ﰡ
[الآيات]
الم ايها الإنسان الكامل اللائق لخلافتنا الملازم لاستكشاف اسرار ربوبيتنا وكيفية سريان هويتنا الذاتية السارية على صفحات المكونات المداوم للاستفادة والاستنباط من حضرة علمنا المحيط المنتزع عنها والمأخوذ منها
ذلِكَ الْكِتابُ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه البعيدة درجة كماله عن افهام البشر الجامع لجميع مراتب الأسماء والصفات في عالم الغيب والشهادة المنزل على مرتبتك الجامعة لجميع مراتب الكائنات من الأزل الى الأبد بحيث لا يشذ عنها مرتبة أصلا لا رَيْبَ فِيهِ بانه منزل من عندنا لفظا ومعنى اما لفظا فلعجز جماهير البلغاء ومشاهير الفصحاء عن معارضة اقصر آية منه مع وفور دواعيهم واما معنى فلاشتماله على جميع احوال الحقائق العينية والأسرار الغيبية مما كان وسيكون في النشأتين ولا يتيسر الاطلاع عليها والإتيان بها على هذا النمط البديع الا لمن هو علام الغيوب وانما أنزلناه إليك ايها اللائق لأمر الرسالة والنيابة لتهتدى به أنت الى بحر الحقيقة وتهدى به ايضا من تبعك من التابعين في بيداء الضلالة. إذ فيه هُدىً عظيم لِلْمُتَّقِينَ
الَّذِينَ يحفظون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه نفوسهم عن خبائث المعاصي المانعة عن الطهارة الحقيقية ومن الوصول الى المرتبة الاصلية التي هي الوحدة الذاتية والذين يُؤْمِنُونَ يوقنون ويذعنون باسراره ومعارفه بِالْغَيْبِ اى غيب الهوية الوحدانية التي هي ينبوع بحر الحقيقة وإليها منتهى الكل وبعد ذلك يتوجهون بمقتضيات أحكامها نحوها ويهتدون إليها بسببها وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ اى يديمون الميل بجميع الأعضاء والجوارح على وجه الخضوع والتذلل الى جنابه إذ هو المقصد للكل اجمالا وتفصيلا ولكل عضو وجارحة تذلل خاص وله طريق مخصوص يناسبه يرشدك الى تفاصيل الطرق فعله صلّى الله عليه وسلّم في صلاته على الوجه الذي وصل إلينا من الرواة المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين وَلما تنبهوا له بمتابعته ومالوا نحو جنابه سبحانه بالميل الحقيقي بالكلية لم يبق لهم ميل الى ما سواه من المزخرفات الفانية بل الى أنفسهم ايضا لذلك مِمَّا رَزَقْناهُمْ وسقنا إليهم ليكون مبقيا لحياتهم ومقوما لمزاجهم يُنْفِقُونَ في سبيلنا طلبا لمرضاتنا وهربا عما يشغلهم عنا فكيف
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ينقادون ويمتثلون بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الكتاب الجامع اسرار جميع ما انزل من الكتب السالفة على الوجه الأحسن الأبلغ ومن السنن والأخلاق الملهمة إليك وَمع ذلك يعتقدون صريحا ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين وَمع الايمان بجميع الكتب المنزلة وان كان كل كتاب متضمنا للايمان بالنشأة الآخرة بل هو المقصد الأقصى من جميعها بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أفردها بالذكر اهتماما بشأنها لكثرة المرتابين فيها
وبالجملة أُولئِكَ المؤمنون المعتقدون بجميع الكتب المنزلة على الرسل والموقنون المذعنون بالنشأة الآخرة خاصة عَلى هُدىً عظيم مِنْ رَبِّهِمْ الذي رباهم بأنواع اللطف والكرم الى ان يبلغوا الى هذه المرتبة التي هي الاهتداء الى جناب قدسه وَمع ذلك الجزاء العظيم والنفع الجسيم أُولئِكَ السعداء المقبولون هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون الى فضاء الوجوب الناجون عن مضائق الإمكان رزقنا الله النجاة عنه والوصول اليه
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية في كتابه هذا من تعقيب الوعد بالوعيد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اى ستروا الحق واعرضوا عنه وأظهروا الباطل وأصروا عليه عنادا واستكبارا لا ينفعهم إنذارك يا أكمل الرسل وعدمه بل سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بك وبكتابك
لأنهم قد خَتَمَ اللَّهُ المحيط بذواتهم واوصافهم وأفعالهم عَلى قُلُوبِهِمْ كيلا يكونوا من ارباب المكاشفة وَعَلى سَمْعِهِمْ كيلا يصيروا من اصحاب المجاهدة وَعَلى أَبْصارِهِمْ كيلا يكونوا من ارباب المشاهدة غِشاوَةٌ ستر عظيم وغطاء كثيف لا يمكنك رفعها بل وَلَهُمْ فيها عَذابٌ عَظِيمٌ هو عذاب الطرد والبعد عن ساحة عز الحضور في مقعد الصدق ولا عذاب أعظم منه وبالجملة أولئك الأشقياء المردودون هم الضالون في تيه الحرمان الباقون في ظلمة الإمكان بأنواع الخيبة والخذلان أعاذنا الله من ذلك
وَمِنَ النَّاسِ الذين نسوا العهود السابقة التي عهدوها مع الله في مبدأ الفطرة مَنْ يَقُولُ قولا لا يوافق اعتقادهم وهو انهم يقولون تزويرا وتلبيسا آمَنَّا واذعنا بِاللَّهِ الذي انزل علينا الكتاب والرسول وَقد أيقنا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الموعود به لجزاء الأعمال وَالحال انه ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ موقنين بهما في بواطنهم
بل ما غرضهم من هذا التلبيس والتزوير الا انهم يظنون انهم يُخادِعُونَ اللَّهَ المحيط بجميع أحوالهم وأفعالهم مخادعتهم مع آحاد الناس تعالى عن ذلك وَايضا يخادعون الموحدين الَّذِينَ آمَنُوا باحاطة الله بتوفيقه والهامه وانما خادعوا بما خادعوا وقالوا ما قالوا حفظا لدمائهم وأموالهم منهم وَهم لم يعلموا انهم ما يَخْدَعُونَ بهذا الخداع إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لان الله سبحانه ومن هو في حمايته من المؤمنين أجل وأعلى من ان ينخدعوا منهم فثبت انهم ما يخدعون بهذا الخداع الا أنفسهم وَما يَشْعُرُونَ بخداعهم وانخداعهم
لأنه كان فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ اى غشاوة وغطاء مختوم على قلوبهم لا ينكشف الا بكتاب الله المنزل على رسوله صلّى الله عليه وسلّم ولما لم يؤمنوا به ولم يلتفتوا اليه عن ظهر القلب بل كذبوا رسوله المنزل عليه كتابه فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً غشاوة وغطاء لأجل ذلك احكاما لختمه وتأكيدا لحكمه وَلَهُمْ مع ذلك في يوم الجزاء عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم وهو ابعادهم وطردهم عن ساحة عز الحضور كل ذلك جزاء بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم تغريرا وخداعا
وَمع ظهور حالهم وخداعهم عند الله وعند المؤمنين إِذا قِيلَ لَهُمْ امحاضا للنصح لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بتكذيب كتاب الله ورسوله المنزل عليه حتى لا تخرجوا من مرتبة الخلافة لان خلافة
أَلا تنبهوا ايها المؤمنون الموقنون بكتاب الله المصدقون لرسوله إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ المقصورون على الفساد لا يرجى منهم الصلاح والفلاح أصلا لكونهم مجبولون على الغواية الفطرية والفساد الجبلي وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ بمشاعرهم لغشاوة قلوبهم وأبصارهم واسماعهم
وَمن شدة قسوتهم ونهاية غفلتهم وسكرتهم إِذا قِيلَ لَهُمْ تلطفا ورفقا من جانب نبينا صلّى الله عليه وسلّم او من جانب أصحابه الكرام آمِنُوا بالله وبكتابه ورسوله كَما آمَنَ النَّاسُ الذين نسوا مزخرفات آبائهم بالإيمان بالله وبكتابه ورسوله وفازوا في الدارين فوزا عظيما بسبب ايمانهم وعرفانهم قالُوا في الجواب توبيخا وتقريعا أَنُؤْمِنُ ونصدق بهذا الرجل الحقير الساقط عن أعيننا وبهذه الأساطير الكاذبة ونترك دين آبائنا وأسلافنا كَما آمَنَ السُّفَهاءُ منا التاركون دين آبائهم بتغرير هذا المدعى المفترى أَلا تنبه ايها المبعوث لإهداء المضلين المجبولين على فطرة الهداية إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ المجبولون المقصورون على الغواية في بدأ الفطرة لا يمكنك هدايتهم أصلا لعدم قابليتهم واستعدادهم للايمان وَان ظنوا في زعمهم الفاسد بأنهم من العقلاء لكِنْ لا يَعْلَمُونَ ولا يعقلون أصلا لتركب جهلهم في جبلتهم فيسلب قابليتهم الفطرية
وَمن امارات نفاق هؤلاء الضالين المخادعين انهم إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وكتابه ورسوله قالُوا على طريق الاخبار عن الأمور المحققة ترويجا وتغريرا على المؤمنين آمَنَّا بالجملة الفعلية الماضوية بلا مبالغة وتأكيد لحكمهم وجزمهم بسفاهة المؤمنين واعتقادهم بان السفيه يقبل الاخبار بلا تأكيد لعدم تفطنه على انكار المتكلم فنزلوهم وان كان من حقهم الإنكار حقيقة منزلة خالي الذهن لسفاهتهم وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ اى بقوا خالين مع أصحابهم المستمرين على الكفر المجاهرين به بلا خداع ونفاق كالشيطان المصر على الضلال المستمر على الإضلال قالُوا على وجه المبالغة والتأكيد قلعا لما اعتقدوا من ظاهر حالهم ومقالهم موافقتهم مع المؤمنين سرا وجهرا وتحقيقا لمواخاتهم معهم حقيقة إِنَّا وان كنا في الظاهر مداهنون مع أولئك الحمقاء الجاهلين لمصلحة دنيوية متفقون مَعَكُمْ لفائدة دينية وقد أتوا بالجملة الاسمية المصدرة بان تحقيقا واهتماما واعلموا ان قولنا آمنا استهزاء منا إياهم لا تصديق لمدعاهم وبالجملة ما نحن مؤمنون لهم بمجرد هذا القول المزخرف بل إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ مستخفون بهم تجهيلا وتسفيها وتغريرا لهم بمجرد القول الكاذب الغير المطابق للاعتقاد والواقع وبالجملة هم من غاية انهماكهم في الغي والضلال مغرورون جازمون بأنهم مستهزؤن بل ما هم في الحقيقة الا مستهزؤن
إذ اللَّهُ المحيط بجميع مخايلهم الباطلة وافكارهم الفاسدة يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ في كل لحظة وطرفة آنا فآنا وَلم يشعرهم باستهزائه إياهم بل يَمُدُّهُمْ يمهلهم ويسوقهم فِي طُغْيانِهِمْ المتجاوز عن الحد في الضلالة بتلبيس الأمر على الله وعلى المؤمنين يَعْمَهُونَ يترددون اقداما واحجاما
وبالجملة أُولئِكَ البعداء الضالون عن طريق الهداية هم الَّذِينَ اشْتَرَوُا اى استبدلوا واختاروا الضَّلالَةَ المتقررة في نفوسهم بتقليد آبائهم بِالْهُدى المتفرع على الايمان بالله وبرسوله فَما رَبِحَتْ بهذا الاختيار والاستبدال تِجارَتُهُمْ اى ما يتجرون به وَما كانُوا مُهْتَدِينَ رابحين هادين بسبب هذا الاستبدال بل
مَثَلُهُمْ اى شانهم وحالهم بهذا الاستبدال والاتجار في يوم الجزاء كَمَثَلِ اى كحال الشخص الَّذِي طلب شيأ في الظلمة وترقبه ولم يهتد اليه ولذلك اسْتَوْقَدَ ناراً ليستضيء بها للفوز بمبتغاه فَلَمَّا استوقد وأَضاءَتْ النار ما حَوْلَهُ اى حول المستوقد وترقب حينئذ وجدان مطلوبه ذهب ضوءها وسكن لهبها فضل عن مطلوبه وخسر خسرانا عظيما كما قال سبحانه ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ اى اطفأ الله شعل نيران المنافقين وأنوار سرجهم التي هي كفرهم ونفاقهم على زعمهم الفاسد وأفسد اضاءتها لهم في يوم الجزاء حين ترقبهم بوجدان مطالبهم بحيث لم يهتدوا بها بل قد عذبهم الله بسببها وَتَرَكَهُمْ لأجلها فِي ظُلُماتٍ ظلمة الضلالة المتقررة الراسخة في نفوسهم بتقليد آبائهم المنتجة للكفر والنفاق وظلمة فقدان المطلوب المترتب عليها في زعمهم مع ترقبهم والظلمة العارضة لهم بعد استضاءتهم وبسبب هذه الظلمات المتراكمة لا يُبْصِرُونَ سبيل الهداية ولا يرجى نجاتهم في عذاب الله بل قد صاروا مخلدين فيه ابدا وكيف لا يخلدون وهم في أنفسهم حين دعوة الرسل إياهم
صُمٌّ لعدم اصغائهم لقول الحق على السنة الرسل صلوات الله عليهم بُكْمٌ لعدم قولهم بالإيمان المقارن بالتصديق عُمْيٌ لعدم التفاتهم الى الدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة مع قابليتهم الفطرية واستعدادهم الجبلي فَهُمْ في هذه الحالة لا يَرْجِعُونَ اى لا يطمعون الرجوع الى الهداية بتذكرهم الإفراط والتفريط الذي قد صدر عنهم في النشأة الاولى المستتبع لهذا العذاب
أَوْ كَصَيِّبٍ اى مثلهم في هذا الاستبدال والا تجار كسحاب نازل مِنَ جانب السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ متوالية متتالية بعضها فوق بعض شدة وضعفا بحسب تخلخل السحب وتكاثفها وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ مستحدث من الابخرة والادخنة المحتبسة فيه متى أبصرها الناس وسمعوا أصوات بروقه ورعوده يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ اى انا ملها فِي آذانِهِمْ خوفا مِنَ الصَّواعِقِ النازلة منها المهلكة غالبا لمن أصيب بها وانما يجعلون ويفعلون ذلك كذلك حَذَرَ الْمَوْتِ اى حذر ان يموتوا من اصابتها يعنى انهم لما شبهوا في نفوسهم دين الإسلام بالصيب المذكور في ابتداء ظهوره من غير ترقب واشتماله في زعمهم على ظلمات التكاليف المتفاوتة المتنوعة ورعود الوعيدات الهائلة وبروق الاحكام الخاطفة وجب عليهم الاحتراز عن غوائله بمقتضى أحلامهم السخيفة لذلك مالوا عنه واعرضوا وانصرفوا مرعوبين فجعلوا أصابع أحلامهم وعقولهم في آذان قبولهم خوفا من الصواعق النازلة المصيبة المفنية ذواتهم في ذات الله حذر الموت الإرادي وهم بسبب هذا الميل والاعراض يعتقدون بل يظنون انهم قد خلصوا عن الفناء في ذاته وَلم يعلموا انهم هم المستهلكون فيها المقصورون على الاضمحلال والهلاك إذ اللَّهُ المتجلى في ذاته لذاته مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ الساترين بذواتهم الباطلة حسب زعمهم الفاسد ذات الله سبحانه غافلين عن شروق تجلياته الجمالية والجلالية عليهم وعلى غيرهم دائما وكيف يغفلون عنها أولئك الغافلون الجاهلون
مع انها يَكادُ ويقرب الْبَرْقُ اى برق التجلي اللطفى من غاية قربه يَخْطَفُ ويعمى أَبْصارَهُمْ التي يرون بها أنفسهم ذوات متأصلات في الوجود بل كُلَّما أَضاءَ وأشرق لَهُمْ التجلي اللطفى وأمد عليهم بحسب البسط والجمال مَشَوْا وساروا فِيهِ باقين ببقائه وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ وقبض ظله عنهم بمقتضى التجلي القهرى حسب القبض والجلال قامُوا سكنوا وبقوا على ما هم عليه من العدم وَبالجملة لَوْ شاءَ اللَّهُ المنتقم الغيور
ثم نبه سبحانه على كيفية رجوعهم اليه سبحانه وتنبههم على تجلياته فناداهم إشفاقا لهم وامتنانا عليهم ليقبلوا منه ويتوجهوا نحوه فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ الذين نسوا حقوق الله بمتابعة آبائهم اعْبُدُوا على وجه التذلل والتضرع وانقادوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ أخرجكم وأظهركم من كتم العدم باشراق تجلياته اللطفية الى فضاء الوجود وَايضا اخرج آباءكم واسلافكم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وتحذرون من تجلياته القهرية هذا في بدء الوجود
وفي المعاش اعبدوا ربكم الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً مبسوطا لتستقروا عليها وتسترزقوا فيها وَالسَّماءَ بِناءً وسقفا مرفوعا لترتقى الابخرة والادخنة المتصاعدة إليها وتتراكم السحب الماطرة منها فيها بمقتضى الحكمة المتقنة البالغة وَبعد إيجاد هذه الأسباب أَنْزَلَ بمحض فيضه وفضله مِنَ جانب السَّماءِ ماءً منبتا لكم الزروع والأثمار المقومة لا مزجتكم فَأَخْرَجَ بِهِ سبحانه بعد ما انزل أنواعا مِنَ الثَّمَراتِ لتكون رِزْقاً لَكُمْ مقوما لأمزجتكم كي تعيشوا بها وتتمكنوا بسببها الى الطاعة والعبادة والتوجه نحو توحيده وتفريده سبحانه الذي هو غاية ايجادكم والحكمة في وجودكم وخلقكم ومعظم ما يترتب على بدئكم وظهوركم وإذا كان الأمر كذلك فَلا تَجْعَلُوا ايها المنعمون بأنواع النعم لِلَّهِ الواحد الأحد القهار لعموم الأغيار أَنْداداً اشباها وأمثالا في استحقاق العبادة والأقدار على الإيجاد والتكوين والترزيق والإنبات والأحياء وغير ذلك مما يتعلق بالالوهية وَأَنْتُمْ وصلتم الى مرتبة التوحيد الذاتي الذي هو المقصد الأقصى من ايجادكم ووجودكم تَعْلَمُونَ يقينا ان سلسلة الأسباب منتهية اليه سبحانه ولا موجد لها سواه بل لا موجود الا هو وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو والتحقق بهذا المقام والوصول الى هذا المرام لا يتيسر الا بعد التخلق بأخلاق الله والتخلق بأخلاقه سبحانه لا يحصل الا بمتابعة المتخلق الكامل وأكمل المتخلقين نبينا عليه السّلام وتخلقه صلّى الله عليه وسلّم انما يكون بالكتاب الجامع لجميع اخلاق الله المنزل على مرتبته الجامعة لجميع مراتب المظاهر
وَإِنْ كُنْتُمْ ايها المحجوبون بالأديان الباطلة فِي رَيْبٍ شك وارتياب مِمَّا نَزَّلْنا بمقتضى تربيتنا وإرشادنا عَلى عَبْدِنا الذي هو خليفتنا ومرآتنا ومظهر جميع اوصافنا وحامل وحينا من الكتاب المنزل عليه من لدنا المشتمل على جميع أخلاقنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ او جملة قصيرة مِنْ مِثْلِهِ في الاشتمال على الأخلاق الإلهية إذ من خواص هذا الكتاب ان مجموعه مشتمل على عموم الأخلاق الإلهية وكذا كل سورة منه ايضا مشتمل على ما اشتمل عليه المجموع اجمالا وتفصيلا تأمل تفز وَان عجزتم أنتم عن آياتنا ادْعُوا شُهَداءَكُمْ اى حضراءكم وظهراء كم التي أنتم تشهدون بالوهيتهم وترجعون في الخطوب والملمات نحوهم مِنْ دُونِ اللَّهِ المحيط بكم وبهم فأمروهم بإتيانها كذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ انهم آلهة غير الله سبحانه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولم تأتوا بها أنتم ايها الجاهلون المعاندون في حين التحدي والمعارضة وَلَنْ تَفْعَلُوا ايضا ابدا مع تلك التماثيل الباطلة العاطلة بعد ما رجعتم إليهم فلا تكابروا بعد ذلك ولا تنازعوا بل
وَبَشِّرِ المؤمنين الموقنين الموحدين الَّذِينَ آمَنُوا بالكتاب المنزل على عبدنا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم فيه واجتنبوا عن الفاسدات المنهية عنها فيه أَنَّ اى قد حق وثبت لَهُمْ بعد رفع القيود وإسقاط الإضافات جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق التي هي المعارف الكلية المخلصة عن جميع القيود المنافية لصرافة التوحيد الذاتي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف الجزئية المترتبة على تلك المعارف الكلية وهم كُلَّما رُزِقُوا وحظوا مِنْها اى من تلك المعارف الكلية اللدنية مِنْ ثَمَرَةٍ حاصلة من شجرة اليقين المغروسة في قلوبهم رِزْقاً حظا كاملا ونصيبا شاملا يخلصهم من ربقة الإمكان قالُوا متذكرين العهود السابقة هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ في الأعيان الثابتة او في عالم الأسماء والصفات او في اللوح المحفوظ او في عالم الأرواح الى غير ذلك من العبارات وَمن غاية التذاذهم ونهاية شوقهم واحتظاظهم بالثمرة المحظوظ بها أُتُوا بِهِ متماثلا مُتَشابِهاً متجددا بتجدد الأمثال وَلَهُمْ فِيها اى في تلك المراتب الكلية اللدنية أَزْواجٌ اعمال صالحة ونيات خالصة مُطَهَّرَةٌ عن شوائب العوائق المانعة عن الوصول الى دار القرار وَهُمْ فِيها اى تلك المراتب الجنانية خالِدُونَ دائمون بدوامه باقون ببقائه مستغرقون بمشاهدة لقائه سبحانه اللهم أذقنا بلطفك حلاوة التحقيق وبرد اليقين ثم لما طعن الكفار من غاية استكبارهم وعتوهم ونهاية استعظامهم في نفوسهم واعتقادهم الاصالة في الوجود والاستقلال بالآثار المترتبة عليه الصادرة منهم ظاهرا على هذا الكتاب والرسول المنزل عليه قائلين بان ما جئت به وسميته وحيا نازلا إليك من عند الله الحكيم لا يدل على انه كلام من يعتد به ويعتمد عليه فضلا عن ان يدل على انه كلام الحكيم المتصف بجميع أوصاف الكمال المستحق للعبادة لان ما مثل به فيه هي الأشياء الخسيسة الخبيثة والضعيفة الحقيرة مثل الكلب والحمار والذباب والنحل والنمل والعنكبوت وغيرها
والكلام المشتمل على أمثال هذه الأمثال لا يصدر من الكبير المتعال رد الله عليهم وروج امر نبيه صلوات الله عليه فقال إِنَّ اللَّهَ المستجمع لجميع الأوصاف والأسماء المقتضية لظواهر الكائنات المربية لمراتب الموجودات الظاهر على جميع المظاهر بلا تفاوت كظهور الشمس وإشراقها على جميع الآفاق وسريان الروح في جميع الأعضاء لا يَسْتَحْيِي استحياء من في فعله ضعف وله عاقبة وخيمة بل له سبحانه أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا بمظهر ما من المظاهر الغير المتفاوتة في المظهرية اذله سبحانه بذاته ومع جميع أوصافه وأسمائه ظهور في كل ذرة من ذرائر العالم بلا اضافة فلا تفاوت في المظاهر بالنسبة الى ظهوره سبحانه إذ ما ترى في خلق الرّحمن من تفاوت سواء كانت بَعُوضَةً مستحقرة عندكم او احقر منها فَما فَوْقَها في الحقارة والخساسة كالبق والذباب والنمل فلا يبالى الله في تمثيلها إذ عنده الكل على السواء فَأَمَّا الَّذِينَ صدقوا النبي صلّى الله عليه وسلّم الأمي حيث آمَنُوا بجميع ما جاء به من عند ربه فَيَعْلَمُونَ علما يقينيا أَنَّهُ اى التمثيل بهذه الأمثال الْحَقُّ الثابت الصادر مِنْ رَبِّهِمْ الذي رباهم بكشف الأمور على ما هي عليه وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا واعرضوا عن تصديق الحق ورسوله
فقال وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يخرجون عن طريق التوحيد باستحقار بعض المظاهر حيث يَنْقُضُونَ اى يفصمون ويقطعون عَهْدَ اللَّهِ الذي هو حبله الممدود من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات سيما مِنْ بَعْدِ توكيده بذكر مِيثاقِهِ الموثق به بقوله الست بربكم وقولهم بلى وَبعد ما نقضوا العهد الوثيق الذي من شانه ان لا ينقض لم يفزعوا ولم يتوجهوا الى جبره ووصله بل يَقْطَعُونَ التوجه عن امتثال ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ في كتابه المنزل أَنْ يُوصَلَ اى لان يوصل به ما نقض من عهده وَمع ذلك لا يقنعون ولا يقتصرون بنقض العهد وقطع الوصل المختصين بهم بل يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بأنواع الفسادات السارية في أقطارها من إفساد عقائد الضعفاء والبغض مع العرفاء الأمناء والمخاصمة مع الأنبياء والأولياء وبالجملة أُولئِكَ البعداء الضالون عن منهج التوحيد هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الكلى الذي لا خسران أعظم منه أعاذنا الله وعموم عباده من ذلك
ثم استفهم سبحانه مخاطبا لهم مستبعدا لما صدر عنهم من الكفر والطغيان على سبيل الكناية تحريكا لحمية الفطرة الاصلية التي فطر الناس عليها وتذكيرا لهم عن العهد الوثيق الذي عهدوا مع الله في مبدأ فطرتهم بقوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ وتشركون بِاللَّهِ الذي قدر وجودكم في علمه السابق وَكُنْتُمْ أَمْواتاً اعداما صرفا لا امتياز لها ولم تكونوا مذكورين وبعد ما قدر وجودكم أراد ايجادكم فَأَحْياكُمْ وأظهركم من كتم العدم بمد ظله عليكم وبعد ما أظهركم أنعم عليكم ورباكم في النشأة الاولى بأنواع النعم لتعرفوا المنعم وتشكروا له في مقابلتها ثُمَّ بعد ما رباكم بأنواع النعم يُمِيتُكُمْ ويخرجكم من النشأة الاولى إظهارا لقدرته وقهره ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ايضا في النشأة الاخرى لتجزى كل نفس بما كسبت في النشأة الاولى ثُمَّ بعد ما قطعتم المنازل وطويتم المراتب والمراحل إِلَيْهِ لا الى غيره من العكوس والاظلال تُرْجَعُونَ إذ لا وجود لغيره ليرجع اليه فثبت ان لا مبدأ سوى الله ولا منتهى ولا مرجع الا هو ولا رجوع الا اليه لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون
وبالجملة هُوَ الَّذِي جعلكم خلائف في الأرض وصوركم على صورته وصيركم مظاهر جميع أوصافه وأسمائه وكرمكم على عموم مظاهره ومصنوعاته حيث خَلَقَ اى قدر ودبر لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعنى قد سخر لكم جميع ما في العالم السفلى من آثار الأسماء والصفات تتميما لجسمانيتكم وحصة ناسوتكم لتتصرفوا فيها وتنتفعوا بها متى شئتم ثُمَّ لما تم تقدير ما في العالم السفلى ترقى عنه حيث اسْتَوى وتوجه إِلَى السَّماءِ اى الى تقدير ما في العالم العلوي تتميما لحصة لاهوتكم فَسَوَّاهُنَّ وعدلهن وهيأهن سَبْعَ
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ استحضر أنت يا أكمل الرسل وذكر لمن تبعك وقت قول ربك على طريق المشورة لِلْمَلائِكَةِ الذين هم مظاهر لطفه ومجالي جماله بحيث لا يظهر عليهم اثر من آثار الجلال والقهر الإلهي إِنِّي أريد ان اطالع ذاتى وألاحظ عموم أسمائي وأوصافي على التفصيل فانا جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ اى العالم السفلى خَلِيفَةً مرآة مجلوة عن صدأ الإمكان ورين التعلق لا تجلى فيها بجميع أوصافي وأسمائي ليصلح خليفتي هذا مفاسد عموم عبادي ويحسن أخلاقهم نيابة عنى وبعد ما شاور سبحانه معهم قالُوا في الجواب بمقتضى علمهم من العالم السفلى الذي هو عالم الكون والفساد ومحل الجدال والعناد ما نرى في العالم السفلى الا اللدد والفساد والخصومة المستمرة بين العباد والخروج من حدودك من سفك الدماء ونهب الأموال وسبى الذراري وبالجملة أَتَجْعَلُ يعنى أنسلم ونجوز بعد ما شاورت معنا يا ربنا ان تجعل وتخلق بمقتضى عزك وجلالك خليفة لك نائبا عنك فِيها اى في الأرض سيما مَنْ يُفْسِدُ فِيها بأنواع الفسادات مع انا ننزهك ونقدسك من مطلق الرذائل وَلا سيما من يَسْفِكُ الدِّماءَ المحرمة وبالجملة ليس من وسعنا هذا التسليم ولا نرى هذا الأمر لائقا بعظمتك وجلالك يا مولانا وَان شئت بمقتضى فضلك وجودك ان تصلح بين عبادك وتدبر أمورهم نَحْنُ اولى باصلاحهم وتدبيرهم وحفظ حدودك فيهم إذ نُسَبِّحُ ونشتغل دائما بِحَمْدِكَ وثنائك ونشكرك مستمرا على آلائك ونعمائك وَنُقَدِّسُ لَكَ اى ننزه ذاتك عن جميع ما يشعر بالعلل والأغراض فنحن اولى بخلافتك وبعد ما بسطوا ما بسطوا من الكلام قالَ سبحانه بلسان الجمع في جوابهم إرشادا لهم وامتنانا على آدم إِنِّي أَعْلَمُ من آدم الذي هو مظهر ذاتى وعموم أسمائي وصفاتي ما لا تَعْلَمُونَ أنتم اى من الجمعية التي أنتم لا تشعرون بها لعدم جامعيتكم
ثم لما علم سبحانه استحقاق آدم للنيابة ولياقته للخلافة وأجاب عن شبههم التي قد أوردوها حين المشورة اجمالا أشار الى تفصيل ما أجمل عليهم إرشادا لهم على مرتبة الجمع وتنبيها على جلالة قدر المظهر الجامع فقال وَعَلَّمَ الأسماء آدَمَ اى ذكر سبحانه وفصل له الْأَسْماءَ التي قد اودعها في ذاته وأظهره بمقتضاها وأوجد بها ايضا ما في العالم من الآثار البديعة كُلَّها بحيث لم يبق من الأوصاف المتقابلة والأسماء المتخالفة المتضادة شيء الا ما استأثر الله به في غيبه ثُمَّ عَرَضَهُمْ اى الأسماء المودعة باعتبار مسمياتها وآثارها الظاهرة في الآفاق عَلَى الْمَلائِكَةِ الذين هم يدعون الأولوية لأنفسهم في امر الخلافة فَقالَ سبحانه مخاطبا لهم على سبيل الإسكات والتبكيت أَنْبِئُونِي وأخبروني عن روية صائبة وبصيرة تامة بِأَسْماءِ هؤُلاءِ المسميات وبأسباب هؤلاء الآثار والمسببات إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الأولوية والأحقية للنيابة محقين في الاعتراض على آدم لا عن علم بحاله
قالُوا مستوحشين من هذه الكلمات الهائلة المهولة معتذرين متذللين خائفين
ثم اظهر عليهم الحكمة المقتضية لخلافة آدم صلوات الله عليه جبرا لانكسارهم ورفعا لحجابهم امتنانا عليهم حيث قالَ يا آدَمُ المستجمع لآثار عموم الأسماء المتخالفة أَنْبِئْهُمْ عن خبرة وحضور تام بِأَسْمائِهِمْ المركوزة في هويتك عن هؤلاء المسميات والمسببات المعروضة عليك المعبر عنها بالعالم ثم لما سمع آدم نداء ربه بادر الى الجواب بمقتضى الوحى والإلهام الإلهي وأجاب بما أجاب فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بتوفيق الله بِأَسْمائِهِمْ على التفصيل الذي أودعه الحق فيه لان المرآة تظهر وتحاكى جميع ما في الرائي ثم لما سمع الملائكة منه ما سمعوا من تفصيل الأسماء المعروضة عليه استحيوا من انبائه وندموا عما صدر عنهم في حقه وزادوا الاستحياء من الله وتوجهوا نحوه ساكتين لائمين أنفسهم حتى لطف سبحانه معهم وأدركتهم العناية الشاملة وشملتهم الرحمة الواسعة حيث تكلم سبحانه معهم وخاطبهم مذكرا لهم عما جرى بينه سبحانه وبينهم مستفهما لهم على وجه التأديب لئلا يصدر عنهم أمثاله ولئلا يغتروا بعلومهم ومعاملاتهم ولا يستحقروا مظاهر الحق مطلقا ولا ينظروا إليها بنظر الاهانة والاستحقار بل بنظر العبرة والاعتبار ولا يتوهموا إخفاء شيء من الله المحيط لعموم الأشياء احاطة حضور وشهود حيث قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ أولا اجمالا إِنِّي أَعْلَمُ منكم غَيْبَ السَّماواتِ اى عالم الأسباب التي قد ادعيتم العلم بتفاصيل أحوالها وَغيب الْأَرْضِ اى عالم المسببات التي قلتم فيها كلاما على التخمين والحسبان وبحسب الظاهر وَأَعْلَمُ ايضا ما تُبْدُونَ وتظهرون في حق آدم باللسان من الاستحقار والاستكسار وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ في سرائركم وضمائركم من المراقبة له وافراط المحبة معى ودعوى الاستقلال فيها والانحصار عليها. ثم لما اعترفوا بذنوبهم وأقروا قصورهم وتضرعوا نحو الحق تائبين نادمين عن اجترائهم ومجادلتهم معه سبحانه مستحيين عنه سبحانه وعمن استخلفه عن نفسه يعنى آدم بنسبة انواع المكاره اليه خائبين عما نووا في نفوسهم من الأولوية في الاستحقاق تقبل الله سبحانه منهم عذرهم وأسقط حق آدم عنهم ثم أمرهم بسجوده استحلالا منه وتكريما له وإيفاء لحقه ليسقط عن ذممهم
فقال وَإِذْ قُلْنا اى اذكر يا أكمل الرسل وقت قولنا لِلْمَلائِكَةِ النادمين عن الجرأة التي صدرت عنهم في حق آدم اسْجُدُوا تذللوا وتواضعوا تكريما لِآدَمَ وامتثالا لأمرنا فَسَجَدُوا له مجتمعين متذللين واضعين جباههم على تراب المذلة والندامة إِلَّا إِبْلِيسَ منهم قد أَبى اى امتنع عن السجود وَاسْتَكْبَرَ عن الانقياد له وأصر على ما هو عليه من العناد والجحود وَكانَ بعدم امتثال الأمر الوجوبي مِنَ الْكافِرِينَ المطرودين عن ساحة الحضور والسر في استثنائه سبحانه إبليس عن هذا الحكم وعدم توفيقه واقداره إياه على السجود ان يظهر سر الظهور والإظهار والربوبية والعبودية والايمان والكفر والجنة والنار وجميع المعتقدات الشرعية والتكاليف الإلهية إذ بسببه يظهر الاثنينية ويتعدد الطرق وتتفاوت الآراء والمقالات وتتبين المخالفات
وَقُلْنا له على سبيل الشفقة والنصيحة يا آدَمُ المستخلف المختار لازم العبودية ولا تغتر بالخلافة وداوم على التوجه ولا تغفل عن المعاتبة واعلم ان العبودية انما تحصل بامتثال أوامرنا واجتناب نواهينا وبعد قبولك الامتثال والاجتناب اسْكُنْ أَنْتَ ايها الخليفة اصالة وَزَوْجُكَ تبعا لك الْجَنَّةَ التي هي دار السرور ومنزل الفراغ والحضور ومقام الانس مع الرب الغفور وبعد سكونكما فيها وَكُلا مِنْها اى من جميع محظوظاتها ومستلذاتها الروحانية والجسمانية رَغَداً واسعا كثيرا بلا مقدار وعدد حَيْثُ شِئْتُما بلا مزاحمة ضد ومنازعة احد وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ المخصوصة المعينة حتى لا تخرجا من ربقة العبودية وان تخرجا فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية بارتكاب المنهي عنه ثم لما استشعر إبليس بالتوصية والمعاهدة المذكورة المنبئة عن كمال العناية الإلهية بالنسبة الى آدم وبنيه بادر الى دفعها ونقضها فوسوس لهما بان القى في قلبهما الدغدغة في تخصيص هذه الشجرة المعينة المعنية بالنهى وبالغ في وسوستهما الى حيث انساهما الوصية الإلهية والمعاهدة المذكورة في العبودية
وبالجملة فَأَزَلَّهُمَا والجأهما الى ارتكاب الزلة بالوسوسة الشَّيْطانُ المضل المغوى فتناولا عَنْها اى عن الشجرة المنهية فَأَخْرَجَهُما الحق بسبب تلك التناول مِمَّا كانا فِيهِ اى من الحضور الذي كانا فيه في دار السرور وَبعد ظهور زلتهما قُلْنَا لهما ولناصحهما اهْبِطُوا من دار السرور الى دار الحزن والغرور ومن دار الكرامة الى دار الابتلاء والملامة وعيشوا فيها مع انواع النزاع والخصومة إذ فيها بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ينتهز الفرصة لمقته وَلَكُمْ بعد هبوطكم فِي الْأَرْضِ التي هي محل التفرقة وموطن الفتن والمحن مُسْتَقَرٌّ موضع قرار وَمَتاعٌ اى استمتاع بمزخرفاتها ومستلذاتها الغير القارة التي ألهاكم الشيطان بها عن النعيم الدائم إِلى حِينٍ اى الى قيام الساعة التي هي الطَّامَّةُ الْكُبْرى.
