تفسير سورة البقرة

اللباب
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة البقرة مدنية
مائتان وستة وثمانون آية
نزلت في مُدد شتى.
وقيل : هي أول سورة نزلت ب " المدينة " إلا قوله تعالى :﴿ واتقوا يوما تُرجعون فيه إلى الله ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ] فإنها آخر آية نزلت، ونزلت يوم النحر في حجة الوداع ب " منى "، وآيات الرّبا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن.
قال خالد بن معدان١ : ويقال لها : فُسطاط القرآن.
وتعلمها عمر-رضي الله عنه- بفقهها، وما تحتوي عليه في اثنتي عشرة سنة، وابنه عبد الله في ثماني سنين.
قال ابن العربي رضي الله عنه :" سمعت بعض أشياخي يقول : فيها ألف أمر، وألف نهي، وألف حكم، وألف خبر ".
وهي مائتان وستة وثمانون آية، وستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة، وخمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرف. عن سهل بن سعد٢ -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته نهارا لم يدخله شيطان ثلاثة أيام، ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال " ٣.
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال : بعث النبي –صلى الله عليه وسلم- بعثا ثم أتبعهم بسفر، فجاء إنسان منهم فقال :" ما معك من القرآن ؟ " حتى أتى على أحدثهم سنًّا فقال له :" ما معك من القرآن ؟ " قال :" كذا وكذا، وسورة البقرة فقال :" اخرُجوا وهذا عليكم أمير " فقالوا : يا رسول الله هو أحدثنا فقال :" معه سورة البقرة " ٤.
١ - خالد بن معدان الكلاعي أبو عبد الله الحمصي، عن جماعة من الصحابة مرسلا وعن معاوية والمقدام بن معد يكرب وأبي أمامة. وعنه: ثور بن يزيد ومحمد بن إبراهيم التيمي وخلق. كان من فقهاء التابعين وأعيانهم. روي عنه أنه قال: أدركت سبعين من الصحابة. توفي سنة ثلاث أو أربع أو ثمان ومائة ينظر خلاصة تهذيب الكمال: ١/٢٨٤..
٢ - سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة الأنصاري، أبو العباس المدني له مائة حديث وثمانون حديثا. وعنه: الزهري وأبو حاتم وأبو سهل الأصبحي. قال أبو نعيم: مات سنة إحدى وتسعين عن مائة سنة. ينظر خلاصة الخزرجي: ١/٤٢٦..
٣ - أخرجه الترمذي في السنن (٥/١٤٥) كتاب فضائل القرآن باب فضل سورة البقرة حديث (٢٨٧٨) وأخرجه ابن حبان في الموارد حديث رقم (١٧٢٧) – والحاكم في المستدرك (١/٥٦٠)، (٢/٢٥٩) – وعبد الرزاق في مصنفه حديث رقم (٦٠١٩) - والطبراني في الكبير (٦/٢٠١) - والحميدي في المسند (٩٩٤) وذكره المنذري في الترغيب (٢/٣٧٠) - والهيثمي في الزوائد (٦/٣١٤) والهندي في كنز العمال حديث رقم (٢٥٤٩)..
٤ - أخرجه البخاري في الصحيح (٦/٢٣٧)، (٧/١٧، ٢٠٢) والترمذي في السنن (٥/١٤٤) كتاب فضائل القرآن (٤٦) باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي (٢) حديث رقم (٢٨٧٦) وقال أبو عيسى هذا حديث حسن – والدارقطني في السنن (٢/٤٤٨) باب في فضل سورة البقرة والطبراني في الكبير (٦/١٦٤، ١٧، ٢٢٧) - وذكره الزيلعي في نصب الراية (٣/٢٠٠) - وابن حجر في فتح الباري ٩/٧٤، ١٠/٣٢٣..

إن قيل: إن الحروف المقطّعة في أوائل السور أسماء حروف التهجَّي، بمعنى أن الميم اسم ل «مه» والعين ل «عَه»، وإن فائدتها إعلامهم بأن هذا القرآن منتظمٌ من جنس ما تنتظمون من كلامهم، ولكن عجزتم عنه، فلا محلّ لها حينئذ من الإعراب، وإنما جيء بها لهذه الفائدة، فألقيت كأسماء الأعداد ونحو: «واحد اثنان»، وهذا أصح الأقوال الثلاثة، أعني أن في الأسماء التي لم يقصد الإخبار عنها ولا بها ثلاثة أقوال:
أحدها: ما تقدم.
والثاني: أنها معربة، بمعنى أنها صالحة للإعراب، وإنما فات شرطه وهو التركيب، وإليه مال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ.
والثالث: أنها موقوفة أي لا معربة ولا منيبةٌ.
أو إن قيل: إنها أسماء السور المفتتحة بها، أو إنها بعض أسماء الله - تعالى - حذف بعضها، وبقي منها هذه الحروف دالّة عليها وهو رأي ابن عبّاس - رضي الله تعالى عنهما - كقوله: الميم من «عليهم»، والصاد من «صادق»، فلها حينئذ محلّ من الإعراب ويحتمل الرفع والنصب والجر: فالرفع على أحد وجهين أيضاً: إما بإضمار فعلٍ لائقٍ، تقديره: اقرءوا: «الم»، وإما بإسقاط حرف القسم؛ كقول الشاعر: [الوافر]
251
يريد: وأَمَانَةِ الله.
وكذلك هذه الحروف أقسم الله بها.
وقد رد الزَّمَخْشَرِيّ هذا الوجه بما معناه: أنّ القرآن في: ﴿والقرآن ذِي الذكر﴾ [ص: ١] وللقلم في ﴿ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: ١] محلوف بهما لظهور الجرّ فيهما، وحينئذ لا يخلو أن تُجْعَل الواو الداخلة عليها للقسم، أو للعطف، والأول يلزم منه محذور، وهو الجمع بين قسمين على مقسم قال: [وهم يستكرهون] ذلك.
والثاني ممنوع، لظهور الجَرِّ فيما بعدها، والفرض أنك قدرت المعطوف عليه من مَحَلّ نصب، وهو ردّ واضح، إلا أن يقال: في محلّ نصب إلا فيما ظهر فيه الجر [فيما بعده] كالموضعين المتقدمين؛ ﴿حموالكتاب﴾ [الزخرف: ١ - ٢]، و ﴿ق والقرآن﴾ [ق: ١] ولكن القائل بذلك لم يفرق بين موضع وموضع، فالرد لازم كله.
والجَرِّ من وجهٍ واحدٍ، وهو أنها مقسمٌ بها، حذف حرف القسم، وبقي عمله كقولهم: «اللهِ لأفعلنَّ» أجاز ذلك الزمخشري، وأبو البقاء رحمهما الله، وهذا ضعيف؛ لأن ذلك من خصائص الجَلاَلَة المعظمة لا يشاركها فيه غيرها.
فتخلص مما تقدم أن في «الم» ونحوها ستة أوجه وهي: أنها لا محل لها من الإعراب، أوْ لَهَا محل، وهو الرفع بالابتداء، أو الخبر.
والنَّصب بإضمار فعل، أو حذف حرف القسم.
252

فصل في الحروف المقطعة


سئل الشعبي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - عن هذه الحروف فقال: سرّ الله، فلا تطلبوه.
وروى أبو ظِبْيَانَ عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - قال: عجزت العلماء عن إدْرَاكِهَا، وقال الشعبي وجماعة رحمهم الله سائر حروف التهجّي في أوائل السور من المتشابهة الذي استأثر الله بعلمه، وهي سرّ القرآن؛ فنحن نؤمن بظاهرها، ونَكِلُ العلمَ فيها إلى الله تعالى.
قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: «في كل كتاب سِرّ» وسرُّ الله - تعالى - في القرآن أوائل السور «.
ونقل ابنُ الخَطِيِبِ رَحِمَهُ اللهُ أن المتكلمين أنكروا هذا القول، وقالوا: لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لاَ يَكُونُ مفهوماً للخلق، واحتجوا عليه بآيات منها:
قوله تبارك وتعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ﴾ [محمد: ٢٤] بالتدَّبر في القرآن، ولو كان غير مفهوم، فكيف يأمر بالتدبّر فيه.
253
وكذا قوله ﴿أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾ [النساء: ٨٢] فكيف يأمر بالتدبر لمعرفة نفي التناقض والاختلاف، وهو غير مفهوم للخلق؟
ومنها قوله تعالى: ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين﴾ [الشعراء: ١٩٣ - ١٩٥]، فلو لم يكن مفهوما بطل كون الرسول - عليه السلام - منذرا به، وأيضا قوله: ﴿بلسان عربي مبين﴾ يدل على أنه نازل بلغة العرب، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مفهوما.
ومنها قوله تعالى: ﴿لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ [النساء: ٨٣]، والاستنباط منه لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه.
ومنها قوله تعالى: ﴿تبيينا لكل شيء﴾ [النحل: ٨٩].
وقوله تعالى: ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾ [الأنعام: ٣٨].
وقوله تعالى: ﴿هدى للناس﴾ [البقرة: ١٨٥]، ﴿هدى للمتقين﴾ [البقرة: ٢]، وغير المعلوم لا يكون هدى.
وقوله تعالى: ﴿وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين﴾ [يونس: ٥٧] وكل هذه الصفات لا تحصر في غير المعلوم.
وقوله تبارك وتعالى: ﴿قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين﴾ [المائدة: ١٥].
وقوله تعالى: ﴿أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون﴾ [العنكبوت: ٥١] فكيف يكون الكتاب كافيا وكيف يكون ذكره مع أنه غير مفهوم؟
وقوله تعالى: ﴿هذا بلاغ للناس ولينذروا به﴾ [إبراهيم: ٥٢]، فكيف يكون بلاغا؟ وكيف يقع به الإنذار مع أنه غير معلوم؟
وقال في آخر الآية: ﴿ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب﴾، وإنما يكون كذلك لو كان معلوما.
وقوله تعالى: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾ [الإسراء: ٩] فكيف يكون هاديا، مع أنه غير معلوم، ومن الأخبار قوله عليه الصلاة والسلام: " إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي " فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم؟
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "
254
عليكم بكتاب الله - فيه نبأ ما قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله تعالى. ومن اتبع الهدى في غيره أضله الله - تعالى - هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع به العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ".
ومن المعقول أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم إلا به لكانت المخاطبة به نحو مخاطبة العرب باللغة الزنجية، ولما لم يجز ذلك فكذا هذا.
وأيضا المقصود من الكلام الإفهام، فلو لم يكن مفهوما لكانت المخاطبة عبثا وسفها، وهو لا يليق بالحكيم.
وأيضا أن التحدي وقع بالقرآن، وما لا يكون معلوما لا يجوز وقوع التحدي به.
واحتج مخالفوهم بالآية، والخبر، والمعقول.
أما الآية فهو أن المتشابه من القرآن، وأنه غير معلوم؛ لقوله تعالى: ﴿وما يعلم تأويله إلا الله﴾ [آل عمران: ٧] والوقف ها هنا، لوجوه:
أحدها: أن قوله تعالى: " والراسخون في العلم " لو كان معطوفا على قوله تعالى " إلا الله " لبقي قوله: " يقولون آمنا به " منقطعا عنه، وإنه غير جائز؛ لأنه لا يقال: إنه حال، لأنا نقول: فحينئذ يرجع إلى كل ما تقدم، فيلزم أن يكون الله تعالى قائلا: ﴿يقولون آمنا به كل من عند ربنا﴾ وهذا كفر.
وثانيها: أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه، فإنهم لما عرفوه بالدلالة لم يكن الإيمان به إلا كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح.
وثالثها: أن تأويلها كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذما، لكن قد جعله ذما حيث قال: ﴿فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله﴾ [آل عمران: ٧] وأما الخبر فروي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: " إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله تعالى فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله ".
255
ولأن القول بأن هذه الفَوَاتح غير معلومة مروي عن أكابر الصَّحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهم فوجب أن يكون حقَّاً، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» أَصْحَابي كالنُّجُوم بأيّهم اقْتَدَيْتُمْ اهتديتم «.
وأما المعقول فهو أنَّ الأفعال التي كلّفنا الله تعالى بها قسمان: منها ما يعرف وَجْهَ الحكمة فيه على الجُمْلَة بعقولنا كأفعال الحَجِّ في رَمْيِ الجَمَرَات، والسَّعي بين الصفا والمروة، والرَّمل، والاضْطِبَاع.
ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله - تعالى - أن يأمر عباده بالنوع الأول، فكذا يحسن الأمر بالنوع الثاني؛ لأنّ الطَّاعة في النوع الأول، تدلُّ على كمال الانقياد والتسليم، لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وَجْهِ المصلحة فيه.
أما الطاعة في النوع الثاني، فإِنها تدلّ على كمال الانقياد والتسليم، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال، فلم لا يجوز أيضاً أن يكون [الأمر] كذلك في الأقوال؟ وهو أن يأمر الله - تعالى - تارةً أن نتكلم بما نقف على معناه، وتارةً بما لا نقف على معناه، ويكون المَقْصُود من ذلك ظهور الانقياد والتَّسليم.
القول الثَّاني: قول من زعم أنَّ هذه الفَوَاتح معلومة، واختلفوا فيه، وذكروا وجوهاً:
الأوّل: أنها أسماء السّور، وهو قول أكثر المتكلمين، واختيار الخليل وسيبويه رحمهما الله تعالى.
قال القفَّال - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - وقد سّمت العرب هذه الحروف أشياء فسموا ب»
لام «: والد حارثة بن لام الطَّائي، وكقولهم للنَّخاس:» صاد «، وللنقد:» عين «، وللسحاب:» غين «.
وقالوا: جبل»
قاف «، وسموا الحوت:» نوناً «.
الثاني: أنها أسماء الله تَعَالى، روي عن علي - رضي الله تَعَالى عنه - أنه كان يقول: يا حم عسق.
الثالث: أنها أبعاض أسماء الله تَعَالى.
256
قال سعيد بن جبير رَحِمَهُ اللهُ: قوله:» الر، حم، ونون «مجموعها هو اسم الرحمن، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البَوَاقي.
الرابع: أنها أسماء القرآن، وهو قول الكَلْبِيّ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - والسّدي وقتادة رضي الله تعالى عنهم.
الخامس: أن كلّ واحد كمنها دالّ على اسم من أسماء الله - تعالى - وصفة من صفاته.
قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في «الم»
:«الألف إشارة إلى أنه [أحد، أول، آخر، أزلي،» واللام «إشارة إلى أنه لطيف،» والميم «إشارة إلى أنه] مَلِك مَجِيد مَنَّان».
وقال في «كهيعص» : إنه ثناء من الله - تعالى - على نفسه، «والكاف» يدل على كونه كافياً، «والهاء» على كونه هادياً، «والعين» على العالم، «والصاد» على الصادق. وذكر ابن ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه حمل «الكاف» على الكبير والكريم، «والياء» على أن الله يجير، «والعين» على أن الله العزيز والعدل.
والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصّص على كل واحد من هذه الحروف باسم معين، وفي الثاني ليس كذلك.
السادس: بعضها يدلّ على أسماء الذات، وبعضها على أسماء الصّفات. قال ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - في «الم» أنا الله أعلم، وفي «المص» أنا الله أفصل، وفي «الر» أنا الله أرى، وهذه رواية أبي صالح، وسعيد بن جبير عنه.
قال الزَّجَّاج: «وهذا أحسن، فإن العرب تذكر حرفاً من كلمة تريدها كقولهم: [مشور السريع]
٩٨ - قُلْنَا لَهَا: قِفِي لَنَا قَالت: قَافْ.......................
257
وأنشد سيبويه لغيلان: [الرجز]
٩٧ - إِذا مَا الْخَبَزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ فَذَاكَ أَمَانَةَ اللهِ الثَّريدُ
٩٩ - نَادُوهُمْ أَنَ الْجِمُوا، أَلاَ تَاَ قَالُوا جَمِعاً كُلُّهُمْ أَلاَ فَا
أي: لا تَرْكَبُوا، قالوا: بَلَى فَارْكَبُوا.
وأنشد قُطْرب: [الرجز]
١٠٠ - جَارَيَةٌ قَدْ وَعَدَتْنِي أنْ تَا تَدْهُنَ رَأْسي وَتُفَلِّيني وَتَا
السّابع: كلّ مها يدلّ على صفات الأفعال، ف» الألف «آلاؤه، و» اللاّم «لُطْفه، و» الميم «مَجْدُه، قاله محمد بن كَعْبٍ القُرَظي.
الثَّامن: بعضها يدلّ على أسماء الله - تعالى - وبعضها يدلّ على أسماء غير الله تعالى.
قال الضَّحاك:»
الألف «من الله، و» اللم «من جبريل، و» الميم «من محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ [أّي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل عليه الصَّلاة والسلام].
التاسع: ما قاله المبرّد: واختاره جمعٌ عظيم من المحقَّقين - أن الله - تعالى - إنَّما ذكرها احتجاجاً على الكُفَّار، وذلك أن الرَّسول - عليه الصلاة والسّلام - لما تحدّاهم أن يأتوا بِمِثْلِ القرآن، أو بِعَشْرِ سُوَرٍ، أو بسورة، فعجزوا عنه أنزلت هذه الأحرف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلاّ من هذه الأحرف، وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفَصَاحة، فكان يجب أن تأتوا بِمِثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دلّ ذلك على أنه من عِندِ الله لا من البَشَرِ.
العاشر: قول أبي روق وقُطْرب: إن الكفَّار لما قالوا:
﴿لاَ
تَسْمَعُواْ
لهذا
القرآن
والغوا فِيهِ﴾
[فصلت: ٢٦] وتواصوا بالإعراض عنه أراد الله - تعالى - لما أحب صلاحهم ونفعهم أن يُورِدَ عليهم ما لا يعرفونه، ليكون ذلك سبباً لإسْكَاتِهم، واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن، فأنزل الله - تعالى - عليهم هذه الأحرف، فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم، وطريقاً إلى انتفاعهم، فكان كالتنبيه لما يأتي بعده من الكلام كقوله الأول.
258
الحادي عشر: قول أبي العَالِيَةِ «إنّ كل حرف منها في مُدّة أعوام وآجال آخرين».
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «سُرّ أبو ياسِر بن أَخْطَب برسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو يَتْلُو سورة البقرة» الم ذَلِكَ الكِتَابُ «، ثم أتى أخوه حُيَيُّ بن أَخْطَب، وكَعْب بن الأَشْرَف، وسألوه عن» الم «وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحقّ أنها أَتَتْكَ من السماء؟ فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» نعم كذلك نزلت «، فقال حُيَيّ: إن كنت صادقاً إني لأعلم أَجَلَ هذه الأمة من السنين، ثم قال: كيف ندخل في دين رجل دلّت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أَجَل مُدّته إحدى وسبعون سنةً، فضحك رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال حُيَيّ: فهل غير هذا؟ قال:» نعم المص «فقال حُيَيّ: هذا أكثر من الأولى هذه مائة وإحدى وثلاثون سنة، فهب غير هذا؟ قال:» نعم الر «قال حُيَيّ: هذه أكثر من الأولى والثانية، فنحن نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنةً، فهل غير هذا؟ قال:» نعم «قال:» المر «قال: فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون، ولا ندري بأي أقوال نأخذ.
فقال أبو ياسر: أما أنا فأشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عم مُلْكِ هذه الأمّة، ولم يبينوا أنها كم تكون، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول، إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام اليهود، وقالوا اشتبه علينا أمرك، فلا ندري أَبِالْقَلِيْلِ نأخذ أم الكثير؟ فذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ [آل عمران: ٧] الآية الكريمة.
ورُوي عن ابن عَبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنا أقسام.
وقال الأخفش: أقسم الله - تعالى - لشرفها وفضلها؛ لأنها مبادئ كتله المنزلة، ومباني أسمائه الحسنى.
وقيل فيها غير ذلك.
واعلم أن الله - تعالى - أورد في هذه الفَوَاتح نصف عدد أَسامي حروف المُعْجَم،
259
وهي أربعة عشر: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والباء، والنون في تسع وعشرين سورة.
وجاءت أيضاً مختلفة الأعداد، فوردت» ص ق ن «على حرف.
و»
طه وطس ويس وحم «على حرفين.
و «الم والر وطسم»
على ثلاثة أحرف.
و «كهيعص وحم عسق» على خمية أحرف، والسبب فيه أن أبنية كلامهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف، فكذا هاهنا.
قوله: ﴿ذَلِكَ الكتاب﴾
يجوز في «ذلك» أن تكون مبتدأ ثانياً، و «الكتاب» خبره، والجملة خبر «الم»، وأغنى الربط باسم الإشَارة، ويجوز أن يكون «الم» مبتدأ.
و «ذلك» خبره، و «الكتاب» صفة ل «ذلك»، أو بدل منه، أو عطف بيان، وأن يكون «الم» نبتدأ، و «ذلك» مبتدأ ثانٍ، و «الكتاب» : إما صفة له، أو بدل منه، أو عطف بيان له.
و «لا ريب فيه» [خبر] عن المبتدأ الثاني، وهو خبره خبر عن الأول.
ويجوز أن يكون «الم» خبر مبتدأه مضمر، تقديره: «هذا الم»، فتكون جملة مستقلة بنفسها، ويكون «ذلك» مبتدأ ثانياً، و «الكتاب» خبره.
ويجوز أن يكون صفة له، أو بدلاً، أو بياناً، و «لا ريب فيه» هو الخبر عن «ذلك» أو يكون «الكتاب» خبراً ل «ذلك»، و «لا ريب فيه» خبر ثان، وفيه نظر من حيث إنه تعدّد الخبر، وأحدهما جملة، لكن الظاهر جوازه؛ كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى﴾ [طه: ٢٠]، إذا قيل بأن «تسعى» خبر.
وأما إن جُعِلَ صفة فلا.
و «ذلك» اسم إشارة: الاسم منه «ذا»، و «اللاَّم» للبعد، و «الكاف» للخطاب، ولها ثلاث رُتَب:
دُنْيَا: ولها المُجَرّد من اللام والكاف نحو: «ذا وذي» و «هذا وهذي».
وَوُسْطَى: ولها المتّصل بحرف الخطاب، نحو «ذاك وذيك وتيك».
وقُصْوَى: ولها المتّصل ب «اللام» و «الكاف» نحو: «ذلك وتلك».
260
ولا يجوز أن تأتي ب «اللام» إلاّ مع «الكاف»، ويجوز دخول حرف التَّنبيه على سائر أسماء الإشارة إلاّ مع «اللاَّم»، فيمتنع للطول.
وبعض النحويين لم يذكر إلاّ رتبتين: دُنْيَا وغيرها. واختلف النحويون في «ذا» هل هو ثلاثي الوضع أم أصله حرف واحد؟
الأول قول البصريين، ثم اختلفوا على عينه ولامه ياء، فيكون من باب «حيي»، أو غينه واو ولامه ياء فيكون من باب «غويت» ثم حذفت لامه تخفيفاً، وقلبت العين ألفاً لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وهذا كله على سبيل التّمرين.
وأيَّا فهذا مبني، والمبني لا يدخله تصريف، وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمُشَار إليه ومنه: [الطويل]
١٠١ - أَقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ تَأَمَّلْ خُفَافاً إِنَّنِي أنا ذَلِكَا
أو لأنه لما نزل من السَّماء إلى الأرض أشير بإشارة البعيد.
أو لأنه كان موجوداً به بنبيّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
أو أنه أشير به إلى ما قضاه وقدّره في اللَّوح المحفوظ.
وفي عبارة المفسرين أشير بذلك إلى الغائب يعنون البعيد، وإلا فالمشار إليه لا يكون إلا حاضراً ذِهْناً أو حِسّاً، فعبروا عن الحاضر ذِهْناً بالغائب أي حسّا وتحريراً لقول ما ذكرته لك. وقال الأصَمّ وابن كيْسَان: إن الله - تعالى - أنزل قبل سورة «البقرة»
261
سوراً كذب بها المشركون، ثم أنزل سورة «البقرة» فقال: «ذلك الكتاب» يعني ما تقدّم «البقرة» من السّور لا شك فيه.
قال ابن الخَطِيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: سلّمنا أن المُشَار إليه حاضر، لكن لا نسلّم أن لفظة «ذلك» لا يشار بها إلا إلى البعيد.
بيانه: أن «ذلك» و «هذا» حرف إشارة، وأصلهما «ذا» لأنه حرف الإشارة، قال تعالى: ﴿مَّن ذَا الذي﴾ لبقرة: ٢٤٥].
ومعنى «ها» تنبيه، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل: هذا، أي: تَنَبَّهْ أيّها المُخَاطب لما أشرت إليه، فإنه حاضر معك بحيث تَرَاه، وقد تدخل «الكاف» على «ذَا» للمخاطبة، و «اللام» لتأكيد معنى الإشارة، فقيل: «ذلك»، فكأن المتكلّم بالغ في التنبيه لتأخّر المُشَار إليه عنه، فهذا يدلّ على أن لفظة «ذلك» لا تفيد البُعْد في أصل الوَضْع، بل اختص في العُرْف بالفرس، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدبّ على الأرض.
وإذا ثبت هذا فنقول: إنا نحمله ها هنا على مقتضى الوضع اللّغوي، لا على مقتضى الوضع العرفي، وحينئذ لا يفيد البُعْد، ولأجل هذه المُقَارنة قام كلّ واحد من اللَّفْظَين مقام الآخر.
قال تعالى: ﴿واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ [ص: ٤٥]، إلى قوله: ﴿وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار﴾ [ص: ٤٨] ثم قال: ﴿هذا ذِكْرٌ﴾ [ص: ٤٩] وقال: ﴿وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ هذا مَا تُوعَدُونَ﴾ [ص: ٥٢ - ٥٣].
وقال: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق: ١٩].
وقال تعالى: ﴿فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى﴾ [النازعات: ٢٤ - ٢٥].
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور﴾ [الأنبياء: ١٠٥] وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً﴾ [الأنبياء: ١٠٦].
وقال: ﴿فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى﴾ [البقرة: ٧٣] [أي هكذا يحيي الموتى].
وقال: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى﴾ [طه: ١٨] أي ما هذه التي بيمينك.
262
و «الكتاب» في الأصل مصدر؛ قال تعالى: ﴿كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] وقد يراد به المكتوب، قال الشاعر: [الطويل]
١٠٢ - بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رأَيْتُ صَحِيفَةً أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
ومثله [الوافر]
١٠٣ - تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مِنِّي وفِيهاَ كِتَابٌ مِثْلُ مَا لَصِقَ الْغِرَاءُ
وأصل هذه المادة الدّلالة على الجَمْعِ، ومنه كتيبة الجَيْش، وكَتَبْتُ القربة، وكَتَبْتُ القربة: خَرَزْتُها، وَالكُتَبة - بضم «الكاف» الخرزة، والجمع كَتَب، قال: [البسيط]
١٠٤ - وَفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الْكُتَبُ
وكَتَبْتُ الدَّابة [إذا جَمَعْتَ بين شُفْرَي رَحِمِها بِحَلْقَةٍ أَو سَيْرٍ] قال الشاعر: [البسيط]
١٠٥ - لاَ تَأْمَنَنَّ فَزَارِيَّا حَلَلْتَ بِهِ عَلَى قَلُوصِكَ واكتُبْهَا بِإِسْيَارِ
والكتابة عرفاً ضمّ بعض حروف الهجاء إلى بعض.
قال ابن الخطيب: «واتفقوا على أنَّ المراد من الكتاب القرآن، قال تبارك وتعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ [ص: ٢٩].
والكتاب جاء في القرآن جاء في القرآن على وجوه:
أحدها: الفرض ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص﴾ [البقرة: ١٧٨] ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام﴾ [البقرة: ١٨٣]، ﴿إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾ [النساء: ١٠٣].
ثانيها: الحُجَّة والبُرْهان: ﴿فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الصافات: ١٥٧] أي: بِبُرْهانكم وحجّتكم.
ثالثها: الأَجَل: ﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الحجر: ٤] أي: أَجَل.
رابعها: بمعي مُكَاتبة السيد عبده: ﴿والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النور: ٣٣] وهذا المصدر»
فِعَال «بمعنى» المُفَاعلة «كالجِدَال والخَصَام والقِتَال بمعنى: المُجَادلة والمُخَاصمة والمُقَاتلة.
263
والكتاب - هنا - المُرَاد به القرآن، وله أسماء:
أحدها: الكِتَاب كما تقدم.
وثانيها: القُرْآن: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً﴾ [الزخرف: ٣]، ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن﴾ [البقرة: ١٨٥].
وثالثها: الفُرْقَان: ﴿تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان﴾ [الفرقان: ١].
ورابعها: الذِّكْر، والتَّذْكِرَة، والذِّكْرَى: ﴿وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ﴾ [الأنبياء: ٥٠]، ﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [الحاقة: ٤٨] وقوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين﴾ [الذاريات: ٥٥].
وخامسها: التَّنْزِيل: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: ١٩٢].
وسادسها: الحديث: ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث﴾ [الزمر: ٢٣].
وسابعها: المَوْعِظَة: ﴿قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [يونس: ٥٧].
وثامنها: الحُكْم، والحِكْمَة، والحَكِيم، والمُحْكَم: ﴿وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً﴾ [الرعد: ٣٧]، ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ﴾ [القمر: ٥]، ﴿يس والقرآن الحكيم﴾ [يس: ١ - ٢]، ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [هود: ١].
وتاسعها: الشِّفَاء: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ﴾ [الإسراء: ٨٢].
وعاشرها: الهُدَى، والهَادِي ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢]، ﴿إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩]، ﴿قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد﴾ [الجن: ١ - ٢].
وذكروا له أسماء أُخَر منها:
» الصِّرَاط المستقيم، والعِصْمَة، والرَّحْمَة، والرُّوح، والقَصَص، والبَيَان، والتِّبْيَان، والمُبِين، والبَصَائر، والفَصْلُ، والنُّجُوم، والمَثَاني، والنّعْمَة، والبُرْهَان، والبَشِير، والنَّذِير، والقَيِّم، والمُهَيْمِن، والنور، والحق، والعزيز، والكريم، والعظيم، والمبارك «.
قوله تعالى: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾.
يجوز أن يكون خبراً كما تقدّم بيانه.
قال بعضهم: هو خبر بمعنى النّهي، أي: لا ترتابوا فيه كقوله تعالى: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ﴾ [البقرة: ١٩٧] أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا.
قرأ ابن كثير:»
فِيهِ «بالإشباع في الوَصْلِ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلاً ما لم يَلِهَا ساكن، ثم إن كان السَّاكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسر ياء، وإنْ
264
كان غيرها يشبعها بالضم واواً، ووافقه حفص في قوله: ﴿فِيهِ مُهَاناً﴾ [الفرقان: ٦٩] فأشبعه.
ويجوز أن تكون هذه الجملة في محلّ نصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة، و» لا «نافية للجنس محمولة في العمل على نقيضها.
«إنَّ»، واسمها معرب ومبني:

فيبنى إذا كان مفرداً نكرة على ما كان ينصب به، وسبب بنائه تضمنّه معنى الحرف، وهو «من» الاسْتِغْرَاقِيَّة يدلّ عليه ظهورها في قول الشاعر: [الطويل]
١٠٦ - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ فَقَالَ إلاَ لاَ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِنْدِ
وقيل: بني لتركُّبه معها تركيب خمسةَ عَشَرَ، وهو فاسد وبيانه في غير هذا الكتاب. وزعم الزَّجَّاج أن حركة «لاَ رَجُلَ» ونَحْوِه حركة إعراب، وإنما حذف التنوين تخفيفاً، ويدل على ذلك الرجوع إلى هذا الأصل كقوله: [الوافر]
١٠٧ - ألاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللهُ خَيْراً يَدُلُّ عَلَى مُحضصِّلَةٍ تَبِيتُ
ولا دليل له لأن التقدير: إَلاَ تَرَونَنِي رَجُلاً؟
فإن لم يكن مفرداً - وأعني به المضاف والشبيه به - أُعْرِبَ نَصْباً نحو: طلا خيراً من زيد «، ولا عمل لها في المعرفة ألبتة، وأما نحو قوله: [الطويل]
265
وقول الآخر: [الوافر]
١٠٨ - تُبَكِّي عَلَى زَيْدٍ ولاَ زَيْدَ مِثْلُهُ بَرِيءٌ مِنَ الحُمَّى سَلِيمُ الجَوَانِحِ
١٠٩ - أَرَى الْحَاجَاتِ عَنْدَ أَبِي خُبَيْبٍ نَكِدْنَ وَلاَ أُمَيَّةَ فِي البِلاَدِ
وقول الآخر: [الرجز]
١١٠ - لاَ هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ... وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام:» لا قُرَيْشَ بعد اليَوْمِ، إذا هلك كِسْرَى، فلا كسرى بَعْدَه «فمؤوَّل.
و»
رَيْبَ «اسمها، وخبرها يجوز أن يكون الجار والمجرور وهو» فيه «إلاّ أن بني» تميم «لا تكاد تذكر خبرها، فالأولى أن يكون محذوفاً تقديره: لا ريب كائن، ويكون الوَقْفُ على» ريب «حينئذ تامَّا، وقد يحذف اسمها ويبقى خبرها، قالوا:» لا عليك «أي: لا بأس عليك.
ومذهب سيبويه رَحِمَهُ اللهُ: أنها واسمها في مَحَلّ رفع بالابتداء، ولا عمل لها في الخبر.
ومذهب الأخفش: أن اسمها في مَحَلّ رفع، وهي عاملة في الخبر.
ولها أحكامٌ كثيرة، وتقسيمات منتشرة مذكورة في كتب النحو.
266
واعلم أن» لا «لفظ مُشْتَرَك بين النَّفي، وهي فيه على قسمين:
قسم تنفي فيه الجنس فتعمل عمل إنَّ كما تقدم، وقسم تنفي فيه الوحدة، وتعمل حينئذ عمل»
ليس «، ولها قسم آخر، وهو النهي والدُّعاء فتجزم فعلاً واحداً، وقد تجيء زيادة كما تقدم في قوله: ﴿وَلاَ الضآلين﴾ [الفاتحة: ٧].
و»
الرَّيْب «: الشّك مع تهمة؛ قال في ذلك: [الخفيف]
١١١ - لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الكَذُوبُ
وحقيقته على ما قال الزَّمخشري:»
قلق النفس واضطرابها «.
ومنه الحديث:»
دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما يُرِيبك «.
ومنه أنه مَرّ بظبي خائفٍ فقال:»
لاَ يُرِبهُ أَحَدق بشيءٍ «.
فليس قول من قال:»
الرَّيب الشك مطلقاً «بجيّد، بل هو أخصّ من الشَّك كما تقدم.
وقال بعضهم: في»
الرّيب «ثلاثة معانٍ:
267
أحدها: الشّك؛ قال ابن الزِّبَعْرَى: [الخفيف]
١١٢ - لَيْسَ فِي الحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ...........................
وثانيها: التُّهْمَةُ؛ قال جميل بُثَيْنَةَ: [الطويل]
١١٣ - بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَيْتَنِي... فَقُلْتُ: كِلاَنَا يَا بُثَيْنُ مُرِيبُ
وثالثها: الحاجات؛ قال: [الوافر]
١١٤ - قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا
قال ابن الخطيب: الريب قريب من الشك، وفيه زيادة، كأنه ظن سوء، كأنه ظن سوء، تقول: رَابَني أمر فلان إذا ظننت به سوءاً.
فإن قيل: قد يستعمل الريب في قولهم: «ريب الدهر» و «ريب الزمان» أي: حوادثه، قال تعالى: ﴿نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون﴾ [الطور: ٣٠] ويستعمل أيضاً فيما يختلج في القلب من أسباب الغيظ، كقول الشاعر: [الوافر]
١١٥ - قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلُّ رَيْبٍ.....................
قلنا: هذا يرجعان إلى معنى الشك، لأن من يخاف من ريب المنون محتمل، فهو كالمشكوك فيه، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن، فقوله تعالى: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ المراد منه: نفي كونه مَظَنَّةً للريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شُبْهَة في صحته،
268
ولا في كونه من عند الله تعالى ولا في كونه معجزاً. ولو قلت: المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله تعالى: ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا﴾ [البقرة: ٢٣].
فإن قيل: لم تأت، قال ها هنا: «لاَ رَيْبَ فِيهِ» وفي موضع آخر: ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ [الصافات: ٤٧] قلنا: لأنهم يقدمون الأهمّ، وهاهنا الأهم نفي الريب بالكليّة عن الكتاب.
ولو قلت: «لا فيه ريب» لأَوْهَمَ أن هناك كتاباً آخر حصل فيه الريب لا ها هنا، كما قصد في قوله تعالى ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ تفضيل خمر الجنّة على خمر الدنيا، بأنها لا تَغْتَال العقول كما تغتالها خمر الدنيا. فإن قيل: من أين يدلّ قوله: «لاَ رَيْبَ فِيهِ» على نفي الريب بالكلية؟ قلنا القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية، والدّليل عليه أن قوله: «لا ريب» نفي لماهيّة الريب؛ ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية؛ لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهيّة لثبتت الماهية، وذلك مُنَاقض نفي الماهية، ولهذا السّر كان قولنا: «لا إله إلا الله» نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى.
وقرأ أبو الشعثاء: «لاَ رَيْبُ فِيهِ» بالرفع، وهو نقيض لقولنا: «ريب فيه»، وهذا يفيد ثبوت فرد واحدٍ، وذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد، فيتحقق التناقض.
والوقف على «فيه» هو المشهور.
وعن نافع وعاصم أنهما وَقَفَا على «ريب»، ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً، ونظيره قوله: ﴿لاَ ضَيْرَ﴾ [الشعراء: ٥٠] وقول العرب: «لا بأس».
واعلم أن الملحدة طعنوا فيه وقالوا: إن عني أنه لا شَكّ فيه عندنا، فنحن قد نشك فيه، وإن عني أنه لا شكّ فيه عنده فلا فائدة فيه.
الجواب: [المراد] أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب
269
فيه، والأمر كذلك؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفَصَاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أَقْصَرِ سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه لقيت هذه الحُجَّة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه.
وقيل: في الجواب وجوه أخر:
أحدها: أن النفي كونه متعلقاً للريب، المعنى: أنه منعه من الدلالة، ما إن تأمله المُنْصِف المحق لم يرتب فيه، ولا اعتبار بمن وجد فيه الريب؛ لأنه لم ينظر فيه حَقّ النظر، فريبه غير معتدّ به.
والثاني: أنه مخصوص، والمعنى: لا ريب فيه عند المؤمنين.
والثالث: أنه خبر معناه النهي. والأول أحسن.
قوله تعالى: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾. يجوز فيه عدة أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ، وخبره فيه متقدماً عليه إذا قلنا: إن خبر «لا» محذوف.
وإن قلنا: «فيه» خبرها، كان خبره محذوفاً مدلولاً عليه بخبر «لا»، تقديره: لا ريب فيه، فيه هدى، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره: هو هدى، وأن يكون خبراً ثانياً ل «ذلك»، على أن يكون «الكتاب» صفةً أو بدلاً، أو بياناً، و «لا ريب» خبر أول، وأن يكون خبراً ثالثاً ل «ذلك»، على أن يكون «الكتاب» خبراً أول، و «لا ريب»، خبراً ثانياً، وأن يكون منصوباً على الحل من «ذلك»، أو من «الكتاب»، والعامل فيه على كلا التقديرين اسم الإشارة، وأن يكون حالاً من الضَّمير في «فيه»، والعامل ما في الجَارِّ والمجرور من معنى الفعْلٍ، وجعله حالاًَ مما تقدم: إما على المُبَالغة، كأنه نفس الهُدَى، أو على حذف مضاف، أي: ذا هُدَى، أو على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل، وهكذا كلُّ مصدر وقع خبراً، أو صفة، أو حالاً فيه الأقوال الثلاثة، أرجحها الأول.
وأجازوا أن يكون «فيه» صفةً ل «ريب»، فيتعلّق بمحذوف، وأن يكون متعلقاً ب «ريب»، وفيه إشكال؛ لأنه يصير مطولاً، واسم «لا» إذا كان مطولاً أعرب إلاّ أن يكون مُرَادهم أنّه معمول لِمَا عليه «ريب» لا لنفس «ريب».
وقد تقدّم معنى الهدى «عند قوله تبارك وتعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ [الفاتحة: ٦].
و»
هُدّى «مصدر على وزن» فُعَل «فقالوا: ولم يجىء من هذا الوزن في المَصَادر إلا» سُرّى «و» بُكّى «و» هُدّى «، وجاء غيرها، وهو» لَقِيتُهُ لُقًى «؛ قال الشَّاعر: [الطويل]
270
و «الهدى» فيه لغتان: التذكير، ولم يذكر اللّحْياني غيره.
وقال الفراء: بعض بني أسد يؤنثه، فيقولون: هذه هدى.
و «في» معناها الظرفية حقيقةً أو مجازاً، نحو: «زيد في الدار»، ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩] ولها معان آخر:
المصاحبة: نحو: ﴿ادخلوا في أُمَمٍ﴾ [الأعراف: ٣٨].
والتعليل: «إن امرأة النَّارِ في هِرَّةٍ» وموافقة «على» :﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل﴾ [طه: ٧١] [أي: على جذوع]، والباء: ﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾ [الشورى: ١١] أي بسببه.
والمقايسة نحو قوله تعالى: ﴿فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة﴾ [التوبة: ٣٨].
و «الهاء» في «فيه» أصلها الضم كما تقدم من أن «هاء» الكناية أصلها الضم، فإن تقدمها ياء ساكنة، أو كسرة كسرها غري الحجازيين، وقد قرأ حمزة: «لأَهْلِهُ امْكُثُوا» وحفص في: «عَاهَدَ عَلَيهُ الله» [الفتح: ١٠]، ﴿وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ﴾ [الكهف: ٦٣] بلغه أهل الحِجَاز، والمشهور فيها - إذا لم يلها ساكن وسكن ما قبلها نحو: «فيه» و «منه» - الاختلاس، ويجوز الإشْبَاع، وبه قرأ ابن كثير، فإن تحرّك ما قبلها أُشْبِعَتْ، وقد تختلس وتسكن، وقرىء ببعض ذلك كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى.
و «للمتقين» جارّ ومجرور متعلّق ب «هدى».
وقيل: صفة ل «هدى»، فيتعلّق بمحذوف، ومحله حينئذ: إما الرفع أو النصب بحسب ما تقدم في موصوفه، أي هدى كائن أو كائناً للمتقين.
والحسن من هذه الوجوه المتقدمة كلها أن تكون كل جملة مستقلّة بنفسها، ف «
271
الم» جملة إن قيل: إنها خبر مبتدأ مضمر، و «ذلك الكتاب» جملة، و «لا ريب» جملة، و «فيه هدى» جملة، وإنما ترك العاطف لشدّة الوصل؛ لأن كلّ جملة متعلّقة بما قبلها آخذة بعنقها تعلقاً لا يجوز معه الفصل بالعطف.
قال الزمخشري: «وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها مُتَنَاسقة هكذا من غير حرف نسق. [وذلك لمجيئها مُتَتَابعة بعضها بعنق] بعض، والثانية متحدة بالأولى، وهلم جَرَّاً إلى الثالثة والرابعة.
بيانه: أنه نبّه أولاً على أنه الكلام المتحدي به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المَنْعُوت بنهاية الكَمَال، فكان تقريراً لجهة التحدي. ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة بكماله.
ثم أخبر عنه بأنه»
هدى للمتقين «، فقرر بذلك كونه يقيناً، لا يحوم الشّك حوله، ثم لم تَخْلُ كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذه الترتيب الأنيق [من] نُكْتَةٍ ذات جَزَالة: ففي الأولى الحذف، والرمز إلى الغرض بألطف وجه.
وفي الثانية ما في التعريف من الفَخَامة.
وفي الثانية ما في تقديم الريب على الظَّرف.
وفي الثالثة ما في تقديم «الريب»
على الظرف.
وفي الرابعة الحذف، ووضع المصدر الذي هو «هدى» موضع الوصف الذي هو «هاد» وإيراده منكراً.
«المتقين» جمع «مُتَّقٍ»، وأصله: مُتَّقِيينَ بياءينِ، الأولى: لام الكلمة، والثانية علامة الجمع، فاستثقلت الكسرة على لام الكلمة، وهي الياء الأولى فحذفت، فالتقى ساكنان، فَحذف إحداهما وهي الأولى.
و «متقٍ» من اتقى يتّقي وهو مُفْتَعِل الوِقَايَةِ، إلا أنه يطرد في الواو والياءلا إذا كانتا فاءين، ووقعت بعدهما «تاء» الافتعال أن يبدلا «تاء» نحو: «اتَّعَدض» من الوَعْدِ، و «اتَّسَرَ» من اليُسْرِ. وَفِعْلُ ذلك بالهمزة شاذ، قالوا: «اتَّزَرَ» و «اتَّكَلَ» من الإِزَارِ، والأَكْلِ.
ول «افتعل» اثنا عشر معنى:
الاتِّخَاذ نحو: «اتقى».
والتسبب نحو: «اعمل».
وفعل الفاعل بنفسه نحو: «اضطرب».
والتخير نحو: «انتخب».
272
والخطف نحو: «استلب».
ومطاوعة «أَفْعَلَ» نحو: «انتصف».
ومطاوعة «فَعَّلَ» نحو «عمّمته فاعتمّ.
وموافقة»
تَفَاعَلَ «و» تَفَعَّلَ «و» اسْتَفْعَلَ «نحو: احتور واقتسم واعتصم، بمعنى تحاور وتقَسَّم واستعصم.
وموافقة المجرد، نحو»
اقتدر «بمعنى: قَدَرَ.
والإغناء عنه نحو:»
اسْتَلَم الحجر «، لم يُلْفَظْ له بمجرد.
و»
الوقاية «: فرط الصيانة، وشدة الاحتراس من المكروه، ومنه» فرس وَاقٍ «: إذا كان يقي حافِرهُ أدنى شيء يصيبه.
وقيل: هي في أصل اللَّغة قلّة الكلام.
وفي الحديث:»
التَّقِيُّ مُلْجَمٌ «.
ومن الصيانة قوله: [الكامل]
١١٦ - وَقَدْ زَعَمُوا حُلْماً لُقَاكَ وَلَمْ أَزِدْ بحَمْدِ الَّذي أَعْطَاكَ حِلْماً وَلاَ عَقْلا
١١٧ - سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتَا بِاليَدِ
وقال آخر: [الطويل]
١١٨ - فَاَلْقَتْ قِنَاعً دُوُنَهُ الشَّمْسَ واتَّقَتْ بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفَّ وَمِعْصَمِ
قال أبو العباس المقرىء: ورد لفظ»
الهدى «في القرآن بإزاء ثلاثة عشر معنى:
الأول: بمعنى»
البَيَان «قال تعالى: ﴿أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] أي: على بيان، ومثله، ﴿وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢] أي: لتبين، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ [فصلت: ١٧] أي: بَيَّنَّا لهم.
الثاني: الهُدَى: دين الإسلام، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله﴾ [آل عمران: ٧٣] أي: دين الحق هو دين الله.
وقوله: ﴿إِنَّكَ لعلى هُدًى﴾ [الحج: ٦٧] أي: دين الحق.
الثالث: بمعنى»
المَعْرِفَة «قال تعالى: ﴿وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: ١٦] أي: يعرفون، وقوله تعالى: ﴿نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ﴾ [النمل: ٤١] أي: أتعرف.
273
الرابع: بمعنى» الرسول «قال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى﴾ [البقرة: ٣٨] أي: رسول.
الخامس: بمعنى «الرشاد»
قال تعالى: ﴿واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط﴾ [ص: ٢٢] أي أرشدنا.
وقوله: ﴿عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل﴾ [القصص: ٢٢].
وقوله تعالى: ﴿اهدنا الصراط﴾ [الفاتحة: ٦].
السادس: بمعنى: «القرآن» قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى﴾ [النجم: ٢٣] أي: القرآن.
السابع: بمعنى: بعثة النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال تبارك وتعالى: ﴿وَإِنَّكَ لتهدي﴾ [الشورى: ٥٢].
الثامن: بمعنى «شرح الصدور» قال تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ [الأنعام: ١٢٥].
التاسع: التوراة، قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى﴾ [غافر: ٥٣] يعني: التوراة.
العاشر: «الجنة» قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ﴾ [يونس: ٩] أي: يدخلهم الجنة.
الحادي عشر: «حج البيت» قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٦] أي الحج.
الثاني عشر: «التوبة» قال تعالى: ﴿وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين﴾ [يوسف: ٥٢] أي: لا يصلح.
الثالث عشر: «التوبة» قال تعالى: ﴿إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦] أي: تُبْنَا ورجعنا.

فصل في المقصود بالهدى


قال ابن الخطيب «رضي الله تعالى عنه» : الهُدَى عبارة عن الدلالة.
وقال صاحب «الكشاف» : الهدى هو الدلالة الموصّلة للبغية.
وقال آخرون: الهدى هو الاهتداء والعلم والدليل على صحة الأول أنه لو كان كونه الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء؛ لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء مُحَال، وقد ثبت
274
الهدى على عدم حال الاهتداء قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى﴾ [فصلت: ١٧] أثبت الهدى مع عدم الاهتداء. واحتج صاحب «الكشَّاف» بأمور ثلاثة:
[أوّلها] : وقوع الضلالة في مُقَابلة الهدى، قال تعالى: ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ [البقرة: ١٦]، وقال تعالى: ﴿قُلِ الله وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [سبأ: ٢٤].
وثانيها: يقال: مهديّ في موضع المدح كالمهتدي، فلو لم يكن من شرط الهدى كَوْن الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً؛ لاحتمال أنه هدي، فلم يَهْتَدِ.
وثالثها: أن «اهتدى» مطاوع «هَدَى» يقال: هَدَيْتُه فَاهْتَدَى، كما يقال: كسرته فانكسر، وقطعته فانقطع، فكنا أن الانكسار والانقطاع لَزِمَانِ للكسر والقطع، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم «الهدى».
والجواب عن الأوَّلِ: أن الفرق بين الهدى والاهتداء معلوم بالضرورة، فمقابل «الهدى» هو «الإضلال» ومقابل «الاهتداء» هو «الضلال» فجعل «الهدى» في مقابلة «الضلال» ممتنع. وعن الثاني: المنتفع بالهدى سمي مهدياً؛ لأن الوسيلة إذا لم تُفْضِ إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم.
وعن الثالث: أن الائتمار مُطَاع الأمر يقال: أمرته فائتمر، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه أمراً حصول الائتمار، وكذا لا يلزم من كونه هذه أن يكون مفضياً إلى الاهتداء، على أنه معارض بقوله: هديته فلم يهتد.
ومما يدل علة فساد قول من قال: الهدى هو العلم خاصة أن الله - تعالى - وصف القرآن بأنه هدى، ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم، فدلّ على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم.

فصل في اشتقاق المتقي


والمتقي في اللغة: اسم فاعل من قولهم: وقاه فاتَّقى، والوقاية: فرط الصيانة.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: التقيّ: من يتقي الشّرْك والكبائر والفواحش، وهو مأخوذ من الاتقاء، وأصله: الحجز بين شيئين.
275
وفي الحديث: «كان إذا احمَرَّ البأسُ اتَّقينا برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ».
أي: إذا اشتد الحَرْبُ جعلنا بيننا وبين العدو، فكأن المتقي جعل الامتثال لأمر الله، والاجتناب عما نَهَاهُ حاجزاً بينه وبين العذاب، وقال عمر بن الخَطَّاب لكعب الأحبار: «حدثني عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقاً ذا شَوْكٍ؟ قال: نعم، قال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت وشَمّرت، قال كعب: ذلك التَّقوى». وقال عمر بن عبد العزيز: التقوى تَرْكُ ما حَرَّمَ الله، وأداء ما افترض الله، فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير.
وقال ابن عمر: التَّقوَى ألا ترى نفسك خيراً من أحد.
إذا عرفت هذا فنقول: إن الله - تعالى - ذكرَ المتقي هاهنا في معرض المدح، [ولن يكون ذلك] بان يكون متقياً فيما يتصل بالدّين، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات، محترزاً عن المحظورات. واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصَغائر في التقوى؟ فقال بعضهم: يدخل كما تدخل الصّغائر في الوعيد.
وقال آخرون: لا يدخل، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكُلّ، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوقّ الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟
فروي عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنه قال: «لا يَبْلُغُ العَبْدُ درجة المتّقين حتى يَدَعَ ما لا بَأسَ به حَذَراً مما به بَأسُ». وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنهم الذين يَحْذَرُون من الله العُقُوبَة في تَرْكِ ما يميل الهَوَى إليهن ويرجعون رحمته بالتَّصديق بما جاء منه.
واعلم أن حقيقة التقوى، وإن كانت هي التي ذكرناها إلاَّ أنها قد جاءت في القرآن، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة؛ كقوله تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى﴾ [الفتح: ٢٦] أي: التوحيد ﴿أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى﴾ [الحجرات: ٣]، ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: ١١] أي: لا يؤمنون.
وتارة التوبة كقوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا﴾ [الأعراف: ٩٦]، ﴿وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون﴾ [المؤمنون: ٥٢].
276
وتارة ترك المعصية كقوله تعالى: ﴿وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله﴾ [البقرة: ١٨٩] أي: فلا تعصوه.
وتارة الإخلاص كقوله: ﴿فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب﴾ [الحج: ٣٢] أي: من إخلاص القلوب.
وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: كون الشَّيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص فلماذا جعل القرآن هدى للمتَّقين فقط؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي؟ والمهتدي لا يهتدي ثانياً، والقرآن لا يكون هدى للمتقين؟
والجواب: أن القرآن كما أنه هدى للمتقين، ودلالة لهم على وجود الصانع، وعلى صدق رسوله، فهو أيضاً دلالة للكافرين؛ إلا أن الله تبارك وتعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا، وانتفعوا به كما قال:
﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: ٤٥] وقال: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر﴾ [يس: ١١].
وقد كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ منذراً لكلّ الناس، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هُمُ الذين انتفعوا بإنذاره.
وأما من فسر الهُدَى بالدلالة الموصلة إلى المقصود، فهذا السؤال زائل عنه؛ لأن كونه القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلاَّ في حق المتقين.
السّؤال الثاني: كيف وصل القرآن كله بأنه هدى، وفيه مجمل ومتشابه كثير، ولولا دلالة العقل لما تميز المُحْكم عن المُتَشَابه، فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن؟
ونقل عن علي بن أبي طالب أنه قال لابن عباس حيث بعثه رسولاً إلى الخوارج: لا تَحْتَجَّ عليهم بالقرآن، فإنه خَصْمٌ ذو وجهين، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْه - ذلك فيه، ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر، وبعضها صريح في القدر؛ فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسُّف الشديد، فكيف يكون هدى؟
الجواب: أن ذلك المُتَشَابه والمُجْمَل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين - وهو إما دلالة العقل، أو دلالة السمع - صار كله هُدًى.
السؤال الثالث: كل ما يتوقَّف كون القرآن حُجّة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه، فإذا استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله - تعالى - وصفاته، وفي معرفة
277
النبوة، فلا شَكَّ أن هذه المَطَالب أشرفُ المطالب، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها، فكيف جعله الله هدى على الإطلاق؟
الجواب: ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشَّرَائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول، وهذه الآية من أَقْوَى الدلائل على أن المُطْلق لا يقتضي
278
العموم، فإن الله - تعالى - وصفة بكونه هُدًى من غير تقييد في اللَّفظ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصَّانع، وصفاته، وإثبات النبوة، فثبت أنّ المطلق لا يفيد العموم.
السّؤال الرابع: الهُدَى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره، والقرآن ليس كذلك، فإن المفسّرين ما ذكروا آية إلاّ وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة، ويؤيد هذا قوله: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤].
وما يكون كذلك لا يكون مبيناً في نفسه، فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره، فكيف يكون هدى؟ قلنا: من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المُتَعَارضة، ولا يرجح واحداً منها على الباقي يتوجه عليه السؤال، وأما من رجح واحداً على البواقي فلا يتوجّه عليه السؤال.
279
قوله :﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾.
يجوز في " ذلك " أن تكون مبتدأ ثانياً، و " الكتاب " خبره، والجملة خبر " الم، وأغنى الربط باسم الإشَارة، ويجوز أن يكون " الم " مبتدأ.
و " ذلك " خبره، و " الكتاب " صفة ل " ذلك "، أو بدل منه، أو عطف بيان، وأن يكون " الم " مبتدأ، و " ذلك " مبتدأ ثانٍ، و " الكتاب " : إما صفة له، أو بدل منه، أو عطف بيان له.
و " لا ريب فيه " [ خبر ]١ عن المبتدأ الثاني، وهو خبره خبر عن الأول.
ويجوز أن يكون " الم " خبر مبتدأه مضمر، تقديره :" هذا الم "، فتكون جملة مستقلة بنفسها، ويكون " ذلك " مبتدأ ثانياً، و " الكتاب " خبره.
ويجوز أن يكون صفة له، أو بدلاً، أو بياناً، و " لا ريب فيه " هو الخبر عن " ذلك " أو يكون " الكتاب " خبراً ل " ذلك "، و " لا ريب فيه " خبر ثان، وفيه نظر من حيث إنه تعدّد الخبر، وأحدهما جملة، لكن الظاهر جوازه ؛ كقوله تعالى :﴿ فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ﴾ [ طه : ٢٠ ]، إذا قيل بأن " تسعى " خبر.
وأما إن جُعِلَ صفة فلا٢.
و " ذلك " اسم إشارة : الاسم منه " ذا "، و " اللاَّم " للبعد، و " الكاف " للخطاب، ولها ثلاث رُتَب :
دُنْيَا : ولها المُجَرّد من اللام والكاف نحو :" ذا وذي " و " هذا وهذي ".
وَوُسْطَى : ولها المتّصل بحرف الخطاب، نحو " ذاك وذيك وتيك ".
وقُصْوَى : ولها المتّصل ب " اللام " و " الكاف " نحو :" ذلك وتلك ".
ولا يجوز أن تأتي ب " اللام " إلاّ مع " الكاف "، ويجوز دخول حرف التَّنبيه على سائر أسماء الإشارة إلاّ مع " اللاَّم "، فيمتنع للطول.
وبعض النحويين لم يذكر إلاّ رتبتين : دُنْيَا وغيرها٣. واختلف النحويون في " ذا " هل هو ثلاثي الوضع أم أصله حرف واحد ؟
الأول قول البصريين، ثم اختلفوا على عينه ولامه ياء، فيكون من باب " حيي "، أو غينه واو ولامه ياء فيكون من باب " غويت " ثم حذفت لامه تخفيفاً، وقلبت العين ألفاً لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وهذا كله على سبيل التّمرين.
وأيًّا فهذا مبني، والمبني لا يدخله تصريف، وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمُشَار إليه ومنه :[ الطويل ]
أَقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ تَأَمَّلْ خُفَافاً إِنَّنِي أنا ذَلِكَا٤
أو لأنه لما نزل من السَّماء إلى الأرض أشير إليه بإشارة البعيد.
أو لأنه كان موجوداً به بنبيّه عليه الصلاة والسلام.
أو أنه أشير به إلى ما قضاه وقدّره في اللَّوح المحفوظ.
وفي عبارة المفسرين أشير بذلك إلى الغائب يعنون البعيد، وإلا فالمشار إليه لا يكون إلا حاضراً ذِهْناً أو حِسّاً، فعبروا عن الحاضر ذِهْناً بالغائب أي حسّاً وتحريراً لقول ما ذكرته لك. وقال الأصَمّ وابن كيْسَان٥ : إن الله - تعالى - أنزل قبل سورة " البقرة " سوراً كذب بها المشركون، ثم أنزل سورة " البقرة " فقال :" ذلك الكتاب " يعني ما تقدم " البقرة " من السور لا شك فيه.
قال ابن الخَطِيب رحمه الله تعالى : سلّمنا أن المُشَار إليه حاضر، لكن لا نسلّم أن لفظة " ذلك " لا يشار بها إلا إلى البعيد.
بيانه : أن " ذلك " و " هذا " حرف إشارة، وأصلهما " ذا " لأنه حرف الإشارة، قال تعالى :﴿ مَّن ذَا الَّذِي ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ].
ومعنى " ها " تنبيه، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل : هذا، أي : تَنَبَّهْ أيّها المُخَاطب لما أشرت إليه، فإنه حاضر معك٦ بحيث تَرَاه، وقد تدخل " الكاف " على " ذَا " للمخاطبة، و " اللام " لتأكيد معنى الإشارة، فقيل :" ذلك "، فكأن المتكلّم بالغ في التنبيه لتأخّر المُشَار إليه عنه، فهذا يدلّ على أن لفظة " ذلك " لا تفيد البُعْد في أصل الوَضْع، بل اختص في العُرْف بالإشارة إلى البعيد للقرينة التي ذكرناها، فصارت كالدابة، فإنها مختصة في العرف بالفرس، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدبّ على الأرض.
وإذا ثبت هذا فنقول : إنا نحمله ها هنا على مقتضى الوضع اللّغوي، لا على مقتضى الوضع العرفي، وحينئذ لا يفيد البُعْد، ولأجل هذه المُقَارنة قام كلّ واحد من اللَّفْظَين مقام الآخر.
قال تعالى :﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ﴾ إلى قوله :﴿ وَكُلٌّ مِّنَ الأَخْيَارِ ﴾ [ ص : ٤٥-٤٨ ] ثم قال :﴿ هَذَا ذِكْرٌ ﴾ [ ص : ٤٩ ] وقال :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ ﴾ [ ص : ٥٢-٥٣ ].
وقال :﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ [ ق : ١٩ ].
وقال تعالى :﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُوْلَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى ﴾ [ النازعات : ٢٤-٢٥ ].
وقال تعالى :﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٥ ] وقال تعالى :﴿ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً ﴾ [ الأنبياء : ١٠٦ ].
وقال :﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى ﴾ [ البقرة : ٧٣ ] [ أي هكذا يحيي الموتى ]٧.
وقال :﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسَى ﴾ [ طه : ١٨ ] أي ما هذه التي بيمينك.
و " الكتاب " في الأصل مصدر ؛ قال تعالى :﴿ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٤ ] وقد يراد به المكتوب، قال الشاعر :[ الطويل ]
بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رأَيْتُ صَحِيفَةً أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا٨
ومثله [ الوافر ]
تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مِنِّي وفِيهاَ كِتَابٌ مِثْلُ مَا لَصِقَ الْغِرَاءُ٩
وأصل هذه المادة الدّلالة على الجَمْعِ، ومنه كتيبة الجَيْش، وكَتَبْتُ القربة، وكَتَبْتُ القربة : خَرَزْتُها، وَالكُتَبة -بضم " الكاف " الخرزة، والجمع كَتَب، قال :[ البسيط ]
وَفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الْكُتَبُ١٠
وكَتَبْتُ الدَّابة [ إذا جَمَعْتَ بين شُفْرَي رَحِمِها بِحَلْقَةٍ أَو سَيْرٍ ]١١ قال الشاعر :[ البسيط ]
لاَ تَأْمَنَنَّ فَزَارِيَّا حَلَلْتَ بِهِ عَلَى قَلُوصِكَ واكتُبْهَا بِأسْيَارِ١٢
والكتابة عرفاً ضمّ بعض حروف الهجاء إلى بعض.
قال ابن الخطيب :" واتفقوا على أنَّ المراد من الكتاب القرآن، قال تبارك وتعالى :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ﴾
[ ص : ٢٩ ].
والكتاب جاء في القرآن على وجوه :
أحدها : الفرض ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ]، ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾ [ البقرة : ١٨٣ ]، ﴿ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً ﴾ [ النساء : ١٠٣ ].
ثانيها : الحُجَّة والبُرْهان :﴿ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ الصافات : ١٥٧ ] أي : بِبُرْهانكم وحجّتكم.
ثالثها : الأَجَل :﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ﴾ [ الحجر : ٤ ] أي : أَجَل.
رابعها : بمعي مُكَاتبة السيد عبده :﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [ النور : ٣٣ ] وهذا المصدر " فِعَال " بمعنى " المُفَاعلة " كالجِدَال والخِصَام والقِتَال بمعنى : المُجَادلة والمُخَاصمة والمُقَاتلة.
والكتاب - هنا - المُرَاد به القرآن، وله أسماء :
أحدها : الكِتَاب كما تقدم.
وثانيها : القُرْآن :﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً ﴾ [ الزخرف : ٣ ]، ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ].
وثالثها : الفُرْقَان :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ﴾ [ الفرقان : ١ ].
ورابعها : الذِّكْر، والتَّذْكِرَة، والذِّكْرَى :﴿ وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ﴾ [ الأنبياء : ٥٠ ]، ﴿ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ الحاقة : ٤٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الذاريات : ٥٥ ].
وخامسها : التَّنْزِيل :﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٩٢ ].
وسادسها : الحديث :﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ﴾ [ الزمر : ٢٣ ].
وسابعها : المَوْعِظَة :﴿ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [ يونس : ٥٧ ].
وثامنها : الحُكْم، والحِكْمَة، والحَكِيم، والمُحْكَم :﴿ وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً ﴾ [ الرعد : ٣٧ ]، ﴿ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ﴾ [ القمر : ٥ ]، ﴿ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ﴾ [ يس : ١-٢ ]، ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ﴾ [ هود : ١ ].
وتاسعها : الشِّفَاء :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ﴾ [ الإسراء : ٨٢ ].
وعاشرها : الهُدَى، والهَادِي ﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ]،
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ]،
﴿ قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ﴾ [ الجن : ١-٢ ].
وذكروا له أسماء أُخَر منها :
" الصِّرَاط المستقيم، والعِصْمَة، والرَّحْمَة، والرُّوح، والقَصَص، والبَيَان، والتِّبْيَان، والمُبِين، والبَصَائر، والفَصْلُ، والنُّجُوم، والمَثَاني، والنّعْمَة، والبُرْهَان، والبَشِير، والنَّذِير، والقَيِّم، والمُهَيْمِن، والنور، والحق، والعزيز، والكريم، والعظيم، والمبارك ".
قوله تعالى :﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾.
يجوز أن يكون خبراً كما تقدّم بيانه.
قال بعضهم : هو خبر بمعنى النّهي، أي : لا ترتابوا فيه كقوله تعالى :﴿ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ﴾ [ البقرة : ١٩٧ ] أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا.
قرأ١٣ ابن كثير :" فِيهِ " بالإشباع في الوَصْلِ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلاً ما لم يَلِهَا ساكن، ثم إن كان السَّاكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسر ياء، وإنْ كان غيرها يشبعها بالضم واواً، ووافقه حفص١٤ في قوله :﴿ فِيهِ مُهَاناً ﴾ [ الفرقان : ٦٩ ] فأشبعه.
ويجوز أن تكون هذه الجملة في محلّ نصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة، و " لا " نافية للجنس محمولة في العمل على نقيضها. " إِنَّ "، واسمها معرب ومبني :
فيبنى إذا كان مفرداً نكرة على ما كان ينصب به، وسبب بنائه تضمنّه معنى الحرف، وهو " من " الاسْتِغْرَاقِيَّة يدلّ عليه ظهورها في قول الشاعر :[ الطويل ]
فَقَامَ يَذُودُ النَّاس عَنْهَا بِسَيْفِهِ فَقَالَ أَلاَ لاَ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِنْدِ١٥
وقيل : بني لتركُّبه معها تركيب خمسةَ عَشَرَ، وهو فاسد وبيانه في غير هذا الكتاب. وزعم الزَّجَّاج أن حركة " لاَ رَجُلَ " ونَحْوِه حركة إعراب، وإنما حذف التنوين تخفيفاً، ويدل على ذلك الرجوع إلى هذا الأصل في الضرورة كقوله :[ الوافر ]
أَلاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللهُ خَيْراً يَدُلُّ عَلَى مُحَصِّلَةٍ تَبِيتُ١٦
ولا دليل له لأن التقدير : أَلاَ تَرَوْنَنِي رَجُلاً ؟
فإن لم يكن مفرداً - وأعني به المضاف والشبيه به - أُعْرِبَ نَصْباً نحو :" لا خيراً من زيد "، ولا عمل لها في المعرفة ألبتة، وأما نحو قوله :[ الطويل ]
تُبَكِّي عَلَى زيْدٍ وَلاَ زَيْدَ مِثْلُهُ بَرِيءٌ مِنَ الْحُمَّى سَلِيمُ الجَوَانِحِ١٧
وقول الآخر :[ الوافر ]
أَرَى الْحَاجَاتِ عِنْدَ أَبِي خُبَيْبٍ *** نَكِدْنَ وَلاَ أُمَيَّةَ فِي الْ
١ - سقط في ب..
٢ - ثبت في أ: وقرأ عبد الله ﴿ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه﴾ هو الخبر وتأليف هذا ظاهر..
٣ - ذهب أكثر النحويين إلى أن الإشارة ثلاثة مراتب: قربى؛ ولها المجرد، ووسطى؛ ولها ذو الكاف، وبعدى؛ ولها ذو الكاف واللام وصححه ابن الحاجب، واختلف على هذا في مرتبة أولئك بالمد، فقيل: هؤلاء وسطى كأولاد وقيل: للبعدى؛ كأولالك. قال أبو حيان: ويستدل للأول بقوله:
يا ما أميلح غزلانا شدنّ لنا من هؤليائكن الضال والسمر.
لأن هاء التثنية لا تصحب ذا البعيد، وصحح ابن مالك أن لاسم الإشارة مرتبتين، وقال: إنه ظاهر من كلام المتقدمين، ونسبه الصفار إلى سيبويه، واحتج له ابن مالك بأن المشار شبيه بالمنادى، والنحويون مجمعون على أن المنادى ليس له إلا مرتبتان؛ فلحق بنظيره؛ وبأن الفراء نقل أن بني تميم ليس من لغتهم استعمال اللام مع الكلام، والحجازيين ليس من لغتهم استعمال الكاف بلا لام؛ فلزم من هذا أن اسم الإشارة على اللغتين ليس له إلا مرتبتان، وبأن القرآن لم يرد فيه المجرد من اللام دون الكاف، فلو كان له مرتبة أخرى، لكان القرآن غير جامع لوجوه الإشارة، فإنه لو كانت المراتب ثلاثة، لم يكتف في التثنية والجمع بلفظين وهي وجوه حسنة، إلا أن دعوى الإجماع في الأول مردودة بما ذكرناه - انظر همع الهوامع: (١/٧٥ - ٧٦)..

