ﰡ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)قال ابن عباس رحمه اللَّه: ما كنت أدْري ما فاطرُ السَّمَاوَاتِ
والأرْض حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بِئْر فقال أحدهما: أنا فَطَرْتُها.
أي ابتدأْتُهَا. وقيل فاطر السَّمَاوَات والأرض خالق السَّمَاوَات والأرض.
ويجوز فَاطِرُ وفَاطِرَ بالرفع والنصب، والقراءة على خفض فاطر.
وكذلك (جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ).
معنى أولي أصحاب أجنحة، وثُلَاثَ ورُبَاعَ في موضع خفض.
وكذلك مثنى إلا أنه فتح ثُلاثَ ورُبَاعَ لأنه لا يتصرف لِعِلتيْن إحداهما
أنه معدول عن ثلاثةٍ ثلاثةٍ وَأَرْبَعِةٍ أَرْبَعةٍ واثنين اثنين، فهذه علة.
والعلة الثانيةُ، أَن عُدُولَهُ وَقع فِي حَالِ النَّكِرَةِ
قال الشاعر:
ولكنَّما أَهلي بوادٍ أَنِيسُه... سِباغٌ تَبَغَّى الناسَ مَثْنى ومَوْحَدا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَزِيدُ في الخَلْقِ مَا يَشَاءُ).
يعنى في خلق الملائكة، والرسلُ مِنَ الملائِكَةِ جبريل وميكائيلُ
وإسرافيلُ ومَلَكُ الموت.
(يَفْتَح) في موضع جزم على معنى الشرط والجزاء، وجواب الجزاء
(فَلَا مُمْسِكَ لَهَا)، ولو كان فلا ممسك له لجاز لأن " ما " في لفظ
تذكيرا، ولكنه لَمَّا جَرَى ذكرُ الرحمة كان فلا ممسك لها أحسن، ألا
ترى إلى قوله: (وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ).
ومعنى ما يفتح الله أي ما يَأتيهِمْ بِهِ من مَطَرٍ ورِزقٍ فلا يقدر أَحَدٌ
أن يُمْسِكَه، وما يُمْسِكْ اللَّهُ من ذلك فلا يقدر قادرٌ أن يرسله.
ويجوز - ولا أعلم أحَداً قرأ به - " ما يفتحُ اللَّه للناس من رحمة وَما يُمْسِكُ "
برفعهما على معنى الذي يفتحه اللَّه للناس من رحمة فلا ممسك لها.
والذي يمسك فلا مرسل له، ويجوز " فلا مُمْسِكٌ لها " بالتنوين، وما
يمسك فَلَا مُرْسِلٌ له من بعده، وَلَا أعْلَمُ أَحَداً قرأ بها فلا تقرأنَّ بما لم
تثبت فيه رواية وإن جاء في العربية لأن القراءةَ سُنَّةٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣)
هذا ذكر بعد قوله: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا)
فأكد ذلك بأن جعل السؤال لهم (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
(هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرِ اللَّهِ)
وقُرئت (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) بالرفع، على رفع غير.
المعنى هَلْ خَالِقٌ غير اللَّه لأن " مِن " مؤكدة، وقد قرئ بهما جميعاً، غَيْرُ وَغَيْرِ، وفيها وجه آخر يجوز في العربية نصب (غيرَ)
" هل مِنْ خالقٍ غَيرَ اللَّهِ يرزقكم "
ويكون النصب على الاستثناء، كأنَّه هل من خالق إلا اللَّهُ يرزقكم) (١).
قوله: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله﴾: قرأ الأخَوان «غيرِ» بالجر نعتاً ل «خالقٍ» على اللفظِ. و «مِنْ خالق» مبتدأٌ مُزادٌ فيه «مِنْ». وفي خبرِه قولان، أحدُهما: هو الجملةُ مِنْ قوله: «يَرْزُقُكم». والثاني: أنه محذوفٌ تقديرُه: لكم ونحوُه، وفي «يَرْزُقكم» على هذا وجهان، أحدهما: أنَّه صفةٌ أيضاً ل «خالق» فيجوزُ أن يُحْكَمَ على موضعِه بالجرِّ اعتباراً باللفظ، وبالرفعِ اعتباراً بالموضع. والثاني: أنه مستأنفٌ.
وقرأ الباقون بالرفع. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه خبرُ المبتدأ. والثاني: أنه صفةٌ ل «خالق» على الموضعِ. والخبرُ: إمَّا محذوفٌ، وإمَّا «يَرْزُقُكم». والثالث: أنه مرفوعٌ باسم الفاعل على جهةِ الفاعليةِ؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ قد اعْتَمَدَ على أداةِ الاستفهام. إلاَّ أنَّ الشيخَ تَوَقَّفَ في مثلِ هذا؛ من حيث إنَّ اسم الفاعل وإن اعتمدَ، إلاَّ أنه لم تُحْفَظْ فيه زيادةُ «مِنْ» قال: «فيُحتاج مثلُه إلى سَماعٍ» ولا يَظهرُ التوقُّف؛ فإنَّ شروط الزيادةِ والعملِ موجودةٌ. وعلى هذا الوجهِ ف «يَرْزُقُكم»: إمَّا صفةٌ أو مستأنَفٌ. وجَعَل الشيخُ استئنافَه أَوْلَى قال: «لانتفاءِ صِدْقِ» خالق «على» غير الله «بخلافِ كونِه صفةً فإنَّ الصفةَ تُقَيِّد، فيكون ثَمَّ خالقٌ غيرُ اللَّهِ لكنه ليس برازق».
وقرأ الفضل بن إبراهيم النَّحْوِيُّ «غيرَ» بالنصبِ على الاستثناء. والخبر «يَرزُقكم» أو محذوفٌ و «يَرْزُقكم» مستأنفٌ، أو صفةٌ. وقوله: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ مستأنفٌ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
أي من أين يقع لكم الإفْكُ والتكذيب بتوحيد اللَّه وإنكار البعث.
* * *
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)
هذا تَأسٍّ للنبي - ﷺ - أعلمه الله أَنه قد كُذِبَت رُسُلْ من قبله، وَأَعْلَمَهُ أنه نَصَرَهُمْ فقال جلَّ وعزَّ، (فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا).