ثم لما لم يكن زلة آدم من نفسه وبمقتضى طبعه بل بتغرير عدوه وبمقتضى اغرائه ووسوسته اشفق سبحانه عليه وتلطف معه فَتَلَقَّى واستفاد آدَمُ المذنب العاصي مِنْ رَبِّهِ المستخلف له المستقبل عليه كَلِماتٍ مشتملات على الرجوع والانابة عما صدر عنه من الزلة وهي قوله بإلقاء الله إياه ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وبعد ما تلقى ما تلقى من الكلمات التامات واستغفر بها ورجع عن إتيان أمثال ما صدر فَتابَ الله عَلَيْهِ ترحما وقبل توبته تفضلا وكيف لا إِنَّهُ سبحانه
ثم لما لقناه الكلمات التي تاب بها وقبلنا عنه توبته أخرجناه من اليأس والقنوط واطمعناه الرجوع الى الجنة بان قُلْنَا له ولذريته المتفرعة عليه منبهين عليهم طريق الرجوع والانابة اهْبِطُوا والزموا مكان الهبوط واستقروا عليها حال كونكم خارجين مِنْها جَمِيعاً اى من الجنة وترقبوا دخولها باذن منا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ايها المترقبون مِنِّي هُدىً من وحى والهام فهو علامة إذني ودليل رضائى برجوعكم فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ ورجع بمقتضاه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين المراجعة الى المقام الأصلي والموطن الحقيقي وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بعد رجوعهم اليه بل كما بدأكم تعودون
وَالَّذِينَ لم يترقبوا الرجوع ونسوا ما هم عليه في الجنة ولم يلتفتوا الى الهدى المؤتى به بل كَفَرُوا به وأنكروا به وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وبرسلنا الذين أتوا بها وكذا بعموم دلائلنا الدالة على صدقهم من المعجزات الظاهرة والآيات الباهرة أُولئِكَ الهابطون الناسون الموطن الأصلي والمقام الحقيقي المستبدلون الجنة الباقية بعرض هذا الأدنى الفاني الكافرون بطريق الحق المكذبون بالرسل الهادين هم أَصْحابُ النَّارِ التي هي محل البعد والخذلان ومنزل الطرد والحرمان هُمْ فِيها خالِدُونَ بسبب نسيانهم وتكذيبهم الى ما شاء الله ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب
ثم لما بين سبحانه طريق الهداية والضلال ونبه على جزاء كل منهما اجمالا أشار الى تفصيله وتوضيحه بإيراد قصص القرون الماضية والأمم السالفة ليعتبر المؤمنون منها ومن جملتها قصة ندائه سبحانه بنى إسرائيل يعنى أولاد يعقوب مخاطبا لهم آمرا بتذكرهم بالنعم التي أنعمها عليهم ليكونوا من الشاكرين لنعمه الموقنين بعهود كرمه بقوله يا بَنِي إِسْرائِيلَ المتنعمين بالنعم الجليلة اذْكُرُوا واشكروا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وعلى من استخلفكم من اسلافكم وَأَوْفُوا بعد اعداد النعم وتعديدها على انفسكم بِعَهْدِي الذي قد عهدتم معى من متابعة الهدى النازل منى على السنة انبيائى ورسلي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ايضا بارجاعكم وايصالكم الى مقامكم الأصلي الذي كنتم فيها قبل هبوطكم الى دار المحن وبعد رجوعكم إليها في النشأة الاخرى لا يبقى لكم خوف من الأغيار بل لا بد لكم حينئذ ان ترهبوا من سطوة سلطتى وقهري حسب جلالي وَإِيَّايَ عند عروض تلك الرهبة فَارْهَبُونِ وارجعوا الى وتحننوا نحوي لأؤانس معكم وازيل رهبتكم عنكم
وَاعلموا ان علامة وفائكم بعهدي هي الايمان فأذعنوا وآمِنُوا على وجه الإخلاص والإيقان بِما أَنْزَلْتُ بمقتضى فضلي وطولى على عموم رسلي سيما بالقرآن المنزل على الحضرة الختمية الخاتمية المؤيد بالدلائل القاطعة والحجج الساطعة والمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة مع كونه مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين مشتملا على عموم ما في الكتب السالفة من الاحكام والقصص والمواعظ والحقائق مع لطائف أخر قد خلت عنها جميعها وَبعد ظهور المنزل به وادعاء من انزل عليه الرسالة والهدى لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ اى لا تكونوا مبادرين على الكفر بالهادي وما هدى به بل كونوا أول من آمن وصدق بعموم ما جاء به من عند ربه وانتهزوا الفرصة للايمان ولا تغفلوا عنه وَبعد نزوله وظهوره لا تَشْتَرُوا ولا تستبدلوا بِآياتِي المنزلة على رسلي ثَمَناً قَلِيلًا من المزخرفات الفانية وَان عسر عليكم ترك هذا الاستبدال بميل نفوسكم اليه بالطبع إِيَّايَ فَاتَّقُونِ عند عروض ذلك لأحفظكم
وَبالجملة لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ الظاهر الثابت بِالْباطِلِ الموهوم المزخرف للضعفاء الذين لا تمييز لهم وَلا تَكْتُمُوا الْحَقَّ ايضا في نفوسكم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حقيقته عقلا وسمعا
وَبعد ما آمنتم بالله وكتبه المنزلة على رسله واجتنبتم عما نهيتم عنه أَقِيمُوا الصَّلاةَ اى داوموا على الميل والتقرب الى جنابه والتوجه نحو بابه بجميع الأعضاء والجوارح قاصدين فيه تخلية الظاهر والباطن عن الشواغل النفسية والعوائق البدنية المانعة من الميل الحقيقي وَآتُوا الزَّكاةَ المطهرة لنفوسكم عن العلائق الخارجة والعوارض اللاحقة المثمرة لانواع الأمراض في الباطن من البخل والحسد والحقد وغير ذلك وَان قصدتم التقرب والتوجه على الوجه الأتم الأكمل ارْكَعُوا اى تذللوا وتضرعوا نحوه سبحانه مَعَ الرَّاكِعِينَ الذين قد خرجوا عن هوياتهم الباطلة بالموت الإرادي ووصلوا الى ما وصلوا بل اتصلوا لا مع الذين يراؤن الناس ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم
لذلك خاطبهم سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع فقال أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ ايها المراؤون المدعون لليقين والعرفان على سبيل النصح والتذكير بِالْبِرِّ المقرب الى الله وَتَنْسَوْنَ أنتم أَنْفُسَكُمْ من امتثال ما قلتم وَالحال انه أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ المشتمل على الأوامر والنواهي وتدعون علمه فحقكم ان تمتثلوا به أولا أَتلتزمون تذكير الغير وأنتم منهمكون في الغفلة والضلال فَلا تَعْقِلُونَ ولا تفهمون قبح صنيعكم هذا ايها المسرفون المفرطون
وَبعد ما أمرتم بعد الايمان بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المطهرتين لنفوسكم ظاهرا وباطنا فعليكم الإتيان والامتثال بالمأمور على الوجه الأتم الأكمل ولا يتيسر لكم هذا على الوجه الذي ذكر الا بادامة الاستقامة والاستعانة والمظاهرة من الخصلتين الكريمتين لذلك أمركم سبحانه باستعانتهما بقوله اسْتَعِينُوا في التوجه والتقرب الى الله بِالصَّبْرِ عن المستلذات الجسمانية والمشتهيات النفسانية وَالصَّلاةِ الميل الى الله والاعراض عن ما سوى الله ولا تستحقروا امر هذه الاستعانة ولا تخففوها وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ شاقة ثقيلة على كل احد إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الخاضعين الموقنين
الَّذِينَ يرفعون رين الغيرية عن العين ويسقطون شين الاثنينية عن البين بل يَظُنُّونَ ويعتقدون أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ في هذه النشأة لأنهم يعبدون الله كأنهم يرونه وَهم يعلمون يقينا أَنَّهُمْ إِلَيْهِ سبحانه لا الى غيره من الوسائل والأسباب راجِعُونَ عائدون صائرون في النشأة الاخرى اللهم اجعلنا منهم ومن متابعيهم ومحبيهم
ثم لما من سبحانه عليهم بالنعم التي يظهر آثارها وثمراتها في العالم الروحاني بحسب النشأة الاخرى من عليهم ايضا بالنعم التي ظهرت آثارها عليهم في العالم الجسماني بحسب النشأة الاولى فناداهم ايضا مبتدئا مذكرا بقوله يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا واشكروا ولا تكفروا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وعلى اسلافكم وَاعلموا أَنِّي بمقتضى كمال حولي وقوتي قد فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ من أبناء نوعكم بفضائل قد اغنت شهرتها عن الإحصاء والتعديد وبعد ما ذكرتم النعمة وعرفتم المنعم المفضل لا تغتروا بفضلي ولطفي بل احذروا عن قهري وبطشى
وَاتَّقُوا يَوْماً واى يوم يوما تحشرون الى للجزاء والحساب وفي ذلك اليوم لا تَجْزِي ولا تسقط نَفْسٌ مطيعة كانت او عاصية عَنْ نَفْسٍ عاصية شَيْئاً من جزائها وعذابها وَلا يُقْبَلُ ايضا فيه مِنْها اى من النفس العاصية شَفاعَةٌ من شافع ولا صديق حميم وَكذا لا يُؤْخَذُ مِنْها فيه كفيل عَدْلٌ لتمهل مدة وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فيه
وبعد ما أمرهم سبحانه بتذكر النعم اجمالا وحذرهم عن جزاء الكفران أشار الى تعداد النعم العظام التي هم مختصون بها امتنانا عليهم فقال وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ اى اذكروا وقت انجائنا إياكم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ الذين يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ اى يكلمونكم ويفضحونكم بسوء العذاب الذي لا عذاب أسوأ منه وهو انهم يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ لئلا يبقى ذكركم في الدنيا إذ بالابن يذكر الأب ويحيى اسمه لأنه سره وَاشنع من ذلك انهم يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وبناتكم باستبقائهن ليلحق العار عليكم بتزويجهم اياهن بلا نكاح ولا عار اشنع من ذلك ولذلك عد موت البنات من المكرمات وَفِي ذلِكُمْ يعنى واعلموا ان في هذه المحن المشار إليها بَلاءٌ واختبار لكم مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ليجزيكم بنعم هي أعظم منها وهي انجاءكم عنهم واستيلاءكم عليهم
وَبعد ما ابتليناكم باحتمال الشدائد والمتاعب ومقاساة الأحزان أردنا انجاءكم من عذابهم وإهلاكهم بالمرة فامرناكم بالسير والفرار من العدو ففررتم ليلا فأصبحتم مصادفين البحر والعدو ايضا قد صادفكم اذكروا إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ اى وقت تفريقنا بالفرق الكثيرة الْبَحْرَ المتصل في نفسه ليسهل عبوركم منه ونجاتكم منهم وبالجملة فَأَنْجَيْناكُمْ من أيديهم وعبرناكم سالمين وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ المقتحمين بالفور خلفكم باجتماع تلك الفرق واتصال البحر على ما هو عليه في نفسه وَأَنْتُمْ حينئذ تَنْظُرُونَ الافتراق والاجتماع المتعاقب وكيف لا تذكرون هذه النعم الجليلة ولا تشكرون لها
وَبعد ما قد أنجيناكم من البحر سالمين وأغرقنا عدوكم بالمرة واورثناكم ارضهم وديارهم وأموالهم اذكروا وقت إِذْ واعَدْنا مُوسى المتحير في ضبط المملكة في أول استيلائه حيث قلنا له على سبيل التوصية والمعاهدة ان أخلصت التوجه والميل إلينا مدة أَرْبَعِينَ لَيْلَةً متوالية خصصها سبحانه لخلوها عن الشواغل المانعة من الإخلاص قد أنزلنا عليك تأييدا لأمرك كتابا جامعا لمرتبتى الايمان والعمل حاويا على جميع التدابير والحكم المتعلقة بالظاهر والباطن ثُمَّ لما اشتغل موسى بإنجاز الوعد وإيفاء العهد فذهب الى الميقات مخلصا قد اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ الذي صوغتهم أنتم بأيديكم من حليكم بتعليم السامري المضل إياكم بسبب صدور الخوار الذي ظهر منه ابتلاء لكم وفتنة الها من دون الله وادعيتم شركته معه سبحانه مكابرة بل قد حصرتم الألوهية له بقولكم هذا إلهكم واله موسى وبالجملة قد أخلفتم الوعد والعهد جميعا مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد ذهاب موسى الى الميقات وقبل رجوعه منه وَأَنْتُمْ بسبب خلف الموعود والاتخاذ المذكور ظالِمُونَ خارجون عن ربقة الايمان والتوحيد العياذ بالله من ذلك
ثُمَّ لما تبتم ورجعتهم نحونا نادمين عَفَوْنا عَنْكُمْ وأزلنا عن ذممكم جزاء ذلك الظلم الذي ظلمتم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الاجتراء لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تواظبوا على أداء شكر نعمه بالعفو الذي هو من آثار اللطف والجمال بعد ظلم المعفو عنه الذي هو من آثار القهر والجلال حتى تكونوا من زمرة الشاكرين الذين يشكرون الله في السراء والضراء
وَبعد اخلافكم الوعد قبل تمامها وظلمكم لأنفسكم باتخاذكم العجل لم نهمل امر موسى ولم نخلف الوعد الذي قد واعدناه به واذكروا وقت إِذْ آتَيْنا مُوسَى انجازا لوعدنا إياه الْكِتابَ الموعود الجامع لأسرار الربوبية وَالْفُرْقانَ الفارق بين الحق والباطل وبين الهداية والضلال لَعَلَّكُمْ تقتدون له وتَهْتَدُونَ به الى طريق التوحيد وتجاهدون فيه الى ان تتخلصوا عن مطلق الشواغل المانعة عنا
وَبعد ما أنجزنا وعد موسى
وَاذكروا ايضا وقت إِذْ قُلْتُمْ لموسى عند دعوتكم الى الايمان والهداية يا مُوسى المدعى للرسالة الداعي الى الله بمجرد الاخبار لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ولما جئت به من عند ربك حَتَّى نَرَى اللَّهَ الذي ادعيت الرسالة منه جَهْرَةً ظاهرة بلا سترة وحجاب كما نرى بعضنا بعضا وبعد ما قد أفرطتم في حقنا فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ النازلة من قهرنا وغضبنا لإنكاركم ظهورنا الذي هو اظهر من الشمس بل الشمس ايضا انما هي من جملة عكوس لمعاتنا الذاتية ومن اظلال اشعة اوصافنا الجمالية والجلالية وَأَنْتُمْ حال نزول تلك الصاعقة الهائلة تَنْظُرُونَ متحيرين والهين بلا تدبير وتصرف الى ان صرتم فانين مغلوبين تحت قهرنا وجلالنا
ثُمَّ بَعَثْناكُمْ وانشأناكم احياء بمقتضى التجلي اللطفى مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ وفنائكم بالقهر والغضب ترحما عليكم وامتنانا لكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة الوجود بعد العدم والحيوة بعد الموت وتعتقدون الحشر الموعود في يوم الجزاء وتؤمنون به
وَاذكروا ايضا وقت إذ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ يوم لا ظل وأنتم حينئذ تائهون في التيه في ايام الصيف بان سار معكم حيث شئتم ولا يزال يظل عليكم وَمع ذلك قد أنعمنا عليكم أعظم من ذلك بان أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ الترنجبين من جانب السماء تسكينا لحرارتكم وتبريد أمزجتكم وَأنزلنا ايضا منها لغذائكم السَّلْوى وهو السمانى او مثله في النزول من جانب السماء وأبحنا لكم تناولهما حيث قلنا لكم كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ من خصائص النعم واشكروا لها ولا تكفروا بها وَبالجملة ما ظَلَمُونا بكفران النعم ونسيان حقوق الكرم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ويحرمون من الفوائد العائدة لنفوسهم من نعمنا وازديادها عليهم بدوام شكرنا والمواظبة على اقامة حدودنا
وَاذكروا ظلمكم ايضا وقت إِذْ قُلْنَا لكم بعد خروجكم من التيه إشفاقا لكم وامتنانا عليكم ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ التي هي منازل الأنبياء والأولياء يعنى بيت المقدس فَكُلُوا مِنْها اى من مأكولاتها ومشروباتها حَيْثُ شِئْتُمْ بلا مزاحم ولا مخاصم رَغَداً واسعا بلا خوف من السقم والمرض حتى يتقوى بها مزاجكم ويزول ضعفكم وبعد تقويتكم المزاج بنعمنا ارجعوا إلينا وتوجهوا نحو بيتنا الذي قد بنينا فيها وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً متذللين خاضعين واضعين جباهكم على تراب المذلة والهوان وعند سجودكم وتذللكم استغفروا ربكم من خطاياكم وَقُولُوا متضرعين رجاؤنا منك يا مولانا
فَبَدَّلَ واستبدل القوم الَّذِينَ ظَلَمُوا بالخروج عن مقتضى أمرنا قولنا لهم لإصلاح حالهم تعليما وإرشادا قَوْلًا آخر لفظا ومعنى غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ حيث أرادوا من القول الملقى إليهم لفظا آخر ومعنى آخر برأيهم الفاسد وطبعهم الكاسد وهو قولهم حطا سمتاتا اى حنطة حمراء ولما لم يأتوا بالمأمور به ومع ذلك قد بدلوه الى ما تهوى أنفسهم أخذناهم بها فَأَنْزَلْنا بمقتضى قهرنا وجلالنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا تنصيصا عليهم وتخصيصا لهم ليعلم ان سبب أخذهم وانتقامهم انما هو ظلمهم رِجْزاً طاعونا نازلا مِنَ قبل السَّماءِ مقدرا أسبابه فيها بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بشؤم ما يخرجون عن مقتضى الحدود الإلهية المنزلة من عنده على السنة رسله
وَاذكروا ايضا جلائل نعمنا إياكم وقت إِذِ اسْتَسْقى مُوسى وطلب السقي منا بانزال المطر لِقَوْمِهِ حين بثوا الشكوى عنده من شدة العطش في التيه فَقُلْنَا له مشيرا الى ما يترقب منه مطلوبه بل يستبعد حصوله عند أشد استبعاد اضْرِبْ يا موسى بِعَصاكَ الْحَجَرَ الذي بين يديك ولا تستبعد حصول مطلوبك منها فتفطن موسى بنور النبوة بمضمون الأمر الوجوبي فضربه دفعة بلا تردد فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ فجاءة على الفور اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً متمايزة منفردة كل منها عن صاحبته بعدد رؤس الفرق الاثنى عشر بحيث قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ من كل فرقة مَشْرَبَهُمْ المعين لهم رفعا للتزاحم والتنازع ثم أمرناكم بما ينفعكم ظاهرا وباطنا بان قلنا لكم كُلُوا وَاشْرَبُوا متنعمين مترفهين مِنْ رِزْقِ اللَّهِ الذي قد أفاض عليكم من حيث لا تحتسبون وَنهيناكم عما يضركم صورة ومعنى بان قلنا لكم لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ ولا تظهروا عليها خيلاء متكبرين مُفْسِدِينَ بأنواع الفسادات مفتخرين بها واعلموا ان الله المنتقم الغيور لا يحب كل مختال فخور
وَاذكروا ايضا وقت إِذْ قُلْتُمْ لموسى في التيه بعد إنزال المن والسلوى وانفجار العيون من الحجر الصماء قولا خاليا عن الإخلاص والمحبة ناشئا عن محض الغفلة والفساد وكفران النعم يا مُوسى على طريق سوء الأدب لَنْ نَصْبِرَ معك في التيه عَلى طَعامٍ واحِدٍ مع انه غير ملائم لأمزجتنا وطباعنا فَادْعُ لَنا رَبَّكَ الذي قد ادعيت تربيته إيانا يُخْرِجْ لَنا ويهيء لغذائنا من جنس ما تنبت الأرض التي هي معظم عناصرنا مما يناسب لمزاجنا سواء كان مِنْ بَقْلِها خضرواتها التي يأكلها الإنسان للتفكه والتلذذ بحرافتها وحموضتها ومرارتها الملايمة لطبعه وَقِثَّائِها التي يتفكه بها لتبريد المزاج وَفُومِها حنطتها التي يتقوت بها لشدة ملاءمتها مزاجه لذلك ما أزل الشيطان أبانا آدم الا بتناولها وكذا ما نهى سبحانه عباده عنها لكمال ملاءمتهم بها وميل طباعهم إياها وَعَدَسِها الممد لهضم الغذاء وَبَصَلِها التي تشتهيها النفوس المتنفرة عن الحلاوة والدسومة ثم لما سمع موسى منهم ما سمع ايس وقنط من صلاحهم وإصلاحهم لذلك قالَ في جوابهم موبخا ومقرعا أَتَسْتَبْدِلُونَ وتختارون ايها الناكبون عن طريق الحق الراكنون الى الهوى الَّذِي هُوَ أَدْنى
ثم أشار سبحانه الى ان منهم ومن أمثالهم من ذوى الأديان والملل من يهتدى الى الحق ويتوجه الى طريق مستقيم فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بدين محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالَّذِينَ هادُوا وانقادوا بدين موسى عليه السّلام وَالنَّصارى الذين قد آمنوا بدين عيسى عليه السّلام وَالصَّابِئِينَ وهم الذين تدينوا بدين نوح عليه السّلام مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعنى أيقن بوحدانية الله وأقر باستقلاله في ربوبيته واعترف وعرف ان لا موجود الا الله الواحد الأحد الفرد الصمد ومع ذلك صدق واعترف بيوم الجزاء وَعَمِلَ عملا صالِحاً موافقا لما امر خالصا لوجه الله مخلصا فيه فَلَهُمْ فيه أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي يوفقهم على التوحيد والإخلاص وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العقاب والعذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عن سوء المنقلب والمآب
وَاذكروا ايضا إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ اى قد طلبنا منكم العهد الوثيق بان تتبعوا موسى وتمتثلوا بأوامر كتابه وتجتنبوا عن نواهيه فامتنعتم عن متابعته وأبيتم عن انقياده مستثقلين أنتم ما في كتابه من الأوامر والنواهي فألجأناكم اليه بان أمرنا جبرائيل عليه السّلام بقلع جبل طور من مكانه وَبعد ما قلعه رَفَعْنا بتوفيقنا إياه فَوْقَكُمُ الطُّورَ معلقا عليكم وقلنا لكم حينئذ ملجأ خُذُوا جميع ما آتَيْناكُمْ من الدين والكتاب بِقُوَّةٍ جد كامل واجتهاد تام وَاذْكُرُوا جميع ما فِيهِ على التفصيل لنفوسكم وان لم تأخذوا وتذكروا نسقط عليكم الجبل فنستأصلكم فعهدتم ملجئين خوفا من سقوطه وانما فعلنا ذلك بكم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعنى لكي تحذروا عن مقتضى قهرنا وانتقامنا
ثُمَّ لما أمهلناكم زمانا قد تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عن العهد مِنْ بَعْدِ ما قد أزلنا عنكم ذلِكَ الخوف والرعب وبالجملة أنتم في جبلتكم قوم ظالمون مجاوزون عن الحدود والعهود الإلهية مجبولون على الظلم والعدوان فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بارادة ايمانكم وصلاحكم وَرَحْمَتُهُ الواسعة الشاملة لكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب لَكُنْتُمْ في
وَالله لَقَدْ عَلِمْتُمُ وحفظتم أنتم قصة المسرفين المفرطين الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ ومن اسلافكم متجاوزين عن مقتضى العهد الإلهي في زمن داود عليه السّلام فِي اصطياد يوم السَّبْتِ وذلك انهم سكنوا على شاطئ البحر في قرية يقال لها ايلة وكان معاشهم من صيد البحر فأرسل الله عليهم داود عليه السّلام فدعاهم فآمنوا له وعهد عليهم معهم على لسان داود بان لا يصطادوا في يوم السبت بل يخصونه ويعينونه للتوجه والتعبد فقبلوا العهد وأكدوه بالميثاق وكانت حيتان البحر بعد العهد يحضرن في يوم السبت على شاطئ البحر ويخرجن خراطيمهن من الماء ثم لما مضى عليها زمان احتالوا لصيدها حيث حفروا حياضا وأخاديد على شاطئ البحر وأحدثوا جداول منه إليها ولما كان يوم السبت يفتحون الجداول ويرسلون الماء الى الحياض واجتمعت الحيتان فيها وفي يوم الأحد يصطادونها منها وبالجملة قد نقضوا عهدنا بهذه الحيلة واغتروا بامهالنا إياهم زمانا بل ظنوا انهم قد خادعونا ثم انتقمنا عنهم فَقُلْنا لَهُمْ حينئذ بعد ما قد أفسدتم على انفسكم لوازم الانسانية التي هي الإيفاء والوفاء على العهود والتكاليف قد افسدنا ايضا انسانيتكم بالمرة كُونُوا إذا الساعة قِرَدَةً صورة ومعنى خاسِئِينَ مهانين مبتذلين فمسخوا عن لوازم الانسانية من العلم والإدراك والمعرفة والايمان على الفور ولحقوا بالبهائم بل صاروا أسوأ حالا منها
فَجَعَلْناها اى قصة مسخهم وشانهم هذا نَكالًا وعبرة لِما بَيْنَ يَدَيْها من الحاضرين المشاهدين حالهم وقصتهم وَما خَلْفَها ممن يوجد بعدها من المذكرين السامعين قصصهم وتواريخهم وَمَوْعِظَةً وتذكيرا لِلْمُتَّقِينَ الذين يحذرون عن المناهي مطلقا ويحفظون نفوسهم عنها دائما
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين من سوء معاملة بنى إسرائيل مع أخيك موسى الكليم عليه السّلام وقبح صنيعهم معه ومجادلتهم بما جاء به من عندنا جهلا وعنادا ليتنبهوا ويتفطنوا على ان الايمان بنبي يوجب الانقياد والإطاعة له وترك المراء والمجادلة معه ودوام المحبة والإخلاص بالنسبة اليه وتفويض الأمور اليه ليتم سر الربوبية والعبودية والنبوة والرسالة والتشريع والتكليف والاقتداء والانقياد والتوسل والتقرب والوصول وذلك وقت إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ حين حدثت الفتنة العظيمة فيما بينهم وهي انه كان فيهم رجل من صناديدهم له اموال وضياع وعقارات كثيرة وله ابن واحد وبنوا أعمام كثيرة فطمعوا في ماله وقتلوا ابنه ليرثوه وطرحوا المقتول على الباب فأصبحوا صائحين فزعين يطلبون القاتل فأراد الله تفضيحهم وتشهيرهم فأمر موسى عليه السّلام بان قال لهم مخبرا إِنَّ اللَّهَ المطلع على سرائر الأمور يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً حتى ينكشف لكم امر المقتول ثم لما سمعوا من موسى ما سمعوا استبعدوا قوله وتحيروا في امره وقوله هذا ومن غاية استبعادهم قالُوا له على طريق المعاتبة أَتَتَّخِذُنا هُزُواً يعنى أتعتقد أنت يا موسى الداعي للخلق الى الحق انا محل استهزائك وسخريتك مع انه لا يليق بك ولا بنا هذا قالَ موسى مستنزها نفسه عن الاستهزاء مستعيذا أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ المستهزئين بالناس بل ما اتبع الا ما يوحى الى ثم لما سمعوا منه الاستبراء والاستعاذة خافوا من ابتلاء الله إياهم فأوجس كل منهم خيفة في نفسه لكونهم خائنين واشتغلوا بتدبير الدفع وشاوروا بينهم واستقر رأيهم على ان نووا تلك البقرة المخصوصة المعلمة المعينة المعهودة عندهم المعلومة بالشخص
حيث قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها من الألوان المتعارفة المشهورة حتى نذبحها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ اصيل في الصفرة كأنه وضع اسم الصفرة بإزائها أولا وبالجملة لَوْنُها كلون الذهب تَسُرُّ النَّاظِرِينَ والسرور عبارة عن الانبساط والانتعاش الحاصل في القلب عند فراغه عن جميع الشواغل في تلك الحالة يتعجب عن كل ذرة بل عن نفسه ويؤدى تعجبه الى التحير فإذا تحير غرق في بحر لا ساحل لها ولا قعر أدركنا يا دليل الحائرين
ثم لما جزموا الإلجاء فقطعوا النظر عن الخلاص كابروا وعاندوا ايضا مبالغين فيها حيث قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ اى ما هويتها وهيئتها المعينة المشخصة وقل له يا موسى حكاية عنا إِنَّ الْبَقَرَ المأمور به تَشابَهَ عَلَيْنا ومتى استوصفناه منك قد وصفتنا بالأوصاف المشتركة العامة وَإِنَّا بعد ما قد عينتها بتعيين الله إيانا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ بذبحها
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ عجف مهزول بسبب تقليب الأرض واثارتها للزراعة وَلا ذلول سبب ذلتها وضعفها انها تَسْقِي الْحَرْثَ بالدلو والسقاية بل هي مُسَلَّمَةٌ من حين صغرها عن أمثال هذه المذلات بحيث لا شِيَةَ فِيها اى لا عيب ولا ضعف فيها ثم لما بالغوا في الاستفسار الى ان بلغوا على ما قد نووا في نفوسهم الزموا وأفحموا قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ الثابت الكائن في الواقع وفي نيتنا واعتقادنا حكى ان شيخا صالحا من صلحائهم قد كانت له هذه العجلة المتصفة بهذه الصفات فذهب بها الى ايكة فأودعها عند الله وقال اللهم انى استودعها عندك لولدي حتى يكبر ثم مات الشيخ وكانت تلك البقرة في حفظ الله وحمايته حتى يكبر الولد وحدثت تلك الحادثة فيما بينهم فأمر الله سبحانه بذبح تلك البقرة على سبيل الإلجاء فاشتروها بملإ مسكها ذهبا فَذَبَحُوها ملجئين مكرهين وَلولا الجاؤنا إياهم واكراهنا عليهم ما كادُوا وما قاربوا يَفْعَلُونَ لخوف الفضيحة وغلاء ثمنها
وَكيف تفعلونه أنتم مع انكم تعلمون في نفوسكم ان سبب نزوله تفضيحكم واظهار ما كتمتم في نفوسكم اذكروا وقت إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً بغير حق فَادَّارَأْتُمْ وتدافعتم فِيها اى في شانها بان أسقط كل منكم قتلها عن ذمته وقد سترتم أمرها وهدرتم دمها وَاللَّهُ المحيط بسرائركم وضمائركم مُخْرِجٌ مظهر ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ في نفوسكم
فَقُلْنا
لكم بعد ما قد تدارأتم وتدافعتم فيها وأنتم ذبحتم البقرة المأمورة اضْرِبُوهُ
اى المقتول بِبَعْضِها
اى ببعض البقرة اى بعض كان فضربوه فحي المقتول باذن الله فأخبر بقاتله فافتضحوا وارتفعت المداراة كَذلِكَ
اى مثل احياء هذا المقتول بلا سبب يقتضيه عقولكم ويرتضيه نفوسكم يُحْيِ اللَّهُ
القادر على عموم ما يشاء جميع الْمَوْتى
في يوم الحشر والجزاء بلا اسباب ووسائل اقتضتها عقول العقلاء إذ عنده الإبداء عين الإعادة والإعادة عين الإبداء بل الكل في مشيته وقدرته على السواء وَيُرِيكُمْ
قبل ظهور النشأة الاخرى آياتِهِ
الدالة على تحقق وقوعها لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
رجاء ان تتفكروا وتتفطنوا منها اليه وتؤمنوا بجميع المعقدات الشرعية الدنيوية والاخروية وتصدقوها على وجه التعبد والانقياد بلا مراء ومجادلة مع من اتى بها من الرسل والأنبياء ووارثهم
ثُمَّ قَسَتْ بالقساوة الاصلية والرين الجبلي قُلُوبُكُمْ المتكبرة المتجبرة الصلبة البليدة مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الأحياء الملين للقلوب الخائفة الوجلة عن خشية الله وبعد ما لم يلين قلوبكم ولم يؤثر فيها هذه الآية الكبرى فَهِيَ اى فظهر انها اى القلوب القاسية في الصلابة والقساوة كَالْحِجارَةِ التي لا تقبل النقر والأثر أصلا أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً بل أشد صلابة من الحجارة فان من الحجارة ما تتأثر بالحيل وقلوبكم لا تقبل التأثر أصلا وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ ويتأثر منها وقلوبكم لا تتأثر بأنهار المعارف المنشعبة عن بحر الذات الجاري على جداول السنة الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ اى يتأثر بالشقوق الحادثة بأنفسها بالتحليل الحاصل من مر الدهور وكر الأعوام او من مؤثر خارجى وبعد ما تشقق فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ فيدخل فيه الماء وقلوبكم لا تتأثر لا بنفسها ولا بالمؤثر الخارجي وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ ينزل من أعلى الجبل مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ الناشئة من ظهور الآيات مثل المطر الهاطل والريح العاصفة والزلزلة القالعة وغير ذلك من الآيات الظاهرة في الآفاق وقلوبكم لا تتأثر بالآيات الباهرة النازلة عليكم من ربكم ترغيبا وترهيبا هذا تقريع وتوبيخ لهم على ابلغ وجه وآكده وحث على المؤمنين وتحذير لهم عن أمثالها بأنهم مع قابليتهم على التأثر لا يقبلون الأثر النافع لهم في الدارين والحجارة مع صلابتها وعدم قابليتها تتأثر فهم في أنفسهم أسوأ حالا وأشد قساوة وصلابة منها ومع ذلك تخادعون الله بالستر والإخفاء وتظنون غفلته وَمَا اللَّهُ المظهر لذواتهم وأشباحهم المحيط بعموم مخايلهم وحيلهم بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ولو طرفة وخطرة ولمحة
ثم لما ذكر سبحانه امتنانه على بنى إسرائيل وانعامه إياهم بأنواع النعم وذكر ايضا ظلمهم وعدوانهم وكفرانهم نعمه أراد أن ينبه على المؤمنين المحمديين المتمنين ايمان اليهود وانقيادهم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومواخاتهم مع المؤمنين بان متمناكم وملتمسكم محال أَفَتَطْمَعُونَ يعنى الم تسمعوا قصتهم ولم تعرفوا خباثتهم ودناءتهم وذلتهم المضروبة عليهم وسوء معاملتهم مع أنبيائهم المبعوثين إليهم فترجون منهم طامعين أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ اى لنبيكم ويحابوا معكم لله مع علمكم بحالهم وَلم تسمعوا متواترا انه قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ اى من أسلافهم قوم يَسْمَعُونَ ويتلون كَلامَ اللَّهِ النازل لهم يعنى التورية وفيه وصف نبينا صلّى الله عليه وسلّم فيضطربون ويستثقلون بعثته صلّى الله عليه وسلّم ثُمَّ لما قرب عهده صلّى الله عليه وسلّم وظهر بعض علاماته استشعروا من اماراته انه صلّى الله عليه وسلّم هو النبي الموعود في كتابهم أخذوا يُحَرِّفُونَهُ اى الكتاب حسدا وعنادا ويغيرونه مكابرة مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ جزموه وحققوه انه هو وَهُمْ ايضا في أنفسهم يَعْلَمُونَ مكابرتهم وعنادهم ويجزمون في نفوسهم حقيته ويقولون في خلواتهم انه وان كان النبي الموعود لكن لا نؤمن له لأنه من العرب لا منا ومنهم من آمن وصدق ظاهرا لمصلحة دنيوية وهو في نفسه على خباثته الاصلية ودنائته الجبلية بل أخبث منهم
وَعلامة خباثتهم انهم إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا وأخلصوا في ايمانهم قالُوا آمَنَّا برسولكم الذي
أَوَلا يَعْلَمُونَ ولا يفقهون أولئك المجبولون على فطرة الدراية والشعور أَنَّ اللَّهَ المحيط بظواهرهم وبواطنهم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما يُسِرُّونَ من الكفر والتكذيب عنادا ومكابرة وَكذا عموم ما يُعْلِنُونَ من القول غير المطابق للاعتقاد هذا حال علمائهم وأحبارهم
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ ولا يفهمون من انزاله وإرساله والامتثال بما فيه من الأوامر والنواهي وجميع المعتقدات الشرعية والتكاليف الإلهية إِلَّا أَمانِيَّ كسائر الأماني الدنياوي وانما أخذوها تقليدا لرؤسائهم ورهابينهم وَإِنْ هُمْ اى ما هم في أنفسهم زمرة العقلاء من المميزين في المعتقدات الشرعية إِلَّا يَظُنُّونَ يعنى ما هم سوى انهم يظنون ظنا بليغا في تمييز علمائهم المحرفين للكتاب وبواسطة هذا الظن الفاسد لم يؤمنوا بنبينا صلّى الله عليه وسلّم.
