًا)
و (حنيفاً) مصوب على الحال من إبراهيم، المعنى هداني وعرفني ملة إبراهيم في حال حنيفيته، وهو ههنا لإبراهيم حسَن منه لغيره.
(وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ).
وقد فسرنا معنى الحنيفية وأنها الميل إلى الإسلام ميلاً لا رجوع معه.
* * *
وقوله (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢)
قالوا: النسك الذبْحُ، والنسكُ مَا يُتَقربُ به إلى اللَّه جلَّ وعزَّ.
(وَمَحْيَايَ وَمَمَاتي).
الياء ياء الإضافة، فتحت لأن أصلَها الفتح، ويجوز إسكانها إذا كان ما
قبلها متحركاً.
يجوز (مَمَاتي) وِإن شئتَ قرأت " مَمَاتِيَ لله " بفتح الياء.
وإنْ شئْتَ أسْكنْتَ فأما يَاءُ محيايَ فلا بُدَّ من فتحها لأن قبلها ساكن.
ومعنى الآية أنه يخبر بأنه إنما يتقرب بالصلاة وسائر المناسك إلى اللَّه
جلَّ وعزَّ لا إلى غيره، كما كان المشركونَ يذبحون لأصنامهم.
فأعلم أنه اللَّهُ وحده بقوله: (لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)
* * *
وقوله: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤)
أي هو ابتدع الأشياءَ كلها لا يقدر أحد على ابتداع شيءٍ منها.
أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى، لا يؤخذ أحدٌ بذنب غيْره.
* * *
وقوله:) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)
قيل خلائف الأرض أُمَّة محمد - ﷺ - لأن النبي - ﷺ - خاتم النبيين فأُمَّتُه قد خلفت سائر الأمم.
وقال بعضهم: خلائف الأرض يخلف بعضكم بعضاً.
(وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ).
فدلَّ بهذا أنه فضَّل بعضَ الناس ليختبرهم فيما رزقهم وهو جل ثناؤُه
عالم بما يكون منهم قبل ذلك، إلا أنه اختبرهم ليظهر منهم ما يكون عليه
الثواب والعقاب.
وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
إن قال قائل: كيف قيل سريع العقاب. وعقابَه إنما يكون في القيامة.
وإن كان بعضُه قد وقع في الدنيا؟
فإنما ذلك لأن أمرَ الساعة سريع، لأن كل ما زال وإن تَطَاوَلَ فهو بمنزله ما لم يُحَسَّ سُرْعَة، وكذلك قوله جل ثناؤُه:
(وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)
وكذلك قوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (٦) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (٧).