ْ (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).
وتَرْجِعُ الأمُورُ، المعنى الأمْرُ رَاجعْ إلى اللَّه في مجازاة من
كذَّبَ، ونُصْرةِ من كُذِّب مِن رُسُلِهِ.
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥)
أي ما وعدكم اللَّه من مجازاة فحق.
(فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا).
أي وإنْ كان لكم حظ في الدنيا يَغُضُّ مِنْ دِينِكُمْ فلا تؤثروا ذلك
الحظَّ.
(وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
والغَرُورُ: الشيطانُ، ويَقْرَأُ الغُرورُ بضم الغَيْنِ، وَهِيَ الأبَاطِيلُ
ويجوز أن يكون الغُرور: جمع غَاز وغُرور، مثل قاعد وقُعُود، ويجوز أن
يكون جمع غَرٍّ مَصدَرُ غَرَرْتُه غَرًّا.
فَأما أَن يكون مصدر غررته غُروراً
بعضها على فُعُول نحو لزمته لزوماً، وَنَهِكَه المرض نُهُوكاً فيجوز غررته
غُروراً على ذلك.
* * *
وقوله تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٨)
الجواب هَهُنَا عَلَى ضَرْبَيْن:
أحدهما يدل عليه (فَلَا تَذْهَب نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ).
ويكون المعنى أفمن زين له سوء عمله فأضله اللَّه ذهبت نفسك عَلَيْه حَسْرةً، ويكون " فلا تذهب نفس "ايدل عليه.
وقد قرئت " فلا تُذْهبْ نَفْسَكَ " بضم التاء وجزم الباء ونصب النفس. ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً ويكون المعنى: أفمن زُيِّن له سوء عمله كمن
هداه اللَّه، ويكون دليله (فإن اللَّه يضل من يشاء ويهدي من يشاء).
* * *
وقوله: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (٩)
(فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيْتٍ) و (مَيِّتٍ)
(فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ)
أَيْ نُنْشِى
المعنى مثل ذلك، أي مثل إحْيَاءِ الأرْض، وكذلك بعثكم.
* * *
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)
أي من كان يريد بعبادته غير اللَّه العزةَ فلله العزة جميعاً، أي
في حال اجْتِمَاعِها، أي يجتمع له في الدنيا والآخرة.
ثم بين كيف يَعِز باللَّهِ فقال:
أي إليه يصل الكلم الذي هو توحيد اللَّه، وَهُوَ قَوْلُ لَا إلَه ألا اللَّهُ
والعمل الصالِحُ يَرْفَعُه.
المعنى إذَا وَحَّدَ اللَّهَ وعجل بِطَاعَتِه ارْتَفَع ذَلِكَ إلى اللَّه، واللَّه - عزَّ - وجل - يرتفع إليه كل شيء ويعلم كل شيء.
ولكن المعنى فيه ههنا العمل الصالح هو الذي يرفع ذكر التوحيد حتى
يكون مُثَبِّتاً للمُوَحِّدِ حقيقة التوحيد.
والضمير في (يرفعه) يجوز أن يكون أَحَدَ ثلاثة أشياء، وذلك قول أهل اللغة جميعاً، فيكون والعمل الصالح يرفع الكلمَ الطيبَ، ويجوز أن يكون والعمل الِصالح يرفعه الكلم الطيب، أي لا يقبل العمل الصالح إلا من مُوَحِّدٍ، والقول الثالث أن يرفعه الله عزَّ وجلَّ.
* * *
(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ).
المعنى مكرُ الذين يمكرون بالنبي - ﷺ -.
(هُوَ يَبُورُ).
أَيْ يَفْسُدُ، وقد بين ما مكرهم في سورة الأنفال، في قوله:
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ).
ففسد جميع مكرهم فجعل اللَّه كلمة نبيِّه وأوليَائِه العُلْيَا، وَأَيديَهم
العَالِيةَ بالنصر والحجة.
* * *
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١)
(وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ).
وقرئت يَنْقُصُ.
ويجوز " وَمَا نُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا نَنْقُصُ " بالنون جَمِيعاً ولَكِنهُ لم يقرأ بها فيما بلغني، فلا تقرأنَّ بها. وتأويل الآية أن
وكذا شهرا، وكذا وكذا يَوْماً، وكذا وكذا ساعةً، فكل ما نَقَصَ مِنْ
عُمْره من سنة أو شهر أو يوم أو ساعةٍ كتب ذلك حتى يبلغ أَجَلَهُ.
* * *
(وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)
ْالفُرَاتُ المبالِغُ في العُذُوبَةِ.
(وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ).
الأجاج الشديد المرارة، والأجاج أيضاً الشديدُ الحَرَارَةِ.
(وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا).
وإنما تستخرج الحلية مِنَ المِلْح دُونَ العذْبِ، إلا أنهما لما كانا
مُخْتَلِطَ يْنِ العَذْبُ والمِلْحُ، جاز أن يقال تستخرجون الحلية - وهي
اللؤلؤ والمَرْجَانُ وما أشبه ذلك مِنْهُمَا - كما قال: (يخرج منهما اللؤلؤ
والمُرجَانُ).
(وَتَرَى الفُلْكَ فيه مَوَاخِرَ).
المعنى في مواخر تشق الماء.
وجاء في التفسير أنها تُصَاعِدُ وَتَنْحَدِرُ في البَحْرِ بريح وَاحِدَةٍ.
والفُلْكُ جمع فُلْكٍ - لفظ الواحد كلفظ الجمع لأن فُعْلًا جمع فَعَل نحو أَسَدٍ وَأسْدٍ، وَوَثَنٍ وَوُثْن، فكذلك جَمْعُ فُعْل لأنهما أخْتَانِ في الجمع، تقول: جَبَل وأَجْبَال، وَقُفْل وأقفال، وكذلك أسد وآسَاد. وفُلْك للواحد وفُلْكٌ للجَمْاعَةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣)).
وهي لُفَافَة النواة، والنقير النقرةُ فِي ظَهْرِ النواةِ، والفتيل الذي
في وَسَطِ النَّوَاةِ.
(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ)
المعنى يقولون: ما كنتم إيَّانَا تَعْبُدُونَ، فيكفرون بِعِبَادَتِكم إيَّاهُمْ
(وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).