٤ - البيت لخُفاف بن ندبة، ينظر الأغاني: ٢/١٢٩، الخزانة: ٢/٤٧١، معاني القرآن: ١/٢٩، النكت والعيون: ١/٦٧، الدر: ١/٩١..
٥ - محمد بن أحمد بن إبراهيم، أبو الحسن المعروف بابن كيسان. عالم بالعربية من أهل بغداد أخذ عن المبرد وثعلب، من كتبه المهذب في النحو، غريب الحديث، معاني القرآن، المختار في علل النحو توفي في ٢٩٩هـ.
ينظر إرشاد الأريب: ٦/٢٨، معجم المطبوعات: ٢٢٩، نزهة الألبا: ٣٠١، شذرات الذهب: ٢/٢٣٢، كشف الظنون: ١٧٠٣، الأعلام: ٥/٣٠٨..

٦ - في ب: لك..
٧ - سقط في ب..
٨ - ينظر مجمع البيان: ١/٧٤، معاني الفراء: (١/٢١٢)، الدر: ١/٩١..
٩ - البيت لمسلم بن معبد الوالبي. ينظر خزانة الأدب: ٢/٣٠٨، ٣١٢، القرطبي: ١/١١٢، والدر المصون: ١/٩١..
١٠ - البيت لذي الرمة. ينظر ديوانه: ٢١، مقاييس اللغة: ٥/١٥٨، اللسان (شلل وغرق وكتب)، القرطبي: ١/١١٢، الدر: ١/٩١..
١١ - سقط في أ..
١٢ - البيت لسالم بن دارة. ينظر خزانة الأدب: ٦/٥٣١، ٩/٥٤٢، مقاييس اللغة: ٥/١٥٨، الشعر والشعراء: ١/٤٠١، الكامل: ٣/٨٦، اللسان (كتب)، القرطبي: (١/١١٢)، الدر: (١/٩٢)..
١٣ - انظر حجة القراءات: ٨٣، والحجة للقراء السبعة: ١/١٧٧..
١٤ - حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي بالولاء أبو عمر ويعرف بحفيص: ولد سنة ٩٠هـ، قارئ أهل الكوفة بزاز نزل بغداد وجاور بمكة وكان أعلم أصحاب عاصم بقراءته، وهو ابن امرأته وربيبه ومن طريقه قراءة أهل المشرق، ينظر الأعلام: ٢/٢٦٤ (٣٠٨٢)، غاية النهاية: ١/٢٥٤، ميزان الاعتدال: ١/٢٦١، تهذيب التهذيب: ٢/٤٠٠..
١٥ - ينظر أوضح المسالك: ٢/١٣، وتخليص الشواهد: ص٣٩٦، والجنى الداني: ص ٢٩٢، والدرر: ٢/٢٢١، وشرح الأشموني: ١/١٤٨، وشرح التصريح: ١/٢٣٩، وشرح ابن عقيل: ص ٢٥٥، ولسان العرب (ألا)، (لا) ومجالس ثعلب: ص ١٧٦ والمقاصد النحوية: ٢/٣٣٢، وهمع الهوامع: ١/١٤٦، وشرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ لابن مالك (٢٥٥) تحقيق عدنان عبد الرحمان الدوري - مطبعة العاني - بغداد (١٣٩٧هـ١٩٧٧م) وشرح الكافية الشافية: (١/٥٢٢) وشرح ألفية ابن الناظم: (١٨٦)..
١٦ - البيت لعمرو بن قعاس، أو قنعاس المرادي المذحجي.
ينظر الكتاب: ٢/٣٠٨، النوادر: ٥٦، شرح المفصل: ٧/٥، ٩/٨٠، الخزانة: ١/٤٥٩، ٣/١١٢، ١٥٦، ٤/٤٧٧، العيني: ٢/٣٦٦، ٣/٣٥٢، الهمع: ١/٥٨، شرح شواهد المغني: ٧٧، ٢١٩، الأشموني: ٢/١٦، التهذيب: ٤/٣٤٢، ارتشاف الضرب: ٢/١٧٨، إصلاح المنطق لابن السكيت: ٤٣١، معجم مقاييس اللغة: ٢/٦٨، الخزانة: ٣/٥١، ٥٤، (٤/٨٩ ـ ١٨٣، ١٩٥، ٢٦٨)، (١١/١٩٣)، شرح الألفية لابن الناظم: ١٩٣، الدر: ١/٩٠..

١٧ - البيت لجرير. ينظر ديوانه: ٨٠، الخزانة: ٢/٩٨، الهمع: ١/١٤٥، الدرر: ١/٢٢٤، المقرب: ١/١٨٩، شرح الكافية الشافية: ١/٥٣١، الدر: ١/٩٠..
«الذين» يحتمل الرفع والنصب والجر، والظاهر الجر، وهو من ثلاثة أوجه:
279
أظهرها: أنه نعت ل «المتقين».
والثاني: بدل.
والثالث: عطف بيان.
وأما الرفع فمن وجهين:
أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف على معنى القطع، وقد تقدم.
والثاني: أنه مبتدأ، وفي خبره قولان: أحدهما: «أولئك» الأولى.
والثاني: «أولئك» الثانية، والواو زائدة، وهذان القولان منكران؛ لأنه قوله: «والذين يؤمنون» يمنع كونه «أولئك» الأولى خبراً أيضاً.
وقولهم: الواو زائدة لا يلتفت إليه.
والنصب على القطع.
و «يؤمنون» صلة وعائد.
قال الزمخشري: «فإذا كان موصولاً كان الوقف على» المتقين «حسناً غير تام، وإذا كان منقطعاً كان واقفاً تاماً».
وهو مضارع علامة رفعه «النون» ؛ لأنه أحد الأمثلة الخَمْسَةِ وهي عبارة عن كل فعل مضارع اتصل به «ألف» اثنين، أو «واو» جمع، أو «ياء» مخاطبة، نحو: «يؤمنان - تؤمنان - يؤمنون - تؤمنون - تؤمنين».
والمضارع معرب أبداً، إلاّ أن يباشر نون توكيد أو إناث، على تفصيل ياتي إن شاء الله - تعالى - في غُضُون هذا الكتاب.
وهو مضارع «أمن» بمعنى: صدق، و «آمن» مأخوذ من «أمن» الثلاثي، فالهمزة في «أمن» للصّيرورة نحو: «أعشب المكان» أي: صار ذا عُشْب.
أو لمطاوعة فعل نحو: «كبه فأكب»، وإنما تعدى بالباء، لنه ضمن معنى اعترف، وقد يتعدّى باللام كقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾ [يوسف: ١٧]، ﴿فَمَآ آمَنَ لموسى﴾ يونس: ٨٣] إلاَّ أن في ضمن التعدية باللام التّعدية بالباء، فهذا فرق ما بين التعديتين. وأصل «يؤمنون» :«يؤأمنون» بهمزتين:
الأولى: همزة «أفْعَل».
والثاني فاء الكلمة، حذفت الولى؛ لأن همزة «أفْعَل» تحذف بعد حرف المُضَارعة، واسم فاعله، ومفعوله نحو: طأكرم «و» يكرم «و» أنت مُكْرِم، ومُكْرَم «.
وإنما حذفت؛ لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان، وذلك إذا كان حرف المُضّارعة همزة نحو:»
أنا أكرم «، الأصل: أأكرم بهمزتين، الولى: للمضارعة والثانية: همزة أفعل، فحذفت الثانية؛ لأن بها حصل الثّقل؛ ولأن حرف المضارعة أولى بالمحافظة عليه، ثم حصل باقي الباب على ذلك طَرْداً للباب.
280
ولا يجوز ثبوت همزة» أفعل «في شيء من ذلك إلا في ضرورة؛ كقوله: [الرجز]
١١٩ - فَإَنَّهُ أَهْلٌ لأَنْ يُؤَكْرَمَا... وهمزة»
يؤمنون «- وكذلك كل همزة ساكنة - يجوز أن تبدل بحركة ما قبلها، فتبدل حرفاً متجانساً نحو:» راس «و» بير «و» يومن «، فإن اتفق أن يكون قبلها همزة أخرى وجب البدل نحو:» إيمان «و» آمن «.

فصل


قال بعضهم: ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلاً للحسنات وتاركاً للسيئات، أما الفعل فإما أن يكون فعل القلب وهو قوله: «الذين يؤمنون»
.
وإما أن يكون فعل الجوارح، أساسه الصَّلاة والصدقة؛ لأن العبادة إما أن تكون بدنية، وأصلها الصَّلاة، أو مالية وأصلها الزكاة، ولهذا سمى الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الصَّلاَة عِمَاد الدِّين، والزَّكَاة قَنْطَرَة الإسلام» أما التَّرْك فهو داخل في الصَّلاة، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر﴾ [العنكبوت: ٤٥] واختلف الناسي في مسمى الإيمان في عرف الشرع على أربع فرق:
الفرقة الاولى: قالوا: الإيمان اسم لأفعال القلوب، والجوارح، والإقرار باللسان، وهم المعتزلة والخوارج والزيدية، وأهل الحديث.
أما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله، وبكل ما وضع عليه دليلاً عقلياً، أو نقلياً من الكتاب والسُّنة، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً.
فقالوا: مجموع هذه الأشياء هو الإيمان، وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر،
281
أما المعتزلة فقد اتفقوا على أنَّ الإيمان إذا عدي بالباء، فالمراد به التصديق؛ إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية، فلا يقال: فلان آمن بكذا إذا صلّى وصام، بل يقال: فلان آمن بالله كما يقال: صام وصلّى لله، فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريقة أهل اللغة.
أما إذا ذكر مطلقاً غير معدى، فقد اتفقوا على أنه منقولٌ من المُسمَّى اللغوي - الذي هو التصديق - إلى معنى آخر، ثم اختلفوا فيه على وجوه:
أحدها: أن الإيمان عبارةٌ عن فعل كل الطَّاعات، سواء كانت واجبة أم مندوبة، أو من باب الأقوال أو الأفعال، أو الاعتقادات، وهو قول واصل بن عَطَاءٍ، وأبي الهذيل، والقاضي عبد الجبار بن أحمد.
وثانيها: أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافقل، وهو قول أبي علي وأبي هاشم.
282
وثالثها: أن الإيمان عبارة عن [اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد. ثم يحتمل أن يكون من الكبائر ما لم يرد فيه الوعيد].
فالمؤمن عند الله كل من اجتنب] كل الكبائر، والمؤمن عندنا كل من اجتنب ما ورد فيه الوعيد، وهو قول النّظام، ومن أصحابه من قال: شرط كونه مؤمناً عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها.
وأما أهل الحديث فذكروا وجهين:
الأول: أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حِدَةِ، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إذلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة.
وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر، ثم كل معصية بعد كُفْر على حِدَةٍ، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد الجثحُود والإنكار؛ لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله، وهو قول عبد الله بن سعيد بن كلاب.
والثاني: زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها، وهو إيمان واحد، وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان، ومن ترك شيئاً من الفرائض فقد انتقص إيمانه، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه.
ومنهم من قال: الإيمان اسم للفرائض دون النوافل.
الفرقة الثانية الذين قالوا: الإيمان باللِّسان والقَلْب نعاً، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب:
الأول: أن الإيمان إقرار باللسان، ومعرفة بالقلب، وهو قول أبي حنيفة وعامّة الفقهاء، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين:
283
أحدهما: اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة، فمنهم من فَسَّرها بالاعتقاد الجازم - سواء كان اعتقاداً تقليدياً، أو كان علماً صادراً عن الدليل - وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلّد مسلم.
ومنهم من فسرها بالعلم الصادر من الاستدلال.
وثانيهما: اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقيق الإيمان عِلْمٌ بماذا؟ قال بعض المتكلّمين: هو العلم بالله، وبصفاته على سبيل الكمال والتمام، ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى لا جرم أقدم كلّ طائفة على تكفير من عداها من الطوائف.
وقال أهل الإنصاف: المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد عليه الصَّلاة والسلام، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم، أو عالماً بذاته، وبكونه مرئياً أو غير مرئي، لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان.
القول الثاني: أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً، وهو قول بشر بن غياث المَرِيسِي، وأبي الحسن الأشعري، والمراد من التصديق بالقلب الكَلاَم القائم بالنفس.
الفرقة الثالثة الذين قالوا: الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط، وهؤلاء اختلفوا على قولين:
أحدهما: أن الإيمان معرفة الله بالقَلْبِ، حتى إن من عرف الله بقلبه، ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يُقرَّ بِهِ فهو مؤمن كامل الإيمان، وهو قول جهم بن صَفْوَان.
284
وأما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلةٍ في حَدّ الإيمان.
وحكى الكعبي عنه: أنّ الإيمان معرفة الله مع معرفة كلّ ما علم بالضَّرورة كونه من دين محمد.
ثانيهما: أنّ الإيمان مُجَرَّد التصديق بالقَلب، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ البَجَلي.
الفرقة الرابعة الذين قالوا: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، وهم فريقان:
الأول: أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط، لكن شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب، فالمعرفة شرط لكونه الإقرار اللساني إيماناً، لا أنها داخلةٌ في مسمى الإيمان، وهو قول غيلان بن مسلم الدّمشقي، والفضل الرقاشي، وإن كان الكعبي قد أنكر كونه ل «غيلان».
الثاني: أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان، وهو قول الكرامية، وزعموا أن المُنَافقمؤمن الظاهر كافر السريرة، فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا، وحكم الكافرين في الآخرة، فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع.
و «بالغيب» متعلّق ب «يؤمنون»، ويكون مصدراً واقعاً موقع اسم الفاعل، أو اسم المفعول، وفي هذا الثاني نظر؛ لأنه من «غاب» وهو لازم، فكيف يبنى منه اسم مفعول من «فَعَّلَ» مضعفاً متعدياً، أي: المُغَيَّب، وفيه بعد. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون مخففاً من «فَيْعِل» نحو: «هَيِّن» من «هَيْن»، و «مَيِّت» من «مَيْت». وفيه نظر؛ لأنه لا ينبغي أن يدعى ذلك فيه حتى يسمع مثقلاً كنظائره، فإنها سمعت مخفَّفةً ومثقلةً، ويبعد أن يقال: التزم التخفيف في هذا خاصّة. ويجوز أن تكون «الباء» للحال فيتعلّق بمحذوف أي: يؤمنون
285
متلبسين بالغيب عن المؤمن به، و «الغيب» حينئذ مصدر على بابه.

فصل في معنى «يؤمنون بالغيب»


في قوله «يؤمنون بالغيب» قولان:
الأول: قول أبي مسلم الأصفهاني أن قوله: «يؤمنون بالغيب» صفة المؤمنين معناه: أنهم يؤمنون بالله حال الغيبة كما يؤمنون به حال الحضور، لا كالمنافقين الذين «إِذَا لَقُوا الَّذِيْنَ آمَنُوا، آمَنَّ: وَإذَا خَلوا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ».
نظيره قوله: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾ [يوسف: ٥٢]، وذلك مدح للمؤمنين بأن ظاهرهم موافق لباطنهم ومباين لحال المُنَافقين.
الثاني: وهو قول جمهور المُفَسّرين أن الغيب هو الَّذي يكون غائباً عن الحاسّة، ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما هو عليه دليل، وإلى ما ليس عليه دليل.
فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغَيْبِ الذي دل عليه بأن يتفكروا، ويستدلوا فيؤمنوا به، وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله - تعالى - وبصفاته والعلم بالآخرة، والعلم بالنبوة، والعلم بالأحكام بالشرائع، فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقّة يصلح أن يكون سبباً لاستحقاق الثَّنَاء العظيم.
واحتج أبو مسلم بأمور:
الأول: أن قوله: ﴿والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: ٤] إيمان بالأشياء الغائبة، فلو كان المراد من قوله: «الَّذِين يُؤْمِنُونَ بالْغَيْبِ» هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه، وهو غير جائز.
الثاني: لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب، وهو خلاف قوله تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ﴾ [الأنعام: ٥٩] وكذا سائر الآيات الباقية تدلّ على كون الإنسان عالماً بالغيب. أما على قولنا فلا يلزم هذا المحذور.
الثالث: لفظ «الغيب» إنما يجوز إطلاقه على من يجوز الحُضُور، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله - تعالى - وصفاته، فقوله: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ» لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذت الله وصفاته، ولا ينبغي فيه الإيمان بالآخرة، وذلك غَيْرُ جائز؛ لأن الركن الأعظم هو الإيمان بذات الله وصفاته، فكيف يجوز حمل اللّفظ على معنى يقتضي خروج الأصل؟
286
أما على قولنا فلا يلزم خذا المحذور.
والجواب عن الأول: أن قوله: «يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ» الإيمان بالغائبات على الإجمال، ثم إن قوله بعد ذلك: «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ» يتناول الإيمان ببعض الغائبات، فكان هذا من باب عَطْفِ التَّفصيل على الجملة، وهو جائز كقوله: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٨].
وعن الثاني: لا نزاع في أننا نؤمن بالأشياء الغائبة عنَّا، فكان ذلك التخصيص لازماً على الوجهين جميعاً.
فإن قيل: أفتقولون: العبد يعلم الغيب أم لا؟
قلنا: قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل، وإلى ما لا دليل عليه.
أما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن نقول: نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل، وعلى هذا الوجه قال العلماء: الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة.
وعن الثالث: لا نسلّم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلاَّ فيما يجوز عليه الحُضُور، والدَّليل على ذلك أنّ المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشَّاهد، ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته، والله أعلم.
واختلفوا في المراد ب «الغيب».
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «الغيب - ها هنا - كل ما أمرت بالإيمان به فيما غاب عن بصرك مثل: الملائكة والبَعْث والجَنّة والنَّار والصِّراط والمِيزَان».
وقيل: الغيب هاهنا هو الله تعالى.
وقيل: القرآن.
وقال الحسن: الآخرة.
وقال زرُّ بن حبيش، وابن جريج: بالوحي.
287
ونظيره: ﴿أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب﴾ [النجم: ٣٥] قال ابن كيسان: بالقدر.
وقال عبد الرحمن بن يزيد: كنا عند عبد الله بن مَسْعُودٍ، فذكرنا أصحاب رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وما سبقوا به، فقال عبد الله: إن أمر محمدا كان بيناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قطّ أفضل من إيمان الكتب، ثم قرأ: «الم ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ» إلى قوله «المفلحون».
وقال بعض الشيعة: المراد بالغيب المَهْدي المنتظر.
قال ابن الخطيب: «وتخصص المطلق من غير دليل باطل».
قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو وورش: «يُؤمِنُونَ»، بترك الهمزة.
ولذلك يترك أبو جعفر كل همزة ساكنة إلاّ في ﴿أَنبِئْهُمْ﴾ [البقرة: ٣٣]، و ﴿يُنَبِّئُهُمُ﴾ [المائدة: ١٤]، و ﴿نَبِّئْنَا﴾ [يوسف: ٣٦].
ويترك أبو عمرو كلها، إلا أن يكون علامةً للجزم نحو:
﴿وَنَبِّئْهُمْ﴾ [الحجر: ٥١]، «وأَنبئْهُمْ»، و ﴿تَسُؤْهُمْ﴾ [آل عمران: ١٢٠]، و ﴿إِن نَّشَأْ﴾ [الشعراء: ٤] ونحوها، أو يكون خروجاً من لُغَةٍ إلى أخرى نحو: ﴿مُّؤْصَدَةُ﴾ [البلد: ٢٠]، و ﴿وَرِءْياً﴾ [مريم: ٧٤].
ويترك ورش كلّ همزة ساكنة كانت «فاء» الفعل، إلا ﴿وتؤويا﴾ [الأحزاب: ٥١] و ﴿تُؤْوِيهِ﴾ [المعارج: ١٣]، ولا يترك من عين الفعل إلا ﴿الرؤيا﴾ [الإسراء: ٦٠] وبابه، أو ما كان على وزن «فعل». و «يقيمون» عطف على «يؤمنون» فهو صلةٌ وعائد.
وأصله: يؤقومون حذفت همزة «أفعل» ؛ لوقوعها بعد حرف المُضّارعة كما تقدم فصار: يقومون، فاستثقلت الكسرة على الواو، ففعل فيه ما فعل في «مستقيم»، وقد تقدم في الفاتحة. ومعنى «يقيمون» : يديمون، أو يظهرون، قال تعالى: ﴿على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ﴾ [المعارج: ٢٣] وقال الشاعر: [الوافر]
١٢٠ - أَقْمَنَا لأَهْلِ العِرَاقَيْنِ سُوقَ البطْ طِعَانِ فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِعا
وقال آخر: [الكامل]
288
١٢١ - وَإِذَا يُقَالُ:
أَتَيْتُمُ لَمْ يَبْرَحُوا حَتَّى تُقِيْمَ الخَيْلُ سُوقُ طِعَانٍ
من قامت السّوق: إذا أنفقت؛ لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجّه إليه الرغبات، وإذا أضيفت كانت كالشّيء الكاسد الذي لا يرغب فيه. أو يكون عبارة عن تعديل أركانها، وحفظها من أن يقع خَلَل في فرائضها وسُننها، أو يكون من قام بالأمر، وقامت الحرب على ساق.
وفي ضده: قعد عن الأمر، وتقاعد عنه: إذا تقاعس وتثبط، فعلى هذا يكون عبارة عن التجرُّد لأدائها، وألاّ يكون في تأديتها فُتُور، أو يكون عبارةً عن أدائها، وإنما عبر عن الأداء بالإقامة؛ لأن القيام ببعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت. وذكر الصّلاة بلفظ الواحد، وأن المراد بها الخمس كقوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق﴾ [البقرة: ٢١٣] يعني: الكتب.
و «الصّلاة» مفعول به، ووزنها: «فَعضلَة»، ولامها واو، لقولهم: صَلَوات، وإنما تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، واشتقاقها من: «الصَّلَوَيْنِ» وهما عِرْقَان في الوِرْكَيْنِ مفترقان من «الصّلاَ»، وهو عِرْق مُسْتَبْطِنٌ في الظهر منه يتفرق الصَّلَوان عند عَجَبِ الذَّنْبِ، وذلك أن المصلّي يحرك صَلَوَيْهِ، ومنه «المُصَلِّي» في حَلَبَةِ السِّباق لمجيئه ثانياً عند «صَلَوَي» السابق. ذكره الزَّمخشري.
قال ابن الخطيب: وهذا يفضي إلى طَعْنٍ عظيم في كون القرآن حُجّة؛ وذلك لأن لفظ «الصلاة» من أشدّ الألفاظ شهرة، وأكثرها درواناً على ألسنة المسلمين، واشتقاقه من تحريك الصّلوين من أبعد الأشياء اشتهاراًَ فيما بين أهل النقل، ولو جوزنا أن [يقال] : مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره، ثم إنه خفي واندرس حتى صار بحيث لا يعرفه إلاّ الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزاً، ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد الله - تعالى - من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المَعَاني في زماننا هذا، لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعانٍ أخر، وكان مراد الله - تعالى - تلك المعان]، إلاّ أن تلك المعاني خَفِيت في زماننا، واندرست كما وقع مثله في هذه اللَّفظة، فلما كان ذلك باطلاً بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل.
وأجيب عن هذا الإشكال بأن بعثة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بالإسلام، وتجديد الشريعة أمر طبق الآفاق، ولا شَكّ أنه وضع عبارات، فاحتاج إلى وضع ألفاظ، ونقل ألفاظ عمّا كانت عليه، والتعبير مشهور.
وأما ما ذكره من احتمال التعبير فلا دليل عليه، ولا ضرورة إلى تقديره فافترقا.
289
و «الصَّلاة» لغة: الدّعاءُ: [ومنه قول الشاعر] [البسيط]
١٢٢ - تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُرْتَحلاً يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الأَوْصَابَ وَالوَجَعَا
فَعَلَيكِ مِثْلُ الَّذي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي يَوماً فَإِنَّ لجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجِعاً
أي: مثل الَّذي دعوت، ومثله: [الطويل]
١٢٣ - لَهَا حَارِسٌ لاَ يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا وإِن ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا
وفي الشرع: هذه العبادة المعروفة.
وقيل: هي مأخوذة من اللزوم، ومنه: «صَلِيَ بِالنَّارِ» أي: لزمها، ومنه قوله تعالى: ﴿تصلى نَاراً حَامِيَةً﴾ [الغاشية: ٤] قال: [الخفيف]
١٢٤ - لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّ هُ وإِنِّي بِحَرِّهَا الْيَومَ صَالِ
وقيل: من صَلَيْتُ العودَ بالنَّار، أي: قَوَّمْتُهُ بالصَّلاَء - وهو حَرّ النار، إذا فَتَحْتَ قَصَرْتَ، وإن كَسَرْتَ مَدَدْتَ، كأن المصلِّي يُقَوِّم نفسه؛ قال: [الوافر]
١٢٥ - فَلاَ تَعْجَلْ بِأَمْرِكَ واسْتَدِمْهُ فَمَا صَلَّى عَصَاكَ كَمُسْتَدِيمِ
ذكر ذلك الخَارزنجِيّ، وجماعة أجلّة، وهو مشكل، فإن «الصلاة» من ذوات الواو، وهذا من الياء. وقيل في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي﴾ [الأحزاب: ٥٦] الآية: إنّ الصّلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاسْتِغْفَار، ومن المؤمنين الدعاء.
﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ مما: جاء ومَجْرور متعلّق ب «ينفقون» و «ينفقون» معطوف على الصّلة قبله، و «ما» المجرورة تحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون اسماً بمعنى «الذي»، و «رزقناهم» صِلَتِهَا، والعائد محذوف.
قال أبو البقاء: «تقديره رزقناهموه، أو رزقناهم إياه».
290
وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشكال؛ لأن تقديره متصلاً يلزم منه اتصال الضَّمير مع اتحاد الرُّتبة، وهو واجب الانفصال، وتقديره منفصلاً يمنع حذفه؛ لأنَّ العائد متى كان منفصلاً امتنع حذفه، نصُّوا عليه، وعللوا بأنه لم يفصل إلا لغرض، وإذا حذف فاتت الدلالة على ذلك الغرض.
ويمكن أن يجاب عن الأوّل بأنه لما اختلف الضَّميران جمعاً وإفراداً - وإن اتحدا رتبةً - جاز اتصاله؛ ويكون كقوله: [الطويل]
١٢٦ - فَقَدْ جَعَلَتْ نَفْسِي تَطِيبُ لِضَغْمَةٍ لِضَغْمِهمَاهَا يَقْرَعُ الْعَظْمَ نَابُهَا
وأيضاً فإنه لا يلزم من منع ذلك ملفوظاً به منعه مقدّراً لزوال القُبْحِ اللفظي.
وعن الثَّاني: بأنه إنما يمنع لأجل اللَّبْسِ موصوفةً، والكلام في عائدها كالكلام في عائدها موصولةً تقديراً واعتراضاً وجواباً.
الثَّالث: أن تكون مصدريةً، ويكون المصدر واقعاً موقع المفعول أي: مرزوقاً.
وقد منع أبو البقاء هذا الوَجْهَ قال: «لأنَّ الفعل لا يتفق»، وجوابه ما تقدّم من أنّ المصدر يراد يه المفعول. والرزق لغة: العَطَاء، وهو مصدر؛ قال تعالى: ﴿وَمَن رزقناه مِنَّا رِزْقاً حَسَناً﴾ [النحل: ٧٥] وقال الشَّاعر: [البسيط]
١٢٧ - رُزِقْتَ مَلاً وَلَمْ تُرْزَقْ مَنَافِعَهُ إِنَّ الشَّقِيَّ هُوَ الْمَحْرُومُ مَا رُزِقَا
وقيل: يجوز أن يكون «فِعْلاً» بمعنى «مفعول» نحو: «ذِبْح»، و «رِعْي» بمعنى: «مَذْبوح»، و «مَرْعيّ».
وقيل: «الرِّزْق» - بالفتح - مصدر، وبالكسر اسم، وهو في لغة أزد شنوءة: الشّكر، ومنه: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: ٨٢].
وقال بعضهم: ويدخل فيه كل ما ينتفع به حتى الولد والعَبْد.
وقيل: هو نصيب الرجل، وما هو خاص له دون غيره.
ثم قال بعضهم الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل، وهو باطل؛ لأن الله - تعالى - أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال: ﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا﴾ [المنافقون: ١٠]، فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه.
291
وقال آخرون: الرزق هو ما يملك وهو باطل أيضاً؛ لأن الإنسان قد يقول: اللهم ارزقني ولداً صالحاً، أو زوجة صالحة، وهو لا يملك الولد ولا الزَّوجة، ويقول: اللهم أرزقني عقلاً أعيش به، والعقل لي بمملوك، وأيضاً البهيمة يحصل له رزقٌ ولا يكون لها ملك. وأما في عُرف الشَّرع فقد اختلفوا فيه، فقال أبو الحَسَنِ البَصْرِي: الرزق تمكين الحَيَوَان من الانتفاعِ بالشيء، والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به.
فإذا قلنا: قد رزقنا الله الأموال، فمعنى ذلك أنه مَكَّننا بها من الانتفاع بها، وإذا سألنا - تعالى - أن يرزقنا مالاً فإنا لا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخصّ.
واعلم أن المعتزلة لما فسّروا الرزق بذلك لا جَرَمَ قالوا: الحرام لا يكون رزقاً. وقال أصحابنا: الحرام قد يكون رزقاً.
قال ابن الخطيب: حُجّة الأصحاب من وجهين:
الأول: أنّ الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام، فذلك الحرام صار حظَّا ونصيباً، فوجب أن يكون رزقاً له.
الثَّاني: أنه تعالى قال: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا﴾ [هود: ٦]، وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السّرقة، فوجب أن يقال: إنه طول عمره لم يأكل من رزق شيئاً.
أما المعتزلة: فقد احتجُّوا بالكتاب، والسُّنة، والمعنى:
أما الكتاب فوجوه:
أحدها: قوله تعالى: ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣] مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وذلك باطل بالاتفاق.
ثانياً: لو كان الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه، لقوله تعالى: ﴿مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [المنافقون: ١٠]، وأجمع المسلمون على أنَّهُ لا يجوز للغاصب أن ينفق [مما أخذه]، بل يجب رَدّه، فدلّ على أنَّ الحرام لا يكون رزقاً.
ثالثها: قوله تَعَالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ﴾ [يونس: ٥٩] فبين أن من حرم رزق الله، فهو مُفْتَرٍ على الله، فثبت أن الحرام لا يكون رزقاً.
وأما السُّنة فما رواه أبو الحسين في كتاب «الفرائض» بإسناده عن صفوان بن أمية
292
قال: «كنا عند رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذْ جاءه عمرو بن مُرَّةَ فقال له: يا رسول الله إنّ الله كتب عليَّ الشّقْوة، فلا أُرَانِي أُرْزقَ من دُفِّي بِكَفِّي، فائذن لي في الغناء من غير فَاحِشَةٍ. فقال عليه الصّلاة والسلام:» لا آذَنَ لَكَ ولا كَرَاهة ولا نعْمة كَذَبت أي عَدُوّ الله لقد رزقك الله [رزقاً] طيباً فاخترت ما حَرَّمَ الله عليك من رِزْقِهِ على ما أَحَلّ الله لك من حَلاَلِهِ، أَمَا لو قُلْتَ بعد هَذِهِ المقدّمة شيئاً ضَرَبْتُكَ ضرباً وجيعاً «.
وأما المعنى فإنَّ الله - تَعَالَى - منع المكلّف من الانتفاع بهن وأمر غيره بمنعه من الانتفاع به، ومن منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال: إنه رزقه إياه، ألا ترى أنه لا يقال: إن السلطان قد رزق جنده مالاً قد منعهم من أخذه، وإنما يقال: إنه رزقهم ما مكَّنهم من أخذه، ولا يمنعهم منه، ولا أمر بمنعهم منه.
وأجاب أصحابنا عن التمسُّك بالآيات بأنه كان الكلّ من الله، فإنه لا يُضَاف إليه ذلك؛ لما فيه من سُوءِ الأدب، كما يقال: يا خالق المحدثات والعرش والكرسي، ولا يقال: يا خالق الكِلاَب والخَنَازير، وقال: ﴿يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله﴾ [الإنسان: ٦] فخصّ اسم العباد بالمتّقين، وإن كان الكُفَّار أيضاً من العباد، وكلك هاهنا خصّ اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف، وإن كان الحرام رزقاً أيضاً.
وأجابوا عن التمسُّك بالخبر بأنه حُجَّة لنا؛ لأن قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:»
فَاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ اللهُ عليك من رِزْقِه «صريح في أن الرزق قد يكون حراماً.
وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة مَحْضُ اللغة، وهو أن الحرام هل يسمى رزقاً أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ، والله أعلم.
و»
نفقط الشيء: نفد، وكلّ ما جاء مما فاؤه نون، وعينه فاء، فدالّ على معنى ونحو ذلك إذا تأملت، قاله الزمخشري، وذلك نحو: نَفِدَ نَفَقَ نَفَرَ «نفذ» «نَفَشَ» «نَفَحَ» «نفخ» «نفض» «نفل».
293
و «نفق» الشيء بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَتِ الدابة: ماتت نُفُوقاً، والنفقة: اسم المُنْفَق.

فصل في معاني «من»


و «من» هنا لابتداء الغاية.
وقيل: للتبعيض، ولها معانٍ أخر:
بيان الجنس:
﴿فاجتنبوا
الرجس مِنَ الأوثان﴾
[الحج: ٣٠].
والتعليل: ﴿يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق﴾ [البقرة: ١٩].
والبدل: ﴿بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة﴾ [التوبة: ٣٨].
والمُجَاوزة: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [آل عمران: ١٢١].
وانتهاء الغاية: «قربت منه».
والاستعلاء ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم﴾ [الأنبياء: ٧٧].
والفصل: ﴿يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح﴾ [البقرة: ٢٢٠].
وموافقة «الباء» ﴿يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: ٤٥]، ﴿مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض﴾ [فاطر: ٤٠].
والزيادة باطّراد، وذلك بشرطين كون المجرور نكرة والكلام غير موجب. واشترط الكوفيون التنكير فقط، ولم يشترط الأخفش شيئاً. و «الهمزة» في «أنفق» للتَّعدية، وحذفت من «ينفقون» لما تقدم في «يؤمنون».

فصل في قوله تعالى «ومما رزقناهم ينفقون»


قال ابن الخَطِيبْ: في قوله: ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ فوائد:
إحداها: أدخل «من» للتبعيض نهياً لهم عن الإسراف والتَّبذير المنهي عنه.
وثانيها: قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهَمّ، كأنه قال: يخصّون بعض المال بالتصدق به.
وثالثها: يدخل في الإنفاق المذكور في الآية، الإنفاق الواجب، والإنفاق المندوب، والإنفاق الواجب أقسام:
أحدها: الزكاة وهي قوله تعالى: ﴿يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا﴾ [التوبة: ٣٤].
وثانيها: الإنفاق على النفس، وعلى من تجب عليه نفقته.
وثالثها: الإنفاق في الجهاد. وأما الإنفاق المندوب فهو أيضاً إنفاق لقوله تعالى: ﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ﴾ [المنافقون: ١٠]، وأراد به الصدقة؛ لقوله بعد: {فَأَصَّدَّقَ
294
وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [المنافقون: ١٠] فكل هذه داخلةٌ تحت الآية، لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح.
295
«والَّذِين» عطف على «الذين» قبلها، ثم لك اعتباران:
أحدهما: أن يكون من باب عطف بعض الصفات على بعض كقوله: [المتقارب]
١٢٨ - إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وابْنِ الْهُمَامِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ وقوله: [السريع]
١٢٩ - يَا وَيْحَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصْ صَابِحِ فَالغَانِمِ فَالآيِبِ
يعني: أنهم جامعون بين هذه الأوصاف إن قيل: إن المراد بها واحد.
والثاني: أن يكونوا غيرهم.
وعلى كلا القولين، فيحكم على موضعه بما حكم على موضع «الَّذِين» المتقدمة من الإعراب رفعاً ونصباً وجرًّا قطعاً وإتباعاً كما مر تفصيله.
ويجوز أن يكون عطفاً على «المتقين»، وأن يكون مبتدأ خبره «أولئك»، وما بعدها إن قيل: إنهم غير «الذين» الأولى. و «يؤمنون» صلة وعائد.
و «بما أنزل» متعلّق به و «ما» موصولة اسمية، و «أنزل» صلتها، وهو فعل مبني للمفعول، لعائد هو الضَّمير القائم مقام الفاعل، ويضعف أن يكون نكرة موصوفة وقد منع أبو البقاء ذلك قال: لأن النكرة الموصوفة لا عموم فيها، ولا يكمل الإيمان إلا بجميع ما أنزل.
295
و «إليك» متعلّق ب «أنزل»، ومعنى «إلى» انتهاء الغاية، ولها معان أخر:
المُصَاحبة: ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: ٢].
والتبيين: ﴿رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ﴾ [يوسف: ٣٣].
وموافقة اللام و «في» و «من» :﴿والأمر إِلَيْكِ﴾ [النمل: ٣٣] أي: لك.
وقال النابغة: [الطويل]
١٣٠ - فَلاَ تَتْرُكَنِّي بِالوَعِيدِ كَأَنِّنِي إِلى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ
وقال الآخر: [الطويل]
١٣١ -........................ أَيُسْقَى فَلاَ يُرْوَى إِلَيَّ ابْنُ أَحْمَرَا
أي: لا يروى منّي، وقد تزاد؛ قرىء: «تَهْوَى إليهم» [إبراهيم: ٣٧] بفتح الواو.
و «الكاف» في محل جر، وهي ضمير المُخَاطب، ويتّصل بها ما يدل على التثنية والجمع تذكيراً وتأنيثاً ك «تاء» المُخَاطب.
ويترك أبو جعفر، وابن كثير، وقالون، وأبو عمرو، ويعقوب كل مَدّة تقع بين كلمتين، والآخرون يمدونها.
و «النزول» الوصول والحلول من غير اشتراط عُلُوّ، قال تعالى: ﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ﴾ [الصافات: ١٧٧] أي حلّ ووصل.
قال ابن الخطيب: والمراد من إنزال الوَحْي، وكون القرآن منزلاً، ومنزولاً به -
296
أن جبريل سمع في السماء كلام الله - تعالى - فنزل على الرسول به، كما يقال: نزلت
297
رسالة الأمير من القَصْر، والرسالة لا تنزل ولكن المستمع يسمع الرسالة من عُلوّ، فينزل ويؤدي في سفل، وقول الأمير لا يُفَارق ذاته، ولكن السامع يسمع فينزل، ويؤدي بلفظ نفسه، ويقال: فلان ينقل الكلام إذا سمع وحدث به في موضع آخر.
فإن قيل: كيف سمع جبريل كلام الله تعالى؛ وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم؟ قلنا: يحتمل أن يخلق الله - تعالى - له سمعاً لكلامه، ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم، ويجوز أن يكون الله - تعالى - خلق في اللَّوح المحفوظ كتابةً بهذا النظم المخصوص، فقرأه جبريل - عليه السلام - فحفظه، ويجوز أن يخلق الله
298
أصواتاً مقطّعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص، فيتلقّفه جبريل - عليه السلام - ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدّية لكعنى ذلك الكلام القديم.

فصل في معنى فلان آمن بكذا


قال ابن الخطيب: لا نزاع بين أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدّى ب «الباء» فالمراد منه التصديق.
فإذا قلنا: فلان آمن بكذا، فالمراد أنه صدق به، فلا يكون المراد منه أنه صام وصلى، فالمراد بالإيمان - هاهنا - التصديق، لكن لا بُدّ معه من المعرفة؛ لأن الإيمان - هاهنا - خرج مخرج المدح، والمصدق مع الشّك لا يأمن أن يكون كاذباً، فهو إلى الذَّم أقرب.
و «ما» الثانية وَصِلَتُهَا عطف «ما» الأولى قبلها، والكلام عليها وعلى صِلَتِهَا كالكلام على «ما» التي قبلها، فتأمله.
واعلم أن قوله: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ» عام يتناول كل من آمن بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، أو لم يكن مؤمناً بهما، ثم ذكر بعد ذلك هذه الآية وهي قوله: ﴿والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ [البقرة: ٤] يعني: التوراة والإنجيل؛ لأن في هذا التخصيص مزيد تشريف لهم كما في قوله: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨]، ثم في تخصيص عبد الله بن سلام، وأمثاله بهذا التشريف ترغيبٌ لأمثاله في الدِّين، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذكر العام.
و «من قبلك» متعلّق ب «أنزل»، و «من» لابتداء الغاية، و «قبل» ظرف زمان يقتضي التقدم، وهو نقيض «بعد»، وكلاهما متى نُكّر، أو أضيف أعرب، ومتى قطع عن الإضافة لفظاً، وأريدت معنى بني على الضم، فمن الإعراب قوله: [الوافر]
299
وقال الآخر: [الطويل]
١٣٢ - فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً أَكَادُ أَغَصُّ بِالمَاءِ الْقَرَاحِ
١٣٣ - وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ فَمَا شَرِبُوا بَعْدَاً عَلَى لذَّةٍ خَمْراً
ومن البناء قوله تعالى: ﴿لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ [الروم: ٤] وزعم بعضهم أن «قبل» في الأصل وصف نَابَ عن موصوفه لزوماً.
فإذا قلت: «قمت قبل زيد» فالتقدير: قمت [زماناً قبل زمان قيام زيد، فحذف هذا كله، وناب عنه قبل زيد]، وفيه نظر لا يخفى على متأمله.
واعلم أن حكم «فوق وتحت وعلى وأول» حكم «قبل وبعد» فيما تقدّم.
وقرىء: «بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ» مينياً للفاعل، وهو الله - تعالى - أو جبريل، وقرىء أيضاً: «بِمَا أُنْزِلّ لَيْكَ» بتشديد اللام، وتوجيهه أن يكون سكن آخر الفعل كما يكنه الأخر في قوله: [الرمل]
١٣٤ - إِنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ قدْ خُلِطَ بِجُلْجُلاَنِ بتسكين «خُلط» ثم حذف همزة «إليك»، فالتقى مِثْلاَن، فأدغم لامه.
و «بالأخرة» متعلّق ب «يوقنون»، و «يوقنون
»
خبر عن «هم»، وقدّم المجرور؛ للاهتمام به كما قدم المنفق في قوله: ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣] لذلك، وهذه جملة اسمية عطفت على الجملة الفعلية قبلها فهي صلةٌ أيضاً، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر لخلاف: «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» ؛ لأن وصفهم بالإيقان بالآخرة أوقع من وصفهم بالإنفاق من الرزق، فناسب التأكيد بمجيء الجملة الاسمية، أو لئلا يتكرّر اللفظ لو قيل: «ومما رزقناكم هم ينفقون».
والمراد من الآخرة: الدَّار الآخرة، وسميت الآخرة آخرة، لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا.
300
والآخرة تأنيث آخر مقابل ل «أول»، وهي صفة في الأصل جرت مجرى الأسماء، والتقدير: الدار الآخرة، والنشأة الآخرة، وقد صرح بهذين الموصوفين، قال تعالى: ﴿وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ﴾ [الأنعام: ٣٢] وقال: ﴿ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة﴾ [العنكبوت: ٢٠].
و «يوقنون» من أيقن بمعنى: استيقن، وقد تقدّم أن «أفعل» [يأتي] بمعنى: «استفعل» أي: يستيقنون أنها كائنة، من الإيقان وهو العلم.
وقيل: اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكًّا فيه، فلذلك لا تقول: تيقّنت وجود نفسي، وتيقنت أن السماء فوقي، ويقال ذلك في العلم الحادث، سواء أكان ذلك العلم ضرورياً أو استدلالياً.
وقيل: الإيقان واليقين علم من استدلال، ولذلك لا يسمى الله موقناً ولا علمه يقيناً، إذ ليس علمه عن استدلال.
وقرىء: «يُؤْقِنُون» بهمز الواو، وكأنهم جعلوا ضمّة الياء على الواو لأن حركة الحرف بين بين، والواو المضمومة يطرد قبلها همزة بشروط:
منها ألاّ تكون الحركة عارضة، وألاّ يمكن تخيفها، وألاّ يكون مدغماً فيها، وألاّ تكون زائدة؛ على خلاف في هذا الأخير، وسيأتي أمثلة ذلك في سورة «آل عمران» عند قوله: ﴿وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ﴾ [آل عمران: ١٥٣]، فأجروا الواو السَّاكنة المضموم ما قبلها مُجْرَى المضمومة نفسها؛ لما ذكرت لك، ومثل هذه القراءة قراءةُ قُنْبُلٍ «بالسُّؤْقِ» [ص: ٣٣] و «على سُؤْقِهِ» [الفتح: ٢٩] وقال الشاعر: [الوافر]
١٣٥ - أَحَبُّ المُؤْقِدَيْنِ إِلَيَّ مُؤْسَى وَجَعْدَةُ إِذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ
بهمز «المؤقدين».
وجاء بالأفعال الخمسة بصيغة المضارع دلالة على التجدُّد والحدوث، وأنهم كل وقت يفعلون ذلك.
وجاء ب «أنزل» ماضياً، وإن كان إيمانهم قبل تمام نزوله تغليباً للحاضر المنزول
301
على ما لم ينزل؛ لأنه لا بُدّ من وقوع، فكأنه نزل من باب قوله:
﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١]، بل أقرب منه؛ لنزول بعضه.

فصل فيما استحق به المؤمنون المدح


قال ابن الخطيب: إنه - تعالى - مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة، ومعلوم أنه لا يمدح المرء بتيقّن وجود الآخرة فقط، بل لا يستحق المدح إلاّ إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب، والسؤال، وإدخال المؤمنين الجَنّة، والكافرين النار.
روي عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنه قال: «يا عجباً كل العَجَب من الشَّاك في الله وهو يرى خَلْقَهُ، وعجباً ممن يعرف النَّشْأَةَ الأولى ثم ينكر النَّشْأَة الآخرة، وعجباً ممن ينكر البَعْثَ والنشور، وهو [في] كل يوم وليلة يموت ويَحْيَا - يعني النوم واليقظة - وعجباً ممن يؤمن بالجنّة، ما فيها من النعيم، ثم يسعى لدار الغرور؛ وعجباً من المتكبر الفخور، وهو يعلم أن نطفةٌ مَذِرَةٌ، وآخره جيفة قَذرة».
302
«أولئك» مبتدأ، خبره الجار والمجرور بعده أي: كائنون على هُدًى، وهذه الجملة: إما مستأنفة، وإما خبر عن قوله: الذي يؤمنون إما الأولى وإما الثانية، ويجوز أن يكون «أولئك» وحده خبراً عن «الذين يؤمنون» أيضاً إما الأولى أو الثانية، ويكون «على هُدًى» في هذا الوجه في محلّ نصب على الحال، هذا كله إذا أعربنا «الذين يؤمنون» مبتدأ أما إذا جعلناه غير مبتدأ، فلا يخفى حكمه مما تقدم.
ويجوز أن يكون «الذين يؤمنون» مبتدأ و «أولئك» بدل أو بَيَان، و «على هدى» الخبر. و «أولئك» : اسم إشارة يشترك فيه جماعة الذُّكور والإناث، وهو مبني على الكَسْرِ؛ لشبهة بالحرف في الافتقار.
وقيل: «أولاء» كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو: «هم» و «الكاف» للخطاب، كما في حرف «ذلك»، وفيه لغتان: المد والقصر: ولكن الممدود للبعيد، وقد يقال: «أولالك» قال: [الطويل]
١٣٦ - أُولاَلِكَ قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أُشَابَةَ وَهَلْ يَعِظُ الضِّلِّيلَ إِلاَّ أُولاَلِكَا
وعند بعضهم: المقصور للقريب والممدود للمتوسّط، و «أولالك» للبعيد، وفيه
302
لغات كثيرة، وكتبوا «أولئكَ» بزيادة «واو» قبل «اللام».
قيل: للفرق بينها وبين «إليك».
و «الهدى» الرشد والبيان والبَصِيرة.
و «مِنْ رَبِّهِمْ» في محل جر صفة ل «هدى» و «مِنْ» لابتداء الغاية، ونكر «هدى» ليفيد إبهامه التَّعظيم كقوله: [الطويل]
١٣٧ - فَلاَ وَأَبِي الطَّيْرَ الْمُرِبَّةِ بِالضُّحَى عَلَى خَالِدٍ لَقَدْ وَقَعْتُ عَلَى لَحْمِ
وروي «من ربهم» بغير غُنّة، وهو المشهور، وبغّنَة، ويروى على أبي عمرو، و «أولئك» مبتدأ، و «هم» مبتدأ ثانٍ، و «المفلحون» خبره، والجملة خبر الأول، ويجوز أن يكون «هم» فصلاً أو بدلاً، و «المفلحون» الخبر.
وفائدة الفصل: الفرق بين الخبر والتابع، ولهذا سمي فصلاً، ويفيد - أيضاً - التوكيد.
قال ابن الخطيب: يفيد فائدتين:
إحداهما: الدلالة على أن «الوارد» بعده خبر لا صفة.
والثاني: حصر الخبر في المبتدأ، فإنك لو قلت لإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلاّ في الإنسان.
وقد تقدم أنه يجوز أن يكون «أولئك» الأولى، أو الثاّنية خبراً عن «الذين يؤمنون»، وتقدم تضعيف هذين القولين. وكرر «أولئك» تنبيهاً على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى ثبت لهم بالفلاح، فجعلت كل واحدة من الإُثْرَتَيْنِ في تميزهم بها عن غيرهم بمثابة لو انفردت لكانت مميزة عن حدّها، وجاء هنا بالواو بين جملة قوله تعالى:
﴿أولئك
كالأنعام
بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون﴾
[الأعراف: ١٧٩] لأن الخبرين - هنا - متغايران، فاقتضى ذلك العطف، وأما تلك الآية الكريمة، فإن الخبرين فيها شيء واحد؛ لأن لتسجيل عليهم بالغَفْلَةِ، وتشبيههم بالأنعام معنى واحد، فكانت عن العَطْف بمعزل.
قال الزمخشري: وفي اسم الإشارة هو «أولئك» إيذانٌ بأن ما يراد عقبه،
303
والمذكورين قبله أهل لاكتسابه الخَصَال التي عددت لهم، كقول حاتم: [الطويل]
١٣٨ - وَللهِ صُعْلُوكٌ.............................
ثم عدَّد له فاضلة، ثم عقَّب تعديدها بقوله: [الطويل]
١٣٩ - فَذَلِكَ إِنْ يَهْلِكْ فَحُسْنَى ثَنَاؤُهُ وَإِنْ عَاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَاً
و «الفلاح» أصله: الشقُّ؛ ومنه قوله: [الرجز]
١٤٠ - إّنَّ الحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلِحُ... ومنه قول بكر النّطاح: [الكامل]
١٤١ - لاَ تَبْعَثَنَّ إِلَى رَبِيعةَ غَيْرَهَا إِنَّ الْحَدِيدَ بِغَيْرِهِ لا يُفْلَحُ
ويعبر به عن الفوز، والظفر بالبغية وهو مقصود الآية؛ ويراد به البقاء قال: [الرجز]
١٤٢ - لَوْ أَنَّ حَيَّا مُدْرِكُ الفَلاَحِ أَدْرَكَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ
وقال: [الطويل]
١٤٣ - نَحُلُّ بِلاَداً كُلُّهَا حُلَّ قَبْلَنَا ونَرْجُو الفَلاَحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ
وقال: [المنسرح]
304
١٤٤ - لِكُلٍّ هَمٌّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ والمْمُسْيُ وَالصُّبْحُ لاَ فَلاَحَ مَعَهُ
والمُفْلج - بالجيم - مثله، ومعنى التعريف في «المُفْلِحون» الدلالة على أن المتقين هم الناي أي: أنهم الذين إذا حصلت صفةُ المفلحين فهم هم كما تقول لصاحبك: هل عرفت السد، وما جُبِلَ عليه من فرط الإقدام؟ إن زيداً هو هو.

فصل فيمن احتج بالآية على مذهبه


هذه الاية يتمسّك بها الوعيدية والمُرْجِئة.
أما الوعيديّة فمن وجهين:
الأول: أن قوله: «وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ» يقتضي الحصر، فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن لا يكون مفلحاً، وذلك يوجب القطع بوعيد تارك الصَّلاةِ والزكاة.
الثاني: أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك
305
الحكم، فيلزم أن تكون علّة الفلاح في فعل الإيمان والصلاة والزكاة، فمن أخلّ بهذه الأشياء لم تحصل له علّة الفلاح، فوجب إلا يحصل الفلاح.
وأما المُرْجئة: فقد احتجّوا بأن الله حكم بالفَلاَح على الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه الآية، فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحاً، وأن زَنَى وشَرِبَ الخَمْرَ وسَرَقَ، وإذا ثبت تحقق العفو في هذه الطائفة ثبت في غيرهم ضرورة؛ لأنه لا قائل بالفرق.
قال ابن الخطيب: والجواب أن كل واحد من الاحتجاجيين معارض بالآخر، فيتساقطان.
والجواب عن قول الوعيدية: أن قوله: «أولئك هم المفلحون» يدل على أنهم الكاملون في الفلاح، فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل الفلاح، ونحن نقول بموجبه، فإنه كيف يكون كاملاً في الفلاح، وهو غير جازمٍ بالخلاص من العذاب، بل يجوز له أن يكون خائفاً.
وعن الثاني: أن نفي السبب لا يقتضي نفي المسبب، فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تَعَالى.
306
والجواب عن قول المرجئة: أنّ وصفهم بالتقوى يكفي لنَيْلِ الثواب؛ لأنه يتضمّن اتقاء المعاصي، واتقاء ترك الواجبات، والله أعلم.
307
اعلم أن الحروف لا أَصْلَ لها في العمل، لكن الحروف أشبه الفعل صورة ومعنى، فاقتضى كونه عاملاً.
أما المُشَابهة في اللفظ فلأنه تركّب من ثلاثة أحرف انفتح آخرها، ولزمت الأسماء كالأفعال، وتدخل نون الوقاية نحو «إنّني وكأنّني» كما تدخل على الفعل نحو: «أعطاني وأكرمني»، وأما المعنى فلأنه يفيد معنى في الاسم، فلما اشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل.
روى ابن الأنباري «أن الكِنْدِيّ» المتفلسف ركب إلى المبرد وقال: إني أجد في كلام العرب حشواً، أجد العرب تقول: «عبد الله قائم»، ثم يقولون: «إنَّ عبد الله قائم» ثم يقولون: «إنَّ عبد الله لقائم».
فقال المبرد: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ: فقولهم:: عبد الله قائم «إخبار عن قيامه، وقولهم:» إن عبد الله قائم «جواب عن سؤال سائل، وقولهم:» إن عبد الله لقائم «جواب عن إنكار منكر لقيامه.
واحتج عبد القاهر على صحّة قوله بأنها إنما تذكر جواباً لسؤال سائلٍ بقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين﴾ [الكهف: ٨٣] إلى أن قال: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ﴾ [الكهف: ٨٤]، وقوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ﴾ [الكهف: ١٣]، وقوله: ﴿فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي برياء﴾ [الشعراء: ٢١٦].
قال عبد القاهر: والتحقيق أنّها للتأكيد، فإذا كان الخبر ليس يظنّ المخاطب خلافه لم يحتج إلى»
أن «، وإنما يحتاج إليها إذا ظنّ السامع الخلاف، فأما دخوله اللاّم معها في جواب المنكر، فلأن الحاجة إلى التأكيد أشد.
فإن قيل: فلم لا دخلت»
اللام «في خبرها في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: ١٦]، وأدخل» اللام «في خبرها في قوله قبل ذلك: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ
307
ذلك لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون: ١٥]، وهم كانوا يتيقنون الموت، فلا حاجة إلى التأكيد، فكانوا ينكرون البعث فكانت الحاجة لدخول» اللام «على البعث أشد ليفيد التأكيد.
فالجواب: أن التأكيد حصل أولاًَ بقوله: ﴿خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾ [المؤمنون: ١٢ - ١٤].
فكان ذكر هذه السبع مراتب في خلق الإنسان أبلغُ في التأكيد من دخول»
اللام «على خبر» إن «، وهي تنصب الاسم، وترفع الخبر خلافاً للكوفيين بأن رفعه بما كان قبل دخولها.
وتقرير الأول أنها لما صارت عاملة فإما أن ترفع المبتدأ أو الخبر معاً، وتنصبهما معاً، أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر أو بالعكس والأول باطل؛ لأنهما كانا مرفوعين قبل دخولهما، فلم يظهر للعمل أثر البتة، ولأنها أعطيت عمل الفعل، والفعل لا يرفع الاسمين، فلا معنى للاشتراك، والفرع لا يكون أقوى من الأصل.
والثاني - أيضاً - باطل، لأنه مخالف لعمل الفِعْل، لأن الفعل لا ينصب شيئاً مع خُلوه عما يرفعه.
والثالث - أيضاً - باطل لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع؛ لن الفعل يعمل في الفاعل أولاً بالرفع؛ ثم في المفعول بالنصب، فلو جعل الحرف هاهنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع.
ولما بطلت الأقسام الثلاثة تعيّن الرابع، وهي أنها تنصب الاسم، وترفع الخبر، وهذا مما ينبّه على أن هذه الحروف لَيْسَتْ أصلية في العمل؛ لأنّ تقديم المنصوب على المرفوع في باب الفعل عدول عن الأصل.
وتخفّف «إن»
فتعمل وتهمل، ويجوز فيها أن تباشر الأفعال، لكن النواسخ غالباً تختص بدخول «لام» الابتداء في خبرها، أو معمولة المقدم عليها، أو اسمها المؤخّر، ولا يتقدم خبرها إلا ظرفاً أو مجروراً، وتختص - أيضاً - بالعَطْفِ على محل اسمها، ولها ولأخواتها أحكام كثيرة.
و «الذين» اسمها و «كفروا» صلة وعائد، و «لا يؤمنون» خبرها، وما بينهما اعتراض، و «سواء» مبتدأ، و «أنذرتهم» وما بعده في قوة التًَّأويل بمفرد هو الخبر، والتقدير: سواء عليهم الإنذار وعدمه، ولم يحتج هنا إلى رَابِطٍ؛ لأنّ الجملة نفس المبتدأ، ويجوز أن يكون «سواء» خبراً مقدماً، و «أنذرتهم» بالتأويل المذكور مبتدأ مؤخر تقديره: الإنذار وعدمه سواء.
308
قال ابنُ الخَطِيبِ: اتفقوا على أنّ الفِعل لا يخبر عنه؛ لأن قوله: «خرج ضرب» ليس بكلام منتظم، وقد قدحوا فيه بوجوه:
أحدها: أنَّ قوله: «أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» فعل، وقد أخبر عنه بقوله:
سَوَاءٌ عَلِيْهِمْ «، ونظيره» ثُمَ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوا الآيَات لَّيَسْجُنُنَّهُ «فاعل» بَدَا «هو» يسجننه «.
وثانيها: أن المخبر عنه بأنه فعل لا بد وأن يكون فعلاً، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل.
فإن قيل: المخبر عنه بأنه فعل لا بد وأن يكن فعلاً، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل.
فإن قيل: المخبر عنه بأنه فعل هو تلك الكلمة، وتلك الكلمة اسم.
قلنا: فعلى هذا المخبر عنه بأنه فعل إذا لم يكن فعلاً بل اسماً كان هذا الخبر كذباً؛ والتحقيق أن المخبر عنه بأنه فعل إما أن يكون اسماً أو لا يكون، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذباً؛ لأن الاسم لا يكون فعلاً، وإن كان فعلاً فقد صار الفعل مخبراً عنه.
وثالثها: أنا إذا قلنا: الفعل لا يخبر عنه، فقد أخبرنا عنه بأنه لا يخبر عنه، والمخبر عنه بهذا الخبر لو كان اسماً لزم أَنَّا قد أخبرنا عن الاسم بأنه لا يخبر عنه، وهذا خطأ، وإن كان فعلاً صار الفعل مخبراً عنه.
ثم قال هؤلاء: لما ثبت أه لا امتناع في الإخبار عن الفعل لم يكن بنا حاجةٌ إلى ترك الظاهر.
أما جمهور النحويين فقالوا: لا يجوز الإخبار عن الفعل، فلا جرم كان التقدير: سواء عليهم إنذارك وعدمه.
وهذه الجملة يجوز أن تكون معترضة بين اسم «إن»
وخبرها، وهو «لا يؤمنون» كما تقدم، ويجوز أن تكون هي نفسها خبراً ل «إن»، وجملة «لا يؤمنون» في محل نصب على الحال، أو مستأنفة، أو تكون دعاءً عليهم بعد الإيمان - وهو بعيد - أو تكون خبراً بعد خبر على رأي من يجوز ذلك.
ويجوز أن يكون «سواء» وحده خبر «إن»، و «أأنذرتهم» وما بعده بالتأويل المذكور في محل رفع بأنه فاعل له، والتقدير: استوى عندهم الإنذار وعدمه.
و «لا يؤمنون» على ما تقدّم من الأوجه٠ أعني: الحال والاستئناف والدعاء والخبرية.
والهمزة في «أأنذرتهم» الأصل فيها الاستفهام، وهو - هنا - غير مراد، إذ المراد التسوية، و «أنذرتهم» فعل وفاعل ومفعول.
و «أم» - هنا - عاطفة وتسمى متصلةً، ولكونها متصلة شرطان:
أحدهما: أن يتقدمها همزة استفهام أو تسوية لفظاً أو تقديراً.
309
والثاني: أن يكون ما بعدها مفرداً أو مؤولاً بمفرد كهذه الآية، فإن الجملة فيها بتأويل مفرد كما تقدم، وجوابها أحد الشِّيئين أو الأشياء، ولا تجاب ب «نعم» ولا ب «لا»، فإن فقد الشرط سميت منقطعة ومنفصلة، وتقدر ب «بل والهمزة»، وجوابها «نعم» أو «لا» ولها أحكام أخر.
و «لم» حرف جزم معناه نفي الماضي مطلقاً خلافاً لمن خصَّها بالماضي المنقطع، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾ [مريم: ٤] ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: ٣]. وهذا لا يتصور فيه الانقطاع، وهي من خواصّ صيغ المضارع إلاّ أنها تجعله ماضياً في المعنى كما تقدم. وهل قلبت اللفظ دون المعنى أو المعنى دون اللفظ؟
310
قولان: أظهرهما الثاني: وقد يحذف مجزومها كقوله: [الكامل]
١٤٥ - إِحْفَظْ وَدِيعَتَك الَّتِي اسْتُودِعْتَهَا يَوْمَ الأَعَازِبِ، إِنْ وَصَلْتَ، وإِنْ لَمِ
و «الكفر» أصله: الستر؛ ومنه: «الليل الكَافِرُ» ؛ قال: [الرجز]
١٤٦ - فَوَرَدَتْ قَبْلَ انْبِلاَجِ الفَجْرِ وَابْنُ ذُكَاءٍ كَامِنٌ فِي كَفْرِ
وقال [الكامل]
١٤٧ - فَتَذَكَّرَا ثَقَلاً رَثِيداً بَعْدَمَا أَلْقَتْ ذُكَاءُ يَمِينَهَا فِي كَافِرِ
والكفر - هنا - الجحود. وقال آخر: [الكامل]
١٤٨ -.......................... فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا
قال أبو العباس المقرىء: ورد لفظ «الكفر» في القرآن على أربعة أَضْرُبٍ:
الأول: الكُفْر بمعنى ستر التوحيد وتغطيته قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ﴾ ؟
الثاني: بمعنى الجُحُود قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩].
الثالث: بمعنى كفر النّعمة، قال تعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ﴾ [إبراهيم: ٧] أي: بالنعمة، ومثله: ﴿واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: ١٥٢] وقال تعالى: ﴿أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ [النمل: ٤٠].
الرابع: البراءة، قال تعالى: ﴿إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ﴾ [الممتحنة: ٤] أي: تبرأنا منكم، وقوله: ﴿ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [العنكبوت: ٢٥].
و «سواء» اسم معنى الاستواء، فهو اسم مصدر، ويوصف على أنه بمعنى مستوٍ، فيحتمل حينئذٍ ضميراً، ويرفع الظاهر، ومنه قولهم: «مررت برجل سواء والعدم» برفع «
311
العدم» على أنه معطوفٌ على الضمير المستكنّ في «سواء»، وشذ عدم بمعنى: «مثل»، تقول: «هما سِيّان» بمعنى: مِثْلان، قال: [البسيط]
١٤٩ - مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ سِيَّانِ
على أنه قد حكي سواءان. وقال الشاعر: [الطويل]
١٥٠ - وَلَيْلٌ تَقُولُ النَّاسُ فِي ظُلُماتهِ سَوَاءٌ صَحِيحَاتً العُيُونِ وَعُورُهَا
ف «سواء» خبر عن جمع هو «صحيحات»، وأصله: العدل؛ قال زهير: [الوافر]
١٥١ - أَرُونَا سُبَّةً لا عَيْبَ فِيهَا يُسَوِّي بِيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ
أي: يعدل بيننا العدل. وليس هو الظرف الذي يستثنى به في قولك: «قاموا سواء زيد» وإن شاركه لفظاً.
ونقل ابن عطية عن الفارسي فيه اللغات الأربع المشهورة في «سوى» المستثنى به، وهذا عجيب فإن هذه اللغات في الظرف لا في «سواء» الذي بمعنى الاستواء.
وأكثر ما تجيئ بعده الجملة المصدرية بالهمزة المُعَادلة ب «أم» كهذه الآية، وقد تحذف للدلالة كقوله تعالى: ﴿فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الطور: ١٦] أي: أصبرتم أم لم تصبروا، وقد يليه اسم الاستفهام معمولاً لما بعده كقول علقمة: [الطويل]
١٥٢ - سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَيَّ حِينٍ أَتَيْتَهُ أَسَاعَةَ نَحْسٍ تُتَّقَى أَمْ بأَسْعَدِ
ف «أي حين» منصوب ب «أتيته»، وقد يعرى عن الاستفهام، وهو الأصل؛ نحو: [الطويل]
١٥٣ -....................
312
سَوِاءٌ صَحِيْحاتُ العُيُونِ وَعُورُهَا

فصل في استعمالات «سواء»


وقد ورد لفظ «سواء» على وجوه:
الأول: بمعنى: الاستواء كهذه الآية.
الثاني: بمعنى: العَدْل، قال تعالى: ﴿إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ [آل عمران: ٦٤] أي: عدل؛ ومثله: ﴿سَوَآءَ السبيل﴾ [الممتحنة: ١] أي: عدل الطريق.
الثالث: بمعنى: وسط، قال تعالى: ﴿فِي سَوَآءِ الجحيم﴾ [الصافات: ٥٥] أي: وسط الجحيم.
الرابع: بمعنى: البَيَان؛ قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ﴾ [الأنفال: ٥٨] أي: على بيان.
الخامس: بمعنى: شرع، قال تعالى: ﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً﴾ [النساء: ٨٩] يعني: شرعاً.
السادس: بمعنى: قصد، قال تعالى: ﴿عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل﴾ [القصص: ٢٢] أي: قصد الطريق. و «الإنذار» : التخويف.
وقال بعضهم: هو الإبلاغ، ولا يكاد يكون إلاَّ في تخويف يسع زمانه الاحتراز، فإن لم يسع زمانه الاحتراز، فهو إشعار لا إنذار؛ قال: [الكامل]
١٥٤ - أَنْذَرْتُ عَمْراً وَهُوَ فِي مَهَلٍ قَبْلَ الصَّبَاحِ فقَدْ عَصَى عَمْرُو
ويتعدّى لاثنين، قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً﴾ [النبأ: ٤٠]، ﴿أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً﴾ [فصلت: ١٣] فيكون الثاني في هذه الآية محذوفاً تقديره: أأنذرتهم العذاب أم لم تنذروهم إياه، والأحسن ألا يقدر له مفعول، كما تقدم في نظائره.
والهمزة في «أنذر» للتعدية، وقد تقدّم أن معنى الاستفهام هنا غير مراد؛ لأن التسوية هنا غير مرادة.
فقال ابن عَطيَّةَ: لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام؛ لأنَّ فيه التسوية التي هي الاسْتِفْهَام، ألا ترى أنك إذا قلت مخبراً: «سواء علي أَقُمْت أم قعدت»، وإذا قلت مستفهماً: «أخرج زيد أم قام» ؟ فقد استوى الأمران عندك؟ هذان في الخبر، وهذان في الاستفهام، وعدم علم أحدهما بعينه، فلما عمتهما
313
التسوية جرى على الخبر لفظ الاستفهام؛ لمشاركته إيَّاه في الإبهام، فكلّ استفهام تسوية وإن لم تكن كل تسوية استفهاماً، إلاَّ أن بعضهم ناقشه في قوله: «أأنذرتهم أم لم تنذرهم» لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه «الخبر» بما معناه: أن هذا الذي صورته صورة استفهام ليس معناه الخبر؛ لأنه مقدر بالمفرد كما تقدم، وعلى هاذ فليس هو وحده في معنى الخبر؛ لأن الخبر جملة، وهذا تأويل مفرد، وهي مناقشة لفظية.
وروي الوقف على قوله: «أَمْ لَمْ تُنْذِرْ» والابتداء بقوله: «هُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ» على أنها جملة من مبتدأ وخبر. وهذا ينبغي ألا يلتفت إليه، وإنْ كان قد نقله الهُذَلِيّ في «الوقف والابتداء» له.
وقرىء «أأنذرتهم» بهمزتين محقّقتين بينهما ألف، وبهمزتين، محقّقتين بلا ألف بينهما وهي لغة «بني تميم»، وأن تكون الأولى قوية، والألف بينهما، وتخفيف الثانية بين بين، وهي لغة «الحجاز» وبتقوية الهمزة الأولى، وتخفيف الثانية، وبينهما ألف. فمن إدخال الألف بين الهمزتين تخفيفاً وتحقيقاً قوله: [الطويل]
١٥٥ - أَيَا ظَبْيَةَ الوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلاَجِلٍ وَبَيْنَ النَّقَا آأَنْتَ أَمْ أُمُّ سَالِمِ؟
وقال آخر: [الطويل]
١٥٦ - تَطَالَلْتُ فَاسْتَشْرَفْتُهُ فَعَرَفْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ آأَنْتَ زَيْدُ الأَرَانِبِ؟
وروي عن وَرْش إبدال الثَّانية ألفاً محضة.
ونسب الزمخشري هذه القراءة لِلَّحْنِ، قال: إنما هو بَيْنَ بَيْنَ. وهذا منه ليس بصواب، لثبوت هذه القراءة تواتراً.
314
وقرأ ابن محيصن بهمزة واحدةٍ على لفظ الخبر، وهمزة الاستفهام مرتدة، ولكن حذفها تخفيفاً، وفي الكلام ما يدلّ عليها، وهو قوله: «أم لم» ؛ لأن «أم» تُعَادل الهمزة، وللقراء في مثل هذه الآية تفصيل كثير.

