ﰡ
(مَكِّيَّة)
ما خَلَا ثلاث آيات منها مَدَنِية، قوله: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ) إلى
تمام الثلاث آيات.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الم (١)قال ابن عباس معنى (الم) أنا الله أعلم، وقد فسرنا في سورة
البقرة جميعَ ما قيل في (الم) وما أشبهها.
* * *
وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (٢)
معناه هذه الآيات، تلك الآيات التي وعِدْتُمْ بها في التَوْرَاةِ
ويجوز أن يكون بمعنى هذه آيات الكتاب، وقد تقدم تفسير مثلِ هذا
من سورة البقرة أيضاً.
* * *
وقوله: (هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣)
القراءة بالنصب على الحال، المعنى تلك آيات الكتاب في حال
الهداية والرحمة.
(لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)
ويقرأ: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
فأكثر ما جاء في التفسير أن (لَهوَ الحديث) ههنا الغِنَاءُ لأنه يُلْهِي
عَنْ ذكر اللَّه، وقد روي عن النبي - ﷺ - أنه حرم بيع المغنية.
وقد قيل في تفسير هذه الآية إن لهو الحديث ههنا الشركُ.
فمن قرأ (ليُضِل) - بضم الياء - فمعناه ليضل غيرَهُ، فإذا أضل غيرَهُ فقد ضَل هُوَ أيضاً.
ومن قرأ (لِيَضِل) فمعناه ليصير أمرُه إلى الضلَالِ، فكَاَنه وَإنْ لم يَكُنْ
يُقَدَّرُ أَنه يَضِل فسيصير أمره إلى أنْ يَضِل.
وقوله: (وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا).
أي يَتخِذَ آياتِ اللَّه هُزُوًا، وقد جرى ذكر الآيات في قوله: (تلك
آيات الكتاب الحكيم).
وقد جاء في التفسير أيضاً أن قوله: (وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا) يَتخِذَ سَبيلَ اللَّه هُزَوًا.
* * *
وقوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠)
وصف اللَّه عزَّ وجلَّ خَلْقَه الذي يَعْجِزُ المَخْلُوقُونَ عن أن يأتوا
بمثله، أَوْ يَقْدِرُوا على نَوْع منه ثَم قال: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ).
وقوله: (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)، قيل في التفسير إنها بِعَمَدٍ لَا تَرَوْنَهَا.
أي لا ترون تلك العَمَدِ، وقيل خلقها بغير عَمَدٍ وكذلك ترونها.
يكون معنى العمد قدرته عزَّ وجل التي يمسك بها السماوات والأرض.
(وَألْقَى في الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ).
(رَوَاسيَ) جِبالٌ ثَوابِتٌ، كما قال - عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (٦) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (٧).
فمعنى (أنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كَراهةَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ.
ومعنى " تميد " تتحرك حركة شَدِيدَةً.
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢)
معناه لأن تشكر للَّهِ، ويجوز أن تكون " أَنْ " مُفَسَّرة، فيكون
المعنى أي اشْكُرْ لِلَّهِ تبارك وتعالى:
وتأويل " أن اشكر للَّهِ " قُلنَا له: اشكر للَّهِ على ما آتاك.
وقد اختلف في التفسير في لقمانَ فقيل: كان نبيًّا، وقيل: كان
حكيماً، وقيل كان رَجُلاً صَالِحاً، وقيل: كان حبشياً غليظ المَشَافِرِ
مُشَقَّقَ الرجْلَيْنِ ولكن اللَّهَ آتاهُ الحكمةَ، فلسنا نشك أنه كانَ حكيماً
لقول الله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ).
وقيل كان نَجَّاراً وقيل كان خياطاً، وقيل كان رَاعِياً.
وَرُويَ في التفسير أن إنساناً وقف عليه وهو في مجلسه فَقَالَ لَهُ: ألَسْتَ
الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى مَعي في موضع كذا وكذا؟
قال: بلى، قال فما بلغ بكَ ما أَرَى؟
فقال: صِدْقُ الحَدِيثِ والصَّمْتُ عَمَّا لا يعنيني.