وهو اللَّه، لأن ما أَنبأ اللَّه بِه مِما يَكُون فهو وحدَه يخْبُرُهُ، لا
يَشْرَكُه فِيه أَحَدٌ.
* * *
(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨)
(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا)
المعنى إن تدع نَفْسٌ مُثقَلة بالذنُوب إلى حِمْلِها، إلى ذُنوبها، لا
يُحْمَلْ مِنْ ذنوبها شيء.
(وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى).
أي ولو كان الذي تدعوه ذا قربى مثل الأب والابن، ومن أشبه
هؤلاء.
* * *
(إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ).
فتأويل " تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ " - وهو النبي - ﷺ - تنذر الخلق أَجْمَعِين، والمعنى. ههنا أَن إنْذَارَك ينفع الذين يخشون رَبَّهُمْ.
* * *
(وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (٢٠) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١)
هذا مثل ضَربه اللَّه للمؤمنين والكافرين، المعنى لا يستوي
الأعمى عن الحق وهو الكافر، والبصير بالحق وهو المؤمِنُ الذي يبصر
رَشْدَه.
وَلاَ الظلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ، الظلمات الضلالات، والنور الهدي
(وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ)
المعنى لا يستوي أصحاب الحق الذين هم في
دَائمٍ لَيْلاً ونهاراً.
والحَرُورُ استيقاد الحرِّ ولفحه بالنهار وبالليل.
والسَّمُومُ لا يكون إلَّا بالنَّهَارِ (١).
* * *
(وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢)
الأحياء هم المؤمنون، والأموات الكافرونَ، ودليل ذلك قوله
(أَمْوَاتٌ غَيرُ أحياءٍ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا).
قال عمر بن الخطاب - رحمه اللَّه - يرفعُهُ: سابقنا سابق.
وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ، وظالمنا مَغْفُورٌ لَهُ.
والآية تدل على أن المؤمنين مغفور لهم، لمقتصدهم الظالِم
لِنَفْسِهِ منهم بعد صحة العقد.
وقد جاء في التفسير أن قوله: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ) الكَافِرُ وهو قول ابن عباس، وَقَد رُوِيَ عنِ الحَسَنِ أَنَه الْمُنَافِقُ.
واللفظ يدل على ما قاله عمر عن النبي - ﷺ - وَمَا عليه أَكْثَرُ المفسرِينَ، لأن قوله: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) يدل على أن جملة المصطَفَيْنَ هؤلاء.
وقال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى).
* * *
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (٢٧)
قوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير﴾: استوى من الأفعال التي لا يُكْتَفَى فيها بواحدٍ لو قلت: «استوى زيدٌ» لم يَصِحَّ، فمِنْ ثَمَّ لَزِمَ العطفُ على الفاعلِ أو تعدُّدُه.
و «لا» في قوله: «ولا الظلماتُ» إلى آخره مكررةٌ لتأكيدِ النفيِ. وقال ابنُ عطية: «دخولُ» لا «إنما هو على نيةِ التَّكْرارِ، كأنه قال: ولا الظلماتُ والنورُ، ولا النورُ والظلماتُ، فاسْتُغْني بذِكْرِ الأوائل عن الثواني، ودَلَّ مذكورُ الكلامِ على مَتْروكِه». قال الشيخ: «وهذا غير مُحْتاجٍ إليه؛ لأنه إذا نُفِي اسْتواؤُهما أولاً فأيُّ فائدةٍ في نَفْي اسْتوائِهما ثانياً» وهو كلامٌ حَسَنٌ إلاَّ أنَّ الشيخَ هنا قال: «فدخولُ» لا «في النفيِ لتأكيدِ معناه، كقوله: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة﴾ [فصلت: ٣٤]. قلت: وللناسِ في هذه الآيةِ قولان، أحدهما: ما ذُكِر. الثاني: أنها غيرُ مؤكِّدة؛ إذ يُراد بالحسنةِ الجنسُ، وكذلك» السيئة «فكلُّ واحدٍ منهما متفاوتٌ في جنسِه؛ لأنَّ الحسناتِ درجاتٌ متفاوتةٌ، وكذلك السَّيئاتُ، وسيأتي لك تحقيقُ هذا إنْ شاء اللَّهُ تعالى. فعلى هذا يمكنُ أَنْ يُقالَ بهذا هنا: وهو أنَّ المرادَ نَفْيُ استواءِ الظلماتِ ونَفْيُ استواءِ جنسِ النورِ، إلاَّ أنَّ هذا غيرُ مُرادً هنا في الظاهر، إذ المرادُ مقابَلَةُ هذه الأجناسِ بعضِها ببعضٍ لا مقابلةُ بعضِ أفرادِ كلِّ جنسٍ على حِدَتِه. ويُرَجِّح هذا الظاهرَ التصريحُ بهذا في قوله أولاً: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير﴾ حيث لم يُكرِّرْها. وهذا من المواضعِ الحسنةِ المفيدة.
والحَرُوْرُ: شدةُ حَرِّ الشمس. وقال الزمخشري:» الحَرورُ السَّمُوم، إلاَّ أنَّ السَّمومَ بالنهارِ، والحَرورَ فيه وفي الليل «. قلت: وهذا مذهبُ الفراءِ وغيرِه. وقيل: السَّمومُ بالنهار، والحَرورُ بالليل خاصةً، نقله ابنُ عطية عَن رؤبةَ. وقال:» ليس بصحيحٍ، بل الصحيحُ ما قاله الفراءُ «. وهذا عجيبٌ منه كيف يَرُدُّ على أصحاب اللسانِ بقولِ مَنْ يأخذُ عنهم؟ وقرأ الكسائي في روايةِ زاذانَ عنه» وَمَا تَسْتَوِي الأحيآء «بالتأنيث على معنى الجماعة.
