تفسير سورة فاطر

الماوردي
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ والفطر الشق عن الشيء بإظهاره للحسن يقال فطر ناب الناقة إذا طلع، وفطر دمه إذا أخرجه. قال ابن عباس : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها.
وفي تأويله ههنا وجهان :
أحدهما : خالق السموات والأرض، قاله قتادة، والكلبي، ومقاتل.
الثاني : أنه شقها لما ينزل منها وما يعرج فيها.
﴿ جَاعِلِ الْمَلآَئِكَةِ رُسُلاً ﴾ فيه قولان
: أحدهما : إلى الأنبياء، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : إلى العباد رحمة أو نقمة، قاله السدي.
﴿ أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾ قال قتادة : بعضهم له جناحان، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة. والمثنى والثلاث والرباع ما تكرر فيه الاثنان والثلاثة والأربعة.
﴿ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : أنه حسن الصوت، قاله الزهري وابن جريج.
الثاني : أنه الشعر الجعد، حكاه النقاش.
الثالث : يزيد في أجنحة الملائكة ما يشاء، قاله الحسن.
ويحتمل رابعاً : أنه العقل والتمييز.
ويحتمل خامساً : أنه العلوم والصنائع. ويكون معناه على هذين التأويلين :
كما يزيد في الخلق ما يشاء كذلك يزيد في أجنحة الملائكة ما يشاء.
قوله تعالى :﴿ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا ﴾ فيه سبعة تأويلات :
أحدها : من خير، قاله قتادة.
الثاني : من مطر، قاله السدي.
الثالث : من توبة، قاله ابن عباس.
الرابع : من وحي، قاله الحسن.
الخامس : من رزق وهو مأثور.
السادس : من عافية، قاله الكلبي.
السابع : من دعاء، قاله الضحاك.
ويحتمل ثامناً : من توفيق وهداية.
قوله تعالى :﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً ﴾ فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنهم اليهود والنصارى والمجوس، قاله أبو قلابة، ويكون سوء عمله معاندة الرسول.
الثاني : أنهم الخوارج، رواه عمرو بن القاسم، ويكون سوء عمله تحريف التأويل.
الثالث : الشيطان، قاله الحسن ويكون سوء عمله الإغواء.
الرابع : كفار قريش، قاله الكلبي، ويكون سوء عملهم الشرك.
وقيل إنها نزلت في العاص بن وائل السهمي والأسود بن المطلب، وقال غيره نزلت في أبي جهل بن هشام.
في قوله :﴿ فَرءَاهُ حَسَناً ﴾ وجهان :
أحدهما : صواباً، قاله الكلبي.
الثاني : جميلاً.
وفي الكلام محذوف اختلف فيه على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المحذوف منه : فإنه يتحسر عليه يوم القيامة، قاله ابن عيسى.
الثاني : أن المحذوف منه : كمن آمن وعمل صالحاً لا يستويان، قاله يحيى بن سلام.
الثالث : أن المحذوف منه : كمن عمل الحسن والقبح.
قوله تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ﴾ فيه قولان
: أحدهما : يعني بالعزة المنعة فيتعزز بطاعة الله تعالى، قاله قتادة.
الثاني : علم العزة لمن هي، فلله العزة جميعاً.
وقيل إن سبب نزول هذه الآية ما رواه الحسن أن المشركين عبدوا الأوثان لتعزهم كما وصف الله تعالى عنهم في قوله :﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن اللهِ دُونِ ءَالِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُم عِزّاً ﴾ فأنزل الله تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فِلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ﴾.
﴿ إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾ فيه قولان
: أحدهما : أنه التوحيد، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : الثناء علىمن في الأرض من صالح المؤمنين يصعد به الملائكة المقربون، حكاه النقاش.
﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ فيه قولان
: أحدهما : أنه أداء الفرائض.
الثاني : أنه فعل القرب كلها.
وفي قوله :﴿ يَرْفَعُهُ ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن العمل الصالح يرفعه الكلام الطيب، قاله الحسن، ويحيى بن سلام.
الثاني : أن العمل الصالح يرفع الكلام الطيب، قاله الضحاك وسعيد بن جبير.
الثالث : أن العمل يرفعه الله بصاحبه، قاله قتادة، السدي.