وقوله: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣)
أي ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال، لأن هذه المْوْعِظَةَ حكمة.
وقوله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
يعني أنَّ اللَّهَ هُوَ المحيي المميتُ الرازِق المُنْعِمُ وحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
فإذا أَشْرَكَ به أَحَدٌ غيره فذلك أعظَمُ الظلم؛ لأنه جَعَل النِعْمَةَ لِغَير
رَبِّهَا.
وَأَصْلُ الظلْمِ في اللغة وضع الشيء في غير مَوْضِعِه.
وقد بيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ من الكِتَابِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤)
جاء في التفسير (وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) ضَعْفاً على ضَعْفٍ، أي لَزِمَهَا
لحملها إياه أن ضَعُفَتْ مَرةً بَعْدَ مَرة.
وموضع " أَنْ " نَصْبٌ بـ (وَصَّيْنَا).
المعنى وصَينا الإنسان أن اشُكَره لي ولوالديك، أيْ وَصَّيْنَاه بشكرنا
وَبِشُكْرِ والديه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥)
يُرْوَى أَن سَعْدَ بنَ أَبِي وَقاص ذكر أن هذه الآية نَزَلَتْ بسببه.
وذلك أنه كان أسْلَمَ فحَلَفَتْ أُمُّه أَلأ تاكُلَ طعاماً، ولا تشرب شراباً حتى
يَرْتَدَّ إلَى الكُفْرِ، فمكثت ثلاثاً لا تطْعَمُ ولا تَشْرَبُ حتى شَجَرُوا فاها
- أي فتحوه - بعِودٍ. حتى أكلت وشربت، وُيرْوى أنه قال: لو كانت لها
سَبْعُونَ نَفْساً فخرجت لما ارتْددْت عَنِ الإسلام.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً).
ومعنى المعروف ما يستحسن من الأفعال.
(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ).
أي اتِبعْ سَبِيل مَنْ رَجَع إِلَيَّ.
* * *
وقوله: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦)
(إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ)
وتقرأ (مِثْقَالُ حَبَّةٍ). الآية إلى قوله (لطيف خبير)
أي لطيف في استخراجها خبير بمكانها.
ويقال في صخرة، أي في الصخرة التي تحت الأرض.
ويروى أن ابن لقمان سأل لقمانَ فقال: أَرَأَيْتَ الحَبَّةَ تَكُونَ في
مَقْلِ البَحرِ، أي في مغاص البحر أَيَعْلَمُهَا اللَّه.
يقال مَقَلَ يَمْقُل إذَا غَاصَ، فَأعْلَمَهُ أن اللَّه - عزَّ وجلَّ - يعلم الحَبَّةَ حيث كانت، وفي أخفى المواضع، لأن الحبَّة في الصخرة أخفى من الماء، ثم أعلمه
أَنهَا حيث كانت يَعلَمُها بلُطْفِه - عزَّ وجلَّ - وخِبْرَتِه.
وهذا مثل لأعمال العِبَادِ أَنَ الله يأتي بأعمالهم يومَ القيامة
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨).
فأمَّا رِفع " مثقال " مع تأنيث " تك " فلأن مِثْقَالَ حبة من خردل راجع
إلى معنى خرْدَلَةٍ، فهو بمنزلة إن تك حَبة من خردل.
ومن قرأ: (إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ) - بالنصب - فعلى معنى أن التي سَألْتني عنها إن تك
ويجوز أنها إن تك بالتاء مثقال حبة من خردل، على معنى أن القصة
كما تقول: أنَّها هند قائمة، ولو قُلْتَ أنَّها زيد قائم لجاز، إلا أن
النحويين يختارون ذلك مَعَ المُذَكرِ، ويجيزون مع المؤنث التأنيث
والتذكير، يقولون: إنهُ هِنْدٌ قَائِمَة، وإنها أمة اللَّه قائمة.