وهذه الأشياءُ جيْءَ بها على سبيلِ الاستعارةِ والتمثيلِ، فالأعمى والبصيرُ، الكافرُ والمؤمنُ، والظلماتُ والنورُ، الكفرُ والإِيمان، والظلُّ والحَرورُ، الحقُّ والباطلُ، والأحياء والأمواتُ، لمَنْ دَخَل في الإِسلامِ لَمَّا ضَرَبَ الأعمى والبصيرَ مَثَلَيْن للكافرِ والمؤمنِ عَقَّبَه بما كلٌّ منها فيه، فالكافرُ في ظلمةٍ، والمؤمنُ في نورٍ؛ لأنَّ البصيرَ وإن كان حديدَ النظر لا بُدَّ له مِنْ ضوءٍ يُبْصِرُ به، وقَدَّم الأعمى لأنَّ البصيرَ فاصلةٌ فَحَسُنَ تأخيره، ولمَّا تقدَّم الأعمى في الذكر ناسَبَ تقديمَ ما هو فيه، فلذلك قُدِّمَتِ الظلمةُ على النور، ولأنَّ النورَ فاصلةٌ، ثم ذَكَر ما لكلٍّ منهما فللمؤمنِ الظلُّ وللكافرِ الحَرورُ، وأخّر الحرورَ لأجلِ الفاصلةِ كما تقدَّم.
وقولي «لأجلِ الفاصلةِ» هنا وفي غيرِه من الأماكنِ أحسنُ مِنْ قولِ بَعْضِهم لأجلِ السَّجْع؛ لأنَّ القرآن يُنَزَّه عن ذلِك. وقد منع الجمهورُ/ أَنْ يُقال في القرآن سَجْعٌ، وإنما كرَّر الفعلَ في قوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء﴾ مبالغةً في ذلك؛ لأنَّ المنافاةَ بين الحياةِ والموتِ أتمُّ من المنافاةِ المتقدمةِ، وقدَّم الإِحياءَ لشرفِ الحياةِ ولم يُعِدْ «لا» تأكيداً في قولِه: «الأَعمى والبصير» وكرَّرها في غيره؛ لأنَّ منافاةَ ما بعدَه أتمُّ، فإن الشخصَ الواحدَ قد يكونُ بصيراً ثم يصيرُ أَعْمى، فلا منافاةَ إلاَّ من حيث الوصفُ بخلافِ الظلِّ والحرورِ، والظلماتِ والنور، فإنها متنافيةٌ أبداً، لا يَجْتمع اثنان منها في محلّ، فالمنافاةُ بين الظلِّ والحرورِ وبين الظلمةِ والنورِ دائمةٌ.
فإنْ قيل: الحياةُ والموتُ بمنزلةِ العمى والبصرِ، فإنَّ الجسمَ قد يكون مُتَّصفاً بالحياةِ ثم يتصفُ بالموت. فالجواب: أنَّ المنافاةَ بينهما أتمُّ من المنافاةِ بين الأعمى والبصيرِ؛ لأنَّ الأعمى والبصيرَ يشتركان في إدراكات كثيرةٍ، ولا كذلكَ الحيُّ والميت، فالمنافاةُ بينهما أتمُّ، وأفردَ الأعمى والبصيرَ لأنَّه قابلَ الجنسَ بالجنسِ، إذ قد يُوْجد في أفراد العُمْيان ما يُساوي بعضَ أفرادِ البُصَراءِ كأعمى ذكي له بصيرةٌ يُساوي بصيراً بليداً، فالتفاوتُ بين الجنسين مقطوعٌ به لا بين الأفراد.
وجَمَعَ الظلماتِ لأنها عبارةٌ عن الكفرِ والضلالِ، وطرقُهما كثيرةٌ متشعبةٌ، ووحَّد النورَ لأنه عبارةٌ عن التوحيدِ وهو واحدٌ، فالتفاوتُ بين كلِّ فردٍ مِنْ أفرادِ الظلمة، وبين هذا الفردِ الواحد. والمعنى: الظلماتُ كلُّها لا تجدُ فيها ما يساوي هذا الواحدَ كذا قيل. وعندي أنه ينبغي أَنْ يُقال: إن هذا الجمعَ لا يُساوي هذا الواحدَ فيُعْلَمُ انتفاءُ مساواةِ فردٍ منه لهذا الواحدِ بطريقِ الأَوْلى، وإنما جَمَع الأحياءَ والأمواتَ لأنَّ التفاوتَ بينهما أكثرُ؛ إذ ما من ميتٍ يُساوي في الإِدراك حيَّاً، فذكَرَ أنَّ الأحياءَ لا يُساوون الأموات سواءً قابَلْتَ الجنسَ بالجنسِ، أم الفردَ بالفرد. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
جُدَدٌ جمع جُدَّة، وهي الخطَّةُ والطريقَةُ، قال امرؤ القيس
كأَن سَراتَهُ وجُدَّةَ مَتْنِه... كنائِنُ يَجْرِي فَوقَهُنَّ دَلِيصُ (١)
" جُدَّةَ مَتْنِه " الخطَّة السوداء التي تراها في ظَهْرِ حِمارِ الوَحْشِ.
وكل طريقةٍ جادَّة وجُدَّة.
(وَغَرَابِيبُ سُودٌ).
أي ومن الجبال غَرابِيبُ وهي الحِرَارُ، الجبال التي هيْ ذات
صُخورٍ سُودٍ. والغِرْبِيبُ الشديد السوادِ (٢).
* * *
(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨)
المعنى وفيما خلقنا مختلف ألوانه، ومن الناس والدواب
والأنْعَامِ كذلك أي كاختلاف الثمرات والجبال.
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).
أي من كان عالماً باللَّهِ اشتدت خشيته له.
وجاء في التفسير كفى بخشية الله عِلْماً، وبالاغْتِرَارِ بِاللَّه جَهْلاً.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩)
(يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ).
أي لَنْ تَفْسُدَ وَلَنْ تَكْسَدَ.
* * *
(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠)
غفور لذنُوبِهم شكور لِحَسنَاتِهِمْ.
