ﰡ
[سورة فاطر]
فاتحة سورة الفاطر
لا يخفى على من تحقق بسعة قدرة الله واحاطة حضرة علمه وارادته وشمول عموم أوصافه وأسمائه الذاتية والفعلية ان مظاهر الحق ومجاليه حسب شئونه وتطوراته لا تكاد تنحصر وتحصى إذ لا يكتنه ذاته ووصفه واسمه فكيف تجلياته وتطوراته إذ لا يشغله شأن عن شأن بل كل آن في شأن لا كشأن وبعد ما كان شأنه سبحانه كذلك كيف يعد ويحصى مظاهره المترتبة على شئونه وتجلياته الغير المحصورة الا انه سبحانه قد حمد لنفسه باعتبار معظم مظاهره ومصنوعاته بالنسبة الى هؤلاء الارضيين تعليما لهم وإرشادا ليواظبوا على أداء حقوق كرمه بقدر وسعهم وطاقتهم فقال سبحانه حامدا لنفسه بعد ما تيمن باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي قد تجلى حسب أوصافه الكاملة وأسمائه العامة الشاملة الرَّحْمنِ لعموم مظاهره ومصنوعاته بافاضة رشحات نور الوجود عليهم بمقتضى الفضل والجود الرَّحِيمِ لخواص عباده باطلاعهم على منشأ الوجود ومنبع خزائن الفيض والجود
[الآيات]
الْحَمْدُ المحيط المشتمل على جميع الاثنية والمحامد الصادرة عن ألسنة عموم المظاهر والمجالى حالا ومقالا ثابت لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ اى الذي قد فطر وأبدع واظهر الاجرام العلوية من كتم العدم بعد ما شق وفلق ظلمته باشعة نور الوجود المنعكسة من الصفات السنى والأسماء الحسنى الإلهية وَالْأَرْضِ اى الأجسام السفلية ايضا كذلك ليتحقق مرتبتا الفاعل والقابل ويتكون منهما من الكوائن والفواسد ما شاء الله بحوله وقوته لا حول ولا قوة الا بالله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ اى الذي قد جعل وصير الملائكة الذين هم سدنة سدته العلية وخدمة عتبته السنية رُسُلًا وسائل ووسائط بينه سبحانه وبين خواص عباده من الأنبياء والرسل والأولياء المؤيدين من عند الله سبحانه بالرتب العلية والدرجات الرفيعة يبلغون إليهم من قبل الحق جميع ما تفضل بهم سبحانه من الوحى المتعلق بخير الدارين ونفع
ما يَفْتَحِ اللَّهُ المدبر لأحوال عباده لِلنَّاسِ الناسين حقوق تربيته وتدبيره سبحانه مِنْ رَحْمَةٍ فائضة لهم بمقتضى جوده تفضلا عليهم من النبوة والرسالة والولاية والكرامة والعلم والمعرفة والرشد والهداية وغير ذلك من الكمالات الفائضة من عنده سبحانه فَلا مُمْسِكَ لَها ولا مانع يمنعهم عنها وَما يُمْسِكْ ويمنع سبحانه من امر بمقتضى قهره وجلاله فَلا مُرْسِلَ لَهُ يرسل إليهم مِنْ بَعْدِهِ يعنى بعد منعه سبحانه وإمساكه وَكيف يسع لاحد ان يرسل ما يمنعه إذ هُوَ الْعَزِيزُ المقصور المنحصر في ذاته على العزة والغلبة الذاتية إذ لا عزيز دونه الْحَكِيمُ المستقل في المنع والإرسال ارادة واختيارا لا يسأل عن فعله ولا مبدل لقوله ولا معقب لحكمه ثم نادى سبحانه اهل النعمة وخاطبهم ليقبلوا عليه ويواظبوا على شكر نعمه فقال
يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الغفلة والنسيان اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ الفائضة عَلَيْكُمْ واشكروا له سبحانه أداء لحقوق كرمه وتفكروا في عموم آلائه ونعمائه وتذكروا هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ المتوحد بوجوب الوجود ودوام البقاء يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ يعنى من امتزاج العلويات بالسفليات واختلاط الفواعل والأسباب مع القوابل والمسببات المسخرة تحت قدرة الحكيم العليم لينكشف لكم ويتبين دونكم انه لا إِلهَ يعبد بالحق ويتوجه نحوه في الخطوب والملمات ويسند الحوادث الكائنة الى حكمه والنعم الفائضة الى فضله وجوده إِلَّا هُوَ الله الحق الحقيق بالاطاعة والرجوع إذ لا مرجع سواه ولا مقصد غيره فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ والى اين تنصرفون عن توحيده وكيف تردون عن بابه ايها الآفكون المجرمون وبعد ما قد بعثت يا أكمل الرسل لإرشاد اهل الحيرة والضلال وتبليغ الرسالة إليهم فلك ان تصبر على عموم المتاعب والمشاق الواردة في حملها
وَ
يا أَيُّهَا النَّاسُ المنهمكون في بحر الغفلة والنسيان التائهون في تيه الغرور والطغيان إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ الذي قد وعده في النشأة الاخرى لعموم عباده شقيهم وسعيدهم مطيعهم وكافرهم حَقٌّ ثابت لازم محقق إنجازه على الله بلا خلف فلكم ان تتزودوا لأخراكم وتهيئوا لأمر عقباكم كي تصلوا الى ما اعدّ لكم موليكم فَلا تَغُرَّنَّكُمُ ولا تعوقنكم الْحَياةُ الدُّنْيا ولذاتها الفانية وشهواتها الزائلة الغير الباقية عن الحيوة الابدية الازلية والبقاء السرمدي واللذات الروحانية وَبالجملة لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يعنى لا يلبسن عليكم الشيطان المكار الغرّار الغدار بان يوقع في قلوبكم ان رحمة الله واسعة وفضله كثير ولطفه كبير وان الله سبحانه مستغن عن طاعتكم وعبادتكم وان فعل الإيلام لا يتصور من الحكيم العلام الى غير ذلك من الحيل العائقة لكم عن التقوى وعن التزود للنشأة الاخرى وبالجملة