فيجيزون الوَجْهَيْن. فأمَّا أنَّها إن تَكُ مثقَالَ حَبةٍ من خردل عند من لا يجيز إنها زَيْد قَائِم "، فيجوز عنده هذا لأن مَعْنَاه التأنيث بِرَدِّ (ما) إلى الحبَّةِ من
الخردل (١).
* * *
وقوله تعالى: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (١٨)
ويقرأ تُصَاعِرُ، ويجوز في العربية: ولا تُصْعِرْ، ولا أعلم أحَداً قرأ
بها، فإذا لم ترو فلا تقرأ بها، ومعناه لا تُعْرِضْ عن الناس تَكَبُّراً، يقال
أصاب البعيرَ صَعَرٌ وصَيَد إذا أَصَابه دَاء فلوى منه عنُقَهُ، فيقال للمتكبر
فيه صَعَر، وفيه صَيَدٌ، فأما (تُصَعِّرْ) فعلى وجه المُبَالَغَة، ويصاعر جاء
على معنى يُفَاعِل، كأنك تُعَارِضُهُمْ بِوَجْهِك.
ومعنى (تُصْعِرْ) تلزم خَدَّك الصَّعَرَ، لأنه لا داء بالإنسان أَدْوَأَ من الكِبْرِ.
والمعنى في الثلاثة هذا.
المعنى: إلا أن (تُصَعِّرْ) وَتُصَاعِرْ أبْلَغُ من (تُصْعِرْ) (٢).
* * *
وقوله: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا).
أي لا تَمْشِ مُتَبَخْتِراً مُخْتَالاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)
(وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ).
قوله: ﴿إِنَّهَآ إِن تَكُ﴾: ضميرُ القصةِ. والجملةُ الشرطيةُ مفسِّرةٌ للضميرِ. وتقدَّم أنَّ نافعاً يقرأُ «مثْقالُ» بالرفع على أنَّ «كان» تامةٌ وهو فاعلُها. وعلى هذا فيُقال: لِمَ لَحِقَتْ فعلَه تاءُ التأنيث؟ قيل: لإِضافته إلى مؤنث، ولأنه بمعنى: زِنَةُ حَبَّة. وجَوَّز الزمخشري في ضمير «إنها» أَنْ تكونَ للهِنَةِ من السَّيِّئاتِ أو الإِحسان في قراءةِ مَنْ نصب «مِثْقال». وقيل: الضميرُ يعودُ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلامِ أي: إنَّ التي سألْتَ عنها إنْ تَكُ. وفي التفسير: أنه سأل أباه: أرأيتَ الحبة تقع في مَغاصِ البحر: أيعلُمها اللَّه؟
وقرأ عبد الكريم الجَزَرِيُّ «فَتَكِنَّ» بكسرِ الكاف وتشديد النونِ مفتوحةً أي: فتستقرَّ. وقرأ محمد بن أبي فجة البعلبكي «فَتُكَنَّ» كذلك إلاَّ أنه مبنيٌّ للمفعول. وقتادة «فَتَكِنُ» بكسرِ الكاف وتخفيف النونِ مضارعَ «وَكَنَ» أي: استقرَّ في وَكْنِه ووَكْرِه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَلاَ تُصَعِّرْ﴾: قرأ نافعٌ وأبو عمروٍ والأخَوان «تَصاعِرَ» بألفٍ وتخفيفِ العينِ. والباقون دون ألفٍ وتشديد العين، والرسمُ يَحْتمِلُهما؛ فإنَّ الرسمَ بغيرِ ألفٍ. وهما لغتان: لغةُ الحجازِ التخفيفُ، وتميمٌ التثقيلُ. فمِن التثقيلِ قوله:
٣٦٥٧ وكُنَّا إذا الجبارُ صَعَّر خَدَّه... أقَمْنا له مِنْ مَيْلِه فَيُقَوَّمُ
ويقال أيضاً: تَصَعَّر. قال:
٣٦٥٨.......................... أَقَمْنا له مِنْ خَدِّه المُتَصَعِّرِ
وهو من المَيْل؛ وذلك أنَّ المتكبِّر يَميل بخَدِّه تكبُّراً كقولِه ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ [الحج: ٩]. قال أبو عبيدة: «أصلُه من الصَّعَر، داءٌ يأخُذُ الإِبِلَ في أعناقِها فتميلُ وتَلْتوي». وتفسيرُ اليزيديِّ له بأنَه التَّشَدُّقُ في الكلامِ لا يوافِقُ الآية هنا. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
بَصَرَهُ من فُلَانٍ أي يتنقَصهُ.