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَمِنَ الجبال جُدَدٌ﴾ العامَّةُ على ضمِّ الجيمِ وفتح الدالِ، جمعَ «جُدَّة» وهي الطريقةُ. قال ابن بحر: «قِطَعٌ، مِنْ قولك: جَدَدْت الشيءَ قَطَعْتُه». وقال أبو الفضل: «هي ما تخالَفَ من الطرائق لونُ ما يليها، ومنه جُدَّة الحِمارِ للخَطِّ الذي في ظهرِه. وقرأ الزهري» جُدُد «بضم الجيم والدال جمع جَدِيْدَة، يقال: جديدة وجُدُد وجَدائد. قال أبو ذُؤيب:
٣٧٦٥........................... جَوْنُ السَّراةِ له جَدائدُ أربعُ
نحو: سفينة وسُفُن وسفائِن. وقال أبو الفضل:» جمع جديد بمعنى آثار جديدة واضحة الألوان «. وعنه أيضاً جَدَد بفتحهما. وقد رَدَّ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ من حيثُ الأثرُ والمعنى، وقد صَحَّحهما غيرُه. وقال: الجَدَدُ: الطريق الواضح البيِّن، إلاَّ أنه وضع المفرَد موضعَ الجمعِ؛ إذ المرادُ الطرائقُ والخطوطُ.
قوله:» مختلِفٌ ألوانُها «» مختلف «صفةٌ ل» جُدَد «أيضاً. و» ألوانُها «فاعلٌ به كما تقدَّم في نظيره. ولا جائزٌ أَنْ يكونَ» مختلفٌ «خبراً مقدماً، و» ألوانُها «مبتدأٌ مؤخرٌ، والجملةُ صفةٌ؛ إذ كان يجبُ أَنْ يُقال: مختلفةٌ لتحمُّلِها ضميرَ المبتدأ. وقوله: /» ألوانُها «يحتمل معنيين، أحدهما: أنَّ البياضَ والحمرةَ يتفاوتان بالشدة والضعفِ فرُبَّ أبيضَ أشدُّ من أبيضَ، وأحمرَ أشدُّ مِنْ أحمرَ، فنفسُ البياضِ مختلفٌ، وكذلك الحمرةُ، فلذلك جَمَع» ألوانها «فيكونُ من باب المُشَكَّل. الثاني: أن الجُدَدَ كلَّها على لونين: بياضٍ وحُمْرَةٍ، فالبياضُ والحُمْرَةُ وإنْ كانا لونَيْن إلاَّ أنهما جُمِعا باعتبارِ مَحالِّهما.
وقوله:» وغَرابيبُ سُوْدٌ «فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه معطوفٌ على» حمرٌ «عَطْفَ ذي لون على ذي لون. الثاني: أنه معطوفٌ على» بِيضٌ «. الثالث: أنه معطوفٌ على» جُدَدٌ «. قال الزمخشري:» معطوف على «بيض» أو على «جُدَد»، كأنه قيل: ومن الجبالِ مخططٌ ذو جُدَد، ومنها ما هو على لونٍ واحد «ثم قال:» ولا بُدَّ من تقديرِ حذفِ المضافِ في قوله: ﴿وَمِنَ الجبال جُدَدٌ﴾ بمعنى: ومن الجبالِ ذو جُدَدٍ بيضٍ وحمرٍ وسُوْدٍ، حتى يَؤُول إلى قولِك: ومن الجبالِ مختلفٌ ألوانها، كما قال: ﴿ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا﴾.
ولم يذكُرْ بعد «غرابيب سود» «مختلفٌ ألوانُها» كما ذكر ذلك لك بعد بيض وحُمْر؛ لأنَّ الغِرْبيبَ هو المبالِغُ في السوادِ، فصار لوناً واحداً غيرَ متفاوتٍ بخلافِ ما تقدَّم «.
وغرابيب: جمعُ غِرْبيب وهو الأسودُ المتناهِي في السوادِ فهو تابعٌ للأسودِ كقانٍ وناصعٍ وناضِرٍ ويَقَق، فمِنْ ثَمَّ زعَم بعضُهم أنه في نيةِ التأخير، ومِنْ مذهبِ هؤلاءِ يجوز تقديمُ الصفةِ على موصوفِها، وأنشدوا:
٣٧٦٦ والمُؤْمِن العائذاتِ الطير.............................................
يريد: والمؤمنِ الطيرَ العائذات، وقولَ الآخر:
٣٧٦٧ وبالطويلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَراً... يريد: وبالعمر الطويل. والبصريُّون لا يَرَوْن ذلك ويُخَرِّجُون هذا وأمثالَه على أنَّ الثاني بدلٌ من الأول ف سود والطير والعمر أبدالٌ مِمَّا قبلها. وخَرَّجه الزمخشريُّ وغيرُه على أنه حَذَفَ الموصوفَ وقامَتْ صفتُه مقامَه، وأن المذكورَ بعد الوصفِ دالٌّ على الموصوفِ. قال الزمخشري:» الغِرْبيبُ: تأكيدٌ للأَسْوَدِ، ومِنْ حَقِّ التوكيدِ أَنْ يَتْبَعَ المؤكِّد كقولك: أصفَرُ فاقِعٌ وأبيضٌ يَقَقٌ. ووجهه: أَنْ يُضْمَرَ المؤكَّدُ قبلَه، فيكون الذي بعده تفسيراً لِما أُضْمِر كقوله:
والمؤمِنِ العائذاتِ الطيرِ.................. وإنما يُفْعَلُ ذلك لزيادةِ التوكيدِ حيث يدلُّ على المعنى الواحد من طريقَيْ الإِظهار والإِضمار «يعني فيكونُ الأصلُ: وسودٌ غرابيبُ سودٌ، والمؤمنُ الطيرَ العائذاتِ الطيرَ. قال الشيخ:» وهذا لا يَصِحُّ إلاَّ على مذهب مَنْ يُجَوِّز حَذْفَ المؤكَّد. ومن النحويين مَنْ مَنَعَه وهو اختيارُ ابنِ مالك «. قلت: ليس هذا هو التوكيدَ المختلفَ في حَذْفِ مؤكَّدهِ؛ لأنَّ هذا من باب الصفة والموصوف. ومعنى تسميةِ الزمخشريِّ لها تأكيداً من حيث إنها لا تفيد معنًى زائداً، إنما تفيدُ المبالغةَ والتوكيدَ في ذلك اللونِ، والنَّحْويون قد سَمَّوا الوصفَ إذا لم يُفِدْ غيرَ الأولِ تأكيداً فقالوا: وقد يجيْءُ لمجرِد التوكيد نحو: نعجةٌ واحدةٌ، وإلهين اثنين، والتوكيدُ المختلفُ في حَذْف مؤكَّده، وإنما هو من باب التوكيدِ الصناعي، ومذهب سيبويه جوازُه، أجاز» مررت بأخويك أنفسُهما (أنفسَهما) «بالنصب أو الرفع، على تقدير: أَعْنيهما أنفسَهما، أو هما أنفسُهما فأين هذا من ذاك؟ إلاَّ أنه يُشْكِلُ على الزمخشري هذا المذكورُ بعد» غَرابيب «ونحوِه بالنسبة إلى أنه جعله مُفَسِّراً لذلك المحذوفِ، وهذا إنما عُهِد في الجملِ، لا في المفرداتِ، إلاَّ في باب البدل وعَطف البيانِ فبأيِّ شيءٍ يُسَمِّيه؟ والأَوْلَى فيه أن يُسَمَّى توكيداً لفظياً؛ إذ الأصلُ: سود غرابيب سود. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
فيها وجهانْ:
أحدُهُما يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ومِنْ لؤلُؤٍ.