ثم لما كان المحرفون ضالين في أنفسهم مضلين لغيرهم من اتباعهم استحقوا أشد العذاب فَوَيْلٌ اى حرمان عظيم عن لذة الوصول بعد ما قرب الحصول او طرد وتبعيد عن ذروة الوجوب الى حضيض الإمكان او عود وترجيع لهم من الحرية السرمدية الى الرقية الابدية في النشأة الاخرى لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ بعد تحريفهم بآرائهم السخيفة ثُمَّ يَقُولُونَ لسفلتهم وجهلتهم ترويجا لتحريفهم وتغريرا هذا ما نزل مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وانما قالوا كذلك لِيَشْتَرُوا بِهِ اى بنسبة هذا المحرف الى الله ثَمَناً قَلِيلًا على وجه التحف والهدايا من الضعفاء الذين يظنونهم عقلاء أمناء في امور الدين كما يفعله مشايخ زماننا انصفهم الله مع من يتردد حولهم من عوام المؤمنين ثم لما كان الويل عبارة عن نهاية مراتب مقتضى القهر والجلال وغاية البعد عن مقتضيات اللطف والجمال كرره سبحانه مرارا وفصله تكرارا تحذيرا للخائفين المستوحشين عن طرده وابعاده حيث قال فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ من المحرفات الباطلة وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ من الفتوحات والمعاملات الخبيثة ومن جملة هذياناتهم مع ضعفائهم انهم لما ظهر فيما بينهم واشتهر ما نزل في التورية ان الذين اتخذوا العجل آلها من دون الله يدخلون النار قد اضطربت الضعفاء منهم من هذا الكلام الى حيث خاف المحرفون من اضطرابهم ان يميلوا الى الإسلام
وَقالُوا لهم تسلية وتسكينا لا تضطربوا ولا تبالوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ بسبب عبادة العجل إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قلائل أربعين مقدار مدة عبادة العجل او اقل من ذلك قُلْ لهم يا أكمل الرسل توبيخا وتقريعا أَتَّخَذْتُمْ أنتم وأخذتم عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً او نزل عليكم في كتابكم بان لا تمسكم النار الا أياما معدودة فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ البتة ان ثبت وجرى منه سبحانه هذا العهد بل نحن ايضا من المؤمنين له المصدقين به أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ افتراء ما لا تَعْلَمُونَ ثبوته عنده فيجازيكم بما افتريتم البتة
بَلى اى بل الأمر الحق والشان المحقق الثابت
وَالَّذِينَ آمَنُوا واعتقدوا بوحدانية الله وأيقنوا ان لا وجود لغيره مطلقا وَمع الايمان والإيقان بالجنان قد عَمِلُوا بالجوارح والأركان الصَّالِحاتِ من الأعمال المقربة المترتبة على هذا الاعتقاد المثمر إياها أُولئِكَ المقربون والواصلون الى ما وصلوا من القرب والكرامة أَصْحابُ الْجَنَّةِ وملازمو القرب والوصول هُمْ فِيها خالِدُونَ متمكنون راسخون ما شاء الله إذ لا مرمى وراء الله ولا مقصد سوى الله لا اله الا الله لا حول ولا قوة الا بالله
وَاذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين وقت إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ اى العهد الوثيق منهم حين ظهر منهم نقض العهود والمواثيق المؤكدة بان قلنا لهم على سبيل التأكيد والمبالغة لا تَعْبُدُونَ يعنى لا تتقربون وتتوجهون إِلَّا اللَّهَ الذي أظهركم من كتم العدم ورباكم بأنواع اللطف والكرم كي تعرفوه حق معرفته وَايضا لا تعاملون بِالْوالِدَيْنِ المربيين لكم باستخلاف الله إياهما الا إِحْساناً محسنين معهما خافضين لهما جناح الذل ببذل المال وخدمة الأركان وَكذا مع ذِي الْقُرْبى المنتمين إليكم بواسطتهما وَايضا لا تقهرون الْيَتامى والأطفال الذين لا متعهد لهم من الوالدين ولا من ذوى القربى بل تحسنون لهم وتشفقون إياهم وَكذا مع الْمَساكِينِ الذين لا يمكنهم اكتساب المعيشة لعدم مساعدة آلاتهم وَبالجملة قُولُوا لِلنَّاسِ اى لجميع الأجانب المستغنين عن امدادكم وانعامكم حُسْناً قولا حسنا هينا لينا منبئا عن المحبة والوداد وَلما امرناهم ونهيناهم كذلك بما يتعلق بمبدأهم ومعاشهم امرناهم ايضا بما يتعلق بمعادهم ورجوعهم إلينا حيث قلنا لهم أَقِيمُوا الصَّلاةَ يعنى داوموا على الميل والصلاة التي هي معراجكم الحقيقي الى ذروة التوحيد والعروج إليها لا يتحقق الا بترك العلائق وطرح الشواغل المانعة عنها وَكذلك آتُوا الزَّكاةَ المصفية لنفوسكم عن خبث الشح المزيلة عنها محبة الغير والسوى بل محبة نفوسكم الشاغلة عن الوصول الى شرف لقيا المولى ثُمَّ لما استثقلتم الأوامر والنواهي نقضتم العهود حيث تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عنها ونبذتموها وراء ظهوركم إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وهم الذين ذكرهم الله في قوله ان الذين أمنوا والذين هادوا الآية وَبالجملة أَنْتُمْ في انفسكم قوم مُعْرِضُونَ شأنكم الاعراض عن الحق والانصراف عن اهله
وَكيف لا تكونون معرضين اذكروا قبح صنيعكم وقت إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ حيث لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ اى لا يسفك بعضكم دم بعض عدوانا وظلما بلا رخصة شرعية وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ اى لا يخرج بعضكم بعضا من دياره تعديا وظلما ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ طوعا واعترفتم رغبة بهذا العهد وَأَنْتُمْ بأجمعكم تَشْهَدُونَ وتحضرون وكلكم متفقون عليه راضون به
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ الحمقاء الخبيثون الدنيون المفسدون المسرفون قد نقضتم العهد سيما بعد توكيدها حيث تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ اى بعضكم نفس بعض بغير حق وَتُخْرِجُونَ اى يخرج بعضكم فَرِيقاً بعضا منكم مِنْ دِيارِهِمْ المألوفة اجلاء وظلما وأنتم بأجمعكم تَظاهَرُونَ وتعينون عَلَيْهِمْ اى على المخرجين والظالمين بِالْإِثْمِ اى بالخصلة الفاحشة المستتبعة للحد
فقال مشيرا إليهم على سبيل التوبيخ أُولئِكَ البعداء عن منهج الصدق والصواب هم الَّذِينَ اشْتَرَوُا اى استبدلوا واختاروا الْحَياةَ الدُّنْيا الفانية الغير القارة بل اللاشيء المحض بِالْآخِرَةِ التي هي النعيم المقيم واللذة الدائمة المستمرة والحيوة الازلية السرمدية فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ اى عذاب الإمكان والافتقار وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ويصلون الى مناهم من الحوائج بل صاروا مفتقرين دائما محتاجين مضطرين مسودة الوجوه في النشأتين.
وَاذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين ايضا من قبح صنائعهم ليعتبروا من أفعالهم لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى المبعوث إليهم الْكِتابَ اى التورية المشتملة على المصالح الدنيوية والاخروية فكذبوه ولم يلتفتوا الى كتابنا المنزل عليه وَبعد ما قضى وانقرض موسى قَفَّيْنا وعقبنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ المرسلة إليهم ذوى الدعوات الظاهرة والآيات الباهرة والمعجزات الساطعة القاهرة فكذبوا الكل ولم يلتفتوا بعموم ما جاءوا به وَبعد انقراض أولئك الثقات الهداة الباذلين مهجهم في طريق الحق آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ المبعوث إليهم الْبَيِّناتِ الواضحات الموضحات المبينات لأمور معاشهم ومعادهم وَمع ذلك قد أَيَّدْناهُ وخصصناه وقويناه بِرُوحِ الْقُدُسِ اى بلوازمه المنزه عن رذائل الإمكان لذلك رفعناه الى السماء وأحييناه الى انقراض الدنيا ومع ذلك قد كذبوه بل أرادوا قتله ولم يظفروا به أَفَكُلَّما اى الم تكونوا أنتم ايها الحمقاء الناقضون للعهود والمواثيق أولئك الجاهلون المفرطون المسرفون الذين متى جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ حتى يصلحكم ويرشدكم الى طريق الحق اسْتَكْبَرْتُمْ عليه واستحقرتموه فَفَرِيقاً من الرسل قد كَذَّبْتُمْ أنتم بهم وانكرتم نبوتهم كموسى وعيسى عليهما السّلام وَفَرِيقاً منهم تَقْتُلُونَ كزكريا ويحيى عليهما السّلام والقوم الذين شانهم هذا وهكذا كيف يرجى منهم الفلاح والفوز بالنجاح
وَمن غاية عداوتهم معك يا أكمل الرسل ومع من تبعك من المؤمنين قالُوا حين دعوتك إياهم الى الايمان والتصديق بدين الإسلام
وَايضا من شدة عتوهم وعنادهم ونهاية حسدهم على ظهور دين الإسلام لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مشتمل على جميع الاحكام والمعتقدات الدينية وعموم الحقائق والمعارف اليقينية مع انهم جزموا في أنفسهم نزوله مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لتوافقه وتطابقه على ما في كتبهم واعجازه عموم من تحدى معه ومع ذلك مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين وَالحال انهم قد كانُوا مِنْ قَبْلُ اى قبل ظهوره ونزوله يَسْتَفْتِحُونَ بهذا الكتاب ويستنصرون بمن ينزل عليه ويفتخرون به وبدينه وكتابه عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بكتابهم ودينهم ونبيهم ويقولون سينصر ديننا بالنبي الموعود وبدينه المنزل عليه فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا في كتابهم من ظهور النبي الموعود الذي قد انتصروا به قبل مجيئه وافتخروا ببعثته على معاصريهم كَفَرُوا بِهِ عند مجيئه مكابرة وعنادا فاستحقوا بشؤم هذا الكفر والعناد مقت الله وطرده عن طريق التوحيد وتخليده إياهم في نيران الإمكان بأنواع الخيبة والخذلان نعوذ بالله من غضب الله فَلَعْنَةُ اللَّهِ الهادي للكل الى سواء السبيل نازلة دائما مستمرا عَلَى عموم الْكافِرِينَ المصرين على العناد المستكبرين على العباد
ثم لما ذكر سبحانه من ذمائم أخلاقهم ما ذكر وعد من قبائح أفعالهم وأطوارهم ما عد أراد ان يذكر كلاما جمليا على وجه العظة والنصيحة في ضمن تعييرهم وتقريعهم ليتذكر به المؤمنون ويتنبه بسببه الغافلون فقال بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ اى بئس شيأ باعوا واستبدلوا به معارف نفوسهم ومكاشفاتها ومشاهداتها أَنْ يَكْفُرُوا اى ينكروا ويكذبوا من شدة عتوهم وعنادهم بِما أَنْزَلَ اللَّهُ حسب حكمته على من هو قابل للهداية والإرشاد ليهدى به من ضل عن طريق الحق مع جزمهم بحقيته بلا شبهة ظهرت عندهم بل هم ما يكفرون وينكرون به الا بَغْياً وعدوانا وحسدا وطغيانا على أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ المستجمع المستحضر لعموم القابليات والاستعدادات مِنْ فَضْلِهِ بلا سبق علل وأغراض عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ الخلص وهم الذين قد ارتفعت هوياتهم وتلاشت هياكلهم وماهياتهم وبالجملة قد فنوا في الله وصاروا ما صاروا لا اله الا هو ولا شيء سواه ثم لما حسدوا على أنبياء الله وبخلوا بمقتضى فضله وجوده فَباؤُ ورجعوا مقارنين بِغَضَبٍ عظيم من الله المنتقم عن جريمتهم متراكم عَلى غَضَبٍ عظيم حسب ما شاء الله الظهور عليهم باسمه المنتقم وَبالجملة لِلْكافِرِينَ المستحقرين على كتاب الله وعلى دينه وعلى نبيه عَذابٌ مُهِينٌ لهم في النشأة الاولى والاخرى في الدنيا بضرب الذلة والمسكنة والجزية والصغار وانواع الهوان والخسار وفي الآخرة بطردهم وحرمانهم عن ساحة عز القبول
وَمن شدة انكارهم استكبارهم إِذا قِيلَ لَهُمْ على وجه العظة والتذكير آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ اى بجميع ما قد انزل عليكم لتزكية أخلاقكم وأعمالكم قالُوا في الجواب مكابرين حاصرين نحن نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا من عنده سبحانه ونصدق به جميعا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ اى سوى كتابهم وَالحال انه هُوَ الْحَقُّ المنزل من الحق بالحق على الحق لإظهار الحق وهم ايضا يعلمون حقيته ومع ذلك مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ من الكتاب الحق النازل على الحق يعنى التورية موافقا له في أكثر الاحكام وانما كفروا به للحسد والعناد الراسخ في طبائعهم وأحلامهم السخيفة ومبالغتهم في المكابرة والعناد والإصرار على تكذيب هذا الكتاب مع ان الايمان بأحد المتصادقين يوجب الايمان بالآخر وهو دليل على ان لا ايمان لهم بالتورية ايضا بل هم كافرون بها كفرهم بالفرقان لدلالة أفعالهم وأعمالهم على الكفر والإنكار وان أظهروا الايمان بها ظاهرا قُلْ
لهم يا أكمل الرسل إلزاما عليهم فَلِمَ تَقْتُلُونَ ايها المتدينون بدين اليهود المؤمنون المصدقون بالتورية سيما أَنْبِياءَ اللَّهِ الحاملين للتورية العاملين بمقتضاها مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بها مصدقين بجميع ما فيها فثبت انكم لستم بمؤمنين بها ايضا لتخلفكم عن مقتضاها وقتلكم الرسل العاملين بها وتكذيبكم إياهم
وَان أنكروا التكذيب اذكر لهم يا أكمل الرسل لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى المؤيد من لدنا بِالْبَيِّناتِ الواضحات المبينات في التورية الموضحات لطريق التوحيد والايمان فكذبتم موسى عليه السّلام وانكرتم على جميع بيناته ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ المسترذل الها مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد ما ذهب موسى الى الطور للفوائد الاخر المتعلقة لتكميلكم وَبالجملة أَنْتُمْ قوم ظالِمُونَ مجاوزون عن حدود الله ناكبون عن طريق الحق ومنهج الرشد وَان أردت يا أكمل الرسل زيادة إلزامهم واسكاتهم.
اذكر لهم نيابة عنا وقت إِذْ أَخَذْنا منكم ايها الناقضون لعهودنا المنكرون لكتابنا مِيثاقَكُمْ الذي قد واثقتم معنا ثم تركتموه وَالجأناكم على إيفاء ما عهدتم بان رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ معلقا وقلنا لكم استعلاء وتجبرا خُذُوا جميع ما آتَيْناكُمْ على نبيكم من الأوامر والنواهي بِقُوَّةٍ اى جد واجتهاد كامل وَاسْمَعُوا جميع ما فيه من المعارف والحقائق بسمع الرضاء وعلى نية الكشف والشهود وبعد ما سمعوا منا قالُوا ظاهرا سَمِعْنا جميع ما أمرنا به ونهينا عنه وَخفية قالوا عَصَيْنا عنها مع الامتثال بها وَسبب عصيانهم انهم لخساستهم ودنائة طبعهم وركاكة رأيهم قد أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ يعنى تحببوا وتطيبوا في قلوبهم التي هي وعاء الايمان والتوحيد ومحل العرفان واليقين محبة العجل المسترذل المستقبح المستحدث من حليهم وما هي الا بِكُفْرِهِمْ اى بشؤم ما كفروا بالله وبكتبه ورسله وحصروا ظهور الحق في مظهر مخصوص ومع ذلك يدعون الايمان بموسى عليه السّلام قُلْ لهم يا أكمل الرسل تقريعا لهم على وجه التعريض بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ من انكار كتاب الله وتكذيب رسله وقتلهم بغير حق واعتقادكم الشركة مع الله إِنْ كُنْتُمْ صادقين في كونكم مُؤْمِنِينَ
ثم لما اشتهر بين الناس قولهم لن يدخل الجنة الا من كان هودا وامتنع عن قبول الإسلام كثير من القاصدين العازمين لقبوله وتغمم بسبب ذلك ضعفاء المسلمين أشار سبحانه الى دفع هذا المقال مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم فقال قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ التي هي منازل الشهداء ومقام العرفاء الأمناء الواصلين الى مرتبة الفناء في الفناء
جزى الله عنا الموت خيرا فانه | أبر بنا من كل خير وارأف |
يعجل تخليص النفوس من الأذى | ويدنى الى الدار التي هي اشرف |
وَالله لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ وكسبت أَيْدِيهِمْ وأنفسهم من الحرص وطول الأمل والاستلذاذ باللذات الحسية والوهمية من الجاه والمال والمكانة والاعتبار بين الناس والاستكبار عليهم الا تريهم يتوجهون ويرجعون الى الله عند نزول البلاء المشعر لتعجيل الموت المقرب نحوه سبحانه ويسئلون فرجا واستكشافا وإذا انكشف عنهم ولوا على ما هم عليه مدبرين وَبالجملة اللَّهُ المحيط بسرائر عباده وضمائرهم عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ منهم الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية القائلين بأفواههم ما ليس في قلوبهم
وَالله يا أكمل الرسل لو فتشت عن أحوالهم واستكشفت عما جرى في سرائرهم وضمائرهم لَتَجِدَنَّهُمْ اى اليهود ولتصادفنهم أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ دائمة مستمرة عموما وَخصوصا مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا واعتقدوا ان لا حيوة الا في دار الدنيا بل من نهاية حرصهم وطول أملهم يَوَدُّ أَحَدُهُمْ ويحب لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ او يزيد عليه الفا أخر وهكذا وَالحال انه بهذه المحبة ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ اى ليس هو مبعد نفسه مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ الى غاية ما يتمناه ويحبه بل ما يزيد الا عذابا فوق العذاب حسب لوازم الإمكان وَاللَّهُ المجازى لهم على أعمالهم بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ اى بجميع أعمالهم طول اعمارهم بحيث لا يعزب عن علمه شيء منها ثم لما ظهر دين الإسلام وترقى امره وارتفع قدره واشتهر نزول القرآن الناسخ لجميع الكتب والأديان اضطرب اليهود ووقعوا فيما وقعوا ومن شدة قلقهم واضطرابهم سئلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمن انزل عليه من الملائكة فقال صلّى الله عليه وسلّم أخونا جبرائيل قالوا هو عدونا القديم ليس هذا أول ظهوره علينا بالعداوة بل قد ظهر علينا من قبل مرارا وهو دائما بصدد نسخ ديننا
قال سبحانه مخاطبا لحبيبه قُلْ يا أكمل الرسل مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ اى لمن يدعى عداوة أمين وحينا جبرائيل عليه السّلام بواسطة إنزال القرآن إليك لا وجه لاتخاذكم جبرائيل عليه السّلام عدوا فَإِنَّهُ عليه السّلام انما نَزَّلَهُ اى القرآن عَلى قَلْبِكَ يا أكمل الرسل الذي هو وعاء الايمان والإسلام ومهبط الوحى والإلهام بِإِذْنِ اللَّهِ والقائه اليه ووحيه إياه بتنزيله إليك لا من عند نفسه حتى تتخذوه عدوا وان اتخذتم عدوا فاتخذوا الله الآمر المنزل الحقيقي عدوا مع انه لا وجه للعداوة أصلا لكون المنزل عليه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب المنزلة وَهُدىً يهدى الى طريق الايمان والتوحيد وَبُشْرى بالنعيم
وقل لهم ايضا يا أكمل الرسل مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ بنقض عهوده وبعدم الامتثال بأوامره والاجتناب عن نواهيه وَمَلائِكَتِهِ بنسبتهم الى ما هم منزهون عنه وَرُسُلِهِ بالتكذيب والقتل والاهانة والاستهزاء وَلا سيما جِبْرِيلَ وَمِيكالَ كلا الأمينين المقربين عند الله بنسبة الميل والخيانة إليهما فهو كافر بالله بأمثال هذه الخرافات فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ بكفرهم وإصرارهم عليه
وَمن جملة كفرهم وعنادهم لَقَدْ أَنْزَلْنا من كمال فضلنا وجودنا إِلَيْكَ يا من وسعت مظهريته جميع اوصافنا وأخلاقنا آياتٍ دلائل وشواهد بَيِّناتٍ واضحات لطريق المعرفة والايمان فكفروا بها وكذبوها وَما يَكْفُرُ بِها مع غاية وضوحها وجلائها إِلَّا الْفاسِقُونَ الخارجون عن ربقة العبودية بعدم الايمان والانقياد بالكتاب والنبي بل بالإنزال والمنزل أصلا
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً يعنى هم لم لم يكونوا فاسقين خارجين عن مقتضيات الحدود الإلهية مع انهم هم من شدة غيهم وضلالهم كلما عاهدوا عهدا وثيقا مؤيدا مؤكدا مع الله ورسله نَبَذَهُ ونقضه فَرِيقٌ مِنْهُمْ بسبب الفسوق والخروج وعدم الوفاء والإيفاء ثم سرى نقضهم الى الكل جميعا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ولا ينقادون بالعهود والمواثيق الجارية من الله على السنة رسله وكتبه
وَمن جملة عتوهم وعنادهم انهم لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ المرسل للرسل لهداية الناس الى توحيده مع انه مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من الكتب المنزلة على الرسل الهادين ليرتفع التعدد والاختلاف عن اهل التوحيد مع ان مجيء هذا الرسول موعود مثبت في كتابهم الذي هم يدعون الايمان به نَبَذَ وطرح فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى اليهود كِتابَ اللَّهِ يعنى التورية وَراءَ ظُهُورِهِمْ بحيث لم يلتفتوا اليه ولم يعملوا بمقتضى ما فيه بل صاروا من شدة عداوتهم وعنادهم مع الرسول المبعوث كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ولا يقرؤن كتابهم أصلا
وَبعد نبذهم التورية وراء ظهورهم باشتمالها على اوصافك وظهورك يا أكمل الرسل أخذوا في معارضتك بالسحر واتَّبَعُوا ما تَتْلُوا اى تنسبوا وتفتروا الشَّياطِينُ اى المردة من الجن عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ بان استيلائه وتسلطه وتسخيره الجن والانس والوحوش والطيور والرياح انما هو بالسحر وَالحال انه ما كَفَرَ وسحر سُلَيْمانَ قط بل شانه مقصور على الوحى والإلهامات الإلهية والواردات الغيبية وَلكِنَّ الشَّياطِينَ يسترقون من الملائكة وينسبون الأمور الى الوسائط اصالة وبسبب ذلك قد كَفَرُوا وبعد كفرهم بالله وشركهم به سبحانه يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ المستلزم لانواع الفسوق والعصيان والكفر والطغيان وَلا سيما يسترقون ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ المحبوسين بِبابِلَ المسميين هارُوتَ وَمارُوتَ مع ان المنزل إليهما انما هو من مكر الله وإيقاعه الفتنة بين عباده ابتلاء لهم واختبارا وَمع ذلك ما يُعَلِّمانِ كلا الملكين السحر مِنْ أَحَدٍ من الناس حَتَّى يَقُولا له توصية وتذكيرا إِنَّما نَحْنُ الظاهرون بالسحر الخارق للعادة فِتْنَةٌ من الله العليم الحكيم وابتلاء منه لعباده فَلا تَكْفُرْ بنسبة الأمور إلينا ولا تكن بصدد التعلم ايضا وبعد ما اوصى الملكان بما أوصيا فَيَتَعَلَّمُونَ اى الشياطين المسترقون مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ مما يورث قطع المحبة والعلاقة المستلزمتين لحفظ النسب المتفرعة على الحكمة البالغة الإلهية المقتضية للزواج والازدواج إضرارا للدين القويم وانحرافا عن الطريق المستقيم وَالحال انه ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بالله على وجه الإخلاص وكتبه ورسله بلا مراء ومجادلة وَاتَّقَوْا نفوسهم عن محارم الله لَمَثُوبَةٌ اى لكانت فائدة قليلة عائدة إليهم مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عندهم خَيْرٌ من الدنيا وما فيها من المزخرفات الفانية كما هو عند المؤمنين الموقنين بوحدانيته لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ خيريتها لم يكفروا بالله لكنهم قد كفروا فثبت انهم هم جاهلون جاهدون في مقتضى أحلامهم السخيفة ثم لما سمع اليهود من المؤمنين قولهم راعنا عند رجوعهم اليه صلّى الله عليه وسلّم في الخطوب والوقائع قالوا هؤلاء ليسوا مؤمنين منقادين له مطيعين لأمره لدلالة قولهم له راعنا عند محاورتهم معه راعنا على انك محتاج إلينا ممنون منا فلك ان تراعينا حق الرعاية
ولما كان فيه من إيهام سوء الأدب وان كان غرضهم الترقب والالتفات أشار سبحانه الى نهى المؤمنين عن هذا القول الموهم تأديبا للمؤمنين وتعظيما لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا مع نبيكم عند الخطاب له راعِنا وان كان مقصودكم صحيحا ظاهرا لكن العبارة توهم خلاف المقصود بل الاولى والأليق بحالكم ان لا تخاطبوا رسولكم إكراما له وتعظيما وَان اضطررتم الى خطابه صلّى الله عليه وسلّم قُولُوا بدل قولكم راعنا انْظُرْنا بنظر الرحمة والشفقة وَاسْمَعُوا هذا التذكير والوصاية منا بسمع الرضاء والقبول وواظبوا على مقتضاه لئلا تنسبوا الى الإساءة معه صلّى الله عليه وسلّم وَاعلموا ان لِلْكافِرِينَ المغتنمين الفرصة في أمثال هذه الكلمات المذكورة المنهية عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم لهم أشد الإيلام في الدنيا والآخرة ثم لما عجزوا عن معارضتكم صريحا أخذوا في التلبيس والتحميق وادعاء المحبة واظهار المودة على سبيل النفاق ليحفظوا به دماءهم وأموالهم عنكم فعليكم ان لا تغتروا بودادتهم ولا تسمعوا منهم أقوالهم الكاذبة
إذ ما يَوَدُّ ويحب الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ لإصلاح حالكم وزيادة انعامكم وافضالكم مِنْ خَيْرٍ وحى نازل مِنْ رَبِّكُمْ الذي اجتباكم واصطفاكم على جميع الأمم بغضا لكم وحسدا مركوزا في طباعهم بالنسبة إليكم وبخلا على ما اعطى الله إياكم من الخير وَلم يمكنهم منع إعطائه تعالى إذ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ الواسعة ونعمته العامة الشاملة التي هي عبارة عن المعرفة والتوحيد مَنْ يَشاءُ من خلص عباده بلا علة وغرض ومرجح ومخصص مع كمال اختيار وارادة بلا إيجاب وتوليد كما زعمت الحكماء والمعتزلة الفاقدين للبصيرة سيما في الإلهيات ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور وَ
والى هذا أشار سبحانه بقوله ما نَنْسَخْ نغير ونبذل مِنْ آيَةٍ نازلة حاكمة في وقت وزمان يقتضيه نزولها من اسم مخصوص الهى أَوْ نُنْسِها نمحها ونحكها من القلوب كأنها لم تنزل قط نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها اى متى ننسخها او ننسها نأت بخير منها حسب اقتضاء الزمان الثاني والاسم الخاص له إذ سريان الوجود دائما على الترقي في الكمال حسب الحكمة المتقنة البالغة أَوْ مِثْلِها إذ التجدد انما يكون بالأمثال والإعادة على طبق الابتداء ثم استفهم سبحانه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم تعظيما له وتذكيرا للمؤمنين فقال أَلَمْ تَعْلَمْ أنت يا أكمل الرسل يقينا أَنَّ اللَّهَ المتجلى بالتجليات الغير المتناهية عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإبداء والإعادة والإنزال والتغيير قَدِيرٌ لا تنتهي قدرته عند المراد بل له التصرف فيه ما شاء بالإرادة والاختيار
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يتصرف فيهما كم شاء وكيف يشاء بلا فتور ولا فطور هذا في الآفاق وارجعوا الى انفسكم وَاعلموا انه ما لَكُمْ في ذواتكم وهوياتكم مِنْ دُونِ اللَّهِ المحيط بكم وبجميع اوصافكم مِنْ وَلِيٍّ يولى أموركم وَلا نَصِيرٍ يعين عليكم من دونه بل هو بذاته محيط بهوياتكم وماهياتكم كما اخبر به سبحانه في قوله كنت سمعه وبصره ويده ورجله الحديث أتسلمون وتفوضون أموركم الى الله ورسوله ايها المؤمنون وتقبلون دين الإسلام تعبدا وانقيادا
أَمْ تُرِيدُونَ وتقصدون أَنْ تَسْئَلُوا وتقترحوا عن سرائر الآيات النازلة عليكم لإصلاح حالكم رَسُولَكُمْ عنادا ومكابرة كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ من الآيات النازلة لإصلاح بنى إسرائيل فما نزل عليهم من آية الا وقد سئلوا سرها من موسى عليه السّلام على وجه الإلحاح والاقتراح فجازاهم الله بمقتضى اقتراحهم وان اقترحتم ايضا كما اقترحوا يجازيكم الله ايضا كما جازاهم وَاعلموا ان مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ الموهوم المذموم بِالْإِيمانِ المحقق المجزوم فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ اى عن الصراط السوى الموصل الى التوحيد الذاتي كما ضل بنوا إسرائيل عن طريق الحق بمخالفة كتاب الله وتكذيب رسله
ثم اعلموا ايها المؤمنون انه قد وَدَّ وأحب كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ سيما اليهود والنصارى لَوْ يَرُدُّونَكُمْ بأنواع الحيل والنفاق مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ بالله وكتبه ورسله كُفَّاراً مرتدين واجب القتل والمقت عند الله وليس ودادتهم كفركم لغاية تشددهم وتصلبهم في دينهم ونهاية غيرتهم عليه بل حَسَداً عليكم ناشئا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ من غاية عداوتهم معكم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ وظهر عندهم ان دينكم الْحَقُّ المطابق للواقع بشهادة كتابهم ونبيهم وإذا فهمتم أمرهم وعرفتم عداوتهم فَاعْفُوا عن الانتقام والعقوبة وَاصْفَحُوا اى اعرضوا وانصرفوا عن التعيير والتقريع واصبروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ويحكم بحكمه المبرم من ضرب
وَبعد ما فوضتم أموركم الى الله واتخذتموه وكيلا حسيبا لكم حفيظا عن شرور أعدائكم أَقِيمُوا الصَّلاةَ اى رابطوا ظواهركم وبواطنكم اليه سبحانه دائما على وجه التذلل والخضوع وغاية الانكسار والخشوع وَآتُوا الزَّكاةَ اى طهروا قلوبكم عن الميل الى ما سوى الحق وَاعلموا ان ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ في هذه النشأة مِنْ خَيْرٍ توجه دائم نحو الحق وأعراض مستمر عن محبة غيره تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ حين انكشافكم بتوحيده وتجريده وتفريده وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المحيط بذواتكم بِما تَعْمَلُونَ من خير بَصِيرٌ عليم خبير
وَمن جملة حيلهم وخداعهم إياكم وودادتهم كفركم انهم قالُوا على وجه العظة والتذكير لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ من اهل الملل والأديان إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ المهملات وأمثالها ما هي الا أَمانِيُّهُمْ التي يخمرونها في نفوسهم بلا مستند عقلي او نقلي وان ادعوا دليلا قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما لهم وتبكيتا هاتُوا ايها المدعون المبهوتون بُرْهانَكُمْ من آيات الله وسنن رسله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الاختصاص قل لهم يا أكمل الرسل بعد ما بهتوا كلاما ناشئا عن محض الحكمة والإخلاص لا وجه لدعوى الاختصاص بالنسبة الى الجنة الموعودة لا منكم ولا منا
بَلى اى بل مبنى الأمر والشان في استحقاق الجنة على ان مَنْ أَسْلَمَ وجه وسلّم وَجْهَهُ المنسوب اليه مجازا لِلَّهِ المنسوب اليه حقيقة وَالحال انه هُوَ في نفسه مُحْسِنٌ عارف مشاهد مكاشف بالله فَلَهُ أَجْرُهُ مرجعه ومقصده من الجنة الموعودة عِنْدَ رَبِّهِ اى مرتبته المخصوصة له المربية إياه عند الله وَبالجملة لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لفنائهم عن قابلية الخوف والحزن ومقتضيات الطبيعة مطلقا وبقائهم بتربية مربيهم
وَمن عدم تفطنهم للايمان والإذعان وغفلتهم عن طريق التوحيد والعرفان قالَتِ الْيَهُودُ الدين ديننا والكتاب كتابنا والنبي نبينا لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ في امر الدين وشانه بل هم ضالون عن طريق الحق لا يهتدون اليه أصلا الا ان يؤمنوا ويقتدوا بديننا وَايضا قالَتِ النَّصارى ديننا حق وشرعنا مؤبد ونبينا مخلد لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ في الدين والايمان بل الدين الحق ديننا وَالحال انه هُمْ اى كلا الفريقين يَتْلُونَ الْكِتابَ المنزل على نبيهم ويدعون الايمان والإذعان ومع ذلك لم يخلصوا عن الجهل والعناد ولم يتنبهوا على التوحيد المزيح لمطلق الخلاف والاختلاف المشعر على كمال العرفان والائتلاف بل لا فرق بينهم وبين سائر المشركين النافين للصانع إذ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الكتاب والنبي والدين والايمان مِثْلَ قَوْلِهِمْ بان الحق ما نحن عليه بلا كتاب ولا نبي لان الإنسان مجبول على ترجيح ما هو عليه سواء كان حقا او باطلا صلاحا او فسادا والأنبياء انما يرسلون ويبعثون ليميزوا لهم الحق عن الباطل والصالح عن الفاسد وهم مع بعثة الرسل إليهم صاروا سواء مع المشركين الذين لا كتاب لهم ولا نبي فَاللَّهُ المحيط بسرائرهم وضمائرهم يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ على مقتضى علمه بأعمالهم وأحوالهم يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد لجزاء الأعمال فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ على مقتضى آرائهم واهوائهم فيجازيهم بمقتضى ما يعلمون ويعملون به
وَمَنْ أَظْلَمُ على الله المظهر للعباد ليعرفوه ويتوجهوا نحوه في الأمكنة والبقاع المعدة للتوجه مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ المعدة الموضوعة أَنْ يُذْكَرَ اى لان يذكر فِيهَا اسْمُهُ اى يذكر المؤمنون فيها أسماءه الحسنى