ومعثى: (أنْكَرُ الأصْوَاتِ) أقبح الأصوات، يقال: أَتانَا فُلان بوجه
مُنكَر الخِلْقَةِ، أي قبيح.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٢٠)
تسخير ما في السَّمَاوَات الشمس والقمرُ والنجُومُ، ومعنى
تسخيرها للآدميين الانتفاع بها في بلوغ مَنَابِتهم، والاهتداء بالنجوم
فِي مَسَالِكِهِمْ، وتسخير ما في الأرض تسخير بحارها وأنهارها ودوابها
وجميع منافعها.
(وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً).
(نِعَمَةً)
ويقرأ (نِعَمَهُ) على الجمع.
فمن قرأ (نِعَمَةً) فعلى معنى ما أعطاهم من توحيده عزَّ وجلَّ.
ومن قرأ (نِعَمَهُ) فعلى جَميعِ مَا أَنْعَمَ به عَلَيهِمْ (١).
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢)
أي من أسلم فقد استمسك بقول: لا إلَهَ إلا اللَّهُ، وَهِيَ العُرْوَةُ
الوُثْقَى.
* * *
وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧)
(وَالْبَحْرَ)
ويقرأ " والبحرُ " بالرفْعِ.
قوله: ﴿نِعَمَهُ﴾: قرأ نافعٌ وأبو عمروٍ وحفص «نِعَمَه» جمعَ نِعْمة مضافاً لهاءِ الضمير، ف «ظاهرةً» حالٌ منها. والباقون «نِعْمةً» بسكون العين، وتنوينِ تاء التأنيث، اسمَ جنسٍ يُراد به الجمعُ ف «ظاهرة» نعتٌ لها. وقرأ ابنُ عباس ويحيى بن عمارة «وأَصْبَغَ» بإبدال السينِ صاداً. وهي لغةُ كلبٍ يفعلون ذلك مع الغينِ والخاء والقاف. وتقدَّم نظيرُ هذه الجملِ كلِّها في البقرة، والكلامُ على «أَوَلَوْ» ونحوِه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
أن البحرَ، والرفع حسن على وجهين:
على معنى. والبحرُ هَذِه حَاله.
ويجوز أن يكون معطوفاً على موضع إن مع ما بعدها لأن معنى لو أَن ما
في الأرض لَوْ وقع ما فِي الأرْضِ، لأن (لو) تطلب الأفعال فإذا جاءت
معها (إنَّ) لم تذكر معها الأفعال، لأنه تذكر معها الأسماء والأفعال.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ).
معناه ما انقطعت، ويروى أَن المشركين قالوا في القرآن: إن
هَذا كلام سَينْفَدُ، وسيقطع، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أَن كَلِمَاتِه وحكمتَهُ لا
تَنفدُ (١).
* * *
وقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
(٢٨)
تأويله إلا كخلق نفس وَاحِدَةٍ، وكبعث نَفْس وَاحِدَةٍ، أي قُدْرَةُ
اللَّهِ عَلَى بعثْ الخلق أجمعين وعلى خلق الخلق أجمعين كَقُدْرَتِه على
خلق نفس واحدةٍ وبعث نفس وَاحِدَةٍ.
* * *
وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
(٢٩)
(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ)
معناه يدخل الليل في النهار، لَيْلَ الصيف في نَهاره.
(وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ).