ويجوز ولؤلُؤاً على مَغْنَى يحلون أساورَ، لأن معنى من أَساوِرَ كمعنى
أَسَاورَ. والتفسير على الخفض أكثر، على معنى يحلون فيها من أَسَاوِرَ
مِنْ ذَهبٍ ولؤلُؤٍ.
وجاء في التفسير أَن ذَلِكَ الذهَبَ في صَفاءِ اللؤلُؤِ، كما قال عزَّ وجلَّ: (قواريرَ قواريرَ من فضة)، أي هي قوارير ولكن بياضها كبياض الفضةِ، والفضة أَصْلُه.
وَيَجُوزُ أَنْ يكون يُحَلَّوْنَ مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ، وَيُحَلَّوْنَ من لؤلُؤٍ.
ويجوز على مَعْنَى وَيُحَلَّوْنَ لؤلُؤاً.
وأساور جمعُ إسْوِرَة وَأَساوِر وَوَاحِدُهَا سِوَار. والأسْوَارُ من أَساوِرَةِ
الفُرْس، وَهُوَ الجيِّدُ الرمْي بالسهام.
قال الشاعر:
وَوَتَّرَ الأَسَاوِرُ القِياسَا... صُغْدِيَّةً تَنْتَزِعُ الأَنْفاسَا
* * *
(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤)
ويجوز الحُزْن مثل الرُّشْد والرَّشَد، والعُرْبُ والعَرَب، ومعنى
أذهب عنا الحَزَنَ أذهب عنا كل ما يُحْزِنُ، من حُزْنٍ في مَقَاسٍ.
وحُزْنٍ لِعَذابٍ، أَوْ حُزْنٍ للمَوْتِ، وقد أذهب اللَّه عن أهل الجنةِ كُل حُزْنٍ.
* * *
(الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (٣٥)
دار الخُلُودِ من فَضْله، أي ذلك بتفضله لا بأعْمَالِنَا.
(لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ): أي تَعَب.
(وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ).
واللغُوب الِإعياء من التعَب.
وقد قرأ أبو عبد الرحمن السُّلَّمِي
لَغُوب - بفتح اللام - والضمُّ أكثر، ومعنى لَغُوب شيء يَلْغَبُ مِنه، أي
لا نتكلف شيئاً نَعْيَا مِنْهُ.
* * *
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦)
(فَيَمُوتُوا) نصب، وعلامة النصب سقوط النون، وهو جواب النفي.
والمعنى لا يقضى عليهم الموت فيموتوا.
(وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا).
أي من عذاب نار جهنَّمَ.
(كَذَلِكَ يُجْزَى كُلُّ كَفُورٍ).
و (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ).
وفيها وجه ثالث: (كذَلِكَ يَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)، أي كذلك يجزي اللَّهُ.
المعنى مثلَ ذلك الجزاء الذي ذكرنا.
ولا أَعْلَم أَحَداً قرأ بها، أعني يجزي بالياء وفتحها.
* * *
(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)
يستغيثون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا.
المعنى يقولون: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ).
المعنى إن تخرجنا نعمَلْ صَالِحاً، فوبَّخَهُمُ اللَّهُ فقال:
(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ).
وجاء في التفسير: لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّه إلى عَبْدٍ عَمَّرهُ ستين سنةً.
ويقال من الستين إلى السبعين.
وقد جاء في التفسير أنه يدخل فيها ابنُ سبعَ عَشْرَةَ سَنة وقد قيل أربعين.
(وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ).
يعنى النبي - ﷺ - وقيل الشيْبُ.
والقولُ الأول أن النبي - ﷺ - النذيرُ
أكثرُ التفسير عليه، وقد قيل الأربعين.
* * *
(إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٣٨)
القراءة الكثيرة بالخفض ويجوز عالمٌ غيبَ السَّمَاوَات على
معنى يعلم، وعالمٌ غيبَ على معنى قد علم ذلك.
* * *
(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (٣٩)
" خلائف " جمع خليفة، المعنى جَعَلَكُمْ أُمَّةً خلفت مَنْ قبلها -
ورأت وشاهدت فيمن - سلف ما ينبغي أن يعتبر به.
(فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُه).
المعنى فعليه جزاء كفره.
(وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا).
المقت أشدُّ الإبغاض.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (٤٠)
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ)
معناه قل أَخْبِروني عن شركائكم.
المعنى بأي شيء أوجبتم لهم شركة اللَّه، أبخلق خلقوه من
الأرض (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاواتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً).
أي أم أعطيناهم كتاباً بما يدعونه من الشركة.
(فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ).
ويقرأ (بَيِّنَاتٍ).
(بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا).
والغرور الأباطِيلُ التي تغُرُّ.
ومعنى إن يعد: ما يعد، و (بَعْضُهُمْ) بَدَلٌ مِنَ الظالمين.
* * *
(إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤١)
معنى يمسك يمنع السماوات والأرض من أن تزولا.
ولما قالت النصارى المسيحُ ابن اللَّه وقالت اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابنُ اللَّهِ
كادت السَّمَاوَات يَتَفَطرْنَ منه، وكادَت الجبال تَزُول، وكادت الأرض
تنشق، قال اللَّه: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (٨٩).