وَقل للمؤمنين يا أكمل الرسل تسلية لهم وتفريحا لا تغتموا عن منعهم عنها وسعيهم في تخريبها ولا تحصروا توجهكم الى الله في الأمكنة المخصوصة بل لِلَّهِ المتجلى في الآفاق الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ هما كنايتان عن طرفي العالم فَأَيْنَما تُوَلُّوا وتوجهوا نحوه فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ اى ذاته إذ هو سبحانه بذاته منتهى عموم الأماكن والجهات مع انه خال عن جميعها محيط بكلها منزه عنها مطلقا إِنَّ اللَّهَ المتعالي عن مطلق التحديد والتقدير واسِعٌ أجل من ان يحيط به القلوب الا من وسعه الله بسعة رحمته كما اخبر سبحانه بقوله لا يسعني ارضى ولا سمائي بل يسعني قلب عبدى المؤمن عَلِيمٌ لا يغيب عن علمه شيء وحيث اتجهتم نحوه وتوجهتم اليه قد علمه سبحانه قبل توجهكم بل توجهكم انما هو منه فلا يتوجه اليه الا هو لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه
ومن غاية جهلهم بالله الواسع العليم الذي لا يسعه الأرض والسماء ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء انهم حصروه سبحانه في شخص وخيلوه جسما واثبتوا له لوازم الأجسام وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً كعيسى وعزير عليهما السّلام سُبْحانَهُ وتعالى الصمد الفرد الذي شانه انه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد عن ان يتخذ صاحبة وولدا بَلْ لَهُ مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَكذا مظاهر ما في الْأَرْضِ يظهر عليها ويتجلى لها إظهارا لكمالاته المرتبة على صفاته المندرجة في ذاته ونسبته تعالى الى جميع المظاهر في التكوين والخلق على السواء من غير تفاوت وعيسى وعزير عليهما السّلام ايضا من جملة المظاهر ولا شك ان مرجع جميع المظاهر والمجالى الى الظاهر والمتجلى إذ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ خاضعون منقادون معترفون على ما هم عليه قبل ظهورهم من العدم
مقرون بانه بَدِيعُ اى مبدع السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من العدم بلا سبق مادة ومدة وَمن بدائع ابداعه انه إِذا قَضى وأراد أن يوجد ويظهر أَمْراً من الأمور التي في خزائن علمه ولوح قضائه وكتابه المبين فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ إمضاء لحكمه وانفاذا لمقتضى ارادته كُنْ فَيَكُونُ بلا تراخ ولا مهلة بحيث لا يسع حرف التعقيب ايضا الا لضرورة التعبير والتقريب فالالفاظ بمعزل عن أداء سرعة نفوذ قضائه
وَلما ظهر واشتهر ان القرآن ناسخ لجميع الكتب السالفة مع كونه مصدقا لها ناطقا بان الكل منزلة من عند الله على الرسل الماضين الهادين الى طريق الحق وان حكم الناسخ ماض نافذ وحكم المنسوخ قد مضى ولم يبق اثره مع ان كلا منهما كلام الله المؤدى لحكمه حسب الزمانين قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ولا يعرفون ظهور الله وتجلياته سبحانه بحسب أسمائه الحسنى وصفاته العليا في كل آن وشأن لا كشان لا نقبل هذا الحكم ولا نؤمن به لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ مشافهة بان هذا ناسخ راجح وذاك منسوخ مرجوح أَوْ تَأْتِينا على يدي من يدعى الرسالة آيَةٌ ملجئة تدل على هذا الحكم بلا احتمال آخر وبعد ما لم يكن لا هذا ولا ذاك لا نقبله ولا نؤمن به ولا تستبعد منهم يا أكمل الرسل أمثال هذا القول الباطل إذ كَذلِكَ اى مثل ذلك الذي سمعت منهم
إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل ملتبسا بِالْحَقِّ بَشِيراً نحو طريق الحق وَنَذِيراً عن طرق الباطل وَان لم يبشروا ولم ينذروا بعد ما بلغت إليهم التبشير والإنذار لا تُسْئَلُ أنت عَنْ أعراض أَصْحابِ الْجَحِيمِ المجبولين على الكفر والعناد في اصل قطرتهم بل نحن نسئل عنهم وعن اسباب اعراضهم وانصرافهم في يوم الجزاء فنجازيهم على مقتضى أعمالهم
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى ابدا بمجرد المؤانسة واظهار المحبة وإرخاء العنان إياهم حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ التي ادعوا حقيتها بل قد حصروا الحقية والهداية عليها قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما على وجه التذكير وإمحاض النصح إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي يهدى به عباده هُوَ الْهُدى النازل من عنده الا وهو دين الإسلام فاتبعوه ليهتدوا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ يا أكمل الرسل أنت ومن تبعك بعد ما ايستم أنتم عن اتباعهم بكم أَهْواءَهُمْ الباطلة بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ من لدنا على هدايتك وإهداء من تبعك ما لَكَ وقت تعلق مشية الله بمقتك وهلاكك مِنَ غضب اللَّهِ الهادي للكل الى سواء السبيل مِنْ وَلِيٍّ يحفظك من الضلال وَلا نَصِيرٍ يدفع عنك النكال
ثم قال سبحانه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ واصطفيناهم من بين الأمم بإرسال الرسل وهم يَتْلُونَهُ اى الكتاب متأملين متدبرين لما يشتمل عليه من الأوامر والنواهي والمعارف والحقائق مراعين حَقَّ تِلاوَتِهِ بلا تحريف ولا تبديل أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وبما فيه من الاحكام والآيات والاخبار وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ بتحريفه وتبديله الى ما تهوى أنفسهم فَأُولئِكَ المحرفون المغيرون كتاب الله لمصلحة نفوسهم هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران المؤبد والحرمان المخلد وهم الذين قد خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة بسبب تحريف كتاب الله وتبديله ثم لما خاطب سبحانه بنى إسرائيل أولا بايفاء العهد الذي هو شعار اهل الايمان وما يتعلق بايفاء العهد من الرجوع اليه سبحانه والايمان بكتبه ورسله وعدم المبادرة الى الكفر وعدم استبدال آيات الله الدالة على ذاته علما وعينا وحقا بالمزخرفات الفانية التي لا مدار لها أصلا وعدم لبس الحق الظاهر المكشوف المحقق بالباطل الموهوم المعدوم وباقام الصلاة وإيتاء الزكاة المنبئين عن التوجه الفطري والرجوع الحقيقي الأصلي بالركوع والسجود والخشوع على وجه التذلل والانكسار الى ان يصل العبد بإتيانه الى مقام الفناء في ذاته سبحانه بل الى فناء الفناء لينعكس البقاء الحقيقي ثم عير سبحانه تعييرا فوق تعيير على الناسين نفوسهم في الغفلة من غير توجه ورجوع ثم امر سبحانه خلص عباده باستعانة الصبر المورث للتمكين والصلاة المشعرة بالتوجه التام المسقط لجميع المعاصي والآثام لتصفية ذواتهم ثم خاطبهم سبحانه ثانيا وأوصاهم بشكر نعم تفضيلهم وتكريمهم على بنى نوعهم بأنواع الكرامات الدينية والدنياوية ثم حذرهم وخوفهم عن يوم الجزاء على وجه المبالغة والتأكيد لتصفية اوصافهم المتعلقة لأمور معاشهم في النشأة الاولى
ثم لما ذكر سبحانه كفرانهم وطغيانهم وعدم انقيادهم بالكتب والرسل وتكذيبهم الأنبياء وقتلهم إياهم من خباثة
وَاتَّقُوا يَوْماً صفته انه لا تَجْزِي ولا تحمل نَفْسٌ مطيعة عَنْ نَفْسٍ عاصية شَيْئاً قليلا من أوزارها وَمع ذلك لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ فدية حتى تخلص بها عن بطش الله وَايضا لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ من شفيع حميم حتى يخفف عذابها لأجلها وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ من غيرهم في تحمل العذاب بل ما يحمل رزاياهم الا مطاياهم ومع هذه المبالغة والتأكيد قليلا منهم يؤمنون بخلاف الملة الحنيفية البيضاء الخليلية فإنهم بأجمعهم يرجى منهم الايمان بوحدانية الله ان أقاموا الصلاة اليه مخلصين الا المصلين الذينهم في صلاتهم ساهون بما يلهيهم من محبة المال والجاه عصمنا الله من ذلك
ثم لما ذكر سبحانه قصة بنى إسرائيل وانعامه عليهم بأنواع النعم وكفرانهم لنعمه من خبث طينتهم أراد أن يذكر طيب طينة الملة الخليلية وصفاء عقائدهم وتحملهم على الاختبارات والابتلاءات الإلهية فقال وَإِذِ ابْتَلى اى واذكر يا أكمل الرسل وقت ابتلاء أبيك إِبْراهِيمَ رَبُّهُ الذي قد ابتلاه واختبر خلته بأنواع البلاء من عذاب النار والمنجنيق وذبح الولد والاجلاء من الوطن وغير ذلك من البليات النازلة عليه بِكَلِماتٍ صادرة من ربه حين أراد اختباره فَأَتَمَّهُنَّ على الوجه المأمور بلا فتور ولا قصور تتميما لرتبة الخلة والخلافة ثم لما اختبر سبحانه خلة خليله بأنواع المحن والبلاء اظهر مقتضيات خلته إياه بأنواع العطاء حيث قالَ سبحانه إِنِّي من غاية محبتي وخلتي معك ايها الخليل الجليل جاعِلُكَ لِلنَّاسِ الناسين التوجه والرجوع الى إِماماً مقتدى لهم هاديا يهديهم الى طريق التوحيد ولما رأى ابراهيم عليه السّلام انبساط ربه معه وإحسانه اليه واظهار الخلة له قالَ وَاجعل يا رب مِنْ ذُرِّيَّتِي ايضا ائمة الى يوم الدين قالَ سبحانه تلطفا له وامتنانا عليه ومن ذريتك ايضا الصالحين منهم لا الفاسقين إذ لا يَنالُ عَهْدِي الذي هو خلعة نيابتي وخلافتي الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن مقتضى حدودي وعهودى
وَبعد ما جعلناه اماما للناس هاديا لهم الى طريق الحق هيأنا له طريق الهداية والإرشاد إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ اى الكعبة المعدة للتوجه إلينا بترك المألوفات وقطع التعلقات من الأهل والمال والوطن والاجتناب عن التصرفات المانعة عن التوجه الحقيقي من الرفث والفسوق والجدال والقتل وغير ذلك من الأمور المتعلقة للحياة المستعارة مَثابَةً موضع ثواب لِلنَّاسِ ليتقربوا إلينا ويتوجهوا نحونا فيها وَأَمْناً من جميع المخاوف الدينية إذا كان الطواف والزيارة على نية الإخلاص وَبعد ما جعلنا البيت مثابة للناس قلنا للزائرين لها والطائفين حولها اتَّخِذُوا ايها الزوار مِنْ مَقامِ خليلنا إِبْراهِيمَ مُصَلًّى موضع ميل وتوجه اقتداء له صلوات الرّحمن عليه وَبعد ما أمرنا الزوار بما أمرنا قد عَهِدْنا ووصينا إِلى خليلنا إِبْراهِيمَ وَذبيحنا إِسْماعِيلَ ابنه عليهما السّلام أَنْ طَهِّرا بالمظاهرة والمعاونة بَيْتِيَ المعد للطهارة الحقيقية عن جميع الشواغل لِلطَّائِفِينَ الذين قصدوا الميل الى جنابنا ببذل المهج
وَبعد ما امرناهما بطهارة البيت واقدرناهما على امتثال المأمور اذكر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ منيبا إلينا داعيا راجيا في دعائه النفع العام رَبِّ اجْعَلْ بيتك هذا بَلَداً آمِناً ذا أمن وأمان للمتوجهين إليها والعاكفين ببابها عن العلائق المانعة عن التوجه المعنوي وَبعد ما توجهوا نحو بيتك ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ المترتبة على سرائر تعيينه وتخصيصه ووجوب طوافه على المستطيعين المنهمكين في الشواغل المانعة عن التوجه الى الكعبة الحقيقية الممثلة عنها هذا البلد ولما دعا ابراهيم بهذا الدعاء المجمل المطلق لهم فصل سبحانه اجابة دعائه بقوله مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ اى المتوجهين الزائرين بِاللَّهِ الواحد الأحد تعبدا وانقيادا وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المحقق الوقوع إذعانا وتصديقا فلهم ما دعوت لهم من انواع الإفضال والانعام جزاء لهم واجابة لدعائك إياهم ثم قالَ سبحانه وَمَنْ كَفَرَ منهم وجحد بعد ما وضح لهم طريق الحق فَأُمَتِّعُهُ متاعا قَلِيلًا من مفاخرة الأقران والاستكبار على الاخوان وتفرج البلدان ثُمَّ أَضْطَرُّهُ بعد الجحود والإنكار إِلى عَذابِ النَّارِ بل أشد منه الا وهو حرمانه عن الفوائد المترتبة على الطواف والزيارة المنبئة عن الوصول الى مرتبة العبودية المخلصة عن جهنم الإمكان الذي هو مصير اهل الكفر والطغيان وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم إذ لا نجاة لاحد منه عصمنا الله وعموم عباده منه بمنه وجوده
وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ يَرْفَعُ ويحمل جدك إِبْراهِيمُ الاواه المنيب الْقَواعِدَ اى التكاليف الشاقة الناشئة مِنَ إنشاء الْبَيْتِ المعد للاهتداء الى كعبة الوصول من التجريد عن لوازم الحيوة ومقتضيات الأوصاف المترتبة عليها وترك المألوفات وقطع التعلقات العائقة عن الموت الإرادي الموصل الى مقر الوحدة المفنية للكثرة الموهومة المستتبعة للبعد والفراق عن فضاء التوحيد وَأبوك ايضا إِسْماعِيلُ الراضي بقضاء الله المرضى بعموم ما جرى عليه من البلاء واذكر ايضا دعائهما ومناجاتهما مع ربهما بعد ما احتملا المتاعب والمشاق بقولهما رَبَّنا يا من ربانا بأنواع المنح والعطايا التي ليست في وسعنا وقدرتنا تَقَبَّلْ مِنَّا ما اقدرتنا عليه إِنَّكَ أَنْتَ القادر المقتدر بجميع حاجاتنا السَّمِيعُ المجيب لعموم مناجاتنا قبل لقائنا إليك يا مولانا الْعَلِيمُ بنياتنا واخلاصنا فيها
رَبَّنا وَاجْعَلْنا بفضلك مُسْلِمَيْنِ لَكَ مفوضين جميع أمورنا إليك مخلصين فيها ربنا وَاجعل ايضا مِنْ ذُرِّيَّتِنا المنتسبين إلينا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ مطيعة لأمرك وَأَرِنا واكشف لنا ولهم مَناسِكَنا اى سرائر أعمالنا التي نعملها على مقتضى أمرك وتكليفك وَان أخطأنا وانصرفنا عما امرتنا به تُبْ عَلَيْنا واعف عما جرى علينا من لوازم بشريتنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرجاع للعباد العاصين الخاطئين عن خطاياهم الرَّحِيمُ بقبول توبتهم وان نقضوها مرارا وتابوا عنها تكرارا ثم لما كان الغالب عليهما عليهما السّلام توحيد الصفات والأفعال دعوا ربهما متضرعين ان يبعث من ذريتهما من يغلب عليه توحيد الذات
فقالا رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ اى في الامة المسلمة المسلمة رَسُولًا مِنْهُمْ هاديا إلى توحيد الذات يَتْلُوا عَلَيْهِمْ أولا آياتِكَ الدالة على وحدة ذاتك ظاهرا وَثانيا يُعَلِّمُهُمُ ويفهمهم الْكِتابَ المبين لسرائر الآيات وَثالثا يكشف ويوضح لهم الْحِكْمَةَ التي هي عبارة عن سلوك طريق التوحيد الذاتي وَ
وَبعد ما قد جعلنا الخليل الجليل اماما مقتدى للأنام هاديا لهم الى دار السّلام مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ اى من يعرض ويميل عن ملته الحنيفية الطاهرة عن الميل الى الآراء الباطلة المستتبعة لانواع الجرائم والآثام البيضاء المنورة لقلوب اهل التفويض والتسليم المبتنية على محض الوحى والإلهام إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ اى لا ينصرف عن ملته الغراء الا من ترك نفسه في ظلمة الإمكان من غير رجوع الى فضاء الوجوب ليتبع طريقه الموصل اليه وَالله لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ وانتخبناه من بين الأنام فِي الدُّنْيا للرسالة والنبوة ليرشد عموم العباد الى طريق التوحيد وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ للتحقق والوصول الى ينبوع بحر الوجود التي هي الوحدة الذاتية لا على وجه الاتحاد والحلول بل بطريق التوحيد الذاتي المسقط لعموم الاعتبارات والإضافات واذكر يا أكمل الرسل وقت
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ اختبارا له أَسْلِمْ اى توجه الى حسب علمك وكشفك منى قالَ على مقتضى علمه بربه أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ لأنه قد انكشف له ربه من ذرات الكائنات لذلك لم يخصصه ولم يقيده بمظهر دون مظهر
وَوَصَّى بِها اى بالتوحيد الذاتي إِبْراهِيمُ بَنِيهِ إرشادا لهم الى طريق الحق ووصى بها ايضا بنوه بنيه وَايضا قد وصى بها يَعْقُوبُ بنيه بما وصى به أبوه وجده وقال اى كل منهم لأبنائهم يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ اى دين الإسلام المشتمل على توحيد الذات والصفات والأفعال فَلا تَمُوتُنَّ اى فلا تكونن في حال من الأحوال عند الموت إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ موحدون بالتوحيد الذاتي ثم لما اعتقد اليهود ان يعقوب وبنيه كانوا هودا والنصارى قد اعتقدوهم نصارى أراد سبحانه ان يظهر فساد عقائدهم فقال اتسمعون ايها اليهود والنصارى يهودية يعقوب وبنيه ونصرانيتهم ممن انزل عليكم من الرسل والكتب
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ حضراء وقت إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ لا هذا ولا ذاك بل كنتم مفترين عليهم جاهلين بحالهم اذكر لهم يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ يعقوب حين اشرف على الموت لِبَنِيهِ إرشادا لهم ماذا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي يا بنى قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً أحدا صمدا فردا وترا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وَنَحْنُ لَهُ لا لغيره من الآلهة الباطلة مُسْلِمُونَ منقادون متوجهون قل يا أكمل الرسل للناس الذين بعثت فيهم قولا مطلقا ناشئا عن محض النصح والإرشاد خاليا عن المكابرة والعناد قالعا عرق عموم التقليدات والتخمينات الراسخة في قلوب العباد
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ومضت لَها ما كَسَبَتْ من العزائم الدينية وعليها ما اكتسبت من الجرائم المتعلقة به بحسب تلك الحال والزمان وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ من فوائد الايمان والإسلام وعليكم ما اكتسبتم من غوائل الكفر والطغيان حسب زمانكم هذا إذ كل منكم ومنهم لم يجز الا بما عمل وكسب وَلا تُسْئَلُونَ ولا تؤاخذون أنتم عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ من السيئات كما لا تثابون من حسناتهم بل كل امرئ بما كسب رهين
وَان قالُوا اى كل من الفريقين لكم كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى كي تَهْتَدُوا الى طريق الحق قُلْ لهم نحن لا نتبع آراءكم الفاسدة وأهواءكم الباطلة بَلْ نتبع مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً مائلا عن الآراء الباطلة مبرأ منها وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بالله باعتقاد الوجود
بل قُولُوا لهم في مقابلة قولهم ايها المؤمنون المتبعون لملة ابراهيم إرشادا لهم واسماعا إياهم طريق الحق قد آمَنَّا بِاللَّهِ الواحد الأحد المتجلى في الآفاق بالاستحقاق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وَآمنا ايضا ما أُنْزِلَ إِلَيْنا بوسيلة رسولنا من الكتاب المبين لمصالحنا المتعلقة بمبدئنا ومعادنا في زماننا وَآمنا ايضا بجميع ما أُنْزِلَ إِلى متبوعينا الماضين إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ المورثين لملتنا وديننا وَكذلك قد آمنا بعموم ما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى من الكتب والآيات الدالة على توحيد الذات والصفات والأفعال وصدقنا جميع ما جاء به هؤلاء الرسل من عند الله وَبالجملة انا قد آمنا بجميع ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لهداية الضالين من عباده الى توحيده لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بالإيمان والإنكار بل نؤمن بجميعهم ونصدقهم لكونهم هادين الى توحيد الله وان تفاوتت طرقهم وَنَحْنُ لَهُ اى لتوحيد الحق مُسْلِمُونَ منقادون مسلمون متوجهون وان بين بطرق متعددة وكتب مختلفة بحسب الأعصار والأزمان المتوهمة من تجليات الذات حسب الأسماء والصفات
فَإِنْ آمَنُوا بعد ما سمعوا منكم هذه الأقوال الحقة بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ بعد سماعكم طريق الايمان من رسولكم فَقَدِ اهْتَدَوْا الى طريق التوحيد كما اهتديتم وَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن أقوالكم صفحا واعراضا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ اى ما هم الا في خلافهم وشقاقهم وعداوتهم الاصلية الجبلية ولا تبالوا بهم وبخلافهم وشقاقهم فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ المحيط بك يا أكمل الرسل وبهم المطلع على ما في سرائرهم وضمائرهم مؤنة خلافهم وشقاقهم وَلا تترددوا ايها المؤمنون في كفايته سبحانه إذ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الباطلة الكاذبة الْعَلِيمُ بكفرهم ونفاقهم الكامنة في قلوبهم ثم قولوا لهم بعد ما أظهروا الخلاف والشقاق ما جئنا به نحن من التوحيد الحاصل من متابعة الملة الحنيفية البيضاء
ليس الا صِبْغَةَ اللَّهِ المحيط بنا انما صبغ بها قلوبنا لنهتدي الى صفاء تجريده وزلال تفريده وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً حتى نتبعه إذ لا وجود لغيره ولا رجوع الا اليه وَإذا لم يكن لغيره وجود نَحْنُ لَهُ لا لغيره من العكوس والاظلال عابِدُونَ عائدون راجعون رجوع الظل الى ذي الظل والصور المرئية في المرآة الى الرائي ثم لما طال نزاع احبار اليهود مع المؤمنين ومجادلتهم مع الرسول عليه السّلام امر سبحانه لحبيبه بان يتكلم معهم بكلام ناش عن لب الحكمة ومحض المصلحة
فقال قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما دالا على توحيد الذات مسقطا لجميع الإضافات أَتُحَاجُّونَنا وتجادلوننا فِي اللَّهِ المظهر للكل من كتم العدم باشراق تجليات أوصافه فيه ورشه من نوره عليه وَالحال انه ليس له اختصاص ببعض دون بعض بل هُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ بإظهار ذواتنا وذواتكم من العدم وَبعد إظهاره إيانا لَنا أَعْمالُنا اى جزاء صالحها وفاسدها وَلَكُمْ ايضا أَعْمالُكُمْ الصالحة والفاسدة لا تسرى منكم إلينا شيء ولا منا إليكم شيء وَنَحْنُ المتبعون لملة ابراهيم لَهُ اى لله المظهر الظاهر بجميع الأوصاف والأسماء لا لغيره من الاظلال الهالكة المستهلكة في حدود ذواتها مُخْلِصُونَ متوجهون على وجه الإخلاص المنبئ عن المحبة المؤدية الى الفناء في ذاته جعلنا الله من خدام احبائه المخلصين أيسلم اليهود والنصارى ويذعنون بعد ما أوضحنا لهم انا على ملة ابراهيم دونهم
أَمْ يعاندون وتَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى تابعين لملتنا فان كابروا وعاندوا وقالوا مثل هذا قُلْ لهم يا أكمل الرسل مستفهما موبخا على وجه التنبيه أَأَنْتُمْ
تِلْكَ أُمَّةٌ صالحة او طالحة قَدْ خَلَتْ ومضت لَها في النشأة الاخرى جزاء ما كَسَبَتْ من الحسنات والسيئات الصادرة منهم في النشأة الاولى وَلَكُمْ ايضا فيها جزاء ما كَسَبْتُمْ وَبالجملة أنتم لا تُسْئَلُونَ في يوم الجزاء عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ من الصالحات والفاسدات كما لا يسئلون أولئك عن أعمالكم بل كل منكم ومنهم مجزى بضيعته مقضي ببضاعته نعوذ بك من عدلك يا دليل الحائرين ثم لما كان الغالب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أوائل حاله وسلوكه توحيد الصفات والأفعال الموروثين له عن آبائه الكرام صلوات الله عليهم وكان صلّى الله عليه وسلّم تابعا لهم في قبلتهم التي كانوا عليها ايضا صورة وحين ظهر وانكشف له صلّى الله عليه وسلّم توحيد الذات وغلبت عليه تجلياتها وإشراقها استغرق ووله بل قد فنى واضمحل وتلاشت فيها هويته وبعد ما أفاق وتنزل عن ولهه واستغراقه خص له سبحانه قبلة مخصوصة ووجهة معينة صورة لتكون آية دالة على قبلته الحقيقية المعنوية ثم لما امره سبحانه بتوجهها واستقبالها وهو في الصلاة الى القبلة التي كان عليها قبل الأمر وتحول نحوها فيها أخذ المنافقون في الغيبة واشتغلوا بالنفاق ونسبوه الى ما هو منزه عنه واغتنموا الفرصة لمقابلته وصمموا العزم لمجادلته أراد سبحانه ان ينبه نبيه بما هم عليه من النفاق والشقاق في امر القبلة على وجه الاخبار
فقال سَيَقُولُ السُّفَهاءُ المعزولون عن مقتضى العقل الجزئى المنشعب من العقل الكل المتفرع عن الاسم العليم مِنَ النَّاسِ المحجوبين بظلمة التعينات عن نور الوجود قولا ناشئا عن محض الغفلة والسفاهة على سبيل الاستهزاء وهو قولهم ما وَلَّاهُمْ واى شيء حولهم وصرفهم اى المؤمنين عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها من قبل مع انها قبلة من يدعون الانتساب إليهم والاقتداء بملتهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل على وجه التنبيه والإرشاد بلسان التوحيد الذاتي بعد انكشافك به لِلَّهِ المنزه عن مطلق الأماكن والجهات المتجلى فيها الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ اى جميع مما يتوهم من الزمان والمكان والجهة والكل انما هي مظاهر ذاته ومجالي أسمائه وصفاته يَهْدِي بحبه الذاتي مَنْ يَشاءُ من عباده المتوجهين نحو جنابه إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى وحدة ذاته من اى مكان كان وفي اى جهة وزمان وآن وشأن إذ هو محيط بكلها
وَكَذلِكَ اى مثل الصراط المستقيم الموصل الى وحدة ذاتنا المعتدل المتوسط بين الطرق قد جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً معتدلة قابلة للخلافة والنيابة في تولية الأمور بين عموم العباد لِتَكُونُوا شُهَداءَ قوامين بالقسط عَلَى النَّاسِ الغافلين عن التوجه إلينا وَكذلك أرسلنا إليكم رسولا منكم حتى يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً حفيظا لكم يحفظكم ويمنعكم عن كلا طرفي الإفراط والتفريط في عموم ما صدر عنكم من الأمور فعليكم ان تلازموا وتداوموا لامتثال
فقال سبحانه قَدْ نَرى نطلع ونعلم حين انكشافك بوحدة ذاتنا تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ اى نحو عالم الأسماء والصفات التي هي منبع الوحى والإلهامات منتظرا للوحى المتضمن للتوجه الصوري فَلَنُوَلِّيَنَّكَ بعد انكشافك المعنوي قِبْلَةً صورية تَرْضاها أنت بها لكونها مناسبة لقبلتك المعنوية مشيرة إليها فَوَلِّ يا أكمل الرسل بعد ما عينا لك قبلة معينة وَجْهِكَ الذي به مواجهتك صورة شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ اى جهة المسجد الذي يحرم فيه التوجه الى غير الذات البحت الخالص عن عموم الإضافات والاعتبارات مطلقا وَلا تختص هذه الكرامة لك بل تسرى منك الى جميع من تبعك من المؤمنين حَيْثُ ما كُنْتُمْ أنت وهم من مراتب الوجود ومقامات الشهود وبعد ما سمعتم ما سمعتم من الكرامة الإلهية لكم فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ الفائضة لكم ايها المؤمنون المخلصون من ربكم شَطْرَهُ لتكونوا من زمرة المهتدين المنكشفين بوحدة ذاته سبحانه وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود والنصارى لَيَعْلَمُونَ يقينا بشهادة كتبهم ورسلهم أَنَّهُ اى شأن انكشافك وتحققك يا أكمل الرسل بالتوحيد الذاتي الْحَقُّ الثابت المنزل مِنْ رَبِّهِمْ الذي رباهم بإعطاء العقل المميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل ومع ذلك ينكرون لك ولدينك وكتابك عنادا ومكابرة وَمَا اللَّهُ المطلع على عموم ما جرى في صدور عباده بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ من الإخفاء والستر سيما بعد الوضوح والكشف
وَالله لَئِنْ أَتَيْتَ أنت يا أكمل الرسل الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ نازلة لك دالة على توحيد الذات الذي هو مقصدك الأقصى ومطلبك الأعلى ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ لشدة انهماكهم في الغفلة والضلال وَما أَنْتَ ايضا بعد ما انكشف لك الأمر يقينا بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ التي توجهوا إليها ظنا وتخمينا وَايضا ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لتفاوت ظنونهم وآرائهم وَالله لَئِنِ اتَّبَعْتَ أنت يا أكمل الرسل أَهْواءَهُمْ الباطلة مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ اليقيني المطابق لليقين العيني بل للحقى إِنَّكَ مع اصطفائنا إياك واجتبائنا لك إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ المعرضين عنا بعد ما وفقناك وأرشدناك الى الكعبة الحقيقية وهذا تهديد لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد تمهيد وحث له صلّى الله عليه وسلّم لدوام التوجه على ما انكشف له من توحيد الذات وتحريض للمؤمنين على متابعته صلّى الله عليه وسلّم في دوام التوجه والميل اليه ومثله
ثم قال سبحانه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ المبين لهم طريق توحيد الصفات والأفعال المنبه لهم على توحيد الذات وعلى من يظهر به هم يَعْرِفُونَهُ اى النبي الموعود الذي جاء به بالأوصاف والخواص المبينة في كتابهم كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ الذين هم خلقوا من أصلابهم بل أشد من ذلك لإمكان الخلاف في أبنائهم دونه وَمع ذلك إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ عنادا واستكبارا لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ الثابت في كتابهم وَهُمْ ايضا يَعْلَمُونَ حقيته جزما وما يكتمونه إلا مكابرة وعنادا
وبالجملة الْحَقُّ الذي أنت قد ظهرت به ونسخت عموم الأديان والاحكام بسببه انما هو ناش مِنْ رَبِّكَ الذي أظهرك مظهرا كاملا لذاته فَلا تَكُونَنَّ أنت ومن تبعك مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين في توحيد الذات كما كنتم قبل الانكشاف
اعلموا ان كُلٍ
اى لكل فرد فرد من افراد الأمم جْهَةٌ
مقصد وقبلة معينة من الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهيةوَ مُوَلِّيها
حسب اقتضائها الذاتي وغلبتها الحقيقيةاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
اى بادروا ايها المحمديون الى منشأ جميع الخيرات ومنبع عموم المبرات الناشئة من الأسماء والصفات الا وهو الذات الوحدانية المستجمعة لجميعهايْنَ ما تَكُونُوا
من مقتضيات الأوصاف والأسماء الذاتيةأْتِ بِكُمُ اللَّهُ
اى الذات الجامعة لهامِيعاً
مجتمعين بعد رفع التعينات الناشئة من الصفات نَّ اللَّهَ
المتجلى بالأوصاف الذاتيةلى كُلِّ شَيْءٍ
من المظاهر المتعينة المتكثرة بحسب المبدأ والاسم الظاهردِيرٌ
على رفع التعينات المسقط لجميع الكثرات بحسب المعاد والاسم الباطن
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ أنت يا أكمل الرسل عن مقتضى كعبة الذات بغلبة حكم بعض الصفات فَوَلِّ وَجْهَكَ منها متذكرا شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وكعبة الذات المحرم فيه التوجه الى السوى والغير مطلقا وَإِنَّهُ اى شأن التوجه نحوه لَلْحَقُّ اى الثابت النازل مِنْ رَبِّكَ الذي رباك بمقتضى جميع أوصافه وأسمائه وَاعلم انه مَا اللَّهُ المطلع على عموم السرائر والخفايا بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أنت ومن اتبعك وعلى مقتضى علمه تجازون أنتم في يوم الجزاء
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ أنت يا أكمل الرسل عن مقتضى توحيد الذات بتكفير بعض المظاهر وبترك ما يستقبلونه أولئك المستقبلون فَوَلِّ أنت وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الجامع لجميع المظاهر ونحو قبلة الذات وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ أنتم ايها المؤمنون فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ اقتداء لرسولكم لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ المعترضين عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ غلبة بادعائكم التوحيد الذاتي وإخراجكم بعض المظاهر منه إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بنفي ذات الله وصفاته الا وهم الدهريون القائلون بوجود الطبائع بلا فاعل خارجى فإنهم لا يلزمون ولا ينزجرون بأمثاله فَلا تَخْشَوْهُمْ ولا تخافوا منهم في التوجه الى الكعبة الحقيقية ولا تبالوا بهم وبهذياناتهم بل وَاخْشَوْنِي في عدم التوجه الى حتى لا تحرموا عن مقتضيات بعض الأوصاف وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي الواصلة حسب أوصافي وأسمائي واوفرها عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الى ذاتى بسببها ومن إتمام نعمنا عليكم انا قد هديناكم الى جهة الكعبة الحقيقية وأمرناكم بالتوجه نحوها والعكوف حولها
كَما أَرْسَلْنا من مقام جودنا فِيكُمْ رَسُولًا هاديا لكم ناشئا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ أولا آياتِنا اى آثار اوصافنا الدالة على وحدة ذاتنا وَثانيا يُزَكِّيكُمْ من الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة الصادرة من العقل الجزئى الغير المتصل بعقل الكل وَثالثا يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ الموضح للدلائل والآيات المبين للآراء والمعتقدات المميز الفاصل بين صحيحها