فصل في المراد بالكافرين في الآية


المراد من «الذين كفروا» يعني مشركي العرب كأبي لَهَبٍ؛ وأبي جهل، والوليد بن المغيرة وأضرابهم.
وقال الكلبي: «هم رؤساء اليَهُودِ والنُعَاندون» وهو قول ابن عباس. والكفر - هنا - الجحود، وهو على أربعة أضرب:
كفر إنكار، وكفر جُحُود، وكفر عِنَادٍ، وكفر نفاق:
ف «كفر الإنكار» : هو ألا يعرف الله أصلاً، ولا يعترف به.
وكفر الجُحُود: هو أن يعرف الله بقلبه، ولا يقر بلسانه، ككفر إبليس؛ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩].
وكفر العناد: هو أن يعرف الله بقلبه، ويعترف بلسانه، ولا يدين به؛ ككفر أبي طَالِبٍ؛ حيث يقول: [الكامل]
١٥٧ - وَلقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلاَ الْمَلاَمَةُ أَوْ حِذَارِ مَسَبَّةٍ لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا
وكفر النفاق: هو أن يقر باللسان، ولا يعتقد بالقلب، وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي الله - تعالى - بواحد منها؛ لا يغفر له.

فصل في تحقيق حد الكفر


قال ابن الخطيب: تحقيق القول في حد الكفر أن كل ما نقل عن محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنه ذهب إليه، وقال به، فإما أن يعرف صحة ذلك النقل بالضرورة، أو بالاستدلال، أو بخبر الواحد الذي علم بالضرورة، فمن صدق به جميعه، فهو
315
مؤمن، ومن لم يصدق بجميعه، أو لم يصدق ببعضه، فهو كافر، فإذن الكفر عدم تصديق
316
الرسول في شيء مما علم بالضرورة أنه ليس من دين محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
317
ومثاله من أنكر وجود الصّانع، أو كونه عالماً مختاراً، أو كونه واحداً، أو كونه منزهاً عن النَّقَائص والآفات، أو أنكر نبوة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ كوجوب الصَّلاة والزكاة والصوم والحج وحرمة الربا والخمر، فذلك يكون كافراً.
فأما الذي يعرف بالدليل أنه من دين محمد مثل كونه عالماً بالعلم أو بذاته، وأنه مرئي أو غير مرئي، وأنه خالق أعمال العباد أم لا، فلم ينقل بالتواتر القاطع للعُذْرِ، فلا جرم لم يكن إنكاره والإقرار به داخلاً في ماهيّة الإيمان، فلا يكون موجباً للكفر، والدليل عليه أنه لو جاء جزءاً من ماهية الإيمان لكان يجب على الرسول ألا يحكم بإيمان أحد إلاّ بعد أن يعرف أنه عرف الحق في تلك المسألة بين جميع الأمّة؛ ولنقل ذلك على سبيل التواتر، فلمَّا لم ينقل ذلك دلّ على أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما وقف الإيمان عليها، ولما لم يكن كذلك وجب ألا تكون معرفتها من الإيمان، ولا إنكارها موجباً للكفر، ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من الأمة من أرباب التأويل، وأما الذي لا سبيل إليه إلا برواية الآحاد، فظاهر أنه لا يمكن توقّف الكفر والإيمان عليه، والله أعلم.

فصل في الردّ على المعتزلة


احتجت المُعْتَزلة بكل ما أخبر الله عن شيء ماض مثل قوله: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا»، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر﴾
[الحجر: ٩]، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾ [القدر: ١]، ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً﴾ [نوح: ١] على أن كلام الله محدث، سواء كان الكلام هذه الحروف، أو الأصوات، أو كان شيئاً آخر.
318
قالوا: لأن الخبر على هذا الوجه لا يكون صدقاً إلاّ إذا كان مسبوقاً بالمخبر عنه، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير، فهذا الخبر يستحيل أن يكون قديماً، فيجب أن يكون محدثاً.
أجاب القائلون بقدم الكلام عنه بوجهين:
الأول: أن الله - تعالى - كان في الأزل عالماً بأن العالم سيوجد، فلما أوجده انقلب العلم بأنه سيوجد في المستقبل علماً بأنه قد حدث في الماضي، ولم يلزم حدوث علم الله تَعَالَى، فلم لا يجوز أيضاً أن يقال: إن حبر الله - تعالى - في الأزل كان خبراً بأنهم سيكفرون، فلما وجد كفرهم صار ذلك الخبر خبراً عن أنهم قد كفروا، ولم يلزم حدوث خبر الله تعالى؟.
الثاني: أن الله - تعالى - قال: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام﴾ [الفتح: ٢٧]، فلما دخلوا المسجد الحرام، ولا بد أن ينقلب ذلك الخبر إلى انهم قد دخلوا المسجد الحرام من غير أن يتغير الخبر الأول، فإذا أجاز ذلك فلم لا يجوز في مسألتنا؟ فإن قلت: قوله: «إِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا» صيغة جمع مع «لام» التعريف، وهي للاستغراق بظاهره، ثم إنه لا نزاع في تكلّم بالعام وأراد الخاص، إما لأجل أنَّ القرينة الدالّة على أن المراد من ذلك العام ذلك الخصوص كانت ظاهرةً في زمان الرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فحسن ذلك لعدم اللّبس، وظهور المقصود، وإمّا لأجل أنّ المتكلّم بالعام لإرادة الخاص جائز، وإن لم يكن البيان مقروناً به عند من يجوز تأخير بَيَان التخصيص عن وقت الخِطَاب، وإذا ثبت ذلك ظهر أنه لا يمكن التمسُّك بشيء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق، لاحتمال أن المراد منها هو الخاص، وكانت القرينة الدالة على ذلك ظاهرة في زمان الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فلا جَرَمَ حين ذلك، وعدم العلم بوجود قرينة لا يدلّ على العدم.
وإذا ثبت ذلك ظهر أنّ استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف، والله أعلم.

فصل في المذهب الحق في «تكليف ما لا يطاق»


قال ابن الخطيب: احتج أهل السُّنة بهذه الآية وما أشبهها على تكليف ما لا يطاق وتقريره: أنه - تعالى - أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قطّ، فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر الله - تعالى - الصدق كذباً، والكذب عند الخصم قبيح، وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة، وهما مُحَالان على الله تعالى، والمفضي إلى المُحَال محال، فصدور الإيمان منه مُحَال، فالتكليف به تكليف بالمحال، وقد يذكر هذا
319
في صورة العلم، وهو أنه - تعالى - لما علم منه أنه لا يؤمن، فكان صدور الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله جهلاً، وذلك محال، ويستلزم من المُحَال محال، فالأمر واقع بالمحال.
ونذكر هذا على وجهٍ ثالثٍ: وهو أن وجود الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بأنه لا يؤمن؛ لأنه إنما يكون علماً لو كان مطابقاً للمعلوم، والعلم بعدم الإيمان يلزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجوداً ومعدوماً معاً، وهذا مُحَال، والأمر بالإيمان مع وجود علم الله بعدم الإيمان أمر بالجمع بين الضِّدِّين، بل أمر بالجمع بين العدم والوجود، وكل ذلك مُحَال.
ونذكر هذا على وَجْه رابع: وهو أنه - تعالى - كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة [والإيمان يعتبر فيه تصديق الله - تعالى - في كل ما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط] وقد صاروا مكلفين بأن يؤمنون بأنهم لا يؤمنون قط، وهو مكلف بالجمع بين النفي والإثبات.
ونذكر هذا على وجه خامس: وهو أنه - تعالى - عاب الكُفَّار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر عنه في قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ﴾ [الفتح: ١٥]، فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله، وذلك منهي عنه.
ثم هاهنا أخبر الله - تعالى - عنهم أنهم لا يؤمنون ألبتة، فمحاولة الإيمان منهم تكون قصداً إلى تبديل كلام الله، وذلك منهي عنه وترك محاولة الإيمان يكون - أيضاً - مخالفة لأمر الله، فيكون الذم حاصلاً على الترك والفعل. فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع وهي هادمة لأصول الاعتزال، وكل ما استدلّ به المعتزلة من الآيات الواردة، فيأتي الجواب عنها عند ذكر كل آية منها إن شاء الله تعالى.
320
اعلم أنه - تعالى - لما بيَّن في الآية الأولى أنَّهُمْ لا يؤمنون أخبر في هذه الآية السَّبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم.
واعلم أن الختم والكَتْم أخوان وهو: الاشتياق بالشَّيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية؛ لئلا يتوصّل إليه، ومنه: الخَتْم على الباب.
«على قلوبهم» متعلّقة ب «ختم»، و «على سمعهم» يحتمل عطفه على «قلوبهم»، وهو الظاهر، للتصريح بذلك، أعني: نسبة الختم إلى السمع في قوله تعالى: ﴿وَخَتَمَ على سَمْعِهِ﴾ [الجاثية: ٢٣] ويحتمل أن يكون خبراً مقدماً، وما بعده عطف عليه.
320
و «غشاوة» مبتدأ، وجاز الابتداء بها لأن النكرة متى كان خَبَرُها ظرفاً، أو حرف جر تاماً، وقدم عليها جاز الابتداء بها، [ويكون تقديم الخبر حينئذٍ واجباً؛ لتصحيحه الابتداء بالنكرة]، والآية من هذا القبيل، وهذا بخلاف قوله تعالى: ﴿وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ﴾ [الأنعام: ٢] ؛ ويبتدأ بما بعده، وهو «وعلى أبصارهم غشَاوَةٌ» ف «على أبصارهم» خبر مقدم، و «غِشَاوة» مبتدأ مؤخر.
وعلى الاحتمال الثاني يوقف على «قلوبهم»، وإنما كرر حرف الجر؛ ليفيد التأكيد ويشعر بذلك بِتَغَايُرِ الختمين، وهو: أن ختم القلوب غير ختم الأسماع.
وقد فرق النحويون بيم «مررت بزيد وعمرو» وبين «مررت بزيد وبعمرو» فقالوا في الأول هو ممرور واحد، وفي الثاني هما ممروران، وهو يؤيد ما قُلْتُهُ، إلا أن التعليل بالتأكيد يشمل الإعرابين، أعني: جعل «وعلى سمعهم» معطوفاً على قوله: «على قلوبهم»، وجعله خبراً مقدماً.
وأما التعليل بتغاير الختمين فلا يجيء إلا على الاحتمال الأول، وقد يُقَال على الاحتمال الثاني أن تكرير الحرف يُشعر بتغاير الغِشَاوتين، وهو أنَّ الغشاوة على السَّمع غير الغِشَاوة على البَصَرِ، كما تقدم ذلك في الختمين.
وقرىء: غِشَاوة بالكسر والنصب، وبالفتح والنصب وبالضَّم والرفع، وبالكسر والرفع - و «غشوة» بالفتح والرفع والنصب - و «غشاوة» بالعين المهملة، والرفع من العَشَا. فأما النصب ففيه ثلاثة أوجه:
الأول: على إضمار فعل لائق، أي: وجعل على أبصارهم غِشَاوة، وقد صرح بهذا العامل في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ [الجاثية: ٢٣].
والثاني: الانتصاب على إسقاط حرف الجر، ويكون «على أَبْصَارهم» معطوفاً على ما قبله، والتقدير: ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم بغشاوة، ثم حذف الجر، فانتصب ما بعده؛ كقوله: [الوافر]
321
أي:
تمرون بالدِّيَار، ولكنه غير مقيس.
والثالث: أن يكون «غشاوة» اسماً وضع موضع المصدر الملاقي ل «خَتَمَ» في المعنى؛ لأن الخَتْمَ والتغشية يشتركان في معنى السّتر، فكأنه قيل: «وختم التغشية» على سبيل التأكيد، فهو من باب «قعدت جلوساً»، وتكون «قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة».
وقال الفَارِسِيّ: قراءة الرفع الأولى، لأن النَّصب إما أن تحمله على فعل يدلّ عليه «ختم»، تقديره: وجعل على أبصارهم غشاوة، فهذا الكلام من باب: [الكامل]
١٥٩ - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تُعُوجُوا كَلاَمُكُم عَلَيَّ إِذَنْ حَرَامُ
١٦٠ - يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً
وقوله: [الرجز]
١٦١ - عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً حتَّى شَتَتْ هَمَّالَةٌ عَيْنَاهَا
ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حالة سَعَةٍ، ولا اختيار.
واستشكل بعضهم هذه العبارة، وقال: لا أدري ما معنى قوله؛ لأن النصب إما أن تحمله على «خَتَم» الزاهر، وكيف تحمل «غشاوة» المنصوب على «ختم» الذي هو فعل هذا ما لا حمل فيه؟
قال: اللهم إلا أن يكون أراد أن قوله تعالى: «ختم الله على قلوبهم» دعاء عليهم لا خَبَر، ويكون «غشاوة» في معنى المصدرية المَدْعو به عليهم القائم مقام الفعل، فكأنه قيل:
322
وغَشَّى الله على أبصارهم، فيكون إذ ذاك معطوفاً على «ختم» عطف المصدر النائب مناب فعله في الدّعاء، نحو: «رحم الله زيداً وسُقياً له» فتكون إذ ذاك قد حُلْت بين «غشاوة» المعطوف وبين «خَتَمَ» المعطوف عليه بالجار والمجرور. وهو تأويل حسن، إلاّ أن فيه مناقشة لفظيةً؛ لأن الفارسي ما ادّعى الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه إنما ادعى الفصل بين حرف العطف والمعطوف عليه أي بالحرف، فتحرير التأويل أن يقال: فيكون قد حُلْت بين غشاوة وبين حرف العطف بالجار والمجرور.
والقراءة المشهورة بالكسر؛ لأن الأشياء التي تدلّ على الاشتمال تجيء أبداً على هذه الزُّنَة كالعِصَابة والعِمَامَة.
والغِشَاوة فِعَالة: الغطاء من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لِمَا يشتمل على الشيء، ومنه غشي عليه، وَالغِشْيَان كناية عن الجِمَاع.
و «القلب» أصله المصدر، فسمي به هذا العضو الصَّنَوْبَرِي؛ لسرعة الخواطر إليه وتردُّدها عليه، ولهذا قال: [البسيط]
١٦٢ - مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلاَّ مِنْ تَقَلُّبِهِ فَاحْذَرْ عَلَى القَلْبِ مِنْ قَلْبٍ وَتَحْوِيلِ
ولما سمي به هذا العضو التزموا تفخيمه فرقاً بينه وبين أصله، وكثيراً ما يراد به العقل ويطلق أيضاً على لُبِّ كل شيء وخالصه.
و «السمع» و «السماع» مصدران ل «سمع»، وقد يستعمل بمعنى الاستماع؛ قال: [البسيط]
١٦٣ - وَقَدْ تَوَجَّسَ رِكْزَاً مُقْفِرٌ نَدُسٌ بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ مَا فِي سَمْعَهَ كَذِبُ
أي: ما في استماعه. و «السِّمْع» - بالكسر - الذِّكْر بالجميل، وهو - أيضاً - ولد الذئب من الضَّبُع، ووحد وإن كان المراد به الجمع كالذي قبله وبعده؛ لأنه مصدر حقيقة، يقال: رَجُلان صَوْم، ورجال صوم، ولأنه على حذف مضاف، أي: مواضع سمعهم، أو حواس سمعهم، أو يكون كني به عن الأُذُن، وإنما لفهم المعنى؛ كقوله [الوافر]
١٦٤ - كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
أي: بطونكم.
323
ومثله قال سيبويه: «إنه وإن وُحِّد لفظ السمع إلاَّ أن ذكر ما قبله وما بعجه بلفظ الجمع دليل على إرادة الجمع».
ومنه أيضاً قال تَعَالى: ﴿يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ [البقرة: ٢٥٧]، ﴿عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال﴾ [ق: ١٧] ؛ قال الراعي.
١٦٥ - بِهَا جِيَفُ الحَسْرى فأمّا عِظَامُهَا فَبِيضٌ وأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
أي: جلودها.
وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ: «أسماعهم».
قال الزمخشري: واللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الخَتْم، وفي حكم التَّغْشِيَةِ، إلاّ أن الأولى دخولها في حكم الختم؛ لقوله تعالى: ﴿وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ [الجاثية: ٢٣]
و «الأبصار» : جمع بصر، وهو نور العين الذي يدرك به المرئيات.
قالوا: وليس بمصدر لجمعه، ولقائل أن يقول: جمعه لا يمنع كونه مصدراً في الأصل، وإنما سهل جَمْعَهُ كَوْنُهُ سمي به نور العين، فَهُجِرَت فيه معنى المصدرية، كما تقدم في قلوب جمع قَلْب.
وقد قلتم: إنه في الأصل مصدر ثم سمي به، ويجوز أن يكنى به عن العَيْن، كما كي بالسمع عن الأذن، وإن كان السَّمع في الأصل مصدراً كما تقدم.
وقرأ أبو عمرو والكِسَائي: «أبصارهم» بالإِمَالَةِ، وكذلك كلّ ألف بعدها مجرورة في الأسماء كانت لام الفعل يميلانها.
ويميل حمزة منها ما تكرر فيه الراء «كالقرار» ونحوه، وزاد الكسائي إمالة ﴿جَبَّارِينَ﴾ [المائدة: ٢٢]، و ﴿الجوار﴾ [الشورى: ٣٢]، و ﴿بَارِئِكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤]، و ﴿مَنْ أنصاريا﴾ [آل عمران: ٣٢]، و ﴿نُسَارِعُ﴾ [المؤمنون: ٥٦] وبابه، وكذلك يميل كل ألف هي بمنزلة لام الفعْل، أو كانت علماً للتأنيث مثل: ﴿الكبرى﴾ [طه: ٢٣]، و ﴿الأخرى﴾ [الزمر: ٤٢]، ولام الفعل مثل: ﴿يَرَى﴾ [البقرة: ١٦٥]، و ﴿افترى﴾ [آل عمران: ٩٤] يكسرون الراء منها.
324
و «الغشاوة» : الغطاء. قال: [الطويل]
١٦٦ - تَبِعْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا
وقال: [البسيط]
١٦٧ - هَلاَ سَأَلْتِ بَنِي ذُبْيَانَ مَا حَسبِي إِذا الدُّخَانُ تَغَشِّى الأَشْمَطَ الْبَرِمَا
وجمعها «غشاءٌ»، لما حذفت الهاء قلبت الواو همزة.
وقيل: «غشاوي» مثل «أداوي».
قال الفارسي: لم أسمع من «الغشاوة» فعلاً متصرفاً ب «الواو»، وإذا لم يوجد ذلك، وكان معناها معنى ما «اللام» منه «الياء»، وهو غشي بدليل قولهم: «الغِشْيَان»، و «الغشاوة» من غشي ك «الجِبَاوة» من جبيت في أن «الواو» كأنها بدل من «الياء»، إذْ لم يُصَرَّفْ منه فعل كما لم يُصَرَّف منه الجباوة. وظاهر عبارته أن «الواو» بدل من «الياء»، و «الياء» أصل بدليل تصرف الفعل منها دون مادة «الواو».
والذي يظهر أن لهذا المعنى مادتين «غ ش و»، و «غ ش ي»، ثم تصرفوا في إحدى المادتين، واستغنوا بذلك عن التصرف في المادة الأخرى، وهذا أقرب من ادعاء قلب «الواو» «ياء» من غير سبب، وأيضاً «الياء» أخف من «الواو»، فكيف يقلبون الأخف للأثقل؟ و «لهم» خبر مقدم فيتعلّق بمحذوف، و «عذاب» مبتدأ مؤخر و «عظيم» صفة. والخبر - هنا - جائز التقديم؛ لأن للمبتدأ مسوغاً وهو صفة ونظيره: ﴿وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ﴾ [الأنعام: ٢] من حيث الجواز.
والعذاب في الأَصْل: الاستمرار، ثم سمي به كلّ استمرار أَلِمٍ.
وقيل: أصله: المَنْع، وهذا هو الظَّاهر، ومنه قيل للماء: عَذَب؛ لأنه يمنع العطش، والعذاب يمنع من الجريمة.
«عظيم» اسم فاعل من «عَظُمَ»، نحو: كريم من «كَرُم» غير مذهوب به مذهب الزمان، وأصله أن توصف به الأجرام، ثم قد توصف به المعاني.
وهل هو و «الكبير» بمعنى واحد أو هو فوق «الكبير» ؛ لأن العظيم يقابل الحقير، والكبير يقابل الصغير، والحقير دون الصغير؟ قولان.
325
و «فعيل» له معانٍ كثيرة، يكون اسماً وصفة، والاسم مفرد وجمع، والمفرد اسم معنى، واسم عين، نحو: «قميص وظريف وصهيل وكليب جمع كلب».
والصفة مفرد «فُعْلَة» ك «غَزِب» يجمع على غُزَاة «ومفرد» فَعَلَة «ك» سَرِي «يجمع على» سَرَاة «.
ويكون اسم فاعل من»
فَعُلَ «نحو: عظيم من عَظُم كما تقدم.
ومبالغةً في»
فَاعِل «، نحو» عليم من عالم «.
وبمعنى»
أَفْعَل «ك» شميط «بمعنى:» أشمط «و» مَفْعُول «ك» جريح «بمعنى: مجروح، و» مُفْعِل «ك» سَمِيع «بمعنى» «مُسْمِع»، و «مُفْعَل»، ك «وَلِيد» بمعنى: مُولَد، و «مُفَاعِل»، ك «جَلِيس» بمعنى: مُجَالِس، و «مُفْعَل»، ك «بَدِيع» بمعنى: مُبْتَدِع، و «مُفْتَعِّل» ك: «سَعِير» بمعنى: مُتَسَعِّر «، و» مُسْتَفْعِل «ك» مَكِين «بمعنى:» مُسْتَمْكن «.
و»
فَعْل «ك» رطيب «بمعنى:» رَطْبْ «، و» فَعَل «ك» عجيب «بمعنى:» عجب «و» فِعَال «ك» صحيح «بمعنى: صِحَاح، وبمعنى:» الفاعل والمفعول «ك» صريخ «بمعنى:» صاروخ ومصروخ «.
وبمعنى الواحد والجمع نحو: «خليط»
، وجمع فاعل ك «ريب» جمع غارب.

فصل في أيهما أفضل: السمع أو البصر؟


من الناس من قال: السَّمع أفضل منى البَصَرِ؛ لأن الله - تعالى - حيث ذكرهما قد السَّمع على البصر، والتقديم دليلٌ على التفضيل، ولأن السمع شرط النبوّة بخلاف البَصَرِ، ولذلك ما بعث الله رسولاً أَصَمّ، وقد كان فيهم الأعمى، ولأنَّ بالسَّمع تصلُ نتائج عقول البعض إلى البعض، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العَقْلِ بالمعارف، والبَصَر لا يوقفك إلى على المحسوسات، ولأن السمع متصرف في الجهات السّت بخلاف البَصَرِ، ولأن السمع متى بطل النُّطق، والبصر إذا بطل لم يبطل النُّطق.
ومنهم من قدم البصر؛ لأنّ آلة القوة الباصرة أشرف، ولأن متعلق القوة الباصرة هو النور، ومتعلّق القوة السَّامعة هو الريح.

فصل في ألفاظ وردت بمعنى الختم


الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الخَتْم هي «الطَّبع» و «الكنان» و «الرين» على القلب، و «الوقر» في الأذن، و «الغشاوة» في ابصر.
واختلف الناس في هذا الخَتْم: فالقائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله - تعالى - فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر، ثم لهم قولان:
منهم من قال: الختم هو خلق الكُفْر في قلوب الكفار.
326
ومنهم من قال هو خلق الدَّاعية التي إذا انضمّت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سبباً موجباً لوقوع الكُفْر.
وأما المعتزلة فأوّلوا هذه الآية، ولم يرجوها على ظاهرها.
أما قوله تعالى: «لهم عذاب عظيم» أي: في الآخرة.
وقيل: الأَسْر والقَتْل في الدنيا، والعذاب الدائم في العُقْبى.
و «العذاب» مشتق من «العَذْب» وهو القَطْع، ومنه سمي الماء الفرات عَذْباً، لأنه يقطع العطش.
327
«من الناس» خبر مقدم، و «من يقول» مبتدأ مؤخر، و «مَنْ» تحتمل أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة أي: الذي يقول، أو فريق يقول، فالجملة على الأول لا محل لها؛ لكونها صلة، وعلى الثاني محلها الرفع؛ لكونها صفة للمبتدأ.
واستضعف أبو البقاء أن تَكُونَ موصولة، قال: لأن «الذي» يتناول قوماً بأعيانهم، والمعنى هنا على الإبهام.
وهذا منه غير مسلم؛ لأنّ المنقول أنّ الآية نزلت في قوم بأعيانهم كعبد الله بن أبي ورهطه.
وقال الزمخشري: إن كانت أل للجنس كانت «منْ» نكرة موصوفة كقوله: ﴿مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله﴾ [الأحزاب: ٢٣].
وإن كانت للعَهْد كانت موصولة، وكأن قصد مناسبة الجنس للجنس، والعهد للعهد، إلا أن هذا الذي قاله غير لازم، بل يجوز أن تكون «أل» للجنس، وتكون «منْ» موصولة، وللعهد، و «منْ» نكرة موصوفة.
وزعم الكِسَائِيّ أنها لا تكون نكرة إلاّ في موضع تختص به النكرة؛ كقوله: [الرمل]
١٦٨ - رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظاً صَدْرَهُ لَوْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطِعْ
وهذا الذي قاله هو الأكثر، إلا أنها قد جاءت في موضع لا تختصّ به النكرة؛ قال: [الكامل]
327
١٦٩ - فَكَفَى بِنَا فَضْلاً عَلَى مَنْ غَيْرَنا.............................
و «من» تكون موصولة، ونكرة موصوفة، أو زائدة؟ فيه خلاف. واستدل الكسَائي على زيادتها بقول عنترة: [الكامل]
١٧٠ - يَا شَاةَ منْ قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ
ولا دليل فيه، لجواز أن تكون موصوفة ب «قَنَصٍ» إما على المبالغة، أو على حذف مضاف، وتصلح للتثنية والجمع الواحد.
فالواحد كقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ [الأنعام: ٢٥] والجمع كقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ [يونس: ٤٢]، والسبب فيه أنه موحّد اللفظ مجموع المعنى. و «مِنْ» في «من الناس» للتبعيض، وقد زعم قومٌ أنها لِلْبَيَانِ وهو غَلَطٌ؛ لعدم تقدم ما يتبين بها. و «النَّاس» اسم جمع لا واحد له من لَفْظِهَ، ويرادفه «أَنَاسِيّ» جمع إنسان أو إنسي، وهو حقيقة في الآدميين، ويطلق على الجِنّ مجازاً.
واختلف النحويون في اشتقاقه: فمذهب سيبويه والفراء أن أصله همزة ونون وسين، والأصل: أناس اشتقاقاً من الأُنس، قال: [الطويل]
١٧١ - وَمَا سُمِّيَ الإِنْسَانُ إِلاَّ لأُنْسِهِ وَلاَ القَلْبُ إِلاَّ أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ
لأنه أنس ب «حواء».
وقيل: بل أنس بربه ثم حذفت الهمزة تخفيفاً؛ يدلّ على ذلك قوله: [الكامل]
١٧٢ - إِنَّ الْمَنَايَا يَطَّلِعْ نَ عَلَى الأُنَاسِ الآمِنِينَا
وقال آخر: [الطويل]
328
وقال آخر: [الطويل]
١٧٣ - وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ
١٧٤ - وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ مِنْهَا الأَنَامِلُ
وذهب الكسائي إلى أنه من «نون وواو وسين» والأصل: «نوس» فقلبت «الواو» «ألفاً» لتحركها، وانفتاح ما قبلها، والنَّوسُ: الحركة.
وذهب بعضهم إلى أنه من «نون وسين وياء»، والأصل «نسي»، ثم قلبت «اللام» إلى موضع العين، فصار: «نيس» ثم قلبت «الياء» «ألفاً» لما تقدم في «نوس»، قال: سموا بذلك لنسيانهم؛ ومنه الإنسان لنسيانه؛ قال: [البسيط]
١٧٥ - فَإِنْ نَسِيتَ عُهُوداً مِنْكَ سَالِفةً فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ
ومثله: [الكامل]
١٧٦ - لا تَنْسَيَنْ تِلْكَ الْعُهُودَ فَإِنَّمَا سُمِّيتَ إِنْسَاناً لإِنَّكَ نَاسِي
فوزنه على القول الأول: «عَال»، وعلى الثاني: «فَعَلٌ»، وعلى الثالث: «فَلَعٌ» بالقَلْبِ «. و» يقول «: فعل مضارع، وفاعله ضمير عائد على:» من «.
والقول حقيقةً: اللفظ الموضوعُ لمعنى، ويطلق على اللَّفْظِ الدَّال على النسبة الإسنادية، وعلى الكلام النَّفساني أيضاً، قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ﴾ [المجادلة: ٨]. وتراكيبه السّتة وهي:»
القول «، و» اللوق «و» الوقل «، و» القلو «،» و «اللّقو»، و «الولق» تدل على الخفّة والسرعة، وإن اختصت بعض هذه المواد بمعانٍ أخر.
و «القول» أصل تعديته لواحد نحو: «قُلْتُ خطبة»، وتحكي بعده الجمل، وتكون في محل نصب مفعولاً بها، إلا أن يُضَمَّنَ معنى الظن، فيعمل عمله بشروط عند غير «بني سُلَيْمٍ» ؛ كقوله: [الرجز]
329
وبغير شرط عندهم، كقوله: [الرجز]
١٧٧ - مَتَى تَقُولُ الْقُلُصَ الرَّوَاسِمَا يُدْنِينَ أُمَّ قَاسِمٍ وقَاسِمَا
١٧٨ - قَالَتْ وَكُنْتُ رَجُلاً فَطِينَا هَذَا لَعَمْرُ اللهِ إِسْرَائِينَا
و «آمنا» فعل وفاعل، و «بالله» متعلّق به، والجملة في محلّ نصب بالقول، وكررت «الباء» في قوله: «وباليوم»، للمعنى المتقدّم في قوله: ﴿وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ﴾ [البقرة: ٧]
فإن قيل: الخبر لا بدّ وأن يفيد غير ما أفاد المبتدأ، ومعلوم أنّ الذي يقول كذا هو من الناس لا من غيرهم؟
فالجواب: أنّ هذا تفصيل معنوي، لأنه تقدّم ذكر المؤمنين، ثم ذكر الكَافرين، ثم عقب بذكر المُنافقين، فصار نظير التَّفصيل اللَّفظي، نحو قوله: ﴿وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ﴾ [البقرة: ٢٠٤]، ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي﴾ [لقمان: ٦]، فهو في قوّة تفصيل النَّاس إلى مؤمن، وكافر، ومنافق.
وأحسن من هذا أن يقال: إنَّ الخبر أفاد التَّبعيض المقصود؛ لأنَّ النَّاس كلهم لم يقولوا ذلك، وهم غير مؤمنين، فصار التقدير: وبعض الناس يقول كَيْتَ وكَيْت.
واعلم أن «مَنْ» وأخواتها لها لفظ ومعنى، فلفظها مفرد مذكر، فإن أريد بها غير ذلك، فَلَكَ أن تراعي لفظها مَرّة، ومعناها أخرى، فتقول: جاء مَنْ قام وقعدوا، والآية الكريمة كذلك روعي اللفظ أولاً فقيل: «من يقول»، والمعنى ثانياً في «آمنا».
وقال ابن عطية: جسن ذلك؛ لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة، ولا يجوز أن يرجع متكلّم من لفظ جمع إلى توحيد.
فلو قلت «» ومن الناس من يقومون «وتتكلّم لم يجز.
وفي عبارة ابن عطية نظر، وذلك لأنّه منه مِنْ مُرَاعاة اللَّفظ بعد مُرَاعاة المعنى، وذلك جائز، إلاَّ أن مراعاة اللّفظ أولاً أولى، يرد عليه قول الشَّاعر: [الخفيف]
١٧٩ - لَسْتُ مِمَّنْ يَكُعُّ أَوْ يَسْتَكِينُو نَ إِذَاَ كَافَحَتْهُ خَيْلُ الأَعَادِي
وقال تعالى: ﴿وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ﴾ [الطلاق: ١١] إلى أن قال:»
خَالِدين «، فراعى المعنى، ثم قال:» فَقَدْ أَحْسَنَ الله له رِزْقاً «، فراعى اللفظ بعد مُرَاعاة المعنى، وكذا راعى
330
المعنى في قوله:» أو يستكينون «، ثم راعى اللفظ في:» إذا كافحته «، وهذا الحمل جاز فيها من جميع أحوالها، أعني من كونها موصولة وشرطية، واستفهامية.
أما إذا كانت موصوفة فقال الشيخ أثير الدين أبو حَيّان:»
ليس في محفوظي من كلام العرب مُرَاعاة المعنى يعني فتقول: مررت بمن محسنون لك.
و «الآخر» صفة ل «اليوم»، وهذا مقابل الأوّل، ومعنى اليوم الآخر: أي عن الأوقات المحدودة.
ويجوز أن يُرَاد به الوقت الَّذي لا حَدّ له، وهو الأبد القائم الذي لا انقطاع له، والمراد بالأخر: يوم القيامة.
«وما هم بمؤمنين» «ما» : نافية، ويحتمل أن تكون هي الحِجَازية، فترفع الاسم وتنصب الخبر، فيكون «هم» اسمها، و «بمؤمنين» خبرها، و «الباء» زائدة تأكيداً.
وأن تكون التَّمِيْمِيّة، فلا تعمل شيئاً، فيكون «هم» مبتدأ، و «بمؤمنين» الخبر، و «الباء» زائدة أيضاً.
وزعم ابو علي الفَارِسِيّ، وتبعه الزمخشري أن «الباء» لا تزاد في خبرها إلاّ إذا كانت عاملة، وهذا مردود بقول الفَرَزْدَقِ، وهو تميمي: [الطويل]
١٨٠ - لَعَمْرُكَ مَا مَعْنٌ بِتَارِكِ حَقِّهِ وَلاَ مُنْسِىءٌ مَعْنٌ وَلاَ مُتَيَسِّرُ
إلا أنّ المختار في «ما» أن تكون حِجَازية؛ لأنه لما سقطت «الباء» صرح بالنصب قال الله تعالى: ﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ﴾ [المجادلة: ٢] ﴿مَا هذا بَشَراً﴾ [يوسف: ٣١]،
331
وأكثر لغة «الحجاز» زيادة الباء في خبرها، حتى زعم بعضهم أنه لم يحفظه النصب في غير القرآن، إلاّ قول الشاعر: [الكامل]
١٨١ - وَأَنَا النَّذِيرُ بِحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ تَصِلُ الْجُيوشُ إِلَيْكُمُ أَقْوَادَهَا
أَبْنَاؤُهَا مُتَكَنِّفُونَ أَبَاهُمُ حَنِقُو الصُّدُورِ وَمَا هُمُ أَوْلاَدَهَا
وأتى الضمير في قوله: «وما هم بمؤمنين» جمعاً اعتباراً للمعنى كما تقدّم في قوله: «آمنا».
فإن قيل: لم أتي بخبر «ما» اسم فاعل غير مقيّد بزمان، ولم يؤت بعدها بجملة فعلية حتى يطابق قولهم: آمنّا «: فيقال: وما آمنوا؟
فالجواب: أنه عدل عن ذلك ليفيد أن الإيمان منتف عنهم في جميع الأوقات، فلو أتى به مطابقاً لقولهم:»
أمنا «فقال: وما آمنوا لكان يكون نفياً للإيمان في الزمن الماضي فقط، والمراد النَّفي مطلقاً أي: أنهم ليسوا ملتبسين بشيء من الإيمان في وقتٍ من الأوقات.

فصل في سبب نزول الآية


قال ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْه - إنما نزلت في مُنَافقي أَهْلِ الكتاب، كعبد الله بن أبي سلول ومعتب بن قُشَيْرٍ، وجدّ بن قيس وأصحابهم، كانوا إذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق، ويقولون: إنا لنجد نَعْتَهُ وصفته في كتابنا، ولم يكونوا كذلك إذا خَلاَ بعضهم إلى بعض.

فصل في حقيقة النفاق


قال ابن الخَطِيْبِ: الكلام في حقيقة النفاق لا يتخلّص إلا بتقسيم، وهو أنّ أحوال القلب أربعة:
وهي أن تعتقد مستنداً لدليل وهو العلم، أو تعتقد لا عن دليل لكن تقليد، أو تعتقد لا عن دليل ولا تقليدج وهو الجهل، أو يكون حال القلب عن هذه الأحوال كلها.
وأما أحوال اللسان فثلاثة: الإقرار، والإنكار، والسكوت.
فأما الأول: وهو أن يحصل العرفان القلبي، فإما أن ينضم إليه الإقرار باللسان، فإن مان الإقرار اختيارياً، فصاحبه مؤمن حقًّا، بالاتفاق.
وإن كان اضطراريَّاً فهذا يجب أن يعد منافقاً؛ لأنه بقلبه منكر مكذب لموجب الإقرار.
332
فإن كان منكراً بلسانه عارفاً بقلبه، فهذا الإنكار اضطرارياً كان مسلماً؛ لقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان﴾ [النحل: ١٠٦]، وإن كان اختيارياً كان كافراً معانداً.
وإن كان عارفاً بقلبه، وكان ساكتاً، فهذا السكوت إن كان اضطرارياً كما إذا خاف ذكره باللسان، فهو مسلم حقّاً، أو كما إذا عرف الله بالدليل، ثم لما تمّم بالنظر مات فهو مؤمن قطعاً؛ لأنه أتى بما كلف به، ولم يجد زَمَانَ الإقرار، فكان معذوراً فيه، وإن كان السّكوت اختيارياً، فهذا محل البحث، فميل الغَزَالي إلى أنه يكون مؤمناً لقوله عليه الصَّلاة والسلام:» يَخْرُجُ من النَّار من كَانَ في قَلْبِهِ ذرّة من الإيمان «وهذا قلبه مملوء من نور الإيمان، فكيف لا يخرج من النار؟
النوع الثاني: أن يحصل في القلبِ الاعتقاد التقليدي، فإما أن يوجد معه الإقرار باللسان، أو الإنكار أو السكوت.
فإن وجد مع التّقليد الإقرار باللسان، فإن كان اختياراً فهي المسألة المشهورة من أن المقلد هل هو مؤمن أم لا؟
وإن كان اضطرارياً فهذا يفرع على الصورة الأولى، فإن حكمنا في الصورة الأولى بالكفر، فهاهنا لا كلام، وإن حكمنا هُنَاك بالإيمان وجب أن بحكم هاهنا بالنِّفَاق؟ لأن في هذه الصورة لو كان القلب عارفاً لكان هذا الشخص منافقاً، فمات يكون منافقاً عند التقليد.
فإن حصل الاعتقاد والتقليد مع الإنكار اللساني، فهذا الإنكار إن كان اختيارياً فلا شَكّ في الكفر، وإن كان اضطرارياً، وحكمنا بإيمان المُقَلّد وجب أن نحكم بالإيمان في هذه الصُّورة.
فإن حصل الاعتِقَادُ التقليدي مع السُّكوت اضطرارياً كان أو اختيارياً فحكمه حكم القسم مع النَّوْعِ الأوّل إذا حكمنا بإيمان المُقَلّد.
النوع الثَّالث: اعتقاد الجَاهِل، فإما أن يوجد معه الإقرار اللِّسَاني، فذلك الإقرار إن كان اضطرارياً فهو المُنَافق، وإن كان اختيارياً مثل أن يعتقد بناء على شبهة أن العالم قديم، ثم بالاختيار أقرّ باللسان أن العالم مُحْدّث، وهذا غير مستبعدٍ، فهذا أيضاً من النفاق.
333
النوع الرابع: القَلْبُ الخالي عن جميع الاعتقادات، وهذا إما أن يوجد معه الإقرار، أو الإنكار، أو السكوت. فإن وجد الإقرار، فإن كان الإقرار اختيارياً، فإن كان صاحبه في مُهْلة النظر لم يلزمه الكفر، لكنه فعل ما لا يجوز حيث أخبر عما لا يدري هل هو صَادق فيه أم لا؟
وإن كان الإقرار اضطرارياً لم يكفر صاحبه؛ لأن توقّفه إذا كان في مُهْلة النظر، وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً.
فإن كان مع القلب الخالي السُّكوت، فهذا إن كان في مُهْلة النظر، فذلك هو الواجب، وإن كان خارجاً عن مُهْلة النظر وجب تكفيره، ولا يحكم عليه بالنِّفَاق ألبتة.

فصل في بيان أقبح الكفر


اختلفوا في أنّ كفر الكافر الأصلي أقبح أم كفر المُنَافق؟
قال قوم: كفر الأصلي أقبح؛ لأنه جاهل بالقلب كاذب باللسان.
وقال آخرون: بل المنافق أيضاً كاذبٌ باللسان، فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه، ولذلك قال تعالى: ﴿قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤]، وقال تعالى: ﴿والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١] ثم إن المنافق اختص بمزيد أمور منكرة:
أحدها: أنه قصد التَّلبيس، والكافر الأصلي ما قصد ذلك.
وثانيها: أنّ الكافر على طبع الرجال، والمُنَافق على طبع الخُثُونة.
وثالثها: أنَّ المنافق ضمّ إلى كفره الاستهزاء، بخلاف الكافر الأصلي، ولأجل غلظ كفره قال تعالى: ﴿إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار﴾ [النساء: ١٤٥].
وخامسها: قال كجاهد: إنه - تعالى - ابتداء بذكر المؤمنين في أربع آيات، ثم ثَنّى بذكر الكفار في آيتين، ثم ثلث بذكر المنافقين في ثلاثة عشرة آية، وذلك يدلّ على أنَّ المُنَافق أعظم جرماً، وفي هذا نظراً [لأن كثرة الاقتصاص بخبرهم لا توجب كون جرمهم أعظم] لأنه قد يكون عظم جرمهم لضمهم إلى الكفر وجوهاً من المعاصي، كالمُخَادعة
334
والاستهزاء، وطلب الغَوَائل وغير ذلك، ويمكن أن يُجَاب بأن كثرة الاقتصاص بخبرهم تدلُّ على أنَّ الاهتمام بدفع شرهم أشدُّ من الاهتمام بِدَفْعِ شرّ الكُفار، وذلك يدلّ على أنهم أعظم جرماً من الكفار، والله أعلم.

فصل في ادعائهم الإيمان واليوم الآخر


ذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً وهو: أنّ المنافقين كانوا مؤمنين بالله، واليوم الآخر، ولكنهم كانوا منكرين نبوة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فلم كذبوا في ادّعائهم الإيمان بالله، واليوم الآخر؟
وأجاب فقال: إن حملنا على مُنَافقي أهل الكتاب - وهم اليهود - فإنما كذبهم الله - تعالى - لأن إيمان اليَهُود بالله ليس بإيمان؛ لأنّهم يعتقدونه جماً، وقالوا: عزيرٌ ابن الله، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان، فلما قالوا: آمنّا بالله كان خبثهم فيه مضاعفاً؛ لأنهم كانوا بقلولهم يؤمنون به على ذلك الوجه الباطل، وباللِّسَان يوهمون المسلمين بقولهم: إنا آمنا بالله مثل إيمانكم، فلهذا كذبهم الله - تعالى - فيه.
335
قوله: «يخادعون» هذه الجملة الفعلية يحتمل أن يكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدّر هو: ما بالهم قالوا: آمنا وما هم بؤمنين؟
فقيل: يخادعون الله، ويحتمل أن تكون بدلاً من الجملة الواعقة صلة ل «من» وهي «يقول»، ويكون هذا من بدل الاشْتِمَالِ؛ لأن قولهم كذا مشتمل على الخداع، فهو نظير قوله: [الرجز]
١٨٢ - إِنَّ عَلَيَّ اللهَ أَنْ تُبَايِعَا تُؤْخَذَ كَرْهاً أَوْ تَجِيءَ طَائِعَا
وقول الآخر: [الطويل]
335
ف «تؤخذ» بدل اشتمال من «تبايع»، وكذا «تُلْمِم» بدلٌ من «تَأْتِنَا». وعلى هذين القولين، فلا مَحَلَّ لهذه الجملة من الإعراب.
والجمل التي لا مَحَلَّ لها من الإعراب أربع لا تزيد على ذلك - وإن توهّم بعضهم ذلك - وهي: المبتدأ والصِّلة والمُعْترضة والمفسّرة، وسيأتي تفسيرها في مواضعها.
ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالاً من الضَّمير المستكن في [ «يقول» تقديره: ومن الناس من يقول حال كونهم مخادعين.
وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير المستكن] في «بمؤمنين»، والعامل فيها اسم الفاعل.
وقد ردّ عليه بعضهم بما معناه: أن هذه الآية الكريمة نظير: «ما زيد أقبل ضاحكاً»، قال: وللعرب في مثل هذا التركيب طريقان:
أحدهما: نفي القيد وحده، وإثبات أصل الفعل، وهذا هو الأكثر، والمعنى: أن الإقبال ثابت، والضحك منتفٍ، وهذا المعنى لا يتصوّر إرادته في الآية، أعني: نفي الخِدَاع، وثبوت الإيمان.
336
الطريق الثاني: أن ينتفي القَيْدُ، فينتفي العامل فيه، فكأنه قيل في المثال السابق: لم يقبل، ولم يضحك، وهذا المعنى - أيضاً - غير مراد بالآية الكريمة قطعاً، أعني: نفي الإيمان والخداع معاً، بل المعنى على نَفْي الإيمان، وثبوت الخداع، ففسد جعلها حالاً من الضمير في «بمؤمنين».
والعجب من أبي البَقَاءِ كيف استشعر هذا الإشكال، فمنع من جعل هذه الجملة في محل جر صفة ل «مؤمنين» ؟ قال: لأن ذلك يوجب نفي خِدَاعهم، والمعنى على إثبات الخداع، ثم جعلها حالاً من ضمير «بمؤمنين»، ولا فرق بين الحال والصفة في هذا.
و «الخداع» أصله: الإخفاءُ، ومنه الأَخْدَعَان: عِرْقان مُسْتَبْطنان في العُنُقِ، ومنه مخدع البيت، وخَدَع الضَّبُّ خِدْعاً: إذا توارى في جُحْرِه، وطريق خادع وخديع: إذا كان مخالفاً للمقصد، بحيث لا يفطن له؛ فمعنى يخادع: أي يوهم صاحبه خلاف ما يريد به المَكْروه.
وقيل: هو الفساد أي يفسدون ما أَظْهَروا من الإيمان بما أَضمروا من الكُفْرِ قال الشاعر: [الرمل]
١٨٣ - مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا
١٨٤ - أَبْيَضُ اللَّوْنِ لَذِيذٌ طَعْمُهُ طَيِّبُ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعْ
أي: فسد.
ومعنى «يُخَادعون الله» أي: من حيث الصورة لا من حيث المَعْنِى.
وقيل: لعدم عرفانهم بالله - تعالى - وصفاته ظنّوه ممن يُخَادَع.
وقال الزَّمخشري: إن اسم الله - تعالى - مُقْحَم، والمعنى: يخادعون الذين آمنوا، ويكون من باب: أعجبني زيد وكرمه. والمعنى: أعجبني كرم زيد، وإنَّما ذكر «زيد» توطئةً لذكر كرمه.
وجعل ذلك نظير قوله تعالى: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢]، ﴿إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ [الأحزاب: ٥٧]، وهذا منه غير مُرْضٍ؛ لأنه إذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله - تعالى - بالأوجه المتقدّمة، فلا ضرورة تدعو إلى ادعاء زيادة اسم الله تعالى.
وأما «أعجبني زيد وكرمه»، فإن الإعجاب أسند إلى «زيد» بجملته، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزاً لهذه الصفة من بين سائر الصفات للشرف، فصار من حيث المعنى نظيراً لقوله تعالى: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال﴾ [البقرة: ٩٨].
337
والمصدر «الْخِدْع» بكسر الخاء، ومثله: الخديعة.
و «فَاعَلَ» له معانٍ خمسة:
المشاركة المعنوية نحو: ضارب زيد عمراً.
وموافقة المجرد نحو: «جاوزت زيداً» أي: جُزْتُه.
وموافقة «أفعل» متعدياً نحو: «باعدت زيداً وأبعدته». والإغناء عن «أفعل» نحو: «واريت الشيء».
وعن المجرد نحو: سافرت وقاسيت وعاقبت، والآية «فَاعَل» فيها يحتمل المعنيين الأوّلَيْن.
أما المشاركة فالمُخَادعة منهم الله - تعالى - تقدم معناها، ومخادعة الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أَحْكام المسلمين في الدنيا، ومُخَادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أمر الله - تعالى - فيهم، وأما كونه بمعنى المُجّرَّد، فيبينه قراءة ابن مسعود وأبي حَيَوَةَ «يَخْدَعُونَ». وقرأ أبو عمرو والرميان «وَمَا يُخَادِعُونَ» كالأولى، والباقون «وَمَا يَخْدَعُونَ»، فيحتمل أن تكونا القراءتان بمعنى واحد، أي: يكون «فَاعَلَ» بمعنى «فَعَل»، ويحتمل أن تكون المُفَاعلة على بابها، أعني صدورها من اثنين، فهم يُخَادعون أنفسهم، حيث يُمَنُّونَها الأباطيل، وأَنْفُسهمْ تخادعهم تمنِّيهم ذلك، فكأنها مُحَاورة بين اثنين، ويكون هذا قريباً من قول الآخر: [المنسرح]
١٨٥ - لَمْ تَدْرِ مَا لاَ؟ وَلَسْتَ قَائِلَهَا عُمْرَكَ ما عِشْتَ آخِرَ الأَبَدِ
وَلَمْ تُؤَامِرْ نَفْسَيْكَ مُمْتَرِياً فِيهَا وَفِي أُخْتِهَا وَلَمْ تَلِدِ
وقال آخر: [الطويل]
١٨٦ - يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ وَفِي الْعَيْشِ فُسْحَةٌ أَيَسْتَوْقِعُ الذُّوبَانَ أَمْ لاَ يَطُورُهَا
قال الومخشري: الاقتصار ب «خادعت» على وجهه أن يُقَال: عني به «فعلت»، إلا أنه على وزن «فاعلت»، لأن الزِّنَةَ في أصلها للمغالبة، والفعل متى غولب فيه جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مُغَال لزيادة قوة الداعي إليه، ويعضده قراءة أبي حيوة المتقدمة.
338
وقرىء: «وَمَا يُخَدِّعَونَ»، ويُخَدِّعُونَ من خَدَّعَ مشدداً.
و «يُخَدِّعَونَ» بفتح الياء والتشديد؛ الأصل يختدعون، فأدغم.
وقرىء: «وما يُخْدَعُونَ»، «ويُخَادَعُونَ» على لفظ ما لم يسم فاعله، وتخريجها على أن الأصل: وَمَا يُخْدَعُونَ إِلاَّ عَنْ أنفسهم «فلما حذف الجَرّ انتصب على حَدّ: [الوافر]
١٨٧ - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا...............................
»
إلا أنفسهم «» إلا «في الأصل حرف استثناء و» أنفسهم «مفعول له، وهذا استثناء مفرغ، وهو: عبارة عما افتقر فيه ما قبل» إلا «لما بعدها، ألا ترى أن» يخادعون «يفتقر إلى مفعول؟ ومثله:» ما قام إلا زيد «، ف» قام «يفتقر إلى فاعل، والتَّام بخلافه، أي: ما لم يفتقر فيه ما قيل» إلا «لما بعدها، نحو: قام القوم إلاّ ويداً، وضربت القوم إلا بكراً، فقام أخذ فاعله، وضربت أخذ مفعوله، وشرط الاستثناء المُفَرَّغ أن يكون بعد نفي، أو شبهة كالاستفهام والنهي.
وأن قولهم: قرأت إلاّ يوم كذا، فالمعنى على نفي مؤول تقديره: ما تركت القراءة إلاَّ يوماً، هذا ومثله: ﴿ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾ [التوبة: ٣٢] و ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾ [البقرة: ٤٥].
وللاستثناء أحكام كثيرة تأتي مفصّلة في مواضعها إن شاء الله تعالى.
والنَّفْسُ: هنا ذات الشيء وحقيقته، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [المائدة: ١١٦]، »
وَمَا يَشْعُرُونَ «هذه الجملة الفعلية يحتمل إلا يكون لها محلّ من الإعراب؛ لأنها استئناف، وان يكون لها محلّ، وهو النصب على الحال من فاعل» يخدعون «والمعنى: وما يرجع وَبَال خداعهم إلاَّ على أنفسهم غير شاعرين بذلك، ومفعول» يشعرون «محذوف للعلم به، تقديره: وما يشعرون أن وَبَالَ خداعهم راجع على أنفسهم، واطّلاع الله عليهم.
والأحسن ألا يقدّر مفعول؛ لأن الغرض نفي الشعور عنه ألبتة من غير نظر إلى مُتَعلِّقه، والأوّل يسمى حذف الاختصار، ومعناه: حذف الشيء بدليل.
والثاني يسمى حذف الاختصار، وهو حذف الشيء لا لدليل.
339
والشُّعور: إدراك الشيء من وجه يدقّ، وهو مشتقّ من الشَّعَر لدقّته.
وقيل: هو الإدراك بالحاسّة مشتقّ من الشِّعِر، وهو ثوب يلي الجَسَد، ومنه مشاعر الإنسان أي: حواسّه الخمسة التي يشعر بها.

فصل في حد الخديعة


اعلم أن الخديعة مذمومة.
قال ابن الخطيب:» وَحَدُّهَا هي إظهار ما يوهم السّلامة والسّداد، وإبطال ما يقتضي الإضرار بالغير، أو التخلّص منه، فهو بمنزلة النِّفَاق في الكفر والرِّياء في الأفعال الحسنة، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين؛ لأن يوجب الدين يوجب الاستقامة والعدول عن الغُرُورِ والإساءة، كما يوجب المُخَالصة في العبادة «.

فصل في امتناع مخادعة الله تعالى


مخادعة الله - تعالى - ممتنعة من وجهين:
أحدهما: أنه يعلم الضَّمائر والسرائر، فلا يصح أن يُخَادَع.
والثاني: أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم، فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله، فثبت أنه لا يمكن إجْراءُ هذا اللفظ على ظاهره، فلا بُدّ من التأويل، وهو من وجهين:
الأول: أنه - تعالى - ذكر نفسه، وأراد به الرسول على عادته في تَفْخِيْمِ أمره، وتعظيم شأنه.
قال: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: ١٠].
والمنافقون لما خادعوا [الله ورسوله] قيل: إنهم يخادعون الله.
الثاني: أن يقال: صورة حالهم مه الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يُخَادع، وصورة صنع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده من الكَفَرَةِ صورة صنع الخادع، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم، فأجروا أحكامه عليهم.

فصل في بيان الغرض من الخداع في الآية


الغرض من ذلك الخداع وجوه:
الأول: أنهم ظنوا أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وأصحابه يجرونهم في التَّعْظيم
340
والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان.
الثاني: يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أَسْرَاره، والاطّلاع على أسرار المؤمنين، فينقلونها إلى الكفار.
الثالث: أنهم دفعوا عن أنفسهم أَحْكَام الكفار، كالقَتْلِ وغيره.
الرابع: أنهم كانوا يطعمون في أموال الغَنَائم.
فإن قيل: فالله تعالى كان قادراً على أن يوحي إلى نبيه كَيفية مَكْرِهِمْ وخِداعهم، فَلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذلك هتكاً لسترهم؟
قلنا: هو قادر على استئصال «إبليس» وذريته ولكنه - تعالى - أبقاهم وقواهم، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، أو لحكمة لا يطلع عليها إلا هو.
وقوله: «وما يَخْدّعُونَ إلا أنفسهم» فيه وجهان:
الأول: أنه - تعالى - يجازيهم على ذلك، ويعاقبهم عليه، فلا يكونون في الحقيقة خادعين إلاّ أنفسهم.
والثاني: ما ذكره أكثر المفسرين، وهو أم وَبَالَ ذلك راجع إليهم في الدنيا؛ لأن الله - تعالى - كان يدفع ضرر خِدَاعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم، وهو كقوله: ﴿إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢] ونظائره.
«في قلوبهم مرض» الجار والمجرور خبر مقدّم واجب التقديم لما تقدّم ذكره في قوله تعالى: ﴿وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ [البقرة: ٧]. والمشهور تحريك الراء من «مرض».
وَرَوَى الصمعي عن أبي عمرو سكونها، وهما لغتان في مصدر مَرِضَ يَمْرَضُ.
«والمرض» : الفتور.
وقيل: الفساد.
وقيل: صفة توجب وقوع الخَلَلِ في الأفعال الصادرة عن الفاعل، ويطلق على الظلمة؛ وأنشدوا: [البسيط]
341
أي: لظلمتها، ويجوز أن يكون أراد ب «مَرِضَتْ» فَسَدَت، ثم بين جهة الفَسَادِ بالظُّلمةِ.
قوله: «فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً».
هذه جملة فعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، متسبّبة عنها، بمعنى أنَّ سبب الزِّيَادة حصول المرض في قلوبهم، إذ المراد بالمرض هنا الغِلّ والحسد لظهور دين الله تعالى.
و «زاد» يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غير الأول ك «أَعْطَى وكَسَا»، فيجوز حذف مفعوليه، وأحدهما اختصاراً واقتصاراً، تقول: «زاد المال» فهذا لازم، و «زدت زيداً أجراً» ومنه: ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: ١٣]، ﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ [البقرة: ١٠] و «ودت زيداً» ولا تذكر ما زدته، و «زدت مالاً» ولا تذكر من زدته.
وألف «زاد» منقلبة عن ياء؛ لقولهم: «يزيد».
وقرأ ابن عامر وحمزة: «فزادهم» بالإمالة.
وزاد حمزة «زاد» حيث وقع، و ﴿زَاغَ﴾ [النجم: ١٧] ﴿وَخَابَ﴾ [إبراهيم: ١٥]، و ﴿طَابَ﴾ [النساء: ٣]، و «حَاقَ» [الأنعام: ١٠]، والآخرون لا يميلونها.