﴿ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ ﴾ يعني يشركون في الدنيا
. ﴿ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ﴾ يعني في الآخرة
. ﴿ وَمَكْرُ أُوْلئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾ فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : يفسد عند الله تعالى، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : يبطل، قاله قتادة.
الثالث : يهلك، والبوار الهلاك، قاله قطرب.
وفي المراد :﴿ أُوْلئِكَ ﴾ قولان :
أحدهما : أهل الشرك.
الثاني : أصحاب الربا، قاله مجاهد.
قوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ﴾ يعني آدم.
﴿ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ يعني نسله
. ﴿ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أصنافاً، قاله الكلبي.
الثاني : ذكراناً وإناثاً، والواحد الذي معه آخر من شكله زوج والاثنان زوجان، قال الله تعالى :﴿ وأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَينَ الذَّكَرَ والأُنْثَى ﴾ [ النجم : ٤٥ ] وتأول قتادة قوله تعالى :﴿ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً ﴾ أي زوّج بعضكم لبعض.
﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ﴾ يعني بأمره
. ﴿ وَمَا يَعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ منْ عَمُرِهِ.. ﴾ الآية. فيه قولان
: أحدهما : ما نمد في عمر معمر حتى يصير هرماً. ولا ينقص من عمر أحد حتى يموت طفلاً إلا في كتاب.
الثاني : ما يعمر من معمر قدر الله تعالى مدة أجله إلا كان ما نقص منه بالأيام الماضية عليه في كتاب عند الله.
قال سعيد بن جبير : هي صحيفة كتب الله تعالى في أولها أجله، ثم كتب في أسفلها ذهب يوم كذا ويوم كذا حتى يأتي على أجله، وبمثله قال أبو مالك، والشعبي.
وفي عمر المعمر ثلاثة أقاويل :
أحدها : ستون سنة، قاله الحسن.
الثاني : أربعون سنة.
الثالث : ثماني عشرة سنة، قاله أبو غالب.
﴿... إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ أي هين
. ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن إثبات ذلك على الله يسير.
الثاني : أن زيادة عمر المعمر ونقصان عمر الآخر عند الله تعالى يسير.
وللكلبي فيه ثالث : أن حفظ ذلك بغير كتاب على الله يسير.
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ ﴾ يحتمل وجهين
: أحدهما : ما يستويان في أنفسهما.
الثاني : في منافع الناس بهما.
﴿ هذَا عَذْبٌ فُراتٌ ﴾ والفرات هو العذب وذكره تأكيداً لاختلاف اللفظين كما يقال هذا حسن جميل.
﴿ سَآئَغٌ شَرَابُهُ ﴾ أي ماؤه
. ﴿ وَهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾ أي مُرٌّ مأخوذ من أجة النار كأنه يحرق من شدة المرارة، قال الشاعر :
دُرَّةٌ في اليمين أخرجها الغا ئص من قعر بحر ملح أجاج
﴿ وَمِن كُلٍّ تَأكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً ﴾ يعني لحم الحيتان مأكول من كلا البحرين
. ﴿ وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ اللؤلؤ والمرجان يستخرج من الملح، ويكون المراد أحدهما وإن عطف بالكلام عليهما.
وقيل : بل هو مأخوذ منهما لأن في البحر عيوناً عذبة، وما بينهما يخرج اللؤلؤ عند التمازج وقيل من مطر السماء.
ثم قال :﴿ تَلْبَسُونَهَا ﴾ وإن لبسها النساء دون الرجال لأن جمالها عائد عليهم جميعاً.
﴿ وَتَرى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ﴾ فيه خمسة أوجه
: أحدها : مقبلة ومدبرة وريح واحدة، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : مواقر، قاله الحسن. قال الشاعر :
تراها إذا راحت ثقالاً كأنها مواخر فلك أو نعام حوافل
الثالث : معترضة، قاله أبو وائل
. الرابع : جواري، قاله ابن قتيبة.
الخامس : تمخر الماء أي تشقه في جريها شقاً، قاله علي بن عيسى.
﴿ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ قال مجاهد : التجاة في الفلك
. ويحتمل وجهاً آخر ما يستخرج من حليته ويصاد من حيتان.
﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ فيه وجهان ] :
أحدهما : على ما آتاكم من نعمه.