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ يا بنى آدم عَدُوٌّ قديم مستمر عداوته من زمان أبيكم فَاتَّخِذُوهُ اى الشيطان أنتم ايضا عَدُوًّا لأنفسكم عداوة مستمرة بحيث لا تصغوا اليه ولا تقبلوا منه قوله ولا تلتفتوا الى تغريره وتلبيسه أصلا فانه يواسيكم ويغريكم الى مشتهيات نفوسكم ويوقعكم في فتنة عظيمة كما أوقع أباكم في ما مضى فعليكم ان تجتنبوا عن غوائله حتى لا تكونوا من حزبه إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ على الغواية والضلال البتة ويغريهم الى انواع البغي والعناد لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ المسعرة المعدة لأصحاب الشقاوة الازلية مثل الشيطان وسائر أحزابه واتباعه. نجنا بفضلك من سخطك واعذنا بلطفك من تغرير عدونا وعدوك. ثم قال سبحانه كلاما جمليا شاملا لعموم العباد تذكيرا وعظة مشتملا على الوعد والوعيد لكلا الفريقين
الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا الحق واعرضوا عنه في النشأة الاولى عنادا ومكابرة لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ اى إحراقهم بنار القطيعة في النشأة الاخرى جزاء بما اقترفوا في النشأة الاولى إذ لا عذاب أشد من الإحراق وَالَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله وصدقوا رسله المؤيدين من عنده بالصحف والكتب المنزلة إليهم المبينة لسلوك طريق التوحيد والعرفان وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم في تلك الكتب والصحف لَهُمْ في النشأة الاخرى مَغْفِرَةٌ ستر وعفو لما صدر عنهم من الذنوب قبل الايمان والتصديق وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وجزاء عظيم على ما قد عملوا بعده بمقتضى الأمر الإلهي المبين في الكتب المنزلة من عنده سبحانه
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً يعنى أيزعم الزاعم ان من زين وحسن الشيطان عمله السوء القبيح في الواقع فخيله حسنا بحسب زعمه الفاسد واعتقاده الباطل كمن كان عمله حسنا في الواقع حقا في نفس الأمر واعتقده ايضا كذلك حتى يكونا متساويين في استحقاق الأجر الجزيل والجزاء الجميل كلا وحاشا ان يكونا سيان بل شتان ما بينهما فَإِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء المقتدر على ما يشاء يُضِلُّ عن صراط توحيده حسب قهره وجلاله مَنْ يَشاءُ من عصاة عباده وَيَهْدِي اليه مَنْ يَشاءُ منهم بمقتضى لطفه
وَكيف لا يعلم سبحانه ضمائر عباده واستعداداتهم مع انه اللَّهُ المدبر لأمور عباده المصلح لعموم أفعالهم وأحوالهم وحوائجهم هو الَّذِي أَرْسَلَ بلطفه وبمقتضى جوده الرِّياحَ العاصفة فَتُثِيرُ وتهيج تلك الرياح سَحاباً هامرا مركبا من الابخرة والادخنة المتصاعدة القابلة لان تتكون منها مياه بمجاورة الهوى البارد الرطب فَسُقْناهُ بعد ما قد تم تركيبه وتقاطر منه المطر عناية منا إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ يابس في غاية اليبس بحيث لا خضرة له أصلا فَأَحْيَيْنا بِهِ واخضررنا اى بالمطر الحاصل من السحاب الْأَرْضَ الجامدة اليابسة بَعْدَ مَوْتِها جفافها ويبسها كَذلِكَ اى مثل احيائنا الأرض اليابسة بعد يبسها وجمودها النُّشُورُ يعنى احياؤنا الأموات الجامدة ونشرهم من قبورهم بإعادة الروح المنفصل منهم الى أبدانهم التي قد تفتتت اجزاؤها بإرسال نفحات نسمات لطفنا ورحمتنا لتثير سحاب العناية الماطرة الفائضة قطرات ماء الحياة ورشحات الوجود المسوقة الى أراضي الأبدان اليابسة الجامدة بالموت الطبيعي انما احييناهم من الأجداث إظهارا لقدرتنا وتتميما لحكمتنا واستقلالنا في آثار تصرفاتنا في ملكنا وملكوتنا ولإظهار كمال تعززنا وكبريائنا في ذاتنا وبالجملة
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ التامة الكاملة التي لا يعقبها ذل أصلا فله ان يسترجع الى الله ويتوجه نحو توحيده فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ الذاتية والغلبة الوصفية والسلطنة الاصلية الكاملة والبسطة الشاملة جَمِيعاً ومن أراد ان يتعزز بعزة الله فله في أوائل سلوكه الى الله ان يتذكره سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا الى ان ينتهى تذكره الى التفكر الذي هو آخر العمل وصار حينئذ متفكرا في ذاته مستكشفا عن أستار جبروته سبحانه الى ان صار مستحضرا له مكاشفا إياه مشاهدا آثار أوصافه وأسمائه على صحائف الأكوان بلا مزاحمة الأعيان والأغيار وبالجملة فله ان يشتغل بالتذكر في أوائل الحال إِلَيْهِ لا الى غيره إذ لا غير معه في الوجود يَصْعَدُ ويرقى الْكَلِمُ الطَّيِّبُ من الأسماء الحسنى والأوصاف العظمى الناشئ من ألسنة المخلصين المتفكرين في آلاء الله ونعمائه وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ المقرون بالتبتل والإخلاص يَرْفَعُهُ يعنى يحمل ويرفع العمل المنبئ عن الإخلاص والكلم الطيب ويوصله الى درجات القرب من الله فمن كان إخلاصه في عمله أكمل كان درجات كلماته المرفوعة نحوه سبحانه ارفع وأعلى عند الله وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ مع الله المكرات السَّيِّئاتِ يعنى به سبحانه المكر السيئ الذي قد مكر به المشركون خذلهم الله مع حبيبه صلّى الله عليه وسلم لَهُمْ