فَاذْكُرُونِي ايها المؤمنون الموحدون المحمديون بالميل الدائم والتوجه التام الصادق أَذْكُرْكُمْ انا إياكم بنفثات رحمانية ونسمات روحانية وَاشْكُرُوا لِي باسناد النعم الى وَلا تَكْفُرُونِ باسنادها الى الوسائل والأسباب العادية
ثم انه لما بالغ سبحانه في التنبيه والإرشاد إياهم وناداهم رجاء ان يتنبهوا له مع ان فطرتهم الاصلية مجبولة على التوحيد الذاتي فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الذات اسْتَعِينُوا لتحققه وانكشافه بِالصَّبْرِ على ما جرى عليكم من البليات المنفرة لنفوسكم وَالصَّلاةِ اى الميل الدائم الى جنابه بجميع الأعضاء والجوارح إِنَّ اللَّهَ المتجلى بجميع أوصاف الكمال مَعَ الصَّابِرِينَ المتحملين للبلاء الى ان كوشفوا به سبحانه رب اجعلنا من زمرة عبادك الصالحين الصابرين
وَمما يستعان به على تجرع مرارة الصبر الى ان ينكشف سره الجهاد ولذلك لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ طالبا الوصول الى بابه أَمْواتٌ كالأموات الاخر بَلْ هم أَحْياءٌ بالحيوة الحقيقية باقون بالبقاء الأزلي الأبدي الإلهي وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ أنتم بحياتهم ما دمتم محجوبين بالحيوة المستعارة المستهلكة الدنياوية وما هي في الحقيقة الا عكس منها موت في نفسها
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ والله لنختبرن ولنجربن تمكنكم ورسوخكم في توحيد الذات بِشَيْءٍ قليل مما يشعر بالكثرة والاثنينية مِنَ الْخَوْفِ الحاصل من المنفرات الخارجية مثل الحرق والغرق والعدو وغير ذلك وَالْجُوعِ الحاصل من المنفرات الداخلية كالحرص والأمل والبخل والحسد وغيرها وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ التي تميل قلوبكم إليها بالطبع وَالْأَنْفُسِ التي تظاهرون وتفتخرون بها من الأولاد والاخوان والعشائر والأقران وَالثَّمَراتِ المترتبة على الأموال والأولاد من الجاه والثروة والمظاهرة والغلبة على الخصماء وغير ذلك وَبَشِّرِ يا أكمل الرسل الصَّابِرِينَ من اهل التوحيد
يعنى الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا بلسان الجمع إِنَّا لِلَّهِ اى نحن اظلال الله الواحد الأحد المتجلى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا في النشأة الاولى وَإِنَّا بعد انقضاء نشآتنا هذه إِلَيْهِ لا الى غيره من العكوس والاظلال راجِعُونَ عائدون صابرون رجوع الظل الى ذي الظل
وبالجملة أُولئِكَ السعداء المتمكنون في مقر التوحيد المستمسكون بحبل التفويض والتسليم عَلَيْهِمْ دائما متواليا صَلَواتٌ جذبات وخطفات ناشئة من سحائب اللطف والكرم الإلهي مشتملة على مياه العلوم اللدنية المترشحة المنشعبة من بحر الذات الجارية على جداول الأسماء والصفات الفائضة الى فضاء الظهور لا نبات المعارف والحقائق في أراضي الاستعدادات الموصلة الى النعيم المقيم الدائم واللذة المستمرة الباقية ازلا وابدا نازلة لهم دائما مِنْ رَبِّهِمْ الذي أوصلهم الى مقر عزه وَرَحْمَةٌ فائضة شاملة لهم ولغيرهم حسب وفورها وسعتها وَبالجملة أُولئِكَ السعداء الواصلون هُمُ الْمُهْتَدُونَ الى المبدأ الحقيقي والمنزل الأصلي المقصورون على الهداية والفلاح الأبدي السرمدي
ثم لما نبه سبحانه الى الكعبة الحقيقية بالكعبة الصورية أراد أن ينبه على اماراتها بشعائرها وعلاماتها فقال إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ اى الجبلان المعروفان اللذان هما كنايتان عن نشأتى الظهور والبطون مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ وامارات توحيده فَمَنْ حَجَّ وقصد الْبَيْتَ الصوري الممثل من البيت المعنوي والمنزل الحقيقي والمرجع
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ويسترون ما أَنْزَلْنا في التورية مِنَ الْبَيِّناتِ الدالة على ظهور نبي يغلب عليه توحيد الذات وَالْهُدى المشير الى انه مبعوث الى كافة البرايا ناسخ لجميع الأديان إذ به يتم امر التكميل والإرشاد ولا بعثة بعد ظهوره بل ختم به صلى الله عليه وسلّم امر الإرسال والإنزال والتديين والتشريع والحال ان كتمانهم مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ وأوضحناه لِلنَّاسِ الناظرين فِي الْكِتابِ المستفيدين منه المتأملين فيه يعنى التورية أُولئِكَ الكاتمون المفرطون يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ اى يطردهم ويبعدهم عن عز حضوره لخروجهم عن مقتضى العبودية بكتمان ما أراد الله ظهوره وَايضا يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ المتحققون باعتدال العبودية المواظبون على ما أمروا حسب وسعهم وطاقتهم
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا منهم عن الكتمان ورجعوا عن البغي والعدوان وأظهروا جميع ما ظهر لهم ولاح لديهم من آيات كتابهم وَأَصْلَحُوا بالإظهار عموم ما أفسدوا على نفوسهم بالكتمان وَبَيَّنُوا ما بينهم الله في كتابه من وصف نبيه المبعوث الى كافة الأمم وعامة البرايا فَأُولئِكَ التائبون المخلصون المصلحون المنيبون المبينون عموم ما ظهر لهم في كتابهم أَتُوبُ عَلَيْهِمْ من العصيان ان اقبل منهم توبتهم وأتجاوز عن سيئاتهم وزلاتهم وَكيف لا أَنَا التَّوَّابُ الرجاع لهم عما جرى عليهم من العصيان والكفر والطغيان الرَّحِيمُ لهم بعد ما رجعوا الى مخلصين مخبتين
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بكتمان ما بين الله في كتابه وَماتُوا وَهُمْ عند موتهم كُفَّارٌ كاتمون ما في كتاب الله من أوصاف رسوله أُولئِكَ المصرون المعاندون في امر الكتمان سيما بعد الظهور مكابرة ينزل عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ طرده وتبعيده دائما مستمرا منحصرا عليهم غير منفك عنهم كما تقتضيه الجملة المعبرة عنه بخلاف اللعنة السابقة وَتنزل عليهم ايضا لعنة الْمَلائِكَةِ المستغفرين لمن تاب اللاعنين لمن كابر وأصر وَايضا لعنة النَّاسِ العارفين بحقوق الله المواظبين على أداء آدابه المعتكفين حول بابه أَجْمَعِينَ مجتمعين متفقين ملازمين عليها دائما لخروجهم عن ربقة العبودية
خالِدِينَ فِيها بحيث لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ المترتب عليها لحظة ليتنفسوا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ اى يمهلون ساعة ليعتذروا
وَإِلهُكُمْ المظهر لكم ايها المؤمنون من كتم العدم واله الكافرين الكاتمين إِلهٌ واحِدٌ لا تعدد فيه ولا اثنينية في ذاته بل لا إِلهَ في الوجود ولا موجود حقيقة إِلَّا هُوَ الوجود الحقيقي الحقي إذ لا كثرة في الوجود المطلق بل هو وحداني الذات فردانى النعت والصفات ليس كمثله شيء ولا دونه حي الرَّحْمنُ المبدئ لكم ولهم عامة باشراق أنوار تجلياته ومد اظلال ذاته على مرآة العدم في النشأة الاولى الرَّحِيمُ المعيد لكم خاصة الى مبدئكم ومقصدكم الحقيقي في النشأة الاخرى
ثم لما كان لوحدته سبحانه آيات ودلائل واضحات لمن تأمل في عجائب مصنوعاته وبدائع مبدعاته ومخترعاته المترتبة على أسمائه وصفاته المستندة الى وحدة ذاته أشار سبحانه الى نبذ منها إرشادا وتنبيها فقال إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ اى اظهار العلويات التي هي عالم الأسماء والصفات المؤثرة الفاعلة
وَمع ظهور لوامع هذه الآيات الواضحات وشروق أنوار هذه الشواهد العينية وبروق اشعة تلك الواردات الغيبية الدالة على وحدة الذات مِنَ النَّاسِ المجبولين على فطرة التوحيد القابلين لها مَنْ يَتَّخِذُ منهم جهلا وعنادا مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المفنى للكثرة والتعدد مطلقا أَنْداداً أمثالا أحقاء للالوهية والربوبية مستحقين للعبادة بحيث يُحِبُّونَهُمْ اى كل منهم معبودهم كَحُبِّ اللَّهِ الجامع للكل لحصر كل طائفة منهم مرتبة الألوهية في مظهر مخصوص وسموه معبودا مستحقا للعبادة ورجعوا نحوه في عموم الوقائع والملمات لذلك كفروا بالله وَالَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الله هم أَشَدُّ حُبًّا منهم لِلَّهِ المحيط للكل الحقيق بالحقية لحصرهم الألوهية والربوبية والتحقق والوجود والهوية والذات والحقيقة والصفات كلها الى الله لا الى غيره إذ لا غير في الوجود معه بل لا اله الا هو وكل شيء هالك الا وجهه له الحكم في النشأة الاولى واليه الرجوع في النشأة الاخرى أذقنا بلطفك حلاوة اليقين وارزقنا محبة المؤمنين الموقنين وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا في النشأة الاولى حين خرجوا عن طريق التوحيد وانصرفوا عن الصراط المستقيم واتخذوا أمثالا لله يحبونهم كحب الله تقليدا لرؤسائهم ما يرون وقت إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ النازل عليهم ولرؤسائهم في النشأة الاخرى باتخاذهم آلهة باطلة من أَنَّ الْقُوَّةَ الكاملة والقدرة الشاملة الجامعة والحول المطلق لِلَّهِ المتفرد بالمجد والبهاء جَمِيعاً يومئذ وَمن أَنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء شَدِيدُ الْعَذابِ صعب الانتقام سريع الحساب يعنى لو ظهر لهم ولاح لديهم في الدنيا ما سيظهر ويلوح عليهم في النشأة الاخرى من ان الحول والقوة والعزة والعظمة لله بالاستقلال والانفراد بلا مشاركة ولا مظاهرة أصلا لتبرءوا البتة عن آلهتهم ومتبوعيهم في الدنيا ايضا كما تبرؤا عنهم في الآخرة
اذكر لهم يا أكمل الرسل وقت إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا من الأنداد والأمثال مِنَ
وَبعد ما ايسوا من الانتقام قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا نادمين متحسرين متمنين لَوْ أَنَّ لَنا ولهم كَرَّةً مكررة في النشأة الاولى مرة اخرى فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ فيها تلافيا وتداركا لما مضى من اتخاذنا إياهم آلهة كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا أولئك في هذه النشأة الاخروية وبالجملة ما ينفعهم هذه الندامة والتمني بل ما يزيدهم إلا غراما فوق غرام وأواما غب أوام كَذلِكَ اى مثل عذابهم على قدر اتخاذهم يُرِيهِمُ اللَّهُ اى يحضرهم أَعْمالَهُمْ الفاسدة السابقة كلها ويعذبهم عليها فردا فردا ويقول لهم ماذا تقولون فيه وما لهم في تلك الحالة سوى حَسَراتٍ نازلة عَلَيْهِمْ من تذكر سوء عملهم وقبح صنيعهم وهذا من أسوأ العذاب وأشد العقاب أعاذنا الله من ذلك وَبالجملة ما هُمْ لا التابعون ولا المتبوعون بِخارِجِينَ ناجين ابدا مِنَ النَّارِ اى نار البعد والإمكان المورث لهم من اصناف البغي والعدوان المورث لانواع الخيبة والخذلان اجرنا من النار يا مجير ثم لما بين سبحانه طريق توحيده على خلص عباده المتوجهين نحو جنابه تطهيرا لبواطنهم عن خبائث الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة أراد أن يرشدهم الى تهذيب ظواهرهم ايضا وتحليتهم بالخصال الحميدة الجميلة والأخلاق المرضية المعتدلة ليكون ظاهرهم عنوانا لباطنهم
فقال مناديا لهم إشفاقا وإرشادا يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على فطرة التوحيد كُلُوا وتناولوا من جميع ما خلق لكم فِي الْأَرْضِ لتقويم مزاجكم وتقويته حَلالًا إذ الاصل في الأشياء الحل ما لم يرد على حرمته الشرع طَيِّباً مما يحصل بكد يمينكم وعرق جبينكم إذ لا رزق أطيب منه وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ اى لا تقتدوا ولا تقتفوا في تحصيل الرزق اثر وساوس شياطين الأهواء والآراء المضلة عن طريق الحق المفضية الى سبيل الظلم والعدوان ولا تغتروا بتمويهات الشيطان وتزييناته «٢» إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة عند ذوى البصائر الناظرين بنور الله المقتبسين من مشكاة توحيده
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ ويغرركم بِالسُّوءِ اى الخصلة الذميمة وَالْفَحْشاءِ الظاهرة القبيحة ليخرجكم عن حدود الله الموضوعة فيكم لتهذيب ظاهركم وَأَنْ تَقُولُوا بعد ما خرجتم عن حدود الشرع عَلَى اللَّهِ المتوحد المتفرد المنزه في ذاته ما لا تَعْلَمُونَ لياقته في حقه من حصره في الأنداد والأشباه واثبات الولد له والمكان والجهة والجسم تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اى للمتبعين خطوات الشيطان امحاضا للنصح وتحريكا لحمية الفطرة الاصلية اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على نبيه من الهدى والبينات لتهتدوا الى توحيد الله قالُوا في الجواب بإلقاء شياطينهم لا نتبع ما القيتم أنتم علينا من المزخرفات بَلْ نحن ما نَتَّبِعُ الا ما أَلْفَيْنا وما وجدنا عَلَيْهِ آباءَنا وهم اعقل منا ومنكم قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا توبيخا وتقريعا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ الضالون الجاهلون لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً من شعائر
وَان شئت يا أكمل الرسل زيادة تفضيحهم اذكر للمؤمنين قولنا مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا تقليدا لآبائهم مع قابليتهم واستعدادهم للايمان كَمَثَلِ الشخص الَّذِي يَنْعِقُ يخاطب ويصوت من سفاهته بِما اى بجماد لا يَسْمَعُ منه شيأ في مقابلته إِلَّا دُعاءً وَنِداءً منعكسة من دعائه وندائه شبه حالهم في السفاهة والحماقة بحال من يصوت نحو الجبل فيسمع منه صوته منعكسا فيتخيل من سفاهته انه يتكلم معه والحال ان آباءهم ايضا أمثالهم صُمٌّ كانوا لا يسمعون دعوة الحق من السنة الرسل بُكْمٌ لا يتكلمون بما ظهر لهم من الحق الصريح نقلا او عقلا عُمْيٌ ايضا لا يبصرون آثار الصفات وأنوار تجليات الذات الظاهرة على الآفاق وبالجملة فَهُمْ وآباؤهم من غاية انهماكهم في الغفلة والنسيان كأنهم جمادات لا يَعْقِلُونَ ولا يخلقون من زمرة العقلاء نبهنا بفضلك عن سنة الغفلة ونعاس النسيان
ثم ناداهم سبحانه وأوصاهم بما يتعلق بأمور معاشهم بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ اى مزكيات ما أحل لكم من الحيوانات وسقناه نحوكم تفضلا منا عليكم تقويما وتعديلا لأمزجتكم وَبعد تقويتنا وتعديلنا إياكم اشْكُرُوا لِلَّهِ المنعم المتفضل المربى لكم بلا التفات الى الوسائل والوسائط إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ لا الى غيره من الأسباب والوسائل تَعْبُدُونَ وتحصرون العبادة له قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اى ما حرم ربكم عليكم في دينكم من الحيوانات الا الْمَيْتَةَ التي ماتت حتف أنفها بلا تزكية وتهليل وَالدَّمَ السائل على اى وجه كان وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ المرخص في الأديان الاخر لنجاسة عينه وخباثة طبعه شرعا وَما أُهِلَّ اى الحيوان الذي ذبح وصوت بِهِ لِغَيْرِ اسم اللَّهِ عند ذبحه بل من اسماء الشياطين والأصنام وانما حرم عليكم هذه المحرمات وقت سعتكم فَمَنِ اضْطُرَّ منكم بأكلها حال كونه غَيْرَ باغٍ للولاة القائمين بأوامر الله المقيمين لأحكامه الحافظين لحدوده وَلا عادٍ مجاوز عن سد الجوعة الى وقت السعة فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ان تناول منها مقدار سد الرمق إِنَّ اللَّهَ الحكيم المرخص لكم في أمثال هذه المضائق والاضطرار غَفُورٌ ساتر لكم عن أمثال هذه الجرأة رَحِيمٌ عليكم بهذه الرخصة
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر لأمور عباده مِنَ الْكِتابِ المبين لهم طريق الرشاد والسداد ويظهرون بدله ما تشتهيه نفوسهم وترتضيه عقولهم عتوا واستكبارا وَيَشْتَرُونَ بِهِ اى بكتمان كتاب الله ثَمَناً قَلِيلًا من ضعفاء الأنام على سبيل التحف والهدايا أُولئِكَ الأشقياء الكاتمون طريق الحق الناكبون عن منهج الصدق ما يَأْكُلُونَ وما يغتذون ويتناولون بهذه الحيلة والتزوير ولا يستحيل فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ اى نار الحرص والطمع المقتبسة من نيران الإمكان المنتهية الى نار الجحيم أعاذنا الله وعموم عباده منها وَمن فظاعة أمرهم وشناعة صنيعهم لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ المستكشف عن احوال العباد يَوْمَ الْقِيامَةِ ليجزيهم على مقتضى أعمالهم التي كانوا عليها في النشأة الاولى بل يسوقهم الى النار بلا كشف وتفتيش عن جالهم وَبعد ما ساقهم إليها لا يُزَكِّيهِمْ ولا يطهر هم الله بها كما يطهر عصاة المؤمنين بالنار ثم يخرجهم الى الجنة بل يبقون فيها خالدين وَلَهُمْ فيها عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم غير منقطع إيلامه ابدا
أُولئِكَ الضالون الخاسرون الَّذِينَ هم اشْتَرَوُا واستبدلوا الضَّلالَةَ المستتبعة لهذا النكال بِالْهُدى الموصل الى النعيم الدائم في النشأة الاولى وَالْعَذابَ المؤلم المزعج
ذلِكَ النكال والعذاب بِأَنَّ اللَّهَ المرشد لهم الى التوحيد الذاتي قد نَزَّلَ الْكِتابَ اى القرآن المبين لهم طريقة التوحيد والعرفان ملتبسا بِالْحَقِّ الصريح الثابت في الواقع وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي حقية الْكِتابَ وتبيينه لَفِي شِقاقٍ خلاف ونفاق بَعِيدٍ بمراحل عن الحق والوفاق حققنا بفضلك حقية ما أنزلت علينا بمقتضى جودك
ثم لما اختلف الناس في امر القبلة واهتموا بشأنها بان حصروا البر والخير كله فيها أشار سبحانه الى تخطئتهم ونبه على البر الحقيقي والخير الذاتي بقوله لَيْسَ الْبِرَّ اى ليس الخصال السنية والأخلاق المرضية مجرد أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مثلا بلا اتصاف بالعزائم والحكم المترتبة على تشريع القبلة وَلكِنَّ الْبِرَّ الحقيقي مَنْ آمَنَ وصدق منكم بِاللَّهِ المنشئ المظهر لكم من كتم العدم بعد ان لم تكونوا شيأ مذكورا وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء الأعمال وَالْمَلائِكَةِ المهيمين الوالهين في مطالعة جمال الله المستغفرين لمن آمن وعمل صالحا من خلص عباده وَالْكِتابِ يعنى صدق ايضا بالكتاب المبين لكم طريق الهداية وَالنَّبِيِّينَ المبعوثين إليكم به ليرشدوكم الى مقاصده ويبينوا لكم ما فيه من المعارف والحقائق وَبعد الايمان بالمذكورات آتَى الْمالَ المانع من التوجه الحقيقي وأنفقه عَلى حُبِّهِ سبحانه طالبا لرضاه على المحتاجين أولاهم إعطاء ذَوِي الْقُرْبى المنتمين اليه من قبل أبويه وَالْيَتامى الذين لا متعهد لهم من الوالدين وذوى القربى وَالْمَساكِينَ الذين أسكنهم الفقر العارض من عدم مساعدة آلات الكسب والحوادث الاخر وَابْنَ السَّبِيلِ القرباء الذين لا يمكنهم التصرف في أموالهم لوقوع البون بينهم وبين أوطانهم وأموالهم وَالسَّائِلِينَ الذين قد الجأهم الاحتياج مطلقا الى السؤال من اى وجه كان وَفِي الرِّقابِ من الإسراء الموثقين في يد العدو والمكاتبين الذين لا يقدرون على تفكيك رقابهم من مواليهم وغير ذلك من المضطرين وَأَقامَ الصَّلاةَ بان ادام الميل والتوجه بجميع الأعضاء والجوارح نحوه سبحانه في جميع الأوقات خصوصا في الأوقات المخصوصة التي فرض فيها الصلاة وَآتَى الزَّكاةَ المفروضة المقدرة في كتاب الله وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا كلهم من خيار الأبرار وَبشر من بينهم يا أكمل الرسل الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ اى الفقر المكسر للظهر وَالضَّرَّاءِ المرض المسقم للجسم وَخصوصا الغزاة الذين صبروا حِينَ الْبَأْسِ من اقتحام العدو بالانعامات العلية والكرامات السنية أُولئِكَ الأبرار والأحرار الصابرون في البلوى المرجحون لرضاء المولى على أنفسهم هم الَّذِينَ صَدَقُوا في أقوالهم وأصلحوا أفعالهم وأعمالهم وأخلصوا في نياتهم وَبالجملة أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ المحفوظون عن عموم ما خيف عليهم من الأمور المنافية للأمور الدينية الواصلون الى مرتبة التحقيق واليقين ربنا اجعلنا منهم بلطفك وكرمك يا ارحم الراحمين ثم ناداهم سبحانه إصلاحا لهم فيما يقع بينهم من الوقائع الهائلة والفتن العظيمة الحادثة من ثوران القوة الغضبية وطغيان الحمية الجاهلية المؤدية الى قتل البعض بعضا ظلما وعدوانا
فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم وتوحيدكم المحافظة عليه بزجر النفس الامارة بالسوء من مقتضياتها المنشعبة من القوى البشرية وان وقع فيكم أحيانا فاعلموا انه قد كُتِبَ وفرض عَلَيْكُمُ في دينكم الْقِصاصُ بالمثل فِي الْقَتْلى المقتولين عمدا فيقتل الْحُرُّ القاتل بِالْحُرِّ المقتول عمدا وَكذا الْعَبْدُ
وَلَكُمْ ايها الموحدون المكاشفون بسرائر الشرائع والنواميس الإلهية الموضوعة بين المؤمنين في هذه النشأة سيما فِي الْقِصاصِ المسقط للجرائم الصادرة من جوارحكم البادية عليها بغيا وطغيانا حَياةٌ عظيمة حقيقية لكم في النشأة الاخرى إذ لا يؤخذون عليه فيها بعد مؤاخذتكم في النشأة الاولى يا أُولِي الْأَلْبابِ الناظرين بنور الحق في لب الأمور المعرضين عن قشورها لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رجاء ان تتحفظوا عن مقتضى القوى البهيمية المنافية لطريق التوحيد المبنى على الاعتدال والوفاق المؤدية الى أمثال هذه الجرائم والجنايات الكبيرة
ثم قال سبحانه كُتِبَ عَلَيْكُمْ في دينكم ايضا ايها المؤمنون إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ اى ظهرت أسبابه واماراته إِنْ تَرَكَ خَيْراً مالا كثيرا يقبل التجزية والانقسام المعتد به بلا تحريم الورثة الْوَصِيَّةُ اى الحصة المستخرجة منها لرضاء الله إنفاقا للفقراء المستحقين لها وأفضل الوصية وأولاها الوصية لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ان كانوا مستحقين لها وأفضلها الإخراج بِالْمَعْرُوفِ المعتدل المستحسن بين الناس بحيث لا يتجاوز عن ثلث المال حتى لا يؤدى الى تحريم الورثة وانما فرض الوصية في دينكم ايها المؤمنون حَقًّا لازما عَلَى الْمُتَّقِينَ اداؤه حفظا لغبطة الفقراء ومحبة ذوى القربى وامدادا لهم
فَمَنْ بَدَّلَهُ وغيره من الحضار والأوصياء الشاهدين عليها سيما بَعْدَ ما سَمِعَهُ من الموصى صريحا فَإِنَّما إِثْمُهُ- اى اثم التبديل والتغيير عَلَى المغيرين الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ظلما وزورا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بأقوال الموصى عَلِيمٌ بنيته فيها وبما صدر من المبدلين المغيرين ايضا فيجازى كلا منهم على مقتضى علمه وخبرته
فَمَنْ خافَ من الأوصياء والوكلاء مِنْ مُوصٍ حين الوصية جَنَفاً وميلا ببعض المستحقين ناشئا عن الغفلة بحالهم بلا قصد أَوْ إِثْماً ناشئا عن القصد فَأَصْلَحَ الوصي الخائف بَيْنَهُمْ اى الموصى لهم على مقتضى علمه بأحوالهم فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ اى على الوصي في هذا التبديل والتغيير بل يرجى من الله باصلاحه الثواب له ولمن اوصى اليه ايضا
ثم لما نبههم سبحانه بنبذ مما يتعلق بتهذيب ظواهرهم أراد أن ينبههم على بعض ما يتعلق بتهذيب بواطنهم فقال ايضا مناديا لهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ في دينكم الصِّيامُ وهو الإمساك المخصوص من طلوع الفجر الثاني الى غروب الشمس في الشهر المعروف والإمساك المطلق والاعراض الكلى عما سوى الحق مطلقا عند اولى النهى واليقين المستكشفين عن سرائر الأمور المتحققين بها حسب المقدور كَما كُتِبَ عَلَى امم الأنبياء الَّذِينَ خلوا مِنْ قَبْلِكُمْ ايها المحمديون وانما فرض عليكم هذا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رجاء ان تحفظوا انفسكم عن الإفراط في الاكل المميت للقلب المطفي نيران العشق والمحبة الحقيقية الحقية وإذا فرض عليكم صوموا
أَيَّاماً قلائل مَعْدُوداتٍ هي شهر رمضان فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ حين حضور شهر رمضان الذي فرض فيه الصيام مَرِيضاً مرضا يضره الصوم او يعسر عليه أَوْ حين وروده عَلى جناح سَفَرٍ مقدار مسافة مقدرة في الشرع عند الفقهاء وأفطر رخصة فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يعنى يجب عليه ان يصوم أياما أخر مساوية للأيام المفطرة قضاء بلا كفارة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ اى الصوم فيفطرونه مع انهم ليسوا مرضى ولا مسافرين فعليهم فِدْيَةٌ هي طَعامُ مِسْكِينٍ اى فدية كل يوم من الأيام المفطرة من رمضان طعام واحد من المساكين بلا قضاء ولا لزوم كفارة عليه هذا في بدء الأمر ثم نسخ بالآية التي ستأتى فَمَنْ تَطَوَّعَ وزاد في الفدية خَيْراً تبرعا زائدا مما كتب له فَهُوَ اى ما زاد عليها خَيْرٌ لَهُ عند ربه يجزيه سبحانه عليه زيادة جزاء وَأَنْ تَصُومُوا ايها المؤمنون المطيقون في وقته بلا تأخير الى القضاء خَيْرٌ لَكُمْ من الفدية والزيادة عليها تبرعا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سرائر الإمساك والفوائد العائدة منها الى نفوسكم من كسر الشهوة والتلقي على الطاعة والتوجه مع الفراغة هذا في بدء الإسلام ثم نسخ بالآية التي ستذكر عن قريب
واعلموا ايها المؤمنون ان أفضل الشهور عند الله وارفعها قدرا ومرتبة شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ اى ابتدأ نزوله او نزل كله فيه بل الكتب الاربعة ايضا قد نزلت كلها فيه على ما نقل في الحديث صلوات الله على قائله وكيف لا يكون أفضل الشهور مع ان القرآن المنزل فيه هُدىً لِلنَّاسِ الموقنين بتوحيد الله المتوجهين نحو جنابه يهديهم الى مرتبة علم اليقين وَبَيِّناتٍ شواهد وآيات واضحات مِنَ الْهُدى الموصل للمستكشفين عن سرائر التوحيد الى مرتبة عين اليقين وَالْفُرْقانِ الفارق لهم بين الحق الذي هو الوجود الإلهي والباطل الذي هو الموجودات الكونية الباطلة المعدومة في أنفسها المنعكسة من آثار الأوصاف والأسماء الإلهية فوصلهم الى مرتبة حق اليقين فَمَنْ شَهِدَ وأدرك مِنْكُمُ الشَّهْرَ المذكور مطيقا بلا عذر فَلْيَصُمْهُ ثلثين يوما حتما بلا إفطار وإفداء لان هذه الآية ناسخة لحكم الآية السابقة وَمَنْ كانَ منكم مَرِيضاً لا يطيق على الصوم فيه خوفا من شدة المرض أَوْ عَلى متن سَفَرٍ فأفطر لدفع الحرج فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ اى لزم عليه صيام ايام أخر قضاء لأيام الفطر بلا لزوم كفارة انما يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ بهذه الرخصة الْيُسْرَ لئلا تتحرجوا وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ لئلا تضطروا وتضطربوا وَانما الزم لكم القضاء بعد الرخصة لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ التي قد فرض لكم الصيام فيها في كل سنة لئلا تحرموا عن منافع الصوم وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ وتعظموه عَلى ما هَداكُمْ الى الرخص عند الضرورة والاضطرار وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تتنبهون
وَلذلك اخبر سبحانه نبيه إرشادا لعباده الشاكرين لنعمه عن تقربه إليهم بقوله إِذا سَأَلَكَ ايها الداعي للخلق الى الحق عِبادِي الشاكرين لنعمي عَنِّي بقولهم اقريب إلينا ربنا فنناجيه مناجاتنا لنفوسنا أم بعيد منا فنناديه نداءنا للاباعد عنا قل لهم يا أكمل الرسل في جوابهم نيابة عنى فَإِنِّي قَرِيبٌ لهم من نفوسهم بحيث أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ اى استقبله مسرعا لإجابة دعائه كما نطق به الحديث القدسي حكاية عنه سبحانه فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي في عموم مهماتهم وحاجاتهم وَلْيُؤْمِنُوا بِي معتقدين إيصالي إياهم الى غاية متمناهم إذ لا مرجع لهم غيرى ولا ملجأ لهم سواي وانما أخبروا بما أخبروا وأمروا بما أمروا لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ رجاء ان يهتدوا الى مقر التوحيد راشدين مطمئنين اهدنا بلطفك الى مقر عزك يا هادي المضلين
ثم أشار سبحانه الى بيان احكام الصوم مما يتعلق بالحل والحرمة فيه فقال أُحِلَّ لَكُمْ ايها الصائمون لَيْلَةَ الصِّيامِ دون نهاره إذ الإمساك عن الجماع في يوم الصوم مأخوذ في تعريفه شرعا ايضا الرَّفَثُ الوقاع والجماع إِلى نِسائِكُمْ اى معهن إذ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ لا تصبرون أنتم عنهن لاقتضاء طبعكم وميل نفوسكم إليهن وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ايضا لا يصبرن عنكم لاشتداد شهوتهن الى الوقاع بأضعاف ما أنتم عليه وانما رخص لكم الوقاع في الليالى إذ قد عَلِمَ اللَّهُ المحيط بسرائركم وضمائركم منكم أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ اى توقعونها بأيديكم الى التهلكة والخيانة فتعاقبون عليها وتحرمون انفسكم عن جزاء الصوم المتكفل له الحق بذاته كما قال صلّى الله عليه وسلم حكاية عنه سبحانه الصوم لي وانا اجزى به وإذا علم الله سبحانه منكم ما علم فَتابَ عَلَيْكُمْ اى أقدركم على التوبة ووفقكم عليها وَعَفا قد أزال ومحا عَنْكُمْ ما يوقعكم الى الفتنة والعذاب وهو تحريم الرفث في الليلة ايضا وبعد ما رخص لكم الوقاع فيها فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ اى الصقوا بشرتهن ببشرتكم في ليلة الصيام المرخصة فيها الجماع ولا تخافوا من عقوبة الله بعد ما اذن وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ اى اطلبوا سرائر ما قدر الله لكم من الولد الصالح المتفرع على اجتماعكم مع نسائكم إذ سر الجماع والنزوع انما هو إبقاء نوع الإنسان المصور على صورة الرّحمن ليترقى في العبودية والعرفان الى ان يستخلف وينوب عنه سبحانه وَكُلُوا في ليلة الصيام وَاشْرَبُوا فيها حَتَّى يَتَبَيَّنَ يعنى الى ان يظهر لَكُمْ بلا خفاء الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ اى البياض الممتد الذي يقال له في العرف الصبح الصادق مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ البياض المتوهم قبل الصبح الصادق المعبر عنه بالصبح الكاذب وكلاهما مِنَ الْفَجْرِ الذي هو عبارة عن آخر الليل ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ من الوقت المبين إِلى ابتداء اللَّيْلِ وهو غروب الشمس بحيث لا يرى في الأفق الشرقي بياض وحمرة منها وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ في ليلة الصيام ايضا وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ معتكفون فِي الْمَساجِدِ إذ الاعتكاف في الشرع عبارة عن اللبث في المسجد على نية التقرب فيبطله الخروج الا الى التوضى والطهارة. والجماع فيه ليس بمرخص شرعا تِلْكَ الاحكام المذكورة حُدُودُ اللَّهِ الحاجزة بينه وبين نفوس عباده فلكم ان لا تجاوزوا عنها فَلا تَقْرَبُوها ايضا الى حيث يتوهم تجاوزكم عنها كَذلِكَ اى كالحدود والاحكام المأمورة والمنهية المذكورة يُبَيِّنُ اللَّهُ الهادي عموم عباده الى وحدة ذاته جميع آياتِهِ اى دلائله الدالة على وحدة ذاته لِلنَّاسِ الناسين العهود السابقة بواسطة تعيناتهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ رجاء ان يحذروا عنها بسبب اشراق نور الوجود
وَمن جملة الاحكام الموضوعة فيكم لإصلاح حالكم ان لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ اى لا يأكل كل منكم مال الآخر بِالْباطِلِ اى بسبب الباطل الغير المبيح له أكل مال الغير من السرقة والغصب والربوا والرشوة والحيل المنسوبة الى الشرع افتراء ومراء الى غير ذلك مما ابتدعه المتشيخة والفقهاء في الوقائع من الشبه والمخائل ونسبوها الى السمحة السهلة البيضاء المحمدية المنبئة عن الحكمة الإلهية المنزهة عن أمثال تلك المزخرفات الباطلة وَايضا من جملة الاحكام الموضوعة ان لا تُدْلُوا بِها اى لا يحاول بعضكم مال البعض إِلَى الْحُكَّامِ المسلطين عليكم اى لا يفترى بعضكم بعضا افتراء يوقع بينكم العداوة والبغضاء المفضية الى المصادرة والحكومة المستلزمة لاخذ المال من الجانب او من الجانبين لِتَأْكُلُوا اى بالتحاكم إليهم فَرِيقاً اى بعضا او كلا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ المظلومين بِالْإِثْمِ الصادر عن المدلى المفترى منكم وَأَنْتُمْ ايها المدلون تَعْلَمُونَ انكم آثمون مفترون بك نعتصم عن أمثاله يا ذا القوة المتين.