الثاني : على ما آتاكم من فضله.
ويحتمل ثالثاً : على ما أنجاكم من هوله.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرَى ﴾ أي لا تحمل نفس ما تحمله نفس أخرى من ذنوبها، ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال الملك بتدبيره.
﴿ وَإن تَدَعُ مُثْقَلَةٌ إلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَل مِنْهُ شَيْءٌ ﴾ قال مجاهد مثقلة بالذنوب، ومعنى الكلام أن النفس التي قد أثقلتها ذنوبها إذا دعت يوم القيامة من يتحمل الذنوب عنها لم تجد من يتحمل عنها شيئاً من ذنوبها.
﴿ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ ولو كان المدعو إلى التحمل قريباً مناسباً، ولو تحمله عنها ما قُبل تحمله، لما سبق من قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾.
﴿ إنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهَم بِالْغَيْبِ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : في السر حيث لا يطلع عليه أحد، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : في التصديق بالآخرة، حكاه ابن عيسى.
ويحتمل ثالثاً : يخشونه في ضمائر القلوب كما يخشونه في ظواهر الأفعال.
قوله تعالى :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ.. ﴾ الآية. فيه قولان
: أحدهما : أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، كما لا يستوي الأعمى والبصير، ولا تستوي الظلمات ولا النور، ولا يستوي الظل ولا الحرور لا يستوي المؤمن والكافر، قاله قتادة.
الثاني : أن معنى قوله وما يستوي الأعمى والبصير أي عمى القلب بالكفر وبصره بالإيمان، ولا تستوي ظلمات الكفر ونور الإيمان، ولا يستوي ظل الجنة وحرور النار، قاله السدي.
والحرور الريح الحارة كالسموم، قال الفراء : الحرور يكون بالليل والنهار، والسموم لا يكون إلا بالنهار.
وقال الأخفش : الحرور لا يكون إلا مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل والنهار.
قال قطرب : الحرور الحر، والظل البرد. ومعنى الكلام : أنه لا يستوي الجنة والنار.
قوله تعالى :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، كما أنه لا يستوي الأحياء والأموات فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر، قاله قتادة.
الثاني : أن الأحياء المؤمنون الذين أحياهم الإيمان. والأموات الكفار الذين أماتهم الكفر وهذا مقتضى قول السدي.
الثالث : أن الأحياء العقلاء، والأموات الجهال، قاله ابن قتيبة وفي ﴿ لاَ ﴾ في هذا الموضع وفيما قبله قولان :
أحدهما : أنها زائدة مؤكدة.
الثاني : أنا نافية لاستواء أحدهما بالآخر.
﴿ إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ ﴾ أي يهدي من يشاء
. ﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِِ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : أنه مثل ضربه الله، كما أنك لا تُسمع الموتى في القبور كذلك لا تسمع الكافر.
الثاني : أن الكافر قد أماته الكفر حتى أقبره في كفره فلذلك لا يسمع، وقيل إن مراد الله تعالى بهذه الآية الإخبار أن بين الخير فروقاً، كما أن بين الشر فروقاً، ليطلب من درجات الخير أعلاها ولا يحتقر من درجات الشر أدناها، وهو الظاهر من قول علي ابن عيسى.
قوله تعالى :﴿ إنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً ﴾ أي بالقرآن بشرى بالجنة.
﴿ وَنَذِيراً ﴾ من النار. ﴿ وَإن مَّنْ أُمَّةِ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ أي سلف فيها نبي، قال ابن جريج : إلا العرب.
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَنْا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا ﴾ وفيه مضمر محذوف تقديره مختلف ألوانها وطعومها وروائحها، فاقتصر منها على ذكر اللون لأنه أظهرها ﴿ وَمِنَ الْجبَالَ جُدَدٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن الجدد القطع مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته، حكاه ابن بحر.
الثاني : أنها الخطط واحدتها جُدة مثل مُدة ومدد، ومنه قول زهير :
كأنه أسفع الخدين ذو جُدد طاوٍ ويرتع بعد الصيف عريانا
﴿ بِيضُ وَحُمرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ والغربيب الشديد السواد الذي لونه كلون الغراب. ومنه قول النبي ﷺ « إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الشَّيخَ الْغِرْبِيبَ » يعني الذي يخضب بالسواد، قال امرؤ القيس :
العين طامعة واليد سابحة والرجل لافحة والوجه غربيب
وقيل فيه تقديم وتأخير، وتقديره سود غرابيب
. وفي المراد بالغرابيب السود ثلاثة أوجه :
أحدها : الجبال السود، قاله السدي.