وَكيف لا يعود ضرر مكركم إليكم ايها الماكرون المشركون إذ اللَّهُ القادر المقتدر الذي قد قصدتم المكر معه ومع من اختاره واصطفاه قد خَلَقَكُمْ وقدر وجودكم أولا مِنْ تُرابٍ جامد لا حس لها ولا شعور ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ مهينة مستحدثة من أجزاء النبات المتكون من الأرض ثُمَّ جَعَلَكُمْ وصيركم حيوانا ذا حس وحركة ارادية أَزْواجاً ذكورا وإناثا لتتوالدوا وتتكثروا وَبالجملة قد رباكم سبحانه على الوجه الأحسن الأصلح إذ هو سبحانه عليم بعموم حوائجكم وما يعنيكم وما لا يعنيكم وكذا بكل ما جرى ويجرى عليكم في اطواركم ونشآتكم السابقة واللاحقة بحيث ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ حمله إِلَّا بِعِلْمِهِ واذنه سبحانه وبمقتضى مشيته ومراده وهو معلوم له لا يغيب عن حظوره وَبعد ما وضع الحمل ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ قد بلغ عمره نهايته وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ حيث لم يبلغ ولم يصل إليها إِلَّا فِي كِتابٍ يعنى مثبت مسطور في حضرة العلم المحيط الإلهي ولوح القضاء المحفوظ إِنَّ ذلِكَ يعنى حفظه وثبته عَلَى اللَّهِ العليم الحكيم يَسِيرٌ وان كان عندكم عسيرا بل متعذرا ممتنعا إذ لا يسع لكم استحضار احوال آنكم ولحظتكم فكيف احوال يومكم وشهركم وحولكم فكيف احوال طفوليتكم وكونكم اجنة في بطون أمهاتكم ونطفة في أصلاب آبائكم ثم مثل سبحانه كلا الفريقين اى المؤمنين والكافرين بالبحرين العذب والمالح فقال
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ في النفع والفائدة الحاصلة منهما إذ هذا اى المؤمن المصدق كبحر الايمان والعرفان المترشح من بحر الوحدة الذاتية عَذْبٌ حلو في غاية الحلاوة فُراتٌ يكسر غليل أكباد المتعطشين في سراب الدنيا ببرد اليقين سائِغٌ شَرابُهُ سهل انحداره للمجبولين على فطرة التوحيد وَهذا اى الكافر المتوغل في بحر الغفلة والنسيان مِلْحٌ مالح مرّ لا مصلح يصلح من يذوق منه بل أُجاجٌ مرّ مفسد لمزاج من ذاق عنه فقد هلك هلاكا ابديا بحيث لا نجاة له وَالبحر الأجاج له نفع ولا نفع للكفر والضلال أصلا إذ مِنْ كُلٍّ من البحرين تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا مثل السمك وغيرها وَكذا تَسْتَخْرِجُونَ منهما حِلْيَةً أنواعا من الزينة التي تَلْبَسُونَها أنتم ايها المتنعمون المترفهون وَايضا تَرَى ايها الرائي الْفُلْكَ والجواري الجارية فِيهِ اى في كل من البحرين مَواخِرَ يفصل ويشق سطح الماء بجريها وما ذلك الشق والفصل الا لِتَبْتَغُوا وتطلبوا أنتم مِنْ مزيد فَضْلِهِ وطوله سبحانه مما تشتهي انفسكم بالبقلة فيها وَانما أباح لكم سبحانه منافع بره وبحره لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تشكروا نعمته وتزيدوا على انفسكم مزيد كرمه. ومن كمال فضل الله عليكم ورحمته انه
يُولِجُ اللَّيْلَ ويدخل ظلمته فِي نور النَّهارِ يطول أجزاء النهار بايلاج أجزاء الليل فيه في فصل الصيف تتميما لمصالح معايش عباده وَكذا في فصل الشتاء يُولِجُ النَّهارَ ويدخل أجزاء منه فِي اللَّيْلِ فيطوله باجزائه تسكينا للقوى النامية وتمكينا لها ليجددها للخدمة المفوضة إليها في وقتها وَبالجملة قد سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ تتميما وتكميلا لمصالح عباده بحيث كُلٌّ منهما يَجْرِي ويدور باذن الله والهامه لِأَجَلٍ مُسَمًّى هي من مبدء دوره الى منتهاه او الى
إِنْ تَدْعُوهُمْ وتلتجئوا نحوهم لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ إذ ليس لهم قابلية السماع والاستماع وَلَوْ سَمِعُوا يعنى لو فرض انهم سمعوا على سبيل فرض المحال مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ إذ ليس لهم القدرة والارادة والأوصاف الكاملة اللازمة للالوهية والربوبية وَهم مع عدم نفعهم إياكم ايها الجاهلون يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ وينكرون بِشِرْكِكُمْ واشراككم واتخاذكم إياهم شركاء مع الله وهم يتبرّءون عنكم وأنتم عنهم وَبالجملة لا يُنَبِّئُكَ ولا يخبرك ايها المخاطب النبيه الفطن ان كنت من ذوى الهداية والرشد بأحوال النشأة الاخرى وما سيجرى بينهم وبين شركائهم من براءة كلا الجانبين والملاعنة مِثْلُ خَبِيرٍ وهو الله العليم الحكيم الذي لا يعزب عن احاطة حضرة علمه المحيط مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء لا في الاولى ولا في الاخرى وعنده مفاتيح عموم الغيوب ومقاليد جميع الأمور لا يعلمها الا هو. ثم نادى سبحانه عموم عباده على سبيل الاستغناء عنهم وعن أعمالهم وعن محامدهم واثنيتهم الجارية على ألسنتهم فقال