ثم لما قدر سبحانه في سابق علمه الحضوري سؤال أولئك السائلين عن كمية ازدياد القمر وانتقاصه وبدوه دقيقا رقيقا واستكماله بدرا ورجوعه على ما كان عليه اخبر نبيه صلّى الله عليه وسلم عما سيسألون إلحاحا واقتراحا امتنانا عليه فقال يَسْئَلُونَكَ ايها الداعي للخلق الى الحق بالحق لترويج الحق عَنِ الْأَهِلَّةِ اى عن كمية اختلافها كمالا ونقصانا قُلْ لهم في جوابهم كلاما ناشئا عن محض الحكمة مطابقا لأسلوب الحكيم مقتضى حالكم وادراككم ان تسئلوا عن الحكم والمصالح المودعة فيها لا عن كمية امر القمر فإنها خارجة عن طوق البشر وطور إدراكه سيما عن احلام العوام إذ نهاية مدرك العقلاء من القمر ان نوره مستفاد من الشمس وانه مظلم في ذاته وان استفادته النور من الشمس بحسب مقابلته لها وعدم ممانعة الأرض منها واما ان الشمس ما هي في حد ذاتها والقمر ما هو والارتباط بينهما على اى وجه فسر لا يحوم حوله احد من خلقه بل هو مما استأثر الله به في علمه فلا يسأل عنه احد بل هِيَ اى الاختلافات الواقعة في القمر زيادة ونقصانا ترقيا وتنزلا لأجل انه مَواقِيتُ معينة لِلنَّاسِ في امور معاشهم من الآجال المقدرة لقضاء الديون والعدة والتعليقات المتعلقة بها وغير ذلك من التقديرات الجارية في المعاملات بين الناس في العادات والعبادات وَخصوصا في الْحَجِّ والصوم والنذور المعينة والكفارات فإنها تضبط كلها باختلافات القمر الى غير ذلك من العبادات الموقتة وَكما ان سؤالكم هذا ليس من الأمور المبرورة المتعلقة بدينكم كذلك لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها لا من ابوابها وذلك ان الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب البيوت بل يثقبون ظهورها ويدخلون منها ويعدون هذه الفعلة من الأمور المبرورة ويعتقدونها كذلك الى حيث نبه سبحانه على خطاهم وارشدهم الى البر الحقيقي بقوله وَلكِنَّ الْبِرَّ المقبول عند الله بر مَنِ اتَّقى عن محارم الله مطلقا حين لبس الإحرام إذ الإحرام للموت الإرادي المعبر بلسان الشرع بالحج بمنزلة الكفن للموت الطبيعي فكما ان لابس الكفن محفوظ عن جميع المحارم اضطرارا كذلك لابس الإحرام لا بدان يحفظ نفسه عن جميع المحارم ارادة واختيارا وَبعد ما لم يكن الدخول من ظهور البيوت وثقبها من البر أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها مغمضين عيونكم عن المناهي غاضين أبصاركم عنها حافظين قلوبكم عن الميل الى المحرمات والمحظورات مطلقا وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ مخلصين له خائفين منه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ رجاء ان تفوزوا بالفلاح من عند الله بسبب تقويكم وَمن جملة الحدود الموضوعة فيكم القتال مع الأعداء
وَان اجتمعوا لقتالكم وتوجهوا نحوكم اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ اى في اى مكان وجدتموهم في حل او حرم وَأَخْرِجُوهُمْ ان ظفرتم عليهم مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ يعنى مكة وَبالجملة القوا بينهم الفتن والاضطراب وأوقعوهم في حيص بيص إذ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ تأثيرا مِنَ الْقَتْلِ لان اثر القتل منقطع به واثر الفتنة مستمر دائم غير منقطع وَعليكم المحافظة للعهود سيما القتل لا تُقاتِلُوهُمْ وأنتم بادون للقتل سيما عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الذي قد حرم عنده ازالة الحيوة مطلقا حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ وهم بادون معتدون عن الحدود ناقضون للعهود فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فيه فَاقْتُلُوهُمْ بعد ذلك فيه ايضا قائلين لهم كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ الهاتكين حرمة بيت الله
فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر والقتال مع المؤمنين وآمنوا على وجه الإخلاص فَإِنَّ اللَّهَ المطلع بما في ضمائرهم ونياتهم غَفُورٌ لما صدر عنهم من الكفر رَحِيمٌ بهم يقبل منهم الايمان والإسلام بعد ما أخلصوا
وَان لم يؤمنوا قاتِلُوهُمْ ايها المؤمنون الى ان تستأصلوهم حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ اى لا تبقى فتنتهم على وجه الأرض وخلافهم عليها بل وَيَكُونَ الدِّينُ كله لِلَّهِ بلا مزاحم ومخاصم فَإِنِ انْتَهَوْا عن كفرهم بلا مقاتلة ودخلوا في دين الإسلام طائعين فَلا عُدْوانَ ولا عداوة تبقى لكم معهم بل هم إخوانكم في الدين إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ اى مع القوم الظالمين منهم المجاوزين عن الحدود والعهود المصرين على ما هم عليه من الكفر والجحود وبعد ما قاتل الكفار مع المؤمنين عام الحديبية في ذي القعدة الحرام وعزم المؤمنون على الخروج الى مكة لعمرة القضاء ايضا في السنة الثانية وهم يكرهون القتال لئلا يهتكوا حرمة شهر هم هذا كما هتكوا انزل الله عليهم هذه الآية
فقال الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ اى لا تبالوا ولا تمتنعوا ايها المؤمنون عن القتال فيه إذ هتككم حرمة شهركم في هذه السنة بسبب هتكهم حرمته في السنة السابقة فيئول اثم كلا الهتكين إليهم وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ يعنى واعلموا ان الحرمات التي يجب المحافظة عليها وعدم هتكها يجرى فيها القصاص بالمثل فلما هتكوا حرمة هذا الشهر في السنة السابقة فافعلوا أنتم معهم في هذه السنة بمثله ولا تجاوزوا عنه فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وهذا ايضا من جملة الحدود الموضوعة فيكم لإصلاح حالكم وتهذيب أخلاقكم وَاتَّقُوا اللَّهَ ان تتخلفوا عن حدوده بالاقدام على ما نهيتم عنه والاعراض عما أمرتم به وَاعْلَمُوا ايها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ المدبر لكم المصلح لأحوالكم مَعَ الْمُتَّقِينَ منكم وهم الذين يحفظون نفوسهم عن محارم الله ومنهياته ويرغبونها نحو أوامر الله ومرضياته
وَايضا من جملة الأخلاق الموضوعة فيكم الانفاق من فواضل أموالكم الى الفقراء والمساكين وهم الذين قد أسكنهم لوازم الإمكان والافتقار في زاوية الخمول أَنْفِقُوا ايها المؤمنون فِي سَبِيلِ اللَّهِ مقتصدين فيه بين طرفي التبذير والتقتير المذمومين عند الله ولدي المؤمنين وَبالجملة لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ انفسكم إِلَى التَّهْلُكَةِ والمشقة بالإسراف والتضييع او بالبخل والتقتير إذ بالبخل تبقى النفس في ظلمة الإمكان وتوطن
وَمن الأركان الموضوعة المفروضة في دينكم ايها المحمديون الحج أَتِمُّوا الْحَجَّ اى الخصال والنسك المحفوظة المفروضة فيه وان ادى الى المقاتلة والمشاجرة وَالْعُمْرَةَ اى أتموا الأمور المسنونة فيه خاصة خالصة لِلَّهِ قاصدين التقرب اليه والتوجه الى بابه إذ الحج الحقيقي انما هو الوصول الى الكعبة الحقيقية التي هي الذات الاحدية فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ منعتم وحبستم بعد ما أحرمتم للحج والعمرة من الوصول الى الميقات وتتميم الواجبات فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ اى فعليكم إذا أردتم التحلل والخروج من الإحرام ذبح ما تيسر لكم حصوله من الهدى المحلل مثل البقرة والبدنة والشاة وغيرها حسب طاقتكم وقدرتكم بان تبعثوها الى الحرم او تذبحوها حيث أحصرتم وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ ايها المحصورون المريدون التحلل حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ المبعوث اليه او تذبحونه في المكان المحصور وبالجملة لا تحلقوا رؤسكم قبل ذبح الهدى او قبل وصولها الى الحرم فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً مرضا قد ازداد بشعر الرأس أَوْ بِهِ أَذىً ناشئا مِنَ شعر رَأْسِهِ من تزاحم قمل او صداع مفرط او جرب مشوش وحلق لأجله فَفِدْيَةٌ اى فاللازم عليه حينئذ الفدية سواء كانت مِنْ صِيامٍ مقدر بثلاثة ايام للفقراء العاجزين عن غيرها أَوْ صَدَقَةٍ مقدرة بثلاثة أصوع من الطعام للمتوسطين أَوْ نُسُكٍ من بدنة او بقرة او شاة للأغنياء على اختلاف طبقاتهم فَإِذا أَمِنْتُمْ اى إذا أحرمتم للحج حال كونكم آمنين من الموانع من إحصار العدو والمرض العارض ونزول الحادثة وغير ذلك من الموانع فعليكم إتمام مناسكه على الوجه الذي أمرتم به بلا إهمال شيء من آدابه المحفوظة فيه فَمَنْ تَمَتَّعَ وتقرب الى الله منكم بِالْعُمْرَةِ في أشهر الحج قبل تقربه اليه بالحج وبعد ما تم مناسك عمرته قصد إِلَى الْحَجِّ ونوى إياه فَمَا اسْتَيْسَرَ اى فعليه ذبح ما استيسره مِنَ الْهَدْيِ ويقال له عند الفقهاء دم الجبر ان يذبحه حين احرم للحج ولا يأكل منه فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدى منكم لفقره فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي زمان الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ الى أوطانكم وأهليكم إذ الصوم في مكة خصوصا في ايام الحج من أشق المشاق المفضى الى الحرج جدا تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ قائمة مقام الهدى للفقراء الغرباء الفاقدين وجود الهدايا وانما أمرتم بصوم الثلاثة فيها لئلا تحرموا عن إتمام متممات الحج في أوقاته ذلِكَ الحكم المذكور لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ اى لم يكن من جملة المتوطنين فيها او في حواليها اقل من مقدار مسافة القصر وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور واحفظوا أوامره التعبدية وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المطلع على ضمائر المتهاونين بأوامره شَدِيدُ الْعِقابِ لهم إذ اكثر الأمور الشرعية والعزائم الدينية انما هي تعبدية لا يدرك سره خصوصا الأعمال المنسوبة الى الحج
ثم لما امر سبحانه عباده بالحج بان يأتوا الى بيته من كل بلد بعيد وفج عميق عين له وقتا معينا من الأوقات التي لها فضيلة ومنزلة عنده سبحانه فقال الْحَجُّ اى أوقاته أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ متبركات معروفات وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة بتمامها او بعضها على ما خولف فيه فَمَنْ فَرَضَ على نفسه فِيهِنَّ
لَيْسَ عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون جُناحٌ ضيق وتعب بعد اتقائكم عن سخط الله وتزودكم بالتقوى أَنْ تَبْتَغُوا وتطلبوا اى كل منكم فَضْلًا من المعارف اليقينية واللذات الروحانية مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم فَإِذا أَفَضْتُمْ وانتشرتم أنتم ايها المؤمنون مِنْ عَرَفاتٍ الذات المحيطة بجميع الصفات المربية لكم. وجمعها باعتبار وصول كل من الواصلين إليها بطريق مخصوص وان كانت بعد الوصول إليها واحدة وحدة حقيقية ذاتية لا كثرة فيها أصلا فَاذْكُرُوا اللَّهَ المستجمع لذواتكم عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ اى الصفات المحرم ثبوتها لغير ذات الله أفرده سبحانه لاختصاص كل من افراد الإنسان بصفة مخصوصة تربيه وتختص به وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ بتفويض الأمور كلها اليه واستعيذوا به من وساوس شياطين الأوهام والأهواء المضلة وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ اى قبل هدايته لَمِنَ الضَّالِّينَ التائهين في بيداء الضلالة الناكبين عن طريق الهداية الحقيقية
ثُمَّ لما تم توجهكم ووقوفكم بعرفة الذات وتحققكم فيها أَفِيضُوا منها وانتشروا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ تنزلوا منها الى المراتب المترتبة على الصفات وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ المحيط بكم فيها إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ساتر لذنبكم وتعيناتكم رَحِيمٌ بكم يوصلكم الى مبدأ كم الأصلي بعد رفع تعيناتكم
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ المأمورة لكم من الاجتناب عن مقتضيات الحيوة الطبيعية
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ جامعا بين الظاهر والباطن والاولى والاخرى رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ترضى بها عنا وتقبلها منا وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً توصلنا الى توحيدك وَقِنا بلطفك عَذابَ النَّارِ اى نار الإمكان المحوج الى الذات الوهمية المنتجة لانواع الخيبة والخذلان
وبالجملة أُولئِكَ المؤمنون الموحدون الجامعون بين رتبتي الظاهر والباطن لَهُمْ نَصِيبٌ حظ كامل ونصيب شامل مِمَّا كَسَبُوا في الدنيا التي هي مزرعة الآخرة من المعارف اللدنية والكشوف الإلهية وَاللَّهُ المحيط بهم وبضمائرهم سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسبهم ويجازيهم على ما كسبوا
وَاذْكُرُوا اللَّهَ بعد تتميمكم مناسككم وآداب وقوفكم بعرفة فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ هي ايام التشريق فَمَنْ تَعَجَّلَ اى استعجل للرجوع والنفر فِي يَوْمَيْنِ اى في ثانى ايام التشريق فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ باستعجاله وَمَنْ تَأَخَّرَ ايضا فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بتأخيره يعنى أنتم مخيرون في استعجال النفر وتأخيره بعد ما وصلتم الى ما وصلتم واعلموا ان العاقبة الحميدة لِمَنِ اتَّقى عن محارم الله والتجأ نحوه من غوائل نفسه وتسويلاتها وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ في جميع ما صدر ويصدر عنكم واستحفظوا منه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بأجمعكم إِلَيْهِ لا الى غيره من العكوس والاظلال تُحْشَرُونَ وترجعون رجوع الظل الى ذي الظل ومن جملة الآداب الموضوعة فيكم بوضع الله المدبر لأموركم المهذب لأخلاقكم الاجتناب عن الجلساء السوء
لذلك خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلّم امتنانا عليه وإرشادا لكم ايها المؤمنون فقال وَمِنَ النَّاسِ المجبولين على البغض والنفاق المستمرين عليه دائما بلا تصفية ووفاق مَنْ يُعْجِبُكَ ويوقعك في التعجب المحير العارض لنفسك يا أكمل الرسل بلا علمك بموجبه وسببه قوله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا اى مقوله المتعلق بأمور الدنيا واسباب المعاش وذلك ان من نظم امور الدنيا وترتيبها ولم يتوسل بها الى الآخرة ولذاتها كما هو المشهور بين اهل الدنيا يسمونه عقل المعاش وَمع اغرائه وتغريره إياك بقوله يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ من حب الدنيا ويدعى موافقة كلام الله وحكمة المودعة فيه على ما يدعيه تأكيدا ومبالغة لا تغفل عنه يا أكمل الرسل ولا تغتر بقوله واغرائه وَاعلم انه هُوَ في نفسه أَلَدُّ الْخِصامِ وأشد العداوة والجدال معك ومع من تبعك من المؤمنين فعليك ان لا تغتر بعذوبة لسانه وحلاوة بيانه. قيل نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وكان من بلغائهم وفصحائهم له الوجاهة والطلاقة وحسن المحاورة والمصاحبة يتردد الى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويصاحب معه نفاقا ويظهر المحبة والإخلاص مراء ويدعى الايمان له والانقياد بدينه استهزاء
وَإِذا تَوَلَّى انصرف وأدبر من عنده صلّى الله عليه وسلّم سَعى فِي الْأَرْضِ الموضوعة للإصلاح فيها والصلاح لِيُفْسِدَ فِيها بأنواع الفسادات وَمن جملة ذلك يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ بالظلم والفسوق والعصيان المتجاوز عن الحد وانواع الطغيان والعدوان مثل الزنا وقطع الطريق والخروج على الولاة القائمين
لا يُحِبُّ الْفَسادَ وَمن غاية عتوه وعناده ونهاية استكباره إِذا قِيلَ لَهُ امحاضا للنصح اتَّقِ اللَّهَ عن أمثال هذه الفضائح واستحى منه سبحانه أَخَذَتْهُ قد هيجته وحركته الْعِزَّةُ والحمية الجاهلية المرتكزة في نفسه بِالْإِثْمِ الذي قد منع عنه بحيث أصر عليه لجاجا وعنادا وبالجملة فَحَسْبُهُ وحسب أمثاله جَهَنَّمُ الإمكان الذي يلعبون بنيرانها كفت مؤنة شرورهم وطغيانهم وَالله لَبِئْسَ الْمِهادُ هذا الإمكان المستتبع لمهد النيران المتضمن لانواع الخذلان والحرمان واصناف الخيبة والخسران وايضا من جملة الآداب الموضوعة فيكم بل من أسناها وأجلها الرضاء والتسليم بعموم ما جرى من قضاء الله ومقضياته
لذلك قال سبحانه وَمِنَ النَّاسِ المتشمرين الى الله بالرضاء والتسليم مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ويوقعها في المهلكة لا لداعية دنيوية تنبعث من نفسها بل ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ طالبا لرضاه راضيا بجميع ما قضى له وَاللَّهُ المطلع بعموم الحالات رَؤُفٌ عطوف مشفق بِالْعِبادِ سيما الصابرين في البلوى الراجعين الى المولى الراضين بما يحب ويرضى ثم لما كان الرضاء والتسليم من احسن احوال السالكين المتوجهين الى الله الكريم العزيز العليم وارفعها قدرا ومنزلا عنده أمرهم سبحانه بها امتنانا عليهم وإصلاحا لحالهم
فقال مناديا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم الرضاء والتسليم ادْخُلُوا ايها المستكشفون عن سرائر التوحيد فِي السِّلْمِ اى الطاعة والانقياد المتفرعين على الرضاء والإخلاص المنبئين عن التحقق بمقام العبودية كَافَّةً اى ادخلوا في السلم حال كونكم مجتمعين كافين نفوسكم عما يضر إخلاصكم وتسليمكم وَلا تَتَّبِعُوا ايها المتوجهون الى مقام العبودية والرضاء اثر خُطُواتِ الشَّيْطانِ اى الأهواء والآراء المضلة عن طريق الحق المعبرة عنها في عرف الشرع بالشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة والإضلال يضلكم عما يهديكم الحق اليه
فَإِنْ زَلَلْتُمْ وانصرفتم عن طريق الحق مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ المبينة الموضحة لكم طريقه فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب قادر على انواع الانتقام حَكِيمٌ لا ينتقم الا بالحق
هَلْ يَنْظُرُونَ اى ما ينتظر المزلون عن طريق الحق سيما بعد الوضوح والتبيين إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بعذابه المدرج المكنون فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ السحاب الأبيض المظل لهم صورة يتوقعون منه الراحة والرحمة وَالْمَلائِكَةُ الموكلون بجر سحب العذاب إليهم فانزل عليهم العذاب واستأصلهم بالمرة وَقُضِيَ الْأَمْرُ المحكم والحكم المبرم المقصى عليهم من عنده سبحانه لانتقامهم كالأمم الماضية وَبالجملة إِلَى اللَّهِ لا الى غيره من الوسائل والأسباب العادية تُرْجَعُ الْأُمُورُ أولا بالذات وان تشكك احد في الانتقام ونزول العذاب على المزلين المنصرفين عن طريق الحق سيما بعد الوضوح والتبيين قل يا أكمل الرسل نيابة عنا إلزاما له
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ وتذكر قصتهم كَمْ كثيرا آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ مبينة في كتبهم فأنكروا عليها ظلما وعدوانا فأخذناهم بظلمهم الى ان استأصلناهم بالمرة وَلا يختص هذا ببني إسرائيل بل كل مَنْ يُبَدِّلْ ويغير نِعْمَةَ اللَّهِ المستلزمة للشكر والايمان كفرا وكفرانا سيما مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ من لدنا تفضلا وإحسانا فله من العذاب والنكال ما يستحقه فَإِنَّ اللَّهَ المتجلى باسمه المنتقم شَدِيدُ
ثم ذكر سبحانه مساوي اهل الكفر والنفاق وسوء معاملتهم مع المؤمنين المخلصين ليجتنب المؤمنون عن أمثاله فقال على وجه الاخبار زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا اى قد حسن وحبب في عيونهم وارتكز في قلوبهم الْحَياةُ الدُّنْيا اى الحيوة المستعارة المنسوبة الى الدنيا وَادى أمرهم في هذا التزيين والتحسين الى ان يَسْخَرُونَ ويستهزؤن مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا اى صار المؤمنون بفقرهم وعرائهم عن امتعة الدنيا الدنية ورثاثة زيهم وحالهم محل استهزائهم وسخريتهم متى قصدوا الاستهزاء على فاقدى الدنيا أخذوا منهم وَالحال ان المؤمنين الَّذِينَ اتَّقَوْا عن لذائذ الدنيا ومزخرفاتها الفانية الغير الباقية يكونون فَوْقَهُمْ رتبة ومنزلة عند الله يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد لجزاء الأعمال الحاصلة في النشأة الاولى وَاللَّهُ الرازق للكل يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ من عباده الرزق الدنيوي بِغَيْرِ حِسابٍ فيها ابتلاء واختبارا بل يمهلهم على تجبرهم وتكبرهم مفتخرين بمزخرفاتها الى النشأة الاخرى فيحاسبهم ويجازيهم عليها ويرزق ايضا من يشاء من عباده بالرزق الأخروي بغير حساب لا في النشأة الاولى ولا في الاخرى بل قد صار أولئك السعداء المقبولون متمكنين في حمائه سبحانه ازلا وابدا بحيث لا يشوشهم الحساب ولا تتفاوت عندهم اللذة والعذاب بل صاروا بما صاروا بلا سترة وحجاب آتنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب
ثم قال سبحانه كانَ النَّاسُ في الفطرة الاصلية والمرتبة الحقيقية الجبلية أُمَّةً واحِدَةً وملة وحدانية متوجهة الى مبدئهم الحقيقي ومقصدهم الأصلي طوعا ثم اختلفت آرائهم وتشتتت أهواءهم بمقتضيات القوى الحيوانية التي هي من جنود إبليس فظهر بينهم العداوة والبغضاء والمجادلة والمراء فَبَعَثَ اللَّهُ المدبر لأمورهم النَّبِيِّينَ من بنى نوعهم المؤيدين من عند ربهم مُبَشِّرِينَ لهم طريق الإطلاق والتوحيد وَمُنْذِرِينَ لهم عن الكثرة والتقييد وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ تصديقا لهم الْكِتابَ الجامع لعموم ما يبشر به وينذر عنه ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع لِيَحْكُمَ كل نبي به بَيْنَ النَّاسِ المنسوبين اليه فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من امور معاشهم ومعادهم وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ اى في الكتاب المنزل إليهم بالتكذيب والإنكار احد من الناس إِلَّا القوم الَّذِينَ أُوتُوهُ اى الكتاب وما كان اختلافهم الا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ الواضحات المصدقات بانه منزل لهم من عند الله العليم الحكيم وبالجملة ما اختلفوا في عموم ما اختلفوا الا بَغْياً وعدوانا وخروجا عن طريق الحق وحسدا لأهله ناشئا من طغيانهم واقعا بَيْنَهُمْ من وساوس شياطينهم ومقتضيات اوهامهم وخيالاتهم من حب الجاه والرياسة والعتو والاستكبار فَهَدَى اللَّهُ بلطفه الَّذِينَ آمَنُوا بالنبي المبعوث إليهم والكتاب المنزل معه لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من الأمور الدينية مع المعاندين المنكرين والحال انه اى اختلافهم ناشئ مِنَ الْحَقِّ الصريح المطابق للواقع واختلافهم ايضا معهم انما يكون بِإِذْنِهِ اى بامره المنزل في كتابه وَاللَّهُ المرشد الموفق لكل العباد الى ما هم عليه يَهْدِي بفضله مَنْ يَشاءُ من خلص عباده إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى بابه بلا عوج وضلال أرجوتم وطمعتم ايها المحمديون المتوجهون الى زلال التوحيد وصفو التجريد والتفريد ان تصلوا اليه بانانيتكم هذه بلا سلوك ومجاهدة وسكر وصحو وتلوين وتمكين وقيد واطلاق ونفى واثبات وفناء وبقاء هيهات هيهات
أَمْ حَسِبْتُمْ وتمنيتم متوقعا أَنْ تَدْخُلُوا فجأة بهويتكم هذه بلا افنائها وفنائها في هوية الله الْجَنَّةَ التي ارتفعت عندها الهويات واضمحلت دونها الماهيات وَلَمَّا يَأْتِكُمْ اى لم يأتكم مَثَلُ الَّذِينَ
يَسْئَلُونَكَ اى الهادي للكل عن الانفاق وعن ما ينفق به وعن من ينفق عليه ويقولون ماذا يُنْفِقُونَ اى اى شيء ينفقه المنفق في سبيل الله قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة ما أَنْفَقْتُمْ اى اى جنس أنفقتم كما وكيفا سواء كان تمرة او كسيرة او حبة او ذرة صادرة مِنْ خَيْرٍ خالص عن شوب المنة والأذى فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إليكم بسببهما اى فهم اولى ان كانوا مستحقين وَبعد ذلك أولاهم الْيَتامى الذين لا متعهد لهم وَبعد ذلك الْمَساكِينِ الذين قد أسكنهم المذلة والهوان وَبعد ذلك ابْنِ السَّبِيلِ وهم الذين قد تعذر لهم الوصول الى املاكهم ومملوكاتهم وَبالجملة اعلموا ايها المؤمنون انه ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ خالصا لرضا الله سبحانه فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ بصدوره عنكم وبنياتكم فيه ثم لما ظهر امر الإسلام وعلا قدره وارتفع مناره فرض سبحانه على المؤمنين الموقنين بطريق التوحيد
فقال كُتِبَ عَلَيْكُمُ ايها المؤمنون الْقِتالُ مع مخالفيكم من اهل الكثرة وَهُوَ كُرْهٌ مكروه مستهجن لَكُمْ مذموم عندكم ما دمتم في انانيتكم وهويتكم هذه وما دمتم أنتم فيها مع تكثر الإضافات ولوازم الإمكان وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً في النشأة الاولى وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في النشأة الاخرى وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً فيها وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ فيها وَبالجملة اللَّهُ المطلع بسرائركم يَعْلَمُ خيركم ويأمركم به وشركم فيحذركم عنه وَأَنْتُمْ بمقتضى هويتكم هذه لا تَعْلَمُونَ شيأ من الخير والشر بل لكم التعبد والإطاعة والانقياد بعموم ما امر ونهى والعلم عند الله العزيز العليم وسرائر الأمور واسراره مخزونة عنده محفوظة لديه لا يعلمها الا هو
يَسْئَلُونَكَ ايضا ايها الداعي للخلق الى الحق بالحق عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ اهو من المحرمات الإلهية بمقتضى حكمته البالغة أم لا ويسئلونك ايضا عن قِتالٍ واقع فِيهِ اهو ايضا من المحرمات الشرعية أم لا قُلْ يا أكمل الرسل للسائلين نيابة عنا هما من جملة محرماته سبحانه التي قد اقتضتها حكمته المتقنة البالغة بل قِتالٍ فِيهِ ذنب كَبِيرٌ إذ هو خروج عن مقتضى الحد الموضوع من لدنه سبحانه في هذا الشهر وَمع كونه ذنبا كبيرا صَدٌّ منع وصرف ايضا للتجار عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي قد أباح لهم سبحانه تكسب معاشهم وَمع ذلك العياذ بالله كُفْرٌ بِهِ اى بالله بعدم اطاعة امره وَصد ايضا عن طواف الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الذي قد حرم الله الصد والاعراض عنه روى انه عليه السّلام بعث عبد الله ابن جحش ابن عمته على سرية في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين ليترصد القفل الذي كان لقريش في جانب الشام وفيهم عمرو بن عبد الله الخضرمي وثلثة معه فلما ظفروا عليهم قتلوا الخضرمي وأسروا اثنين واستاقوا العير نحو المدينة وفيها تجارة للطائف ايضا وكان ذلك غرة رجب وهم يظنونه من جمادى فقال قريش قد استحل محمد الشهر الحرام مع انه قد كان شهرا يأمن فيه الخائف ويتردد الناس فيه الى معايشهم ثم لما سمع صلّى الله عليه وسلّم تعيير قريش قال لعبد الله ما أمرت لك بالقتال في الشهر الحرام وسوق العير فيه وشق هذا القول على اصحاب السرية وقالوا ما نبرح حتى تنزل توبتنا فنزلت ورد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العير والأسارى فلاموه وعيروه على ما صدر عنه وقالوا يتوجه الى المسجد الحرام ويمنع الزوار منه رد الله عليهم فقال وَإِخْراجُ أَهْلِهِ اى اهل المسجد الحرام مِنْهُ عدوانا وظلما أَكْبَرُ ذنبا عِنْدَ اللَّهِ من منع الزوار والقتل سهوا او خطأ ناشئا من عدم التدبر في تعيين الوقت إذ الإخراج افتتان بين المسلمين المستأهلين ببيت الله وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ إذ شرها عام ممتد بخلاف القتل وَبالجملة ان الكفار المصرين على الكفر والعناد لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ ايها المؤمنون حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ المنزل عليكم من ربكم هداية لكم إِنِ اسْتَطاعُوا وَالحال انه مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الذي هو الايمان والتوحيد فَيَمُتْ بعد الارتداد وَهُوَ كافِرٌ ساتر طريق الحق تارك مشرب التوحيد فَأُولئِكَ الكافرون المرتدون عن طريق الإسلام قد حَبِطَتْ انحطت واضمحلت وسقطت عن درجة الاعتبار عند الله أَعْمالُهُمْ الصادرة عنهم بالمرة بحيث لا تفيد لهم أصلا لا فِي الدُّنْيا لحرمانهم عن مصاحبة اهل الايمان والعرفان وَلا في الْآخِرَةِ لإرجاعهم
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالتوحيد الذاتي وادي ايمانهم الى ان قد وصلوا بمرتبة اليقين العلمي وَالَّذِينَ هاجَرُوا وتركوا ما يضاده وينازعه الى ان وصلوا الى مرتبة اليقين العيني وَبعد ذلك جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع نفوسهم الى ان وصلوا بل اتصلوا وحصلوا باليقين الحقي أُولئِكَ المقربون المتدرجون في طريق الوصول يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ما داموا في السلوك باشباحهم وَاللَّهُ المطلع بضمائر عباده غَفُورٌ ساتر لهم أشباحهم عن عيون بصائرهم رَحِيمٌ لهم يوصلهم الى ما يتوجهون اليه حسب فطرتهم الاصلية من جنة الذات بمنه وجوده أدركنا بلطفك يا خفى الألطاف
يَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أهما من المحرمات الإلهية أم لا قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ اما في الخمر فلكونه معطلا للقوى المدركة مزيلا للعقل الجزئى المودع في هيكل الإنسان ليتوصل به الى العقل الكل المتفرع على الاسم العليم الشامل لجميع ما كان ويكون الا وهو اللوح المحفوظ والكتاب المبين واما في الميسر فلكونه متلفا للمال الذي هو سبب تعمير البدن الذي هو مخزن جوهر العقل المركوز ومركب الروح الذي اختص الله به الإنسان وبه استحق رتبة الخلافة والنيابة الإلهية وَبالجملة وان كان فيهما مَنافِعُ لِلنَّاسِ اى لبعضهم من المرضى الذين لا يمكنهم العلاج بدون ازالة عقولهم به او التداوى لهم منحصر في الخمر عند اصحاب الطب ومن استغناء بعض السفلة من الناس واسترزاقهم بالميسر وَلكن إِثْمُهُما عند اولى النهى واليقين أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما عندهم بل لا نفع فيهما بالنسبة إليهم إذ لا يبقى لهم علاقة مع أبدانهم ليصلحوها او يصححوها بالتداوى وَايضا يَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل ماذا يُنْفِقُونَ اى من اى شيء ينفقون وعلى اى وجه ينفقون قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا أنفقوا الْعَفْوَ اى الفاضل من أموالكم لئلا تتضرروا بالجهد وليسهل عليكم التجاوز عنه ولا يشق على انفسكم إنفاقه كَذلِكَ اى على الوجه الأحسن الأسهل يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ جميع الْآياتِ المنزلة عليكم والاحكام الموردة لإصلاح حالكم لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ رجاء ان تتأملوا
فِي الدُّنْيا اى في الآيات المتعلقة لأمور الدنيا فتتصفوا بها فيها وَايضا تتأملوا في الآيات المتعلقة لأمور الْآخِرَةِ فتحققوا بها وتتمكنوا عليها وتطمئنوا بسببها ليتم لكم تهذيب الظاهر والباطن وبعد ذلك يترتب على وجودكم وظهوركم ما يترتب وَيَسْئَلُونَكَ ايضا عَنِ الْيَتامى الذين لم يبلغوا الحلم ولا متعهد لهم من ذوى القربى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ أحوالهم خَيْرٌ وثواب عظيم للمؤمنين من ابقائهم في المذلة والهوان وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ من غاية المرحمة والاشقاق فَإِخْوانُكُمْ في الدين يجزيكم الله خيرا ان كنتم قاصدين فيه إصلاحهم ورعايتهم دون إفساد مالهم وعرضهم وَاللَّهُ المطلع بما في ضمائر عباده يَعْلَمُ ويميز الْمُفْسِدَ المبطل منكم مِنَ الْمُصْلِحِ المحق فيجازى كلا منهم على مقتضى علمه بهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ المطلع لإفسادكم واعناتكم ان يعنتكم ويفسد عليكم لَأَعْنَتَكُمْ اذلكم وافسدكم البتة أشد من افسادكم واعناتكم إياهم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب قادر على وجوه الانتقام حَكِيمٌ لا ينتقم بلا موجب
وَمن جملة الاحكام الموضوعة لإصلاحكم ان لا تَنْكِحُوا ايها المؤمنون النساء الْمُشْرِكاتِ الكافرات حَتَّى يُؤْمِنَّ لئلا يختلط ماءكم بمياههن وليوجد
وَيَسْئَلُونَكَ ايضا عَنِ الْمَحِيضِ روى ان اهل الجاهلية كانوا لم يسكنوا مع الحيض ولم يأكلوا معهن كاليهود والمجوس واستمر ذلك منهم الى ان سئل ابو الدحداح مع جمع من الصحابة عن ذلك فنزلت قُلْ يا أكمل الرسل هُوَ أَذىً يتأذى منه من يقربه فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ بالإتيان والوقاع لا بالمصاحبة والمحافظة حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ قاصدين فيه حكمة إبقاء نوع الإنسان المستخلف عن الله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ عن الميل الى خلاف ما امر الله به وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ عن الأدناس الظاهرة والباطنة وبالجملة
نِساؤُكُمْ ايها المؤمنون حَرْثٌ لَكُمْ اى موضع حراثتكم ومحل إتيانكم فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ مقبلين او مدبرين روى ان اليهود كانوا يقولون من جامع امرأته من جانب دبرها كان ولده أحول رد الله عليهم بهذه الآية وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ايها المستكشفون عن سرائر الأمور من الحكم والأسرار المودعة في التلذذ والتزوج والانبعاث والشوق والانتعاش وانواع الكيفيات المستحدثة عند الوقاع ولا تغفلوا عن سرائره ولا تطمئنوا بمجرد قضاء شهوة كالحيوانات العجم وَاتَّقُوا اللَّهَ عن الخيانة والخباثة والإتيان الى غير المأتى المأمورة في الشرع وغير ذلك من المحظورات المسقطة لحرمات الله الواقعة في امر الجماع والاجتماع إذ هي مزلة اقدام اولى الأحلام من عظماء الأنام وَبالجملة اعْلَمُوا بأجمعكم أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ سبحانه فتزودوا بزاد يليق بجنابه ويقبل في بابه وَبَشِّرِ يا أكمل الرسل الْمُؤْمِنِينَ القائمين بحدود الله المحافظين عليها الخائفين من خشية الله الراجين من رحمته بان لهم عند ربهم روضة الرضاء وجنة التسليم