فصل في أوجه ورود لفظ المرض


ورد لفظ «المرض» على أربعة أوجه:
الأول: الشّك كهذه الآية.
الثاني: الزِّنَا قال تعالى: ﴿فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ [الأحزاب: ٣٢].
الثالث: الحَرَجُ قال تعالى: ﴿أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾ [النساء: ١٠٢].
الرابع: المرض بعينه.
قوله: ﴿وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ نظيره قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ [البقرة: ٧] وقد تقدّم. و «أليم» هنا بمعنى: مُؤْلِم، كقوله: [الوافر]
١٨٨ - فِي لَيْلَةٍ مَرِضَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ فَمَا يُحِسُّ بِهِ نَجْمٌ وَلاَ قَمَرُ
١٨٩ - ونَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاَتِ يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ
ويجمع على «فُعَلاَء» ك: «شريف وشرفاء»، و «أفْعَال» مثل: «شريف وأشراف»، ويجوز أن يكون «فعيل» : هُنَا للمُبَالغة محولاً من «فَعِل» بكسر العَيْنِ، وعلى هذا تكون
342
نسبة الألم إلى العَذّابِ مجازاً، لأنّ الألم حلّ بمن وقع به العذاب لا بالعذاب، فهو نظير قولهم: «شِعْرٌ شَاعِر».
و ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ متعلّق بالاستقرار المقدر في «لهم»، أي: استقر لهم عَذَابٌ أليم بسبب تكذيبهم. و «ما» يجوز أن تكون مصدرية، أي: بكونهم يكذبون، وهذا على القول بأن ل «كان» مصدراً، وهو الصحيح عند بعضهم للتصريح به في قول الشاعر: [الطويل]
١٩٠ - بِبَذْلٍ وَحِلْمٍ سَادَ في قوْمِهِ الفَتَى وَكَوْنُكَ إِيَّاهُ عَلَيْكَ يَسِيرُ
فقد صَرّح بالكون، ولا جائز أن يكون مصدر «كان» التَّامة لنصبه الخبر بعدها، وهو «إياه» على أنَّ للنظر في هذا البيت مجالاً ليس هذا موضعه.
وعلى القول بأن لها مصدراً لا يجوز التصريح به معها، لا تقول: «كان ويداً قائماً كوناً»، قالوا: لأن الخبر كالعوض من المصدر، ولا يجمع بين العوض والمُعَوَّض منه، وحينئذ فلا حَاجَةَ إلى ضمير عائد على «ما» ؛ لأنها حرف مصدري على الصحيح، خلافاً للأخفش وابن السَّراجِ في جعل المصدرية اسماً.
ويجوز أن تكون «ما» بمعنى «الذي»، وحينئذ فلا بُدّ من تقدير عائدٍ أي: بالذي كانوا يكذبونه، وجاز حَذْفُ العائد لاستكمال الشُّروط، وهو كونه منصوباً بفعل، وليس ثمَّ عائد آخر.
وزعم أبو البَقَاءِ أن كون «ما» موصولةً اسميةً هو الأظهر، قال: لأنّ الهاء المقدرة عائدة على «الَّذِي» لا على المصدر. وهذا الَّذِي قاله غير لازم، إذ لقائل أن يقول: لا نسلّم أنه لا بُدَّ من هاءٍ مقدّرة حتى يلزم جعل «ما» اسمية، بل من قرأ ﴿يَكْذِبُونَ﴾ مخففاً فهو عنده يكذبون الرَّسول والقرآن، أو يكون المشدّد بمعنى المخفّف، وقرأ الكوفيون: ﴿يَكْذِبُونَ﴾ بالفتح والتَّخفيف، والباقون بالضَّم والتشديد.
و «يكذّبون» مضارع «كذَّب» بالتشديد، وله معانٍ كثيرة: الرَّمي بكذا، ومنه الآية الكريمة والتعدية نحو: «فَرَّحْتُ زيداً».
343
والتكثير نحو: «قَطَّعْتُ الأثواب».
والجعل على صفة نحو: «قَطَّرْتُه» أي: جعلته مقطراً؛ ومنه: [السريع]
١٩١ - قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَارَاتَهَا مَا قَطَّرَ الفَارِسَ إِلاَّ أَنَا
والتسمية نحو: «فَسَّقْتُهُ» أي: سميته فاسقاً
والدعاء له نحو: «سَقَّيْتُهُ» أي قلت له: «سَقَاكَ الله».
أو الدعاء عليه نحو: «عَقَّرْتُه» أي قلت: عَقْراً لك.
والإقامة على الشي نحو: مَرَّضْتُه «والإزالة نحو:» قَذَّيْتُ عينه «أي: أزلت قَذَاها.
والتوجّه نحو:»
شَرَّقَ وغَرَّبَ «، أي: توجّه نحو الشرق والغرب.
واختصار الحكاية نحو:»
أمَّنَ «قال: آمين.
وموافقة»
تَفَعَّلَ «و» فَعَلَ «مخففاً نحو: وَلَّى بمعنى تولّى، وقَدَّرَ بمعنى قَدَر، والإغناء عن» تَفَعَّلَ «و» فَعَلَ «مخففاً نحو» حَمَّرَ «أي تكلم بلغة» حمير «، قالوا:» مَنْ دخل ظَفَارِ حَمَّرَ وعَرَّدَ في القِتَال «هو بمعنى مخففاًن وغن لم يلفظ به.
و»
الكذب «اختلف النَّاس فيه، فقائل: هو الإخبار عن الشيء بخير ما هو عليه ذهناً وخارجاً، وقيل: غير ما هو عليه في الخارج، سواء وافق في ما في الخارج أم لا، والصّدق نقيضه.

فصل في معنى الآية


قال المفسرون: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ شكّ ونفاق ﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ ؛ لأن الآيات كانت تنزل آيةً بعد آيةٍ، كلما كفروا بآيةٍ ازدادوا كفراً ونفاقاً، وذلك معنى قوله: ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥] والسورة لم تفعل ذلك، ولكنهم ازدادوا رجساً عند نزولها حين كفروا بها قبل ذلك، وهو كقوله تعالى: ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً﴾ [نوح: ٦] والدعاء لم يفعل شيئاً من هذا، ولكنهم ازدادوا فراراً عنده، وقال: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً﴾ [فاطر: ٤٢].
قالت المعتزلة: لو كان المراد من المرض - هاهنا - الكفر والجَهْل لكان قوله:
344
﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ محمولاً على الكُفْرِ والجَهْلِ، فيلزم أن يكون الله - تعالى - فاعلاً للكفر والجهل.
قالت المعتزلة: ولا يجوز أن يكون الله - تعالى - فاعلاً للكفر والجَهْلِ لوجوه:
أحدها: أنّ الكفار كانوا في غَايَة الحرص على الطَّعن في القرآن، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إذا فعل الله الكفر فينا، فكيف تأمران بالإيمان؟
وثانيها: أنه - تعالى - ذكر هذه الآيات في معرض الذَّم لهم على كُفْرِهِمْ، فكيف يذمّهم على شيء خلقه الله فيهم.
وثالثها: قوله: ﴿وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فإن كان الله خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم، فأيّ ذنب لهم حتَّى يعذبهم؟
ورابعها: أنه - تعالى - أضافه إليهم بقوله: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ وبأنهم يفسدون في الأرض، وأنهم هم السّفهاء، وأنهم إذا خلوا إلى شَيَاطِينهم قالوا: إنا معكم، وإذا ثبت هذا فلا بُدّ من التأويل، وهو ن وجوه:
الأول: يحمل المرض على الغَمّ، لأنه يقال: مرض قلبي من أمر كذا، والمعنى: أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا إثبات أمر النبي - عليه أفضل الصلاة والسلام -، واستعلاء شأنه يوماً فيوماً، وذلك يؤدي إلى زوال رياستهم، كما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مَرَّ بعبد الله بن أُبّيِّ على حِمَارٍ، فقال له: نَحّ حمارك يا مُحَمّد فقد آذانا رِيحُهُ، فقال له بعض الأنصار، اعْذُرْهُ يا رسول الله، فإنه كان مؤملاً أن نُتَوِجَهُ الرياسة قبل أن تقدم علينا، فهؤلاء لمَّا اشتدَّ عليهم الغَمّ وصفهم الله بذلك فقال: ﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ أي: زادهم غمَّاً على غَمِّهِمْ.
وثانيها: المراد من زيادة المرض زيادة منع الألطاف فيكون بسبب ذلك المَنْع خاذلاً لهم. الثالث: أنَّ العرب تصف فتور النَّظر بالمرض يقولون: جاريةٌ مريضةُ الطرف.
قال جرير: [البسيط]
١٩٢ - إِنَّ العُيُونَ الَّتِي في طَرْفِهَا مَرَضٌ قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلاَنَا
فكذا المرض هاهنا إنما هو الفتور في النِّية؛ لأن قلوبهم كانت قويً على المُحَاربة، والمُنَازعة، والمخاصمة، ثم انكسرت شوكتهم، فأخذوا في النِّفَاق بسبب ذلك الخوف، والانكسار، فقال تعالى: ﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ أي: زادهم الانْكِسَارَ والجُبْنَ والضعف،
345
وحقق الله ذلك بقوله: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب﴾ [الأحزاب: ٢٦]
الرابع: أن يحمل المرض على أَلَم القلب؛ لأنَّ المُبْتَلَى بالحَسَدِ والنِّفَاقِ، ومشاهدة ما يكره ربما صار ذلك سبباً لتغيير مِزَاجَهَ، وتألُّم قلبه، وحَمْلُ اللَّفْظِ على هذا الوَجْهِ حَمْلٌ له على حقيقته، فكان أولى.
وقوله: ﴿وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ صريح أن كذبهم علّة للعذاب الأليم، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراماً.
فأما ما يروى عن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنه كذب ثلاث كذبات، فالمراد التعريض، ولكن لما كانت صورته الكذب سمي بذلك.
والمراج بكذبهم قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم غير مؤمنين.
346
" في قلوبهم مرض " الجار والمجرور خبر مقدّم واجب التقديم لما تقدّم ذكره في قوله تعالى :﴿ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ [ البقرة : ٧ ]. والمشهور تحريك الراء من " مرض ".
وَرَوَى الأصمعي١ عن أبي عمرو سكونها، وهما لغتان في مصدر مَرِضَ يَمْرَضُ.
" والمرض " : الفتور.
وقيل : الفساد.
وقيل : صفة توجب وقوع الخَلَلِ في الأفْعال الصادرة عن الفاعل، ويطلق على الظلمة ؛ وأنشدوا :[ البسيط ]
فِي لَيْلَةٍ مَرِضَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ فَما يُحِسُّ بِهِ نَجْمٌ وَلاَ قَمَرُ٢
أي : لظلمتها، ويجوز أن يكون أراد ب " مَرِضَتْ " فَسَدْت، ثم بين جهة الفَسَادِ بالظُّلمة.
قوله :﴿ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ﴾.
هذه جملة فعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، متسبّبة عنها، بمعنى أنَّ سبب الزِّيَادة حصول المرض في قلوبهم، إذ المراد بالمرض هنا الغِلّ والحسد لظهور دين الله تعالى.
و " زاد " يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غير الأول ك " أَعْطَى وكَسَا "، فيجوز حذف مفعوليه، وأحدهما اختصاراً واقتصاراً، تقول :" زاد المال " فهذا لازم، و " زدت زيداً أجراً " ومنه :
﴿ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ [ الكهف : ١٣ ]، ﴿ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ﴾ [ البقرة : ١٠ ] و " زدت زيداً " ولا تذكر ما زدته، و " زدت مالاً " ولا تذكر من زدته.
وألف " زاد " منقلبة عن ياء ؛ لقولهم :" يزيد ".
وقرأ ابن عامر وحمزة٣ :" فزادهم " بالإمالة.
وزاد حمزة إمالة " زاد " حيث وقع، و﴿ زَاغَ ﴾ [ النجم : ١٧ ] ﴿ وَخَابَ ﴾
[ إبراهيم : ١٥ ]، و﴿ طَابَ ﴾ [ النساء : ١٣ ]، و " حَاقَ " [ الأنعام : ١٠ ]، والآخرون لا يميلونها.

فصل في أوجه ورود لفظ المرض


ورد لفظ " المرض " على أربعة أوجه :
الأول : الشّك كهذه الآية.
الثاني : الزِّنَا قال تعالى :﴿ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ [ الأحزاب : ٣٢ ].
الثالث : الحَرَجُ قال تعالى :﴿ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ ﴾ [ النساء : ١٠٢ ].
الرابع : المرض بعينه.
قوله :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ نظيره قوله تعالى :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴾
[ البقرة : ٧ ] وقد تقدّم. و " أليم " هنا بمعنى : مُؤْلِم، كقوله :[ الوافر ]
ونَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاَتٍ يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ٤
ويجمع على " فُعَلاَء " ك :" شريف وشرفاء "، و " أفْعَال " مثل :" شريف وأشراف "، ويجوز أن يكون " فعيل " : هُنَا للمُبَالغة محولاً من " فَعِل " بكسر العَيْنِ، وعلى هذا تكون نسبة الألم إلى العَذَابِ مجازاً، لأنّ الألم حلّ بمن وقع به العذاب لا بالعذاب، فهو نظير قولهم :" شِعْرٌ شَاعِر ".
و﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾ متعلّق بالاستقرار المقدر في " لهم "، أي : استقر لهم عَذَابٌ أليم بسبب تكذيبهم.
و " ما " يجوز أن تكون مصدرية، أي : بكونهم يكذبون، وهذا على القول بأن ل " كان " مصدراً، وهو الصحيح عند بعضهم للتصريح به في قول الشاعر :[ الطويل ]
بِبَذْلٍ وَحِلْمٍ سَادَ في قوْمِهِ الفَتَى وَكَوْنُكَ إِيَّاهُ عَلَيْكَ يَسِيرُ٥
فقد صَرّح بالكون، ولا جائز أن يكون مصدر " كان " التَّامة لنصبه الخبر بعدها، وهو " إياه " على أنَّ للنظر في هذا البيت مجالاً ليس هذا موضعه.
وعلى القول بأن لها مصدراً لا يجوز التصريح به معها، لا تقول :" كان زيد قائماً كوناً "، قالوا : لأن الخبر كالعوض من المصدر، ولا يجمع بين العوض والمُعَوَّض منه، وحينئذ فلا حَاجَةَ إلى ضمير عائد على " ما " ؛ لأنها حرف مصدري على الصحيح، خلافاً للأخفش وابن السّراجِ في جعل المصدرية اسماً.
ويجوز أن تكون " ما " بمعنى " الذي "، وحينئذ فلا بُدّ من تقدير عائدٍ أي : بالذي كانوا يكذبونه، وجاز حَذْفُ العائد لاستكمال الشُّروط، وهو كونه منصوباً متصلاً بفعل، وليس ثمَّ عائد آخر.
وزعم أبو البَقَاءِ أن كون " ما " موصولةً اسميةً هو الأظهر، قال : لأنّ الهاء المقدرة عائدة على " الَّذِي " لا على المصدر. وهذا الَّذِي قاله غير لازم، إذ لقائل أن يقول : لا نسلّم أنه لا بُدَّ من هاءٍ مقدّرة حتى يلزم جعل " ما " اسمية، بل من قرأ ﴿ يَكْذِبُونَ ﴾ مخففاً فهو عنده غير متعدٍّ لمفعول، ومن قرأه مشدداً فالمفعول محذوف لفهم المعنى أي : بما كانوا يكذبون الرَّسول والقرآن، أو يكون المشدّد بمعنى المخفّف، وقرأ الكوفيون٦ :﴿ يَكْذِبُونَ ﴾ بالفتح والتَّخفيف، والباقون بالضَّم والتشديد.
و " يكذّبون " مضارع " كذَّب " بالتشديد، وله معانٍ كثيرة : الرَّمي بكذا، ومنه الآية الكريمة والتعدية نحو :" فَرَّحْتُ زيداً ".
والتكثير نحو :" قَطَّعْتُ الأثواب ".
والجعل على صفة نحو :" قَطَّرْتُه " أي : جعلته مقطراً ؛ ومنه :[ السريع ]
قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَارَاتُهَا مَا قَطَّرَ الفَارِسَ إِلاَّ أَنَا٧
والتسمية نحو :" فَسَّقْتُهُ " أي : سميته فاسقاً
والدعاء له نحو :" سَقَّيْتُهُ " أي قلت له :" سَقَاكَ الله ".
أو الدعاء عليه نحو :" عَقَّرتُه " أي قلت : عَقْراً لك.
والإقامة على الشيء نحو :" مَرَّضتُه " والإزالة نحو :" قَذَّيْتُ عينه " أي : أزلت قَذَاها.
والتوجّه نحو :" شَرَّقَ وغَرَّبَ "، أي : توجّه نحو الشرق والغرب.
واختصار الحكاية نحو :" أمَّنَ " قال : آمين.
وموافقة " تَفَعَّلَ " و " فَعَلَ " مخففاً نحو : وَلَّى بمعنى تولّى، وقَدَّرَ بمعنى قَدَر، والإغناء عن " تَفَعَّلَ " و " فَعَلَ " مخففاً نحو " حَمَّرَ " أي تكلم بلغة " حمير "، قالوا :" مَنْ دخل ظَفَارِ حَمَّرَ وعَرَّدَ في القِتَال " هو بمعنى عَرَدَ مخففاً، وإن لم يلفظ به.
و " الكذب " اختلف النَّاس فيه، فقائل : هو الإخبار عن الشيء بخير ما هو عليه ذهناً وخارجاً، وقيل : بغير ما هو عليه في الخارج، سواء وافق اعتقاد المتكلّم أم لا.
وقيل : الإخبار عنه بغير اعتقاد المتكلّم سواء وافق ما في الخارج أم لا، والصّدق نقيضه.

فصل في معنى الآية


قال المفسرون :﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ شكّ ونفاق ﴿ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ﴾ ؛ لأن الآيات كانت تنزل آيةً بعد آيةٍ، كلما كفروا بآيةٍ ازدادوا كفراً ونفاقاً، وذلك معنى قوله :﴿ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٥ ] والسورة لم تفعل ذلك، ولكنهم ازدادوا رجساً عند نزولها حين كفروا بها قبل ذلك، وهو كقوله تعالى :﴿ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً ﴾ [ نوح : ٦ ] والدعاء لم يفعل شيئاً من هذا، ولكنهم ازدادوا فراراً عنده، وقال :﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ﴾ [ فاطر : ٤٢ ].
قالت المعتزلة : لو كان المراد من المرض - هاهنا - الكفر والجَهْل لكان قوله :﴿ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ﴾ محمولاً على الكُفْرِ والجَهْلِ، فيلزم أن يكون الله - تعالى - فاعلاً للكفر والجهل.
قالت المعتزلة : ولا يجوز أن يكون الله - تعالى - فاعلاً للكفر والجَهْلِ لوجوه :
أحدها : أنّ الكفار كانوا في غَايَة الحرص على الطَّعن في القرآن، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : إذا فعل الله الكفر فينا، فكيف تأمرنا بالإيمان ؟
وثانيها : أنه - تعالى - ذكر هذه الآيات في معرض الذَّم لهم على كُفْرِهِمْ، فكيف يذمّهم على شيء خلقه الله فيهم.
وثالثها : قوله :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ فإن كان الله خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم، فأيّ ذنب لهم حتَّى يعذبهم ؟
ورابعها : أنه - تعالى - أضافه إليهم بقوله :﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾ وبأنهم يفسدون في الأرض، وأنهم هم السّفهاء، وأنهم إذا خلوا إلى شَيَاطينهم قالوا : إنا معكم، وإذا ثبت هذا فلا بُدّ من التأويل، وهو من وجوه :
الأول : يحمل المرض على الغَمّ، لأنه يقال : مرض قلبي من أمر كذا، والمعنى : أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا إثبات أمر النبي - عليه أفضل الصلاة والسلام -، واستعلاء شأنه يوماً فيوماً، وذلك يؤدي إلى زوال رياستهم، كما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - مَرَّ بعبد الله بن أُبَيّ على حِمَارٍ، فقال له : نَحّ حمارك يا مُحَمّد فقد آذانا رِيْحُهُ، فقال له بعض الأنصار، اعْذُرْهُ يا رسول الله، فإنه كان مؤملاً أن نُتَوِّجَهُ الرياسةَ قبل أن تقدم علينا٨، فهؤلاء لمَّا اشتدَّ عليهم الغَمّ وصفهم الله بذلك فقال :﴿ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ﴾ أي : زادهم غمًّا على غَمِّهِمْ.
وثانيها : المراد من زيادة المرض زيادة منع الألطاف فيكون بسبب ذلك المَنْع خاذلاً لهم.
الثالث : أنَّ العرب تصف فتور النَّظر بالمرض يقولون : جاريةٌ مريضةُ الطرف.
قال جرير :[ البسيط ]
إِنَّ العُيُونَ الَّتِي في طَرْفِهَا مَرَضٌ قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلاَنَا٩
فكذا المرض هاهنا إنما هو الفتور في النِّية ؛ لأن قلوبهم كانت قويةً على المُحَاربة، والمُنَازعة، والمخاصمة، ثم انكسرت شوكتهم، فأخذوا في النِّفَاق بسبب ذلك الخوف، والانكسار، فقال تعالى :﴿ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ﴾ أي : زادهم الانْكِسَارَ والجُبْنَ والضعف، وحقق الله ذلك بقوله :﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ﴾ [ الأحزاب : ٢٦ ].
الرابع : أن يحمل المرض على أَلَم القلب ؛ لأنَّ المُبْتَلَى بالحَسَدِ والنِّفَاقِ، ومشاهدة ما يكره ربما صار ذلك سبباً لتغيير مِزَاَجِهِ، وتألُّم قلبه، وحَمْلُ اللَّفْظِ على هذا الوَجْهِ حَمْلٌ له على حقيقته، فكان أولى.
وقوله :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾ صريح أن كذبهم علّة للعذاب الأليم، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراماً.
فأما ما يروى عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أنه كذب ثلاث كذبات١٠، فالمراد التعريض، ولكن لما كانت صورته الكذب سمي به.
والمراد بكذبهم قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم غير مؤمنين.
١ - عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي، أبو سعيد الأصمعي؛ رواية العرب وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان ولد ١٢٢هـ.
كان الرشيد يسميه شيطان الشعر، قال الأخفش: ما رأينا أحدا أعلم بالشعر من الأصمعي وتصانيفه كثيرة منها الإبل مطبوع، الأضداد مخطوط، خلق الإنسان مطبوع وغيرها توفي سنة ٢١٦هـ.
ينظر السيرافي: ٥٨، جمهرة الأنساب: ٢٣٤، وابن خلكان: (١/٢٨٨)، تاريخ بغداد: ١٠/٤١، نزهة الألبا: ١٥٠، طبقات النحويين، الأعلام: ٤/١٦٢..

٢ - ينظر البحر المحيط: ١/١٨١، والدر المصون: ١/١١٦..
٣ - انظر شرح طيبة النشر: ٤/٤، والعنوان: ٦٨، والحجة للقراءات السبعة: ١/٣٢٠، وحجة القراءات: ٨٨، وإعراب القراءات: ١/٦٥، وإتحاف: ١/٣٧٨..
٤ - البيت لذي الرمة. ينظر ديوانه: ٦٧٧، الأضداد: ٨٤، اللسان (شمردل) الطبري: ١/١٥٦، القرطبي: ١/١٣٩، الدر: ١/١١٦..
٥ - ينظر البيت في شرح ابن عقيل: (١/٢٧٠)، (٦٤)، الأشموني (١/٢٣١)، الهمع: (١/١١٤)، الدرر: (١/٨٣)، وارتشاف الضرب: (٢/٧٥)، وشرح الألفية لابن الناظم: (١٣٢)، والتصريح: (١/١٨٧)، والدر المصون: (١/١١٦)، أوضح المسالك: ١/٢٣٩، المقاصد النحوية: ٢/١٥..
٦ - وبها قرأ: عاصم، وحمزة، والكسائي، وكذا خلق، ووافقهم الحسن والأعمش. انظر حجة القراءات: ٨٨، والحجة: ١/٣٢٩، والعنوان في القراءات السبع: ٦٨، وإعراب القراءات: ١/٦٥، وإتحاف فضلاء البشر: ١/٣٧٨، وشرح شعلة: ص ٢٥٨، وشرح طيبة النشر: ٤/٤..
٧ - البيت لعمرو بن معد يكرب ينظر ديوانه: ص ١٦٧، والأغاني: ١٥/١٦٩، وشرح أبيات سيبويه: ٢/١٩٩، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي: ص ٤١١، والكتاب: ٢/٣٥٣، وله أو للفرزدق ينظر شرح شواهد المغني: ٢/٧١٩، الأشباه والنظائر: ٧/٢٤٣، وتخليص الشواهد: ص ١٨٤، وشرح المفصل: ٣/١٠١، ١٠٣، ولسان العرب (قطر)، ومغني اللبيب: ١/٣٠٩، دلائل الإعجاز: ٣٣٧، الدر: ١/١١٧..
٨ - ذكره الفخر الرازي في "تفسيره" (٢/٥٨)..
٩ - ينظر ديوانه: ص ١٦٣، وشرح شواهد المغني: ٢/٧١٢، والمقاصد النحوية: ٣/٤٦٤، والمقتضب: ٢/١٧٣، وبلا نسبة في شرح المفصل: ٥/٩..
١٠ ينظر تفسير زاد المسير لابن الجوزي: ٤/٢٥٨، ٥/٣٦٠..
«إذا» ظرف زمان مستقبل ويلزمها معنى الشرط غالباً، ولا تكون إلاّ في الأمر المحقق، أو المرجح وقوعه، فلذلك لم تجزم إلا في شِعْرٍ؛ لمخالفتها أدوات الشرط؛ فإنها للأمر المحتمل، فمن الجزم قوله: [البسيط]
١٩٣ - تَرْفَعُ لي خِنْدِفٌ واللهُ يَرْفَعُ لِي نَاراً إِذَا خَمَدَتْ نِيرَانُهُمْ تَقِدِ
وقال آخر: [الكامل]
١٩٤ - وَاسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّكَ بِالغِنَى وَإِذّا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ
وقال الآخر: [الطويل]
346
فقوله: «فَنُضَارب» مجزوم لعطفه على محل قوله «كان وصلها».
وقال الفرزدق: [الطويل]
١٩٥ - إِذَا قَصُرَتْ أَسْيَافُنَا كَانَ وَصْلُهَا خُطَانَا إِلَى أَعْدَائِنَا فَنُضَارِبِ
١٩٦ - فَقَامَ أَبُو لَيْلَى إِلَيْهِ ابْنُ ظَالِمِ وَكَانَ إذَا مَا يَسْلُلِ السَّيْفَ يَضْرِبِ
وقد تكون للزمن الماضي ك: «إذ» كما قد تكون «إذ» للمستقبل ك «إذا».
فمن مجيء «إذا» ظرفاً لما مَضَى من الزمان واقعةً موقع «إذ» قوله تعالى: ﴿وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ﴾ [التوبة: ٩٢]، وقوله: ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: ١١]، قال به ابن مالك، وبعض النحويين.
ومن مجيء «إذ» ظرفاً لما يستقبل من الزمان قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ﴾ [غافر: ٧٠].
وتكون للمفاجأة أيضاً، وهل هي حينئذ باقية على زمانيتها، أو صارت ظرف مكان أو حرفاً؟
ثلاثة أقوال: أصحُّها الأول استصحاباً للحال، وهل تتصرف أم لا؟
الظاهر عدم تصرفها، واستدلّ من زعم تصرفها بقوله تعالى في قراءة من قرأ: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الواقعة لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً﴾ [الواقعة: ١ - ٤] بنصب «خافضة رافعة»، فجعل «إذا» الأولى مبتدأ، والثانية خبرها.
والتقدير: وَقْتُ وقوع الواقعة رجّ الأرض، وبقوله: ﴿حتى إِذَا جَآءُوهَا﴾ [الزمر: ٧١]، و ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ﴾ [يونس: ٢٢] فجعل «حتى» حرف جر، و «إذا» مجرورة بها، وسيأتي تحقيق ذلك في مواضع. ولا تُضَاف إلاَّ الجُمَلِ الفعلية خلافاً للأخفش.
وقوله: «قيل» فعل ماضٍ مبني للمفعول، وأصله: «قَوَلَ» ك: «ضرب»، فاستثقلت الكسرة على «الواو»، فنقلت إلى «القاف» بعد سَلْبِ حركتها، فسكنت «الواو» بعد كسرة، فقلبت «ياء»، وهذه أفصح اللغات، وفيه لغة ثانية، وهي الإشمام، والإشمام عبارة عن جعل الضّمة بين الضم والكَسْرِ.
ولغة ثالثة وهي: إخلاص الضم، نحو: «قُولَ وبُوعَ»، قال الشاعر: [الرجز]
347
وقال الآخر: [الرجز]
١٩٧ - لَيْتَ وَهَلْ يَنْفَعُ شَيْئاً لَيْتَ لَيْتَ شَبَاباً بُوعَ فَاشْتَرَيْتُ
١٩٨ - حُوكَتْ عَلَى نَوْلَيْنِ إذْ تُحَاكُ تَخْتَبِطُ الشَّوْكَ وَلاَ تُشَاكُ
وقال الأخفش: «ويجوز» قُيُل «بضم القاء والياء»، يعني مع الياء؛ لأن الياء تضم أيضاً.
وتجيء هذه اللغات الثلاث في «اختار» و «انقاد»، و «ردّ» و «حَبَّ» ونحوها، فتقول: «اختير» بالكسر، والإِشْمَام، و «اختورط، وكذلك:» انقيد «، و» انقود «، و» رَدَّ «، و» رِدَّ «، وأنشدوا: [الطويل]
١٩٩ - وَمَا حِلُّ مِنْ جَهْلٍ حُبَا حُلَمَائِنَا وَلاَ قَائِلُ المَعْرُوفِ فِينَا يُعَنَّفُ
بكسر حاء»
حل «.
وقرىء:»
وَلَوْ رِدُّوا « [الأنعام: ٢٨] بكسر الراء.
والقاعدة فيما لم يسم فاعله أن يُضَمّ أول الفعل مطلقاً؛ فإن كان ماضياً كسر ما قبل آخره لفظاً نحو:»
ضرب «، أو تقديراً نحو:» قيل «، و» اختير «.
وقد يضم ثاني الماضي أيضاً إذا افتتح بتاء مُطَاوعة نحو:»
تُدُحْرج الحجر «، وثالثه إن افتتح بهمزة وصل نحو:» انْطُلِقَ بزيد «واعلم أن شرط جواز اللغات الثلاث في» قيل «، و» غيض «، ونحوهما ألا يلتبس، فإن التبس عمل بمقتضى عدم اللَّبْس، هكذا قال بعضهم، وإن كان سيبويه قد أطلق جواز ذلك، وأشَمّ الكسائي: ﴿قِيلَ﴾ [البقرة: ١١]، ﴿وَغِيضَ﴾ [هود: ٤٤]، ﴿وَجِيءَ﴾ [الزمر: ٦٩]، ﴿وَحِيلَ﴾ [سبأ: ٥٤] ﴿وَسِيقَ الذين﴾ [الزمر: ٧١] و ﴿سياء بِهِمْ﴾ [هود: ٧٧]، و ﴿سِيئَتْ وُجُوهُ﴾ [الملك: ٢٧]، وافقه هشام في الجميع، وابن ذكوان في» حِيْل «وما بعدها، ونافع في» سيء «و» سيئت «، والباقون بإخلاص الكسر في الجميع.
والإشْمَام له معان أربعة في اصطلاح القراء سيأتي ذلك في قوله: ﴿لاَ تَأْمَنَّا﴾ [يوسف: ١١] إن شاء الله تعالى.
و»
الهم «جار ومجرور متعلّق ب» قيل «، و» اللاَّم «للتبليغ، و» لا «حرف نهي يجزم
348
فعلاً واحداً، و» تفسدوا «مجزوم بها، وعلامة جزمه حذف النون؛ وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأمثلة الخمسة.
و»
في الأرض «متعلّق به، والقائم مقام الفاعل هو الجُمْلَةُ من قوله:» لا تفسدوا «لأنه هو القول في المعنى، واختاره الزمخشري.
والتقدير: وإذا قيل لهم هذا الكلام، أو هذا اللّفظ، فهو من باب الإسناد اللَّفْظي.
وقيل: القائم مقام الفاعل مضمر، تقديره: وإذا قيل لهم هو، ويفسّر هذا المضمر سياق الكلام كما فسّره في قوله: ﴿حتى تَوَارَتْ بالحجاب﴾ [ص: ٣٢].
والمعنى؟ :»
وإذا قيل لهم قول سديد «فأضمر هذا القول الموصوف، وجاءت الجملة بعده مفسّرة، فلا موضع لها من الإعراب، فإذا أمكن الإسناد المعنوي لم يعدل إلى اللَّفْظِيّ، وقد أمكن ذلك بما تقدّم. وهذا القول سبقه إليه أبو البَقَاءِ، فإنه قال:» والمفعول القائم مَقَام الفاعِلِ مصدر، وهو القول، وأضمر لأن الجملة بعد تفسّره، ولا يجزز أن يكون «لا تفسدوا» قائماً مقام الفاعل؛ لأن الجملة لا تكون فاعلاً، فلا تقوم مقام الفاعل «.
وقد تقدم جواب ذلك من أن المعنى: وإذا قيل لهم هذا اللفظ، ولا يجوز أن يكون «لهم»
قائم مقام الفاعل إلاَّ في رأي الكوفيين والأخفش، إذ يجوز عندهم إقامة غير المفعول به مع وجوده.
وتلخصّ من هذا:
أنَّ جملة قوله: «لا تفسدوا» في مَحَلّ رفع على قول الزَّمخشري، ولا محلّ لها على قول أبي البَقَاءِ ومن تبعه، والجملة من قوله: «قيل» وما في حَيّزه في محل خفضٍ بإضافة الظرف إليه.
والعامل في «إذا» جوابها، وهو «قالوا»، والتقدير: قالوا «: إنما نحن مصلحون، وقت قول القائم لهم: لا تفسدوا.
وقال بعضهم: الذي نختاره أن الجُمْلَةَ الَّتي بعدها وتليها ناصبة لها، وأنَّ ما بعده ليس في مَحَلّ خَفْضٍ بالإضافة؛ لأنها أداة شرط، فحكمها حكم الظروف التي يُجَازى بها، فكما أنك إذا قلت:»
متى تَقُمْ أَقُمْ «كان» متى «منصوباً بفعل الشرط، فكذلك إذا قال هذا القائل.
والذي يفسد مذهب الجمهور جواز قولك:»
إذا قمت فعمرو قائم «ووقوع: إذا» الفُجَائية جواباً لها، وما بعد «الفاء».
و «إذا» الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وهو اعتراض ظاهر.
وقوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ «إنَّ» حرف مكفوف ب «ما» الزائدة عن العمل،
349
ولذلك تليها الجملة مطلقاً، وهي تفيد الحَصْرَ عند بعضهم.
وأبعد من زعم أنّ «إنما» مركبة من «إنَّ» التي للإثبات، و «ما» التي للنفي، وأنّ بالتركيب حدث معنى يفيد الحَصْرَ.
واعلم أن «إن» وأخواتها إذا وَلِيْتَهَا «ما» الزائدة بطل عملها، وذهب اختصاصها بالأسماء كما مرَّ، إلا «لَيْتَ» فإنه يجوز فيها الوجهان سماعاً، وأنشدوا قول النابعة: [البسيط]
٢٠٠ - قَالَتْ:
أَلاَ لَيْتَمَا هَذَا الحَمَامُ لَنَا إِلَى حَمَامَتِنَا وَنِصْفهُ، فَقَدِ
برفع «الحَمَام» ونصبه، فأما إهمالها فلبقاء اختصاصها، وأمّا إهمالها فلحملها على أَخَوَاتِهَا، على أنه قد روي عن سيبويه في البيت أنها معملة على رواية الرفع أيضاً، بأن تجعل «ما» موصولة بمعنى «الذي»، كالتي في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ﴾ [طه: ٦٩] و «هذا» خبر مبتدأ محذوف هو العائد، و «الحَمَام» نعت لهذا، و «لنا» خبر ل «ليت»، وحُذِفَ العائد وإن لم تَطُل الصلة.
والتقدير: ألا ليت الذي هو [هذا] الحمام كَائِنٌ لنا، وهذا أولى من أن يدعي إهمالها، لأن المقتضى للإعمال - وهو الاختصاص - باقٍ.
وزعم بعضهم أنّ «ما» الزائدة إذا اتَّصلت ب «إنَّ» وأخواتها جاز الإعمال في الجميع.
و «نحن» مبتدأ، وهو ضمير مرفوع منفصل للمتكلم، ومن معه أو المعظّم نفسه، و «مصلحون» خبره، والجملة في محل نَصْبٍ، لأنها محكية ب «قالوا».
والجملة الشرطية وهي قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ عطف على صلة «من»، وهي «يقول»، أي: ومن النَّاس من يقول، ومن النَّاس من إذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض قالوا: وقيل: يجوز أن تكون مستأنفةً، وعلى هذين القولين، فلا مَحَلّ لها من الإعراب
350
لما تقدم، ولكنها جزء كلام على القول الأول، وكلام مستقل على القول الثاني، وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن تكون معطوفةً على «يكذبون» الواقع خبراً ل «كانوا»، فيكون محلّها النصب.
وردّ بعضهم عليهما بأن هذا الذي أجازاه على أَحَدِ وجهي «ما» من قوله: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة: ١٠] خطأ، وهو: أن تكون موصولةً بمعنى «الذي»، إذْ لا عائد فيها يعود على «ما» المَوْصُولة، وكذلك إذا جعلت مصدريةً، فإنها تفتقر إلى العائد عند الأَخْفَشِ، وابن السراج. والجواب عن هذا أنهما لا يُجِيْزَانِ ذلك ألا وهما يعتقدان «ما» موصولة حرفية.
وأما مذهب الأخفش وابن السراج فلا يلزمهما القول به، ولكنه يُشَكِلُ على أبي البَقَاءِ وحدهن فإنه يستضعف كون «ما» مصدرية كما تقدم.

فصل في أوجه ورود لفظ الفساد


ورد لفظ «الفساد» على ثلاثة أوجه:
الأول: بمعنى العِصْيَان كهذه الآية.
الثاني: بمعنى الهَلاَكِ قال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآءَالِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢] أي: أهلكتا.
الثالث: بمعنى السحر قال تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين﴾ [يونس: ٨١].

فصل في بيان من القائل


منهم من قال: إن ذلك القائل هو الله تعالى، ومنهم من قال: هو الرسول، ومنهم من قال: بعض المؤمنين، وكل ذلك محتمل.
والأقرب أن ذلك القائل هو الله تعالى، ومنهم من قال: هو الرسول، ومنهم من قال: بعض المؤمنين، وكل ذلك محتمل.
والأقرب أن ذلك القائل كان مشافهاً لهم بذلك الكلام، فإما أن يكون الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بلغه عنهم النفاق، ولم يقطع بذلك، فنصحهم فأجابوا بما يحقّ إيمانهم، وأنهم في الصَّلاح بمنزلة سَائِرِ المؤمنين، وإما أنْ يكون بعض من يلقون إليه الفَسَاد كان لا يقبله منهم، وكان ينقلب واعظاً لهم قائلاً لهم: ﴿لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض﴾ [البقرة: ١١] فإن قيل: إنما كانوا يخبرون الرَّسول بذلك؟
قلنا: نعم، كانوا إذا عوقبوا عادوا إلى إظهار الإسلام، وكذبوا النَّاقلين عنهم، وحلفوا بالله عليه كما قال - تعالى - عنهم: ﴿يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر﴾ [التوبة: ٧٤]. وقيل هذا الكلام لليهود.
و «الفساد» خروج الشيء عن كونه منتفعاً به، ونقيضه الصلاح.
واختلفوا في ذلك الفساد فقال ابن عباس والحَسَن وقَتَادَة والسّدي: الفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى.
قال القَفّال - رَحِمَهُ اللهُ -: وتقريره أن الشرائع سُنن موضوعة بين العباد، فإذا
351
تمسكوا بها زَوَال العدوان، ولزم كل أحد شأنه، وحقنت الدّماء، وسكنت الفتن، فكان فيه صلاح الأرض، وصلاح أهلها، وإذا تركوا التمسُّك بالشرائع، وأقدم كلّ واحد على ما يَهْوَاه، وقع الهَرَجُ والمَرَجُ والاضطراب، ووقع الفساد في الأرض.
وقيل: الفساد هو مُدْرَارَاةُ المنافقين للكافرين، ومخالطتهم معهم؛ لأنهم إذا مالوا إلى الكُفْرِ مع أنهم في الظاهر مؤمنون أَوْهَمَ ذلك ضعف الرسول وضعف أنصاره، فكان ذلك يجري للكفار على إظهار عداوة الرسول، ونَصْبِ الحروب له.
وقال الأصَمَ: كانوا يدعون في السّر إلى تكذيبه، وجَحْد الإسلام، وإلقاء الشُّبهات، وتفريق بين النَّاس عن الإيمان.

فصل في مراد المنافقين بالإصلاح


قوله: ﴿قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ هم المُنَافقون، لأن مرادهم بهذا الكلام نقيض ما نهوا عنه، وهو الإفساد في الأرض؛ فقولهم: إنما نحن مُصْلحون كالمُقَابِل له، وفي هذا احتمالان.
أحدهما: أنهم اعتقدوا أن دينهم صواب، فكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدّين، لا جرم قالوا: إنما نحن مصلحون، يعني: أن هذه المُدَاراة سَعْيٌ لأجل تقوية ذلك الدّين، لا جرم قالوا: «إنما نحن مصلحون» أي: نحن نصلح أمر الفساد.
وقال ابن الخطيب: العلماء استدلّوا بهذه الآية على أنَّ من أظهر الإيمان وجل إجراء حكم المؤمنين عليه، وتجويز خلافه لا يطعن فيه، وتوبة الزِّنْدِيق مقبولةٌ، والله أعلم.
وقوله: ﴿ألاا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون﴾ «ألا» حرف تنبيه، واستفتاح، وليست مركّبة من همزة الاستفهام و «لا» النافية، بل هي بَسِيطَةٌ، ولكنها لفظ مشترك بين التَّنبيه والاستفتاح، فتدخل على الجُمْلَة اسميةً كانت أو فعليةً، وبين العرض والتخصيص، فتختصّ بالأفعال لفظاً أو تقديراً، وتكون النافية للجنس دخلت عليها همزة الاستفهام، ولها أحكام تقدّم بعضها عند قوله تعالى: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢]، وتكون للتَّمَنِّي، فتجري مجرى «ليت» في بعض أحكامها.
وأجاز بعضهم أن تكون جواباً بمعنى «بَلَى» يقول القائل: ألم يقل زيد؟ فتقول: «ألا» بمعنى: «بلى قد قام» وهو غريب.
و «إنّهم» إنّ واسمها، و «هم» تحتمل ثلاثة وجه:
أحدها: أن تكون تأكيداً لاسم «إنَّ» ؛ لأن الضمير المنفصل المرفوع يجوز أن يؤكد به جميع ضروب الضَّمير المتصل.
وأن تكون فصلاً، وأن تكون مبتدأ.
352
و «المفسدون» خبره، والجملة خبر ب «إن».
وعلى القولين الأوّلين يكون «المفسدون» وحده خبراً ل «إن»، وجيء في هذه الجملة بضروب من التأكيد منها: الاستفتاح والتنبيه، والتَّأكيد ب «إن»، والإتيان بالتأكيد، والفَصْل بالضَّمير، وبالتعريف في الخبر مبالغةً في الرد عليهم فيما ادّعوا من قولهم: «إنما نحن مُصْلِحُون» ؛ لأنهم أخرجوا الجواب جملةً اسميةً مؤكدةً ب «إنما» ليدلّوا بذلك على ثُبُوت الوَصْفِ لهم، فرد الله عليهم بأبلغ وآكد مما ادعوه.
وقوله
: ﴿ولكن
لاَّ يَشْعُرُونَ﴾
الواو عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها.
و «لكن» معناها الاستدراك، وهو معنى لا يُفَارقها، وتكون عاطفةً في المفردات، ولا تكون إلاّ بين ضدّين، أو نقيضين، وفي الخلافين خلاف، نحو: «ما قام زيد لكن خرج بكر»، واستدلّ بعضهم على ذلك بقوله طَرَفَةَ: [الطويل]
٢٠١ - وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ لِبَيْتِهِ وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ القَوْمَ أرفِدِ
فقوله: «متى يسترفد القوم أرفد» ليس ضدًّا ولا نقيضاً لما قبله، ولكنه خلافه.
قال بعضهم: وهذا لا دليل فيه على المدّعى، لأن قوله: «لستُ بحلاّل التِّلاعِ لبيته» كنايةٌ عن نفي البُخْلِ أي: لا أحلّ التِّلاَع لأجل البُخْل.
353
وقوله: «متى يسترفد القوم أرفد» كناية عن الكَرَمِ، فكأنه قال: لست بخيلاً ولكن كريماً، فهي - هاهنا - واقعة بين ضدّين.
ولا تعمل مخففة خلافاً ل «يونس»، ولها أحكام كثيرة.
ومعنى الاسْتِدْرَاك في هذه الآية يحتاج إلى تأمل ونظر، وذلك أنهم لما نهوا عن اتخاذ مثل ما كانوا يتعاطونه من الإفساد، فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك، وأخبر - تعالى - بأنهم هم المفسدون كانوا حقيقين بأن يعملوا أن ذلك كما أخبر - تعالى - وأنهم لا يدعون بأنهم مصلحون، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فَاتَهُمْ من عدم الشعور بذلك.
ومثله قولك: «زيد جاهل، ولكن لا يعلم»، وذلك لأنه من حيث اتّصف بالجهل، وصار الجهل وصفاً قائماً به كان ينبغي أن يعلم بهذا الوَصْف من نفسه؛ لأن الإنسان له أن يعلم ما اشتملت عليه نفسه من الصفات، فاستدركت عليه أنَّ هذا الوصف القائم له به لا يعلمه مُبَالغة في جهله.
ومفعول «يشعرون» محذوف: إمّا حذف اختصار، أي: لا يشعرون بأنهم مفسدون، وإما حذف اقتصار، وهو الأحسن، أي: ليس لهم شعور ألبتة.
354
وقوله :﴿ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ﴾ " ألا " حرف تنبيه، واستفتاح، وليست مركّبة من همزة الاستفهام و " لا " النافية، بل هي بَسيطَةٌ، ولكنها لفظ مشترك بين التَّنبيه والاستفتاح، فتدخل على الجُمْلَة اسميةً كانت أو فعليةً، وبين العرض والتخصيص، فتختصّ بالأفعال لفظاً أو تقديراً، وتكون النافية للجنس دخلت عليها همزة الاستفهام، ولها أحكام تقدّم بعضها عند قوله تعالى :﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾
[ البقرة : ٢ ]، وتكون للتَّمَنِّي، فتجري مجرى " ليت " في بعض أحكامها.
وأجاز بعضهم أن تكون جواباً بمعنى " بَلَى " يقول القائل : ألم يقم زيد ؟ فتقول :" ألا " بمعنى :" بلى قد قام " وهو غريب.
و " إنّهم " إنّ واسمها، و " هم " تحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أنْ تكون تأكيداً لاسم " إنَّ " ؛ لأن الضَّمير المنفصل المرفوع يجوز أن يؤكد به جميع ضروب الضَّمير المتصل.
وأن تكون فصلاً، وأن تكون مبتدأ.
و " المفسدون " خبره، والجملة خبر ب " إن ".
وعلى القولين الأوّلين يكون " المفسدون " وحده خبراً ل " إن "، وجيء في هذه الجملة بضروب من التأكيد منها : الاستفتاح والتنبيه، والتَّأكيد ب " إن "، والإتيان بالتأكيد، والفَصْل بالضَّمير، وبالتعريف في الخبر مبالغةً في الرد عليهم فيما ادّعوه من قولهم :﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ ؛ لأنهم أخرجوا الجواب جملةً اسمية مؤكدةً ب " إنما " ليدلّوا بذلك على ثُبُوت الوَصْفِ لهم، فرد الله عليهم بأبلغ وآكد مما ادعوه.
وقوله :﴿ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ الواو عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها.
و " لكن " معناها الاستدراك١٢، وهو معنى لا يُفَارقها، وتكون عاطفةً في المفردات١٣، ولا تكون إلاّ بين ضدّين، أو نقيضين، وفي الخلافين خلاف، نحو :" ما قام زيد لكن خرج بكر "، واستدلّ بعضهم على ذلك بقوله طَرَفَةَ :[ الطويل ]
وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ لِبَيْتِهِ وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ القَوْمُ أرْفِدِ١٤
فقوله :" متى يسترفد القوم أرفد " ليس ضدًّا ولا نقيضاً لما قبله، ولكنه خلافه.
قال بعضهم : وهذا لا دليل فيه على المدّعى، لأن قوله :" لستُ بحلاّل التِّلاَع لبيته " كنايةٌ عن نفي البُخْلِ أي : لا أحلّ التِّلاَع لأجل البُخْل.
وقوله :" متى يسترفد القوم أرفد " كناية عن الكَرَمِ، فكأنه قال : لست بخيلاً ولكن كريماً، فهي - ها هنا - واقعةٌ بين ضدّين.
ولا تعمل مخففة خلافاً ل " يونس " ١٥، ولها أحكام كثيرة.
ومعنى الاسْتِدْرَاك في هذه الآية يحتاج إلى تأمل ونظر، وذلك أنهم لما نهوا عن اتخاذ مثل ما كانوا يتعاطونه من الإفساد، فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك، وأخبر - تعالى - بأنهم هم المفسدون كانوا حقيقين بأن يعلموا أن ذلك كما أخبر - تعالى - وأنهم لا يدعون بأنهم مصلحون، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فَاتَهُمْ من عدم الشعور بذلك.
ومثله قولك :" زيد جاهل، ولكن لا يعلم "، وذلك لأنه من حيث اتّصف بالجهل، وصار الجهل وصفاً قائماً به كان ينبغي أن يعلم بهذا الوَصْف من نفسه ؛ لأن الإنسان له أن يعلم ما اشتملت عليه نفسه من الصفات، فاستدركت عليه أنَّ هذا الوصف القائم به لا يعلمه مُبَالغة في جهله.
ومفعول " يشعرون " محذوف : إمّا حذف اختصار، أي : لا يشعرون بأنهم مفسدون، وإما حذف اقتصار، وهو الأحسن، أي : ليس لهم شعور ألبتة.
الكلام عليها كالكلام على التي قبلها.
و «آمنوا» فعل وفاعل، والجملة في محل رفع لقيامها مقام الفاعل على ما تقدم في ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض﴾ [البقرة: ١١] والأقوال هناك تعود هُنَا.
والكاف في قوله «كما آمن» في محلّ نصب.
وأكثر المعربين يجعلون نعتاً لمصدر محذوف، والتقدير: آمنوا إيماناً كإيمان النَّاس، وكذلك يقولون في: «سير عليه حثيثاً» : أي سيراً حثيثاً وهذا ليس مذهب سيبويه، إنما مذهبه في هذا ونحوه أن يكون منصوباً على الحال من المصدر والمضمر المفهوم من الفعل المتقدم.
354
وإنما أحوج سيبويه إلى ذلك أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلاَّ في مواضع محصورة، ليس هذا منها، فتلك المواضع: أن تكون الصفة خاصة بالموصوف، نحو: «مررت بكاتب».
أو واقعة خبراً نحو: «زيد قائم».
أنو حالاً نحو: «جاء زيد راكباً».
أو صفة لظرف نحو: «جلست قريباً منك».
أو مستعملة استعمال الأسماء، وهذا يحفظ ولا يُقَاس عليه، نحو: «الأبْطَح والأَبْرَق» وما عدا هذه المواضع لا يجوز فيها حذف المَوْصوف؛ ألا ترى أنَّ سيبويه منع لا ماء ولو بارداً، وإن تقدّم ما يدلُّ على الموصوف، وأجاز: «إلا ماء ولو بارداً» ؛ لأنه نصب على الحال.
و «ما» مصدرية في محل جَرّ بالكاف، و «آمَنَ النَّاسُ» صلتها.
واعلم أنَّ «ما» المصدرية توصَلُ بالماضي أو المضارع المتصرّف، وقد شَذَّ وصلها بغير المتصرف في قوله: [الطويل]
٢٠٢ -....................... بِمَا لَسْتُمَا أَهْلَ الخِيَانَةِ، والغَدْرِ
وهل توصل بالجمل الاسمية؟ خلاف، واستدل على جوازه بقوله: [الكامل]
٢٠٣ - وَاصِلْ خَلِيلَكَ ما التَّواصُلُ مُمْكِنٌ فَلأَنْتَ أَوْ هُوَ عَنْ قَلِيلٍ ذَاهِبُ
وقال الآخر: [البسيط]
٢٠٤ - أَحْلاَمُكُمْ لِسِقَامِ الجَهْلِ شَافِيَةٌ كَمَا دِمَاؤُكُمُ تَشْفِي مِنَ الكَلَبِ
وقول الآخر: [الوافر]
355
إلاّ أن ذلك يكثر فيها إذا أفهمت الزمان؛ كقوله: [الكامل]
٢٠٦ - وَاصِلْ خَلِيلَكَ..................................
البيت.
وأجاز الزَّمخشري وأبو البقاء أن تكون «ما» كافّة ل «الكاف» عن العمل.
مثلها في قولك: ربما قدم زيد، ولا ضرورة تدعو إلى هذا؛ لأن جعلها مصدريةً مبقٍ ل «الكاف» على ما عهد لها من العمل، بخلاف جعلها كافة.
والألف واللام في «النَّاس» تحتمل أن تكون للجنس، وفيها وجهان.
أحدهما: المراد «الأوس» و «الخزرج» ؛ لأن أكثرهم كانوا مسلمين، وهؤلاء المنافقون كانوا منهم، وكانوا قليلين، ولفظ العموم قد يُطْلق على الأكثر.
والثاني: المُرَاد جميع المؤمنين؛ لأنهم هم النَّاس؛ لكونهم أعطوا الإنسانية حقَّهَا؛ لأن فضل الإنسان على سَائِرِ الحيوان بالعَقْلِ المرشد.
وتحتمل أن تكون «الألف» و «اللام» للعهد، فيكون المراد «كما آمن الرسول ومن معهن وهم ناسٌ معهودون، أو عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب.

فصل في أوجه ورود لفظ الناس


ورد لفظ " النَّاس " على سبعة أوجه: الأول: المُراد به عبد الله بن سلام، وأصحابه من مؤمني أهل الكتاب.
الثاني: المُرَاد به النَّبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: ٥٤].
أيك يحسدون النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على النِّساء.
الثَّالث: الناس: المؤمنون خاصّة قال تعالى: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ [آل عمران: ٩٧]، ومثله: ﴿يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١].
الرابع والخامس: كُفَّار قريش، وزيد بن مسعود، قال تعالى: ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس﴾ [آل عمران: ١٧٣] يعني نَعِيم المكّي: ﴿إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٣].
السادس: آدم - عليه الصلاة والسَّلام - قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾ [البقرة: ١٩٩] يعني: آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
السابع: الرَّجَال؛ قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس﴾ [غافر: ٥٧] يعني: الرجال.
356

فصل في إعراب الآية


الهمزة في» أنؤمن «للإنكار، والاستهزاء، ومَحَلّ» أنؤمن «ب» قالوا «وقوله: ﴿كَمَآ آمَنَ السفهآء﴾ القول في» الكاف «و» ما «كالقول فيهما فيما تقدّم، و» الألف «و» اللام «في» السفهاء «تحتمل أن تكون للجنس أو للعهد، وأبعد من جعلها للغَلَبَة كالعيّوق؛ لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم، بحيث إذا قيل: السفهاء فيهم منهم ناس مخصوصون، كما يفهم من العيوق كوكب مخصوص.
والسَّفه: الخِفَّة، يقال: ثوب سفيه أي: خفيف النَّسْج، ويقال: سفهت الرِّيح الشيء: إذا حَرَّكته؛ قال ذو الرمّة: [الطويل]
٢٠٥ - فإِنَّ الحُمْرَ مِنْ شَرِّ المَطَايَا كَمَا الحَبِطَاتُ شَرُّ بَنِي تَمِيمِ
٢٠٧ - جَرَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِيَاحٌ تَسَفَّهِتْ أَعَالِيَهَا مَرَّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ
وقال أبو تمام: [الوافر]
٢٠٨ - سَفِيهُ الرُّمْحِ جَاهِلُهُ إذَا مَا بَدَا فَضْلُ السَّفيهِ عَلَى الحَلِيمِ
أراد سريع الطَّعن بالرُّمْحِ خفيفه، وإنما قيل لبذيء اللسان: سفيه؛ لأنه خفيف الهداية.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:»
شَارِبُ الخَمْرِ سَفِيهٌ «لقلة عقله.
وقيل: السفيه: الكَذَّاب الذي يعمل بخلاف ما يعلم، وإنما سمّى المنافقون المسلمين بالسُّفهاء، لأن المُنَافقين كانوا من أهل الرياسة، وأكثر المسلمين كانوا فقراء، وكان عند المنافقين أن دين محمد باطلٌ، والباطل لا يقبله إلا السَّفيه، فلهذا نسبوهم إلى السَّفاهة، ثم إنّ الله - تعالى - قلب عليهم هذا القول فقال:»
أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ «لوجوه:
وثانيها: أنَّ من باع آخرته بِدُنْيَاهُ فهو السَّفيه.
وثالثها: أنَّ من عادى الله، وذلك هو السَّفيه.
357
والكلام على قوله: ﴿ألاا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ كالكلام على قوله: ﴿ألاا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ١٢].
وقرأ أهل» الشام «و» الكوفة «» السّفهاء أَلاَ «بتحقيق الهمزتين، وكذلك كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا، والآخرون يحققون الأولى، ويليّنون الثانية والمختلفتين طلباً للخفّة فإن كانتا متّفقتين مثل:
﴿هؤلاء
إِن﴾
[البقرة: ٣١]، و ﴿أَوْلِيَآءُ أولئك﴾ [الأحقاف: ٣٢]، و ﴿جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [هود: ١٠١] قرأها أبو عمرو والبزي عن ابن كثير بهمزة واحدةٍ.
وقرأ أبو جعفر، وورش، ويعقوب: بِتَحْقِيق الأولى وتَلْيين الثانية.
وقرأ قَالُون: بتليين الأولى، وتحقيق الثانية، لأن مت يستأنف أولى بالهمزة ممّا يسكت عليه.

فصل في نظم الآية


إنما قال هناك: «ولكن لا يشعرون»
، وقال ها هنا: «ولكن لا يعلمون» لوجهين:
أحدهما: أن المثبت لهم - هناك - الإفساد، وهو مما يدرك بأدنى تأمّل، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فِكْرٍ كثير، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر، وهي الحواسّ مبالغة في تجهيلهم، وهو أنَّ الشعور الذي قد ثبت للبهائم مَنْفِيّ عنهم، والمثبت - هنا - هو السَّفه والمصدر به هو الأمر بالإيمان، وذلك مما يحتاج إلى إمْعَان فكرٍ ونَظَرٍ، فإنه مُفْضٍ إلى الإيمان والتصديق، ولم يقع منهم المأمور به وهو الإيمان، فناسب ذلك نفي العلم عنهم.
الوجه الثاني: أن السَّفه خفّة العقل والجَهْل بالأمور؛ قال: [السريع]
٢٠٩ - نَخَافُ أنْ تَسْفَهَ أحْلاَمُنَا فَنَجْهَلَ الجَهْلَ مَعَ الجَاهِلِ
والعلم نقيض الجَهْل فقابله بقوله: ﴿لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٣] ؛ لأن عدم العلم بالشيء جهل به.
358

فصل في تعلق الآية بما قبلها


قال ابن الخطيب: لما نهاهم في الآية الأولى عن الفساد في الأرض، ثم أمرهم في هذه الآية بالإيمان دلّ على أن كمال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين، وهو تركه ما لا يَنْبَغِي، وفعل ما ينبغي.
وقوله: ﴿آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس﴾ أي: إيماناً مقروناً بالإخلاص بعيداً عن النفاق.
ولقائل أن يستدلّ بهذه الآية على أنّ مجرد الإقرار إيمان، فإنه لو لم يَكُنْ إيماناً لما تحقّق مُسَمّى الإيمان إلاَّ إذا حصل بالإخلاص، فكان قوله: «آمنوا» كافياً في تحصل المطلوب، وكان ذكر قوله: ﴿كَمَآ آمَنَ الناس﴾ لغواً.
359
«إذا» منصوب ب «قالوا» الذي هو جواب لها، وقد تقدّم الخلاف في ذلك، و «لقوا» فعل وفاعل، الجملة في محلّ خفض بإضافة الظّرف إليها.
وأصل «لقوا» : لقيوا بوزن «شربوا» فاستثقلت الضمة على «الياء» التي هي «لام» الكلمة، فحذفت الضمة فالتقى ساكنان: لام الكلمة وواو الجمع، ولا يمكن تحريك أحدهما، فحذف الأول وهو «الياء»، وقلبت الكسرة التي على القاف ضمّة؛ لتجانِسَ واو الضمير، فوزن «لَقُوا» :«فَعُوا»، وهذه قاعدة مطّردة نحو: «خشوا»، و «حيوا». وقد سمع في مصدر «لقي» أربعة عشر وزناً: «لُقْيَاً وَلِقْيَةً» بكسر الفاء وسكون العَيْن، و «لقاء ولقاءة» بفتحها أيضاً مع المَدّ في الثلاثة، و «لَقَى» بفتح الفاء وضمّها، و «لُقْيَا» بضم الفاء، وسكون العين و «لِقِيَّا» بكسرها والتشديد و «لُقِيَّا» بضم الفاء، وكسر العَيْنِ مع التشديد، و «لُقْيَاناً وَلِقْيَاناً» بضم الفاء وكسرها، و «لِقْيَانَةً» بكسر الفاء خاصّة، و «تِلْقَاء».
وقراءة أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ -: «وَإِذّا لاَقُوا».
و «الَّذِينَ آمَنُوا» مفعول به، و «قالوا» جواب «إذا»، و «آمَنَّا» في محل نصب بالقول.
قال ابن الخطيب: «والمراد بقولهم:» آمنا «: أخلصنا بالقلب؛ لأن الإقرار باللسان كان معلوماً منهم مما كانوا يحتاجون إلى بَيَانِهِ، إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب، وأيضاً فيجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم، وإنما كانوا يظهرون لهم التَّكذيب بالقلب».
359
وقوله: ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا﴾ تقدّم نظيره، والأكثر نظيره، والأكثر في «خَلاَ» أن يتعدّى بالباء، وقد يتعدّى ب «إلى»، وإنما تعدّى في هذه الآية ب «إلى» لمعنى بديع، وهو أنه إذا تعدّى بالباء احتمل معنيين:
أحدهما: الانفراد.
والثاني: السُّخرية والاستهزاء، تقول: خلوت به «أي: سخرت منه، وهو من قولك: خَلاَ فلان بعرض فلان أي: يَعْبَثُ به.
وإذا تعدّى ب»
إلى «كان نصّاً في الانفراد فقط، أو تقول: ضمن» خلا «معنى» صرف «فتعدّى» إلى «، والمعنى: صرفوا خَلاَهم إلى شَيَاطينهم، أو تضمّن معنى» ذهبوا وانصرفوا «ومنه:» القرون الخالية «.
وقيل:»
إلى «- هنا - بمعنى» مع «، كقوله:
﴿وَلاَ
تأكلوا
أَمْوَالَهُمْ
إلى
أَمْوَالِكُمْ
[النساء: ٢].
وقيل: هي هنا بمعنى «الباء»
، وهذان القولان إنما يجوزان عند الكوفيين، وأما البصريون فلا يُجِيزون التجوّز في الحروف؛ لضعفها.
وقيل المعنى: وإذا خلوا رجعوا إلى شَياطينهم. ف «إلى» على بابها.
والأصل في خَلَوا: خَلَوُوا، فقلبت «الواو» الأولى التي هي «لام» الكلمة «ألفاً» لتحركها، وانفتاح ما قبلها، فبقيت ساكنة وبعدها «واو» الضمير ساكنة، فالتقى ساكنان، فحذف أولهما، وهو «الألف»، وبقيت الفتحة دالةً عليها.
و «شياطينهم» : جمع شيطان، جمع تكسير، وقد تقدّم القول في اشتقاقه، فوزن شياطين: إما «فَعَالِيل» أو «فَعَالِين» على حسب القولين المتقدّمين في الاستعاذة، والفصيح في شياطين وبابه أن يعرب بالحركات؛ لأنه جمع تَكْسير، وهي لغةٌ رديئة، وهي إجراؤه إجراء الجمع المذكر السالم، سمع منهم: «لفلان البستان حوله البُسْتَانُون».
وقرئ شاذَّا: «وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطون» [الشعراء: ٢١٠].
وشياطينهم: رؤساؤهم وكَهَنَتُهُمْ.
قال ابن عباس: وهم خمسة نفر من اليهود: كَعْبُ بن الشرف ب «المدينة»، وأبو بردة ب «الشام» في بني أسلم، وعبد الدار في «جهينة»، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن السوداء ب «الشام» ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان تابع له.
وقال مجاهد: شياطينهم: أصحابهم من المنافقين والمشركين.
360
وقوله: ﴿إِنَّا مَعَكْمْ﴾ «إنّ» واسمها و «معكم» خبرها، والأصل في «إنا» :«إننا» لقوله تعالى: ﴿إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً﴾ [آل عمران: ١٩٤]، وإنما حذفت نُونَي «إنّ» لما اتصلت بنون «ن»، تخفيفاً.
وقال أبو البقاء: «حذفت النون الوُسْطَى على القول الصحيح، كما حذفت في» إن «إذا خففت».
و «مَعَ» ظرف والضمير بعده في محلّ خفض بإضافته إليه وهو الخبر - كما تقدم - فيتعلّق بمحذوف وهو ظرف مكان، وفهم الظرفية منه قلق.
قالوا: لأنه يدلّ على الصحبة، ومن لازم الصحبة الظَّرفية، وأما كونه ظرف مكان، لأنه يخبر به عن الجُثَثِ نحو: «زيد معك»، ولو كان ظرف زمان لم يَجُزْ فيه ذلك.
واعلم أن «مع» لا يجوز تسكين عينها إلا في شعر كقوله: [الوافر]
٢١٠ - فَرِيشِي مِنْكُمُ وَهَوَايَ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَتْ زَيَارَتُكُمْ لِمَامَا
وهي حينئذ على ظرفيتها خلافاً لمن زعم أنها حينئذ حرف جَرّ، وإن كان النَّحاس ادّعى الإجماع في ذلك، وهي من الأسماء اللازمة للإضافة، وقد تقطع لفظاً، فتنتصب حالاً غالباً، تقول: جاء الويدان معاً أي: مصطحبين، وقد تقع خبراً، قال الشاعر: [الطويل]
٢١١ - حَنَنْتَ إلى رَيَّا وَنَفْسُكَ بَاعَدَتْ مَزَارَكَ مَنْ وَشَعْبَاكُمَا مَعاً
ف «شَعْبَاكُمَا» مبتدأ، و «مَعاً» خبره، على أنه يحتمل أن يكون الخبر محذوفاً، و «مَعاً» حال.
واختلفوا في «مع» حال قطعها عن الإضافة؛ هل هي من باب المقصور نحو: «عصى» و «رحا»، أو المنقوص نحو: «يد» و «دم» ؟ قولان:
361
الأوّل: قول يونس، والأخفش.
والثاني: قول الخليل وسيبويه، وتظهر فائدة ذلك إذا سمّي به
فعلى الأول تقول: «جاءني معاً» و «مررت بمَعٍ» ك «يَدٍ»، ولا دليل على القول الأوّل في قوله: «وشعباكما معاً» ؛ لأن معاً منصوب على الظَّرف النائب عن الخبر، نحو: «زيد عندك» وفيها كلام كثير.