يا أَيُّهَا النَّاسُ الناسون عهود الله ومواثيقه التي واثقتم بها مع ربكم مع انكم تنسون نعمه وتذهلون عن حقوق كرمه اعلموا انكم أَنْتُمُ الْفُقَراءُ المحتاجون بالذات المقصورون على الافتقار إِلَى اللَّهِ الذي أظهركم من كتم العدم ولم تكونوا شيأ مذكورا ورباكم بأنواع النعم سيما العقل المفاض الذي هو مذكركم عن مبدئكم ومنشئكم فلم لم تشكروا نعمة مبدعكم ومربيكم ايها الغافلون الجاهلون مع انكم دائما محتاجون اليه وَاللَّهُ المنزه بذاته عن شكر الشاكرين وطاعة المطيعين وكذا عن كفر الكافرين وعصيان العاصين هُوَ الْغَنِيُّ المنحصر على الغنى الذاتي بحيث لا احتياج له ولا استكمال أصلا إذ كمالاته سبحانه كلها بالفعل بحيث لا ترقب في كمالاته المترتبة على شئونه مطلقا الْحَمِيدُ المحمود في نفسه على الوجه الذي يليق بشأنه إذ لا يأتى عن السنة مصنوعاته الحمد الحقيق بذاته وانما أظهركم ايها الاظلال الهالكة بمقتضى لطفه وجماله لتواظبوا على عبادته وعرفانه كي تصلوا الى زلال توحيده مترقين صاعدين من حضيض الإمكان الى أوج الوجوب الذاتي علما وعينا وحقا فأنتم تتكاسلون وتتمايلون الى اهوية انفسكم البهيمية ومشتهيات قويكم البشرية اما تخافون وما تتأملون ايها المغرورون
إِنْ يَشَأْ سبحانه يُذْهِبْكُمْ عن قضاء البروز بالمرة الى خفاء الكمون وَيَأْتِ بدلكم بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وبمخلوق سواكم تتميما لحكمة العبادة والمعرفة
وَاعلموا ايها الهالكون في تيه الغفلة انه ما ذلِكَ التبديل
وَبعد ما قد عرفتم قدرة الله وسمعتم كمال استغنائه فلكل منكم الإتيان بمأموراته والاجتناب عن منهياته إذ لا تَزِرُ ولا تحمل نفس وازِرَةٌ آثمة عاصية وِزْرَ نفس عاصية أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ وتطلب نفس مُثْقَلَةٌ بالأوزار والمعاصي إِلى حِمْلِها اى حمل بعض من الأوزار المحمولة عليها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ يعنى لا يحمل احد شيأ من أوزاره وان رضى بحملها لا يحمل عليها بمقتضى العدل الإلهي وَلَوْ كانَ المدعو للحمل ذا قُرْبى اى من قرابة الداعي بل كل واحدة من النفوس يومئذ رهينة بما قد اقترفت من المعاصي ما حملت هي الا عليها وما حوسبت بها الا هي. ثم قال سبحانه مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم في شأن عباده إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يعنى ما يفيد انذاراتك التي قد تلوت أنت يا أكمل الرسل على هؤلاء الغفلة الغواة الا القوم الذين يخافون من الله ومن عذابه حال كونهم غائبين عنه سامعين له خاشعين من نزوله خائفين من حلوله بغتة وَمع ذلك قد أَقامُوا الصَّلاةَ المأمورة المقربة لهم الى جناب قدسه مخلصين فيها مطهرين نفوسهم عن الميل الى ما سوى الحق وَبالجملة مَنْ تَزَكَّى وطهر نفسه عن الميل الى البدع والأهواء فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ إذ نفع تزكيته عائد اليه مفيد له في أولاه وأخراه وَبعد تزكيته عن لوازم بشريته ومقتضيات بهيميته العائقة عن الوصول الى مبدأ فطرته إِلَى اللَّهِ المنزه عن مطلق النقائص المبرى عن جملة الرذائل الْمَصِيرُ اى المنقلب والمآب يعنى مرجع الكل اليه ومقصده دونه سبحانه ومثواه عنده
وَلكن ما يَسْتَوِي في القرب والرتبة بالنسبة اليه سبحانه الْأَعْمى الغافل الجناهل عن كيفية الرجوع والتوجه وَالْبَصِيرُ العارف العالم بأمارات الصعود والعروج
وَلَا الظُّلُماتُ المتراكمة المتكاثفة بعضها فوق بعض ألا وهي ظلمة الطبيعة وظلمة الهيولى وظلمة التعينات والهويات الممتزجة المتكاثفة بالامنية الامكانية بحيث تصير حجابا غليظا وغشاء كثيفا يعمى ابصار المجبولين على الأبصار والاستبصار والعبرة والاعتبار على مقتضى الشئون القهرية الجلالية وَلَا النُّورُ المتشعشع المتجلى من وحدة الذات حسب شئونه باللطفية الجمالية
وَلَا الظِّلُّ الإلهي المروح لأرواح ارباب المحبة والولاء بنفحات نسمات انواع الفتوحات والكرامات وَلَا الْحَرُورُ اى السموم المهلكة المنتشئة من فوحان الأماني الامكانية الممتزجة بيحموم الطبيعة المتصاعدة من ابخرة الاهوية الفاسدة ونيران الشهوات الملتهبة الموقدة لحطب اللذات الوهمية المورثة من القوى البهيمية
وَبالجملة ما يَسْتَوِي عند الله العليم الحكيم الْأَحْياءُ بحياة المعرفة والايمان واليقين والعرفان حياة ازلية ابدية سرمدية لا امر لها حتى تنقضي ولا حدوث لها حتى تنعدم وَلَا الْأَمْواتُ بموت الجهل والضلال وانواع الغفلة والنسيان الهالكين في زاوية الإمكان الخالدين في هاوية النيران بأنواع الخمول والخذلان وبالجملة إِنَّ اللَّهَ العليم الحليم المتقن في عموم أفعاله يُسْمِعُ ويهدى مَنْ يَشاءُ من عباده عناية لهم وامتنانا عليهم الى صراط توحيده وَما أَنْتَ يا أكمل الرسل بِمُسْمِعٍ هاد مرشد مَنْ فِي الْقُبُورِ يعنى انك لا تهدى من كان راسخا متمكنا في هاوية الجهل المركب وجحيم الإمكان وأجداث الغفلة والنسيان إذ هم مجبولون على الغواية الفطرية والجهالة الجبلية لا يتأتى لك هدايتهم وإرشادهم أصلا بل