الثاني : الطرائف السود، قاله ابن عباس.
الثالث : الأودية السود، قاله قتادة.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوآبِّ وَالأَنعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلَوَانُهُ كَذلِكَ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : كذلك مختلف ألوانه أبيض وأحمر وأسود.
الثاني : يعني بقوله كذلك أي كما اختلف ألوان الثمار والجبال والناس والدواب والأنعام كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية.
ثم استأنف فقال :﴿ إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عَبَادِهِ الْعُلَمَآءُ ﴾ يعني بالعلماء الذين يخافون.
قال الربيع بن أنس : من لم يخش الله فليس بعالم. قال ابن مسعود : المتقون سادة، والعلماء قادة. وقيل : فاتحة الزبور الحكمة خشية الله.
قوله تعالى :﴿ يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ﴾ يعني الجنة، وفيها وجهان
: أحدهما : لن تفسد، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : لن تكسد، قاله علي بن عيسى والأول أشبه لقول الشاعر :
يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذا أنا بور
قوله تعالى :﴿ لِيُوَفِّيهُمْ أُجُورَهُمْ ﴾ يعني ثواب أعمالهم
. ﴿ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ فيه أربعة أوجه
: أحدها : يفسح لهم في قبورهم، قاله الضحاك.
الثاني : يشفعهم فيمن أحسن إليهم في الدنيا، قاله أبو وائل.
الثالث : يضاعف لهم حسناتهم، وهو مأثور.
الرابع : غفر الكثير والشكر اليسير، قاله بعض المتأخرين.
ويحتمل خامساً : يوفيهم أجورهم على فعل الطاعات ويزيدهم من فضله على اجتناب المعاصي ﴿ إنَّهُ غَفُورٌ ﴾ للذنب.
﴿ شَكُورٌ ﴾ للطاعة. ووصفه بأنه شكور مجاز ومعناه أن يقابل بالإحسان مقابلة الشكور لأنه يقابل على اليسير بأضعافه.
﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِن عِبَادِنَا ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : أن الكتاب هو القرآن، ومعنى الإرث انتقال الحكم إليهم.
الثاني : أن إرث الكتاب هو الإيمان بالكتب السالفة لأن حقيقة الإرث انتقال الشيء من قوم إلى قوم.
وفي ﴿ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبادِنَا ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم الأنبياء، حكاه ابن عيسى.
الثاني : أنهم بنو إسرائيل لقوله تعالى :﴿ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً ﴾ [ آل عمران : ٣٣ ] الآية. قاله ابن بحر.
الثالث : أمة محمد ﷺ. قاله الكلبي.
﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن قوله :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِِمٌ لِّنَفْسِهِ ﴾ كلام مبتدأ لا يرجع إلى المصطفين، وهذا قول من تأول المصطفين الأنبياء، فيكون من عداهم ثلاثة أصناف على ما بينهم.
الثاني : أنه راجع إلى تفصيل أحوال الذين اصطفينا، ومعنى الاصطفاء الاختيار وهذا قول من تأول المصطفين غير الأنبياء، فجعلهم ثلاثة أصناف.
فأما الظالم لنفسه ها هنا ففيه خمسة أوجه :
أحدها : أنهم أهل الصغائر من هذه الأمة، روى شهر بن حوشب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له.
الثاني : أنهم أهل الكبائر وأصحاب المشأمة، قاله السدي.
الثالث : أنهم المنافقون وهم مستثنون.
الرابع : أنهم أهل الكتاب، قاله الحسن.
الخامس : أنه الجاحد، قاله مجاهد.