فصل في نظم الآية


لم كانت مُخَاطبتهم للمؤمنين بالجملة الفعلية ومخاطبة شياطينهم بالجملة الاسمية محققة ب «إن» ؟
قال ابن الخطيب: الجواب: ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين؛ لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة، لأن القول الصادر عن النّفاق والكراهة قلّما يحصل معه المبالغة، وإما لعلمهم بأن ادِّعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين، وأما كلامهم مع إخوانهم، فكانوا يقولونه عن الاعتقاد، ويعلمون أنّ المستمعين يقبلون ذلك منهم، فلا جَرَمَ كان التأكيد لائقاً به. واختلفوا في قائل هذا القول أَهَمُّ كُلُّ المُنَافقين، أو بعضهم؟
فمن حمل الشَّيَاطين على كبار المُنَافقين، فحمل هذا القول على أنه من صغارهم، فكانوا يقولون للمؤمنين: «آمنا» وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا: «إنا معكم»، ومن قال: المراد بالشّياطين الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كُلّ المُنَافقين.
وقوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ كقوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: ١١]، وهذه الجملة الظاهرة أنها لا محلّ لها من الإعراب لاستئنافها؛ إذ هي جواب لرؤسائهم، كأنهم لما قالوا لهم: «إنَّا مَعَكُمْ» توجّه عليهم سؤال منهم، وهو: فما بالكم مع المُؤْمنين تُظَاهرونهم على دينهم، فأجابوهم بهذه الجملة.
وقيل: محلّها النصب، لأنها بدلٌ من قوله: «إنَّا مَعَكُمْ».
وقياس تخفيف همزة «مستهزؤون» ونحوه أن تجعل بَيْنَ بَيْنَ، أي بين الهمزة والحرف الذي منه حركتها وهو «الواو»، وهو رأي سيبويه، ومذهب الأخفش قلبها «ياء» محضة.
وقد وقف حمزة على ﴿مُسْتَهْزِئُونَ﴾ و ﴿فَمَالِئُونَ﴾ [الصافات: ٦٦] و ﴿لِيُطْفِئُواْ﴾ [الصف: ٨] و ﴿لِّيُوَاطِئُواْ﴾ [التوبة: ٣٧] و ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ﴾ [يونس: ٥٣] و ﴿الخاطئين﴾ [يوسف: ٢٩] و ﴿الخاطئون﴾ [الحاقة: ٣٧]، و ﴿مُّتَّكِئِينَ﴾ [الكهف: ٣١] و ﴿مُتَّكِئُونَ﴾ [
362
يس: ٥٦]، و ﴿المنشئون﴾ [الواقعة: ٧٢] بحذف صورة الهَمْزَةِ اتباعاً لرسم المُصْحَفِ.
وقولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ توكيد لقولهم: «إنَّا مَعَكُمْ».
وقوله: ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ الله: رفع بالابتداء، و «يستهزىء» : جملة فعلية في محلّ رفع خبر، و «بِهِمْ» متعلّق به، ولا محل لهذه الجملة لاستئنافها.
و «يَمُدُّهُمْ» يتركهم ويُمْهِلُهُمْ، وهو في محل رفع أيضاً لعطفه على الخَبَرِ، وهو «يستهزىء». و «يَعْمَهُونَ» في مَحَلِّ الحال من المفعول في «يَمُدُّهُمْ»، أو من الضمير في «طغيانهم»، وجاءت الحال من المُضّاف إليه؛ لأنَّ المُضّاف مصدر.
و «في طُغْيَانِهِم» يحتمل أن يتعلّق ب «يمدهم»، أو ب «يعمهون»، وقدّم عليه، إلاَّ إذا جعل «يعمهون» حالاً من الضَّمير في «طغيانهم»، فلا يتعلّق به حينئذ، لفساد المعنى.
وقد منع أبو البَقَاءِ أن يكون «في طغيانهم»، و «يعمهون» حَالَيْن من الضَّمير في «يمدهم» معللاً ذلك بأن العاملَ الواحدَ لا يعمل في حالين، وهذا على رأي من منع ذلك.
وأما من يجيز تعدُّد الحال مع عدم تعدُّد صاحبها فيجيز ذلك، إلاّ أنه في هذه الآية ينبغي أن يمنع من ذلك إلا ما ذكره أبو البَقَاءِ، بل لأن المعنى يأبى جَعْلَ هذا الجار والمجرور حالاً؛ إذ المعنى منصب على أنه متعلّق بأحد الفعلين، أعني: «يمدّهم»، أو «يعمهون» لا بمحذوف على أنه حال.
والمشهور: فتح «الياء» من «يمدهم».
وقرىء شاذاً: «يُمِدُّهُمْ» بضم الياء.
فقيل: الثلاثي والرُّباعي بمعنى واحد تقول: «مدّه» و «أمدّه» بكذا.
وقيل: «مدّه» إذا زاده عن جِنْسِهِ، و «أمدّه» إذا أراد من غير جِنْسِهِ.
وقيل: مدّه في الشَّرِّ لقوله تعالى: ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً﴾ [مريم: ٧٩]، وأمدّه في الخير لقوله تعالى: ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ [نوح: ١٢] ﴿وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ﴾ [الطور: ٢٢]، ﴿أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملاائكة﴾ [آل عمران: ١٢٤] إلا أنه يعكر على هذين الفرقين أنه قرىء: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي﴾ [الأعراف: ٢٠٢] باللغتين، ويمكن أن يُجَاب عنه بما ذكره الفارسي في توجيه ضم «الياء» أنه بمنزلة قوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ﴾ [آل عمران: ٢١]، ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى﴾ [الليل: ١٠] يعني أبو علي - رَحِمَهُ اللهُ - بذلك أنه على سبيل التهكُّم.
363
وأصل المدد الزيادة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم زعمت أنه من المَدَد دون المَدّ في العُمُر والإمْلاء والإمْهَال؟
قلت: كفاك دليلاً على لك قراءة ابن كثير، وابن محيصن: «ويمدهم» وقراءة نافع: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ﴾ [الأعراف: ٢٠٢] على أنَّ الذي بمعنى أَمْهَلَ إنما هو مَدّ له ب «اللام» كأملى له.
والاستهزاء لغةً: السخرية واللّعب؛ يُقَال: هَزِئَ به، واستهزأ، قال: [الرجز]
٢١٢ - قَدْ هَزِئَتْ مِنِّي أُمُّ طَيْسَلَهْ... قالَت: أَرَاهُ مُعْدِماً لاَ مَالَ لَهْ
وقيل: أصله الانتقام؛ وأنشد: [الطويل]
٢١٣ - قَدِ اسْتَهْزَؤُوا مِنْهُمْ بِأَلْفَيْ مُدَجَّجِ سَرَاتُهُمُ وَسْطَ الصَّحَاصِحِ جُثَّمُ
فعلى هذا القول الثَّاني نسبة الاستهزاء إليه - تعالى - على ظاهرها.
وأما على القول الأول فلا بد من تأويل وهو من وجوه:
الأول: قيل: المعنى: يجازيهم على استهزائهم فسمى العقوبة باسم الذَّنب ليزدوج الكَلاَم، ومنه: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ﴾ [الشورى: ٤٠]، ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٩٤].
وقال: ﴿إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢]، ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله﴾ [آل: عمران: ٥٤].
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «اللهُمَّ إنّ فلاناً هَجَاني، وهو بعلم أني لَسْتُ بِشَاعِرٍ، اللهم فاهجُهُ، اللهم فالْعَنْهُ عَدَدَ ما هَجَانِي» ؛ وقال عليه الصلاة والسَّلام: «تَكَلَّفُوا من الأَعْمَالِ ما تُطِيقونَ فإنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» ؛ وقال عمرو بن كلثوم: [الوافر]
364
٢١٤ - أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا
وثانيها: أنَّ ضرر استهزائهم بالمُؤْمنين راجعٌ إليهم، وغير ضَارّ بالمؤمنين، فيصير كأن الله استهزأ بهم.
وثالثها: أنّ من آثار الاستهزاء حُصُول الهَوَان والحَقارة، فذكر الاستهزاء، والمراد حُصُول الهَوَان لهم فعبّر بالسَّبب عن المُسَبِّب.
ورابعها: أنَّ استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أَحْكَامِهِ في الدُّنْيا ما لهم عند اللهِ خلافها في الآخرة، كما أنهم أَظْهَرُوا [للنَّبي و] المؤمنين أمراً مع أنَّ الحاصل منهم في السر خلافه، وهذا ضعيف؛ لأنه - تعالى - لما أظهر لهم أحكام الدُّنيا، فقد أظهر الأدلّة الواضحة بما يعاملون به في الدَّار الآخرة، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا.
وخامسها: أن الله - تعالى - يُعَاملهم مُعَاملة المُسْتَهْزِئِ في الدُّنيا والآخرة، أما في الدنيا، فلأنه أطلع الرسول على أَسْرَارِهِمْ لِمُبَالغتهم في لإخْفَائِها، وأمّا في الآخرة فقال ابنُ عَبَّاس: هو أن يفتح لهم باباً من الجنة، فإذا رأوه المُنافقون خرجوا من الجَحِيمِ متوجّهين إلى الجنة، فإذا وصلوا إلى باب الجنة، فهناك يغلق دونهم الباب، فذلك قوله تعالى: ﴿فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين: ٣٤] وقيل: هو أن يُضْرَبَ للمؤمنين نورٌ يَمْشون به على صراط، فإذا وصل المنافقون إليه حِيَلَ بينهم وبينه، كما قالَ تَعَالَى: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ﴾ [الحديد: ١٣] الآية.
فإن قيل: هلا قيل: إن الله يستهزئ بهم ليكون مطابقاً لقوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: ١٤] ؟
365
والجواب: أنَّ «يستهزئ: يفيد حدوث الاستهزاء وتجدّده وقتاً بعد وقت، وقتاً بعد وقت، وهكذا كانت نكايات الله فيهم ﴿أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾ [التوبة: ١٢٦].
و»
الطُّغيان «: الضلال مصدر طَغَى يَطْغَى طِغْياناً وطُغياناً بكسر الطَّاء وضمها. وبكسر الطَّاء قرأ زيد بن علي، ولام» طغى «قيل: ياء. واو، يقال: طَغَيْتُ وطَغَوْتُ، وأصل المادّة مُجاوزة الحَدّ، ومنه: طغى الماء.
و»
العَمَةُ «: التردُّد والتحيُّر، وهو قريب من العَمَى، إلا أن بينهما عموماً وخصوصاً، لأن العَمَى يطلق على ذهاب ضوء العين، وعلى الخطأ في الرأي، والعَمَةُ لا يطلق إلا على الخطأ في الرأي، يقال: عَمِهَ عَمَهاً وَعَمَهَاناً فهو عَمِهٌ فهو عَمِهٌ وعَامِهٌ.

فصل في الرد على المعتزلة


قالت المعتزلة: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه:
أحدها: قوله تعالى: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي﴾ [الأعراف: ٢٠٣] أضاف ذلك الغيّ إلى إخوانهم، فكيف يكون مضافاً إلى الله.
وثانيهما: أن الله - تعالى - ذمّهم على هذا الطغيان، فلو كان فعلاً لله - تعالى - فكيف يذمهم عليه؟
وثالثهما: لو كان فعلاً لله - تعالى - لبطلت النبوة، وبطل القرآن، فكان الاشتغال بتفسيره عَبَثاً.
ورابعهم: أنه - تعالى - أضاف الطّغيان إليهم بقوله: ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾، ولو كان من الله لما أضافه إليهم فظهر أنه إنما أضافه إليهم ليعلم أنه - تعالى - غير خالق لذلك، ومصداقه أنه حين أسند المَدّ إلى الشَّياطين أطلق الغيّ، ولم يقيده بالإضافة في قوله: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي﴾ إذا ثبت هذا، فلا بُدَّ من التأويل، وهو من وجوه:
أحدها: قال الكَعْبِيّ وأبو مسلم الأصفهاني: إن الله - تعالى - لَمَّا منحهم أَلْطافَهُ التي منحها للمؤمنين، وخَذَلَهُمْ بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مُظْلِمَةً بتزايد الرَّيْن فيها، وكتزائد النور في قلوب المؤمنين، فسمى ذلك النور مدداً، وأسنده إلى الله تعالى، لأنه مسبّب عن فعله بهم.
وثانيها: أن يحمل على منع القَسْرِ والإِلْجاءِ.
وثالثها: أن يسند فعل الشيطان إلى الله - تعالى - لأنه بتمكينه، وإقْدَاره، والتَّخلية بينه وبين إغواء عباده.
366
ورابعها: قال الجُبَّائي: ويمدهم أي يمد عمرهم، ثم إنهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون، وهذا ضعيف من وجهين:
الأول: ما بَيَّنَا أنه لا يجوز في اللُّغة تفسير «ويمدهم» بالمَدّ في العمر.
الثاني: هَبْ أنه يصحّ ذلك، ولكنه يفيد أنه - تعالى - يمد عمرهم بغرض أن يكونوا في طُغيانهم يعمهون، وذلك يفيد الإشكال.
أجاب القَاضِي عن ذلك بأنه ليس المُراد لأنه - تعالى - يبقيهم، ويلطف بهم الطَّاعة، فيأبون إلاَّ أن يعمهوا.
367
وقوله :﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئ بِهِمْ ﴾ الله : رفع بالابتداء، و " يستهزئ " : جملة فعلية في محلّ رفع خبر، و " بِهِمْ " متعلّق به، ولا محل لهذه الجملة لاستئنافها.
و " يَمُدُّهُمْ " يتركهم ويُمْهِلُهُمْ، وهو في محلّ رفع أيضاً لعطفه على الخَبَرِ، وهو " يستهزئ ". و " يَعْمَهُونَ " في مَحَلّ الحال من المفعول في " يَمُدُّهُمْ "، أو من الضمير في " طغيانهم "، وجاءت الحال من المُضَاف إليه ؛ لأنَّ المُضَاف مصدر.
و " في طُغْيَانِهِمْ " يحتمل أن يتعلّق ب " يمدهم "، أو ب " يعمهون "، وقدّم عليه، إلاَّ إذا جعل " يعمهون " حالاً من الضَّمير في " طغيانهم "، فلا يتعلّق به حينئذ، لفساد المعنى.
وقد منع أبو البَقَاءِ أن يكون " في طغيانهم "، و " يعمهون " حَالَيْن من الضَّمير في " يمدهم " معللاً ذلك بأن العاملَ الواحدَ لا يعمل في حالين، وهذا على رأي من منع ذلك.
وأما من يجيز تعدُّد الحال مع عدم تعدُّد صاحبها فيجيز ذلك، إلاّ أنه في هذه الآية ينبغي أن يمنع من ذلك لا لما ذكره أبو البَقَاءِ، بل لأن المعنى يأبى جَعْلَ هذا الجار والمجرور حالاً ؛ إذ المعنى منصب على أنه متعلّق بأحد الفعلين، أعني :" يمدّهم "، أو " يعمهون " لا بمحذوف على أنه حال.
والمشهور : فتح " الياء " من " يمدهم ".
وقرئ شاذاً٦ :" يُمِدُّهُمْ " بضم الياء.
فقيل : الثلاثي٧ والرُّباعي بمعنى واحدٍ تقول :" مدّه " و " أمدّه " بكذا.
وقيل :" مدّه " إذا زاده عن جِنْسِهِ، و " أمدّه " إذا أراده من غير جِنْسِهِ.
وقيل : مدّه في الشَّرِّ لقوله تعالى :﴿ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً ﴾ [ مريم : ٧٩ ]، وأمدّه في الخير لقوله تعالى :﴿ وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾ [ نوح : ١٢ ] ﴿ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ ﴾ [ الطور : ٢٢ ]، ﴿ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ ﴾ [ آل عمران : ١٢٤ ] إلا أنه يعكر على هذين الفرقين أنه قرئ :﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ﴾ [ الأعراف : ٢٠٢ ] باللغتين، ويمكن أن يُجَاب عنه بما ذكره الفارسي في توجيه ضم " الياء " أنه بمنزلة قوله تعالى :﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ ﴾ [ آل عمران : ٢١ ]، ﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [ الليل : ١٠ ] يعني أبو علي - رحمه الله - بذلك أنه على سبيل التهكُّم.
وأصل المدد الزيادة.
وقال الزمخشري٨ : فإن قلت : لم زعمت أنه من المَدَد دون المَدّ في العُمُر والإمْلاَء والإمْهَال ؟
قلت : كفاك دليلاً على ذلك قراءة ابن كثير، وابن محيصن٩ :" ويمدهم " وقراءة نافع١٠ :﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ ﴾ [ الأعراف : ٢٠٢ ] على أنَّ الذي بمعنى أَمْهَلَ إنما هو مَدّ له ب " اللام " كأملى له.
والاستهزاء لغةً : السخرية واللّعب ؛ يُقَال : هَزِئَ به، واستهزأ، قال :[ الرجز ]
قَدْ هَزِئَتْ مِنِّي أُمُّ طَيْسَلَهْ *** قالَتْ : أَرَاهُ مُعْدِماً لاَ مَالَ لَهْ١١
وقيل : أصله الانتقام ؛ وأنشد :[ الطويل ]
قَدِ اسْتَهْزَؤُوا مِنْهُمْ بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ سَرَاتُهُمُ وَسْطَ الصَّحَاصِحِ جُثَّمُ١٢
فعلى هذا القول الثَّاني نسبة الاستهزاء إليه - تعالى - على ظاهرها.
وأما على القول الأول فلا بد من تأويل وهو من وجوه :
الأول : قيل : المعنى : يجازيهم على استهزائهم فسمى العقوبة باسم الذَّنب ليزدوج الكَلاَم، ومنه :﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]،
﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ].
وقال :﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [ النساء : ١٤٢ ]، ﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾ [ آل : عمران : ٥٤ ].
وقال عليه الصلاة والسلام :" اللَّهُمَّ إنّ فلاناً هَجَاني، وهو يعلم أني لَسْتُ بِشَاعِرٍ، اللّهم فاهْجُهُ، اللهم فالْعَنْهُ عَدَدَ ما هَجَانِي " ١٣ ؛ وقال عليه الصلاة والسَّلام :" تَكَلَّفُوا من الأَعْمَالِ ما تُطِيقُونَ فإنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا " ١٤ ؛ وقال عمرو بن كلثوم :[ الوافر ]
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا١٥
وثانيها : أنَّ ضرر استهزائهم بالمُؤْمنين راجعٌ إليهم، وغير ضَارّ بالمؤمنين، فيصير كأن الله استهزأ بهم.
وثالثها : أنّ من آثار الاستهزاء حُصُول الهَوَان والحَقَارة، فذكر الاستهزاء، والمراد حُصُول الهَوَان لهم فعبّر بالسَّبب عن المُسَبَّب.
ورابعها : أنَّ استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أَحْكَامِهِ في الدُّنْيا ما لهم عند اللهِ خلافها في الآخرة، كما أنهم أَظْهَرُوا [ للنَّبي و ]١٦ المؤمنين أمراً مع أنَّ الحاصل منهم في السر خلافه، وهذا ضعيف ؛ لأنه - تعالى - لما أظهر لهم أحكام الدُّنيا، فقد أظهر الأدلّة الواضحة بما يعاملون به في الدَّار الآخرة، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا.
وخامسها : أن الله - تعالى - يُعَاملهم مُعَاملة المُسْتَهْزِئ في الدُّنيا والآخرة، أما في الدنيا، فلأنه أطلع الرسول على أَسْرَارِهِمْ لِمُبَالغتهم في إخْفَائها، وأمّا في الآخرة فقال ابنُ عَبَّاس : هو أن يفتح لهم باباً من الجنة، فإذا رأوه المُنافقون خرجوا من الجَحِيمِ متوجّهين إلى الجنة، فإذا وصلوا إلى باب الجنة، فهناك يغلق دونهم الباب، فذلك قوله تعالى :﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾١٧ [ المطففين : ٣٤ ] وقيل : هو أن يُضْرَبَ للمؤمنين نورٌ يَمْشون به على صراط، فإذا وصل المنافقون إليه حِيلَ بينهم وبينه، كما قال تَعَالَى :﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ ﴾[ الحديد : ١٣ ] الآية.
فإن قيل : هلا قيل : إن الله يستهزئ بهم ليكون مطابقاً لقوله :﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ ﴾ [ البقرة : ١٤ ] ؟
والجواب : أنَّ " يستهزئ " يفيد حدوث الاستهزاء وتجدّده وقتاً بعد وقت، وهكذا كانت نكايات الله فيهم ﴿ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ﴾ [ التوبة : ١٢٦ ].
و " الطُّغيان " : الضلال مصدر طَغَى يَطْغَى طِغْياناً وطُغْيَاناً بكسر الطَّاء وضمها. وبكسر الطَّاء قرأ زيد بن علي١٨، ولام " طغى " قيل : ياء. وقيل : واو، يقال : طَغَيْتُ وطَغَوْتُ، وأصل المادّة مُجَاوزة الحَدّ، ومنه : طغى الماء.
و " العَمَهُ " : التردُّد والتحيُّر، وهو قريب من العَمَى، إلا أن بينهما عموماً وخصوصاً، لأن العَمَى يطلق على ذهاب ضوء العين، وعلى الخطأ في الرأي، والعَمَهُ لا يطلق إلا على الخطأ في الرأي، يقال : عَمِهَ عَمَهاً وَعَمَهَاناً فهو عَمِهٌ وعَامِهٌ.

فصل في الرد على المعتزلة


قالت المعتزلة : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه :
أحدها : قوله تعالى :﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ﴾ [ الأعراف : ٢٠٢ ] أضاف ذلك الغيّ إلى إخوانهم، فكيف يكون مضافاً إلى الله.
وثانيهما : أن الله - تعالى - ذمّهم على هذا الطغيان، فلو كان فعلاً لله - تعالى - فكيف يذمهم عليه ؟
وثالثها : لو كان فعلاً لله - تعالى - لبطلت النبوة، وبطل القرآن، فكان الاشتغال بتفسيره عَبَثاً.
ورابعها : أنه - تعالى - أضاف الطّغيان إليهم بقوله :﴿ فِي طُغْيَانِهِمْ ﴾، ولو كان من الله لما أضافه إليهم فظهر أنه إنما أضافه إليهم ليعلم أنه - تعالى - غير خالق لذلك، ومصداقه أنه حين أسند المَدّ إلى الشَّياطين أطلق الغيّ، ولم يقيده بالإضافة في قوله :
﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ﴾ إذا ثبت هذا، فلا بُدَّ من التأويل، وهو من وجوه :
أحدها : قال الكَعْبِيّ وأبو مسلم الأصفهاني : إن الله - تعالى - لَمَّا منحهم أَلْطافَهُ التي منحها للمؤمنين، وخَذَلَهُمْ بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مُظْلِمَةً بتزايد الرَّيْن فيها، وكتزايد النور في قلوب المؤمنين، فسمى ذلك النور مدداً، وأسنده إلى الله تعالى، لأنه مسبّب عن فعله بهم.
وثانيها : أن يحمل على منع القَسْرِ والإِلْجَاءِ.
وثالثها : أن يسند فعل الشيطان إلى الله - تعالى - لأنه بتمكينه، وإقْدَاره، والتَّخلية بينه وبين إغواء عباده.
ورابعها : قال الجُبَّائي : ويمدهم أي يمد عمرهم، ثم إنهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون، وهذا ضعيف من وجهين :
الأول : ما بَيَّنَا أنه لا يجوز في اللُّغة تفسير " ويمدهم " بالمَدّ في العمر.
الثاني : هَبْ أنه يصحّ ذلك، ولكنه يفيد أنه - تعالى - يمد عمرهم بغرض أن يكونوا في طُغْيَانهم يعمهون، وذلك يفيد الإشكال.
أجاب القَاضِي عن ذلك بأنه ليس المُرَاد أنه - تعالى - يمدّ عمرهم بغرض أن يكونوا في الطغيان، بل المراد أنه - تعالى - يبقيهم، ويلطف بهم الطَّاعة، فيأبون إلاَّ أن يعمهوا.
«أولئك» : رفع بالابتداء و «الذين» وصلته خبره.
وقوله تعالى: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ﴾ هذه الجملة عطف على الجملة الواقعة صلة، وهي: «اشتروا».
وزعم بعضهم أنها خبر المُبْتَدَأ، وأنَّ الفاء دخلت في الخَبَرِ لما تضّمنه الموصول من معنى الشَّرْط، فيصير قوله تعالى: ﴿الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٤]، ثم قال: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٤] وهذا وهم؛ لأن «الذين» ليس مبتدأ حتى يدّعي دخول الفاء في خبره، بل هو خَبَرٌ عن «أولئك» كما تقدّم. فإن قيل: يكون الموصول مبتدأ ثانياً، فتكون الفاء دخلت في خبره.
قلنا: يلزم من ذلك عدم الربط بين المبتدأ والجملة الواقعة خبرً عنه، وأيضاً فإنَّ الصّلة ماضية معنى.
فإن قيل: يكون «الَّذين» بدلاً من «أولئك» فالجَوابَ يصير الموصول مخصوصاً لإبداله من مخصوص، والصّلة أيضاً ماضية.
فإن قيل: «االذين» صفة ل «أولئك»، ويصير نظير قولك: «الرجل الذي يأتيني فله درهم».
قلنا: يرد بما رد به السؤال الثَّاني، وبأنه لا يجوز أن يكون وصفاً له؛ لأنه أعرف منه، ففسد هذا القَوْلُ.
والمشهور ضمّ واو «اشتروا» لالتقاء الساكنين، وإنما ضممت تشبيهاً بتاء الفاعل.
وقيل: للفرق بين واو الجِمْعِ والواو الأصلية نحو: ﴿لَوِ استطعنا﴾ [التوبة: ٤٢].
وقيل: لأن الضمة - هنا - أخفّ من الكسرة؛ لأنّها من جنس الواو.
367
وقيل: حركت بحركة الياء المحذوفة، فإن الأصل: «اشتريوا» كما سيأتي.
وقيل: هي للجمع فهي مثل: «نحن». وقرئ بكسرها على أصل التقاء الساكنين، وبفتحها؛ لأنها أخف.
وأجاز الكسائي همزها تشبيهاً لها ب «أَدْؤُر» و «أَثْؤب» وهو ضعيف؛ لأن ضمها غير لازم.
وقال أبو البَقَاءِ: «ومنهم من يَخْتَلِسُهَا، فيحذفها لالتقاء السَّاكنين؛ وهو ضعيف جداً، لأن فيحذفها لالتقاء السَّاكنين؛ وهو ضعيف جداً، لأن قبلها فتحة، والفتحة لا تدلّ عليها».
وأصل اشتروا: اشتريوا: فتحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقبلت أفلاً، قم حذفت لالتقاء السَّاكنين، وبقيت الفتحة دالّة عليها.
وقيل: بل حذفت الضَّمَّة من الياء فسكنت، فالتقى سَاكِنَانِ، فحذفت الياء لالتقائها ساكنةً مع «الواو».
فإن قيل: واو الجمع قد حركت، فينبغي أن يعود السَّاكن المحذوف؟
فالجواب: أنَّ هذه الحركة عارضةٌ فهي في حكم السَّاكن، ولم يجئ ذلك إلاَّ في ضرورة الشعر؛ وأنشد الكِسَائيُّ:
٢١٥ - يَا صَيَاحِ لَمْ تَنَامِ العَشِيَّا..........................................
فأعاد الألف لما حركت الميم حركةٌ عارضةٌ.
و «الضَّلالة» مفعولة، وهي: الجور عن القَصْدِ، وفقد الاهتداء، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين.
و «بالهدى» متعلّق ب «اشتروا» والباء هنا للعوض، وهي تدخل على المتروك أبداً.
فأما قوله تعالى: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة﴾ [النساء: ٧٤]، فإنَّ ظاهره أن الآخرة هي المأخوذة لا المتروكة.
فالجواب ما قاله الزَّمَخْشَرِيَ: «أن المراد ب» المشترين «المبطئون وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النِّفَاق، ويخلصوا الإيمان بالله - تعالى - ورسوله، ويجاهدوا في الله حَقّ الجهاد، فحينئذ دخلت» الباء «على المتروك.
والشِّراء - هاهنا - مَجَاز عن الاستبدال بمعنى أنهم لما تركوا الهدى، وآثروا الضلالة، جُعِلُوا بمنزلة لها بالهُدَى، ثم رشح هذا المجاز بقوله تعالى: {فَمَا
368
رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} فأسند الرِّبْحِ إلى التِّجارة، والمعنى: فما ربحوا في تِجارتِهم؛ ونظير خذا التَّرْشيح قول الآخر: [الطويل].
٢١٦ - بَكَى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ وَعَجَّتْ عَجِيجاً مِنْ جُذَامَ المَطَارِفُ
لما أسند البكاء إلى الخَزّ من أجل هذا الرجل - وهو رَوْح - وإنكاره لجلده مجازاً رَشّحه بقوله:» وَعَجّت المَطَارف من جُذام «أي: استغاثت الثياب من هذه القبيلة. وقول الآخر: [الطويل].
٢١٧ - وَلَمَّا رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَ ابْنُ دَايةٍ وَعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْرِي
لما جعل»
النَّسْرَ «عبارة عن الشَّيب، و» ابن داية «وهو الغُرَاب عبارة عن الشباب، مجازاً رَشّحه بذكر التعشُّش في الوَكْرِ، وقول الآخر: [الوافر].
٢١٨ - فَمَا أُمُّ الرُّدَيْنِ وَإنْ أَدَلَّتْ بِعَالِمَةٍ بأَخلاقِ الكِرامِ
إِذا الشَّيْطانُ قَصَّعَ في قَفَاهَا تَنَفَّقْنَاهُ بِالحبْلِ التُّؤَامِ
لما قال:»
قَصّع في ثقاها «أي: دخل من القاصعاء، وهي: جُحر من جِحَرَة اليَرْبُوعِ هنا لما ذكر سبحانه الشِّر، أتبعه بما يُشاكله، وهو الربح تمثيلاً لخسارتهم.
والربح: الزيادة على رأس المال.
وقوله: ﴿وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ هذه الجملة معطوفةٌ على قوله: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ﴾.
والمهتدي: اسم فاعل من اهتدى، و»
افتعل «عنا للمُطَاوعة، ولا يكون» افتعل «للمطاوعة إلا من فعل نتعدٍّ.
وزعم بعضهم أنه يجيء من اللاَّزم، واستدل على ذلك بقول الشاعر: [الزجر].
٢١٩ - حَتَّى إذَا اشْتَالَ سُهَيْلٌ في السَّحَرْ كَشُعْلَةِ القَابِسِ تَرْمِي بالشَّرَرْ
قال: ف»
اشْتال «افتعل لمُطاوعة» شال «، وهو لازم، وهذا وهم؛ لأن» افتعل «هنا ليس للمطاوعة، بل بمعنى» فَعَلَ «المجرد.
369
ومعنى الآية أنهم ما كانوا مهتدين من الضلالة، وقيل: مُصِيبين في تِجارتِهم؛ لأنّ المقصود من التِّجَارة سلامةُ رأس المال، والربح، وهؤلاء أضاعوا الأمرين؛ لأن رأس مالهم هو العَقْل الخالي عن المانع، فلما اعتقدوا هذه الضلالات صارت تلك العقائد الفاسدة مانعةً من الاشتغال بطلب العقائد الحقة.
فهؤلاء مع أنهم لم يربحوا فقد أفسدوا رأس المال، وهو العقل الهادي إلى العقائد الحقة.
وقال قتادة:» انتقلوا من الهُدَى إلى الضَّلالة، ومن الطاعة إلى المعصية، ومن الجَمَاعة إلى الفُرْقة، ومن الأمن غلى الخوف، ومن السُّنة إلى البِدْعَةِ «.
370
اعلم أن المقصود من ضرب المِثَالِ أنه يؤثر في القَلْبِ ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، وذلك لأن الغرض من المَثَلِ تشبيه الخَفِيّ بالجَلِيّ والغائب بالشاهد، فيتأكّد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقاً للعقل، وذلك هو النهاية في الإيضاح في الترغيب في الإيمان لذا مثل بالظّلمة، فإذا أخبرت عن ضعف أمر ومثّلته بِنَسْجِ العنكبوت كان ذلك أبلغ في وقعه في القلب بالخبر مجرداً.
قوله: «مثلهم» مبتدأ و «كمثل» جار ومجرور خبره، فيتعلّق بمحذوف على قاعدة الباب، ولا مُبَالاة بخلاف من يقول: إنّ «كاف» التشبيه لا تتعلّق بشيء، والتقدير: مثلهم مستقر كَمَثَلِ. وأجاز أبو البقاء وابن عطية أن تكون «الكاف» اسماً هي الخبر، ونظيره قول الشاعر: [البسيط].
٢٢٠ - أَتَنْتَهُونَ؟ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فيهِ الزَّيْتُ والفُتُلُ
وهذا مذهب الأخفش: يجيز أن تكون «الكاف» اسماً مطلقاً.
وأما مذهل سيبويه فلا يُجِيزُ ذلك إلا في شعر، وأمّا تنظيره بالبيت فليس كما قال؛ لأنّ في البيت نضطر إلى جعلها اسماً لكونها فاعلة، بخلاف الآية.
370
والذي ينبغي أن يقال: إن «كاف» التشبيه لها ثلاثة أحوال:
حال يتعيّن فيها أن تكون اسماً، وهي ما إذا كانت فاعلة، أو مجرورة بحرف، أو إضافة. مثال الفاعل: [البسيط]
٢٢١ - أَتَنْتَهونَ وَلَنْ يَنْهَى....................................
البيت.
ومثال جَرِّها بحرف قول امرئ القَيْسِ: [الطويل]
٢٢٢ - وَرُحْنَا بكَابْنِ المَاءِ يُجْنَبُ وَسْطَنَا تَصَوَّبُ فِيهِ العَيْنُ طَوْراً وَتَرْتَقِي
وقوله: [الوافر]
٢٢٣ - وَزَعْتُ بِكَالْهِرَاوَةِ أَعْوَجِيِّ إذَا وَنَتِ الرُّكَابُ جَرَى وَثابَا
ومثال جَرِّها بالإضافة قوله: [السريع أو الرجز]
٢٢٤ - فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ... وحال يتعيّن أن تكون فيها حرفاً، وهي الواقعة صلة، نحو: جاء الذي كزيد؛ لأن جعلها اسما يستلزم حذف عائد مبتدأ من غير طول الصِّلة، وهذا ممتنع عند البصريين. وحال يجوز فيها الأمران، وهي ما عدا ذلك نحو: «زيد كعمرو».
وأبعد من جعلها زائدة في الآية الكريمة، أي: مثلهم مثل الذي، ونظّره بقوله: «ونظّره يقوله:» فَصُيِّرُوا مثل كعصف «كأنه جعل المثل والمثل بمعنى واحد، والوجه أن المثل - هنا - بمعنى القصّة والتقدير: صفتهم وقصتهم كقصّة المستوقد، فليست زائدةً على هذا
371
التأويل، وهذا جواب عن سؤال أيضاً، وهو أن يقال: قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد﴾ يقتضي تشبيه مثلهم مثل المستوقد، فما مثل المنافقين ومثل المُسْتَوْقِدِ حتّى شّبّه أحدهما بالآخر؟
فالجواب: أن يقال: استعير المثل للقصّة وللصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنه قيل: قصتّهم العجيبةُ كقصّة الذي استوقد ناراً، وكذا قوله: ﴿مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون﴾ [الرعد: ٣٥] أي فيما قصصنا عليه من العَجَائب قصّة الجنّة العجيبة.
﴿وَلِلَّهِ المثل الأعلى﴾ [النحل: ٦٠] أي: الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة.
﴿مَثَلُهُمْ فِي التوراة﴾ [الفتح: ٢٩] أي: وصفهم وشأنهم المتعجّب منه، ولكن المَثَل - بالفتح - ولذلك حوفظ في لفظه فلم يغير.
و «الذي» : في محلّ خفض بالإضافة، وهو موصول للمفرد المذكّر، ولكن المراد به - هنا - جمع ولذلك روعي مّعٍنَاه في قوله: ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ فأعاد الضمير عليه جمعاً، والأولى أن يقال: إنَّ «الذي» وقع وصفاً لشيء يفهم الجمع، ثم حذف ذلك الموصوف للدّلالة عليه.
والتقدير: ومثلهم كمثل الفريق الذي استوقد، او الجمع الذي اسْتَوْقَدَ؛ ويكون قد روعي الوصف مرة، فعاد الضمير عليه مفرداً في قوله: ﴿استوقد نَاراً﴾ و «حوله»، والموصوف أخرى فعاد الضمير عليه مجموعاً في قوله: «بنورهم»، و «تركهم».
وقيل: إنَّ المنافقين ذاتهم لم يشبهوا بذات المُسْتوقد، وإنما شبهت قصّتهم بقصّة المستوقد، ومثله قوله: ﴿مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار﴾ [الجمعة: ٥]، وقوله: ﴿يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت﴾ [محمد: ٢٠].
وقيل: المعنى: ومثل كل واحد منهم كقوله: ﴿يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ [غافر: ٦٧] أي: يخرج كلّ واحد منكم. ووهم أبو البقاء، فجعل هذه الآية من باب ما حذفت منه النُّون تخفيفاً، وأنّ الأصْل: «الذين» ثم خففت بالحذف، وكأنه مثل قوله تعالى: ﴿وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا﴾ [التوبة: ٦٩]، وقول الشاعر: [الطويل].
٢٢٥ - وَإِنَّ الَّذي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ هُمُ القَمْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمُّ خَالِدِ
والأصل: «كالذين خَاضُوا» «وإنَّ الذين حانت». وهذا وَهْم؛ لأنه لو كان من باب
372
ما حذفت النون منه لوجب مُطَابقة الضمير جمعاً كما في قوله تعالى: ﴿كالذي خاضوا﴾ [التوبة: ٦٩] و «دِماؤُهُمْ»، فلما قال تعالى: ﴿استوقد﴾ بلفظ الإفراد تبيّن أحد الأمرين المتقدّمين: إمّا بصلة من باب وقوع المفرد موقع الجمع؛ لأن المراد به الجنس، او أنه من باب ما وقع فيه من صفة لموصوف يفهم الجمع.
وقال الزمخشري ما معناه: إنَّ هذه الآية مثل قوله تعالى: ﴿كالذي خاضوا﴾ [التوبة: ٦٩]، واعتل لتسويغ ذلك بأمرين.
أحدهما: أن «الذي» لما كان وصلةً لوصف المعارف ناسب حذف بعضه لاستطالته، قال: «ولذلك نهكوه بالحذف، فحذفوا ياءه ثم كسرته، ثم اقتصروا منه على اللاَّم في أسماء الفاعلين والمفعولين».
والأمر الثاني: أنّ جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون، إنما ذلك علامةٌ لزيادة الدّلالة، ألا ترى أنَّ سائر المَوْصُولاَتِ لَفْظُ الجَمْعِ والمفرد التي نظر بها.
والوجه الثاني: أنه اعتقد كون الموصول بقيته «الذي»، وليس كذلك، بل «أل» الموصولة اسم موصول مستقلّ، أي: غير مأخوذ من شيء، على أنَّ الراجح من جهة الدَّليل كون «أل» الموصولة حرفاً لا اسماً كما سيأتي.
وليس لمرجّح أن يرجّح قول الزمخشري بأنهم قالوا: إنَّ الميم في قولهم: «مُ الله» بقية «أيمن»، فإذا انتهكوا «أيمن» بالحذف حتى صار على حرف واحد، فأولى أن يقال بذلك فيما بقي على حرفين، لأن «أل» زائدة على ماهية «الذي»، فيكونون قد حذفوا جميع الاسم، وتركوا ذلك الزائد عليه، بخلاف «ميم» «أيمن»، وأيضاً فإن القول بأن «الميم» بقية «أيمن» قول ضعيف مردود يأباه قول الجُمًهُور.
وفي «الَّذي» لُغَاتٌ، أشهرها ثبوت الياء ساكنةً ود تُشَدِّد مكسورة مطلقاً، أو جاريةً بوجوه الإعراب، كقوله: [الوافر]
373
فهذا يحتمل أن يكون مبنيَّا، وأن يكون معرباً. وقد تُحْذَفُ ساكناً ما قبلها؛ كقول الآخر: [الطويل]
٢٢٦ - وَلَيْسَ المَالُ فَاعْلَمْهُ بِمَالٍ وَإِنْ أَرْضَاكَ إلا لِلِّذِيِّ
يَنَالُ بِهِ العَلاَءَ وَيَصْطَفِيِهِ لأَقْرَبِ أَقْرَبَيْهِ وَلِلْقَصِيِّ
٢٢٧ - فَلَمْ أَرَ بَيْتاً كَانً أَحْسَنَ بَهْجَةً مِنَ اللِّذْ بِهِ مِنْ آلِ عَزَّةَ عَامِرُ
أو مكسوراً؛ كقوله: [الرجز]
٢٢٨ - واللِّذِ لَوْ شاءَ لَكَانَتْ بَرَّا أَوْ جَبَلاً أَشَمَّ مُشَمَخِرَّا
ومثل هذه اللغات في «التي» أيضاً.
قال بعضهم: «وقولهم: هذه لغات ليس بجيِّد؛ لأن هذه لم ترد إلاّ ضرورةً، فلا ينبغي أن تسمى لغاتٍ».
و «استوقد» :«استفعل» بمعنى «أَفْعَل»، نحو: «استجاب» بمعنى «أَجَابَ»، وهو رأي الأخفش وعليه قول الشاعر: [الطويل]
٢٢٩ - وَدَاعٍ دَعَا:
يَا مَنْ يَجِيبُ إلى الهُدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
لأي: فلم يجبه.
وقيل: بل السّين للطلب، ورجّح قول الأخفش بأن كونه للطَّلب يستدعي حذف جملة، ألا ترى أن المعنى: استدعوا ناراً فأوقدوها، فلما أضاءت؛ لأن الإضاءة لا تنشأ عن الطلب إنما تنشأ عن الإيقاد.
والفاء في قوله: «فَلَمَّا» للسبب.
وقرأ ابن السَّميفع: «كمثل الذين» بلفظ الجمع، واستوقد بالإقراد، وهي مُشْكلة، وقد خرجوها على أوجه أضعف منها وهي التوهّم، أي: كأنه نطق ب «مَنْ» ؛ إذا أعاد ضمير المفرد على الجمع كقولهم، «ضربني وضربت قومك» أي: ضربني من، أو يعود على اسم فاعل مفهوم من «استوقد»، والعائد على الموصول مَحْذوف، وإن لم يكمل شرط الحذف، والتقدير: استوقدها مستوقدٌ لهم. وهذه القراءة تقوّي قول من يقول: إنّ أصل «الذي» :«الذين»، فحذفت النون.
و «لَمَّا: حرف وجوب لوجوب هذا مذهب سيبويه.
وزعم الفارسي وتبعه أبو البقاء، أنها ظرف بمعنى»
حين «، وأن العامل فيها جوابها،
374
وقد ردّ عليه بأنها أجيبت ب» ما «النافية، و» إذا «الفُجائية، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً﴾
[فاطر: ٤٢].
وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٥]، و «ما»
النافية، و «إذا الفجائية لا يعمل ما بعدهما فيما قبلهما، فانتفى أن تكون ظرفاً.
وتكون بمعنى»
إلاّ «قال تعالى: ﴿وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا﴾ [الزخرف: ٣٥] في قراءة من قرأ بالتَّشديد.
و»
أضاء «: يكون لازماً ومتعدياً، فإن كان متعدياً، ف» ما «مفعول به، وهي موصولة، و» حوله «ظرف مكان مخفوض به، صِلةٌ لها، ولا يتصرّف، وبمعناه: حَوَال؛ قال الشاعر: [الرجز].
٢٣١ - وأَنَا أَمْشِي الدَّأَلَى حَوَالَكَا... ويُثَنَّيان؛ قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:»
اللهُمَّ حَوَالَيْنَا «.
375
ويجمعان على» أَحْوال «.
ويجوز أن تكون»
ما «نكرة موصوفة، و» حوله «صفتها، وإن كان لازماً، فالفاعل ضمير» النار «أيضاً، و» ما «زائدى، و» حوله «منصوب على الظرف العامل فيه» أضاء «. وأجاز الزمخشري أن تكون» ما «فاعلة موصولة، أو نكرة موصولة، وأُنِّثَ الفعل على المعنى، والتقدير: فلما أضاءت الجهةُ التي حوله أو جهةٌ حوله.
وأجاز أبو البقاء فيها أيضاً أن تكون منصوبة على الظرف، وهي حينئذ: إما بمعنى الذي، أو نكرة موصوفة، والتقدير: فلما أضاءت النَّار المكان الذي حوله، أو مكاناً حوله، فإنه قال: يقال: ضاءت النّار، وأضاءت بمعنى، فعلى هذا تكون»
ما «ظرفاً.
وفي» ما «ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون بمعنى الذي.
والثاني: هي نكرة موصوفة، أي: مكاناً حوله.
والثالث: هي زائدة.
وفي عبارته بعض مُنَاقشته، فإنه بعد حكمه على»
ما «بأنها ظرفية كيف يُجَوِّزُ فيها - والحالة هذه - أن تكون زائدة، وإنما أراد في» ما «هذه من حيث الجملة ثلاثة أوجه.
وقول الشاعر: [الطويل]
٢٣٢ - أَضَاءَتٍ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ دُجَى اللَّيْلِ حَتَّى نَظَّمَ الجَزْعَ ثَاقِبُهْ
يحتمل التعدّي واللزوم كالآية الكريمة.
وقرأ ابن السَّمَيْفع:»
ضاءت «ثلاثياً.
قوله:»
ذهب الله بنورهم «هذه الجملة الظاهر أنها جواب ل» ما «.
وقال الزمخشري:»
جوابها محذوف، تقديره: فلما أضاءت خَمَدَتْ «وجعل هذا أبلغ من ذكر الجواب، وجعل جملة قوله: ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ مستأنفة أو بدلاً من جملة التمثيل.
وقد رد عليه بعضهم هذا بوجهين:
أحدهما: أن هذا التقدير مع وجود ما يغني عنه، فلا حاجة إليه؛ إذ التقديرات إنما تكون عند الضَّرورات.
376
والثَّاني: أنه لا تبدل الجملة الفعلية من الجملة الاسمية.
و» بنورهم «متعلّق ب» ذهب «، والباء فيه للتَّعدية وهي مُرادفة للهمزة في التَّعدية، هذا مذهب الجمهور.
وزعم أبو العباس أنَّ بينهما فرقاً، وهو أن الباء يلزم معها مُصاحبة الفاعل للمفعول في ذلك الفِعْلِ الذي فبله، والهزة لا يلزم فيها ذلك.
فإذا قلت: «ذهبت بزيد»
فلا بُدَّ أن تكون قد صاحبته في الذِّهَاب فذهبت معه.
وإذا قلت: أذهبته جاز أن يكون قد صحبته وألاَّ يكون.
وقد رد الجمهور على المُبَرّد بهذه الآية؛ لأن مصاحبته - تعالى - لهم في الذهاب مستحيلة.
ولكن قد أجاب [أبو الحسن] ابن عُصْفور عن هذا بأنه يجوز أن يكون - تعالى - قد أسند إلى نفسه ذهاباً يليق به، كما أسند إلى نفسه - تعالى - المجيء والإتيان على معنى يليق به، وإنما يُرَد عليه بقول الشاعر: [الطويل].
٢٣٣ - دِيارُ الَّتِي كَانَتْ وَنَحْنُ عَلَى مِنَى تَحُلُّ بِنَا لَوْلاَ نَجَاءُ الرَكائِبِ
أي: تجعلنا جلالاً بعد أن كُنَّا مُحْرِمِين بالحج، ولم تكن هي مُحْرِمَة حتى تصاحبهم في الحِلِّ؛ وكذا قول امرئ القيس: [الطويل]
٢٣٤ - كُمِيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ كَمَا زَلَّتِ الصَّفْواءُ بِالمُتَنَزِّلِ
«الصفواء» الصخرة، وهي لم تصاحب الذي تزله.
والضمير في «بنورهم» عائد على مَعْنَى الذي كما تقدم.
وقال بعضهم: هو عائد على مُضاف محذوف وتقديره: كمثل أصحاب الذي استوقد، واحتاج هذا القائل إلى هذا التقدير، قال: حتى يتطابق المشبه والمشبه به؛ لأنّ المشبه جمع، فلو لم يقدر هذا المُضاف، وهو «أصحاب» لزم أن يشبه الجمع بالمفرد وهو الذي استوقد. ولا أدري ما الذي حمل هذا القائل على مَنْعِ تشبيه الجمع بالمفرد في صفة جامعة بينهما، وأيضاً فإنَّ المشبّه والمشبه به إنما هو القصّتان، فلم يقع التشبيه إلاَّ بين قصَّتين إحداهما مُضافة إلى جمع، والأخرى إلى مُفْرد.
377
قوله: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ﴾ ههذه جملة معطوفة.
فإن قيل: لم قيل: ذهب بنورهم، ولم يقل: أذهب الله نورهم؟
فالجواب: أن معنى أذهبه: أزاله، وجعله ذاهباَ، ومعنى ذهب به: إذا أخذه، ومضى به معه، ومنه: ذهب السُّلطان بماله: أخذه، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ﴾ [يوسف: ١٥] فالمعنى: أخذ الله نوره، وأمسكه، فهو أبلغ من الإذهاب، وقرأ اليماني: «أَذْهَبَ اللهُ نُورَهُمْ».
فإن قيل: هلاّ قيل: ذهب الله بضوئهم [لقوله: ﴿فَلَمَّآ أَضَاءَتْ﴾ ؟
الجواب: ذكر النور أبلغ؛ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة.]
فلو قيل: ذهب الله بضوئهم لأوهم ذهاب [الكمال، وبقاء] ما يسمى نوراً والغرض إزالة النُّور عنهم بالكلية، أَلا ترى كيف ذكر عقبيه: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ﴾ والظلمة عبارة عن عدم النور.
وقوله: [ ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ﴾ ] هذه جملة معطوفة على قوله: «ذهب الله»، وأصل الترك: التخلية، ويراد به التّصيير، فيتعدّى لاثنين على الصَّحيح؛ كقول الشَّاعر: [البسيط]
378
فإن قلنا: هو متعدّ لاثنين كان المفعول الأول هو الضمير، والمفعول الثاني: «في ظلمات» و «لا يبصرون» حال، وهي حال مؤكدة؛ لأن من كان في ظلمة فهو لا يُبْصِرُ.
وصاحب الحال: إما الضمير المنصوب، أو المرفوع المُسْتَكِنّ في الجار والمجرور.
ولا يجوز أن يكون «في ظلمات» حالاً و «لا يبصرون» هو المفعول الثاني؛ لأن المفعول الثاني خبر في الأصل، والخبر لا يؤتى به للتأكيد، فإذا جعلت «في ظلمات» حالاً فهم من عدم الإبصار، فلو يفد قولك بعد ذلك: «لا يبصرون» إى التَّأكسد، لكن التأكيد ليس من شَاْنِ الأخبار، بل من شأن الأحوال؛ لأنها فضلات.
ويؤيّد ما ذكرت أن النحويين لما أعربوا قول امرئ القيس: [الطويل]
٢٣٥ - أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ فَقَدْ تَرَكْتَكَ ذَا مالٍ وَذَا نَضَبِ
٢٣٦ - إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ بِشِقِّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوِّلِ
أعربوا: «شقّ» مبتدأ و «عندنا» خبره، و «لم يُحَوَّلِ» خبراً، و «عندنا» صفة ل «شق» مُسَوِّغاً للابتداء به قالوا: لأنه فهم معناه من قوله: «عندنا» ؛ لأنه إذا كان عنده عُلِمَ منه أنه لم يُحَوَّل.
وقد أعربه أبو البَقَاءِ كذلك، وهو مردود بما ذكرت.
ويجوز إذا جعلنا «لا يبصرون» هو المفعول الثاني أن يتعلّق «في ظُلُمَاتٍ» به، أو ب «تركهم»، التقدير: «وتركهم لا يبصرون في ظلمات». وإن كان «ترك» متعدياً لواحد كان «في ظُلُمَاتٍ» متعلّقاً ب «تركهم»، و «لا يبصرون» حال مؤكّدة، ويجوز أن يكون «في ظُلُمَاتٍ» حالاً من الضَّمير المنصوب في «تركهم»، فيتعلّق بمحذوف، و «لا يبصرون»
379
حال أيضاً، إما من الضمير في تركهم، فيكون له حالان، ويجري فيه الخلاف المتقدّم، وإما من الضمير المرفوع المستكنّ في الجار والمجرور قبله، فتكون حالين متداخلتين.

فصل في سبب حذف المفعول


فإن قيل: لم حذف المفعول من «يبصرون» ؟
فالجواب: أنه من قبيل المَتْرُوك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بِالبَالِ، لا من قبيل المقدّر المَنْوِيّ كأنّ الفعل غير متعدٍّ أصلاً.
قال ابن الخطيب: ما وجه التمثيل في أعطي نوراً، ثم سلب ذلك النور، مع أنّ المنافق ليس هو نور، وأيضاً أن من استوقد ناراً فأضاءت قليلاً، فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم، والمنافقون لا انتفاع لهم ألبتة بالإيمان، وأيضاً مستوقد النًَّار قد اكتسب لنفسه النور، والله - تعالى - ذهب بنوره، وتركه في الظُّلمات، والمنافق لم يكتسب خيراً، وما حصل له من الحيرة، فقد أتي فيه من قبل نفسه، فما وجه التَّشبيه؟
والجواب: أنَّ العلماء ذكروا في كيفية التَّشبيه وجوهاً:
أحدها: قال السّدي: إن ناساً دخلوا في الإسلام عند وصوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى «المدينة» ثم إنهم نافقوا، والتشبيه - ها هنا - في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم أولاً اكتسبوا نوراً، ثم ينافقهم ثانياً أبطلوا ذلك النور، ووقعوا في حيرة من الدنيا، وأما المتحيّر في الدِّين، فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبَد الآبدين.
وثانيها: إن لم يصحّ ما قاله السّدي بل كانوا مُنَافقين من أول الأمر، فها هنا تأويل آخر.
قال ابن عباس: وقتادة، ومقاتل، والضحاك، والسدي، والحسن: نزلت في المُنافقين يقول: مَثَلُهُمْ في نِفاقِهِم كَمَثَلِ رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مَغَارةٍ، فاستدفأ، ورأى ما حوله فاتَّقَى مما يخاف، فَبَيْنَا هو كذلك إذْ طُفِئَتْ ناره، فبقي في ظلمة خائفا متحيراً، فكذلك المنافقون بإظهارهم كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم، وأولادهم، وناكحوا المؤمنين، وأورثوهم، وقاسموهم الغَنَائم، وسائر أحكام المسلمين، فذلك نورهم، فإذَا ماتوا عادوا إلى الظُّلْمَةِ والخوف، ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدَّائم مثل الذّرة، شبههم بمستوقد النّار الذي انتفع بضوئها قليلاً، ثم سلب ذلك، فدامت حسرته وحيرته للظُّلمة العَظِيمةِ التي جاءته عقيب النُّور اليسير.
380
وثالثها: أن نقول ليس التَّشبيه في أنَّ للمنافق نوراً، بل وجه التَّشْبيه بالمستوقد أنه لما زال النُّور عنه تحيَّروا تحيُّر من كان في نور ثم زال عنه أشَدّ من تحيّر سالك الطريق في ظلمة مستمرة، لكنه - تعالى - ذكر النور في مستوقد النَّار لكي يصحّ أن يوصف بهذه الظُلمة الشديدة، لا أن وجه التشبيه النور والظلمة.
ورابعها: قال مُجاهد: إنَّ الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به، وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنِّفَاق، ومن قال بهذا قال: إن المثل إنما عطف على قوله: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكْمْ﴾ [البقرة: ١٤] فالنار مثل لقولهم: «آمنا» وذهابه مثل لقولهم للكُفّار «إنا معكم».
فإن قيل: كيف صار ما يُظْهره المنافق من كلمة الإيمان ممثلاً بالنور، وهو حين يتم نُوره، وإنما سمى مجرّد ذلك القول نوراً؛ لأنه قول حقّ في نفسه.
وخامسها: يجوز أن يكون استيقاد النار عبارةً عن إظهار المُنَافق كلمة الإيمان، وإنما سمى نوراً؛ لأنه يتزين به ظاهراً فيهم، ويصير ممدوحاً بسببه فيما بينهم، ثم إنّ الله يذهب ذلك النور بِهَتْكِ ستر المُنافق بتعريف نبيّه والمؤمنين حقيقة أمره، فيظهر له اسم النِّفاق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان، فيبقى في ظُلُمَاتٍ لا يبصر؛ إذ النُّور الذي كان له قبل كَشْفِ الله أمره قد زال.
وسادسها: أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضَّلالة بالهُدَى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هُداهم الذي باعوه بالنار المُضيئة ما حول المستوقد والضَّلالة التي اشتروها، وطلع بها على قُلُوبِهِمْ بذهاب الله بنورهم، وتركه إيّاهم في ظلمات.
وسابعها: يجوز أن يكون المستوقد - ها هنا - مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى، والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار، فإنَّ الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله﴾ [المائدة: ٦٤].
وثامنها: قال سعيد بن جبير: نزلت في اليهود، وانتظارهم لخروج النبي - عليه الصلاو والسلام - لإيقاد النَّار، وكفرهم به بعد ظهوره، كزوال ذلك النور؛ قاله محمد بن كَعْبٍ، وعطاء.
والموقود - هنا - هو سطوع النَّار وارتفاع لهبها.
والنَّار: جوهر لطيف مضيء حامٍ محرق، واشتقاقها من نَارَ يَنُورُ إذا نفر؛ لأن فيها حركةً واضطراباً، والنور مشتق منها، وهو ضوؤها، والمنار العلامة، والمَنَارة هي الشَّيء الذي يؤذن عليها ويقال أيضاً للشيء الذي يوضع عليه السّراج منارة، ومنه النُّورَة لأنها
381
تطهر البدن، والإضاءة فرط الإنارة، ويؤيده قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً﴾ [يونس: ٥].
وما حول الشيء فهو الذي يتّصل به تقول: دار حوله وحواليه.
والحًوْل: السَّنة؛ لأنها تحول، وحال العَهْدِ أي: تغير، ومنه حال لونه.
والحوالة: انقلاب الحّقّ من شخص إلى شخص، والمُحَاولة: طلب الفعل بعد أن لم يكن طالباً له، والحَوَل: انقلاب العَيْنِ، وَالحِوَل: الانقلاب قال تعالى: ﴿لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً﴾ [الكهف: ١٠٨].
والظّلمة: عدم النُّور عما من شأنه أنْ يَسْتَنِيرَ، والظّلم في الأصل عِبَارةٌ عن النُّقصان قال تعالى: ﴿ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً﴾ [الكهف: ٣٣] أي: لم تَنْقُص.
والظّلم: الثلج، لأنه ينقص سريعاً. والظَّلَمُ: ماء آسنٌ وطلاوته وبياضه تشبيعاً له بالثلج.
382
الجمهور على رفعها على أنّها خبر مبتدأ محذوف، هم صم بكم، ويجيء فيه الخلاف المَشْهُور في تعدُّد الخبر، فمن أجاز ذلك حمل الآية عليه من غير تأويل، ومن منع ذلك قال: هذه الأخبار: وإن تعدّدت لفظاً، فهي متحدة معنى؛ لأن المعنى: هم غير قائلين للحق بسبب عَمَهُمْ وصَمَمِهِمْ، فيكون من باب: «هذا حُلْوٌ حَامِضٌ» أي: مُزٌّ، وهذا أعسر أيسر أي: أضبط، وقول الشاعر: [الطويل]
٢٣٧ - يَنَامُ بإِحْدَى مُقْلَتَيْهِ ويَتَّقِي بِأُخْرَى الأَعَادِي، فَهُوَ يَقْظَانُ هَاجِعُ
أي: متحرّز.
أو يقدر لكل خبر مبتدأ تقديره: هم صُمّ بُكْمٌ، هم عُمْيٌ.
والمعنى: أنهم جامعون لهذه الأوصاف الثلاثة، ولولا ذلك لجاز أن تكون هذه الآية من باب ما تعدّد فيه الخبر لتعدّد المبتدأ، كقولك: الزيدون فقهاء شعراء كاتبون، فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن بعضهم فقهاء، وبعضهم شعراء، وبعضهم كاتبون، وأنهم ليسوا جامعين لهذه الأوصاف الثلاثة، بل بعضهم اختصّ بالفقه، والبعض الآخر اختصّ بالشعر، والآخر بالكتابة.
وقرأ بعضهم «صمَّا بكمً عمياً» بالنصب، وفيه ثلاثة أوجه:
382
أحدها: أنه حالٌ، وفيه وجهان:
أحدهما: هو حال من الضمير المنصوب في «تركهم».
والثاني: من المرفوع في «لا يُبًصِرُون».
الثاني: النَّصْب على الذَّم كقوله: ﴿حَمَّالَةَ الحطب﴾ [المسد: ٤] وقول الآخر:
٢٣٨ - سَقَوْنِي الخَمْرَ ثُمَّ تَكَنَّفُونِي عُداةَ اللهِ مِنْ كَذِبٍ وزُورِ
أي: أذمُ عُداة الله.
الثالث: أن يكون منصوباً ب «ترك»، أي: صمَّا بكماً عمياً.
والصّمم: داء يمنع من السَّمَاع، وأصله من الصَّلابة، يقال: قناة صَمّاء: أي: صلبة.
وقيل: أصله من الانسداد، ومنه: صممت القَارُورَة أي: سددتها.
والبَكَمُ: داءٌ يمنع الكلام.
وقيل: هو عدم الفَهْمِ.
وقيل: الأبكم من وُلِدً أَخْرَسَ.
وقوله: «فهم لا يرجعون» جملة خبرية معطوفة على الجملة الخبرية قبلها.
وقيل: بل الأولى دعاء عليهم بالصَّمم، ولا حاجة إلى ذلك.
وقال أبو البقاء: وقيل: فهم لا يرجعون حال، وهو خطأ؛ لأن «الفاء» ترتب، والأحوال لا ترتيب فيها.
و «رجع» يكون قاصراً ومتعدياً باعتبارين، وهذيل تقول:: أرجعه غيره «، فإذا كان بمعنى» عاد «كان لازماً، وإذا كان بمعنى» أعاد «كان متعدياً، والآية الكريمة تحتمل التَّقديرين، فإن جعلناه متعدياً، فالمفعول محذوف، تقديره لا يرجعون جواباً، مثل قوله: ﴿إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ [الطارق: ٨]، وزعم بعضهم أنه يضمَّن معنى» صار «، فيرفع الاسم، وينصب الخبر، وجعل منه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّاراً يَضْرِب بَعْضُكُم رِقابَ بَعْضٍ «.
383
ومن منع جريانه مجرى» صار «جعل المنصوب حالاً.

فصل في المراد بنفي السمع والبصر عنهم.


لما كان المعلوم من حالهم أنهم كانوا يسمعون، وينطقون، ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة فلم يَبْقَ إلاّ تشبيه حالهم لشدة تمسُّكهم بالعناد، وإعراضهم عن سماع القرآن، وما يظهره الرسول من الأدلة والآيات بمن هو أصمّ في الحقيقة فلا يسمع، وإذا لم يسمع لم يتمكّن من الجواب، فلذلك جعله بمنزلة الأَبْكَمِ، وإذا لم ينتفع بالأدلّة، ولم يبصر طريق الرشد، فهو لمنزلة الأعمى.
وقوله: ﴿فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ أي: من التمسُّك بالنفاق فهم مستمرون على نفاقهم أبداً.
وقيل: لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، او عن الضَّلالة بعد أن اشتروها.
وقيل: أراد أنّهم بمنزلة المتحيّرين الّضين بقوا خامدين في مَكَانِهِمْ لا يبرحون، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخرّون؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه؟
384
اعلم أنّ هذا مثل ثانٍ للمنافقين، وكيفية المشابهة من وجوه:
أحدها: أنه إذا حصل السحاب والرعد والبرق، واجتمع مع ظلمة السّحاب ظلمة الليل، وظلمة المَطَرِ عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصَّوَاعق حَذَرَ الموت، وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم، فإذا أضاء لهم مَشَوْا فيه، وإذا ذهب بَقَول في ظلمة عظيمة، فوقفوا متحيّرين؛ لأنّ من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذَهَبَ عنه
384
تشتدّ حيرته، وتعظم الظُّلمة في عينيه أكثر من الذي لم يزل في الظلمة، فشبّه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بالدِّين بهؤلاء الذين وصفهم، إذا كانوا لا يرون طريقاً، ولا يهتدون.
وثانيها: أن المَطَرَ وإن كان نافعاً إلاّ أنه لما وجد في هذه الصُّورة مع هذه الأحوال الضَّارة صار النفع به زائلاً، فكذا إظهار الإيمان نافعٌ للمنافقين لو وافقه الباطن، فإذا فقد منه الاخلاص، وحصل أنواع المَخَافَةِ، فحصلت في المنافقين نهاية الحَيْرَةِ في الدين، ونهاية الخوف في الدنيا؛ لأنّ المنافق يتصور في كل وقت أنه لو حصل الوقوف على باطنه لقتل، فلا يزال الخَوْفُ في قلبه مع النفاق. ورابعها: المراد من الصَّيِّب هو الإيمان والقرآن، والظلمات والرعد والبرق هي الأشياء الشَّاقة على المنافقين من التكاليف كالصَّلاة والصوم وترك الرِّيَاسات، والجهاد مع الآباء والأمّهات، وترك الأديان القديمة، والانقياد لمحمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع شدّة استنكافهم عن الانقياد، فكأنّ الإنسان يبالغ في الاحتراز عن المَطَرِ الصَّيِّب الذي [هو] أشَدُّ الأشياء نفعاً بسبب هذه الأُمُور المُقارنة، كذلك هؤلاء. والمراد من قوله: ﴿كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ﴾ أنّه متى حصل لهم شيء من المَنَافع، وهي عصمة أموالهم ودمائهم، وحصول الغنائم، فإنهم يرغبون في الدِّين.
قوله: ﴿وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ﴾ أي متى لم يجدوا شيئاً من تلك المنافع، فحينئذ يكرهون الإيمان، ولا يرغبون فيه.