إِنْ أَنْتَ اى ما أنت يا أكمل الرسل إِلَّا نَذِيرٌ لهم من قبلنا فلك ان تبلغ عموم ما
إِنَّا أَرْسَلْناكَ من كمال لطفنا معك ملتبسا بِالْحَقِّ الصدق المطابق للواقع داعيا لعموم عبادنا الى توحيدنا الذاتي بَشِيراً بما قد أعددنا لهم من المراتب العلية والمقامات السنية وَنَذِيراً عليهم ايضا بما أعددنا لهم من دركات النيران الموجبة لزفرات القلوب وحسرات الجنان وَارسالنا لك يا أكمل الرسل ليس ببدع منا بل إِنْ مِنْ أُمَّةٍ وما من فرقة وطائفة من الأمم السالفة إِلَّا قد خَلا ومضى فِيها نَذِيرٌ ينذرهم عما لا يعنيهم
وَبعد ما قد سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت إِنْ يُكَذِّبُوكَ أولئك الكفرة المصرون على الشرك والعناد وأنكروا بك وبكتابك لا تبال بهم وبانكارهم فَقَدْ كَذَّبَ الكفرة الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ اى من قبل هؤلاء المشركين رسلهم مع انه قد جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ المبعوثون إليهم مؤيدين مثلك بِالْبَيِّناتِ اى بالدلائل الواضحة المؤيدة بالمعجزات المثبتة لنبوتهم ورسالتهم كذا وَبِالزُّبُرِ والصحف المنزلة إليهم المشتملة على اصول اديانهم وبيان طريقهم وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ المظهر لسرائر التوحيد بحججه وبراهينه القاطعة وحكمه وأحكامه الساطعة آثارها مثل دلائل كتابك وشواهد معجزاتك
ثُمَّ بعد ما قد كذبوا رسلهم وأنكروا كتبهم التي قد جاءوا بها من لدنا بمقتضى وحينا وأصروا على كفرهم وشركهم قد أَخَذْتُ بحسب عزتي وقدرتي وبمقتضى جلالي وهيبتي الَّذِينَ كَفَرُوا واعرضوا عن الحق مستكبرين مصرين على الباطل مستمرين فيه فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكاري إليهم بالنسبة الى انكارهم الى وإهلاكي إياهم بحيث لم يبق منهم احد يخلفهم ويحيى اسمهم ورسمهم
أَلَمْ تَرَ ايها الرائي أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر بالقدرة الكاملة كيف أَنْزَلَ وأفاض مِنَ جانب السَّماءِ اى سماء الأسماء والصفات الذاتية ماءً محييا لأموات الأراضي المائتة الجامدة الباقية على صرافة العدم فَأَخْرَجْنا بِهِ اى بالماء المفاض المترشح من بحر الوجود بمقتضى الجود على ارض الطبيعة ثَمَراتٍ فواكه متنوعة من المعارف والحقائق والخواطف القدسية والواردات الغيبية المختطفة على قلوب ارباب المحبة والولاء حسب حالاتهم ومقاماتهم مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وكيفياتها علما وعينا وحقا وَمِنَ الْجِبالِ التي هي عبارة عن الأوتاد والأقطاب والبدلاء الوالهين بمطالعة ذات الله القابلين بفيضان مطلق الكرامات والفتوحات اللدنية الفائضة عليهم من مبدأ الفياض جُدَدٌ ذوو طرق وسبل موصلة الى كعبة الذات وعرفات الأسماء والصفات بِيضٌ مصفى في غاية الصفاء بلا خلط ومزج لها بألوان التعينات وإكدار الهويات أصلا وَبعضها حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها باختلاف مراتب قربهم وبعدهم عن المرتبة الاولى وَبعضها غَرابِيبُ سُودٌ متناه في السواد والظلمة بحيث لا يبقى فيها شائبة شبه بالمرتبة الاولى بل هي مباين لها مناقض إياها بحيث لا يبقى المناسبة بينهما أصلا. قيل يشير سبحانه بالجدد البيض الى طائفة الصوفية الذين هم قد صفوا بواطنهم عما سوى الحق من الأمور المنصبغة بصبغ الأكوان وألوان الإمكان وبالحمر المختلف الألوان الى طائفة المتكلمين الذين قد بحثوا عن ذات الله وصفاته متشبثين بالدلائل العقلية والنقلية الغير المؤيدة بالكشف والشهود المفيدة للظن والتخمين الا نادرا وبالغرابيب السود الى غلاة فرق الفقهاء وهم الذين قد كثفت حجبهم وغلظت اغشيتهم بحيث لم يبق في فضاء قلوبهم موضع يليق لقبول انعكاس اشعة أنوار الحق بل قد سودوها وصبغوها بلون الباطل المظلم
وَأخرجنا به ايضا اى بآثار تربية الماء واحيائها أموات الأراضي مِنَ النَّاسِ المنهمكين في الغفلة والنسيان وَالدَّوَابِّ المنسلخة من رتبة الإدراك والشعور المتعلق بالمبدأ والمعاد وَالْأَنْعامِ المشغوفة بتوفية اللذات الجسمانية والمشتهيات النفسانية مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ وكذا أجناسه وأنواعه واصنافه واشكاله وهيآته وبالجملة إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ ويخاف من بطشه مِنْ عِبادِهِ الذين قد ابدعهم الحق وأظهرهم من كتم العدم بافاضة رشاشات رشحات بحر وجوده الفائض عليهم بمقتضى جوده الْعُلَماءُ العرفاء بالله وبأوصافه الكاملة وأسمائه الحسنى الشاملة المتحققون بمرتبة التوحيد المنكشفون بسر سريان الوحدة الذاتية على عموم المظاهر إذ أخشى الناس من الله أعرفهم بشأنه ولذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم انى أخشاكم لله وأتقاكم له وكيف لا يخشى العارفون العالمون منه سبحانه إِنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء عَزِيزٌ غالب على انتقام من أراد انتقامه من عباده غَفُورٌ ذنوب من تاب الى الله ورجع نحوه عن ظهر القلب.