وأما المقتصد ففيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه المتوسط في الطاعات وهذا معنى حديث أبي الدرداء، روى ابراهيم عن أبي صالح عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ أنه قرأ هذه الآية فقال :« أَمَّا السَّابِقُ فَيدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ، وَأَمَّا المُقْتَصِدُ فَيُحَاسَب حِسَاباً يَسِيراً، وَأمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فِيُحْصَرُ فِي طُولِ الحِبْسِ ثُمَّ يَتَجَاوَزُ اللَّهُ عَنهُ
»
الثاني : أنهم أصحاب اليمين، قاله السدي
. الثالث : أنهم أصحاب الصغائر وهو قول متأخر.
الرابع : أنهم الذين اتبعوا سنن النبي ﷺ من بعده، قاله الحسن.
﴿ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ﴾ فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنهم المقربون، قاله مجاهد.
الثاني : أنهم المستكثرون من طاعة الله تعالى، وهو مأثور.
الثالث : أنهم أهل المنزلة العليا في الطاعات، قاله علي بن عيسى.
الرابع : أنه من مضى على عهد رسول الله ﷺ فشهد له بالجنة.
روى عقبة بن صهبان قال : سألت عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت : كلهم من أهل الجنة، السابق من مضى على عهد رسول الله ﷺ فشهد له بالحياة والرزق، والمقتصد من اتبع أثره حتى لحق به، والظالم لنفسه مثلي ومثلك ومن اتبعنا.
قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ﴾ فيه تسعة تأويلات :
أحدها : أنه خوف النار، قاله ابن عباس.
الثاني : أنه حزن الموت، قاله عطية.
الثالث : تعب الدنيا وهمومها، قاله قتادة.
الرابع : حزن المنّة، قاله سمُرة.
الخامس : حزن الظالم لما يشاهد من سوء حاله، قاله ابن زيد.
السادس : الجوع حكاه النقاش.
السابع : خوف السلطان، حكاه الكلبي.
الثامن : طلب المعاش، حكاه الفراء.
التاسع : حزن الطعام، وهو مأثور.
ويحتمل عاشراً : أنه حزن التباغض والتحاسد لأن أهل الجنة متواصلون لا يتباغضون ولا يتحاسدون.
وفي وقت قولهم لذلك قولان :
أحدهما : عند إعطاء كتبهم بأيمانهم لأنه أول بشارات السلامة، فيقولون عندها :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ﴾.
الثاني : بعد دخول الجنة، قاله الكلبي، وهو أشبه لاستقرار الجزاء والخلاص من أهوال القيامة فيقولون ذلك عند أمنهم شكراً.
قوله تعالى :﴿ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمَقَامَةِ مِن فَضْلِهِ ﴾ أي دار الإقامة وهي الجنة.
وفي الفرق بين المقامة بالضم والفتح وجهان :
أحدهما : أنها بالضم دار الإقامة، وبالفتح موضع الإقامة.
الثاني : أنها بالضم المجلس الذي يجتمع فيه للحديث.
﴿ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : تعب، قاله ابن عيسى.
الثاني : وجع، قاله قتادة.
﴿ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : أنه العناء، قاله أبو جعفر الطبري.
الثاني : أنه الإعياء، قاله قطرب وابن عيسى.
قوله تعالى :﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا ﴾ قال ابن جريج : وهم يستغيثون فيها ﴿ َرَبَّنَآ أخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ أي نؤمن بدل الكفر ونطيع بدل المعصية.
﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ﴾ فيه خمسة تأويلات
: أحدها : أنه البلوغ، قاله الحسن لأنه أول زمان التذكر.
الثاني : ثماني عشرة سنة.
الثالث : أربعون سنة، قاله ابن عباس ومسروق.
الرابع : ستون سنة، قاله علي بن أبي طالب مرفوعاً.
الخامس : سبعون سنة لأنه آخر زمان التذكر، وما بعده هرم. روى أبو هريرة.
قال : قال رسول الله ﷺ :« لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إلَى عَبدٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتّىَ بلَغَ سِتِيّنَ سَنَةً أَوْ سَبْعِينَ سَنَةً
»
. قوله تعالى :﴿ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ ﴾ فيه أربعة أقاويل
: أحدها : محمد ﷺ، قاله ابن زيد.
الثاني : الشيب، حكاه الفراء والطبري.
الثالث : الحمى.
الرابع : موت الأهل والأقارب.
ويحتمل خامساً : أنه كمال العقل.
﴿ فَذُوقُواْ ﴾ يحتمل وجهين
: أحدهما : حسرة الندم.