فصل في «أو»


في «او» خمسة أقوال:
أظهرها: أنها للتفصيل بمعنى: أنَّ الناظرين في حال منهم من يشبههم بحال المُسْتَوْقد، ومنهم من يشبههم بأَصْحاب صَيِّبٍ هذه صفته.
قال ابن الخطيب: «والثاني أبلغ؛ لأنه أدلُّ على فرط الحيرة».
والثاني: أنها للإبهام، أي: أن الله أَبْهَمَ على عباده تشبيههم بهؤلاء أو بهؤلاء.
والثالث: أنها للشَّك، بمعنى: أنَّ الناظر يشكُّ في تشبيههم.
الرابع: أنها للإباحة.
الخامس: أنها للتخيير، قالوا: لأن أصلها تساوي شيئين فصاعداً في الشك، ثم اتسع فيها، فاستعيرت للتساوي في غير الشك كقولك: «جالس الحسن أو ابن سيرين»
385
يريد أنهما سيّان، وأن يجالس أيهما شاء، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾ [الإنسان: ٢٤]، أي: الإثم والكفر متساويان في وجوب عصيانهما، وزاد الكوفيون فيها معنيين آخرين:
أحدهما: كونها بمعنى «الواو» ؛ وأنشدوا: [البسط]
٢٣٩ - نضال الخِلاَفَةَ أوْ كَانَتْ لَهُ قَدَراً كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
وقال تعالى: ﴿تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ [النور: ٦١] وقال: [الطويل]
٢٤٠ - وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّيَ فَاجِرٌ لِنَفْسِي تُقَاهَا أوْ عَلَيْهَا فُجُورُهًا
قال ابن الخطيب: وهذه الوجوه مطردة في قوله: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤].
المعنى الثاني: كونها بمعنى: «بل» ؛ قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧] وأنشدوا: [الطويل]
٢٤١ - بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى وَصُورَتِها أوْ أَنْتَ في العَيْنِ أمْلَحُ
أي: بل أنت.
و «كصيب» معطوف على «كَمَثَلِ»، فهو في محل رفع، ولا بد من حذف مضافين؛ ليصح المعنى، التقدير يراد: «أو كمثل ذوي صيّب» ولذلك رجع عليه ضمير الجمع في قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم﴾، لأن المعنى على تشبيههم بأصحاب الصَّيِّب لا بالصيب نفسه.
386
و «الصَّيب» المَطَر سمي بذلك لنزوله، يقال: صاب يصوب إذا نزل؛ ومنه: صوَّب رأسه: إذا خفضه؛ قال [الطويل]
٢٤٢ - فَلَسْتُ لإنْسِيَّ ولَكِنْ لِمَلأَكِ تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
وقال آخر: [الطويل]
٢٤٣ - فَلاَ تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمَّرٍ سَقَتْكِ رَوَايَا المُزْنِ حَيْثُ تَصُوبُ
وقيل: إنه من صَابَ يَصُوب: إذا قصد، ولا يقال: صَيّب إلا للمطر الجَوَاد، كان - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يقول: «اللهم اجعله صَيِّباً هَنِيئاً» أي: مطراً جواداً، ويقال أيضاً للسحاب: صَيّب؛ قال الشماخ: [الطويل]
٢٤٤ -..................................... وَأَسْحَمَ دَانٍ صادَقِ الرَّعْدِ صَيِّبِ
وتنكير «صيب» يدلّ على نوع زائد من المطر شديد هائلٍ كما نكرت «النَّار» في التمثيل الأول.
وقرئ «كصائب»، والصَّيب أبلغ.
387
واختلف في وزن «صَيِّب».
فقد ذهب البصرون أنه «فَيَعِل»، والأصل: صَيْوِب أدغم ك «مَيّت» و «هَيّن»، والأصل: مَيوت وهَيْوِن.
وقال بعض الكوفيين: وزنه «فَعِيل» والأصل: صَوِيب بزنة طويل.
قال النحاس: وهذا خطأ؛ لأنه كان ينبغي أن يصح ولا يُعَلّ كطويل، وكذا أبو البقاء.
وقيل وزنه: «فَعْيَل» فقلب وأُدغم.
واعلم أنه إذا قيل بأن الجملة من قوله: ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧] استئنافية، ومن قوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] إنها من وصف المنافقين كانتا جملتي اعتراض بين المتعاطفين، أعني قوله: «كَمَثَل» و «كَصَيِّبٍ» وهي مسألة خلاف منعها الفارسي ورد عليه بقول الشاعر: [الوافر]
٢٤٥ - لَعَمْرِكَ والخُطُوبُ مُغَيِّراتٌ وَفِي طُولِ المُعَاشَرَةِ التَّقَالِي
لَقَدْ بَالَيْتُ مَظْعَنَ أُمٌّ أَوْفَى وَلَكِنْ أُمُّ أَوْفَى لا تُبَالِي
ففصل بين القسم، وهو «لعمرك» وبين جوابه، وهو «لَقَدْ بَالَيْتُ» بجملتين إحداهما: «والخطوب متغيرات».
والثانية: «وفي طول المُعَاشرة التَّقالي».
و «من السماء» يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يتعلّق ب «صيب» ؛ لأنه يعمل عمل الفعل، والتقدير: كمطر يَصُوب من السماء، و «مِنْ» لابتداء الغاية.
والثَّاني: أن يكون في محلّ جر صفة ل «صيب»، فيتعلّق بمحذوف، وتكون «من» للتبغيض، ولا بُدّ حينئذ من حذف مضاف تقديره: كصيّب كائن من أمطار السَّماءِ.
والسماء: هذه المطلّة، وهي في الأصل كل ما عَلاَكَ من سَقْفٍ ونحوه، مشتقة من السُّمو، وهو الإرتفاع، والأصل: سَمَاو، وإنما قُلبت الواو همزة لوقوعها طرفاً بعد ألف زائدة وهو بدل مُطّرد، نحو: «كساء ورداء»، بخلاف «سقاية وشقاوة» لعدم تطرف حرف العلّة، ولذلك لما دخلت عليها تاء التأنيث صحَّت؛ نحو: «سماوة».
قال الشاعر: [الرجز]
388
٢٤٦ - طَيِّ اللَّيالِي زُلُفاً فَزُلَفَا سَمَاوَةَ الهِلاَلِ حَتَّى احْقَوْقَفَا
والسماء مؤنث قال تعالى: ﴿إِذَا السمآء انفطرت﴾ [الانفطار: ١] وقد تذكَّر؛ قال تعالى: ﴿السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ﴾ [المزمل: ١٨] ؛ وأنشد: [الوافر].
٢٤٧ - وَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءَ إلَيْهِ قَوْماً لَحِقْنَا بَالسَّمَاءِ مَعَ السَّحَابِ
فأعاد الضَّمير من قوله: «إلَيْهِ» على «السَّمَاءِ» مذكَّراً، ويجمع على «سَمَاوَاتٍ»، وأَسْمِيَة، وَسُمِيّ «، والأصل» فعول «، إلا أنه أعلّ إعلال» عِصِيّ «بقلب الواوين ياءين، وهو قلب مطّرد في الجمع، ويقلّ في المفرد نحو: عتا - عُتِيًّا، كما شذّ التصحيح في الجمع قالوا:» إنكم لتنظرون في نُحُوٍّ كثيرةٍ «، وجمع أيضاً على» سماء «، ولكن مفرده» سَمَاوة «، فيكون من باب تَمْرَةٍ وتضمْرٍ، ويدلّ على ذلك قوله: [الطويل]
٢٤٨ -.................................. فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَا
ووجه الدّلالة أنه مُيِّزَ به»
سَبْع «ولا تُمَيِّزُ هي وأخواتها إلاّ بجمع مجرور.
وفي قوله:»
من السَّمَاءِ «ردّ على من قال: إن المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأَرْض إلى الهواء، فتنعقد هناك من شدّة برد الهواء، ثم ينزل مرة أخرى، فذاك هو المطر؛ فأبطل الله هذا المذهب بأن بَيّن أن الصِّيب نزل من السَّمَاء، وقال: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً﴾ [الفرقان: ٤٨].
وقال: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣].
قوله: ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ [البقرة: ١٩] يحتمل أربعة أوجه:
أحدها: أن يكون صفة ل»
صَيّب «.
389
الثاني: أن يكون حالاً منه، وإن كان نكرة لتخصصه، إما بالعمل في الجار بعده، أو بصفة بالجار بعده.
الثالث: أن يكون حالاً من الضمير المُسْتَكِنّ في» من السماء «إذا قيل: إنه صفة ل» صَيّب «، فيتعلق في التقادير الثلاثة بمحذوف، إلاّ أنه على القول الأوّل في محلّ جر لكونه صفة لمجرور، وعلى القولين الأخيرين في مَحَلّ نَصْب على الحال.
و «ظلمات»
على جميع هذه الأقوال فاعل به؛ لأنَّ الجار والمجرور والظرف متى اعتمدا على موصوف، أو ذي حالٍ، أو ذي خبر، أو على نَفْي، أو استفهام عملاً عمل الفعل، والأخفش يُعْمِلُهُمَا مطلقاً كالوصف، وسيأتي تحرير ذلك.
الرابع: أن يكون خبراً مقدماً، و «ظلمات» مبتدأ، والجملة تحتمل وجهين:
الأول: الجر على أنها صفة ل «صيب».
والثاني: النَّصْب على الحال، وصاحب الحال يحتمل أن يكون «كصيب»، وإن كان نكرة لتخصيصه بما تقدّمه، وأن يكون الضَّمير المستكن في «من السَّماء» إذا جعل وصفاً ل «صيّب»، والضمير في «فيه» ضمير «الصيب»، واعلم أن جعل الجار صفة أو حالاً، ورفع «ظلمات» على الفاعلية به أَرْجَحُ من جعل ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ جملة برأسها في محلّ صفة أو حال؛ لأنّ الجار أقرب إلى المفرد من الجملة، وأصل الصفة والحال أن يكونا مفردين.
و «رَعْدٌ وبَرْقٌ» : معطوفان على «ظلمات» بالاعتبارين المتقدّمين، وهما في الأصْل مصدران تقول: رَعَدَتِ السماء تَرْعَدُ رَعْداَ، وبَرَقَتْ بَرْقاً.
قال أبو البقاء: وهما على ذلك مُوَحَّدَتَانَ هنا يعني على المصدرية ويجوز أن يكونا بمعنى الرَّاعد والبارق، نحو: رجل عَدْل.
والظاهر أنهما في الآية ليس المُرَاد بهما المصدر، بل جعلا اسماً [للهز واللمعان].
والبرق: اللَّمَعَان، وهو مقصود الآية، ولا حاجة حينئذ إلى جعلهما بمعنى اسم فَاعِلٍ.
وقال علي وابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - وأكثر المفسرين: الرعد: اسم ملك يسوق السَّحاب، والبرق: لَمَعَانُ سَوْط] من نور يزجر به المكل السحاب.
وقيل: الرعد صوت انضغاط السّحاب.
وقيل: تسبيح الملك، والبرق ضحكه.
وقال مجاهد: الرعد اسم الملك؛ ويقال لصوته أيضاً: رعد، والبرق اسم ملك يسوق السحاب.
وقال شهر بن حَوشَبٍ: الرعد ملك يُزْجِي السحاب، فإذا تبددت ضمها فإذا اشتد غضبه طارت من فيه النَّار فهي الصواعق.
390
وقيل: الرعد صوت انحراق الريح بين السحاب. فإن قيل: لم جمع «الظّلمات»، وأفرد «الرعد والبرق» ؟
فالجواب: أن في «ظلمات» اجتمع أنواع منها، كأنه قيل: فيه ظلمات داجيةٌ، ورعد قاصف، وبرق خاطف.
﴿يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ﴾، وهذه الجملة الظاهر أنها لا محلّ لها لاستئنافها كأنه قيل: ما حالهم؟ فقيل: يجعلون.
وقيل: بل لها محلّ، ثم اختلف فيه فقيل: جرّ؛ لأنها صفة للمجرور، أي: أصحاب صيب جاعلين، والضمير محذوف.
أو نابت الألف واللام منابه، تقديره: يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق منه أو من صواعقه.
وقيل: محلُّها نصب على الحال من الضمير في «فيه».
والكلام في العائد كما تقدّم، والجَعْل - هنا - بمعنى الالتقاء، ويكون بمعنى الخَلْق، فيتعدّى لواحد، ويكون بمعنى «صَيَّرَ» أو «سمى»، فيتعدى لاثنين، ويكون للشروع، فيعمل عمل «عسى».
و «أَصَابِعهُمْ» جمع إصبع، وفيها عشر لُغَات: بتثليث الهمزة مع تثليت البَاءِ، والعاشرة «أصبوع» بضم الهمزة.
والواو في «يَجْعَلُون» تعود لِلْمُضَاف المحذوف، كما تقدم إيضاحه.
واعلم أنه إذا حذف المضاف جاز فيه اعتباران:
أحدهما: أن يلتفت إليه.
والثاني: ألا يلتفت إليه، وقد جمع الأمران في قوله تعالى: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤]، والتقدير: وكم من أهل قرية فلم يراعه في قوله: ﴿أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا﴾ [الأعراف: ٤]، ورعاه في قوله تعالى: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] وذكر الأصابع، وإن كان المجهول إنما هو رؤوس الأصابع تسمية للبعض باسم الكُلّ كما في قوله تعالى: ﴿فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: ٣٨]، و ﴿في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق﴾ كلاهما متعلّق بالجعل، و «من» معناها التعليل.
و «الصَّوّاعق» : جمع صاعقة، وهي الضَّجَّة الشديدة من صوت الرعد تكون معها القطعة من النار.
ويقال: «ساعقة» بالسّين، و «صاعقة»، و «صاقعة» بتقديم القاف؛ وأنشد: [الطويل]
391
٢٤٩ - أَلَمْ تَرَ أَنَّ المُجْرِمِين أصَابَهُمْ صَوَاقِعُ لاَ بَلْ هُنَّ فَوقَ الصَّواقِعِ
ومثله قول الآخر: [الرجز]
٢٥٠ - يَحْكُونَ بِالمَصْقُولَةِ القَوَاطِعِ تَشَقُّقَ اليَدَيْنِ بِالصَّوَاقِعِ
وهي قراءة الحسن.
قال النَّحَّاس: وهي لغة «تميم»، وبعض «بني ربيعة»، فيحتمل أن تكون «صاعقة» مقلوبة من «صَاعِقة» ويحتمل ألاّ تكون، وهو الأظهر لثبوتها لغةً مستقلةً كما تقدم.
ويقال: «صقعة» أيضاً، وقد قرأ بها الكسَائي في «الذاريات».
يقال: صُعِقَ زيد، وأصعقه غيره قال: [الطويل]
٢٥١ - تَرَى النُّعَرَاتِ الزُّرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ أُحَادَ وَمَثْنَى أصعَقَتْهَا صَوَاهِلُهْ
وقيل: «الصّاعقة» [قصف رعد ينقض منها شعلة] من نارٍ لطيفة قوية لا تمرُّ بشيء إلاّ أتت عليه إلاّ أنها مع قوتها سريعة الخمود.
وقيل: الصاعقة: قطعة عذاب ينزلها الله على من يَشَاءُ، وروي عن سالم بن عبد الله ابن عمر عن أبيه أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا سمع صوت الرَّعْدِ والصواعق قال: «اللهُمّ لا تقتلنا بغضبك ولا تُهْلكنا بِعَذَابِكَ وَعَافِنَا قبل ذَلِكَ».
قوله: ﴿حَذَرَ الموت﴾ أي: مَخَافَةَ الهلاك، وفيه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول من أجله ناصبه «يجعلون»، ولا يضر تعدّد المفعول من أجله؛ لأن الفعل يعلّل يعلل.
392
الثاني: أنه منصوب على المصدر وعامله محذوف تقديره يحذرون حذراً مثل حَذَرِ الموت. و «الحَذَرُ» و «الحِذَار» مصدران ل «حذر» أي: خاف خوفاً شديداً. واعلم أن المفعول من أجله بالنسبة إلى نصبه وجره بالحرف على ثلاثة أقسام: قسم يكثر نصبه، وهو ما كان غير معرف ب «أل» ولا مضاف نحو: «جئت إكراماً لك».
وقسم عكسه، وهو ما كان معرَّفاً ب «أل» ؛ ومن مجيئه منصوباً قول الشاعر: [الرجز]
٢٥٢ - لا أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ ولَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ
وقسم يستوي فيه الأمران، وهو المضاف كالآية الكريمة، ويكون معرفةً ونكرةً، وقد جمع حاتم الطائي الأمرين في قوله: [الطويل]
٢٥٣ - وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ وأُعْرِضُ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمَا
و «حَذَرَ المَوْتِ» مصدر مضاف إلى المفعول، وفاعله محذوف، وهو أحد المواضع التي يجوز فيها حذف الفاعل وحده.
والثاني: فعل ما لم يسم فاعله.
والثالث: فاعل «أفعل» في التعجُّب على الصحيح، وما عدا هذه لا يجوز فيه حذف الفاعل وحده خلافاً للكوفيين.
والموت: ضد الحياة؛ يقال: مَاتَ يَمُوتُ ويَمَاتُ؛ قال الشاعر: [الرجز]
٢٥٤ - بُنَيَّتي سَيِّدَةَ البَنَاتِ عِيشِي وَلاَ يُؤْمَنُ أَنْ تَمَاتِي
وعلى هذه اللّغة قرئ «مِتْنا» و «مِتُّ» - بكسر الميم - ك «خِفْنَا» و «خَفْتُ»، فوزن «مَاتَ» على اللغة الأولى «فَعَلَ» بفتح العين، وعلى الثانية «فَعِلَ» بكسرها، و «المُوَات» : بالضمِّ المَوْت أيضاً، وبالفتح: ما لا روح فيه، والمَوْتَان بالتحريك ضد
393
الحيوان؛ ومنه قولهم: «اشْتَرِ المَوْتَانَ، ولا تَشْتَرِ الرَّقيق، فإنه في مَعْرَضِ الهَلاَك؛ و» المَوْتَان «بضمّ» الميم «: وقوع الموت في الماشية، ومُوِّتَ فلانٌ بالتشديد للمبالغة؛ قال: [الوافر]
٢٥٥ - فَعُرْوَةُ مَاتَ مَوْتاً مُسْتَرِيحاً فَهَا أَنَا ذَا أُمَوَّتُ كُلَّ يَوْمِ
و»
المُسْتَمِيت «: الأمر المُسْتَرْسِل؛ قال رؤْبَة: [الرجز]
٢٥٦ - وَزَبَدُ البَحْرِ لَهُ كَتِيتُ وَاللَّيْلُ فَوْقَ المَاءِ مُسْتَمِيتُ
قوله: ﴿والله مُحِيطٌ بالكافرين﴾ [البقرة: ١٩].
وهو مجاز أي: لا يفوتونه. فقيل: عالم بهم، كما قال: ﴿أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا﴾ [الطلاق: ١٢].
وقيل: جامعهم وقدرته مُسْتولية عليهم؛ كما قال: ﴿والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ﴾ [البروج: ٢٠].
وقال مجاهد: يجمعهم فيعذبهم»
.
وقيل: يهلكهم، قال تعالى: ﴿إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ﴾ [يوسف: ٦٦] أي: تَهْلِكُوُا جميعاً.
وقيل: «ثَمَّ» مضافٌ محذوفٌ، أي: عقابه محيطٌ بهم.
وقال أبو عَمْرو، والكسَائِيُّ: «الكَافِرِينَ» [بالإمالة] ولا يميلان ﴿أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ [البقرة: ٤١]، وهذه الجملة مبتدأ وخبر.
وأصل «مُحِيط» :«مُحْوِط» ؛ لأنه من حَاطَ يَحُوطُ فأُعِلّ كإِعْلاَلِ «نَسْتِعِين».
والإحاطةُ: حصر الشيء من جميع جهاته، وهذه الجملة قال الزمخشريُّ: «هي اعتراض لا مَحَل لها من الإعراب» كأنه يعني بذلك أن جملة قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ﴾، وجملة قوله: ﴿يَكَادُ البرق﴾ شيءٌ واحد؛ لأنهما من قصّة واحدة؛ فوقع ما بينهما اعتراضاً.
«يَكَادُ» مضارع «كَادَ»، وهي للِمُقَارَبَةِ الفعل، تعمل عمل «كان» إلاَّ أن خبرها لا يكون إلاَّ مُضَارعاً، وشذَّ مجيئُهُ اسماً صريحاً؛ قال: [الطويل]
394
٢٥٧ - فَأُبْتُ إلّى فَهْمٍ وَمَا كِدْتُ آيباً وَكَمْ مِثْلِهَا فَارَقْتُهَا وَهِيَ تَصْفِرُ
والأكثر في خبرها تجرّده من «أن»، عكس «عسى»، وقد شذّ اقترانه بها؛ قال رُؤْبَة: [الرجز]
٢٥٨ - قَدْ كَادَ مِنْ طُولِ البِلَى أَنْ يَمْحَصَا لأنها لمقاربة الفعل، و «أَنْ» تخلص للاستقبال، فتنافيا.
واعلم أن خبرها - إذا كانت هي مثبتة - منفيٌّ في المعنَى، لأنها للمقاربة.
فإذا قلت: «كَادَ زَيْدٌ يَفْعَلُ» كان معناه: قارب الفعل إلاّ أنه لم يفعل، فإذا نُفِيَتِ، انتفى خبرها بطريق الأولَى؛ لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى هو من باب أوبى؛ ولهذا كان قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ [النور: ٤٠] أبلغ من أن لو قيل: لَمْ يَرَهَا، لأنه لم يقارب الرُّؤْيَة، فكيف له بها؟
وزعم جماعة منهم ابن جِنِّي، وأبو البَقَاءِ، وابن عطية أن نفيها إثبات، وإثباتها نفي؛ حتى ألغز بعضُهُمْ فيها؛ فقال: [الطويل]
٢٥٩ - أَنحويَّ هَذَا العَصْرِ مَا هِيَ لَفظةٌ جَرَتْ في لِسَانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودِ
إِذَا نُفِيتْ - والله أَعْلَمُ - أُثْبِتَتْ وَإِنْ أُثْبِتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ
وحكوا عن ذي الرَّمَّة أنه لما أنشد قولَهُ: [الطويل]
٢٦٠ - إذا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
عيب عليه؛ لأنه قال: «لم يكد يَبْرَحُ»، فيكون قد بَرِحَ، فغيَّره إلى قوله: «لَمْ يَزَلْ» أو ما هو بمعناه.
395
والذي غرَّ هؤلاء قوله تعالى: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] قالوا: «فهي هنا منفية» وخبرها مثبت في المعنى؛ لأن الذبح وقع لقوله: «فَذَبَحُوهَا»، والجواب عن هذه الآية من وجهين:
أحدهما: أنه يحمل على اختلاف وقتين، أي: ذبحوها في وقت، وما كادوا يفعلون في وقت آخر.
والثاني: أنه عبّر بنفي مُقَاربة الفعل عن شدَّة تعنُّتهم، وعسرهم في الفعل.
وأما ما حكَوْهُ عن ذي الرُّمَّة، فقد غلَّط الجمهورُ ذا الرمَّة في رجوعِهِ عن قوله الأوَّل، وقالوا: «هو أبلغُ وأحْسَنُ مما [غيَّره إليه].
واعلم أن خبر»
كاد «وأخواتها - غير» عَسَى «- لا يكون فاعله إلاّ ضميراً عائداً على اسمها؛ لأنها للمقاربة أو للشُّرُوع، بخلاف» عسى «، فإنها للترجِّي؛ تقول:» عَسَى زَيْدٌ أَنْ يَقُومُ أَبُوهُ «، ولا يجوز ذلك في غيرها، فأما قوله: [الطويل]
٢٦١ - وَقَفْتُ عَلَى رَبْعٍ لِميَّةَ نَاقَتِي فَمَا زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهْ
وَأَسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ تُكَلِّمُني أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ
فأتى بالفاعل ظاهراً، فقد حمله بعضهم على الشُّذُوذ، ينبغي أن يقال: إنما جاز ذلك؛ لأن الأحجار والملاعب هي عبارة عن الرَّبْعِ، فهي هو، فكأنه قيل: حتَّى كادَ يكلُّمُني؛ ولكنه عبّر [عنه] بمجموع أجزائه.
وأما قول الآخَرِ: [البسيط]
396
فأتى [بفاعل] [خبر] جعل ظاهراً، فقد أجيب عنه بوجهين:
أحدهما: أنه على حذْف مضاف، تقديره: وقد جعل ثوبي إذا ما قمت يثقلني.
والثاني: أنه من باب إقامة السَّبب مقام المُسَبَّبِ، فإن نهوضه كذا متسبَّب عن إثقال ثوبه إيَّاه، والمعنى: وقد جعلت أنهض نَهْضَ الشارب الثَّمل لإثقال ثوبي إيَّاي.
ووزن «كَادَ كَوِدَ» بكسر العين، وهي من ذوات الواو؛ ك «خَافَ» يَخَافُ، وفيها لغةٌ أخرى: فتح عينها، فعلى هذه اللُّغة تضم فاؤها إذا أسندت إلى تاء التكلّم وأخواتها، فتقول: «كُدْتُ، وكُدْنَا» ؛ مثل: قُلْتُ، وقُلْنَا، وقد تنقل كسر عينها إلى فائها مع الإسناد إلى ظاهر، كقوله: [الطويل]
٢٦٢ - وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا ما قُمْتُ يُثْقِلُني ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرِ
وَكُنْتُ أَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً فَصِرْتُ أَمْشي عَلَى أُخْرَى مِنَ الشَّجَرِ
٢٦٣ - وَكِيدَ ضِبَاعُ القُفِّّ يَأْكُلْنَ جُثَّتي وَكِيدَ خِرَاشٌ عِنْدَ ذَلِكَ يَيْتَمُ
ولا يجوز زيادتها خلافاً [للأخفش]، وسيأتي إن شاء الله هذا كله في «كاد» الناقصة.
أما «كاد» التامة بمعنى «مَكَرَ» فوزنها فَعَل بفتح العَيْن من ذوات «الياء» ؛ بدليل قوله: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً﴾ [الطارق: ١٥، ١٦].
و «البرق» اسمها، و «يخطف» خبرها ويقال: خَطِفَ يَخْطَفُ [بكسر عين الماضي، وفتح المضارع، وخَطَفَ يَخْطَفُ] عكس اللغة الأولى وفيه تراكيب كثيرة، والمشهور منها الأولى.
الثانية: يخطِف بكسر الطاء، قرأها مجاهد.
الثالثة: عن الحسن بفتح «الياء والخاء والطاء»، مع تشديد «الطاء»، والأصل: «يَخْتَطِفُ»، فأبدلت «تاء» الافتعال «طاء» للإدغام.
397
الرابعة: كذلك، إلاّ أنه بكسر الطاء على [أنه] أصل التقاء السَّاكنين.
الخامسة: كذلك، إلا أنه بكسر «الخاء» إتباعاً لكسرة الطاء.
السَّادسة: كذلك إلا أنه بكسر الياء أيضاً إتباعاً للخاء.
السابعة: «يختطف» على الأصْل.
الثامنة: يَخْطِّف بفتح الباء، وسكون الخاء، وتشديد الطاء [وهي رديئة لتأديتها إلى التقاء ساكنين.
التاسعة: بضمّ الياء، وفتح الخاء، وتشديد الطاء] مكسورة، والتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية.
العاشرة: «يَتَخَطَّفُ» عن أُبّيّ من قوله: ﴿وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٦٧].
و «الخَطْف» : أخذ شيء بسرعة، وهذه الجملة - أعني قوله: «يَكَادُ البرق يخطف» لا محلّ لها، لأنه استئناف كأنه قيل: كيف يكون حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: يكاد يخطف، ويحتمل أن تكون في محل جر صفة ل «ذوي» المحذوفة: التقدير: كذوي صيِّب كائدٍ البرق يخطف.
قوله: ﴿كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ﴾.
«كُلَّ» نصب على الظرف؛ لأنها أضيفت إلى «ماط الظرفية، والعامل فيها جوابها، وهو» مشوا «.
وقيل:»
ما «نكرة موصوفة ومعناها الوقت أيضاً، والعائد محذوف تقديره: كل وقت أضاء لهم فيه، ف» أضاء «على الأول لا مَحَلَّ له؛ لكونه صلةً، ومحلّه الجر على الثاني.
و «أضاء»
يجوز أن يكون لازماً.
وقال المُبَرِّدُ: «هو متعدّ، ومفعوله محذوف أي: أضاء لهم البَرْقُ الطريق» ف «الهاء» في «فيه» تعود على البَرْقِ في قول الجمهور، وعلى الطَّريق المحذوف في قول المُبَرّد.
و «فيه» متعلّق ب «مشوا»، وطفي «على بابها أي: إنه محيط بهم.
وقيل: بمعنى الباء، ولا بد من حذفٍ على القولين: أي: مشوا في ضوئه: أي بضوئه، ولا محل لجملة قوله:»
مشوا «؛ لأنها مستأنفة، كأنه جواب لمن يقول: كيف يمضون في حالتي ظهور البرق وخفائه؟
والمقصود تمثيل شدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصَّيِّب، وما هم فيه من غاية التحيُّر والجهل بما يأتون، وما يذرون.
398
واعلم أن» كلّ «من ألفاظ العموم، وهو اسم جامع لازم للإضافة، وقد يحذف ما يُضَاف إليه، وهل تنوينه حينئذ تنوين عوض، أو تنوين صرفٍ؟ قولان: والمضاف إليه» كل «إن كان معرفة وحذف، بقيت على تعريفها، فلهذا انتصب عنها الحال، ولا يدخلها الألف واللام، وإن وقع ذلك في عبارة بعضهم، وربما انتصب حالاً، وأصلها أن تستعمل توكيداً ك» أجمع «، والأحسن استعمالها مبتدأ، وليس كونها مفعولاً بها مقصوراً على السماع، ولا مختصّاً بالشعر، خلافاً لزاعم ذلك.
وإذا أضيفت إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي العواملة اللفظية، وإذا أضيفت إلى نكرة تعين اعتبار تلك النكرة فيما لها من ضمير وغيره، تقول:»
كل رجال أَتَوْكَ، فأكرمهم «، ولا يجوز أن تراعي لفظ» كل «فتقول:» كلُّ رجالٍ أتاكَ، فأكْرِمه «، و» كلُّ رجلٍ أتاكَ، فأكْرِمه «ولا تقول» كلُّ رجلٍ أتَوْك، فأكْرِمْهم «؛ اعتباراً بالمعنى، فأما قوله: [الكامل]
٢٦٤ - جَادَتْ عَلَيْه كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدِّرْهَمِ
فراعى المعنى، فهو شاذّ لا يقاس عليه.
وإذا أضيفت إلى معرفة فوجهان، سواء كانت بالإضافة لفظاً؛ نحو: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً﴾ [مريم: ٩٥] فرَاعى لفظ»
كُل «.
أو معنى نحو: [العنكبوت: ٤٠] فراعى لفظها، وقال: ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ [النمل: ٨٧] فراعى المعنى.
وقول بعضهم:»
إن كلما «تفيد التكرار» ليس ذلك من وضعها، وإنما استفيد من العموم التي دلّت عليه.
فإنك إذا قلت: «كلما جئتني أكرمتك» كان المعنى أكرمك في كل فرد [فرد] من جيئاتك إلَيّ.
399
وقرأ ابن أبي عبلة «ضَاءَ» ثلاثياً، وهي تدل علىأن الرباعي لازم.
وقرىء: «وَإِذَا أُظْلِمَ» مبنياً للمفعول، وجعله الزمخشري دالاًّ على أن «أظلم» متعدٍّ، واستأنس أيضاً بقول حَبيبٍ: [الطويل]
٢٦٥ - هُمَا أَظْلَمَا حالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا ظَلاَمَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ
ولا دليل في الآيَةِ؛ لاحتمالِ أنَّ أصله، «وإذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ عليهم»، فلما بني للمفعول حذف الليل، وقام «عَلَيْهِم» مقامه، وأما بينت حبيب فمولّد.
وإنما صدرت الجملة الأولى ب «كلّما» والثانية ب «إذا»، قال الزمخشري: «لأنهم حراصٌ على وجود ما هَمّهم به، معقود من إمكان المشي وتأتِّيه، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقُّفُ والتَّحبُّسُ» وهذا هو الظاهر، إلاَّ أن من النحويين من زعم أن «إذا» تفيد التكرار أيضاً؛ وأنشد: [البسيط]
٢٦٦ - إِذَا وَجَدْتُ أُوَارَ الحُبِّ في كَبِدِي أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ القَوْمِ أَبْتَرِدُ
قال: «معناه معنى» كلما «.
قوله:»
قَامُوا «أي وقفوا أو ثبتوا في مكانهم، ومنهن» قامت السوق «.
قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾.
»
لو «حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، هذه عبارة سيبويه وهي أولى من عبارة غيره، وهي حرف امتناع لامتناع لصحة العبارة الأولى في نحو قوله تعالى: ﴿لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي﴾ [الكهف: ١٠٩].
وفي قوله عليه السلام:»
نِعْمَ العَبْدُ صُهَيْب، لو لم يَخفِ الله لم يَعْصِهِ «وعدم
400
صحّة الثانية في ذلك كما سيأتي محرراً، ولفساد قولهم:» لو كان إنساناً لكان حيواناً «؛ إذْ لا يلزمُ من امتناع الإِنسَانِ امتناعُ الحيوان، ولا يجزم بها خلافاً لقَوْم، فأما قوله: [الرمل]
٢٦٧ - لو يَشَأْ طَارَ بِهِ ذُو مَيْعَةٍ لاَحِقُ الآطَالِ نَهْدٌ ذُو خُصَلْ
وقول الآخر: [البسيط]
٢٦٨ - تَامَتْ فُؤَادَكَ لَوْ يَحْزُنْكَ مَا صَنَعَتْ إِحْدىَ نِسَاءِ بَنِي ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَا
فمن تسكين المتحرك ضرورةً. وأكثر ما تكون شرطاً في الماضي، وقد تأتي بمعنى»
إِن «؛ كقوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ﴾ [النساء: ٩] وقوله: [الطويل]
٢٦٩ - وَلَوْ أَنَّ لَيْلَى الأخْيَليَّةَ سَلَّمَتْ عَلَيّ ودُوني جَنْدَلٌ وَصَفَائِحُ
[لَسَلَّمْتُ تَسْلِيمَ البَشَاشَةِ أَوْ زَقَا إِلَيْهَا صَدًى مِنْ جَانِبِ القَبْرِ صَائِحُ]
ولا تكون مصدريةً على للصحيح، وقد تُشَرَّب معنى التمني، فتنصب المضارع بعد»
الفاء «جواباً لها؛ نحو: ﴿فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ﴾ [الشعراء: ١٠٢] وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى.
قال ابن الخطيب: المشهور أن»
لو «تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، ومنهم من أنكر ذلك، وزعم أنها لا تفيد إلا الرَّبط، واحتج عليه بالآية والخبر:
أما الآية فقوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: ٢٣]، فلو أفادت كلمة»
لو «انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره لزم التَّنَاقض؛ لأن قوله: ﴿وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ﴾ [الأنفال: ٢٣]، يقتضي أنه ما علم فيهم خيراً وما أسمعهم، وقوله: ﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: ٢٣]، يقيد أنه ما أسمعهم، ولا تولوا؛ لكن عدم
401
التولي خير، فيلزم أن يكون قد علم فيهم خيراً، وما علم فيهم خيراً.
وأما الخبر فقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «نعم الرَّجُلُ صُهَيْبٌ لو لم يَخَفِ اللهَ لم يَعْصِهِ» فعلى مقتضى قولهم: يلزم أنه خاف الله وعصاه، وذلك متناقض، فعلمنا أن كلمة «لو» إنما تفيد الربط.
و «شاء» أصله: «شيء» على «فعِل» بكسر العين، وإنما قلبت «الياء» «ألفاً» للقاعدة الممهدة ومفعوله محذوف تقديره ولو شاء الله إذهاباً؛ وكثر حف مفعوله ومفعول «أراد»، حتى لا يكاد ينطق به إلا في الشيء المستغرب؛ كقوله تعالى: ﴿لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً﴾ [الزمر: ٤] ؛ وأنشدوا: [الطويل]
٢٧٠ - وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَماً لَبَكَيْتُهُ عَلِيْهِ وَلَكِنْ سَاحَةُ الصَّبْرِ أَوْسَعُ
واللام في «لذهب» جواب «لو».
واعلم أن جوابها يكثر دخول «اللا» عليه مثبتاً، وقد تحذف؛ قال تعالى: ﴿لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً﴾ [الواقعة: ٧٠].
ويقلّ دخولها عليه منفياً ب «مَا»، ويمتنع دخولها عليه منفياً بغير «مَا» ؛ نحو: «لو قمت لَمْ أَقُمْ» ؛ لتوالي لامين فيثقل، وقد يحذف؛ كقوله: [الكامل]
٢٧١ - لا يُلْفِكَ الرَّاجُوكَ إِلاَّ مُظْهِراً خُلُقَ الكِرَامِ وَلَوْ تكُونُ عَدِيمَا
و «بسمعهم» كتعلّق ب «ذهب».
وقؤئ: «لأَذْهَبَ» فتكون «الياء» زائدة أو تمون فَعَل وأَفْعَل بمعنى، ونحوه ﴿تَنبُتُ بالدهن﴾ [المؤمنون: ٢٠] والمراد من السمع: السماع، أي: لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة.
402
وقيل: لذهب بما استفادوا من العِزِّ والأمان الذي لهم بمنزلة السمع والبصر.
وقر ابن عامر وحمزة «شاء» و «جاء» حيث كان بالإمالة.
قوله: ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
هذه جملة مؤكّدة لمعنى ما قبلها، و «كُلّ شيء» متعلّق ب «قدير» وهو «فعيل» بمعنى «فاعل»، مستق من القُدْرة، وهي القوة والاستطاعة، وفعلها «قَدَرَ» بفتح العين، وله ثلاثة عشر مصدراً: «قدْرَة» بتثليث القاف، و «مَقْدرَة» بتثليث الدال، و «قَدْراً»، و «قَدَراَ»، و «قُدَراَ»، و «قَدَاراً»، و «قُدْرَاناً»، و «مَقِْراً» و «قدير» أبلغ من «قادر»، قاله الزَّجاج.
وقيل: هما بمعنى واحد؛ قال الهَرَوِيّ.
والشيء: ما صحّ أن يعلم من وَجْه ويخبر عنه، وهو في الأصل مصدر «شاء يشاء»، وهل يطلق على المعدوم والمستحيل؟ خلاف مشهور.
فَصْلٌ في بيان المعدوم شيء؟
استدلّ بعضهم بهذه الآية على أن المعدوم شيء، قال: «لأنه - تعالى - أثبت القدرة على الشيء، والموجود لا قدرة عليه؛ لاستحالة إيجاد الموجود، فالذي عليه القُدْرة معدوم وهو شيء، فالمعدوم شيء».
والجواب: لو صَحَّ هذا الكلام لزم أنَّ ما لا يقدر عليه ألا يكون شيئاً، فالموجود إذا لم يقدر الله عليه وجب ألا يكون شيئاً.

فصل في بيان وصف الله تعالى بالشيء


قال ابن الخطيب: احتج جَهْمٌ بهذه الآية على أنه - تعالى - ليس بشيء لأنه - تعالى - ليس بمقدور له، فوجب إلاَّ يكون شيئاً، واحتج أيضاً بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١].
قال: «لو كان الله - تعالى - شيئاً، لكان - تعالى - مثل نفسه، فكان قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] كذب، فوجب ألا يكون شيئاً؛ حتى لا تتناقض هذه الآية».
403
قال ابن الخطيب: وهذا الخلاف في الاسم؛ لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم، قال: واحتج أصحابنا بقوله تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ﴾ [الأنعام: ١٩].
وبقوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] والمستثنى داخل في المستثنى منه، فوجب أن يكون شيئاً.

فصل في أن مقدور العبد مقدور لله تعالى


قال ابن الخطيب: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى، خلافاً لأبي هَاشِم وأبي عَلِيّ.
وجه الاستدلال: أن مقدور العَبْدِ شيء، وكلّ شيء مقدور لله - تعالى - بهذه الآية، فيلزم أن يكون مقدور العبد مقدوراً لله تعالى.

فصل في جواز تخصيص العام


تخصيص العام جائز في الجملة، وأيضاً تخصيص العام بدليل
404
العقل، فإن قيل: إذا كان اللَّفظ موضوعاً للكل، ثم تبين أن الكل غير مراد كان كذباً، وذلك يوجب الطَّعن في كلّ القرآن.
والجواب: أن لفظ «الكُلّ» كما أنه يستعمل في المجموع، فقد يستعمل مجازاً في الأكثر، وإذا كان ذلك مجازاً مشهوراً في اللَّغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذباً، والله أعلم.
405
" يكاد " مضارع " كاد "، وهي لمقاربة الفعل، تعمل عمل " كان " إلا أن خبرها لا يكون مضارعا، وشذ مجيئه اسما صريحا ؛ قال [ الطويل ]
فأُبتَ إلى فهمٍ وما كدت آيباً وكم مثلها فارقتها وهي تصفرُ٣١
والأكثر في خبرها تجرّده من " أن "، عكس " عسى "، وقد شذّ اقترانه بها ؛ قال رؤبة :[ الرجز ].
قد كاد من طول البِلى أن يمحَصَا٣٢
لأنها لمقاربة الفعل، و " أن " تخلص للاستقبال، فتنافيا.
واعلم أن خبرها - إذا كانت هي مثبتة - منفي في المعنى، لأنها للمقاربة.
فإذا٣٣ قلت :" كاد زيد يفعل " كان معناه : قارب الفعل إلا أنه لم يفعل، فإذا نُفيت، انتفى خبرها بطريق الأولى ؛ لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى هو من باب أولى ؛ ولهذا كان قوله تعالى :﴿ لم يكد يراها ﴾ [ النور : ٤٠ ] أبلغ من أن لو قيل : لم يرها، لأنه لم يقارب الرؤية، فكيف له بها ؟
وزعم جماعة منهم ابن جنّي، وأبو البقاء، وابن عطية أن نفيها إثبات، وإثباتها نفي ؛ حتى ألغز بعضهم فيها ؛ فقال :[ الطويل ]
أنحويّ هذا العصر ما هلي لفظة *** جرت في لساني جرهم وثمود
إذا نفيت -والله أعلم- أُثبتت وإن أُثبتت قامت مقام جحود٣٤
وحكوا عن ذي الرمة أنه لما أنشد قوله :[ الطويل ]
إذا غير النّأي المحبّين لم يكد رسيسُ الهوى من حب مَيّة يبرحُ٣٥
عيب عليه ؛ لأنه قال :" لم يكد يبرح "، فيكون قد برح، فغيره إلى قوله :" لم يزل "، أو ما هو بمعناه.
والذي غر هؤلاء قوله تعالى :﴿ فذبحوها وما كادوا يفعلون ﴾ [ البقرة : ٧١ ] قالوا :" فهي هنا منفية "، وخبرها مثبت في المعنى ؛ لأن الذبح وقع لقوله :" فذبحوها "، والجواب عن هذه الآية من وجهين :
أحدهما : أنه يحمل على اختلاف وقتين، أي : ذبحوها في وقت، وما كادوا يفعلون في وقت آخر.
والثاني : أنه عبر بنفي مقاربة الفعل عن شدة تعنّتهم، وعسرهم في الفعل.
وأما ما حكوه عن ذي الرمة، فقد غلّط الجمهور ذا الرمة في رجوعه عن قوله الأول، وقالوا :" هو أبلغ وأحسن مما [ غيره إليه ]٣٦ ".
واعلم أن خبر " كاد " وأخواتها - غير " عسى " – لا يكون فاعله إلا ضميرا عائدا على اسمها ؛ لأنها للمقاربة أو للشروع، بخلاف " عسى "، فإنها للترجي ؛ تقول :" عسي زيد أن يقوم أبوه "، ولا يجوز ذلك في غيرها، فأما قوله :[ الطويل ]
وَقَفْتُ عَلَى رَبْعٍ لِميَّةَ نَاقَتِي فَمَا زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهْ
وَأَسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ تُكَلِّمُني أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ٣٧
فأتى بالفاعل ظاهراً، فقد حمله بعضهم على الشُّذُوذ، وينبغي أن يقال : إنما جاز ذلك ؛ لأن الأحجار والملاعب هي عبارة عن الرَّبْعِ، فهي هو، فكأنه قيل : حتَّى كادَ يكلِّمُني ؛ ولكنه عبّر [ عنه ]٣٨ بمجموع أجزائه.
وأما قول الآخَرِ :[ البسيط ]
وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا ما قُمْتُ يُثْقِلُني ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرِ
وكُنْتُ أَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً فَصِرْتُ أَمْشي عَلَى أُخْرَى مِنَ الشَّجَرِ٣٩
فأتى [ بفاعل ]٤٠ [ خبر ]٤١ جعل ظاهراً، فقد أجيب عنه بوجهين :
أحدهما : أنه على حذْف مضاف، تقديره : وقد جعل ثوبي إذا ما قمت يثقلني.
والثاني : أنه من باب٤٢ إقامة السَّبب مقام المُسَبَّبِ، فإن نهوضه كذا متسبَّب عن إثقال ثوبه إيَّاه، والمعنى : وقد جعلت أنهض نَهْضَ الشارب الثَّمل لإثقال ثوبي إيَّاي.
ووزن " كَادَ كَوِد " بكسر العين، وهي من ذوات الواو ؛ ك " خَافَ " يَخَافُ، وفيها لغةٌ أخرَى : فتح عينها، فعلى هذه اللُّغة تضم فاؤها إذا أسندت إلى تاء المتكلّم وأخواتها، فتقول :" كُدْتُ، وكُدْنَا " ؛ مثل : قُلْتُ، وقُلْنَا، وقد تنقل كسر عينها إلى فائها مع الإسناد إلى ظاهر، كقوله :[ الطويل ]
وَكِيدَ ضِبَاعُ القُفِّ يَأْكُلْنَ جُثَّتي وَكِيدَ خِرَاشٌ عِنْدَ ذَلِكَ يَيْتَمُ٤٣
ولا يجوز زيادتها خلافاً [ للأخفش ]٤٤، وسيأتي إن شاء الله هذا كله في " كاد " الناقصة.
أمّا " كاد " التامة بمعنى " مَكَرَ " فوزنها فَعَل بفتح العَيْن من ذوات " الياء " ؛ بدليل قوله :﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ ﴾ [ الطارق : ١٥، ١٦ ].
و " البرق " اسمها، و " يخطف " خبرها ويقال : خَطِفَ يَخْطَفُ [ بكسر عين الماضي، وفتح المضارع، وخطَفَ يَخْطِفُ ]٤٥ عكس اللغة الأولى وفيه تراكيب كثيرة، والمشهور منها الأولى.
الثانية : يخطِف بكسر الطاء، قرأها مجاهد٤٦.
الثالثة : عن الحسن بفتح " الياء والخاء والطاء "، مع تشديد " الطاء "، والأصل :" يَخْتَطِفُ "، فأبدلت " تاء " الافتعال " طاء " للإدغام.
الرابعة : كذلك، إلاّ أنه بكسر٤٧ الطاء على [ أنه ]٤٨ أصل التقاء السَّاكنين.
الخامسة : كذلك، إلا أنه بكسر " الخاء " إتباعاً لكسرة الطاء.
السَّادسة : كذلك إلا أنه بكسر الياء أيضاً إتباعاً للخاء.
السابعة :" يختطف " على الأصْل.
الثامنة : يَخْطِّف بفتح الياء، وسكون الخاء، وتشديد الطاء [ وهي رديئة لتأديتها إلى التقاء ساكنين.
التاسعة : بضمّ الياء، وفتح الخاء، وتشديد الطاء ]٤٩ مكسورة، والتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية.
العاشرة :" يَتَخَطَّفُ " عن أُبَيّ من قوله :﴿ وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ].
و " الخَطْف " : أخذ شيء بسرعة، وهذه الجملة - أعني قوله :" يَكَادُ البرق يخطف " لا محلّ لها، لأنه استئناف كأنه قيل : كيف يكون حالهم مع ذلك البرق ؟ فقيل : يكاد يخطف، ويحتمل أن تكون في محلّ جر صفة ل " ذوي " المحذوفة : التقدير : كذوي صيِّب كائدٍ البرق يخطف.
قوله :﴿ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ ﴾.
" كُلَّ " نصب على الظرف ؛ لأنها أضيفت إلى " ما " الظرفية، والعامل فيها جوابها، وهو " مشوا ".
وقيل :" ما " نكرة موصوفة ومعناها الوقت أيضاً، والعائد محذوف تقديره : كل وقت أضاء لهم فيه، ف " أضاء " على الأول لا مَحَلّ له ؛ لكونه صلةً، ومحلّه الجر على الثاني.
و " أضاء " يجوز أن يكون لازماً.
وقال المُبَرِّدُ :" هو متعدّ، ومفعوله محذوف أي : أضاء لهم البَرْقُ الطريق " ف " الهاء " في " فيه " تعود على البَرْقِ في قول الجمهور، وعلى الطَّريق المحذوف في قول المُبَرّد.
و " فيه " متعلّق ب " مشوا "، و " في " على بابها أي : إنه محيط بهم.
وقيل : بمعنى الباء، ولا بد من حذفٍ على القولين : أي : مشوا في ضوئه : أي بضوئه، ولا محل لجملة قوله :" مشوا " ؛ لأنها مستأنفة، كأنه جواب لمن يقول : كيف يمضون٥٠ في حالتي ظهور البرق وخفائه ؟
والمقصود تمثيل شدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصَّيِّب، وما هم فيه من غاية التحيُّر والجهل بما يأتون، وما يذرون.
واعلم أن " كلّ " من ألفاظ العموم٥١، وهو اسم جمع لازم للإضافة، وقد يحذف ما يُضَاف إليه، وهل تنوينه حينئذ تنوين عوض، أو تنوين صرفٍ ؟ قولان :
والمضاف إليه " كل " إن كان معرفة وحذف، بقيت على تعريفها، فلهذا انتصب٥٢ عنها الحال، ولا يدخلها الألف واللام، وإن وقع ذلك في عبارة بعضهم، وربما انتصب حالاً، وأصلها أن تستعمل توكيداً ك " أجمع "، والأحسن استعمالها مبتدأ، وليس كونها مفعولاً بها مقصوراً على السماع، ولا مختصّاً بالشعر، خلافاً لزاعم ذلك.
وإذا أضيفت إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي العواملة اللفظية، وإذا أضيفت إلى نكرة تعين اعتبار تلك النكرة فيما لها من ضمير وغيره، تقول :" كل رجال أَتَوْكَ، فأكرمهم "، ولا يجوز أن تراعي لفظ " كل " فتقول :" كلُّ رجالٍ أتاكَ، فأكْرِمه "، و " كلُّ رجلٍ أتاكَ، فأكْرِمه " ولا تقول " كلُّ رجلٍ أتَوْك، فأكْرِمْهم " ؛ اعتباراً بالمعنى، فأما قوله :[ الكامل ]
جَادَتْ عَلَيْه كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدِّرْهَمِ٥٣
فراعى المعنى، فهو شاذّ لا يقاس عليه.
وإذا أضيفت إلى معرفة فوجهان، سواء كانت بالإضافة لفظاً ؛ نحو :﴿ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ﴾ [ مريم : ٩٥ ] فراعَى لفظ " كُل ".
أو معنى نحو :﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ﴾ [ العنكبوت : ٤٠ ] فراعى لفظها، وقال :﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ [ النمل : ٨٧ ] فراعى المعنى.
وقول بعضهم :" إن كلما " تفيد التكرار " ليس ذلك من وضعها، وإنما استفيد من العموم التي دلّت عليه.
فإنك إذا قلت :" كلما جئتني أكرمتك " كان المعنى أكرمك٥٤ في كل فرد [ فرد ]٥٥ من جيئاتك إلَيّ.
وقرأ ابن أبي عبلة٥٦ " ضَاءَ " ثلاثياً، وهي تدل على أن الرباعي لازم.
وقرئ٥٧ :" وَإِذَا أُظْلِمَ " مبنياً للمفعول، وجعله٥٨ الزمخشري دالاًّ على أن " أظلم " متعدٍّ، واستأنس أيضاً بقول حَبيبٍ :[ الطويل ]
هُمَا أَظْلَمَا حالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا ظَلاَمَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ٥٩
ولا دليل في الآيَةِ ؛ لاحتمالِ أنَّ أصله، " وإذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ عليهم "، فلما بني للمفعول حذف الليل، وقام " عَلَيْهِم " مقامه، وأما بينت حبيب فمولّد.
وإنما صدرت الجملة الأولى ب " كلّما " والثانية ب " إذا "، قال الزمخشري :" لأنهم حراصٌ على وجود ما هَمّهم به، معقود من إمكان المشي وتأتِّيه، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقُّفُ والتَّحبُّسُ " ٦٠ وهذا هو الظاهر، إلاَّ أن من النحويين من زعم أن " إذا " تفيد التكرار أيضاً ؛ وأنشد :[ البسيط ]
إِذَا وَجَدْتُ أُوَارَ الحُبِّ في كَبِدِي أَقْبَلْتُ٦١ نَحْوَ سِقَاءِ القَوْمِ أَبْتَرِدُ٦٢
قال :" معناه معنى " كلما " ".
قوله :" قَامُوا " أي وقفوا أو ثبتوا٦٣ في مكانهم، ومنه :" قامت السوق ".
قوله :﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾.
" لو " حرف لما كان سيقع٦٤ لوقوع غيره، هذه عبارة سيبويه وهي أولى من عبارة غيره، وهي حرف امتناع لامتناع لصحة العبارة الأولى في نحو قوله تعالى :﴿ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي ﴾
[ الكهف : ١٠٩ ].
وفي قوله عليه السلام :" نِعْمَ العَبْدُ صُهَيْب، لو لم يَخفِ الله لم يَعْصِهِ " ٦٥ وعدم صحّة الثانية في ذلك كما سيأتي محرراً، ولفساد قولهم :" لو كان إنساناً لكان حيواناً " ؛ إذْ لا يلزمُ من امتناع الإنْسَانِ امتناعُ الحيوان، ولا يجزم بها خلافاً لقَوْم، فأما قوله :[ الرمل ]
لو يَشَأْ طَارَ بِهِ ذُو مَيْعَةٍ لاَحِقُ الآطَالِ نَهْدٌ ذُو خُصَلْ٦٦
وقولُ الآخر :[ البسيط ]
تَامَتْ فُؤَادَكَ لَوْ يَحْزُنْكَ مَا صَنَعَتْ إِحْدىَ نِسَاءِ بَنِي ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَا٦٧
فمن تسكين المتحرك ضرورةً. وأكثر ما تكون شرطاً في الماضي، وقد تأتي بمعنى " إِنْ " ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ ﴾ [ النساء : ٩ ] وقوله :[ الطويل ]
اعلم أنه - تعالى - لما بين أحكام الفِرَقِ الثلاث - أعني المؤمنين والكفار والمنافقين - أقبل عليهم بالخطاب وهو من باب «الالتفات».
405
«يا» حرف نداء وهي أم الباب.
وزعم بعضهم أنها اسم فعل، وقد تحذف نحو: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا﴾ [يوسف: ٢٩].
وينادي بها المندوب والمستغاث. قال أبو حيان: «وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلاَّ بها».
وزعم بعضهم أن قراءة: «أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ» [الزمر: ٩] بتخفيف الميم أن الهمزة فيه للنداء، وهو غريب، وقد يراد بها مجرد التنبيه فيليها الجمل الاسمية والفعلية، قال تعالى: ﴿أَلاَّ يَسْجُدُواْ﴾ [النمل: ٢٥] بتخفيف أَلاَ؛ وقال الشاعر: [الطويل]
٢٧٢ - أَلاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَةِ سِنْجَالِ.................................
وقال آخر: [البسيط]
وَلَوْ أَنَّ لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةَ سَلَّمَتْ عَلَيّ وَدُوني جَنْدَلٌ وَصَفَائِحُ
[ لَسَلَّمْتُ تَسْلِيمَ البَشَاشَةِ أَوْ زَقَا إِلَيهَا صَدًى مِنْ جَانِبِ القَبْرِ صَائِحُ ]٠
٢٧٣ - يا لَعْنَةُ اللهِ وَالأَقْوَامِ كُلُّهِمُ وَالصَّالِحِينَ عَلَى سمْعَانَ مِنْ جَارِ
و «أي» اسم منادى في محلّ نصب، ولكنه بني على «الضم» ؛ لأنه مفرد معرفة، وزعم الأخفش أنها هنا موصولة، وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ مضمر، والجملة صلةٌ، والتقدير: «يا الَّذِين هُمُ النَّاس»، والصحيح الأول، والمرفوع بعدها صفة لها، [والمشهور] : يلزم رفعه، ولا يجوز نصبه على المحلّ خلافاً للمازني.
406
و «ها» زائدة للتنبيه لازمة لها، والمشهور فتح هَائِهَا، ويجوز ضمُّها إتباعاً للياء، وقد قرأ ابن عامر بذلك في بعض المواضع نحو «أَيُّهُ المُؤْمِنُونَ» [النور: ٣١] والمرسوم يساعده.
ولا توصف «أي» هذه إلا بما فيه الألف واللام، أو بموصول هما فيه، أو باسم إشارة نحو: ﴿ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر﴾ [الحجر: ٦] وقال الشاعر: [الطويل]
٢٧٤ - ألاَ أَيُّهَذَا النَّابِحُ السِّيدَ إِنَّنِي عَلَى نَأْيهَا مُسْتَبْسِلٌ مِنْ وَرَائِهَا
وفسر بعضهم يا زيد: أنادي زيداً، وأخاطب زيداً، وهو خطأ من وجوه:
أحدهما: أن قوله: «أنادي زيداً» خبر يحتمل الصدق والكذب، وقوله: يا زيد لا يحتملهما.
وثانيها: أن قولنا: «يا زيد» يقتضي أن زيداً منادى في الحال، و «أنادي زيداً» لا يقتضي ذلك.
وثالثها: أن قولنا: «يا زيد» يقتضي صيرورة زيد خاطباً هذا الخطاب، و «أنادي زيداً» لا يقتضي ذلك؛ لأنه لا يمكن أن يخبر إنساناً آخر بأن أنادي زيداً.
ورابعها: أن قولنا: أنادي زيداً إخبار عن النداء، والإخبار عن النداء غير النداء.
واعلم أن «يا» حرف وضع في أصله لنداء البعيد، وإن كان لنداء القريب، [لكن بسبب أمر مهم جدًّا، وأما نداء القريب فله: «أي» والهمزة] ثم استعمل في نداء من سها وغفل وإن قرب، تنزيلاً له منزلة البعيد.
فإن قيل: فلم يقول الداعي: «يا رب»، «يا الله» وهو أقرب إليه من حبل الوريد؟
قلنا: هو استبعاد لنفسه من مَظَانّ الزُّلْفَى، إقراراً على نفسه بالتقصير.
و «أي» وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام كما أن «ذو» الذي وصلة إلى وصلة إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل، وهو اسم مبهم، فافتقر إلى ما يزيل إبهامه، فلا بد وأن يردفه اسم جنس، أو ما جرى مجراه، ويتصف به حتى يحصل المقصود بالنداء.
ول «أي» معانٍ أخر كالاستفهام، والشرط، وكونها موصولة، ونكرة موصوفة لنكرة، وحالاً لمعرفة. و «النَّاس» صفة «أي»، أو خبر محذوف حسب ما تقدم من الخلاف.
407
و «اعبدوا ربكم» جملة أمرية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية.
«الَّذي خَلَقَكُمْ» فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: نصبه على النَّعت ل «ربكم».
الثَّاني: نصبه على القطع.
الثالث: رفعه على القطع أيضاً. وقد تقدّم معناه.

فصل في تقسيم ورود النداء في القرآن الكريم


قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْه: «يا أيُّهَا النَّاسُ» خطاب لأهل «مكة» و «يا أيُّهَا الَّذِين آمَنُوا» لأهل «المدينة»، ورد على قوله هذه الآية بان البقرة مدنية.
وقال غيره: كلّ ما كان في القرآن من قوله: «يا أيها الذين آمنوا» فهو مدني.
وأما قوله: ﴿يَاأَيُّهَا الناس﴾ فمنه مكّي، ومنه [مدني] وهذا خطاب عام؛ لأنه لفظ جمع معرف، فيفيد العموم، لكنه مخصوص في حقّ ما لا يفهم، كالصَّبي، والمجنون، والغافل، ومن لا يقدر، لقوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦].
ومنهم من قال: إنه مخصوص في حق العبيد، لأنّ الله - تعالى - أوجب عليهم طاعة مواليهم، واشتغالهم بطاعة المولى كمنعهم عن الاشتغال بالعبادات، والأمر الدَّال على وجوب طاعة المولى أخصّ من الأمر الدَّال على وجوب العبادة، والخاصّ مقدّم على العام، والكلام على هذا مذكور في أصول الفقه.
قال ابن الخطيب: قوله: ﴿يَاأَيُّهَا الناس﴾ يتناول جميع الناس الموجودين في ذلك العصر، فهل يتناول الَّذين سيوجدون بعد ذلك أم لا؟
قال: «والأقرب أنه لا يتناولهم؛ لأن قوله: ﴿يَاأَيُّهَا الناس﴾ خطاب مُشَافهة، وخطاب المُشَافهة مع المعدوم لا يجوز»، وأيضاً فالذين سيوجدون ما كانوا موجودين في تلك الحالة، وما لا يكون موجوداً لا يكون إنساناً، فلا يدخل تحت قوله: ﴿يَاأَيُّهَا الناس﴾.
فإن قيل: فوجب أن يتناول أحداً من الَّذين وجدوا بعد ذلك الزمان، وإنه باطل قطعاً.
قلنا: لو لم يجد دليل منفصل لكان الأمر كذلك، إلاَّ أنا عرفنا بالتَّواتر من دين
408
محمد أن تلك الخطابات ثابتة في حَقِّ من سيوجد بعد ذلك إلى قيام السَّاعة؛ فلهذه الدلالة المنفصلة أوجبنا العموم.

فصل في المراد بالعبادة في القرآن


قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْه: «كلّ ما ورد في القُرْآن من العبادة فمعناها التوحيد».
وقال ابن الخطيب: قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ﴾ أمر كلّ واحد بالعبادة، فهل يفيد أمر الكلّ بكل عبادة؟ الحقّ لا؛ لأن قوله: ﴿اعبدوا﴾ معناه: أدخلوا هذه الماهية في الوجود، فإذا أتوا بفرد من أفراد هذه الماهيّة في الوجود فقد أدخلوا الماهية في الوجود؛ لأن الفرد من أفراد الماهية مشتمل على الماهية، لأن هذه العبادة عبارة عن العِبَادَةِ مع قيد كونها هذه، ومتى وجد المركب فقد وجد فيه قيده، فالآتي بفرد من أفراد العبادة أتى بالعبادة، وأتى بتمام ما اقتضاه قولنا: «اعْبُدُوا»، وإذا كان كذلك وجب خروجه عن العهدة.