الثلاث الآيات فأمسكها اللَّه.
وقال السماواتِ والأرْضَ؛ لأن الأرْضَ تَدُلُ عَلَى الأرَضِينَ
(وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ).
يحتمل هذا - واللْه أعلم - وجهين من الجواب:
أحدهما زوالهما
ويحتمل أن يقال إن زالتا وهما لا يزولان.
وقوله في هذا الموضع: (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا).
فإن قوماً سألوا فقالوا: لِمَ كان في هذا الموضع ذكرُ الحلم
والمَغْفِرَةِ وهذا موضع يدل على القدرة؟
فالجواب في هذا أنه لما أمسك السَّمَاوَات والأرض عند قولهم: (اتَخَذَ الرحْمَنُ وَلَداً).
حَلُمَ فلم يعجل لهم بالعقوبة وأمسك السماوات والأرضَ أن تزولا من عظم
فِرْيَتِهِمْ.
* * *
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (٤٢)
يعني المشركين، وكانوا حَلَفْوا واجتهدوا (لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أي من اليهود والنصارى وغَيرِهِمْ.
(فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ).
وهو محمد - ﷺ -.
(مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا).
إلا أن نفروا عن الحقِّ.
* * *
(اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (٤٣)
" استكباراً " نصبٌ، مفعول له.
المعنى ما زادهم إلا أَنْ نَفَرُوا للاستكبار..
(وَمَكْرَ السَّيِّئِ).
أي وَمَكْرَ الشرك.
(وَلَا يَحِيقُ) يُحِيطُ.
وقرأ حمزَةُ: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئْ) - على الوقف، وهذا عند
النحويين الحذَّاقِ لَحْنٌ، ولا يجوز، وإنما يجوز مثله في الشعر في
الاضطرار
قال الشاعر:
إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحِبْ قَوِّمِ
ْوالأصل يا صَاحِبُ قَوِّمِ، ولكنه حذف مُضْطَراً.
وكانَّ الضم بعدَ الكَسْرِ والكسر بعدَ الكسر يستثقل.
وأنشدوا أيضاً.
فاليومَ أَشْرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِب... إِثْماً من الله ولا وَاغِلِ
وهذان البيتان قد أنشدهما جميع النحويين المذكورين وزعموا
كلهم أن هذا من الاضطرار في الشعر ولا يجوز مثله في كتاب اللَّه.
وأنشدناهما أبو العباس محمد بن يزيد رحمه اللَّه
إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحِ قَوِّمِ
وهذا جيِّدٌ بالغ، وأنشدنا:
فاليوم فَاشْرَبْ غَيرَ مستحقب
وأما ما يروى عن أبي عمرو بن العلاء في قراءته إلى بَارِئْكُم.
فإنما هو أن يختلس الكسر اختلاساً، ولا يَجْزِم بَارِئِكم، وهذا أعني
والخليل، ورواه سيبويه باختلاس الكسر، كأنَّه تقلَّلَ صَوْته عند
الكسرة (١).
* * *
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ).
معناه فهل ينتظرون إلا مثلَ أيام الَّذِينَ خَلَوْا من قَبْلِهِمْ.
والمعنى فهل ينتظرون إلا أن ينزل بهم من العذاب مثلُ الذي نزل بمن قبلهم.
* * *
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (٤٤)
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ).
المعنى لَيفُوتَه من شيء من أَمْر السماوات ولا مِنْ أَمْرِ الأرْضِ.
* * *
(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا
(٤٥)
قالوا: قال (عَلَى ظَهْرِهَا)، لأن المعنى يُعْلَم أنهُ على ظهر
الأرض، وهذا حقيقتُه أَنَهُ قد جرى ذكر الأرض بقوله فيما قَبْلَ هذه
الآية يليها قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) فلذلك جاء على ظهرها.
وقوله: (مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ).
فيه قولان:
فقيل مِن دَابَّةٍ من الإنس والجن وكل ما يعقل.
وجاء عن ابن مَسْعُودٍ كادَ الجُعَل يهلكُ في جُحْرِه لذَنْبِ ابن آدم.
فهذا يدل على العموم.
والذِي جاء أنه يُعْنَى به الإنسُ والجِنُّ كأنَّه أشبه، واللَّهُ أعلم.
آخر سورة الملائكة.
قوله: ﴿استكبارا﴾: يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له أي: لأجل الاستكبارِ، وأَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «نُفوراً»، وأنْ يكونَ حالاً أي: حالَ كونِهم مُسْتكبرين. قاله الأخفش.
قوله: «ومَكْرَ السَّيِّئِ» فيه وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على «استكباراً». والثاني: أنه عطفٌ على «نُفوراً» وهذا مِنْ إضافة الموصوفِ إلى صفتِه في الأصلِ؛ إذ الأصلُ: والمكرَ السَّيِّئ. والبصريون يُؤَوِّلونه على حَذْفِ موصوفٍ/ أي: العمل السِّيِّئ.
وقرأ العامَّةُ بخفضِ همزةِ «السَّيِّئ»، وحمزة والأعمش بسكونِها وَصْلاً. وقد تَجَرَّأتِ النحاةُ وغيرُهم على هذه القراءةِ ونسبوها لِلَّحْنِ، ونَزَّهوا الأعمشَ عَنْ أَنْ يكونَ قرأ بها. قالوا: وإنما وَقَفَ مُسَكِّناً، فظُنَّ أنه واصَلَ فَغُلِط عليه. وقد احتجَّ لها قومٌ آخرون: بأنه إجراءٌ للوَصْلِ مُجْرَى الوقفِ، أو أَجْرى المنفصلَ مُجْرى المتصلِ. وحَسَّنه كونُ الكسرةِ على حَرْفٍ ثقيل بعد ياءٍ مشددةٍ مكسورةٍ. وقد تقدَّم أنَّ أبا عمروٍ يَقْرأ «إلى بارِئْكم» بسكونِ الهمزةِ. فهذا أَوْلَى لزيادةِ الثقلِ ههنا. وقد تقدَّمَ هناك أمثلةٌ وشواهدُ فعليك باعتبارِها. ورُوِيَ عن ابنِ كثير «ومَكْرَ السَّأْيِ» بهمزةٍ ساكنةٍ بعد السينِ ثم ياءٍ مكسورةٍ. وخُرِّجَتْ على أنها مقلوبةٌ من السَّيْئِ، والسَّيْئُ مخففٌ من السَّيِّئ كالميْت من الميِّت قال الحماسي:
٣٧٧٣ ولا يَجْزُوْنَ مِنْ حَسَنٍ بسَيْءٍ... ولا يَجْزُون مِنْ غِلَظٍ بلِيْنِ
وقد كَثُر في قراءتِه القلبُ نحو «ضِئاء» و «تَاْيَسوا» و «لا يَاْيَسُ» كما تقدم تحقيقُه.