الثاني : عذاب جهنم.
قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْض ﴾ قال قتادة خلفاً بعد خلف قرناً بعد قرن، والخلف هو الثاني للمتقدم، ولذلك قيل لأبي بكر رضي الله عنه يا خليفة الله، فقال لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله ﷺ وأنا راضٍ بذلك. وقال بعد السلف إنما يستخلف من يغيب أو يموت، والله تعالى لا يغيب ولا يموت.
﴿ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ﴾ أي فعليه عقاب كفره
. قوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دَونِ اللَّهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : شركاءكم في الأموال التي جعلتم لهم قسطاً منها الأوثان.
الثاني : الذين أشركتموهم في العبادة.
﴿ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ ﴾ قاله السدي يعني في الأرض
. ﴿ أَمْ لَهُمْ شرْكٌ فِي السَّموَاتِ ﴾ حتى صاروا شركاء في خلقها
. ﴿ أَمْ ءَآتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنهُ ﴾ فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أم أنزلنا عليهم كتاباً بأن لله تعالى شركاء من الملائكة والأصنام فيهم مستمسكون به، وهذا قول ابن زياد.
الثاني : أم أنزلنا عليهم كتاباً بأن الله لا يعذبهم على كفرهم فهم واثقون به، وهو معنى قول الكلبي.
﴿ بَلْ إن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إلاَّ غُرُوراً ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : وعدوهم بأن الملائكة يشفعون.
الثاني : وعدوهم بأنهم ينصرون عليهم.
قوله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ هم قريش أقسموا قبل أن يبعث الله تعلى رسوله محمداً ﷺ، حين بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم، فلعنوا من كذب نبيه منهم، وحلفوا بالله جل اسمه يميناً.
﴿ لَئِن جَآءَهُم نَذِيرٌ ﴾ أي نبي
. ﴿ لَّيَكُوننَّ أَهْدَى مِنْ إحْدَى الأُمَمْ ﴾ يعني ممن كذب الرسل من أهل الكتاب
. ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ ﴾ يعني محمداً ﷺ
. ﴿ مَّا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُوراً ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : نفوراً عن الرسول.
الثاني : نفوراً عن الحق.
قوله تعالى :﴿ اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : استكباراً عن عبادة الله، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : استكباراً بمعاصي الله، وهذا قول متأخر.
﴿ وَمَكْرَ السَّيِّىءِ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : الشرك بالله، قاله يحيى.
الثاني : أنه المكر برسول الله ﷺ ودينه كما قال تعالى :﴿ وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] الآية.
﴿ وَلاَ يَحِيقُ الْمُكْرُ السَّيِّىءُ إلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : قاله الكلبي، يحيق بمعنى يحيط.
الثاني : قاله قطرب، يحيق بمعنى ينزل، وأنشد قول الشاعر :
وقد دفعوا المنية فاستقلت ذراعاً بعدما كادت تحيقُ
قال فعاد ذلك عليهم بقتلهم يوم بدر
. ﴿ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ ﴾ يعني سنة الله في الأولين، وفيها وجهان
: أحدهما : نزول العذاب بهم عند إصرارهم في التكذيب.
الثاني : لا تقبل منهم التوبة عند نزول العذاب.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ ﴾ يعني من الذنوب
. ﴿ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ﴾ قال يحيى بن سلام بحبس المطر عنهم وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني جميع الحيوان مما دب ودرج، قاله ابن مسعود، قال قتادة : وقد فعل ذلك زمان نوح عليه السلام.
الثاني : من الإنس والجن دون غيرهما لأنهما مكلفان بالعقل، قاله الكلبي.
الثالث : من الناس وحدهم، قاله ابن جريج.
﴿ وَلكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ فيه قولان
: أحدهما : الأجل المسمى الذي وعدهم في اللوح المحفوظ، قاله مقاتل.
الثاني : إلى يوم القيامة، قاله يحيى.
﴿ فَإذَا جَآءَ أَجَلُهُم ﴾ فيه قولان
: أحدهما : نزول العذاب.
الثاني : البعث في القيامة.
﴿ فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ﴾ يحتمل وجهين
: أحدهما : بصيراً بأجلهم.
الثاني : بصيراً بأعمالهم، والله أعلم.
Icon