ثم أشار سبحانه الى خواص عباده ونبههم على ما هو المقبول منهم عنده سبحانه من أعمالهم وأحوالهم وحثهم عليه امتنانا لهم فقال
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ المنزل على رسوله وَأَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة المكتوبة لهم في الأوقات المحفوظة في كتاب الله وَأَنْفَقُوا طلبا لمرضاتنا مِمَّا رَزَقْناهُمْ وسقنا نحوهم من الرزق الصوري والمعنوي سِرًّا خفية من الناس اتقاء عن وصمة الرياء والسمعة ومن الفقراء المستحقين ايضا صونا لهم عن ان يتأذوا حين أخذهم وَعَلانِيَةً ايضا بعد ما اقتضى المحل إعلانه ولم يتأت منه الإخفاء يَرْجُونَ من الله بالافعال المذكورة تِجارَةً رابحة من الأحوال والمقامات لَنْ تَبُورَ اى لن تهلك ابدا ولن تفسد وتفنى أصلا وانما فعلوا ذلك
لِيُوَفِّيَهُمْ ويوفر عليهم سبحانه أُجُورَهُمْ التي يستحقون بأعمالهم بها وَيَزِيدَهُمْ عليها مِنْ فَضْلِهِ ما لا يعد ولا يحصى من الكرامات امتنانا عليهم وتفضلا وكيف لا يوفيهم ويزيدهم سبحانه إِنَّهُ عز شأنه وجل برهانه غَفُورٌ في ذاته لفرطات عباده يغفر لهم عظيم ذنوبهم شَكُورٌ يقبل منهم يسير طاعاتهم التي قد أتوا بها مخلصين فكيف عسيرها
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل مِنَ الْكِتابِ الجامع بما في الكتب السالفة الحاوي بمعظمات اصول الدين هُوَ الْحَقُّ المنزل من عندنا المثبت في حضرة علمنا مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وكذا ما تقدم عليه من الكتب والصحف المنزلة من عندنا المبينة لحكمنا وأحكامنا وبالجملة إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ مطلع بجميع أقوالهم وأحوالهم وأفعالهم الظاهرة والباطنة حتى ما جرى في استعداداتهم وقابلياتهم بَصِيرٌ بما جرى وسيجرى عليهم في أولاهم وأخراهم
ثُمَّ بعد ما قد اصطفيناك يا أكمل الرسل للرسالة العامة وأيدناك بانزال القرآن المعجز الموجز المشتمل على عموم فوائد الكتب السالفة مع زيادات خلا عنها الكل قد أَوْرَثْنَا الْكِتابَ المنزل إليك وابقيناه بعدك بين القوم الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا واخترناهم بإرسالك إليهم وبعثتك بينهم فجعلناهم في اقتباس نور الهداية والتوحيد من مشكاة النبوة والرسالة الختمية الخاتمية المحمدية الحاوية لمراتب عموم الرسل الذين مضوا قبله صلّى الله عليه وسلّم أصنافا ثلاثة فَمِنْهُمْ من كمال شوقهم الى مبدئهم الأصلي وغاية تحننهم نحو الفطرة الجبلية التي فطر الناس عليها في بدء الأمر ظالِمٌ لِنَفْسِهِ البشرية بحيث يمنع عنها جميع حظوظها النفسانية ومقتضيات قواها الجسمانية بحيث قد
جَنَّاتُ عَدْنٍ معدة لهم نزلا ومنزلا من عند الله يَدْخُلُونَها فرحين مسرورين آمنين فائزين شاهدين فيها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر يُحَلَّوْنَ فِيها تزينا وتفضلا مِنْ أَساوِرَ جزاء ما اقترفوا بأيديهم من الحسنات متخذة مِنْ ذَهَبٍ خالص في مقابلة إخلاصهم في أعمالهم وَيحلون ايضا لُؤْلُؤاً من انواع اللئالئ بدل ما يتقون ويحفظون أنفسهم من الميل إليها في نشأتهم الاولى وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ بدل ما يلبسون من الخشن في سبيل المجاهدة والسلوك نحو الحق في النشأة الاولى
وَبعد ما قد وصلوا الى مقام القرب بل اتصلوا بعد رفع انانياتهم وهوياتهم الباطلة عن البين الى ما اتصلوا ووصلوا قالُوا بألسنة استعدادتهم موافقة لقلوبهم بعد ما عدوا نعم الله الفائضة عليهم وأخذوا بأداء حقوقها الْحَمْدُ اى جنس الحمد والثناء الشامل لمحامد عموم الحامدين قولا وفعلا حالا ومقالا مختص لِلَّهِ المستحق بالاستحقاق الذاتي والوصفي الَّذِي أَذْهَبَ وأزال عَنَّا الْحَزَنَ المورث لنا من لوازم انانياتنا وتعيناتنا المورثة من إمكاننا إِنَّ رَبَّنا الذي ربانا بأنواع الكرامة ونجانا عن مضيق الإمكان المورث لانواع الخذلان والحرمان لَغَفُورٌ لذنوب انانياتنا شَكُورٌ يقبل عنا أعمالنا التي يقربنا الى فضاء وحدته حسب توفيقه وتأييده إذ هو القادر المقتدر
الَّذِي أَحَلَّنا وأقامنا حسب فضله ولطفه دارَ الْمُقامَةِ ومنزل الاقامة والخلود مِنْ فَضْلِهِ بنا ولطفه معنا بلا موجب منا يوجب لنا ولا يجب ايضا عليه سبحانه ايصالنا إليها آمنين مترفهين بحيث لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ تعب وعناء مثل ما قد مسنا في دار الابتلاء وَايضا لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ فترة وكلال تعقب الوصب والنصب قد نفى سبحانه اللازم بعد نفى الملزوم مبالغة وتأكيدا. ثم اردف سبحانه وعد المؤمنين بوعيد الكافرين على مقتضى سنته المستمرة في كتابه فقال
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عن كتبه ورسله وأنكروا بالبعث والحشر واعادة المعدوم لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ معدة مسعرة ليعذبوا بها في النشأة الاخرى تعذيبا شديدا بحيث لا يُقْضى ولا يحكم عَلَيْهِمْ بالموت من عنده سبحانه