وقرأ عبد الله: «ومَكْراً سَيِّئاً» بالتنكيرِ، وهو موافِقٌ لما قبلَه. وقُرِئ «ولا يُحيق» بضمِّ الياء، «المكْرَ السَّيِّئَ» بالنصب على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الله تعالى أي: لا يُحيط اللَّهُ المكرَ السيِّئَ إلاَّ بأهله. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقال أيضا في سورة البقرة ما نصُّهُ:
قوله: «إلى بارِئِكم» متعلِّقٌ ب «تُوبوا» والمشهورُ كَسْرُ الهمزة، لأنها حركةُ إعرابٍ، ورُوي عن أبي عمرو ثلاثةُ أوجهٍ أُخَرَ: الاختلاسُ، وهو الإِتيانُ بحركةٍ خفيَّة، والسكونُ المَحْضُ، وهذه قد طَعَنَ عليها جماعةٌ من النحويين، ونسبوا راويَها إلى الغَلَطِ على أبي عمرو، قال سيبويه: «إنما اختلسَ أبو عمرو فظنَّه الروايَ سَكَّن ولم يَضْبِط»، وقال المبردُ: «لا يجوزُ التسكينُ مع توالي الحركات في حرف الإِعراب في كلامٍ ولا شعر، وقراءةُ أبي عمروٍ لَحْنٌ» وهذه جرأةٌ من المبرِّد وجَهْلٌ بأشعارِ العرب، فإنَّ السكونَ في حركاتِ الإِعراب قد وَرَدَ في الشعرِ كثيراً، ومنه قولُ امرئِ القيس:
فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ... إثْماً مِن اللهِ ولا واغِلِ
فسكَّن «أَشْرَبْ»، وقال جرير:
.................. ونهرُ تيرى فما تَعْرِفْكُمُ العَرَبُ
وقال أخر:
رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ ما فيهما... وقد بَدَا هَنْكِ من المِئْزَرِ
يريد: هَنُك، وتَعْرِفُكم، فهذه حركاتُ إعرابٍ وقد سُكِّنَتْ، وقد أنشد ابنُ عطية وغيرُه رَدَّاً عليه:
قالت سُلَيْمى اشْتَرْ لنا سَويقا... وقول الآخر:
إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحِبْ قَوِّمِ... وقول الآخر:
إنما شِعْريَ شَهْدٌ... قد خُلْطَ بِجُلْجُلانْ
ولا يَحْسُن ذلك لأنها حركاتُ بناء، وإنما مَنَع هو ذلك في حركاتِ الإِعراب، وقراءةُ أبي عمرو صحيحةٌ، وذلك أنَّ الهمزةَ حرفٌ ثقيل، ولذلك اجْتُرِئَ عليها بجميع أنواعِ التخفيفِ، فاسْتُثْقِلَتْ عليها الحركةُ فقُدِّرَت، وهذه القراءة تشبه قراءة حمزة - رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: ﴿وَمَكْرَ السيىء وَلاَ﴾ فإنه سَكَّن هَمزة «السيء» وَصْلاً، والكلامُ عليهما واحد، والذي حسَّنه هنا أنَّ قبلَ كسرةِ الهمزةِ راءً مكسورةً، والراءُ حرفُ تكريرٍ، فكأنه توالى ثلاثُ كَسَرات فَحَسُنَ التسكينُ، وليت المبردَ اقتدى بسيبويهِ في الاعتذار عن أبي عمرو وفي عَدَم الجرأة عليه:
وابنُ الَّلُبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ... لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْل القَنَاعِيْسِ
وجميعُ روايةِ أبي عمروٍ دائرةٌ على التخفيفِ، ولذلك يُدْغِمُ المِثْلَيْن والمتقارِبَيْن ويُسَهِّلُ الهمزة ويُسكِّنُ نحو: ﴿يَنصُرْكُمُ﴾ [آل عمران: ١٦٠]، و ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾ [البقرة: ٦٧]، و ﴿بِأَعْلَمَ بالشاكرين﴾ [الأنعام: ٥٣] على تفصيلٍ معروفٍ عند القرَّاء. ورُوِيَ [عنه] إبدالُ هذه الهمزةِ الساكنةِ ياءً كأنه لم يَعْتَدَّ بالحركةِ المقدَّرةِ، وبعضُهم يُنْكِرُ ذلك [عنه]، فهذه أربعُ قراءات لأبي عمروٍ. وروى ابنُ عطية عن الزهري «بارِيِِكم» بكسر الياء من غيرِ هَمْزٍ، قال: «ورُوِيَتْ عن نافع»، قلت: من حقَّ هذا القارئ أن يُسَكِّنَ الياءَ لأنَّ الكسرةَ ثقيلةٌ عليهَا، ولا يجوزُ ظهورُها إلا في ضرورةِ شعرٍ كقول أبي طالب:
كَذَبْتُمْ وبَيْتِ اللهِ نُبْزِي مُحَمَّداً... ولم تَخْتَصِبْ سُمْرُ العَوالِيِّ بالدَّمِ
وقرأ قتادة: «فاقْتالوا» وقال: هي من الاستقالةِ، قال ابن جني: «اقتال: افْتَعَل، ويُحَتمل أنْ تكونَ عينُها واواً [كاقتادوا] أو ياءً كاقتاس، والتصريفُ يُضْعِفُ أن تكونَ من الاستقالة»، ولكن قتادةَ ينبغِي أن يُحْسَنَ الظَّنُّ به في أنه لم يُوْرِدْ إلا بحُجَّةٍ عنده.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).