يدخل نهار الشتاء في ليله.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١)
ويقرأ بِنِعِمات اللَّه، ويجوز بِنَعْمَات اللَّه، ويجوز بِنِعَمَات اللَّه
فإن قيل: قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ) يطابقه وما في الأبحر من ماء مداد فكيف عدل عنه؟
قلنا: استغنى عن ذكر المداد بقوله تعالى: (يمده) لأنه من قولك مد الدواة وأمدها، فجعل البحر المحيط بمنزلة الدواة، والأبحر السبعة المملوءة مداداً أبداً صباً لا ينقطع، فصار نظير ما ذكرتم ونظيره قول تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي... الآية).
فإن قيل: كيف قال تعالى (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي) ولم يقل من شجر؟
قلنا: لأنه أراد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر شجرة واحدة إلا وقد بريت أقلاماً.
فإن قيل: الكلمات جمع قلة والمقصود التعظيم والتفخيم، فكان جمع الكثرة وهو الكلم أشد مناسبة؟
قلنا: جمع القلة أبلغ فيما ذكرتم من المقصود، لأن جمع القلة إذا لم يغن بتلك الأقلام وذلك والمداد فكيف يغنى جمع الكثرة. أهـ ﴿أنموذج جليل في أسئلةٍ وأجوبةٍ عن غرائبِ آي التنزيل صـ ٤٠٦﴾
الواحدة، وأما الكسر فعلى مذهب من جَمَع كِسْرةً علىْ كِسِرَاتٍ.
ومَنْ أَسْكن وهو أجود أَوْجُهِهِ فعلى من جمع كِسْرات، لأن كِسْراتٍ
بقل مثله في كلام العَرَبِ، إنما جاء في أصول الأبنية ما توالت فيه
كسرتان نحو إبل وإطِل فقط، ومن قرأ بِنِعَمَات الله فلأن الفتح أخف
الحركات.
قال الشاعر:
ولما رَأوْنا بَادياً رُكُبَاتُنَا... عَلَى مَوْطِنٍ لا نَخْلِطُ الجدَّ بالهَزلِ
والأكثر رُكَبات، وَرُكْبَات أَجْوَدُ لِثِقَلِ الضَّمَّةِ، ولكنه أكثر من
الكلام من نِعِمَات، وكِسِراتٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).
روى قتادَةُ أَن أحبَّ العِبَادِ إلَى الله مَنْ إذَا أعْطي شَكَرَ وإذا ابْتُلِيَ
صَبَرَ.
فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَن المُعْتَبِرَ المُتَفَكِرَ في خلق السَّمَاوَات
والأرض هو الصبَّار الشَّكور.
* * *
وقوله عَز وجل: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)
قال في. الموج: " كَالظُّلَلِ" لأن موج البحر يعظمَ حتى يصيرَ كأنَّهُ
ظُلَلٌ.
وقوله: (خَتَّارٍ كَفُورٍ).
الخَتْر: أَقبح الغَدْرِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣)
(جازٍ) في المصحف بغير ياء، والأصْلُ جَازِيٌّ.
وَذَكر سيبويه والخليل أن الاختيار في الوقف هُوَ جَاز، بغير ياء والأصل جازيٌّ بضمة وتنوينٍ، فَثَقُلَتِ الضمةُ في الياء، فحذفت وسكنت الياء والتنوين فحذفت الياء لالتقاء السَّاكنين، وكان ينبغي أن يكونَ في الوقف بياءٍ لأن التنوين قد سقط ولكن الفُصحَاءَ مِنَ العَرَبِ وقفوا بغير ياء لِيُعْلمُوا
أن هذه اليَاءَ تَسْقُط في الوصل.
وزعم يُونُس أَن بعض العرب الموثوقِ بهم يقف بياء، ولكن الاخْتِيار اتباعُ المصحف والوقف بغَيْر يَاءٍ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
الْغَرُورُ: الشيطان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
جاء في التفسير أن هذه الخمسَ مفاتحُ الغَيْب التي قال اللَّه عز
وجل فيها،: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)
فمن ادَّعى أنه يعلم شيئاً من هذه فَقد كَفَرَ بالقُرآنِ، لأنهُ قَدْ خَالَفَهُ.