وَمن جملة الأخلاق المنزلة لكم ان لا تَجْعَلُوا اللَّهَ اى اسم الله عُرْضَةً وجهة ومعرضا لِأَيْمانِكُمْ المتعلقة بكل دنى خسيس وحق وباطل اى لا تكثروا الحلف بالله في الأمور إذ أنتم لبشريتكم ما تخلون عن شوب الكذب والبطلان ما لكم والتلفظ باسم الحق الحقيق بالحقية سيما لترويج الأمور المزخرفة الباطلة ان أردتم أَنْ تَبَرُّوا افعلوا الخيرات وواظبوا على الطاعات وتوجهوا الى الله في عموم الأوقات وشمول الحالات وَان أردتم ان تَتَّقُوا اجتنبوا عن المحظورات واحذروا عن المحرمات وارجعوا نحو ربكم بإسقاط عموم الإضافات وَان أردتم ان تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ تليينا لقلوبهم ادعوهم الى طريق الحق بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلوهم بالتي هي أقوم وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأيمانكم عَلِيمٌ بنياتكم فيها فيجازيكم على مقتضى علمه بحالكم هذا في الايمان المثبتة للواقع والاحكام المقارنة للقصد والارادة واما الايمان
قال سبحانه لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ الواقع فِي أَيْمانِكُمْ بلا قصد وارادة وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ بواسطة الايمان الكاذبة من الأمور الباطلة التي لا تطابق الواقع فلبستم فيها وأتيتم بها وَاللَّهُ غَفُورٌ لكم لو تبتم ورجعتم اليه عما صنعتم وكسبتم من الآثام حَلِيمٌ لا يعجل بالانتقام رجاء ان يتوبوا عنها
ثم قال سبحانه لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ اى يحلفون ان يمتنعوا مِنْ وقاع نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ اى يلزم عليهم الانتظار الى ان تنقضي مدة اربعة أشهر فَإِنْ فاؤُ ورجعوا في هذه المدة عن الحلف بان جامعوا معهن في أثناء هذه المدة حنثوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ بحنثهم يتجاوز عنهم بالكفارة رَحِيمٌ لهم بابقاء النكاح بينهم
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ بلا حنث الحلف فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع منهم الطلاق عَلِيمٌ بنفرة قلوبهم منهن
وَالْمُطَلَّقاتُ المدخولات بهن يَتَرَبَّصْنَ وينتظرن بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ اى مضى مدتها والقرء يطلق على الحيض والطهر واصل وضعه لانتقال من الطهر الى الحيض وهو المراد في الآية لأنه لاستبراء الرحم وهو الدال على البراءة وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ اى للمطلقات المعتدات أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ مدة العدة من الحيض والولد لئلا يختلط النسب إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ العالم بالسرائر والخفايا وَالْيَوْمِ الْآخِرِ التي تبلى فيه جميع السرائر والضمائر وَبالجملة بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ أليق واولى بِرَدِّهِنَّ إليهم فِي ذلِكَ اى في زمان التربص إِنْ أَرادُوا اى الأزواج إِصْلاحاً وَاعلموا ايها المؤمنون ان لَهُنَّ عليكم من الرعاية والمحافظة والاستيناس وغير ذلك مِثْلُ الَّذِي لكم عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ من الحقوق والرعاية والمحافظة على آداب الخدمة وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ فضيلة بحسب الخلقة والعقل والتمييز وكمال الايمان والمحافظة على حدود الله وامتثال مأموراته وَاللَّهُ عَزِيزٌ يعز من يشاء ويذل من يشاء منهم حَكِيمٌ في فعله لا يسأل عما يفعل
ثم قال سبحانه الطَّلاقُ الصادر عن اولى العزائم وذوى الألباب مَرَّتانِ مرة عند عروض النفرة المنافية للرغبة السابقة المستلزمة للزواج والازدواج المنبعث عن الطبيعة المقتضية بالطبع للاختلافات والازدواجات الواقعة بين اسبابها الا وهي الأوصاف الذاتية الإلهية ثم إذا رجع العازم عنه لا بد ان يكون رجوعه ايضا عن روية وتدبير بان يلاحظ انه بسبب انبعاث الرغبة السابقة واشتياقها ثانيا فيكذب نفسه ويرجع إليها وان طلقها بعد تلك الرجعة فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ اى فعليه بعد الطلقة الثانية احد الأمرين ولا يتجاوز عنه الى الطلقة الثالثة والا لسقط من زمرة العقلاء العازمين على الأمور الشرعية بالعزيمة الخالصة اما إمساك بالمعروف المستحسن عند الله وعند المؤمنين بل لا بد ان يكون هذا الإمساك احسن من الإمساك السابق على الطلاق حين الوفاق أَوْ تَسْرِيحٌ واطلاق وتبعيد مقارن بِإِحْسانٍ من مال وخلق حسن وكلمة طيبة ليرتفع غبار العداوة والبغضاء الواقعة باغواء الشيطان بينهما وَلا يَحِلُّ لَكُمْ ايها الحكام المقيمون للاحكام الشرعية أصلا أَنْ تَأْخُذُوا من النساء مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ من المهور والصدقات شَيْئاً وتردوه الى أزواجهن إِلَّا أَنْ يَخافا اى الزوجان كل منهما على نفسه أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ الموضوعة من عنده سبحانه لإصلاح حالهما فَإِنْ خِفْتُمْ ايها الحكام ايضا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ بينهما فَلا جُناحَ ولا اثم عَلَيْهِما اى على الرجل في أخذ ما افْتَدَتْ بِهِ المرأة بدل الخلاص والطلاق وعلى المرأة لاعطائه له
فَإِنْ طَلَّقَها ثالثا اى ان وقع الطلاق بينهما بعد المرتان فَلا تَحِلُّ المرأة المطلقة لَهُ اى للرجل المطلق مِنْ بَعْدُ اى بعد وقوع الطلقة الثالثة حَتَّى تَنْكِحَ وتتزوج المرأة زَوْجاً ثانيا مواقعا إياها إذ لا يكفى مجرد النكاح بلا وقاع غَيْرَهُ اى غير الزوج الاول فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا اى يرجع كل من الزوج الاول والمرأة الى الآخر بالزواج والازدواج ويلمس كل منهما عسيلة الآخر بل الزوج الاول عسيلة الزوج الثاني ان اشتهى وذلك حسن إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ بينهما وَتِلْكَ الاحكام المذكورة حُدُودَ اللَّهِ الموضوعة بين عباده انما يُبَيِّنُها يظهرها ويوضحها سبحانه لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعقلون ويفهمون سرائر حدوده ويعملون بها بمقتضى العقل المفاض إذ التكاليف الواقعة في الشرع انما هي له
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ اى قرب انقضاء عدتهن فَأَمْسِكُوهُنَّ اى فعليكم بعد ما قرب انقضاء مدة العدة ان تراجعوهن فيها وتمسكوهن بِمَعْرُوفٍ مستحسن عقلا وشرعا أَوْ سَرِّحُوهُنَّ وفارقوهن بِمَعْرُوفٍ حتى لا يتضررن بطول المدة وَعليكم ان لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً اى لمجردان تضروهن لِتَعْتَدُوا وتبقوا مدة طويلة بلا محبة ومودة حتى يأتيهن الموت كما يفعله الجهال غيرة وحمية وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الفعل القبيح منكم فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بالتعريض على عقاب الله بابطال حكمته وتعطيل محل ظهور خلقه وقدرته وَبالجملة لا تَتَّخِذُوا ايها المؤمنون المكلفون آياتِ اللَّهِ النازلة عليكم المشتملة على إصلاح أحوالكم وأخلاقكم هُزُواً اى محل استهزاء تتهاونون بها وتأخذونها هملا بل احذروا من بطش الله وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ الفائضة عَلَيْكُمْ وواظبوا بشكرها وَاعملوا بمقتضى ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ لإصلاح حالكم مِنَ الْكِتابِ المبين لكم طريق المعاش في النشأة الاولى وَالْحِكْمَةِ الموصلة لكم الى ذروة التوحيد في النشأة الاخرى يَعِظُكُمْ بِهِ فعليكم ان تتعظوا وتتذكروا به وَاتَّقُوا اللَّهَ من مساخطته وانتقاماته ولا تتجاوزوا عن حدوده المبينة في كتابه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المحيط بكم وبعموم أحوالكم بِكُلِّ شَيْءٍ صدر عنكم من الخير والشر والنفع والضر العائد لنفوسكم عَلِيمٌ بعلمه الحضوري لا يعزب عن علمه شيء مما ظهر وكان ويظهر ويكون
وَإِذا طَلَّقْتُمُ ايها المؤمنون النِّساءَ اى منكوحاتكم فَبَلَغْنَ بعد الطلاق أَجَلَهُنَّ من العدة المقدرة في الشرع لاستبراء الرحم فَلا تَعْضُلُوهُنَّ اى لا تحبسوهن ولا تعيروهن ان أردن أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ كما يفعله الجهال من الحمية الجاهلية ذلِكَ العظة والتذكير المنزلة من عند الله يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وبجميع ما انزل من المواعظ والاحكام وَالْيَوْمِ الْآخِرِ اى بعموم ما فيه من الوعد والوعيد ذلِكُمْ اى امتثالكم بالمواعظ والاحكام والآداب والأخلاق أَزْكى لَكُمْ لتزكية نفوسكم عن الأهواء الفاسدة والآراء الباطلة وَأَطْهَرُ لقلوبكم عن متابعتها وَبالجملة اللَّهُ المدبر لأمور عباده يَعْلَمُ عموم مصالحهم وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ مصالحكم فعليكم بالامتثال لأوامر الله والاجتناب عن نواهيه تعبدا وانقيادا
وَالْوالِداتُ سواء كن مطلقات او غيرهن يُرْضِعْنَ
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ايها المؤمنون وَيَذَرُونَ اى يتركون أَزْواجاً واحدة او ثنتان او ثلاثا او أربعا يَتَرَبَّصْنَ اى لزم عليهن ان ينتظرن ويعتدن بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً حتى يعلم ويظهر انهن حاملات أم لا فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ بان انقضت المدة المقدرة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ايها الحكام فِيما فَعَلْنَ فِي إصلاح أَنْفُسِهِنَّ من طلب الخطبة والخاطب والناكح والتجسس عنه والعرض عليه ان صدر عنهن هذه الأمور بِالْمَعْرُوفِ المستحسن في الشرع والعرف والا فعليكم الجناح ايها الحكام عند الله ان لم تمنعوهن وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ ايها الحكام من التهاون في اجراء أحكامه وحفظ حدوده خَبِيرٌ يؤاخذكم عليه ويجازيكم حسب خبرته
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ اى في كلام وألفاظ قد قصدتم به تعريضا حسنا وتلميحا مليحا خاليا عن وصمة الفساد ناشئا مِنْ ارادتكم خِطْبَةِ النِّساءِ المعتدات للوقاع واظهار الميل الى نكاحهن أَوْ أَكْنَنْتُمْ أضمرتم وأخفيتم فِي أَنْفُسِكُمْ مع انه قد عَلِمَ اللَّهُ المطلع لظواهركم وبواطنكم منكم وان أخفيتم أَنَّكُمْ لميل طبيعتكم إليهن سَتَذْكُرُونَهُنَّ فاذكروهن على الوجه الأحسن الأبعد عن التهمة وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا اى الوقاع والجماع اى لا تخالطوا معهن الى حيث ارتفع الحجاب عنكم فتتكلمون معهن بالكلمات الجارية بين الزوج والزوجة إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً يومى الى خطبتكم ونكاحكم اياهن ان خفتم ان يسبق عليكم غيركم من المريدين القاصدين لخطبتهن وَعليكم ان لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ اى لا تستعجلوا في العزيمة على العقدة قبل انقضاء أجل العدة حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ اى ما فرض في الكتاب من العدة المقدرة فيه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المطلع لضمائركم يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من الخيانة في حدوده فَاحْذَرُوهُ من غضبه لتنجوا من عذابه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن عزم على المعصية ولم يفعل خوفا من الله
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ اى لا وزر ولا اثم عليكم ايها المؤمنون إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ اى مادام لم تجامعوا معهن أَوْ لم تَفْرِضُوا وتقدروا لَهُنَّ فَرِيضَةً مهرا وصداقا وَمَتِّعُوهُنَّ اى عليكم ان تحسنوا لهن بعد ما طلقتموهن جبرا لما كسرتم من قلوبهن بالطلاق واعلموا ان التمتيع والإحسان عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ اى قدر وسعه ويسره وَكذا عَلَى الْمُقْتِرِ المعسر قَدَرُهُ اى قدر إعساره وإقتاره مَتاعاً اى متعوهن متاعا ملتبسا بِالْمَعْرُوفِ الذي يستحسنه الشرع والمروءة ولهذا صار ذلك التمتيع المجاز في الشرع حَقًّا
لازما عَلَى المؤمنين الْمُحْسِنِينَ الذين لا يريدون الأذى لاحد من الناس وان وقع منهم نادرا جبروا بالإحسان حفظا للمودة والإخاء الدينية
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَالحال انه قَدْ فَرَضْتُمْ سميتم وقدرتم لَهُنَّ فَرِيضَةً صداقا ومهرا فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ اى لزمكم أداء نصف ما سميتم من المهر إليهن إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ اى المطلقات فلا يأخذن شيئا اتقاء عن التهمة أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ويرد جميع المهر إليها تبرعا وَأَنْ تَعْفُوا اى عفوكم ايها المؤمنون في أمثال هذا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى واقبل عند المولى وَبالجملة لا تَنْسَوُا ولا تتركوا الْفَضْلَ والإحسان بَيْنَكُمْ ايها المؤمنون الموقنون بل أحسنوا بعضا مما احسن الله لكم الى إخوانكم إِنَّ اللَّهَ المراقب لجميع ما صدر عنكم بِما تَعْمَلُونَ من الفضل والإحسان بَصِيرٌ يجازيكم عليه بفضله وجوده
ثم لما كان للعارف الحائر في بحر الحيرة هيولا وتوجهات متعددة حسب تجددات أنفاسه وتنفساته المستنشقة المستمدة بها من النفثات الرحمانية المهبة من قبل عين عالم اللاهوت المنتشئة من حضرة الذات الاحدية المتجلية بالتجليات الجمالية والجلالية المعبرة بالأسماء والصفات الإلهية المتخالفة في الآثار والمقتضيات على حسب الكمال أراد سبحانه ان ينبه عليه بمحافظة الصلوات والميول والأوقات كلها لئلا يشتغل عن الحق في وقت من الأوقات فقال حافِظُوا اى واظبوا وداوموا ايها المتوجهون نحو توحيد الذات عَلَى الصَّلَواتِ المكتوبة لكم في الأوقات المقدرة المحفوظة وَلا سيما الصَّلاةِ الْوُسْطى التي هي عبارة عن التوجه الرقيق المعنوي بين كل نفسين من أنفاسكم وَبالجملة قُومُوا ايها الاظلال الهالكة في أنفسها المستهلكة في الذات الاحدية إذ لا وجود لكم من ذواتكم لِلَّهِ المظهر لكم من كتم العدم بامتداد ظلال أسمائه ورش من زلال بحر جود وجوده عليكم قانِتِينَ خاضعين متذللين مفنين هويتكم الظلية الغير الحقيقية بالكلية في الهوية الحقيقية الإلهية
فَإِنْ خِفْتُمْ عن مقتضيات القوى البشرية فَرِجالًا اى فعليكم التوجه راجلين منسلخين عنها وعن مقتضياتها بالمرة أَوْ رُكْباناً راكبين عليها بتسخيرها بالرياضات الشاقة الى حيث تنصرف عن مقتضياتها بالمرة فَإِذا أَمِنْتُمْ من شرورها فَاذْكُرُوا اللَّهَ المفنى للغير والسوى مطلقا كَما عَلَّمَكُمْ وعلى الوجه الذي ألهمكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ أنتم من وحدة ذاته لولا اعلامه والهامه بانزال سورة الإخلاص وكلمة التوحيد وغيرها من الآيات الدالة على توحيده الذاتي
ثم قال سبحانه وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ اى يستشرفون الى الوفاة مِنْكُمْ ايها المؤمنون وَيَذَرُونَ أَزْواجاً بعدهم لزمهم ان يوصوا وَصِيَّةً حصة مخرجة من أموالهم لِأَزْواجِهِمْ ليتمتعن بها مَتاعاً إِلَى انقضاء الْحَوْلِ بعد موتهم غَيْرَ إِخْراجٍ لهن من المسكن المألوف وكان ذلك في أوائل الإسلام ثم نسخت بتعيين المدة لعدة الوفاة من اربعة أشهر وعشرا
وَاعلموا ايها المؤمنون المطلقون ان لِلْمُطَلَّقاتِ مطلقا مَتاعٌ وتمتع بِالْمَعْرُوفِ المشروع المستحسن لازم لزوما حَقًّا حتما ثابتا عَلَى الْمُتَّقِينَ المطلقين لهن مأونهن في العدة اى جميع مؤنتهن عليهم فيها
كَذلِكَ اى مثل ما ذكر من احكام الطلاق والأمور المتفرعة عليه يُبَيِّنُ اللَّهُ الهادي لَكُمْ جميع آياتِهِ الدالة على توحيده لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ رجاء ان تتأملوا فيها وتفوزوا بالفوز العظيم من عنده
ثم قال سبحانه تنبيها على المستيقظين المتذكرين أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى القوم الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وهم اهل داوردان هي قرية قبل واسط وقع فيهم طاعون فخرجوا هاربين وَهُمْ أُلُوفٌ كثيرة هرب الكل حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ بعد ما علم منهم الفرار عن قضائه مُوتُوا ايها الهاربون عن قضائنا جميعا فماتوا بالمرة ثُمَّ أَحْياهُمْ بدعاء حزقيل عليه السّلام حين مر على تلك القرية فأبصرهم قد عريت عظامهم وتفرقت أجسامهم فتعجب من ذلك فأوحى الله تعالى اليه ناد فيهم ان قوموا بأمر الله ومشيته فناديهم فقاموا يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا اله الا أنت وما ذلك الا من كمال فضل الله عليهم ومزيد إحسانه إياهم إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح عباده لَذُو فَضْلٍ تام واحسان عام عَلَى النَّاسِ المجبولين على الكفران والنسيان وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ولا يواظبون على أداء حقوق افضاله وانعامه وبوجه آخر «الم تر» ايها المعتبر الرائي «الى الذين خرجوا من ديارهم» المألوفة المأنوسة الا وهي بقعة الإمكان «و» الحال انه «هم ألوف» متألفون فيها مع بنى نوعهم «حذر الموت» الإرادي «فقال لهم الله» الهادي لعموم مظاهره الى توحيده الذاتي بلسان مرشديهم «موتوا» عن انانيتكم وهويتكم ايها المتوجهون الى بحر الحقيقة فماتوا عن مقتضيات القوى البشرية ولوازم الحيوة الطبيعية بالكلية «ثم أحياهم» الله بالحيوة الحقيقية والعلم اللدني والوجود العيني الحقيقي والبقاء الأزلي السرمدي وبالجملة «ان الله» المتكفل لأمور عباده «لذو فضل على الناس» اى الناسين منزلهم الأصلي ومقصدهم الحقيقي بايصالهم الى ما هم عليه قبل نزولهم الى فضاء الإمكان «ولكن اكثر الناس لا يشكرون» ولا يعقلون ولا يفهمون نعمة الوصول الى الموطن الأصلي والمقام الحقيقي حتى يقوموا بشكره ويواظبوا عليه
وَان أردتم ايها المؤمنون ان تكونوا من الشاكرين لنعم الحق الفائزين بفضله وإحسانه قاتِلُوا مع الكفرة التي هي عبارة عن القوى الحيوانية فِي سَبِيلِ اللَّهِ المفنى للغير مطلقا واعلموا ايها المؤمنون ان متم فالى الله تحشرون وان عشتم فالى الله تبعثون ومالكم ان لا تقاتلوا مع جنود الشياطين حتى تنجوا من مهلكة الإمكان وتصلوا الى فضاء الوجوب وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم المتعلقة بعدم الجهاد عَلِيمٌ بنياتكم المترتبة على الحيوة الطبيعية
مَنْ ذَا العارف الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ اى يفوض ويسلم هويته الامكانية وماهيته الكونية والكيانية الى الله المسقط للهويات مطلقا قَرْضاً حَسَناً تفويضا سلسا نشطا فرحانا بلا مضايقة
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الذين كانوا معرضين عن القتال في حيوة موسى صلوات الله عليه كيف اضطروا اليه مِنْ بَعْدِ وفاة مُوسى اذكر إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ هو يوشع او شمعون او اشمويل حين ظهرت العمالقة عليهم وخربوا ديارهم ونهبوا أموالهم وأسروا أولادهم ابْعَثْ لَنا مَلِكاً معينا نُقاتِلْ معه فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع أعدائه قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ يعنى أتفرس منكم الجبن والتقاعد إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ من عنده سبحانه وأخاف منكم أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا في جوابه حين سمعوا منه ما سمعوا وَما لَنا اى اى شيء عرض لنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع أعدائنا وَالحال انا قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا ظلما وعدوانا وَحرمنا عن أَبْنائِنا وأهلينا بسبب ترك القتال ولو لم نجاهد ولم نقاتل بعد لكنا مستأصلين بالمرة فَلَمَّا كُتِبَ وفرض عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا اى انصرفوا واعرضوا عنه مدبرين بعد ما بالغوا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ مقدار ثلاثمائة وثلثة عشر بعدد اهل بدر ثبتوا على ما عاهدوا وَبالجملة اللَّهِ مطلع بما في ضمائر عباده عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ المجاوزين عن أوامره
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ بالهام الله ووحيه إياه إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالحكم قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ من المرتجلات العجمية وجالوت ايضا وهما كنايتان عن جنود الامارة والمطمئنة مَلِكاً يولى أموركم ويقاتل مع عدوكم وهو كناية عن العقل المفاض لهم من قبل ربهم قالُوا مستكبرين مستنكفين أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا اى من اين يتيسر له ويليق به ان يملك علينا وهو من اراذل الناس وسفلتهم كيف يستأهل هذا المنصب وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ مكنة ومكانة وَالحال انه لَمْ يُؤْتَ له سَعَةً مِنَ الْمالِ حتى يتقوى به ويتمكن على الولاية بسببه وانما استحقروه واستبعدوا منه الولاية لأنه كان فقيرا راعيا او سقاء او دباغا وكان من أولاد بنيامين ولم يكن في أولاده النبوة والملك أصلا وانما كانت النبوة والولاية في أولاد لاوى والملك في أولاد يهوذى وكان فيهم من اسباطهما جمع كثير قالَ لهم نبيهم بمقتضى الوحى الإلهي إِنَّ اللَّهَ المعز لا ذلة عباده قد اصْطَفاهُ واختاره للملك والامارة عَلَيْكُمْ مع فقره وسقوط نسبه وَزادَهُ سبحانه بعد ما اصطفاه بَسْطَةً حيطة في القدرة والقوة ورزانة فِي الْعِلْمِ المتعلق لتدبير المملكة وَقوة عظيمة في الْجِسْمِ ليقاوم العدو ويدافعه وَبالجملة اللَّهَ المدبر لمصالح عباده يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ من عباده على مقتضى علمه باستعداداتهم وحكمته من غير التفات الى فقرهم ورثاثة حالهم وسقوط نسبهم وَاللَّهُ المتصف بكمال العلم والحكمة واسِعٌ في فضله ورحمته عَلِيمٌ في عدله وحكمته يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بلا سبق علل وأغراض
وَبعد ما ايسوا من تغيير قضاء الله وتبديل رضاه أتوا يطلبون الدليل والامارة على ملكه وإمارته قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ بوحي الله والهامه إياه إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ الذي فِيهِ سَكِينَةٌ الا وهي كناية عن النفس المطمئنة اى فيه ما يوجب سكينتكم وطمأنينكم
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ وكان في شدة الحر والعبور على مفازة لا ماء فيها ناجى مع الله كل من جنوده في نفسه ان يظهر عليهم نهرا في تلك المفازة خوفا من شدة العطش فالهم الله مناجاتهم الى قلب طالوت حيث قالَ لهم بمقتضى الإلهام إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على عموم ما يشاء مُبْتَلِيكُمْ اى مختبركم ومجربكم في هذه المفازة بِنَهَرٍ عظيم فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي اى ليس من أشياعي وأعواني وظهيري وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ ولم يذقه فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ لا لتسكين العطش بل بشكر نعمة الله وانجاز وعده وتعديد إحسانه وفضله سبحانه على نفسه ثم لما وصلوا اليه فَشَرِبُوا مِنْهُ على الفور إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم لم يشربوا قيل هم ثلاثمائة وثلثة عشر وقيل ثلثة آلاف وقيل ألف إياك وإياك ايها المبتلى بنهر الدنيا الدنية في فضاء الوجود ان تشرب قطرة منها خوفا من عطش حرارة العشق المفنى للعاشق والعشق في المعشوق الحقيقي بالمرة حتى لا تخرج أنت من زمرة المحبين المحترقين بنيران المحبة الى ان خلصوا عن هوياتهم بالكلية وإياك ايضا ان تطعم وتذوق من مستلذاتها ومشتهياتها الفانية حتى لا تحرم من مرتبة اولى النهى واليقين الفائزين بروضة الرضاء وجنة التسليم فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا اى بعضهم لبعض خفية على سبيل المشورة والتحسر لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ لشدة قوتهم وصولتهم وغاية كثرتهم وشوكتهم قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ بالله ظنا حسنا بل يعلمون يقينا أَنَّهُمْ بعد انخلاعهم عن ملابس الإمكان مُلاقُوا اللَّهِ بلا سترة الثنوية وحجاب الهوية كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ من جنود العقل والنهى قد غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً من جنود النفس والهوى بِإِذْنِ اللَّهِ اى بتوفيقه وتيسيره وَبالجملة اللَّهَ المختبر لإخلاص عباده مَعَ الصَّابِرِينَ منهم لبلواه ينصرهم على من يعاديهم بحوله وقوته وما النصر الا من عنده
وَلَمَّا بَرَزُوا وظهروا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ ودنوا منهم معاينين قالُوا متوجهين الى ربهم متضرعين له مستمدين منه رَبَّنا أَفْرِغْ أفض عَلَيْنا صَبْراً نصبر به عند نزول بلائك وَثَبِّتْ أَقْدامَنا
فيه رضاء لقضائك وَانْصُرْنا لتنفيذ حكمك وإمضاء أمرك عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ لآلائك ونعمائك انك أنت العزيز الحكيم وبعد ما تضرعوا نحو الحق وتشبثوا بأذيال حوله وقوته
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وبكمال نصره وعونه وانهزموا بالمرة وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ قيل كان شعيا في عسكر طالوت مع ستة من بنيه وكان داود سابعهم وكان صغيرا يرعى الغنم فأوحى الله سبحانه الى نبيهم انه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد كلمته في الطريق ثلثة أحجار فقالت انك بنا تقتل جالوت فحملها في مخلاته ورماه بها فقتله ثم زوجه طالوت بنته وَبعد ذلك آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ اى ملك بنى إسرائيل ولم يجتمعوا قبل داود على ملك
تِلْكَ المذكورات من الحكم والاحكام والحدود الموضوعة بين الأنام آياتُ اللَّهِ الدالة على توحيد ذاته وتعظيم شانه نَتْلُوها عَلَيْكَ يا أكمل الرسل ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ المتلوين عليهم آياتنا امتنانا لهم بل أنت من أفضلهم واكملهم
إذ تِلْكَ الرُّسُلُ المخصوصون بالوحي والإلهام والإنزال قد فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بأنواع الفضائل والكمالات مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ معه وهو موسى الكليم صلوات الرّحمن عليه وسلامه وَمنهم من رَفَعَ بَعْضَهُمْ فوق بعض دَرَجاتٍ وهم ما ذكرهم الله سبحانه في كتابه بقوله في مواضع ورفعناه مكانا عليا ورفعنا كذا في وصف خلص أنبيائه فعليك استقصاؤها وَلا سيما قد آتَيْنا من بينهم عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ الواضحات الدالة على نبوته وَمع ذلك قد أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ المنزه عن رذائل الأغيار مطلقا الا وهو الذات البحت الخالص عن جميع القيود والاعتبارات ومع ذلك كم بين فضل عيسى عليه السّلام وفضل نبينا صلّى الله عليه وسلّم إذ قال سبحانه في حقه وأيدناه بروح القدس وفي شانه صلّى الله عليه وسلّم في مقام الامتنان الم نشرح ونوسع لك صدرك ايها المظهر الجامع الكامل بذاتنا المقدس عن الاحاطة مطلقا ووضعنا عنك وزرك اى هويتك التي بها انفصالك عنا الذي انقض اى كسر ظهرك قبل انكشافك بذاتنا كما انقض ظهور سائر المخلوقات الباقية وراء الحجاب وبعد ذلك رفعنا لك ذكرك الى ان قد وصلت إلينا وارتفعت الاثنينية بيننا لذلك قلت من أطاعني فقد أطاع الله وتفوهت بمن رآني فقد رأى الحق وقلنا لك مخاطبا متنبها على علو شانك وسمو برهانك ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله وغير ذلك من الرموز والإشارات الواردة في القرآن والحديث وبالجملة لم يقدر احد من الأنبياء صلوات الله عليهم ان يتفوه عن الرؤية واللقاء سوى نبينا صلّى الله عليه وسلّم فانه يقول رأيت ربي ليلة المعراج ولهذا نزل في شانه صلّى الله عليه وسلّم اليوم أكملت لكم دينكم الآية وقوله بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وغير ذلك من الآيات والأحاديث المشعرة للتوحيد الذاتي المسقط للاضافات والاعتبارات مطلقا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الهادي للكل هداية جميع الناس مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ آمنوا لهم اى للأنبياء مِنْ بَعْدِهِمْ سيما مِنْ بَعْدِ ما قد جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ الواضحة لهم طريق الرشاد الباقية بعدهم بين أممهم لهدايتهم وإرشادهم وَلكِنِ قد جرت عادة الله وسنته ان يختلفوا ويقتتلوا حسب اقتضاء الأوصاف المتقابلة لذلك اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بنبي بعث إليهم وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هدايتهم جميعا مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ الفاعل المختار يَفْعَلُ ما يُرِيدُ لا يسئل عن فعله انه حكيم حميد
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم قطع العلائق عن ما سوى الله سيما عن المزخرفات العائقة عن الميل الحقيقي نحوه أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ ابتلاء لإخلاصكم في ايمانكم
إذ اللَّهُ اى الذات الموجود الكائن الثابت الحق الحقيق بالحقية والتحقق والثبوت إياك ان تتقيد بالألفاظ ومحتملاتها إذ الغرض من التعبير انما هو التنبيه والا فكيف يعبر عنه سبحانه وهو أجل من ان يحيط به العقول فتعبر عنه وتورده في قالب الألفاظ الذي لا إِلهَ اى لا موجود وان شئت قلت لا وجود ولا تحقق ولا كون ولا ثبوت إِلَّا هُوَ هذا هو نهاية ما ينطق به السنة التعبير عن الذات الاحدية إذ كل العبارات والإشارات وعموم الإدراكات والمكاشفات والمشاهدات انما ينتهى اليه وبعد انتهاء الكل اليه تكل وتجهل وتعمى وتدهش ما للتراب ورب الأرباب حتى يتكلموا عنه سوى ان الحق سبحانه لما ظهر لهم بذاته وبعموم أوصافه وأسمائه انزل عليهم على قدر عقولهم المودعة فيهم كلاما جامعا ينبههم على مبدئهم ومعادهم بعد توفيق منه وجذب من جانبه الى أسهل الطرق بالنسبة الى المسترشدين انما هو الألفاظ المنبهة عن غيب الذات إذ الألفاظ خالية عن المواد الغليظة والكدورات الكثيفة المزيحة لصفاء الوحدة ومع ذلك ايضا لا يخلو عن شوب الكثرة والحجاب والحاصل ان من اطلع باطلاع الله والهامه إياه على ان فيه مبدأ التكاليف الذي هو العقل الجزئى المنشعب من العقل الكل المنشعب من حضرة العلم الحضوري الحقي فلا بد له ان يصرفه الى امتثال ما امر واجتناب ما نهى ليكون في مرتبة العبودية مطمئنا راضيا مستدرجا من الحيوة الصورية الى الحيوة المعنوية التي هي عبارة عن الوجود البحت الا وهو الْحَيُّ الحقيقي الأزلي الأبدي السرمدي الدائم القائم بذاته الواجب الوجود في نفسه دائم التحقق والثبوت الْقَيُّومُ الذي لا تَأْخُذُهُ فتور وفترة وتعطيل وغفلة ولا سِنَةٌ نعاس لا ينتهى الى حد النوم وَلا نَوْمٌ يتجاوز عنها قدمها مع ان المناسب للترقي تأخيرها اهتماما بشأنها لكونها اقرب نسبة الى الله تعالى من النوم بالنسبة الى ذوى الأحلام السخيفة من المجسمة وغيرها القادر الحكيم لَهُ محافظة كل ما ظهر فِي السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات الذاتية التي هي أول كثرة ظهرت من الغيب المطلق الى الشهادة الاضافية وَكذا ما ظهر فِي الْأَرْضِ اى طبيعة العدم التي هي آخر كثرة عادت من الشهادة المطلقة الحقيقية الى الغيب الإضافي الذي هو قلب الإنسان وهو البرزخ بين الغيب المطلق الحقيقي والشهادة المطلقة الحقيقية مَنْ ذَا من الأنبياء والأولياء من الهادين المرشدين الَّذِي يَشْفَعُ للناقصين المنحطين عن الرتبة الانسانية عِنْدَهُ سبحانه إِلَّا بِإِذْنِهِ اى الا بوحيه سبحانه على قلبه برقائق مناسباته التي لا يمكننا التعبير عنها إذ هو الحكيم الذي يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حالتئذ وَما خَلْفَهُمْ ازلا وابدا وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ قليل مِنْ عِلْمِهِ الحضوري إِلَّا بِما شاءَ وتعلق ارادته ومشيته عليه من هذا يتفطن العارف المحقق ان العالم ما هو الا مظاهر ذات الحق واظلال أسمائه وآثار أوصافه إذ الموجود الحقيقي هو والوجود الحقيقي هو والقيوم المطلق هو والرقيب المحافظ الملازم على محافظة عموم ما ظهر وبطن في الاولى والاخرى هو والعالم المدبر بالحضور مصالح جميع
سعيه ومساعيهم حيث قال في فصوص الحكم وهذا وسع ابى يزيد في عالم الأجسام بل أقول لو ان ما لا يتناهى وجوده قدر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بذلك في علمه انتهى وبالجملة الحديث القدسي مغن عن أمثالهما لان قوله سبحانه وسعني قلب عبدى المؤمن وسعة قد عجز عنها التعبير مطلقا هب لنا من لدنك قلبا وسيعا فسيحا انك أنت الوهاب وَبالجملة مالكم وليس في وسعكم وطاقتكم ايها العباد من معرفة الذات الاحدية غير هذا هُوَ الْعَلِيُّ بذاته تعالى عن ان يدركه عقول العقلاء وتنزه عن ان يصفه السنة الفصحاء الْعَظِيمُ بآثار أسمائه وصفاته الممتدة على صفحات الاعدام وهو في ذاته على صرافة وحدته الذاتية وبعد ما ثبت كمال عظمة الله وجلاله