فصل في قول منكري التكليف


ذكر ابن الخطيب عن منكري التكليف أنهم لا يجوِّزون ورود الأمر من الله - تعالى - بالتكاليف لوجوه:
منها أنَّ الَّذي ورد به التكليف: إما أن يكون قد علم الله في الأزل وقوعه، أو علم أنه لا يقع، أو لم يعلم لا هذا ولا ذاك، فإن كان الأوّل كان واجب الوقوع، فلا فائدة في الأمر به، وإن علم أنه لا يقع كان ممتنع الوقوع، فكان الأمر به أمراً بإيقاع الممتنع، وإن لم يعلم لا هذا ولا ذاك كان ذلك قولاً بالجهل على الله، وهو محال.
وأيضاً فورود الأمر بالتكاليف إمَّا أن يكون لفائدة، أو لا لفائدة، فإن كان لفائدة فإما أن يعود إلى المعبود، أو إلى العابد، أمّا إلى المعبود فمحال؛ لأنه كامل لذاتهن والكامل لذاته لا يكون كاملاً بغيره، ولأنا نعلم بالضرورة أنّ الإله العالي على الدَّهر والزمان يستحيل أن ينتفع بركوع العبد وسجوده. وإن كانت الفائدة تعود إلى العابد فمحال؛ لأن جميع الفوائد محصورة في حصول اللَّذَّة ودفع الألم، وهو - سبحانه وتعالى - قادر على تحصيل كلّ ذلك للعبد، من غير واسطة هذه المشاق، فيكون توسّطها عبثاً،
409
والعبث غير جائز على الحكيم. وأيضاً إنَّ العبد غير موجد لأفعاله؛ لأنه غير عالم بتفاصيلها، ومن لا يعلم تفاصيل الشيء لا يكون موجداً له، وإذا لم يكن العبد موجداً لأفعال نفسه، فإن أمره بذلك الفعل حالة ما خلقه فيه فقد أمره بتحصيل الحاصل، وإن أمره حالة ما لم يخلقه فيه فقد أمره بالمحال، وكل ذلك باطل.
وأجاب ابن الخطيب بوجهين:
أحدهما: أن أَصْحَابَ هذه الشّبه، أوجبوا بما ذكروه اعتقاد عدم التَّكليف، فهذا التكليف ينفي التكليف، وإنه متناقض.
والثاني: أن عندنا يحسن من الله كل شيء، سواء كان ذلك تكليف ما لا يطاق أو غيره؛ لأنه - تعالى - خالقٌ مالكٌ، والمالك لا اعتراض عليه في فِعْلِهِ.
والخَلْق اختراع الشَّيء على غير مِثَالٍ سبق، وهذه الصِّفة ينفرد بها الباري تعالى، ويُطْلَقُ أيضاً على التقْدِيرِ «؛ قال زُهَيْر: [الكامل]
٢٧٥ - وَلأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي
وقال الحَجَّاج: «ما خَلَقْتُ إلاَّ فَرَيْتُ وَلاَ وَعَدْتُ إلاَّ وَفَيْتُ»
وهذه الصّفة لا يختص بها الله تعالى، وقد غلط أبو عبد الله البصري في أنه لا يطلق اسم «الخَالِقِ» على الله - تعالى؛ قال: «لأنه مُحَالٌ، وذلك أن التقدير والتسوية في حقِّ اللهِ ممتنعانِ، لأنهما عبارة عن التفكُّر والزَّن»، وكأنه لم يسمع قوله تعالى: ﴿هُوَ الله الخالق البارىء﴾ [الحشر: ٢٤] ﴿الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر: ٦٢]، وكأنَّه لا يعلَم أن الخَلْق يكون عبارة عن الإنشاء والاختراع.
قوله: ﴿والذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ محلّه العطف على المنصوب في «خلقكم» و «من قبلكم» صلة «الذين»، فيتعلّق بمحذوف على ما تقرر. و «من» لابتداء الغاية، واستشكل بعضهم وقوع «من قبلكم» صلة من حيث إن كل ما جاز أن يخبر به جاز أن يقع صلة، و «من قبلكم» ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة إلا بتأويل، فكذلك الصّلة.
قال: وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف صح الإخبار والوصل به تقول: «نحن في يوم طيب»، فيكون التقدير هنا - والله أعلم - «والَّذِينَ مِنْ قَبْلَكُمْ» - بفتح الميم -.
410
قال الزمخشري: ووجهها على إشكالها أن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأوّل وَصِلَتِهِ تأكيداً، كما أقحم جرير في قوله: [البسيط]
٢٧٦ - يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيِّ لاَ أَبَا لَكُمُ...............................
تيْماً الثاني بين الأوَّل، وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضَافةِ بين المضاف والمضاف إلَيْه في نَحْو: «لاَ أَبَا لَكَ» قيل: هذا الذي قاله مذْهَبٌ لبعضهم؛ ومنه قوله: [الطويل]
٢٧٧ - مِنَ النَّفَرِ اللاَّءِ الَّذِينَ إذَا هُمُ يَهَابُ اللِّئَامُ حَلْقَةَ البَابِ قَعْقَعُوا
ف «إذا» وجوبها صلةُ «اللاَّء»، ولا صلةَ للذين؛ لأنه توكيد للأول، إلا أن بعضهم يرد هذا القول، ويجعله فاسداً من جهة أنه لا يؤكد الحرف إلا بإعادة ما اتّصل به، فالموصول أولى بذلك، وخرج الآية والبيت على أن «مَنْ قَبْلَكُمْ» صلةٌ للموصول الثَّاني، والموصول الثَّاني وصلته خبر لمبتدأ محذوف، والمبتدأ وخبره صلة الأول، والتقدير: «والَّذين هُمْ مِنْ قَبْلِكُم»، وكذا [البيت] فجعل «إذا» وجوابها صلةً [للَّذِينَ، واللَّذِينَ خبر لمبتدأ محذوف، وذلك المبتدأ وخبره صلة] ل «اللاء»، ولا يخفَى ما في هذا التعسُّف.
قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
«لعل» واسمها وخبرها، وإذا ورد في كلام الله - تعالى - فللناس فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن «لَعَلّ» على بابها من الترجّي والإطماع، ولكن بالنسبة إلى المخاطبين، أي: لعلَّكم تتقون على رجائكم وطمعكم؛ وكذا قاتل سيبويه في قوله تعالى:
﴿لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى﴾ [طه: ٤٤] : أي: اذْهَبَا على رجائِكُمَا.
411
والثَّاني: أنها للتعْليل: أي: اعْبُدُوا ربَّكُم؛ لِكَيْ تَتَّقُوا، وبه قال قُطْرُبٌ، والطبريُّ وغيرُهُما؛ وأنشدوا: [الطويل]
٢٧٨ - وقُلْتُمْ لَنَا:
كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنَا نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ
فَلَمَّا كَفَفْنَا الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ كَلَمْعِ سَرَابٍ في المَلاَ مُتَأَلِّقِ
أي: لنكُفَّ الحَرْبَ، ولو كانت «لَعَلّ» للترجِّي، لم يقل: وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ.
والثَّالث: أنها للتعَرُّض للشيْءِ؛ كأنه قيل: افْعَلُوا ذلك متعرضِّين لأن تَتَّقُوا.
وقال القَفَّال: «لعل» مأخوذةٌ من تكرير الشيء لقولهم: عللاً بعد نَهَلِ، و «اللام» فيها هي «لام» التأكيد كاللام التي تدخل في «لقد»، فأصل «لعل» : طعل «؛ لأنهم يقولون:» علك أن تفعل كذا «: أي لعلك. وإن كانت حقيقة في التكرير والتأكيد، كان قول القائل: افعل كذا لعلّك تظفر بحاجتك. معناه: افعله؛ فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه، وهذه الجملة على كل قول متعلّقة من جهة المعنى ب» اعبدوا «أي: اعبدوا على رجائكم التَّقوى، أو لتتقوا، أو متعرّضين للتقوى، وإليه مال المهدوي، وأبو البقاء.
وقال ابن عطيّة:»
[يتجه] تعلّقها بخلقكم، لأنَّ كل مولود يولد على الفطرة، فهو بحيث يرجى أن يكون متقياً «، إلاَّ أن المهدوي منع من ذلك.
قال: لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي، ولم يذكر الزمخشري غير تعلّقها ب»
خلقكم «ثم رتب على ذلك سؤالين:
أحدهما: أنه كما خلق المُخاطبين لعلّهم يتقون، كذلك خلق الذين من قبلهم لذلك فلم خصّ المخاطبين بذلك دون من قبلهم؟
وأجاب عن ذلك بأنه لم يقصر عليهم، بل غَلّب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادة الجميع.
السُّؤال الثاني: هلا قيل:»
تعبدون «لأجل» اعبدوا «أو اتقوا لمكان» تتقون «ليتجاوب طرفا النظم؟
وأجاب بأن التقوى ليست غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النَّظْم، وإنَّما التقوى قصارى أمر العابد، وأقصى جهده.
412
قال أبو حَيَّان: وأما قوله: ليتجاوب طرفا النَّظم، فليس بشيء؛ لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم، إذ يصير اللفظ: اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون، وهذا بعيد في المعنى؛ إذ هو مثل: اضرب زيداً لعلك تضربه، واقصد خالداً لصحّته أن يكون» لعلكم تتقون «متعلّقاً بقوله:» اعبدوا «فالَّذي نودوا لأجله هو الأمر بالعبادة، فناسب أن يتعلّق بها ذلك، وأتى بالموصول وصلته في سبيل التوضيح، أو المدح الذي تعلقت به العبادة، فلم يُجَأْ بالموصول ليحدّث عنه، بل جاء في ضمن المقصود بالعيادة، فلم يكن يتعلّق به دون المقصود، وأجاب بعضهم عن كلام الزمخشري بأنه جعل» لعل «متعلّقة ب» خلقكم «لا ب» اعبدوا «، فلا يصير التقدير: اعبدوا لعلكم تعبدون، وإنما التقدير: اعبدوا الذي خلقكم لعلكم تعبدون؛ أي خلقكم لأجل العبادة، يوضِّحه:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
وفي «لَعَلّ»
لغاتٌ كثيرةٌ، وقد يُجَرُّ بها؛ قال: [الوافر]
٢٧٩ - لَعَلَّ اللهِ فَضَّلَكُمْ عَلَيْنَا بِشَيْءٍ أَنَّ أُمَّكُمُ شَرِيمُ
ولا تنصب الاسمين على الصحيح، وقد تدخل «أَنْ» في خبرها؛ حملاً على «عَسَى» ؛ قال: [الطويل]
٢٨٠ - لَعَلَّكَ يَوْماً أنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ..........................
وقد تأتي للاستفهام والتعليل كما تقدم، ولكن أصلها أن تكون للترجّي والطمع في المحبوبات والإشفاق من المكروهات ك «عسى»، وفيها كلام طويل يأتي في غضون هذا الكتاب إن شاء الله تَعَالَى.
و «تَتَّقَونَ» أصله «توتقيون» ؛ لأنه من «الوقاية»، فأبدلت الواو ياء قبل تاء الافتعال، وأدغمت فيها، وقد تقدم ذلك في «المتقين»، ثم استثقلت «الضّمة» على «الياء» فقدرت، فسكنت الياء والواو بعدها، فحذفت الياء لالتقاء السَّاكنين، وضمت القاف لتجانسها، فوزنه الآن «تفتعون»، وهذه الجملة أعني «لعلكم تتقون» لا يجوز أن تكون حالاً؛ لأنها طلبية، وإن كانت عبارة بعضهم تُوهمُ ذلك، ومفعول «تتقون» محذوف أي: تتقون الشرك، أو النار.
413
فَصْلٌ في الاستدلال بالآية على الصانع
هذه الآية تدلّ على الصانع القادر الفاعل المختار، سأل بعض الدهرية الشَّافعي - رضي الله تعالى عنه - ما الدَّليل على الصانع؟ فقال: ورقة الفِرْصَاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم؟ قالوا: نعم.
قال: فتأكلها دودة القَزّ فيخرج منها الإبْرَيْسم، ويأكلها النحل فيخرج منها العَسَل، والشَّاة فيخرج منها البَعَر، وتأكلها الظِّبَاء فينعقد في نوافجها المسك، فمن الذي جعلها لذلك مع أن الطَّبع واحد؟ فاستحسنوا ذلك وآمنوا على يديه، وكانا سبعة عشر.
وسئل أبو حنيف - رَضِيَ اللهُ عَنْه - عن الصَّانع فقال: الوالد يريد الذكر، فيكون أنثى، وبالعكس فيدلّ على الصَّانع. وتمسك أحمد بن حنبل بقلعة حصينة مَلْسَاء لا فُرْجَةَ فيها، ظاهرها كالفضّة المُذّابة، وباطنها كالذهب الإبريز، ثم انشقت الجدران، وخرج من القلعة حيوان سميع بصير، فلا بُدّ من الفاعل؛ عنى بالقلعة البيضة، وبالحيوان الفرخ.
وقال آخر: عرفت الصَّانع بنحلة بأحد طرفيها عسل، وبالآخر لسع، والعسل مقلوب لسع. فإن قيل: ما الفائدة في قوله ﴿والذين مِن قَبْلِكُمْ﴾، وخلق الذين من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم. والجواب: أن الأمر وإن كان على ما ذكر ولكن علمهم بأن الله - تعالى - خلقهم كعلمهم بأنه خلق من قبلهم؛ لأن طريقة العلم بذلك واحدة.
وأيضاً أن من قبلهم كالأصول لهم، وخلق الأصول يجري مجرى الإنعام على الفروع، كأنه - تعالى - يذكرهم عظيم إنعامه عليهم، أي: لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت، بل كنت منعماً عليك قبل أن وجدت بألوف سنين، بسبب أني كنت خالقاً لأصولك.
فإن قيل: إذا كانت العبادة تقوى فقوله: ﴿اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ما وجهه؟
والجواب من وجهين:
الأول: لا نسلّم أن العبادة نفس التقوى، بل العبادة فعل يحصل به التقوى؛ لأن الاتِّقاء هو الاحتراز عن المَضَارّ، والعبادة فعل المأمور به، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز، بل موجب الاحتراز، فإنه - تعالى - قال: ﴿اعبدوا رَبَّكُمُ﴾ لتحترزوا به عن عقابه.
وإذا قيل في نفس الفعل: «إنه اتقاء» فذلك غير ما يحصل به الاتقاء، لكن لما اتصل أحد الأمرين بالآخر أجري اسمه عليه.
414
الثاني: أنه - تعالى - إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا، على ما قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] فكأنه - تعالى - أمر بعبادة الرَّبِّ الذي خلقهم لهذا الغرض، وهذا التأويل لائق بأصول المعتزلة.
فَصْلٌ في القراءات في الآية
قرأ أبو عمرو: خَلَقَكُمْ بالإدغام، وقرأ ابن السَّميفع: «وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُم».
قوله: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ﴾ يحتمل النصب والرَّفع، فالنصب من خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون نصبه على القطع.
الثاني: أنه نعت لربكم.
الثالث: أنه بدل منه.
الرابع: أنه مفعول ل «تتقون»، وبه قال أبو البقاء.
الخامس: أنه نعت النعت، أي: الموصول الأول، لكن المختار أن النعت لا ينعت، بل إن جاء ما يوهم ذلك جعل نعتاً للأول، إلا أن يمنع مانع فيكون نعتاً للنعت، نحو قولهم: «يا أيها الفارس ذو الجمة» فذو الجمة نعت للفارس لا ل «أي» ؛ لأنها لا تنعت إلا بما تقدم ذكره.
والرَّفع من وجهين:
أحدهما وهو الأصح: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو الذي جعل.
والثاني: أنه مبتدأ، وخبره قوله بعد ذلك: فلا تجعلوا لله، وهذا فيه نظر من وجهين:
أحدها: أنّ صلته ماضية فلم يشبه الشرط، فلا يزاد في خبره «الفاء».
الثاني: عدم الرابط، إلا أن يقال بمذهب الأخفش، وهو أن يجعل الربط مكرر الاسم الظَّاهر إذا كان بمعناه نحو: «زيد قام أبو عبد الله» إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد، وكذلك هنا أقام الجلالة مقام الضَّمير، كأنه قال: الذَّي جعل لكم، فلا تجعلوا له أنداداً.
و «الذي» كلمة موضوعة للإشارة إلى المفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كقولك: ذهب الرجل الذي أبوه منطلق، فأبوه منطلق قضية معلومة، فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الَّذي، وهو يحقّق قولهم: إنه مستعمل لوصف المعارف بالجمل.
415
وإذا ثبت هذا فقوله: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً﴾ يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشاً، والسّماء بناءً، وذلك تحقيق قوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ [لقمان: ٢٥].
و «جعل» فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون بمعنى «صَيَّر» فتتعدى لمفعولين فيكون «الأرض» مفعولاً أول، و «فراشاً» مفعولاً ثانياً.
والثاني: أن يكون بمعنى «خلق» فيتعدّى لواحد وهو «الأرض» ويكون «فراشاً» حالاً.
و «السماء بناء» عطف على «الأرض فراشاً» ونظيره قوله: ﴿أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً﴾ [النمل: ٦١] وقوله: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ [طه: ٥٣].
واعلم أن كون الأرض فراشاً مشروط بأمور:
قال ابن الخطيب: أحدها: كونها ساكنة؛ فإنها لو كانت متحركة لم يمكن الانتفاع بها لما تقرر في المعقولات.
الثاني: ألا تكون في غاية الصَّلابة كالحجر؛ فإن النّوم عليه والمشي مما يؤلم البدن، وأيضاً لو كانت الأرض من الذَّهب مثلاً لتعذّرت الزراعة ولتعذّر حفرها، وتركيبها لما يراد.
وألاَّ تكون في غاية اللين كالماء الذي تغوص فيه الرِّجْل.
الثالث: ألاّ يكون في غاية اللّطافة والشفافية؛ فإن الشفّاف لا يستقر النور عليه، وما كان كذلك ف"نه لا يسخن بالشمس فكان يبرد جدًّا، فجعل كيفية لونه أخضر ليستقر النور عليهن فيتسخن فيصلح أن يكون فراشاً للحيوانات.
الرابع: أن تكون بارزةً من الماء؛ لأن طبع الأرض أن يكون غائصاً في الماء فكان يجب أن تكون البحار محيطةً بالأرض، ولو كانت كذلك لما كانت فراشاً لنا، فقلب الله طبيعة الأرض وأخرج بعض أجزائها [من المياه] كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشاً لنا.
416
ومن الناس من زعم أن الشرط في كون الأرض فراشاً ألا تكون كرة واستدل بهذه الآية، وهذا بعيد؛ لأن الكرة إذا عظمت جدًّا كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الاستقرار عليه، والذي يؤيده كون الجبال أوتاداً للأرض ويمكن الاستقرار عليها، فها هنا أولى.
فَصْلٌ في منافع الأرض وصفاتها
فأولها: الأشياء المتولّدة فيها من المعادن، والنبات، والحيوان، والآثار العلوية والسّفلية، ولا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى.
وثانيها: اختلاف بقاع الأرض، فمنها أرض رخوة، وصلبة، ورملة، وسبخة، وحرّة، قال تعالى: ﴿وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ﴾ [الرعد: ٤].
وقال تعالى: ﴿والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً﴾ [الأعراف: ٥٨].
وثالثها: اختلاف طعمها وروائحها.
ورابعها: اختلاف ألوانها فأحمر، وأبيض، وأسود، ورمادي، وأغبر، قال تعالى: ﴿وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ [فاطر: ٢٧].
وخامسها: انصداعها بالنبات، قال تعالى: ﴿والأرض ذَاتِ الصدع﴾ [الطارق: ١٢].
وسادسها: كونها خازنةً للماء المنزل، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض﴾ [المؤمنون: ١٨].
وسابعها: العيون والأنهار العظام.
وثامنها: ما فيها من المَفَاوِزِ والفَلَواتِ ﴿والأرض مَدَدْنَاهَا﴾ [ق: ٧].
وتاسعها: أن لها طبع الكرم؛ لأنك تدفع إليها حبّة وهي تردها عليك سبعمائة ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ﴾ [البقرة: ٢٦١].
وعاشرها: حَبَاتها بعد موتها ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا﴾ [يس: ٣٣].
الحادي عشر: ما فيها من الدَّواب المختلفة الألوان والصّور والخلق، ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾ [البقرة: ١٦٤].
الثانية عشرة: ما فيها من النبات المختلف ألوانه، وأنواعه، ومنافعه: ﴿وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [ق: ٧].
وفي اختلاف ألوانها دلالة، واختلاف روائحها دلالة، فمنها قوت البشر، ومنها
417
قوت البهائم: ﴿كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ﴾ [طه: ٥٤] ومطعوم البشر، فمنها الطعام ومنها الإدام، ومنها الرَّوَاء، ومنها الفاكهة، ومنها الأنواع المختلفة في الحَلاَوَةَ والحموضة، ومنها كسوة البشر؛ لأن الكسوة إمّا نباتية وهي القطن والكتان، وإما حيوانية وهي الشَّعَر والصُّوف، والأَبْرَيْسَم، والجاود، وهي من الحيوانات التي بثّها الله في الأرض، فالمطعوم من الأرض، والملبوس من الأرض؛ ثم قال: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٨].
وفيه إشارة إلى منافع كثيرة لا نعلمها نحن، والله [تعالى عالم بها]،
فَصْلٌ
قال بعضهم: السَّماء أفضل من الأرض لوجوه:
أحدها: أن السَّماء متعبَّد الملائكة، وما فيها عُصي الله فيها.
وثانيها: لما أتى آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الجَنّة بتلك المعصية قيل: اهبط من الجنة، وقال الله: «لا يسكن في جواري من عَصَاني».
وثالثها: ﴿وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾ [الأنبياء: ٣٢] وقوله: ﴿تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً﴾ [الفرقان: ٦١] ولم يذكر في الأرض مثل ذلك.
ورابعها: في أكثر الأمر ورد ذكر السَّماء مقدماً على الأرض في الذكر.
وقال آخرون: بل الأرض أفضل؛ لوجوه:
أحدها: أنه - تعالى - وصف بقاعاً في الأرض بالبركة ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً﴾ [آل عمران: ٩٦]، ﴿فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة﴾ [القصص: ٣٠] ﴿إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء: ١].
ووصف أرض «الشام» بالبركة فقال: ﴿مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ [الأعراف: ١٣٧].
ووصف جملة الأرض بالبركة فقال: ﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض﴾ [فصلت: ٩] إلى قوله: ﴿وَبَارَكَ فِيهَا﴾ [فصلت: ١٠].
فإن قيل: فأي بركةٍ في الفَلَواتِ الخالية، والمَفَاوزِ المُهْلِكَةِ؟
قلنا: إنها مساكن الوحوش ومرعاها، ومَسَاكن النَّاس إذا احتاجوا إليها، فلهذه البركة قال تعالى: ﴿وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات: ٢٠] وهذه الآيات وإن كانت حاصلةً لغير المؤمنين، لكن ممَّا لم ينتفع بها إلا الموقنون جعلها آيات للمؤمنين تشريفاً لهم كما قال: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢].
418
وثانيها: أنه - سبحانه - خلق الأنبياء المكرمين من الأرض على ما قال: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ [طه: ٥٥] ولم يخلق من السماء شيئاً، لأنه قال: ﴿وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾ [الأنبياء: ٣٢].
وثالثها: أن الله - تعالى - أكرم نبيّه، فجعل الأرض كلها مسجداً، وجعل ترابها طهوراً.
فَصْلٌ في فَضْلِ السَّمَاءِ
وهو من وجوه:
الأول: أن الله - تعالى - زيَّنَهَا بسبعة أشياء: بالمصابيح ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ﴾ [الملك: ٥].
وبالقمر ﴿وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً﴾
[نوح: ١٦] وبالشمس: ﴿وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً﴾ [نوح: ١٦].
وبالعرش، وبالكرسي، وباللوح المحفوظ، وبالقلم، فهذه السَّبعة ثلاثة منها ظاهرة، وأربعة مثبتة بالدلائل السَّمعية.
الثاني: انه - تعالى - سمّاها بأسماء تدلّ على عظم شانها سماء، وسقفاً محفوظاً، وسبعاً طباقاً، وسبعاً شداداً، ثم ذكر عاقبة أمرها فقال: ﴿وَإِذَا السمآء فُرِجَتْ﴾ [المرسلات: ٩]، ﴿وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ﴾ [التكوير: ١١]، ﴿إِذَا السمآء انفطرت﴾ [الانفطار: ١]، و ﴿إِذَا السمآء انشقت﴾ [الانشقاق: ١]، ﴿يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ﴾ [الأنبياء: ١٠٤]، ﴿تَكُونُ السمآء كالمهل﴾ [المعارج: ٨]، ﴿يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً﴾ [الطور: ٩]. ﴿فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان﴾ [الرحمن: ٣٧].
وذكر مبدأها فقال: ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصلت: ١١] وقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: ٣٠] فهذا الاستقصاء والتشديد في كيفية حدوثها وفنائها يدلُّ على أنه - سبحانه وتعالى - خلقها لحكمة بالغة على ما قال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾ [ص: ٢٧].
الثَّالث: أنه - تعالى - جعل السَّماء قِبْلَةَ الدعاء، فالأيدي تُرفع إليها، والوجوه تتوجّه نحوها، وهي منزل الأنوار، ومحل الضياء والصّفاء، والطهارة، والعصمة من الخلل والفَسَاد.
والبناء: مصدر «بنيت»، وإنما قلبت «الياء» همزة لتطرُّفها بعد ألف زائدة، وقد يراد به المفعول، و «أنزل» عطف على «جعل» و «من السماء» متعلّق به، وهي لابتداء الغاية،
419
ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أن تكون حالاً من «ما» ؛ لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها نصيب حالاً، وحينئذ معناها التبعيض، وثَمَّ مضاف محذوف أي: من مياه السماء ماء.
وأصل «ماء» موه بدليل قولهم: «مَاهَتِ الرَّكِيَّةُ تَمُوهُ» وفي جمعه مياه وأمواه، وفي تصغيره: مويه، فتحركت «الياء» وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً، فاجتمع حرفان خفيفان: «الأف» و «الهاء»، فأبدلوا من «الهاء» أختها وهي الهمزة؛ لأنها أجلد منها.
فإن قيل: كيف قال: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ [البقرة: ٢٢] وإنما ينزل من السَّحاب؟ فالجواب أن يقال: ينزل من السَّماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض.
فَصْلٌ في أوجه ورود لفظ الماء
قال أبو العباس المقري: ورد لفظ الماء في القُرْآن على ثلاثة أوجه:
الأوّل: بمعنى الماء المُطْلَق كهذه الآية.
الثاني: بمعنى النّطفة. قال تعالى: ﴿خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ﴾ [الطارق: ٦].
وقوله: ﴿مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾ [السجدة: ٨].
الثالث: بمعنى القرآن. قال تعالى: ﴿أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد: ١٧] بمعنى القرآن، احتمله الناس على قَدَرٍ.
قوله: «فاخرج» عطف على «أنزل» مرتب عليه، و «به» متعلق به، و «الباء» فيه للسببية، و «من الثمرات» متعلّق به أيضاً، و «من» هنا للتبعيض، كأنه قصد بتنكير الماء والرزق معنى البعضِيّة، كأنه قيل: وأنزل من السماء بعض الماء، فأخرج به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم؛ إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات، إنما ذكر بعض رزقهم.
وأبعد من جعلها زائدة لوجهين:
أحدهما: زيادتها في الواجب، وكون المجرور بها معرفةً، وهذا لا يقول به بَصْرِيّ ولا كُوفِيّ إلاّ أبا الحسن الأَخْفَشَ.
والثاني: أن يكون جميع الثمرات رزقاً لنا. وهذا يخالف الواقع؛ إذ كثير من الثمرات ليس رزقاً لنا. وجعلها الزمخشري لبيان الجنس، وفيه نظر؛ إذ لم يتقدم ما يبين هذا، وكأنه يعني أنه بيان ل «رزقاً» من حيث المعنى.
و «رزقاً» ظاهره أنه مفعول به ناصبه «أخرج»، ويجوز أن يكون «من الثمرات» في موضع المفعول به، والتقدير: فأخرج ببعض الماء بعض الثمرات، وفي «رزقاً» حينئذ وجهان:
420
أحدهما: أن يكون حالاً على أن الرزق بمعنى المرزوق كالطَّحْن والرَّعْي.
والثاني: أن يكون مصدراً منصوباً على المفعول من أجله، وفيه شروط النصب موجودة.
وأجاز أبو البقاء أن يكون «من الثمرات» حالاً من «رزقاً» ؛ لإنه لو تأخر لكان نعتاً، فعلى هذا يتعلق بمحذوف.
وجعل الزمخشري «من الثمرات» واقعاً موقع الثمر، أو الثمار، يعني مما ناب فيه جمع قلّة عن جمع الكَثْرة نحو: ﴿كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ﴾ [الدخان: ٢٥] و ﴿ثَلاَثَةَ قرواء﴾ [البقرة: ٢٢٨]، ولا حاجة تدعو إلى هذا؛ لأن جمع السَّلامة المحلَّى ب «أل» الَّتي للعموم يقع للكثرة، فلا فَرْقَ إذن بين الثَّمَرَات والثِّمَار، ولذلك ردَّ المحقِّقون قول من رَدَّ على حَسَّان بن ثابت رَضِيَ اللهُ عَنْه: [الطويل]
٢٨١ - لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحَى وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مَنْ نَجْدَةٍ دَمَا
قالوا: كان ينبغي أن يقول: «الجِفَان»، و «سيوفنا» ؛ لأنه أمدح، وليس بصحيح؛ لما ذكرت قبل ذلك.
و «لكم» يحتمل التعلّق ب «أخرج»، ويحتمل التعلّق بمحذوف، على أن يكون صفة ل «رزقاً». هذا إن أريد بالرزق المرزوق، وإن أريد به المصدر، فيتحمل أن تكون الكاف في «لكم» مفعولاً بالمصدر واللام مقوية له نحو: «ضربت ابني تأديباً له» أي: تأديبه.
قوله: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً﴾ «الفاء» للتسبب أي: تسبب عن إيجاد هذه الآيات الباهرة النهي عن اتخاذكم الأنداد، و «لا» ناهية، و «تجعلوا» مجزوم بها، علامة جزمه حذف النون، وهي هنا بمعنى تُصَيِّرُوا.
وأجاز أبو البَقَاءِ أن تكون بمعنى: تُسَمُّوا، وعَلَى القولين فيتعدى لاثنين.
أولهما: «أنداداً».
421
وثانيهما: الجار والمجرور قبله، هو واجب التقديم، و «أنداداً» جمع نِدّ.
وقال أبو البقاء: «أنداداً» جمع «نِدّ» و «نديد»، وفي جعله «نديد» نظر؛ لأنّ أفعالاً يحفظ في فعيل بمعنى فاعل، نحو: شريف وأشراف، ولا يقاس عليه.
فإن قيل: بم تعلّق قوله: «فلا تجعلوا» ؟
فالجواب فيه وجوه:
أحدها: أن يتعلّق بالأمر أي: اعبدوا، ولا تجعلوا لله أنداداً، فإن أصل العبادة التوحيد.
وثانيها: ب «لعل» على أن ينتصب ب «تجعلوا» انتصاب «فَاطَّلِع» في قراءة حَفْصٍ.
قال الزمخشري: والمعنى خلقكم لكي تتقوا، وتخافوا عقابه فلا تثبتوا له ندًّا، فإنه من أعظم موجبات العقاب، فعلى هذا تكون «لا» نافية، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» في جواب الترجي، وهذا لا يجيزه البصريون، وسيأتي تأويل «فَاطَّلِعَ»، ونظائِرِه في موضعه إنْ شَاءَ الله تعالى.
وثالثها: بقوله: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً﴾
إذا جعلت «الذي» خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الذي خلق لكم هذه الدلائل الباهرة فلا تتخذوا له شريكاً.
و «النِّدُّ» المقاوم المُضاهي، سواءٌ كان مِثْلاً، أو ضدًّا، أو خلافاً.
وقيل: هو الضِّدُّ عن أبي عُبَيْدة.
وقيل: الكُفْء والمِثْلُ؛ قَال حَسَّان: [الوافر]
٢٨٢ - أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الفِدَاءُ
أي: «وَلَسْتُ لَهُ بِكُفْءٍ».
وقد رُوِيَ ذلك؛ وقال آخر: [الرمل]
422
وقال الزمخشري: النِّدُّ المِثْلُ: ولا يقال إلا للنِّدِّ المخالف؛ قال جرير: [الوافر]
٢٨٣ - نَحْمَدُ اللهَ وَلاَ نِدَّ لَهُ عِنْدَهُ الخَيْرَ وَمَا شاءَ فَعَلْ
٢٨٤ - أَتَيْماً تَجْعَلُونَ إِلَيَّ نِدًّا وَمَا تَيْمٌ لِذِي حَسَبٍ نَدِيدُ
ونَادَدْتُ الرّجل: خالفته ونافرته، من: نَدَّ َيَنِدُّ نُدُوداً، أي: نَفَر.
ومنه الحديث: «أيّ بعيرٍ نَدّ فأعياهم».
ويقال: «نَدِيدَة» على المبالغة؛ قال لَبِيد: [الطويل]
٢٨٥ - لِكَيْلاَ يَكُونَ السَّنْدَرِيُّ نَدِيدَتِي وَأَجْعَلَ أَقَوَاماً عُمُوماً عَمَاعِمَا
وأما «النِّد» بفتح النون فهل التَّلُّ المرتفع، والنِّدُّ الطيب أيضاً، ليس بعربي.
وقرأ محمد بن السَّمَيْفَع: «فلا تَجْعَلُوا للهِ نِدًّا».
فإن قيل: إنهم بم يقولوا: إن الأصنام تنازع الله.
قلنا: لما عبدوها وسموها آلهة أشبهت حالهم حَالَ من يعتقد أنها آلهة قادرة على منازعته فقيل لهم ذلك على سبيل التهكُّم بهم.
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال،
423
ومفعول العلم متروك، لأن المعنى، وأنتم من أهل العلم، أو حذف اختصاراً أي: وأنتم تعلمون بطلاق ذلك، والاسم من «أنتم» قيل: «أن» و «التاء» حرف خطاب يتغير بحسب المخاطب، وقيل: بل «التاء» هي الاسم، و «أن» عماد قبلها «
وقيل: بل هو ضمير برمته وهو ضمير رفع منفصل وحكم ميمه بالنسبة إلى السكون والحركة والإشباع والاختلاس حكم»
ميم «هم، وقد تقدّم جميع ذلك. والمعنى: إنكم لكمال عقولكم تعلمون أن هذه الأشياء لا يصح جعلها أنداداً لله - تعالى - فلا تقولوا ذلك؛ فإن القول القبيح ممن علم قبحه يكون أقبح.
وهذا الخطاب للكافرين، والمنافقين، قاله ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه.
فإن قيل: كيف وصفهم بالعِلْمِ، وقد نعتهم بالخَتْمِ، والطَّبْعِ، والصَّمَمِ، والعمى؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: وأنتم تعلمون العلم الخاص أن الله خلق، وأنزل الماء، وأنبت الرزق، وهو المنعم عليهم دون الأَنْدَادِ.
الثاني: وانتم تعلمون وحدانيته بالفرد والإمكان لو تدبرتم ونظرتم، وفي هذا دليل على استعمال حجج المعقول، وإبطال التقليد. وقال ابن فوُرِك: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين، والمعنى: لا ترتدوا أيها المؤمنون، وتجعلوا لله أَنْدَاداً بعد علمكم بان الله واحد.
فَصْلٌ في فرق المشركين
قال ابن الخطيب: ليس في العالم أحد يثبت له شريكاً يساويه في الوجود، والقدرة، والعلم، والحكم، هذا مما لم يوجد، لكن الثنوية يثبتون إليهن، أحدهما: حكيم يفعل الخير، والثاني: سفيه بفعل الشر؛ وأما اتخاذ معبود سوى الله، فالذاهبون إلى ذلك فرق.
فمنهم عبدة الكواكب.
ومنهم الصَّائبة فإنهم يقولون: إنَّ الله - تعالى - خلق هذه الكواكب، وهي مدّبرات لهذا العالم قالوا: فيجب علينا أن نعبد الكواكب، والكواكب تعبد الله تعالى.
424
الفريق الثاني: الَّذين يعبدون المسيح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
425
الثالث: عبدة الأوثان. واعلم انه لا دين من أديان الكفر أقدم من دين عبادة النار؛
426
لأنه يروى أنّ النّار لما أكلت قربان «هابيل» جاء «إبليس» إلى قابيل «، وأخبره أنها إنما أكلت قربان أخيه، لنه عبدها، فعبدت النار من ذلك الوقت.
وقيل: لا دين من أديان الكفر أقدم من دين الأوثان؛ لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ لأنه إنما جاء بالرد عليهم على ما أخبر الله - تعالى - عن قومه في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً﴾ [نوح: ٢٣] فعلمنا أن هذه المقالة كانت موجودةً قبل نوح عليه الصلاة والسَّلام باقية إلى الآن، والمذهب الذي هذا شأنه، فيستحيل معرفة فساده بالضرورة، لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه السَّاعة ليس هو الذي خلقه وخلق السماء والأرض علم ضروري، فيستحيل إطباق الجمع العظيم عليه؛ فوجب أن يكون لعبدة الأوثان غرض آخر سوى ذلك، والعلماء ذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: ما ذكره أبو معْشَرٍ جَعْفَرُ بن محمد المنجم البَلْخي أن كثيراً من أهل»
الصِّين «و» الهند «كانوا يقولون بالله، وملائكتهن ويعتقدون أنه - تعالى - جسم وصورة كأحسن ما يكون من الصُّور، وهكذا حال الملائكة أيضاً في صورهم الحسنة، وأنهم كلّهم قد احتجبوا عنا بالسماء، وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر، حسنة المرأى، على الهيئة التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة، فيعكفون على عبادتها قاصدين به طلب الزُّلْفَى إلى الله - سبحانه - وملائكته.
فإن صَحّ ما قال أبو معشر، فالسَّبب في عبادة الأوثان اعتقاد الشبه.
وثانيها: ما ذكر أكثر العلماء أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب؛ فإنه بحسب قرب الشمس وبعدها عن سمت الرأس يحدث الفصول المختلفة، والأحوال المتباينة، ثم إنهم رصدوا أحوال سائر الكواكب، فاعتقدوا ارتباط السعودة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس، فلما اعتقدوا ذلك
427
بالغوا في تعظيمها، فمنهم من اعتقد أنها أشياء واجبة الوجود لذواتها، وهي التي خلقت هذه العوالم، ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة للإله الأكبر، لكنها [خالقة لهذا] العالم، فالأولون اعتقدوا أنها هي الإله في الحقيقة، والآخرون أنها هي الوسائط بين الله وبين البشر، فلا جرم اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها، ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار اتخذوا لها أصناماً، وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادات الأجرام العالية، ومتقرّبين إلى أشباحها الغائبة، ثم لما طالت المدة ألغوا ذكر الكواكب وتجرّدوا لعبادة تلك التماثيل، فهؤلاء في الحقيقة عبدة الكواكب.
وثالثها: أن أصحاب الأحكام كانوا يعيّنون سنين متطاولة، نحو الألف والألفين، ويزعمون أن [من اتخذ] طلمساً في ذلك الوقت على وجه خاص، فإنه ينفع في أحوال مخصوصة نحو السَّعادة والخصب، ودفع الآفات، وكانوا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عَظَّموه لاعتقادهم أنهم ينتفعون به، فلمَّا بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة، ولمَّا طالت مدّة ذلك الفِعْلِ نسوا مبدأ الأمر، وانشغلوا بعبادتها على الجهالة بأصل الأمر.
ورابعها: أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون في أنه مجاب الدعوة، ومقبول الشَّفاعة عند الله - تعالى - اتخذوا أصناماً على صورته، ويعبدونه على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعاً لهم يوم القيامة عند الله - تعالى - على ما أخبر الله عنهم في قولهم: ﴿هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله﴾ [يونس: ١٨].
وخامسها: لعلهم اتخذوها محاريب لصلاتهم، وطاعاتهم، ويسجدون غليها لا لها كما أنَّا نسجد إلى القبلة لا للقبلة، ولما استمرت هذه الحالة ظنّ الجهال من القوم أنه يجب عبادتها.
وسادسها: لعلّهم كانوا يعتقدون جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل. فهذه هي الوجوه التي يمكن حلم هذه المقالة عليها حتى ليصير بحيث يعلم بطلانه بضرورة العقل.
واعلم أنّ إقامة الدّلالة على افتقار العالم إلى الصَّانع المختار يبطل القول بعبادة الأوثان على كلّ التأويلات، والله أعلم.
فَصْلٌ
اعلم أن من بيوت الأصنام المشهورة «غمدان» الذي بناه الضحاك على اسم الزهرة بمدينة «صنعاء» وخربه بن عفان، ومنها «» نوبهار بلخط الذي بناه «منوشهر» الملك
428
على اسم القمر، ثم كان لقبائل العرب أوثان معروفة مثل: ود ب «دومة الجندل» لكلب، و «سواع» لبني هذيل، و «يغوث» ب «اليمن» لمذحج، و «يعوق» لمرادية همدان و «نَسْر» بأرض «حمير» لذي الكُلاَع، و «اللات» ب «الطائف» ل «ثقيف»، و «مناة» ب «يثرب» للخزرج، و «العُزّى» لكنانة بنواحي «مكّة» و «أساف» و «نائلة» على «الصفا» و «المروة».
وكان قُصَيّ جَدّ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينهاهم عن عبادتها، ويدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، وكذلك زَيْدُ بْنُ عَمْرو بْنُ نُفَيْلٍ، وهو الذي يقول: [الوافر]
429
قوله :﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ﴾ يحتمل النصب والرَّفع، فالنصب من خمسة أوجه :
أحدها : أن يكون نصبه على القطع.
الثاني : أنه نعت لربكم.
الثالث : أنه بدل منه.
الرابع : أنه مفعول ل " تتقون "، وبه قال أبو البقاء.
الخامس : أنه نعت النعت، أي : الموصول الأول، لكن المختار أن النعت لا ينعت، بل إن جاء ما يوهم ذلك جعل نعتاً للأول، إلا أن يمنع مانع فيكون نعتاً للنعت، نحو قولهم :" يا أيها الفارس ذو الجمة " ١ فذو الجمة نعت للفارس لا ل " أي " ؛ لأنها لا تنعت إلا بما تقدم ذكره.
والرَّفع من وجهين :
أحدهما وهو الأصح : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هو الذي جعل.
والثاني : أنه مبتدأ، وخبره قوله بعد ذلك : فلا تجعلوا لله، وهذا فيه نظر من وجهين :
أحدهما : أنّ صلته ماضية فلم يشبه الشرط، فلا يزاد في خبره " الفاء ".
الثاني : عدم الرابط، إلا أن يقال بمذهب الأخفش، وهو أن يجعل الربط مكرر الاسم الظَّاهر إذا كان بمعناه نحو :" زيد قام أبو عبد الله " إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد، وكذلك هنا أقام الجلالة مقام الضَّمير، كأنه قال : الَّذي جعل لكم، فلا تجعلوا له أنداداً.
و " الذي " كلمة موضوعة للإشارة إلى المفرد٢ عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كقولك٣ : ذهب الرجل الذي أبوه منطلق، فأبوه منطلق قضية معلومة، فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الَّذي، وهو يحقّق قولهم : إنه مستعمل لوصف المعارف بالجمل.
وإذا ثبت هذا فقوله :﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً ﴾ يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشاً، والسّماء بناءً، وذلك تحقيق قوله تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [ لقمان : ٢٥ ].
و " جعل " فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون بمعنى " صَيَّر " فتتعدى لمفعولين فيكون " الأرض " مفعولاً أول، و " فراشاً " مفعولاً ثانياً.
والثاني : أن يكون بمعنى " خلق " فيتعدّى لواحد وهو " الأرض " ويكون " فراشاً " حالاً.
و " السماء بناء " عطف على " الأرض فراشاً " على التقديرين المتقدمين، و " لكم " متعلق بالجعل أي : لأجلكم، والفراش : قيل : البساط، وقيل : مثلها.
وقيل : ما يوطأ، ويُقعد عليه.
واعلم أنه - تعالى - ذكر ها هنا أنه جعل الأرض فراشاً، ونظيره قوله :﴿ أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً ﴾
[ النمل : ٦١ ] وقوله :﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً ﴾ [ طه : ٥٣ ].
واعلم أن كون الأرض فراشاً مشروط بأمور :
قال ابن الخطيب٤ : أحدها : كونها ساكنة ؛ فإنها لو كانت متحركة لم يمكن الانتفاع بها لما تقرر في المعقولات.
الثاني : ألا تكون في غاية الصَّلابة كالحجر ؛ فإن النّوم عليه والمشي مما يؤلم البدن، وأيضاً لو كانت الأرض من الذَّهب مثلاً لتعذّرت الزراعة ولتعذّر حفرها، وتركيبها لما يراد.
وألاَّ تكون في غاية اللين كالماء الذي تغوص فيه الرِّجْل.
الثالث : ألاّ يكون في غاية اللّطافة والشفافية ؛ فإن الشفّاف لا يستقر النور عليه، وما كان كذلك فإنه لا يتسخن بالشمس فكان يبرد جدًّا، فجعل كيفية لونه أخضر ليستقر النور عليه، فيتسخن فيصلح أن يكون فراشاً للحيوانات.
الرابع : أن تكون بارزةً من الماء ؛ لأن طبع الأرض أن يكون غائصاً في الماء فكان يجب أن تكون البحار محيطةً بالأرض، ولو كانت كذلك لما كانت فراشاً لنا، فقلب٥ الله طبيعة الأرض وأخرج بعض أجزائها [ من المياه ]٦ كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشاً لنا.
ومن الناس من زعم أن الشرط في كون الأرض فراشاً ألا تكون كرة واستدل بهذه الآية، وهذا بعيد ؛ لأن الكرة إذا عظمت جدًّا كانت القطعة منها كالسطح٧ في إمكان الاستقرار عليه، والذي يؤيده كون الجبال أوتاداً للأرض ويمكن الاستقرار عليها، فها هنا أولى.
فَصْلٌ في منافع الأرض وصفاتها
فأولها : الأشياء المتولّدة فيها من المعادن، والنبات، والحيوان، والآثار العلوية والسّفلية، ولا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى.
وثانيها : اختلاف بقاع الأرض، فمنها أرض رخوة، وصلبة، ورملة، وسبخة، وحرّة، قال تعالى :﴿ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ ﴾ [ الرعد : ٤ ].
وقال تعالى :﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً ﴾ [ الأعراف : ٥٨ ].
وثالثها : اختلاف طعمها وروائحها.
ورابعها : اختلاف ألوانها فأحمر، وأبيض، وأسود، ورمادي، وأغبر، قال تعالى :﴿ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ [ فاطر : ٢٧ ].
وخامسها : انصداعها بالنبات، قال تعالى :﴿ وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾
[ الطارق : ١٢ ].
وسادسها : كونها خازنةً للماء المنزل، قال تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ ﴾ [ المؤمنون : ١٨ ].
وسابعها : العيون والأنهار العظام.
وثامنها : ما فيها من المَفَاوِزِ والفَلَواتِ ﴿ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا ﴾ [ ق : ٧ ].
وتاسعها : أن لها طبع الكرم ؛ لأنك تدفع إليها حبّة وهي تردها عليك سبعمائة ﴿ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ﴾ [ البقرة : ٢٦١ ].
وعاشرها : حَبَاتها بعد موتها ﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا ﴾
[ يس : ٣٣ ].
الحادي عشر : ما فيها من الدَّواب المختلفة الألوان والصّور والخلق ﴿ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ].
الثانية عشرة : ما فيها من النبات المختلف ألوانه، وأنواعه، ومنافعه :﴿ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [ ق : ٧ ].
وفي اختلاف ألوانها دلالة، واختلاف روائحها دلالة، فمنها قوت البشر، ومنها قوت البهائم :﴿ كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ﴾ [ طه : ٥٤ ] ومطعوم البشر، فمنها الطعام ومنها الإدام، ومنها الرَّوَاء، ومنها الفاكهة، ومنها الأنواع المختلفة في الحَلاَوَةِ والحموضة، ومنها كسوة البشر ؛ لأن الكسوة إمّا نباتية وهي القطن والكتان، وإما حيوانية وهي الشَّعَر والصُّوف، والأَبْرَيْسَم، والجلود، وهي من الحيوانات التي بثَّهَا الله في الأرض، فالمطعوم من الأرض، والملبوس من الأرض ؛ ثم قال :﴿ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ النحل : ٨ ].
وفيه إشارة إلى منافع كثيرة لا نعلمها نحن، والله [ تعالى عالم بها ]٨.
فَصْلٌ
قال بعضهم : السَّماء أفضل من الأرض لوجوه :
أحدها : أن السَّماء متعبَّد الملائكة، وما فيها بقعة عُصي الله فيها.
وثانيها : لما أتى آدم - عليه الصلاة والسلام - في الجَنّة بتلك المعصية قيل : اهبط من الجنة، وقال الله :" لا يسكن في جواري من عَصَاني ".
وثالثها :﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً ﴾ [ الأنبياء : ٣٢ ] وقوله :
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً ﴾ [ الفرقان : ٦١ ] ولم يذكر في الأرض مثل ذلك.
ورابعها : في أكثر الأمر ورد ذكر السَّماء مقدماً على الأرض في الذكر.
وقال آخرون : بل الأرض أفضل ؛ لوجوه :
أحدها : أنه - تعالى - وصف بقاعاً في الأرض بالبركة ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً ﴾ [ آل عمران : ٩٦ ]، ﴿ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ﴾ [ القصص : ٣٠ ] ﴿ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [ الإسراء : ١ ].
ووصف أرض " الشام " بالبركة فقال :﴿ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ].
ووصف جملة الأرض بالبركة فقال :﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ ﴾ [ فصلت : ٩ ] إلى قوله :﴿ وَبَارَكَ فِيهَا ﴾ [ فصلت : ١٠ ].
فإن قيل : فأي بركةٍ في الفَلَواتِ الخالية، والمَفَاوزِ المُهْلِكَةِ ؟
قلنا : إنها مساكن الوحوش ومرعاها، ومَسَاكن النَّاس إذا احتاجوا إليها، فلهذه البركة قال تعالى :﴿ وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ﴾
[ الذاريات : ٢٠ ] وهذه الآيات وإن كانت حاصلةً لغير المؤمنين، لكن لمَّا لم ينتفع بها إلا الموقنون جعلها آيات للمؤمنين تشريفاً لهم كما قال :﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ].
وثانيها : أنه - سبحانه - خلق الأنبياء المكرمين من الأرض على ما قال :﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ﴾ [ طه : ٥٥ ] ولم يخلق من السماء شيئاً، لأنه قال :﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً ﴾ [ الأنبياء : ٣٢ ].
وثالثها : أن الله - تعالى - أكرم نبيّه، فجعل الأرض كلها مسجداً، وجعل ترابها طهوراً.
فَصْلٌ في فَضْلِ السَّمَاءِ
وهو من وجوه :
الأول : أن الله - تعالى - زيَّنَهَا بسبعة أشياء : بالمصابيح ﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ﴾ [ الملك : ٥ ].
وبالقمر ﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ﴾ [ نوح : ١٦ ] وبالشمس :﴿ وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ﴾ [ نوح : ١٦ ].
وبالعرش، وبالكرسي، وباللوح المحفوظ، وبالقلم، فهذه السَّبعة ثلاثة منها ظاهرة، وأربعة مثبتة٩ بالدلائل السَّمعية١٠.
الثاني : أنه - تعالى - سمّاها بأسماء تدلّ على عظم شأنها سماء، وسقفاً محفوظاً، وسبعاً طباقاً، وسبعاً شداداً، ثم ذكر عاقبة أمرها فقال :﴿ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ﴾ [ المرسلات : ٩ ]، ﴿ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ﴾
[ التكوير : ١١ ]، ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾ [ الانفطار : ١ ]، و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴾ [ الانشقاق : ١ ]، ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ﴾
[ الأنبياء : ١٠٤ ]، ﴿ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ﴾ [ المعارج : ٨ ]، ﴿ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً ﴾ [ الطور : ٩ ]. ﴿ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ﴾ [ الرحمان : ٣٧ ].
وذكر مبدأها فقال :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾ [ فصلت : ١١ ] وقال :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ [ الأنبياء : ٣٠ ] فهذا الاستقصاء والتشديد في كيفية حدوثها وفنائها يدلُّ على أنه - سبحانه وتعالى - خلقها لحكمة بالغة على ما قال :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ﴾
[ ص : ٢٧ ].
الثَّالث : أنه - تعالى - جعل السَّماء قِبْلَةَ الدعاء، فالأيدي تُرفع إليها، والوجوه تتوجّه نحوها، وهي منزل الأنوار، ومحل الضياء والصّفاء، والطهارة، والعصمة من الخلل والفَسَاد.
والبناء : مصدر " بنيت "، وإنما قلبت " الياء " همزة لتطرُّفها بعد ألف زائدة، وقد يراد به المفعول، و " أنزل " عطف على " جعل " و " من السماء " متعلّق به، وهي لابتداء الغاية، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أن تكون حالاً من " ما " ؛ لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها نصبت حالاً، وحينئذ معناها التبعيض، وثَمَّ مضاف محذوف أي : من مياه السماء ماء.
وأصل " ماء " موه بدليل قولهم :" مَاهَتِ الرَّكِ
١ - في أ: الجهة..
٢ - في أ: الفرد..
٣ - في أ: كقوله..
٤ - ينظر الرازي: ٣/٩٤..
٥ - في أ: فغلّب..
٦ -سقط في ب..
٧ - في أ: كالمسطح.
٨ - في ب: أعلم..
٩ - في أ: مبينة..
١٠ - في أ: السبعة..
اعلم أنه سبحانه لما أقام الدلائل القاطعة على إثبات الصّانع، وأبطل القول بالشريك عقبه بما يدلّ على النبوة، ولما كانت نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبنية على كون القرآن معجزاً أقام الدلالة على كونه معجزاً. واعلم أن كونه معجزاً يمكن بيانه من طريقين:
الأول: ألا يخلو حاله من أحد وجوه ثلاثة:
إما أن يكون مساوياً لكلام الفصحاء، أو زائداً على كلام الفصحاء بقدر لا ينقض العادة، أو زائداً عليه بقدر ينقض العادة، والقسمان الأولان باطلان فتعين الثالث.
وإنما قلنا: إنهما باطلان؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يأتوا [بمثل سورة منه] إما مجتمعين، أو منفردين، فإذا وقع التَّنَازع، فالشهود والحكام مزيلون الشبهة وذلك نهاية الاحتجاج؛ لنه كان من معرفة اللغة والاطلاع على قوانين الفصاحة في الغاية، وكانوا في محبة إبطال أمره في الغاية حتى بذلوا النفوس والأموال، وارتكبوا المهالك والمحن، وكانوا في الحمية والأنفة على حد لا يقبلون الحق، فكيف الباطل، وكل ذلك
429
يوجب الإتيان بما يقدح في قوله، فلما لم يأتوا بمثلها علمنا عجزهم عنها، فثبت أن القرآن لا يماثل قولهم، وأنَّ التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتاً معتاداً، فهو إذن تفاوت ناقص للعادة، فوجب أن يكون معجزاً.
والعم أنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثير، تدلُّ على أنه أبلغ في الفصاحة النهاية التي لا غاية لها:
أحدها: أن فصاحة العرب أكثرها في وصف المشاهدات مثل وصف بعير، أو فرس، أو جارية، أو ملك، أو ضربة، أو طعنة أو وصف حرب، أو وصف غارة، وليس في القرآن شيء من هذا، فكان يجب على هذا ألا يحصل فيه شيء من الفصاحة، التي اتفقت العرب في كلامهم عليها.
وثانيها: أنه - تعالى - راعي فيه [طريقة] الصِّدق، وتنزَّه عن الكذب في جميعه، وكل شاعر ترك الكذب، ولزم الصدق زكي شعره، ألا ترى لبيد بن ربيعة، وحسان بن ثابت لما أسلما زكي شعرهما، [ولم يكن شعرهما] الإسلامي في الوجوه كشعرهما في الجاهلية، والقرآن مع لزوم الصدق وتنزُّهه عن الكذب بلغ الغاية في الفصاحة كما ترى.
وثالثها: أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح في القصيدة كلها، إنما هو بيت أو بيتان والباقي ليس كذلك، وأما القرآن فكله فصيح، فعجز الخلق عن بعضه كما عجزوا عن جملته.
ورابعها: أن كل من وصف شيئاً بشعر، فإن كرره لم يكن كلامه الثَّاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول، وأما القرآن ففيه تكرار كثير، وهو في غاية الفَصَاحة، ولم يظهر التفاوت أصلاً.
وخامسها: أنهم قالوا: شعر امرئ القيس يحسن عند الطَّرب، وذكر النِّسَاء، وصفة الخَيْلِ، وشعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند الطَّلَبِ، ووصف الخَمْرِ، وزهير عند الرَّغْبَةِ والرجاء، وبالجملة فكل شاعر يحسن كلامه في فَنٍّ، ويضعف كرمه في غيره، والقرآن جاء فصيحاً في كل الفنون.
430
وسادسها: أن القرآن أصل للعلوم كلها، فعلم الكلام كلّه في القرآن، وعلم الفقه مأخوذ من القرآن، كذا علم أصول الفقه، وعلم النحو، واللغة، وعلم الزهد في الدُّنيا، وأخبار الآخرة، واستعمال مكارم الأخلاق.
وأما الطريق الثاني: أن يقول: القرآن لا يخلو إما أن يكون بالغاً في الفصاحة إلى حَدّ الإعجاز، أو لم يكن، فإن كان الأول ثبت أنه معجز، وإن كان الثاني كانت المُعَارضة على هذا التقدير ممكنة، فعدم إتيانهم بالمُعَارضة، مع توفُّر داعيهم على الإتيان بها، أمر خارق للعادة، فكان ذلك معجزاً، فثبت أنَّ القرآن معجز على جميع الوجوه.
«إن» حرف شرط يجزم فعلين: شرطاً وجزاءً، فلا تقول: «إن غربت الشمس».
فإن قيل: فكيف قال هاهنا: ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾، وهذا خطاب مع الكفار، والله تَعَالَى يعلم أنه في ريب، وهم يعلمون ويقرون أنهم في ريب، ومع ذلك فالتعليق حسن.
فالجواب: الخصائص الإلهية لا تدخل في الأوضاع العربية، بل الأوضاع العربية مبنية على خصائص الخلق، والله - تعالى - أنزل القرآن بلغة العرب، وعلى منوالهم، فكل ما كان في لغة العرب حسناً نزل القرآن على ذلك الوجه، وما كان نسخاً في لسان العرب لم ينزل في القرآن، فثبت بهذا أن كل ما جاء في العادة مشكوكاً فيه بين الناس، حسن تعليقه، سواء كان من قبل الله - تعالى - أو من قل غيره، وسواء كان معلوماً للسَّامع أو المتكلّم أم لا، وكذلك حسن قوله: إن كان زيد في الدار فأكرمه، مع أنك علم أن زيداً في الدار؛ لأن حصول زيد في الدار، شأنه أن يكون في العادة مشكوكاً فيه، ولا يكون إلاَّ في المحتمل وقوعه، وهي أم الباب؛ فلذلك يحذف مجزومها كثيراً، وقد يحذف الشَّرط والجزاء معاً؛ قال: [الرجز]
٢٨٧ - قَالَتْ بَنَاتُ العَمِّ: يا سَلْمَى وَإِنْ... كَانَ فَقِيراً مُعْدماً قَالَتْ: وَإِنْ
أي: وإن كان فقيراً تزوجته.
وتكون «إن» نافية فتعمل وتهمل، وتكون مخففة وزائدة باطِّراد وعدمه، وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى «إذا»، وبعضهم أن تكون بمعنى «قد»، ولها أَحْكَام كثيرة.
و «في ريب» خبر كان، فيتعلّق بمحذوف، ومحل «كان» الجزم، وهي إن كانت ماضية لفظاً فهي مستقبلة معنى.
وزعم المبرد أنَّ ل «كان» الناقصة حكماً مع «إنْ»، ليس لغيرها من الأفعال
431
الناقصة، فزعم أّنه لقوة «كان» أنّ «إنْ» الشرطية لا تقلب معناها إلى الاستقبال، بل تكون على مَعْنَاها من المُضِيّ، وتبعه في ذلك أبو البَقَاءِ، وعلل ذلك بأن كثيراً استعملوها غير دالّة على حدث، وهذا مردود عند الجمهور، لأن التعليق إنما يكون في المستقبل، وتأولوا ما ظاهره غير ذلك نحو:
﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ﴾ [يوسف: ٢٦] إما بإضمار «يكن» بعد «إن»، وإما على التبيين، والتقدير: «إن يكن قميصه، أو إن يتبين كونه قميصه» ولما خفي هذا المعنى على بعضهم جعل «إن» هنا بمنزلة «إذ» وقوله: «في ريب» مجاز من حيث إنه يجعل الريب ظرفاً محيطاً بهم، بمنزلة المكان لكثرة وقوعه منهم.
و «مِمَّا» يتعلّق بمحذوف؛ لأنه صفة لريب، فهو في محل جَرّ، و «من» للسَّببية، أو لابتداء الغاية، ولا يجوز أن تكون للتبعيض، ويجوز أن تتعلّق ب «ريب» أي: إن ارتبتم من أجل، ف «من» هُنا للسَّببية، و «ما» موصولة أو نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف، أي: نزلناه، والتضعيف في «نَزّلنا» هنا للتعدية مرادفاً لهمزة التعدي، ويدلّ عليه قراءة «أنزلنا» بالهمز، وجعل الزمخشري التضعيف هنا دالاًّ على نزوله منجماً في أوقات مختلفة.
قال بعضهم: «وهذا الذي ذهب إليه في تضعيف الكلمة هنا، هو الَّذي يعبر عنه بالتكثير أي يفعل مرة بعد مرة، فيدل على ذلك بالتضعيف ويعبر عنه بالكثرة» قال: «وذهل عن قاعدة، وهي أن التضعيف الدّال على ذلك من شرطه أن يكون في الأفعال المتعدّية قبل التضعيف غالباً نحو:» جَرَّحْتُ زِيْداً، وفَتَّحْتُ الباب «، ولا يقال جَلَّس زيدٌ» و «نَزَّل» [لأنه] لم يكن متعدياً قبل التضعيف، وإنَّ ما جعله متعدياً تضعيفه «.
وقوله:»
غالباً «لأنه قد جاء التضعيف دالاًّ على الكثرة في اللاَّزم قليلاً نحو:» مَوَّت المال «، وأيضاً فالتضعيف الدَّال على الكثرة لا يجعل القاصر متعدياً، كما تقدم في» مَوَّتَ المال «و» نَزَّل «كان قاصراً فصار بالتضعيف متعدياً، فدلّ على أنَّ تضعيفه للنقل لا للتكثير، وأيضاً كان يحتاج قوله تعالى: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢] إلى تأويل، وأيضاً فقد جاء التضعيف حيث لا يمكن فيه التكثير، نحو قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ﴾ [الأنعام: ٣٧]، ﴿لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٥] إلا بتأويل بعيد جدًّا، إذ ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول [آية، ولا أنه علق تكرير نزول] مَلَك رسول على تقدير كون ملائكة في الأرض.
432
وفي قوله: ﴿نَزَّلْنَا﴾ التفات من الغيبة إلى التكلّم؛ لأن قبله: ﴿اعبدوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] جاء الكلام عليه لقيل:» مما نزّل عَلَى عَبْدِهِ «ولكن التفت للتفخيم.
و»
عَلَى عَبْدِنَا «متعلّق ب» نَزَّلْنَا «وعُدِّي ب» على «لإفادتها الاستعلاء، كأن المنزل تمكّن من المنزول عليه ولبسه، ولهذا جاء أكثر القرآن بالتعدّي بها دون» إلى «فإنها تمكّن من المنزول عليه ولبسه، ولهذا جاء أكثر القرآن بالتعدّي بها دون» إلى «فإنها تفيد الانتهاء والوصول فقط، والإضافة في» عبدنا «تفيد التشريف؛ كقوله: [السريع]
٢٨٦ - أَرَبٌّ وَاحِدٌ أَمْ اَلْفُ رَبٍّ أَدِينُ إِذَا تَقَسَّمَتِ الأُمُورُ؟!
تَرَكْتُ اللاَّتَ والعُزَّى جَمِيعاً كَذَلِكَ يَفْعَلُ الرَّجُلُ البَصِيرُ
٢٨٨ - يَا قَوْمِ قَلْبي عِنْدَ زَهْرَاءِ يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي
لاَ تَدْعُنِي إلاَّ بِيَا عَبْدَهَا فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي
وقرئ «عبادنا» فقيل: المراد النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وأمته؛ لأن جدوى المنزل حاصل لهم.
وقيل: المراد بهم جميع الأنبياء عليهم السلام.
والعبد: مأخوذ من التعبد، وهو التذلل؛ قال طَرَفَةُ: [الطويل]
٢٨٩ - إِلَى اَنْ تَحَامَتْنِي العَشِيرَةُ كُلُّهَا وأُفْرِدْتُ إِفْرَادَ البَعِيرِ المُعَبَّدِ
أي: المذلَّل.
ولما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمّي بها أشرف الخطط سمَّى نبيه عبداً.
قوله: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ﴾ جواب الشرط، والفاء هنا واجبة؛ لن ما بعدها لا يصحّ أن يكون شرطاً بنفسه، واصل «فأتوا» «إأْتِيُوا» مثل: اضربوا، فلهمزة الأولى همزة وصل أُتي بها للابتداء بالسَّاكن، والثَّانية فاء الكلمة، فلما اجتمع همزتان، وجب قلب ثانيهما ياءً على حَدِّ «إيمان» وبابه، واستثقلت «الضمة» على «الياء» التي هي «لام» الكلمة فقدرت، فسكنت «الياءط وبهدها طواو» الضمير ساكنة، فحذف «الياء» لالتقاء ساكنين، وضُمّت «التاء» للتجانُسِ، فوزن «ايتوا» :«افعوا»، وهذه الهمزة إنما يحتاج إليها ابتداءً، أما في الدَّرْج فإنه يُسْتَغْنَى عنها، وتعودُ الهمزةُ اليت هي «فاءُ» الكلمة؛ لأنّها إنّما قُلِبَتْ ياءً للكسرِ الذي كان قبلها، وقد زال نحو: «فأتوا» وبابه، وقد تحذف الهمزة التي هي «فاء» الكلمة في الأمر كقوله: [الطويل]
433
يريد: فأتونا كقوله: فأتوا.
قال ابن كيسان: «وهو أمر معناه التعجيز؛ لأنه - تعالى - علم عجزهم عنه».
و «بسورة» متعلّق بأتُوا، والسورة واحدة السُّوَر، وهي طائفة من القُرْآن.
وقيل: السُّورة الدَّرجة الرفيعة، قال النابغة: [الطويل]
٢٩٠ - فَإِنْ نَحْنُ لَمْ نَنْهَضْ لَكُمْ فَنَبَرَّكُمْ فَتُونَا فَعَادُونَا إذاً بالجَرَائِمِ
٢٩١ - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَعْطَاكَ سُورَةً تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ
وسميت سورة القرآن بذلك؛ لأن قارئها يشرف بها وترفعه، أو لرفعة شأنها، وجلالة محلّها في الدِّين، وإن جعلت واوها منقلبة عن «الهمزة»، فيكون اشتقاقها من «السُّؤْر»، وهو البقية، والفضلة؛ ومنه: «أَسْأَرُوا في الإِنَاءِ» ؛ قال الأعشى: [المتقارب]
٢٩٢ - فَبَانَتْ وَقَدْ أَسَأَرتْ في الفُؤَا دِ صَدْعاً عَلَى نَأْيِهَا مُسْتَطِيرَا
أي: أَبْقَتْ، ويدلّ على ذلك أن «تميماً» وغيرها يهمزون فيقولون: سؤرة بالهمزة.
وسميت سورة القرآن بذلك؛ لأنها قطعة منه، وهي على هذا مخفّفة من «الهمز».
وقيل: اشتقاقها من سُور البناء؛ لأنها تحيط بقارئها، وتحفظه كَسُورِ المدينة، ولكنّ جَمْعَ سُورةِ القرآن سُوَر بفتح الوَاوِ، وجَمْعَ سُورةِ البناء سُوْر بسكونها، ففرقوا بينهما في الجمع.
فإن قيل: ما فائدةُ تقطيع القُرْآن سُوَراً؟
قلنا: وجوه:
أحدها: ما لجله بوب المصنِّفون كتبهم أبواباً وفصولاً.
وثانيها: أن الجنس إذا حصل تحته كان إفراد كل نوع من صاحبه أحسن.
وثالثها: أنّض القارئ إذا ختم سورة، أو باباً من الكتاب، ثم أخذ في آخر كان أنشط له، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى فرسخاً نشطه للمسير.
فَصْلٌ في بيان أن ترتيب القرآن توقيفي
قال ابن الخطيب: قوله: «فأتوا بسورة» يدلُّ على أن القرآن وما هو عليه من كونه سوراً هو على حدّ ما أنزله الله - تعالى - بخلاف قول كثير من أهل الحديث، أنه نظم على هذا الترتيب في أيام عثمان، فلذلك صحّ التحدّي بالقرآن على وجوه:
434
أحدها: قوله: ﴿فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى﴾ [القصص: ٤٩].
وثانيها: قوله: ﴿قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ [الإسراء: ٨٨].
وثالثها: قوله: ﴿فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود: ١٣].
ورابعها: قوله: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣]، ونظير هذا لمن يتحدّى صاحبه فيقول: ائتني بمثله، ائتني بنصفه، ائتني بربعه، ائتني بمسألة مثله، فإن هذا هُوَ النّهاية في التحدّي، وإزالة لعُذْر.
قوله: ﴿مِّن مِّثْلِهِ﴾ في الهاء ثلاثة أقوال:
أحدهما: أنها تعود على «ما نَزَّلنا» عند الجمهور كعمرو، وابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، وغيرهم، فيكون «من مثله» صفة ل «سورة»، ويتعلّق بمحذوف على ما تقرر: أي بسورة كائنة من مثل المنزل في فصاحته، وإخباره بالغيوب، وغير ذلك، ويكون معنى «من» التبعيض.
واختار ابن عطية والمَهْدَويّ أن تكون للبيان، وأجازا هما وأبو البقاء أن تكون زائدة ولا تجيء إلاَّ على قول الأخفش.
الثاني: أنها تعود على «عَبْدنا» فيتعلّق «من مثله» ب «أتوا»، ويكون معنى «من» ابتداء الغاية، ويجوز على هذا الوجه أيضاً أن تكون صفة لسورة أي: «بسورة كائنة من رجل مثل عبدنا أمي لا يقرأ ولا يكتب».
قال القرطبي: و «من» على هذين التأويلين للتبعيض.
الثالث: قال أبو البقاء: «إنها تعود على الأنداد بلفظ المفرد كقوله: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ [النحل: ٦٦] ولا حاجة تدعو إلى ذلك، والمعنى يأباه أيضاً.
قال القرطبي: وقيل: يعود على التوراة والإنجيل، والمعنى: فأتوا بسورة من كتاب مثله؛ فإنها تصدِّق ما فيه، والوقف على»
مثله «ليس بتام؛ لن» وادعوا «نسق عليه.
قوله
: ﴿وادعوا شُهَدَآءَكُم﴾ هذه جملة أمر معطوفة على الأمر قبلها، فهي في مَحَلّ جزم أيضاً، ووزن «ادعوا»
افعوا؛ لأن لام الكلمة محذوف دلالة على السكون في الأمر الذي هو جزم في المُضَارع، و «الواو» ضمير الفاعلين.
و «شهداءكم» مفعول به جمع «شهيد» كظريف.
وقيل: بل جمع «شاهد» ك «شاعر» والأوّل أولى؛ لاطَِّرَادِ «فعلاء» في «فعيل»
435
دون فاعل، والشهادة الحضور، وفي المراد من الشهداء وجهان: الأول: المراد من الشهداء الأوثان.
والثاني: المراد من الشهداء أكابرهم، أو من يوافقهم في إنكار أمر محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، والمعنى: ادعوا أكابركم، ورؤساءكم ليعينوكم على المُعَارضة، أو ليشاهدوا ما تأتون به، فيكون [الرد على الجميع أوكد]. و «من دون الله» متعلّق ب «ادعوا» من دون الله شهداءكم، فلا تستشهدوا بالله، فكأنه قال: وادعوا من غير الله من يشهد لكم، ويحتمل أن يتعلّق ب «شهداءكم» والمعنى: ادعوا من اتخذتموه من دون الله، وزعمتم أنهم يشهدون لكم بصحّة عبادتكم إياهم، وأعوانكم من دون الله أولياء الذين تستعينون بهم دون الله، أو يكون معنى «من دون الله» بين يدي الله؛ كقوله: [الطويل]
٢٩٣ - تُرِيكَ القَذَى مِنْ دُونِهَا وَهِيَ دُونَهُ لِوَجْهِ أَخِيهَا في الإِنَاءِ قُطُوبُ
أي: تريك القذى قُدَّامه؛ لرقَّتها وصفَائِها.
واختار أبو البقاء أن يكون «من دُونِ الله» حالاً من «شهدائكم» والعامل فيه محذوف قال: «تقديره: شهدائكم منفردين عن الله، أو عن أنصار الله».
و «دون» من ظروف متصرّفة، وجعل من ذلك قوله تعالى: ﴿وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾ [الجن: ١١] فقال: «دون» مبتدأ و «منّا» خبره، وإنما بني لإضافته إلى مبنيٍّ، وقد شذَّ رفعُهُ خبراً في قول الشاعر: [الطويل]
٢٩٤ - أَلَمْ تَر أَنِّي قَدْ حَمَيْتُ حَقِيقَتي وبَاشَرْتُ حَدَّ المَوْتِ وَالمَوْتِ دُونُهَا
وهو من الأسماء اللاَّزمة للإضافة لفظاً ومعنى.
وأمّا «دون» التي بمعنى رديء فتلك صفة كسائر الصفات، تقول: «هذا ثوب دُون»، و «رأيت ثوباً دوناً» أي: رديئاً، وليست مما نحن فيه.
و «دون» أيضاً نقيض «فوق» ويقال: هذا دون ذاك، أي: أقرب منه، ويقال في الأخذ بالشَّيء: دونكه.
436
قال تميم للحجَّاج: أَقَبِرنا صالحاً - وكان قد صلبه - فقال: دونكموه.
قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ هذا شرط حذف جوابه للدلالة عليه تقديره: إن كنتم صادقين فافعلوا، ومتعلّق الصدق محذوف، والظاهر تقديره هكذا: إن كنتم صادقين في كونكم في رَيْبٍ من المنزل على عبدنا أنه من عندنا.
وقيل: فيما تقدرون عيله من المُعَارضة، وقد صرّح بذلك عنهم في آية أُخْرَى، حيث قال تعالى حاكياً عنهم:
﴿لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا﴾ [الأنفال: ٣١] والصدق ضد الكذب وقد تقدم، والصّديق مشتقٌّ مه لصدقه في الوُدِّ والنُّصحِ، والصّدْق من الرماح: الصُّلبة.
فَصلٌ في التهكم بالكافرين
قال ابن الخطيب: «وفي أمرهم بان يستظهروا بالجماد الذي ينطق في معارضة القرآن المعجز بالفصاحة غاية التهكم بهم».