وَهُمْ من شدة فزعهم وهولهم يَصْطَرِخُونَ فِيها ويستغيثون من الله صارخين متحسرين قائلين من كمال الضجرة والحسرة رَبَّنا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم فكفرنا بك وأعرضنا عنك وعن كتبك ورسلك أَخْرِجْنا واعدنا منها الى الدنيا كرة نَعْمَلْ صالِحاً مقبولا عندك مرضيا لديك غَيْرَ العمل الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فيها عنادا ومكابرة فالآن قد ظهر لنا الحق وبطلان ما قد كنا نعمل من الأعمال الفاسدة الغير المطابقة لكتبك ودين رسلك فلو أخرجتنا منها واعدتنا إليها لآمنا بك وبكتبك ورسلك وصدقنا بعموم ما جاءوا به من عندك وبعد ما قد تمادوا وتطاولوا في بث الشكوى قيل لهم من قبل الحق على سبيل التوبيخ والتقريع أَتطلبون المهلة منا وتستمهلون عنا وَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ونمهلكم ايها المسرفون المفرطون في الدنيا زمانا طويلا بحيث يسع فيه جميع ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ قد أعطيناكم وقتا وسيعا وزمانا طويلا يسع فيه انواع التذكر والتيقظ بالنسبة الى من كان بصدد التذكر والتنبه ألا وهو من وقت البلوغ الى ستين سنة غالبا وَأنتم لم تتذكروا في تلك المدة لا من تلقاء انفسكم مع انكم مجبولون على فطرة التذكر ولا من ارشاد مرشد مذكر وتنبيه منيه نبيه إذ قد جاءَكُمُ النَّذِيرُ المنذر لكم عن أمثال ما أنتم عليه الآن فأنكرتم له ولم تتذكروا ايضا بقوله حتى ظهر عليكم امارات الشيب المخبر للرحيل الى السفر الطويل ومع ذلك لم تتزودوا له فالآن قد انقضى وقت التذكر والتدبر ومضى أوان التدارك والتلافي وقد أخذتم بشؤم ما اقترفتم من الكفر والعصيان أتطلبون العود والخروج هيهات هيهات ان وقت التلافي والتفقد قد فات فَذُوقُوا العذاب المخلد بدل تلك اللذات الوهمية الفانية وبالجملة فَما لِلظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضيات الحدود الإلهية مِنْ نَصِيرٍ ينصرهم في رفع العذاب او يشفع لهم عند الله لتخفيفه عنهم بل هم خالدون مخلدون في النار ابد الآباد لا سبيل لنجاتهم أصلا. ربنا نجنا عن سخطك وغضبك وأحينا وأمتنا حسب ارادتك ورضاك وارزقنا بلطفك لقياك انك على ما قد نشاء قدير وبرجاء المؤمنين جدير وكيف يسع لاحد من المخلوقات ان يشفع عنده سبحانه لعصاة عباده او ينصرهم في الانقاذ عن عذابه بعد ما ثبت جرائمهم في حضرة علمه وتعلق ارادته بأخذهم على ظلمهم
إِنَّ اللَّهَ
المطلع على عموم ما لاح عليه برق الوجود عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ
اى بواطن ما في العلويات وَالْأَرْضِ
اى بواطن ما في السفليات ايضا وكيف يخفى عليه سبحانه ما في سرائر عباده وضمائرهم إِنَّهُ
سبحانه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
اى بعموم مكنونات الصدور ومضمراتها بل بجميع ما في استعداداتهم وقابلياتهم مطلقا لأنه المراقب لهم حسب حالاتهم وتطوراتهم فكيف تغفلون عنه سبحانه وتذهلون عن تذكره ايها الغافلون مع انه سبحانه
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ عن ذاته وأظهركم على صورته واعطاكم التصرف فِي الْأَرْضِ وقد سلطكم على عموم ما عليها وسخر لكم جميع ما فيها من المواليد والأركان تكريما لكم وتتميما
قُلْ يا أكمل الرسل للمشركين تقريعا لهم وتبكيتا بعد ما قد سجلنا عليهم المقت والطرد وانواع الخسران والخذلان أَرَأَيْتُمْ وابصرتم ايها المجبولون على الغواية والعناد شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ وتدّعون آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ مشاركين له سبحانه في الألوهية والربوبية انهم متصفون بالخلق والإيجاد أحيانا أَرُونِي وأخبروني ايها المكابرون المعاندون ماذا خَلَقُوا واوجدوا مِنَ الْأَرْضِ يعنى أى شيء خلق أولئك الهلكى في الأرض بالاستقلال والاختيار حتى يتصفوا بالالوهية أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ يعنى أروني ايضا هل لهم مشاركة مع الله فِي السَّماواتِ اى في خلقها وإبداعها أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً يعنى هل أنزلنا عليهم في حقهم وشأنهم كتابا دالا على مشاركتهم معنا في الألوهية والربوبية فَهُمْ اى أولئك المدعون المكابرون مطلعون فائزون عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ اى حجج ودلائل واضحة من الكتاب دالة على شركة أولئك التماثيل العاطلة مع العليم القدير الحكيم الخبير وظاهر انه ما انزل إليهم كتاب كذلك بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ وليس الباعث لهم في ادعاء الشرك أمثال هذه المذكورات من الدلائل العقلية او النقلية بل لا باعث لهم سوى الوعد الكاذب الذي يعد به بَعْضُهُمْ بَعْضاً وبالجملة ما يعد الظالمون الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية بعضهم بعضا إِلَّا غُرُوراً تلبيسا وتغريرا من الشرفاء بالأراذل منهم والرؤساء بالضعفاء وتزويرا من اصحاب الثروة على ذوى الأحلام السخيفة منهم حفظا لجاههم ورئاستهم وبالجملة الله المطلع لجميع حالات عباده يعلم تغريرهم وتلبيسهم ويمهلهم ولا يعاجل بالانتقام عنهم لكمال حلمه وكيف لا
إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء يُمْسِكُ ويضبط السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ويمنعهما من أَنْ تَزُولا بشرك المشركين وافترائهم على الله بإثبات الشركاء له سبحانه وبشؤم عصيانهم وفسوقهم فيما بينهم وَلَئِنْ زالَتا ولم يمسكهما سبحانه إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ يعنى ما أمسكهما عن الزوال احد من بعد الله سبحانه لكنه سبحانه قد أمسكهما ولم يعاجل بانتقام عصاة عباده إِنَّهُ سبحانه قد كانَ في ذاته حَلِيماً لا يعاجل بالانتقام عند ظهور الجرائم والآثام غَفُوراً لمن تاب عنها وأناب الى الله مخلصا ومن كمال حلم الله امهاله على المستوجبين بأنواع المقت والانتقام سيما بعد ما عهدوا مع الله ونقضوا عهودهم
وَذلك ان كفار قريش خذلهم الله قد أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يعنى اجتهدوا في توكيدها وبالغوافى تغليظها قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سمعوا ان من اهل الكتاب قوما قد كذبوا رسلهم وأنكروا عليهم ولم يقبلوا من الرسل قولهم ودعوتهم مقسمين بالله لَئِنْ جاءَهُمْ يعنى قريشا
اسْتِكْباراً يعنى قد طلبوا بالإعراض والانصراف ان يظهروا ويحدثوا كبرا وخيلاء فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ يعنى قد طلبوا ان يمكروا به المكر السيئ واصل التركيب هذا فعدل الى صورة المضاف الى السيئ اتساعا تأكيدا ومبالغة والمكر السيئ عبارة عن كل عمل قبيح قد صدر عنهم او الشرك او ارادة قتله صلّى الله عليه وسلّم قال صلّى الله عليه وسلّم لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا فان الله يقول وَلا يَحِيقُ اى لا يحل ولا يحيط الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ الا وهو الماكر فلحق وبال الشرك للمشركين وكذا وبال كل قبيح ومكروه عائد الى فاعله فَهَلْ يَنْظُرُونَ ما يمهلون وينتظرون أولئك المشركون يعنى اهل مكة خذلهم الله إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ يعنى سنة الله فيهم بان عذب سبحانه مكذبيهم ومصريهم على الإنكار والتكذيب وبعد ما قد ثبت في علم الله المحيط وكذا في لوح قضائه المحفوظ تعذيبهم فلا بد ان يقع حتما فَلَنْ تَجِدَ أنت يا أكمل الرسل لِسُنَّتِ اللَّهِ وهي نزول العذاب على المكذبين تَبْدِيلًا ان تعلق مشيته به وثبت في لوح قضائه إذ لا يبدل الحكم دونه سبحانه وَايضا لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا بان ينتقل عذاب المكذبين العاصين الى المصدقين المطيعين المنزهين عن العصيان والطغيان
أَينكرون سنة الله في الأمم الماضية الهالكة بتعذيب الله إياهم بسبب تكذيب الرسل والإنكار عليهم وَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا بنظرة العبرة والاستبصار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ القوم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مكذبين لرسلهم وَالحال انهم قد كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ اى من هؤلاء المكذبين لك يا أكمل الرسل قُوَّةً وقدرة واكثر عددا وعددا وشوكة وأموالا واولادا وَمع ذلك ما كانَ اللَّهُ المتعزز برداء العز والعلاء المطلع على عموم ما جرى في ملكه من الأشياء لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ بان يفوت عنه شيء حقير او يعزب عن حضرة علمه المحيط ذرة يسيرة لا فِي السَّماواتِ اى العلويات وَلا فِي الْأَرْضِ اى السفليات وكيف يفوت عن خبرته سبحانه شيء إِنَّهُ في ذاته قد كانَ عَلِيماً لا يعزب عن حضرة علمه المحيط شيء قَدِيراً على اظهار ما في خزانة علمه بلا فترة وفتور وقصور وفطور
وَمن كمال علم الله على عباده ونهاية رأفته ورحمته معهم هذا لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ المطلع بجميع ما جرى في ملكه من الجرائم الموجبة للاخذ والانتقام النَّاسَ الذين كلفوا من عنده بترك الجرائم والآثام المانعة من الوصول الى المبدأ الحقيقي بِما كَسَبُوا وبشؤم ما اقترفوا لأنفسهم من المعاصي التي قد منعوا عنها ما تَرَكَ سبحانه البتة عَلى ظَهْرِها اى على ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ متحركة من المكلفين عليها غير مأخوذة بجرم بل بجرائم كثيرة عظيمة إذ قلما ما يخلو انسان عن طغيان ونسيان وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ اى يؤخر سبحانه أخذهم ويمهلهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معين مقدر للاخذ والانتقام ألا وهو يوم القيامة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ الموعود المعين عند الله المعلوم له سبحانه