لا إِكْراهَ اى لا جبر ولا تهديد ولا اضطرار ولا إلجاء فِي الدِّينِ والانقياد بدين الإسلام والإطاعة له بعد ما ظهر الحق إذ قَدْ تَبَيَّنَ وتميز الرُّشْدُ والهداية مِنَ الْغَيِّ والضلالة فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ التي هي عبارة عن النفس الامارة المضلة عن طريق الحق وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ الهادي الى سواء السبيل فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بل تمسك وتشبث بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى التي هي حبل الله الممدود من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات بحيث لَا انْفِصامَ ولا انقطاع لَها أصلا وَاللَّهُ الهادي للكل نحو جنابه سَمِيعٌ بذاته لأقواله عَلِيمٌ بحكمه ومصالحه المودعة فيها فانظروا ما أنتم ايها الهلكى
وبالجملة اللَّهُ اى الذات المستجمع لجميع الأسماء والصفات وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله يولى أمورهم حسب شموله واحاطته إياهم بحيث يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ المتراكمة المزدحمة ظلمة الطبيعة وظلمة الإمكان وظلمة التعينات والإضافات الواقعة فيها إِلَى النُّورِ صفاء الوحدة الخالصة الخالية عن رين الإضافات وشين الكثرات مطلقا وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأنكروا ذاته وأوصافه الذاتية أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ التي هي علم الجنس للنفوس البهيمية التي هي الطواغيت المضلة عن الهدى الحقيقي لذلك يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ اى المرآة الصقيلة المجلوة القابلة لان يتراءى فيها جميع ما في العالم الا وهي قلب الإنسان المنعكس من اسم الرّحمن إِلَى الظُّلُماتِ ظلمة الغفلة وظلمة الكثرة وظلمة الاضافة وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون المطرودون عن ساحة عز الوحدة أَصْحابُ النَّارِ
أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى الكافر العابد للطاغوت وهو نمرود اللعين المكابر المعاند الَّذِي قد حَاجَّ على وجه الجدال والمراء مع إِبْراهِيمَ صلوات الرّحمن عليه فِي شأن رَبِّهِ وذلك سبب أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وأبطره عليه وغره به وذلك وقت إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ إلزاما له حين أخرجه من السجن فسأله عن ربه الذي يدعى الدعوة اليه رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي يوجد من العدم وَيُمِيتُ يرد اليه بعد إيجاده قالَ اللعين مجادلة ومكابرة أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ايضا بالعفو والقصاص قالَ إِبْراهِيمُ تصريحا لإلزامه من غير التفات الى كلامه فَإِنَّ اللَّهَ القادر على عموم المقدورات يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ أنت ايها المسرف المعاند بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ العاصي اللعين الَّذِي كَفَرَ بالله بدعوى المعارضة معه فصار مبهوتا متحيرا وَبالجملة اللَّهُ الهادي للكل لو شاء وتعلق مشيئته لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين المجاوزين عن حدود الله التاركين آداب العبودية معه
أَوْ كَالَّذِي اى الم تر الى الشخص الذي قد مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ هي بيت المقدس في زمان قد خربها بختنصر فرآها وَهِيَ خاوِيَةٌ ساقطة حيطانها عَلى عُرُوشِها قالَ محاجا مجادلا لا منكرا للحشر والنشر أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها اى كيف يقدر على احياء أهلها وهم قد انقرضوا واندرسوا الى حيث لم يبق منهم اثر فَأَماتَهُ اللَّهُ فجأة إظهارا لقدرته وتبيينا لحجته والبثه مِائَةَ عامٍ ميتا كالأموات الاخر ثُمَّ بَعَثَهُ وأحياه بعد تلك المدة ثم سأله هاتف بان قالَ كَمْ لَبِثْتَ في هذا المكان ايها اللابث قالَ لَبِثْتُ يَوْماً فالتفت الى الشمس فرأها باقية قال أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ له السائل أنت ما تعرف مدة لبثك في هذا الموضع فكيف تنكر الحشر بَلْ قد لَبِثْتَ أنت فيه مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ ايها المكابر المنكر للحشر الجسماني بنظر العبرة إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ولم يتغير من كمال قدرة الله على حفظه مع سرعة تغيره وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف تفرقت عظامه وتفتتت أوصاله واجزاؤه مع بطؤ تغيره وتفتته وَبعد ما نظرت إليهما معتبرا تذكر قولك حين مرورك على القرية انى يحيي هذه الله بعد موتها فالزم ثم قيل له من قبل الحق وانما فعلنا ذلك معك ايها المنكر للحشر والنشر لِنَجْعَلَكَ آيَةً حجة ودليلا لِلنَّاسِ القائلين بالحشر الجسماني على المنكرين المعاندين له وَبعد ما تحققت حالك انْظُرْ بنظر العبرة إِلَى الْعِظامِ الرفات التي تعجبت من كيفية إحيائها بل أنكرت عليها كَيْفَ نُنْشِزُها نركب بعضها مع بعض ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً بعد تتميم تركيب العظام على وجهها فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ امر الحشر الزم واسلم حيث قالَ أَعْلَمُ يقينا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر عَلى احياء كُلِّ شَيْءٍ مبدئا مبدعا قَدِيرٌ على احيائه موجدا معيدا مرة بعد اخرى وكرة بعد اولى
وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ جدك إِبْراهِيمُ الخليل الجليل صلوات الرّحمن عليه وسلامه حين أراد ان يتدرج ويرتقى من العلم الى العين ثم الى الحق رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ له ربه تنشيطا له على الترقي أَتقول ذلك وَلَمْ تُؤْمِنْ ولم تذعن وتوقن أنت ايها الخليل بانى قادر على الإيجاد الا عادى كما اننى قادر على الإيجاد الابداعى قالَ بَلى قد آمنت وأذعنت يا ربي بانك على كل شيء قدير وَلكِنْ انما سألتك المعاينة لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بها ويزيد بصيرتي بسببها وحيرتي منها قالَ سبحانه
ثم قال سبحانه مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ المنسوبة إليهم بنسبة شرعية فِي سَبِيلِ اللَّهِ طلبا لمرضاته كَمَثَلِ باذر حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَبالجملة اللَّهِ القادر المقتدر على عموم المقدورات يُضاعِفُ حسب قدرته الكاملة تلك المضاعفة ايضا بأضعاف غير متناهية لِمَنْ يَشاءُ من خلص عباده حسب إخلاصهم في نياتهم وبمقتضى إخراجهم نفوسهم عن البين وتفويضهم الأمور كلها الى الله اصالة وَاللَّهُ المتجلى في الأنفس والآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق واسِعٌ لا ضيق في احاطة فضله وإحسانه عَلِيمٌ بأحوال من توجه نحوه وأنفق لرضاه خالصا مخلصا بحيث لا يعزب عن حيطة علمه شيء ولا سيما بشر يا أكمل الرسل من بينهم المنفقين المحسنين
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ معتقدين انهم مستخلفون نائبون عن الله فيها لا مالكون لها حقيقة ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لاعتقادهم الاستخلاف والنيابة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ المخلف لهم المنيب إياهم بحيث لا يدرك سبحانه ولا يطلع مقداره وكيفيته أحدا من خلقه وَبعد ما أنفقوا ما أنفقوا على الوجه المذكور لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من الحساب والعقاب الأخروي وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوات الأجر وقلة الجزاء بل لهم عند ربهم ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
وبالجملة قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ورد جميل للسائل ناش من حسن الخلق وَمَغْفِرَةٌ مرجوة من الله بعد رده متحسرا على نعمة الانفاق خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً إذ بذلك القول يرجى الثواب وبتلك الصدقة يستحق العقاب وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن انفاقكم بالمن والأذى للفقراء الذين هم عيال الله وفي حمى لطفه وحوزة حفظه وحضانته حَلِيمٌ لا يعجل بمؤاخذة من يمن ويؤذى
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله الغنى الحليم مقتضى ايمانكم ان لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ عند الله بِالْمَنِّ وَالْأَذى
وَمَثَلُ المؤمنين المنفقين الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ في سبيل الله ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ لا لعوض ولا لغرض لا ديني ولا دنيوى فضلا عن سمة السمعة والرياء وعن وصمة المن والأذى وَتَثْبِيتاً اى احكاما وتقريرا لهم ناشئا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ليثبتوا على ما أمرهم الله به واستخلفهم فيه بقوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه كَمَثَلِ جَنَّةٍ اى مثلهم كمثل بستان واقع بِرَبْوَةٍ مكان مرتفع من الأرض قد أَصابَها وابِلٌ مطر وأنبتها نباتا حسنا ورباها فَآتَتْ أُكُلَها قطوفها وأثمارها ضِعْفَيْنِ بالنسبة الى ما في الأرض المنخفضة وما حصل فيها بتربية الوابل إياها وتنميته لها فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ اى ان لم يصبها وابل فيكفى في أضعاف ثمرتها طل وهو رطوبة رقيقة تنزل على الأرض في المواضع المرتفعة لصفاء هوائها وترابها عن جميع الكدورات كاراضى بيت المقدس شرفها الله. والمعنى ان انفاق المؤمن المخلص في الانفاق الطالب لرضا الحق المائل عن مطلق المن والأذى والسمعة والرياء الراغب الى امتثال الأمر وتثبيت النفس وتقريرها عليه كمثل تلك الجنة بل حقيقة ومعنى هي الجنة الحقيقية المثمرة لفواضل الإحسانات التي لا يدرك غورها ولا يكتنه طورها وَبالجملة اللَّهِ المحيط لجميع أحوالكم وأعمالكم بِما تَعْمَلُونَ من الإخلاص والرضا ورعونات الرياء وكدورات المن والأذى بَصِيرٌ لا يغيب عن بصارته وحضوره شيء ثم حث سبحانه عموم عباده على الإخلاص ورغبهم عن الرياء والمن والأذى على ابلغ وجه وآكده كأنه قد استدل عليه
فقال أَيَوَدُّ ويحب أَحَدُكُمْ ايها المؤمنون المنتشرون في فضاء الدنيا أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مملوءة مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ومع ذلك تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وكان لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ المتنوعة المتلونة وَالحال انه قد أَصابَهُ الْكِبَرُ وأدركه الهرم وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ لا يقدرون على الكسب فَأَصابَها اى الجنة المذكورة إِعْصارٌ اى ريح عاصفة تستدير عند هبوبها فيرى من شدة غبرتها ورفعتها مثل العمود الممدود نحو السماء ومع ذلك حدث فِيهِ نارٌ متكونة من الابخرة والادخنة المحبة فيه التقطها من شعل النيران الموقدة على الأرض فسقطت النار في الجنة المذكورة فَاحْتَرَقَتْ بالمرة بحيث قد خرجت عن الانتفاع مطلقا كيف يحرم صاحبها وحرمانكم ايها المراؤون بالأعمال الصالحة والصدقات في النشأة الاخرى أشد من حرمانه بل بأضعافه والآفة لإحراقكم جنة الأعمال الصالحة المشتملة على نخيل التوحيد وأعناب الرضاء والتسليم تجرى من تحتها انهار المعارف والحقائق المنتشئة من بحر جود الوجود المثمرة لثمرات الانفاق والصدقات المنشعبة من بحر الرضاء والتسليم المشعر للتحقق بمقام العبودية المسقط للاضافات كلها باعصار
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا لرضاء الله على المستحقين من عباده مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وجيدات ما اقترفتم في النشأة الاولى بالحراثة والتجارة والصناعة وَايضا مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ بلا سبق عمل منكم من الحبوب والثمار والمعدنيات وغير ذلك وَعليكم ان لا تَيَمَّمُوا ولا تقصدوا الْخَبِيثَ مِنْهُ اى لا تقصدوا الى إخراج الردى الخبيث من أموالكم المكتسبة والموهوبة حين تُنْفِقُونَ للفقراء وَالحال انكم لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ من الغير في معاملاتكم إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا وتسامحوا فِيهِ اى في اخذه وَبالجملة اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المقتدر الغيور غَنِيٌّ عن انفاقكم وتصدقكم وانما يأمركم به لانتفاعكم واستفادتكم إذ هو في ذاته حَمِيدٌ شكور مشكور في نفسه لولا أنتم وانفاقكم وشكركم
وبالجملة الشَّيْطانُ المضل المغوى يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ في الانفاق ويخوفكم منه ويوقع في انفسكم مخايل التقتير والإمساك وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ اى البخل المفرط المتجاوز عن الحد وَاللَّهُ المصلح لعموم مفاسدكم يَعِدُكُمُ فيه مَغْفِرَةً لذنوبكم ناشئة مِنْهُ سبحانه إحسانا وَفَضْلًا زائدا على وجه التبرع والإكرام خلفا لما أنفقتم في سبيله طلبا لمرضاته وَاللَّهُ واسِعٌ لا ضيق في سعة فضله وإحسانه عَلِيمٌ بنية من أنفق وإخلاصه فيها حكيم في إفاضته على قلوب خلص عباده بمقتضى حكمته
إذ هو سبحانه يُؤْتِي الْحِكْمَةَ اى سرائر جميع الأعمال المأمورة لعباده مَنْ يَشاءُ بفضله وجوده عناية منه وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ من العباد فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً لا يحيط بكثرته الا هو وَما يَذَّكَّرُ اى ما يتذكر وما يتعظ بمضمون هذه الآية الكريمة الشاملة لفوائد لا تحصى إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ الواصلون الى لب الأمور المائلون عن قشورها المتوجهون الى الله بالعزائم الصحيحة المعرضون عن الرخص المؤدية الى الجرائم
وَاعلموا ايها المؤمنون المستمسكون بحبل التوفيق الإلهي ان ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ خالصة لمرضاة الله أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ يؤدى الى الانفاق في سبيل الله فَإِنَّ اللَّهَ الموفق لكم على عموم مصالحكم يَعْلَمُهُ بعلمه الحضوري ويجازى عليه بأضعافه وآلافه وَما لِلظَّالِمِينَ المجاوزين والمتجاوزين عن حدوده بمتابعة الشيطان المضل عن طريق الحق مِنْ أَنْصارٍ ينصرهم عند انتقام الله إياهم وقهرهم على ما صدر عنهم من الفسوق والعصيان ومن التبذيرات الواقعة فيها
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ ايها المؤمنون وتظهروها فَنِعِمَّا هِيَ اى نعم شيأ عند الله وعند الناس إبداء الصدقات وإعطاؤها علانية وَإِنْ تُخْفُوها اى الصدقات وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ خفية من الناس فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من ابدائها لعرائها عن وصمة السمعة والرياء وعن شوب المن والأذى ولا سيما عن لحوق العار على الفقراء وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ لستركم ذلة الفقراء الذين يذلون عند أخذها منكم وَاللَّهُ المجازى لكم بِما تَعْمَلُونَ من الخيرات خَبِيرٌ يكفيكم خبرته بمجازاتكم عليه
ثم قال سبحانه مخاطبا لنبيه كلاما خاليا عن وصمة الشبهة ناشئا عن محض الحكمة لَيْسَ عَلَيْكَ يا أكمل الرسل هُداهُمْ
لِلْفُقَراءِ العرفاء الأمناء الَّذِينَ أُحْصِرُوا اى قد تقرروا وتمكنوا مستغرقين متحيرين فِي سَبِيلِ اللَّهِ متشمرين للفناء فيه باذلين مهجهم في طريق توحيده بحيث لا يَسْتَطِيعُونَ من غاية استغراقهم في مطالعة جماله ضَرْباً فِي الْأَرْضِ لطلب الرزق الصوري ومن غاية استغنائهم عن الدنيا وما فيها يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ بحالهم أَغْنِياءَ مِنَ كمال التَّعَفُّفِ المرتكز في جبلتهم بحيث تَعْرِفُهُمْ وتنتبه على حالهم واحتياجهم ايها المؤمن المنفق لرضاء الله بِسِيماهُمْ من ضعف القوى ورثاثة الحال وبالجملة هم من غاية رجوعهم وركونهم عن الدنيا وما فيها نحو المولى لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ ولا يطلبون منهم حوائجهم وكفافهم إِلْحافاً جهارا إلحاحا متمنين راجين منهم مما عندهم بل رزقهم على الله يرزقهم من حيث لا يحتسب وبعد ما سمعتم أوصاف أولئك الوالهين في مطالعة جمال الله وجلاله بادروا الى تقوية أمزجتهم وتربية طباعهم بما عندكم من الرزق الصوري ليتمكن لهم الوصول الى الدرجة العليا والسعادة العظمى التي لا مرتبة أعظم منها وأعلى وَاعلموا ايها المنفقون ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ سيما لهؤلاء العظماء الكرام فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ بذاته عَلِيمٌ يجازيكم بمقتضى علمه بإحسانكم وإخلاصكم فيه ربنا اجعلنا من خدامهم وتراب اقدامهم وبالجملة المؤمنون الموقنون المحسنون
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ المنسوبة إليهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً اى في عموم أوقاتهم وحالاتهم طلبا لمرضاة الله وهربا عما يشغلهم عن مطالعة جماله فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ حسب قابليتهم واستعدادهم وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من التضييع والإحباط وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من سوء المنقلب والمآب
ثم قال سبحانه المفسدون المسرفون المفرطون الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا وهي عبارة عن تنمية المال بأسوء الطرق وأقبح السبل المؤدى الى إضرار الأخ المسلم وإتلاف ماله وإخراجه من يده مجانا بلا رعاية غبطته وجانبه أصلا وهم لا يَقُومُونَ في يوم البعث والحشر إِلَّا كَما يَقُومُ الشخص الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ اى الجن مِنَ الْمَسِّ في النوم كيف يقوم مصروعا حائرا مضطربا متهتكا قلقا هائلا هائما وما ذلِكَ الا بِأَنَّهُمْ اى بشؤم ما قالُوا في نفوسهم مصرين معتقدين إِنَّمَا الْبَيْعُ في التنمية والزيادة مِثْلُ الرِّبا وهما سيان في الازدياد والنمو وَمن اين أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وما يترتب عليه من الربح وَحَرَّمَ الرِّبا مع ان رضاء المتعاقدين حاصل فيها من كلا الجانبين وبالجملة فَمَنْ جاءَهُ وبلغه مَوْعِظَةٌ مِنْ قبل رَبِّهِ فَانْتَهى
ومن سنته سبحانه انه يَمْحَقُ اللَّهُ العليم الحكيم الرِّبا اى يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل هي فيه وَيُرْبِي اى يزيد وينمى المال الذي يخرج منه الصَّدَقاتِ ويضاعف ثوابها ويبارك على صاحبها كما أشار اليه صلّى الله عليه وسلّم بقوله ما نقصت زكاة من مال قط وَاللَّهُ المتجلى بالتجلى الحبى لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ ستار مصر على تحليل المحرمات أَثِيمٍ بارتكاب المحظورات مجترئ على ترك المأمورات
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر في ذاته وبرسوله المرسل من عنده وبجميع ما جاء به من الأوامر والنواهي وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ اى الأعمال المأمورة لهم تتميما لإيمانهم وتأكيدا له وَلا سيما قد أَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة لهم بمقتضى الكتاب الإلهي وَايضا آتَوُا الزَّكاةَ المكتوبة عليهم فيه لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من ترقب مولم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوت مسر ملذ بل لهم جميع ما ينبغي لهم ويليق بحالهم بالفعل بلا انتظار وترقب
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ اى مقتضى ايمانكم اختيار التقوى عن محارم الله والعزيمة الخالصة في جميع الأعمال المأمورة لكم والاجتناب عن الرخص سيما عن المناهي وَذَرُوا واتركوا ما بَقِيَ لكم مِنَ الرِّبا عند الغرماء إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بحرمة الربوا وبسر حرمته وحكمة منعه
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولم تمتثلوا بما أمرتم ولم تتيقنوا سر ما منعتم منه فَأْذَنُوا اى انتظروا وترقبوا بِحَرْبٍ عظيم نازل مِنَ اللَّهِ المتجلى باسمه المنتقم وَمن رَسُولِهِ التابع له المتخلق بأخلاقه وَإِنْ تُبْتُمْ عن الارتباء والانتماء على هذا الطريق الأخس الأدنى فَلَكُمْ في دينكم هذا رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ على السواء بحيث لا تَظْلِمُونَ أنتم بأخذ الزيادة وإتلاف مال الغريم بلا عوض وَايضا لا تَظْلِمُونَ ولا تتضررون أنتم بالمطل والتسويف في الأداء والتأخير فيه
وَإِنْ كانَ الغريم الذي عليه رؤس أموالكم ذُو عُسْرَةٍ لا يقدر على أداء حقوقكم دفعة فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ اى فعليكم ان تنظروه وتمهلوه الى وقت ايساره ثم تأخذوا وَأَنْ تَصَدَّقُوا اى تصدقكم بها على ذي عسرة خَيْرٌ لَكُمْ عند الله يجازيكم به جزاء لا يدرك كنهه الا هو إذ إدخال السرور في قلب المؤمن سيما في هذه الحالة يوازى عند الله عمل الثقلين إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ هذا تتصدقون بها البتة
وَبالجملة اتَّقُوا يَوْماً واى يوم يوما تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ المسقط لجميع الإضافات المطلع على جميع الحالات منسلخين عن عموم ما أنتم عليه في الدنيا مؤاخذين عليها لتحاسبوا عن نقير وقطمير ثم تجازوا عليها ثُمَّ تُوَفَّى وتجزى كُلُّ نَفْسٍ على مقتضى ما كَسَبَتْ من خير وشر وظلم وجور وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أصلا لا بتنقيص الثواب ولا بتضعيف العقاب بل كل نفس فيها رهينة بما كسبت. وعن ابن عباس رضى الله عنهما انها آخر آية نزل بها جبريل عليه السّلام وقال ضعها في رأس المأتين والثمانين من البقرة وعاش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدها أحدا وعشرين يوما وقيل أحدا وثمانين وقيل سبعة ايام وقيل ثلاث ساعات وعليك ايها المؤمن المتوجه الى تصفية الذات يسر الله عليك أمرك ان تدخر لنفسك من هذه الآية من الزاد ما لا يسعه
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم المحافظة على الحدود الشرعية سيما إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ اى يعطى بعضكم بعضا ويأخذه ان يؤديه له إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معين معلوم مقدر بالأيام والشهور والأعوام لا بوقت الحصاد وقدوم الحاج وغير ذلك من المبهمات فَاكْتُبُوهُ لئلا يقع بينكم العداوة والبغضاء المؤدية الى النزاع والمراء المنافى للايمان والتوحيد وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ على الوجه الذي وقع بلا زيادة ولا نقصان والحاصل ان يكتب صورة المراضاة المعقودة المعهودة بينكم حين الأخذ والإعطاء بلا تفاوت حتى يكون وقاية لكم لدى الحاجة وَبعد ما شرع في الكتابة لا يَأْبَ ولا يمتنع كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ اى لا يوجز ايجازا مخلا ناقصا منقصا ولا يطنب اطنابا مخلا مزيدا لئلا يؤدى الى النزاع والمناكرة عند الأداء بل فَلْيَكْتُبْ الكاتب العادل عدلا وَلْيُمْلِلِ على الكاتب المديون وهو الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ والقضاء لأنه المعترف بالأداء وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ حين الإملاء عن فوت شيء من الحقوق وَلا يَبْخَسْ اى لا ينقص مِنْهُ شَيْئاً هذا التخصيص بعد ما دل عليه الكلام السابق ما هو الا لزيادة تأكيد والاهتمام في الاجتناب عن تضييع الحقوق فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً ناقص العقل منحطا عن العدالة أَوْ ضَعِيفاً في الرأى والقوة غير مراع للغبطة لأجل الصبا او الهرم أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ لخرس او جهل باللغة فَلْيُمْلِلْ من قبله وَلِيُّهُ اى من يولى امره شرعا ملتبسا بِالْعَدْلِ مع رعاية الجانبين بلا ازدياد ولا تبخيس وَمع ذلك اسْتَشْهِدُوا على دينكم ومراضاتكم من الجانبين شَهِيدَيْنِ حاضرين في مجلس المراضاة مِنْ رِجالِكُمْ لكمال عقلهم ودينهم فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ اى فعليكم ان تستشهدوا بدل الرجلين رجلا وامرأتين دفعا للحرج هذا مخصوص بالأموال دون الحدود والقصاص لقلة عقلهن وضعف تأملهن مِمَّنْ تَرْضَوْنَ أنتم ايها المعاملون مِنَ الشُّهَداءِ الذين ثبتت عندكم عدالتهم وأمانتهم وديانتهم وانما خص هذا العدد لأجل أَنْ تَضِلَّ وتنسى إِحْداهُما بطول الزمان فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اى الذاكرة منهما الْأُخْرى الناسية لئلا تضيع حقوق المسلمين وَبعد ما شرع الاشهاد في الوقائع لا يَأْبَ ولا يمتنع الشُّهَداءِ عن الحضور إِذا ما دُعُوا لأداء الشهادة او تحملها وَمع الاشهاد والاستشهاد لا تَسْئَمُوا ولا تساهلوا في هذا ايها المؤمنون المعاملون أَنْ تَكْتُبُوهُ اى الكتاب الشامل على مراضاتكم في معاملاتكم المؤجلة صَغِيراً كان الحق أَوْ كَبِيراً قليلا او كثيرا فاحفظوه إِلى وقت حلول أَجَلِهِ المسمى له عند الأخذ ذلِكُمْ اى الكتاب على الوجه المذكور أَقْسَطُ اعدل معاملاتكم عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وأعون لأدائها وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا اى اقرب الطرق لحفظ ما جرى بينكم من المعاملة نسية فعليكم ان تحافظوا عليها ولا تجاوزوا عنها إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها وتداولونها بَيْنَكُمْ يدا بيد فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ضيق وذنب أَلَّا تَكْتُبُوها لبعدها عن التنازع وَبالجملة أَشْهِدُوا فيها وان لم تكتبوها إِذا تَبايَعْتُمْ احتياطا إذ البشر قلما يخلو عن الضرر والإضرار وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ هذه الصيغة تحتمل البنائين وكل منهما يصلح لان يكون مرادا اما بناء الفاعل
وَإِنْ كُنْتُمْ ايها المتداينون عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ اى فعليكم في أمثال هذه المعاملات رهان مقبوضة من المديون الى الأجل المسمى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ ايها الدائنون بَعْضاً من المديونين بلا ارتهان اعتمادا على أمانته فَلْيُؤَدِّ المديون الَّذِي اؤْتُمِنَ اعتمادا أَمانَتَهُ اى دينه الذي في ذمته عند انقضاء اجله المسمى وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ في الإنكار والخيانة والبخس والمماطلة وَلا تَكْتُمُوا ايها المؤمنون الشَّهادَةَ الحاضرة الحاصلة عندكم المتعلقة بحقوق الناس سواء كنتم من المستشهدين او الشاهدين على انفسكم المقرين المعترفين بما في ذمتكم من حقوق الغير وَمَنْ يَكْتُمْها عنادا واستكبارا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ اى يأثم قلبه ومن كان إثمه من قلبه لا يرجى منه الفلاح والفوز بالنجاح وَاللَّهُ المحيط بعموم حيلكم ومخايلكم بِما تَعْمَلُونَ من الخيانة والإنكار وكتمان الشهادة والإضرار عَلِيمٌ ينتقم عنكم بكل ما جرى في نفوسكم منها
واعلموا ايها المكلفون بإقامة الحدود الإلهية انه لِلَّهِ الواحد الأحد الصمد الفرد الحي الحقيق بالحقية القيوم المتفرد بالقيومية الدائم الظاهر المتوحد بالديمومية مظاهر ما فِي السَّماواتِ اى سموات الأسماء الذاتية والصفات الفعلية وَما فِي الْأَرْضِ اى الطبيعة العدمية القابلة لمظهرية آثار الصفات الذاتية المحدثة المظهرة للكائنات الكونية الكيانية والواردات الغيبية والواضحات العينية وَبعد ظهور عموم ما ظهر وما بطن عنده سبحانه إِنْ تُبْدُوا وتظهروا ايها الاظلال والعكوس ما فِي أَنْفُسِكُمْ من مقتضيات الأنانية ودعوى الاصالة في الوجود والاستقلال بالآثار أَوْ تُخْفُوهُ وتكتموه يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ الجامع لجميع الأسماء المحيط لجميع الأشياء بل وجود عموم الأشياء كلها مستهلكة في وجوده سبحانه فانية في ذاته فَيَغْفِرُ اى يستر ويمحو ذنب الأنانية ومعصية الغيرية لِمَنْ يَشاءُ من عباده بفضله وجوده وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بمقتضى قهره وجلاله ارادة واختيارا إظهارا لقدرته وقلعا لشركته وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مما شاء ويشاء قَدِيرٌ بالقدرة الازلية الابدية له التصرف مطلقا في عموم ما كان ويكون لا يعزب عن حضوره ذرة ولا يشغله فترة وتعطيل
وعلى ذلك قد آمَنَ الرَّسُولُ الفاني في الله الباقي ببقائه المستغرق بمطالعة لقائه بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات المتكثرة المتجددة بتجددات التجليات المنتشئة مِنْ رَبِّهِ الذي رباه لاستخلافه ونيابته وتحمل اسرار أعباء نبوته ورسالته وَالْمُؤْمِنُونَ المتبعون المسترشدون منه المقتفون اثره صلّى الله عليه وسلم كُلٌّ منهم قد آمَنَ بِاللَّهِ المتفرد بالبقاء المتعزز بالعظمة والكبرياء وَمَلائِكَتِهِ الموسومين بالصفات الذاتية والأسماء الإلهية وَكُتُبِهِ المترتبة على صفة الكلام المنزلة على السنة الرسل والأنبياء للهداية والإهداء وَرُسُلِهِ المنبهين على ذوى البصائر والنهى مما في مضامين
ثم نبه سبحانه على خلص عباده ما يئول أمرهم اليه وينقطع سعيهم دونه بقوله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ الهادي لعباده نحو جنابه نَفْساً إِلَّا وُسْعَها اى حسب ما في وسعها واستعدادها مما عينه الله له في سابق علمه ولوح قضائه فظهر انه لَها ما كَسَبَتْ من ثواب الخيرات حسب استعداده الفطري وَعَلَيْها ايضا مَا اكْتَسَبَتْ من جزاء الشرور والقبائح بمتابعة القوى الامارة الامكانية التي هي منشأ جميع الفتن والفساد ثم لما أشار سبحانه الى سرائر التكاليف والمجازاة أراد ان يشير الى ان الإتيان بما كلف به لا يكون الا باقداره وتوفيقه وجذب من عنده لذلك لقنهم الدعاء اليه والاستعانة منه والمناجاة معه بقوله رَبَّنا يا من ربيتنا بلطفك لقبول تكليفاتك لنصل الى صفاء توحيدك وتقديسك لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا إتيان ما كلفتنا به بسبب إمكاننا أَوْ أَخْطَأْنا فيها لقصور إدراكنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً حجابا غليظا وغشاء كثيفا تعمى به بصائر قلوبنا عن ادراك نور توحيدك وأبصارنا عن احساس شمس ذاتك كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا سهل علينا طريق توحيدك وَلا تُحَمِّلْنا من متاعب الرياضات ومشاق التكليفات القالعة لدرن الإمكان ورين التعلقات ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ولا يسع في وسعنا العمل والإتيان به وَاعْفُ اى امح بفضلك عَنَّا مقتضيات القوى البشرية واوصافنا الامكانية وَاغْفِرْ لَنا اى استر انانيتنا وهويتنا عن نظرنا وَارْحَمْنا بعد ذلك برحمتك الواسعة أَنْتَ مَوْلانا ومولى نعمنا فَانْصُرْنا بعونك ونصرك في ترويج دينك وإعلاء كلمة توحيدك عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق الظاهر في الأنفس والآفاق حققنا بلطفك بحقيتك وتوحيدك يا خير الناصرين ويا هادي المضلين
خاتمة سورة البقرة
عليك ايها المحمدي المتوجه نحو توحيد الذات شرح الله صدرك ويسر لك أمرك ان تأخذ نصيبك حسب قدرتك وطاقتك من هذه السورة المشتملة على جميع المطالب الدينية والمراتب اليقينية فلك ان تشمر أولا ذيلك عن الدنيا وما فيها معرضا عن لذاتها وشهواتها متوجها بوجه قلبك الى توحيد ربك مستفتحا بما أودعه سبحانه في صدرك من خزائن جوده ودفائن وجوده طاويا كشح حالك ومقالك عما لا يعنيك هاربا عن مصاحبة ما يضرك ويغويك طالبا الوصول الى معارج التوحيد ومدارج التجريد والتفريد راغبا عما سوى الحق من اسباب الكثرة والتقييد مستنشقا من نسمات أنسه ونفحات قدسه مستروحا بنفثات رحمته مستكشفا عن اسرار ربوبيته مستهديا من زلال هدايته بمتابعة نبيه المخلوق على صورته المبعوث الى جميع بريته مسترشدا من كتابه المنزل عليه
[سورة آل عمران]
فاتحة سورة آل عمران
لا يخفى على الراسخين في العلوم اللدنية المتأملين في محكمات الكتب المنزلة من عند الله المتعلقة بتهذيب الظاهر عن الكدورات البشرية ومتشابهاتها المصفية للباطن بالنسبة الى اولى العزائم الصحيحة عن جميع الأوهام والخيالات الفاسدة المنافية لصرافة الوحدة الذاتية الهوية السارية في جميع المظاهر حسب تعددات التجليات المترتبة على الأوصاف والأسماء الذاتية ان سر الإنزال والإرسال والوحى على الأنبياء والإلهامات والارهاصات الواردة على قلوب المخلصين من الأولياء انما هو للتفطن والتنبه على كيفية انبساط الظل الإلهي الممتد على طبيعة العدم المقابل للوجود القابل لانعكاس اشعة انواره الفائضة حسب تجلياته الجمالية والجلالية وكيفية ارتباط الاظلال والعكوس الغير المحصورة على المبدأ الوحدانى الذي هو الوحدة الذاتية التي لا تعدد فيه أصلا الا بحسب الأوصاف والشئون كما قال سبحانه في وصف ذاته المنزه عن شوب الكثرة. قل هو الله احد السورة وقال في شانه المقتضى للتعدد كل يوم هو في شأن وقال في ارتباط الاظلال ورجوعها الى الوحدة وما من دابة الا هو آخذ بناصيتها الآية. وقال ايضا بلسان الاظلال. انا لله وانا اليه راجعون وقال ايضا. كل إلينا راجعون. وقال ان إلينا إيابهم الى غير ذلك من الآيات والاخبار الواردة في هذا الباب والشهودات والكشوفات الصادرة من ارباب الولاء أنار الله براهينهم. ولما كان الإنسان الكامل قابلا لمظهرية جميع الأوصاف الإلهية لائقا للخلافة والنيابة عنه سبحانه انزل عليه من عنده كتابا مشتملا على عموم ما كان ويكون من رطب ويابس ونقير وقطمير كما قال سبحانه في محكم تنزيله. ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين. وقال في وصف كتابه. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فلا بد للمسترشد الخبير منه ان يتعمق في طلب دفائن اسراره الكامنة في أغواره ويغوص في ذخار تيار بحاره حتى يفوز بغرر فوائده ودرر فرائده ويتحقق بمقام التخلق بأخلاق الله تعالى حتى يتصف بالخلافة والنيابة الإلهية ويستحق الخطاب الإلهي ولهذا خاطب سبحانه رسوله الذي هو أكمل الرسل الكاملين وأتم المخلوقين صلوات الله عليه وسلامه متبركا بِسْمِ اللَّهِ