فصل في الاحتجاج على الجبرية


قال القاضي: هذا التحدّي يبطل القول بالجَبْرِ من وجوه:
أحدها: أنه مبني على تعذُّر مثله ممن يصح الفعل منه، فمن ينفي كون العبد فاعلاً لم يمكنه إثبات التحدّي أصلاً، وفي هذا إبطال الاستدلال بالمعجز.
وثانيها: أن تعذُّره على قولهم يكون لفقد القدرة الموجودة، ويستوي في ذلك ما كان معجزاً، وما لا يكون، فلا يصح معنى التحدي على قولهم.
وثالثها: أن ما يضاف إلى العبد فالله - تعالى - هو الخالق له، فتحديه يعود في التحقيق إلى أنه مُتَحَدٍّ لنفسه، وهو قادرٌ على مثله من غير شك فيجب ألا يثبت الإعجاز على هذا القول.
ورابعها: أنّ المعجز إنما يدلّ بما فيه من بعض العادة، فإذا كان من قولهم: إن المعتاد أيضاً ليس بفعل لم يثبت هذا الفرق، فلا يصحّ الاستدلال بالمعجز.
وخامسها: أنَّ الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحتج بأنه - تعالى - لم يكن داخلاً في الإعجاز، وعلى قولهم بالجبر لا يصح هذا الفرق؛ لأن المعتاد وغير المعتاد لا يكون إلاَّ من قبله.
والجواب: أن المطلوب من التحدي أن يأتي الخصم بالمتحدّى به قصداً، وأن يقع ذلك منه اتفاقاً.
437
والثاني باطل؛ لأن الاتفاقيات لا تكون في وُسْعِهِ، فثبت الأول، وإذا كان كذلك ثبت أن إتيانه بالمتحدى موقوف على أن يحصل في قلبه قصد إليه، فذاك القصد إن كان من لزم التسلسل، وهو محال، وإن كان من الله - تعالى - فحينئذ يعود الجبر، ويلزمه كل ما أورده علينا، فبطل كل ما قال.
قوله: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ﴾ «إن» الشرطية داخلة على جملة «لم تفعلوا» و «تفعلوا» مجزوم ب «لم»، كما تدخل «إن» الشرطية على فعل منفي ب «لا» نحو: ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ﴾ [الأنفال: ٧٣]، فيكون لم تفعلوا في محل جزم بها.
وقوله: «فاتقوا» جواب الشَّرط، ويكون قوله: ﴿وَلَن تَفْعَلُواْ﴾ جملة معترضة بين الشرط وجزائه.
وقال جماعة من المفسّرين: معنى الآية: وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، [ولن تفعلوا فإن لم تفعلوا فاتقوا النَّار، وفيه نظر لا يخفى، وإنما قال تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ] وَلَن تَفْعَلُواْ﴾ فعبر بالفعل عن الإتيان؛ لأن الفعل يجري مجرى الكناية، فيعبر به عن كل فعل، ويغني عن طول ما تكنى به.
وقال الومخشري: «لو لم يعدل من لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل، لاسْتُطِعَ ان يقال: فإن لم تأتوا بسورة من مثله، ولن تأتوا بسورة من مثله».
قال أبو حيان: «ولا يلزم ما قال؛ لأنه لو قال:» فإن لم تأتوا ولن تأتوا «كان المعنى على ما ذكر، ويكون قد حذف ذلك اختصاراً، كما حذف اختصاراً مفعول» لم تفعلوا، ولن تفعلوا «ألا [ترى] أن التقدير: فإن لم تفعلوا الإتيان بسورة من مثله، ولن تفعلوا الإتيان بسورة من مثله؟».
فإن قيل: كيف دخلت «إن» على «لم» وللا يدخل عامل على عامل؟
فالجواب: أنَّ «إنْ» ها هنا غير عاملة في اللفظ، ودخلت على «لم» كما تدخل على الماضي، لأنها لا تعمل في «لم» كما لم تعمل في الماضي، فمعنى «إن لم تفعلوا» إن تركتم الفعل.
و «لَنْ» حرف نصف معناه نفي المستقبل، ويختص بصيغة المضارع ك «لَمْ» ولا يقتضي نفيُهُ التَّأبيدَ، وليس أقلَّ مدة من نفي «لاَ»، ولا نونُه بدلاً من ألف «لاَ»، ولا هو مركَّباً من «لاَ أَنْ» ؛ خلافاً للخليل، وزعم قومٌ أنها قد تجزم، منهم أبو عُبَيْدَة؛ وأنشدوا: [الخفيف]
438
٢٩٥ - لَنْ يَخِبِ الآنَ مِنْ رَجَائِكَ مَنْ حَرْ رَكَ مشنْ دُونِ بَابِكَ الحَلْقَهْ
وقال النابغة: [البسيط]
٢٩٦ -........................... فَلَنْ أُعْرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بِالصَّفَدِ
ويمكن تأويل ذلك بأنه مما سُكِّن فيه للضَّرورة.
قوله تعالى: ﴿فاتقوا النار﴾ هذا جواب الشرط كما تقدم، والكثير في لغة العرب: «اتَّقَى يَتَّقِي» على افْتَعَلَ يَفْتَعِلُ، ولغى «تميم» و «أسد» تَقَى يَتْقِي: مثل: رَمَى يَرْمِي، فيسكنون ما بعد حرف المضارعة؛ حكى هذه اللغة سيبويه، ومنهم من يحرك ما بعد حرف المضارعة؛ وأنشدوا: [الوافر]
٢٩٧ - تَقُوهُ أَيُّهَا الفِتْيَانُ إنِّي رَأَيْتُ اللهَ قَدْ غَلَبَ الجُدُودَا
وقال آخر: [الطويل]
٢٩٨ -......................... تَقِ اللهَ فِينَا وَالكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو
قوله تعالى: ﴿النار﴾ مفعول به، و «الَّتي» صفتها، وفيها أربعُ اللغات المتقدِّمة، كقوله: [الكامل]
٢٩٩ - شُغِفَتْ بِكَ اللَّتْ تَيَّمَتْكَ فَمِثْلُ مَا بِكَ مَا بِهَا مِنْ لَوعَةٍ وَغَرَامِ
وقال آخر: [الوافر]
439
و «وقودها النَّاس والحجارة» جملة من مبتدأ وخبر، صلة وعائد، والألف واللام في «النار» للعهد.
فإن قيل: الصِّلة مقررة، فيجب أن تكون معلومةً فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟
والجواب: لا يمتنع أن يتقدّم لهم بهذه الصّلة معهودة عند السامع بدليل قوله تعالى: ﴿فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى﴾ [النجم: ١٠] وقوله: ﴿إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى﴾ [النجم: ١٦] وقوله: ﴿فَغَشَّاهَا مَا غشى﴾ [النجم: ٥٤] وقال:
﴿فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ﴾ [طه: ٧٨] إلا أنه خلاف المشهور أو لتقدم ذكرها في سورة التحريم - وهي مدينة بالاتفاق - وقد غلط الزمخشري في ذلك.
والمشهور فتح واو الوقود، وهو اسم ما يوقد به.
وقيل: هو مصدر كالوَلوع والقَبُول والوَضُوء والطَّهُور، ولم يجيء مصدر على «فَعُول» غير هذه الألفاظ فيما حكاه سيبويه.
وزاد الكسائي: الوَزُوع. وفرئ شاذًّا في سورة «ق» ﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ [ق: ٣٨] فتصير سبعة، وهناك ذكرت هذه القراءة، ولكن المشهور أن الوَقُود والوَضُوء والطَّهُور بالفتح اسم، وبالضم مصدر.
وقرأ عيسى بن عمر بفتحها وهو مصدر.
وقال ابن عطية: وقد حكيا في المصدر. انتهى.
فإن أريد اسم ما يوقد به فلا حاجة إلى تأويل، وإن أريد بهما المصدر فلا بد من تأويل، وهو إما المُبَالغة أي: جُعِلُوا نفس التوقد مبالغة في وضعهم بالعذاب، وإمَّا حذف مضاف، إمّا من الأول أي أصحاب توقدها، وإمّا من الثاني أي: يوقدها إحراق الناس، ثم حذف المُضَاف، وأقيم المضاف إليه مُقَامه. والهاء في «الحِجَارة» لتأنيث الجمع.
فَصْلٌ في تثنية «الَّتي» وجَمْعِهِ
وفي تثنية «الّتي» بحذف النون، و «اللَّتانّ» بتشديد النون، وفي جمعها خَمْسُ
440
لُغَاتٍ: «اللاَّتي» - وهي لغة القرآن - و «اللاَّتِ» - بكسر التاء بلا ياء - و «اللَّوَاتي»، و «اللَّوَاتِ» - بلا ياء، وأنشد أبو عُبَيْدة: [الرجز]
٣٠٠ - فَقُلْ لِلَّتْ تَلُومُكَ إنَّ نَفْسِي أَرَاهَا لا تُعَوَّذُ بَالتَّمِيمِ
٣٠١ - مِنَ اللَّوَاتِي وَالَّتِي وَاللاَّتِ زَعَمْنَ أَنِّي قَدْ كَبِرْتُ لِدَاتي
و «اللَّوَاءِ» بإسقاط «التاء» حكاه الجوهريُّ.
وزاد ابن الشَّجَرِيَّ: «اللاَّئي» بالهمز وإثبات «الياء»، و «اللاءِ» بكسر «الهمزة» وحذف «الياء» و «اللاّ» بحذف الهمزة، فإن جمعت الجمع، قلتَ في «اللاتي» :«اللواتي» وفي «اللائي» :«اللوائي».
قال الجوهريُّ: وتصغير «الَّتي» «اللَّتَيَّا» بالفتح والتشديد، قال الراجز: [الرجز]
٣٠٢ - بَعْدَ اللَّتَيَّا واللَّتَيَّا وَالَّتِي إذَا عَلَتْهَا أَنْفُسٌ تَرَدَّتِ
وبعض الشعراء أدخل على «الَّتي» حرْفَ النداء، وحروف النداء لا تدخلُ على ما فيه الألف واللام إلاَّ في قولنا: «يَا أَللَّه» وحده، فكأنه شبهها به؛ من حيث كانت الألفُ واللاَّمُ غير مفارقتين لها، وقال: [الوافر]
٣٠٣ - مِنْ أجْلِكِ يَا الَّتي تَيَّمْتِ قَلْبِي وَأَنْتِ بَخِيلَةٌ بِالوُدِّ عَنِّي
ويقال: «وقع فُلاَنٌ في اللَّتَيِّا وَالَّتي» وهما اسمان من أسماء الداهِيَة.
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب: انتفاء إتيانهم بالسورة واجبٌ، فهلاًّ جيء ب «إذا» الذي للوجوب دون «إن» الذي للشك؟ والجواب: من وجهين:
أحدهما: أنه ساق القول معهم على حسب حسابهم، وأنهم لم يكونوا بعد جازمين بالعجز عن المُعَارضة؛ لاتكالهم على فصاحتهم، واقتدارهم على الكلام.
والثَّاني: أنه تهكّم بهم كما يقزل الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة لمن هو دونه: «إن غلبتك لم أُبْقِ عليك»، وهو عالم أنه غالبه تهكماً به. فإن قيل: ما معنى
441
اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله. والجواب: إذا ظهر عجزهم عن المُعَارضة صَحّ عندهم صدق رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإذا صَحّ ذلك ثم لزموا العِنَادَ استوجبوا العقاب بالنار، فاتقاء النار يوجب ترك العناد، فأقيم المؤثر مقام الأثر، وجعل قوله: ﴿فاتقوا النار﴾ قائماً مقام قوله: فاتركوا العناد، فأناب إبقاء النار منابه.
و «الحجارة» روي عن ابن مسعود والفراء - رضي الله تعالى عنهما - أنها حجارة الكبريت، وخصّت بذلك؛ لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب: سرعة الإيقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدُّخَان، وشدّة الالتصاق بالأبدان، وقوة حرها إذا حميت.
وقيل: المراد بالحجارة الأصنام، لأنهم لما قرنوا أنفسهم بها في الدنيا حيث نحتوها أصناماً، وجعلوها أنداداً لله، وعبدوها من دونه قال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] وفي معنى «الناس والحجارة» و «حصب جهنم» في معنى «وقودوها».
ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشّفعاء، والشهداء الذين يشفعون لهم، ويستدفعون بها المضار عن أنفسهم جعلهم الله عذابهم، فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغاً في تحسيرهم، ونحوه ما يفعل بالكافرين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة فشحُّوا بها، ومنعوها من الحقوق، حيث يحمى عليها في نار جهنّم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.
قال ابن الخطيب: والقول بأنها حجارة الكبريت تخصيص بغير دليل، بل فيه ما يدلّ على فساده؛ لأن الغرض هُنَا تفخيم صفة النَّار، والإيقاد بحجارة الكبريت أمر معتاد، فلا يدلّ الإيقاد بها على قوة النار.
أما لو حملنا على سائر الحجارة، دلّ على عظم أمر النار؛ فإن سائر الأحجار تطفأ بها النيران، فكأنه قال: تلك النار نار بلغت لقوتها أن تتعلق في أوّل أمرها بالحجارة التي هي مطفئة لنيران الدُّنيا.
442
قال القرطبي: «وليس في قوله تعالى: ﴿وَقُودُهَا الناس والحجارة﴾ [البقرة: ٢٤] دليلٌ على أنه ليس فيها غير الناس والحجارة، بدليل ما ذكره في غير موضع، مع كون الجن والشياطين فيها» وروي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «كلُّ مؤذٍ في النَّار» وفي تأويله وجهان:
أحدهما: كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار.
والثاني: أن كل ما يؤذي النَّاس في الدنيا من السِّباع والهوام وغيرها في النار معدّ لعقوبة أهل النار.
وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي للكافرين خاصّة.
روى مسلم عن العباس بن عبد المطّلب - رَضِيَ اللهُ عَنْه - قال: قلت: يا رسول الله، إنّ أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل ينفعه ذلك؟ قال: «نعم، وَجَدْتُهُ في غَمَرَاتٍ من النَّارِ فأخرجته إلى ضَحْضَاحٍ».
وفي رواية: «ولَوْلاَ أَنَا لكان في الدَّرَكِ الأَسْفَلِ من النار» ويدلُّ على هذا التأويل قوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾.
وقال ابن الخطيب: وليس فيها ما يدلُّ على أنه ليس هناك نيران أخر غير موصوفة بهذه الصِّفة، معدّة لفساق أهل الصلاة.
قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ﴾ فعلٌ لما لم يسمَّ فاعلُهُ، والقائم مقام الفاعل ضمير «النَّارِ»، والتاء واجبةٌ، لأن الفعل أسند إلى ضمير المؤنَّث، ولا يلتفتُ إلى قوله: [المتقارب]
443
٣٠٤ - فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا
لأنه ضرورة؛ خلافاً لابن كَيْسَان.
و «للكافرين» متعلّق به، ومعنى «أُعِِدَّتْ» : هُيِّئَتْ؛ قال: [مجزوء الكامل]
٣٠٥ - أَعْدَدَتُ لِلْحَدَثَانِ سَا بِغَةً وَعَدَّاءً عَلَنْدَى
وقرئ: «أُعْتِدَتْ» من العَتَاد بمعنى العدة، وهذه الجملة الظاهر انها لا محلّ
444
لها، لكونها مستأنفة جواباً لمن قال: لمن أعدت؟
وقال أبو البَقَاء: محلها النصب على الحال من «النار»، والعامل فيها «اتقوا».
قيل: وفيه نظر، فإنها معدة للكافرين اتقوا أم لم يتقوا، فتكون حالاً لازمة، لكن الأصل في الحال التي ليست للتوكيد أن تكون منتقلة، فالأولى أن تكون استئنافاً.
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكون حالاص من الضمير في «وقودها» لثلاثة أشياء:
أحدها: انها مضاف إليها.
الثاني: أن الحطب لا يعمل يعني أنه اسم جامد.
الثالث: الفصل بين المصدر أو ما يعمل عمله، وبين ما يعمل فيه الخبر وهو «الناس»، يعني أن الوقود بالضم، وإن كان مصدراً صالحاً للعمل، فلا يجوز ذلك أيضاً؛ لأنه عامل في الحال، وقد فصلت بينه وبينها بأجنبي، وهو «الناس» وقال السّجستاني: «أعدّت للكافرين» من صلة «التي» كقوله: ﴿واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٣١].
قال بان الأنْبَاري: وهذا غلطاً؛ لأنا لا نسلم أن «وقودها الناس» - والحالة هذه - صلة، بل إما معترضة، لأن فيها تأكيداً وإما حالاً، وهذان الوجهان لا يمنعهما معنى، ولا صناعة.
445
قوله :﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ ﴾ " إن " الشرطية داخلة على جملة " لم تفعلوا " و " تفعلوا " مجزوم ب " لم "، كما تدخل " إن " الشرطية على فعل منفي ب " لا " نحو :﴿ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ ﴾ [ الأنفال : ٧٣ ]، فيكون لم تفعلوا في محل جزم بها.
وقوله :" فاتقوا " جواب الشَّرط، ويكون قوله :﴿ وَلَن تَفْعَلُواْ ﴾ جملة معترضة بين الشرط وجزائه٣٧.
وقال جماعة من المفسّرين : معنى الآية : وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، [ ولن تفعلوا فإن لم تفعلوا فاتقوا النَّار، وفيه نظر لا يخفى، وإنما قال تعالى :﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ]٣٨ وَلَن تَفْعَلُواْ ﴾ فعبر بالفعل عن الإتيان ؛ لأن الفعل يجري مجرى الكناية، فيعبر به عن كل فعل، ويغني عن طول ما تكنى به.
وقال الزمخشري٣٩ :" لو لم يعدل من لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل، لاسْتُطِيعَ أن يقال : فإن لم تأتوا بسورة من مثله، ولن تأتوا بسورة من مثله ".
قال أبو حيان :" ولا يلزم ما قال ؛ لأنه لو قال :" فإن لم تأتوا ولن تأتوا " كان المعنى على ما ذكر، ويكون قد حذف ذلك اختصاراً، كما حذف اختصاراً مفعول " لم تفعلوا، ولن تفعلوا " ألا [ ترى ]٤٠ أن التقدير : فإن لم تفعلوا الإتيان بسورة من مثله، ولن تفعلوا الإتيان بسورة من مثله ؟ ".
فإن قيل : كيف دخلت " إن " على " لم " ولا يدخل عامل على عامل٤١ ؟
فالجواب : أَنَّ " إنْ " ها هنا غير عاملة في اللفظ، ودخلت على " لم " كما تدخل على الماضي، لأنها لا تعمل في " لم " كما لم تعمل في الماضي، فمعنى " إن لم تفعلوا " إن تركتم الفعل.
و " لَنْ " حرف نصف معناه نفي المستقبل، ويختص بصيغة المضارع ك " لَمْ " ولا يقتضي نفيُهُ التَّأبيدَ، وليس أقلَّ مدة من نفي " لاَ "، ولا نونُه٤٢ بدلاً من ألف " لاَ "، ولا هو مركَّباً من " لاَ أَنْ " ؛ خلافاً للخليل، وزعم قومٌ أنها قد تجزم، منهم أبو عُبَيْدَة ؛ وأنشدوا :[ الخفيف ]
لَنْ يَخِبِ الآنَ مِنْ رَجَائِكَ مَنْ حَرْ *** رَكَ مِنْ دُونِ بَابِكَ الحَلْقَهْ٤٣
وقال النابغة :[ البسيط ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فَلَنْ أُعْرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بِالصَّفَدِ٤٤
ويمكن تأويل ذلك بأنه مما سُكِّن فيه للضَّرورة.
قوله تعالى :﴿ فَاتَّقُواْ النَّارَ ﴾ هذا جواب الشرط كما تقدم، والكثير في لغة العرب :" اتَّقَى يَتَّقِي " على افْتَعَلَ يَفْتَعِلُ، ولغة " تميم " و " أسد " تَقَى يَتْقِي : مثل : رَمَى يَرْمِي، فيسكنون ما بعد حرف المضارعة ؛ حكى هذه اللغة سيبويه، ومنهم من يحرك ما بعد حرف المضارعة ؛ وأنشدوا :[ الوافر ]
تَقُوهُ أَيُّهَا الفِتْيَانُ إنِّي *** رَأَيْتُ اللهَ قَدْ غَلَبَ الجُدُودَا٤٥
وقال آخر :[ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** تَقِ اللهَ فِينَا وَالكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو٤٦
قوله تعالى :﴿ النَّارَ ﴾ مفعول به، و " الَّتي " صفتها، وفيها أربعُ اللغات المتقدِّمة، كقوله :[ الكامل ]
شُغِفَتْ بِكَ اللَّتْ تَيَّمَتْكَ فَمِثْلُ مَا *** بِكَ مَا بِهَا مِنْ لَوْعَةٍ وَغَرَامِ٤٧
وقال آخر :[ الوافر ]
فَقُلْ لِلَّتْ تَلُومُكَ إنَّ نَفْسِي *** أَرَاهَا لاَ تُعَوَّذُ بَالتَّمِيمِ٤٨
و " وقودها النَّاس والحجارة " جملة من مبتدأ وخبر، صلة وعائد، والألف واللام في " النار " للعهد.
فإن قيل : الصِّلة مقررة، فيجب أن تكون معلومةً فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة ؟
والجواب : لا يمتنع أن يتقدّم لهم بهذه الصّلة معهودة عند السامع بدليل قوله تعالى :﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ [ النجم : ١٠ ] وقوله :﴿ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ﴾ [ النجم : ١٦ ] وقوله :﴿ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ﴾ [ النجم : ٥٤ ] وقال :﴿ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴾ [ طه : ٧٨ ] إلا أنه خلاف المشهور أو لتقدم ذكرها في سورة التحريم - وهي مدينة بالاتفاق - وقد غلط الزمخشري في ذلك.
والمشهور فتح واو الوقود، وهو اسم ما يوقد به.
وقيل : هو مصدر كالوَلوع والقَبُول والوَضُوء والطَّهُور، ولم يجئ مصدر على " فَعُول " غير هذه الألفاظ فيما حكاه سيبويه.
وزاد الكسائي : الوَزُوع. وقرئ٤٩ شاذًّا في سورة " ق " ﴿ وَمَا مَسَّنَا مِن لَغُوبٍ ﴾ [ ق : ٣٨ ] فتصير سبعة، وهناك ذكرت هذه القراءة، ولكن المشهور أن الوَقُود والوَضُوء والطَّهُور بالفتح اسم، وبالضم مصدر.
وقرأ٥٠ عيسى بن عمر بفتحها وهو مصدر.
وقال ابن عطية : وقد حُكيا جميعاً في الحطب، وقد حكيا في المصدر. انتهى.
فإن أريد اسم ما يوقد به فلا حاجة إلى تأويل، وإن أريد بهما المصدر فلا بد من تأويل، وهو إما المُبَالغة أي : جُعِلُوا نفس التوقد مبالغة في وضعهم بالعذاب، وإمَّا حذف مضاف، إمّا من الأول أي أصحاب توقدها، وإمّا من الثاني أي : يوقدها إحراق الناس، ثم حذف المُضَاف، وأقيم المضاف إليه مُقَامه. والهاء في " الحِجَارة " لتأنيث الجمع.
فَصْلٌ في تثنية " الَّتي " وجَمْعِهِ
وفي تثنية " الّتي " ثلاث لغاتٍ :
" اللَّتَانِ "، و " اللَّتَا " بحذف النون، و " اللَّتَانّ " بتشديد النون، وفي جمعها خَمْسُ لُغَاتٍ :" اللاَّتي " - وهي لغة القرآن - و " اللاَّتِ " - بكسر التاء بلا ياء - و " اللَّوَاتي "، و " اللَّوَاتِ " - بلا ياء، وأنشد أبو عُبَيْدة :[ الرجز ]
مِنَ اللَّوَاتِي وَالَّتِي وَاللاَّتِ *** زَعَمْنَ أَنِّي قَدْ كَبِرْتُ لِدَاتي٥١
و " اللَّوَاءِ " بإسقاط " التاء " حكاه الجوهريُّ.
وزاد ابن الشَّجَرِيِّ :" اللاَّئي " بالهمز وإثبات " الياء "، و " اللاءِ " بكسر " الهمزة " وحذف " الياء " و " اللاّ " بحذف الهمزة، فإن جمعت الجمع، قلتَ في " اللاتي " :" اللواتي " وفي " اللائي " :" اللوائي ".
قال الجوهريُّ : وتصغير " الَّتي " " اللَّتَيَّا " بالفتح والتشديد، قال الراجز :[ الرجز ]
بَعْدَ اللَّتَيَّا واللَّتَيَّا وَالَّتِي *** إذَا عَلَتْهَا أَنْفُسٌ تَرَدَّتِ٥٢
وبعض الشعراء أدخل على " الَّتي " حرْفَ النداء، وحروف النداء لا تدخلُ على ما فيه الألف واللام إلاَّ في قولنا :" يَا أَللَّه " وحده، فكأنه شبهها به ؛ من حيث كانت الألفُ واللاَّمُ غير مفارقتين لها، وقال :[ الوافر ]
مِنْ اجْلِكِ يَا الَّتي تَيَّمْتِ قَلْبِي *** وَأَنْتِ بَخِيلَةٌ بِالوُدِّ عَنِّي٥٣
ويقال :" وقع فُلاَنٌ في اللَّتَيَّا وَالَّتي " وهما اسمان من أسماء الداهِيَة.
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب٥٤ : انتفاء إتيانهم بالسورة واجبٌ، فهلاَّ جيء ب " إذا " الذي للوجوب دون " إن " الذي٥٥ للشك ؟ والجواب : من وجهين :
أحدهما : أنه ساق القول معهم على حسب حسابهم، وأنهم لم يكونوا بعد جازمين بالعجز عن المُعَارضة ؛ لاتكالهم على فصاحتهم، واقتدارهم على الكلام.
والثَّاني : أنه تهكّم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة لمن هو دونه :" إن غلبتك لم أُبْقِ عليك "، وهو عالم أنه غالبه تهكماً به. فإن قيل : ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله. والجواب : إذا ظهر عجزهم عن المُعَارضة صَحّ عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا صَحّ ذلك ثم لزموا العِنَادَ استوجبوا العقاب بالنار، فاتقاء النار يوجب ترك العناد، فأقيم المؤثر مقام الأثر، وجعل قوله :﴿ فَاتَّقُواْ النَّارَ ﴾ قائماً مقام قوله : فاتركوا العناد، فأناب إبقاء النار منابه.
و " الحجارة " روي عن ابن مسعود والفراء - رضي الله تعالى عنهما - أنها حجارة الكبريت٥٦، وخصّت بذلك ؛ لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الإيقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدُّخَان، وشدّة الالتصاق بالأبدان، وقوة حرها إذا حميت.
وقيل : المراد بالحجارة الأصنام، لأنهم لما قرنوا أنفسهم بها في الدنيا حيث نحتوها أصناماً، وجعلوها أنداداً لله، وعبدوها من دونه قال تعالى :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] وفي معنى " الناس والحجارة " و " حصب جهنم " في معنى " وقودها ".
ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشّفعاء، والشهداء الذين يشفعون لهم، ويستدفعون بها المضار عن أنفسهم جعلهم الله عذابهم، فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغاً في تحسيرهم، ونحوه ما يفعل بالكافرين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة فشحُّوا بها، ومنعوها من الحقوق، حيث يحمى عليها في نار جهنّم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.
قال ابن الخطيب٥٧ : والقول بأنها حجارة الكبريت تخصيص بغير دليل، بل فيه ما يدلّ على فساده ؛ لأن الغرض هُنَا تفخيم صفة النَّار، والإيقاد بحجارة الكبريت أمر معتاد، فلا يدلّ الإيقاد بها على قوة النار.
أما لو حملنا على سائر الحجارة، دلّ على عظم أمر النار ؛ فإن سائر الأحجار تطفأ بها النيران، فكأنه قال : تلك النَّار نار بلغت لقوتها أن تتعلّق في أوّل أمرها بالحجارة التي هي مطفئة لنيران الدُّنيا.
قال القرطبي :" وليس في قوله تعالى :﴿ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [ البقرة : ٢٤ ] دليلٌ على أنه ليس فيها غير الناس والحجارة، بدليل ما ذكره في غير موضع، مع كون الجن والشياطين فيها " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" كل مؤذٍ في النَّار " ٥٨ وفي تأويله وجهان :
أحدهما : كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار.
والثاني : أن كل ما يؤذي النَّاس في الدنيا من السِّباع والهوام وغيرها في النار معدّ لعقوبة أهل النار.
وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي للكافرين خاصّة.
روى مسلم " عن العباس بن عبد المطّلب٥٩ - رضي الله عنه - قال : قلت : يا رسول الله، إنّ أبا طالب٦٠ كان يحوطك وينصرك، فهل ينفعه ذلك ؟ قال :" نعم، وَجَدْتُهُ في غَمَرَاتٍ من النَّارِ فأخرجته إلى ضَحْضَاحٍ " ٦١.
وفي رواية :" ولَوْلاَ أَنَا لكان في الدَّرْكِ الأَسْفَلِ من النار " ويدلُّ على هذا التأويل قوله :﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾.
وقال ابن الخطيب٦٢ : وليس فيها ما يدلُّ على أنه ليس هناك نيران أخر غير موصوفة بهذه الصِّفة، معدّة لفساق أهل الصلاة.
قوله تعالى :﴿ أُعِدَّتْ ﴾ فعلٌ لما لم يسمَّ فاعلُهُ، والقائم مقام الفاعل ضمير " النَّارِ "، والتاء واجبةٌ، لأن الفعل أسند إلى ضمير المؤنَّث، ولا يلتفَتُ إلى قوله :[ المتقارب ]
فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا *** وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا٦٣
لأنه ضرورةٌ ؛ خلافاً لابن كَيْسَان.
و " للكافرين " متعلّق به، ومعنى " أُعِِدَّتْ " : هُيِّئَتْ ؛ قال :[ مجزوء الكامل ]
أَعْدَدْتُ لِلْحَدَثَانِ سَا *** بِغَةً وَعَدَّاءً عَلَنْدَى٦٤
وقرئ٦٥ :" أُعْتِدَتْ " من العَتَاد بمعنى العدة، وهذه الجملة الظاهر أنها لا محلّ لها، لكونها مستأنفة جواباً لمن قال : لمن أعدت٦٦ ؟
وقال أبو البَقَاء : محلها النصب على الحال من " النار "، والعامل ف
اعلَمْ: أنَّه - سبحانه وتعالى - لمَّا تكلَّم في التوحيد والنُّبوَّة، تكلَّم بعدهما في ذكر المَعَاد، وبيَّن عقاب الكافر، وثواب المُطيعِ، ومن عادة الله - تعالَى - أنه إذا ذَكَرَ الوَعِيدَ، أَنْ يعقبَهُ بذكرِ الوَعْد.
وها هنا فُصُولٌ:
الأوَّلُ: هذه الآياتُ صريحةٌ في أنَّ الجنَّة والنَّار مخلوقَتَانِ، لأنه - تعالى -[قال] في صفَة النَّار: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٤] وقال في صفَة الجَنَّة في آية أخْرَى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٣]، وقال ها هنا: ﴿وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ وهذا إخبار عن وُقُوع هذا المُلْك وحُصُوله، وحُصُول المُلْك في الحالِ يقْتَضي حصُولَ
445
المَمْلُوك في الحال؛ فَدَلَّ على أنَّ الجنَّة والنَّار مخْلُوقَتَان.
الثاني: مَجَامَعُ اللَّذَّاتِ: إما المَسْكن، أو المَطْعم، أو المَنْكَح.
فَوَصَفَ تعالى المَسْكَن بقولِهِ: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ والمَطْعَمَ بقوله: ﴿كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً﴾ والمَنْكَح بقوله: ﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾.
ثم هذه الأشياءُ إنْ حصَلَتْ، وقارنَهَا خوْفُ الزوالِ، كان النَّعِيمُ مُنَغَّصاً، فبيَّن - تعالى - زوالَ هذا الخَوْف بقوله: ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ ؛ فدلَّت الآيةُ على كَمَال النَّعيم والسُّرور.
الثالثُ: قولُهُ: ﴿وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ﴾ هذه الجملةُ معْطُوفة على ما قَبْلها، عَطَف جُمْلَةَ ثوابِ المُؤْمنين، على جملة ثَوَاب الكافرين، وجاز ذلك؛ لأنَّ مذْهب سِيبَويهِ - وهو الصَّحيحُ -: أنَّه لا يشترطُ في عَطْفِ الجُمَلِ التَّوافُقُ معْنًى، بل تُعْطَف الطلبيَّة على الخَبَرية؛ وبالعكس؛ [بدليل] قوله: [الطويل]
٣٠٦ - تُنَاغِي غَزَالاً عِنْدَ بَابِ ابْنِ عَامِرٍ وَكَحَّلْ أَمَاقِيكَ الحِسَانَ بِإِثْمِدِ
وقولِ امرِئ القَيْسِ: [الطويل]
٣٠٧ - وإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ وَهَلْ عِنْدَ رَسْمِ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
وقال ابنُ الخَطِيبِ: ليس الَّذي اعتمد بالعَطْف هو الأَمْر، حتى يطلب له مشاكل من أمر ونهي يعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة ثواب المؤمنين؛ فهي معطوفة على جملة وَصْف عقاب الكافرين كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والضرب وَبَشِّرْ عمرو بالعفو والإطلاق.
وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون عطفاً على «فاتَّقوا» ليعطف أمراً على أمر، وهذا قد رده أبو حيان بأن «فاتقوا» جواب الشرط، فالمعطوف يكون جواباً؛ لأن حكمَه حكمُه، ولكن لا يصح؛ لأن تبشيره للمؤمنين لا يترتب على قوله: «فإن لم تفعلوا».
وقرئ: «وبُشَِّرَ» [ماضياً] مبنيًّا للمفعول.
446
وقال الزمخشري: «وهو عَطْف على أعدت».
قيل: وهذا لا يتأتى على إعراب «أعدت» حالاً؛ لأنها لا تصلح للحالية.
وقيل: عطفها على «أعدت» فاسد؛ لأن «أعدت» صلة «التي»، والمعطوف على الصلة صلة، ولا يصلح أن يقال: «الباء» التي بشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنَّ لهم جنَّاتٍ، إلاَّ أن يعتقد أن قوله: «أُعِدَّتْ» مستأنفٌ، والظاهِرُ أنَّهُ من تمام الصلة، وأنَّهُ حالٌ من الضمير في «وقودها»، والمأمور بالبشارة يجوز أن يكون الرسولُ عليه السَّلامُ، وأن يكون كُلُّ سَامِعِ، كما قال عليه السلام:
«بَشِّر المَشِّائِينَ إلَى المَسَاجِدِ في الظُّلَمِ بِالنُّورِ التَّامِّ يوم القِيَامِةِ»، لم يأمر بذلك أحداً بعينه، وإنَّما كل أحدٍ مأمور به.
و «البِشارةُ» : أوّل خبرٍ من خيرٍ أو شَرٍّ؛ قالوا: لأنَّ أثرها يظهرُ في البَشَرَةِ، وهي ظاهرُ جِلْدِ الإنْسَانِ؛ وأنْشَدُوا: [الوافر]
٣٠٨ - يُبَشِّرُنِي الغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي... فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتُكَ مِنْ بَشِيرِ
وقال آخر: [الطويل]
٣٠٩ - وَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أنَّ أَحِبَّتِي جَفَوْني وأّنَّ الوُدَّ مَوْعِدُهُ الحَشْرُ
وهذا رأى سيبويه، إلاّ أنَّ الأكثر استعمالُهَا في الخير، وإن استُعْمِلَتْ في الشَّرِّ فَبِقَيْدٍ؛ كقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ﴾ [آل عمران: ٢١]، وإن أُطْلِقَتْ، كان للخَيْرِ.
وقال البغويُّ: «البِشَارَةُ كل خبر صدقٍ».
وقال ابن الخطيب: إنَّها الخبرُ الذي يُظْهِرُ السرور، ولهذا قال الفقهاءُ: إذا قال لعبيده: أيُّكم يُبَشِّرُنِي بقدوم فلان فهو حرٌّ، فَبَشَّروه فُرَادَى، عَتَق أولهم؛ لأنَّهُ هو الذي أفاد خبره السرور. ولو قال مكان بَشَّرَني «: اَخْبَرَنِي عَتَقُوا جميعاً؟ لأنَّهم جميعاً أخبروه، ظاهِرُ كلام الزمخشري أنَّها تختص بالخير؛ لأنَّهُ تَأَوَّلَ» فبشِّرهم بعذابٍ «على العكس في
447
الكلام الذي يقصد به الزيادة في غيظ المُسْتَهْزَأ بَهِ وتَأَلُّمِهِ، كما يقول الرَّجُلُ لِعَدوِّه: أَبْشِرْ بقتل ذريتك ونَهْبِ مالك.
والفِعْلُ منها بَشَرَ وبَشََّرَ مخففاً ومثقلاً، فالتثقيل للتكثير بالنسبة إلى البشيرة.
وقد قُرِئ المضارع مخففاً ومشدَّداً.
وأمَّا الماضي فلم يقرأ به إلا مثقلاً نحو ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾ [هود: ٧١] وفيه لغةٌ أخرى: أَبْشَرَ مِثل أَكْرَمَ.
وأنكر أبو حَاتِمٍ التخفيف، وليس بصواب لمجيء مضارعه.
وبمعنى البشارة: البُشُور والتَّبْشِير والإِبْشَار، وإن اختلفت أفعالُها، والبِشَارةُ أيضاً: الجَمَالُ، والبشيرُ: الجميلُ، وتباشيرُ الفَجْرِ أَوائِلُهُ.
وكون صلة» الَّذين «فعلاً ماضياً دون كونه اسم فاعل، دليلٌ على أنه يستحقُّ التبشير بفضل الله ممن وقع منه الإيمانُ، وتحقَّقَ به وبالأعمال الصالحة.
و»
الصَّالِحَاتُ «: جمع» صالحة «، وهي من الصفات التي جَرَت مجرى الأسماءِ في إيلائِها العوامل؛ قال: [البسيط]
٣١٠ - كَيْفَ الهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ مِنْ آلِ لأْمٍ بِظَهْرِ الغَيْبِ تَأْتِيني
وعلامةُ نصبه الكَسْرَةُ؛ لأنَّهُ من باب جمع المؤنث السالم عن الفتحةِ، التي هي أصلُ النَّصْبِ.
قال معاذ:»
العملُ الصالحُ الذي فيه أربعة أشياء: العِلْمُ والنِّيَّهُ والصَّبْرُ والإخْلاصُ «.
وقال عثمان بن عَفَّان:»
أخلصوا الأعمال «.
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب: هذه الآية تدلّ على أن الأعمالَ غير داخلةٍ في الإيمان؛ [لأنَّهُ لمَّا ذكر الإيمان]، ثمَّ عطف عليه العمل الصالح، فوجب التغير وإلا لزم التكرار، وهو خلاف الأصل.
قوله: ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾.
»
448
جنَّاتٍ «: اسم:» أنَّ «. و» لهم «خَبَرٌ مُقَدَّمٌ.
ولا يجوز تقديم خبر «أنَّ وأخواتها إلاَّ ظرفاً أو حرف جرٍّ، و»
أنَّ «وما في حيِّزها في محل جرٍّ عند الخليل والكسائي، ونصب عند سيبويه والفرَّاء؛ لأنَّ الأصل: وبَشِّرِ الذين آمنوا بأنَّ لهم، فحذف حرف الجرِّ مع» أنَّ «، وهو حذفٌ مطَّرِدٌ معها، ومع» أنَّ «الناصبة للمضارع، بشرط أَمْنِ اللَّبْسِ، بسبب طولهما بالصلةِ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجرَِّ، جرى الخلافُ المذكورُ، فالخليلُ والكسائيُّ يقولان:» كأنَّ الحرف موجود، فالجرُّ بَاقٍ «.
واستدلَّ الأخفشُ لهما بقول الشاعر: [الطويل]
٣١١ - وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً إِلَيَّ وَلاَ دَيْنٍ بِهَا أَنَا طَالِبُهْ
فَعَطْفُ»
دَيْنٍ «بالجرِّ على محلِّ» أنْ تَكُونَ «يُبَيِّنُ كونَها مجرورةً.
قيل:»
ويحتملُ أن يكون من باب عطفِ التَّوَهُّمِ، فلا دليل فيه «.
والفرَّاءُ وسيبويه يقُولاَن: وجَدْنَاهُمْ إذا حذفوا حرفَ الجرِّ، نَصَبُوا؛ كقولِهِ: [الوافر]
٣١٢ - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا كَلاَمُكُمْ عَلَيَّ إِذَنْ حَرَامُ
أي: بالدِّيار، ولا يجوزُ الجَرُّ إلاَّ في نادرِ شِعْرٍ؛ كقوله: [الطويل]
٣١٣ - إِذَا قِيلَ:
أيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ؟ أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ
أي: إلى كُلَيْبٍ؛ قول الآخر: [الكامل]
٣١٤ -............................... حَتًَّى تَبْذَّخَ فَارْتَقَى الأعْلاَمِ
أي: إلى الأَعْلاَم.
449
و» الجَنَّةُ «: البُسْتَانُ.
وقيل: الأرضُ ذات الشَّجرِ، سمّيت بذلك لسترها من فيها، ومنه»
الجَنِينُ «لاستتاره، و» المِجَنُّ «: التُّرْسُ، وكذلك» الجُنَّةُ «لاستتارهم عن أَعْيُنِ النَّاسِ.
قال الفرَّاءُ:»
الجنَّةُ «ما فيه النخيل، و» الفردوس «: ما فيه الكرم.
فإن قيل: لم نُكِّرت»
الجنَّاتُ «وعُرِّفت» الأنهار «؟ فالجواب: أنَّ» الجنَّة «اسم لدار الثَّواب كلها، وهي مشتملةٌ على جنّات كثيرة مُرَتَّبةٌ مراتبَ على استحقاقات العاملين، لكل طبقةٍ منهم جنةٌ من تلك الجنَّات.
وأمَّا تعريف»
الأنهار «، فالمرادُ به الجنس، كما يقال: لفلان بستانٌ فيه الماء الجاري والتين والعنب، يشيرُ إلى الأجناس التي في علم المخاطب، أو يشار باللام إلى أنهاٍ مذكورةٍ في قوله: ﴿فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى﴾ [محمد: ١٥].
قوله: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ هذه الجملة في محلّ نصبٍ، لأنَّها صفةٌ ل»
جنَّات «.
و»
تَجْري «مرفوع لتجرُّدِه من الناصب والجازم، وعلامةُ رفعه ضمّةٌ مقدرةٌ في» الياء «استثقالاً، وكذلك تقدَّرُ في كُلٍِّ فَعْلٍ مُعْتَلٍّ نحو:» يَدْعو «، و» يَخْشَى «، إلاَّ أنَّها تُقَدَّرُ في» الأَلِفِ «تعذُّراً.
»
من تحتها «أي: من تحت أَشْجَارها ومساكنها.
وقيل: من تحتها أي: بأمرهم.
كقول فرعون: ﴿تَجْرِي مِن تحتيا﴾ [الزخرف: ٥١] أي: بأمري.
و «الأنهارُ»
جمعُ نَهْرٍ بالفتح، وهي اللُّغةُ العالية، وفيه تسكين «الهاء» ولكن «أفعال» لا ينقاس في «فَعْل» السَّاكن العين، بل يحفظ نحو: «أَفْراخ»، و «أَزْنَاد»، و «أفراد.
و»
النَّهرُ «: دونَ البحرِ، وفوق الجدول، وهل هو مجرى الماءِ، أو الماء الجاري نفسُه؟
والأوَّلُ أظهرُ؛ لأنًَّه مشتقٌّ من»
نَهَرَُ «أي: وَسَّعْتُ.
قال قَيْسُ بن الخطِيمِ يصفُ طَعْنَةً: [الطويل]
٣١٥ - مَلَكْتُ بِهَا كَفَِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا................................
450
أي: وَسَّعْتُ.
ومنه:» النَّهارُ «لاتِّساع ضوئِهِ، وإنَّما أُطْلِقَ على الماء مجازاً إطلاقاً للمحلِّ على الحالِّ.
ومنه قوله عليه السَّلامُ:»
ما أَنْهَرَ الدَّمَ «معناه: ما وسَّعَ الذَّبْحَ؛ حَتَّى يجري الدَّم كالنَّهْرِ، وجمعُ النَّهرِ: نَهَرٌ وأَنْهَارٌ، وَنَهْرٌ نَهِرٌ: كثير الماء.
قال أبو ذُؤَيب: [المتقارب]
٣١٦ - أَقَامَتْ بِهِ وَابْتَنَتْ خَيْمَةً عَلَى قَصَبٍ وَفُرَاتٍ نَهِرْ
ورُوِيَ أنَّ أنهار الجنة ليست في أخاديد، إنَّما تجري على سطح الجنَّةِ منبسطة بالقدرة، والوقفُ على»
الأنهار «حَسَنٌ وليس بتامٍّ و» من تَحْتِهَا «متعلقٌ ب» تجري «، و» تحت «مكانٌ لا يتصرَّفُ، وهو نقيض» فوق «، إذا أُضِيفَا أُعْرِبَا، وإذا قَطِعَا بنيا على الضَّمِّ. و» مِنْ «لابتداء الغاية.
وقيل: زائدةٌ.
وقيل: بمعنى»
في «، وهما ضعيفان.
واعلم أنَّهُ إذا قيل بأنَّ الجَنَّة هي الأرضُ ذاتُ الشَِّجرِ، فلا بُدَّ م حَذْفِ مضاف، أي: من تحت عَذْقِها أو أَشْجَارها.
وإن قيل: بأنَّها الشَّجَرُ نفسه، فلا حَاجَةَ إلى ذلك.
وإذا قيل: بأنَّ الأنهار اسمٌ للماء الجاري فَنِسْبَةُ الجَرْي إليه حقيقة، [وإن قيل بأنَّهُ اسمٌ للأُخْدُودِ الذي يَجْرِي فيه، فنسبةُ الجَري إليه] مجازٌ، كقول مهلهل: [الكامل]
451
٣١٧ - نُبِّئْتُ أَنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتِ وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يَا كُلَيْبُ المَجْلِسُ
قال أبو حيِّان: وقد ناقض ابن عطية كلامه هنا، فإنَّه قال:» والنهارُ: المياهُ في مجاريها المتطاولةِ الواسعةِ «ثمَّ قال: نُسِبَ الجريُ إلى النَّهْرِ، وإنَّمَا يجري الماءُ وحدّث توسُّعاً وتجوُّزاً، كما قال: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] وكما قال: [الكامل]
٣١٨ - ب - نُبِّئْتُ أنَّ النَّارَ..................................................
والألف واللاَّمُ في»
النهار «للجنس.
وقيل: للعَهْدِ لذكرها في سورةِ القتالِ.
وقال الزمخشري: يجوز أن تكون عوضاً من الضَّمير كقوله: ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ [مريم: ٤] أي:»
أَنْهَارُها «يعني أنَّ الأصل: واشتعل رأسي، فَعَوَّضَ» أل «عن ياء المتكلم، وهذا ليس مذهب البَصَريين، بل قال به بعضُ الكوفيِّين؛ وهو مردود بأنَّهُ لو كانت» أَلْ «عوضاً من الضمير، لَمَا جُمِعَ بينهما، وقد جُمِعَ بينهما؛ قال النَّابغةُ: [الطويل]
٣١٨ - ب - رَحِيبٌ قِطَابٌ الجَيْبِ مِنْهَا رَقِيقَةٌ بجَسِّ النَّدَامَى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ
فقال: الجيب منها، وأمَّا ما ورد، وظاهره ذلك، فيأتي تأويله في موضعه.
قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ﴾
تقدَّم القولُ في «كُلَّمَا»
وهذا لا يخلو إمَّا أن يكون صفة ثانيةِ ل «جنَّاتٍ تجري»، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة؛ لأنَّه لَمَّا قيل: «أنَّ لهم جنَّاتٍ» لم يَخْلُ قَلْبُ السَّامِعِ أنْ يقع فيه أنَّ ثمار تلك الجنَّات تُشبهُ ثِمَارَ الدُّنْيَا أم لا؟
والعامِلُ في «كُلَّما» هاهنا «قالوا».
و «مِنْهَا» متعلِّقٌ ب «رُزِقُوا»، و «مِن» لابتداء الغاية، وكذلك «من ثَمَرَةٍ»، لأنَّها بدلٌ من قوله: «منها» بدلُ اشتمالٍ بإعادة العاملِ.
452
وإنَّما قلنا: إنه بدل اشتمال؛ لأنَّهُ لا يتعلّق حرفان بمعنى واحدٍ بعاملٍ واحد، إلاَّ على سبيل البدلية، أو العطف.
وأجاز الزَّمخشري أنَّ «مِنْ» للبيان كقولك: «رأيتُ منك أسداً» ؛ وفيه نظرٌ؛ لأنَّ من شرط ذلك أن يَحِلَّ مَحَلَّها موصولٌ، وأن يكون ما قبلها مُحَلَّى ب «أل» الجنسية، وأيضاً فليس قبلها شيء يَتَبَيَّنُ بها، وكونُها بياناً لما بعدها بعيدٌ جِداً، وهو غير المصطلح.
«رِزْقاً» مفعولٌ ثانٍ ل «رُزِقُوا»، وهو بمعنى «مَرْزُوقٍ»، وكونُهُ مصدراً بعيدٌ؛ لقوله: ﴿هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً﴾، والمصدر لا يؤتى به متشابهاً، وإنما يؤتى بالمرزوق كذلك.
قوله: ﴿قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ﴾.
«قالوا» : هو العاملُ في «كلما» كما تقدّم، و «هَذَا الَّذِي رزِقْنَا» مبتدأ في محل نصب بالقول، وعائِدُ الموصول محذوفٌ؛ لاستكماله الشُّروط، أي: رُزِقْناه.
و «مِنْ قبلُ» متعلِّقٌ به.
و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، ولَمَّا قطعت «قَبْلُ» بُنِيَتْ [وإنما بنيت] على الضَّمَّةِ؛ لأنها حركة لم تكنْ لها حالَ إعرابها.
واختلف في هذه الجملةِ، فقيل: لا محلَّ لها من الإعراب؟ لأنَّها استئنافيةٌ، فإنَّهُ قيل: لَما وصفت الجَنَّاتُ ما حالها؟
فقيل: كُلَّمَا رُزِقُوا قالوا.
وقيل: لَهَا محلٌّ، ثُمَّ اختلف فيه، فقيل: رَفْعٌ على أنَّه خبر مبتدأ محذوف، واختلف في ذلك المبتدأ، فقيل: ضمير «الجنَّات»، أي: هي كلَّما وقيل ضمير «الَّذين آمنوا» أي: هم كُلَّما رُزِقوا قالوا.
وقيل: مَحَلُّها نَصْبٌ على الحالِ، وصاحبُها: إمَّا «الذين آمنوا»، وإمَّا «جنات»، وجاز ذلك، وإن كانت نكرة؛ لأنها تخصصت بالصفةِ، وعلى هذين تكون حالاً مُقَدَّرة؛ لأنَّ وقت البشارة بالجَنَّاتِ لم يكونوا مرزوقين ذلك.
وقيل: مَحَلُّهَا نَصبٌ على أنَّها صفة ل «جنات» أيضاً.
فَصْلٌ في المشبه به في الآية
الآية تَدُلُّ على أنَّهُمْ شَبَّهُوا رزقهم الذي يأتيهم في الجنَّة بِرِزْقهم قبل ذلك، فالمُشَبَّهُ بِهِ أهو من أرزاق الدنيا، أم من أرزاق الآخرة؟ ففيه وجهان:
453
أحدهما: أنَّه من أَرْزَاق الدنيا، وفيه وجهان:
أحدهما: هذا الذي وَعَدنَا به في الدُّنيا.
والثَّاني: هذا الذي رُزِقنا في الدنيا، لأنَّ لونه يشبهُ ثمار الدُّنيا، فإذا أكلوا وجدوا طَعْمَهُ غير ذلك.
الوجه الثاني: أنَّ المُشَبَّهُ به ثمار الآخرة، واختلفوا فيما حصلت المشابهة فيه على وجهين:
الأول: المراد تساوي ثوابهم في كُلِّ الأوقات في القدر والدرجة؛ حَتَّى لا يزيدَ ولا ينقص.
الثاني: المراد المُشَابهة في المنظر، فيكون الثاني كأنَّه الأوّل على ما رُوِيَ عن الحسن، ثمَّ هؤلاء اختلفوا، فمنهم من يقول: الاشتباهُ كما يقع في المنظر يقع في الطَّعمِ. ومنهم من يقول: وإن حصل الاشتباه في اللَّون، لكِنَّها تكون مختلفةً في الطَّعْم.
قال الحَسَنُ: يؤتى أَحَدُهُمْ بالصّحفة فيأكل منها، ثُمَّ يُؤْتَى بالأخرى فيقول: هذا الذي أُوتِينَا به من قَبْلُ: فيقول الملك: «كُل فاللَّونُ واحدٌ، والطعمُ مختلفٌ».
فإن قيل: قوله: ﴿كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا﴾ مع قوله: «قالُوا: هذا الذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ» - هذا صيغةُ عموم، فيشمل كُلُّ الأوقاتِ التي رُزِقوا فيها، فيدخل فيه أوّل مَرّة رُزِقوا في الجنَّة، فلا بُدَّ وأن يقولوا: «هذا الذي رُزِقْنَا من قَبْلُ» فما الجواب على قولنا بَأَنَّ المشبَّه به ثِمَارُ الآخِرة؟ والجواب أنَّ عمل ذلك على ما وعدوا به في الدُّنْيَا، أو يكون تقدير الكلام: هذا الَّذِي رُزِقْنَا في الأَزَلِ.
قوله: ﴿وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً﴾ الظاهِرُ أنَّها جملةٌ مستأنفة.
وقال الزمخشريُّ فيها: هو كقولك: «فلانُ أَحْسِن بِفُلانٍ» ونِعْمَ ما فعل، ورأى من الرَّأي كذا، وكان صواباً.
ومنه: ﴿وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وكذلك يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: ٣٤].
وما أشْبَه ذلك من الحُمَلِ التي تُُسَاقُ في الكلام معترضةً للتقرير، يعني بكونها معترضة، أي من أحوال أَهْلِ الجنَّةِ، فإنَّ بَعْدَهَا: ﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ﴾، وإذا كانت معترضةً فلا محلَّ لها. وقيل: هي عَطْفٌ على «قالوا».
وقيل: مَحَلُّها النَّصبُ على الحالِ، وصاحبُها فاعل «قالوا» أي: قالوا هذا الكلام في
454
هذا الحال، ولا بُدَّ من تقدير «قد» قبل الفعل، أي: «وَقَدْ أُتُوا»، وأَصْلُ أُتُوا: أُتِيُوا مِثْل: ضُرِبوا، فأُعِلَّ كَنَظَائِرِهِ.
[وقرأ هارون] الأعور: «وأَتوا» مبنيّاً للفاعل، والضَّمير للولدان والخدم للتصريح بهم في غير موضع، والضميرُ في «به» يعود على المرزوق الذي هو الثمرات، كما أن هذه إشارة إليه. وقال الزمخشري: «يعود إلى المرزوق في الدُّنْيَا والآخرة؛ لأنَّ قوله: ﴿الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ﴾ انطوى تحته ذكر ما رُزِقُوه في الدَّارَيْنِ.
ونظيرُ ذلك قوله تعالى: ﴿إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا﴾ [النساء: ١٣٥] »
.
أي: بجنسي الغنيِّ والفقير المدلول عليهما بقوله: ﴿غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً﴾
[النساء: ١٣٥] ويعني بقوله: «انطوى تحته ذِكْرُ ما رُزُِقوه في الدَّارَيْنِ» اَنَّهُ لَمَّا كان التقديرُ: مِثْلَ الَّذي رُزِقْناه كان قد انطوى على المرزوقين معاً، كما أنَّ قَوْلَكَ: «زَيْدٌ مثلُ حاتمٍ» مُنْطَوٍ على زيدٍ وحاتمٍ.
قال أبو حيَّان: «وما قاله غيرُ ظاهرٍ؛ لأنَّ الظاهِرِ عَوْدُه على المرزوقِ في الآخرة فقط؛ لأنَّه هو المُحَدّثُ عنه، والمشبَّهُ بِالَّذِي رُزقوه من قبلُ، لا سيما إذا فسِّرت القبلية بما في الجنَّةِ، فَإِنَّهُ يتعيّنُ عَوْدُ على المرزوق في الجنَّةِ فقط، وكذلك إذا أعربت الجملة حالاً؛ إذ يصير التقديرُ: قالوا: هذا الذي رُزِقْنَا من قَبْلُ وقد أتوا به؛ لأنه الحامل لهم على هذا القول، كأنَّه أُتُوا به مُتَشَابِهاً وعلى تقدير أن يكون معطوفاً على قالوا، لا يَصِحُّ عوده على المرزوق في الدَّارين؛ لأن الإتيان إذ ذاك يستحيل أن يكون ماضياً معنىً؛ لأنَّ العامل في» كُلَّما «أو ما في حيزها يحتمل هُنا أن يكون مستقبل المَعْنَى؛ لأنها لا تخلو من معنى الشرط، وعلى تقدير كونها مستأنفة لا يظهر ذلك أيضاًً، لأنَّ هذه محدَّث بها عن الجَنَّةِ وأحوالها».
قوله: ﴿مُتَشَابِهاً﴾ حالٌ من الضَّمير في «به»، أي: يشبه بعضه في المنظر، ويختلف في الطعمِ، قاله بان عبَّاس ومجاهد، والحسن وغيرهم رضي الله - تعالى - عنهم.
وقال عكرمة: «يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُّنيا، ويباينه في جل الصَّفات».
455
قال ابن عبَّاس: «هذا على وَجْه التَّعَجُّبِ، وليس في الدُّنْيَا شيءٌ مما في الجَنَّةِ سِوَى الأسماء، فكأنَّهم تَعَجَّبُوا لِمَا رأوه من حُسْنِ الثَّمَرَةِ، وعِظم خالقها».
وقال قتادةُ: «خياراً لا رَذلَ فيه، كقوله تعالى: ﴿كِتَاباً مُّتَشَابِهاً﴾ [الزمر: ٢٣] وليس كثمار الدنيا التي لا تتشابه؛ لأنَّ فيها خياراً وغير خِيَار».
قوله: ﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ «لهم» خبر مُقَدَّم، وأزواج مبتدأ، و «فيها» متعلّق بالاستقرار الذي تعلّق به الخبر.
قال أبو البقاء: «لا يكون فيها الخبر، لأنَّ الفائدة تقل؛ إذ الفائدة في جَعْلِ الأَزواج لهم».
وقوله: «مُطَهَّرةٌ» صفة، وأتى بها مفردة على حدِّ: النساءِ طَهُرَتْ ومنه بيت الحماسة: [الكامل]
٣١٩ - وَإِذَا العَذَارَى بَالدُّخَانِ تَلَفَّعَتْ وَاسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ القُدُورِ فَمَلَّتِ
وقرأ زيد بن عليّ: «مُطَهَّراتٌ» على حَدِّ: النساءُ طَهَرْنَ.
وقرأ عبيد بن عمير: «مُطَهَّرة» يعني: متطَهِّرة.
والزوج ما يكون معه آخر، ويقالُ زوج للرَّجل والمرأة، وأمَّا «زَوْجَةٌ» فقليلٌ. قال الأَصْمَعِيُّ: لا تكاد العربُ تقول: زوجة، ونَقَلَ الفرّاءُ أنّها لغة «تميم»، وأنشد للفرزدق: [الطويل]
456
وفي الحديث عن عمَّار بن ياسرِ في حقِّ عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «إنِّي لاَعْلَمْ أنَّها زَوْجَتَهَ في الدُّنيا والآخرة»
ذكره البُخَاري رَضِيَ اللهُ عَنْه، واختاره الكسائيُّ. والزَّوجُ أيضاً: الصِّنْفُ، والتثنية: زوجان.
والطّهارة: النظافة، والفِعْلُ منها طَهَرَ بالفتح، ويَقِلُّ الضَّمُ، واسم الفاعل منها «طاهر» فهو مقيسٌ على الأوَّلِ، شاذّ على الثَّاني، ك «خاثر» و «حامِض» من خَثُرَ اللبنُ وحَمُضَ بضمِّ للعين. فإن قيل: طاهرة، الجوابُ: في المُطَهَّرةِ إشعارٌ بأنَّ مُطَهِّراً طَهَّرَهُنَّ، وليس ذلك إلاَّ الله تعالى، وذلك يفيد فخامة أهل الثواب، كأنَّهُ قيل: إنَّ الله - تعالى - هو الَّذي زَيَّنَهُنَّ.
قال مُجَاهد: «لا يَبُلْنَ ولا يَتَغَوَّطْنَ وَلاَ يلِدْنَ وَلاَ يَحِضْنَ، وَلاَ يُبْغَضْنَ».
وقال بعضه: «مُطَهَّرةٌ في اللغة أجمع من طاهرة وأَبْلَغ».
457
قوله: ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ هم مبتدأ، وخالدون خبره، وفيها متعلّق به.
وقال القرطبيُّ: «والظرفُ مَلْغِيٌّ، وقُدِّم ليوافق رؤوس الآي» وأجازوا أن يكون «فيها» خبراً أول، و «خالدون» خبر ثانٍ، وليس هذا بِسَدِيدٍ، وهذه الجملة والتي قبلها عطفٌ على الجملةِ قبلهما حسب ما تقدَّم.
وقال أبو البقاء: «وهاتان الجملتان مستأنفتان، ويجوز أن تكون الثانية حالاً من الهاء والميم في» لهم «، والعامِلُ فيها معنى الاستقرار».
قال القرطبي: «ويجوز في غير القرآن نصب» خالدين «على الحال».
و «الخلود» : المكث الطويل، وهل يُطْلَقُ على ما لا نهاية له بطريق الحقيقة أو المجاز؟ قولان.
قالت المعتزلة: «الخلد» : هو الثباتُ اللاَّزم، والبقاء الدائمُ الذي لا يقطع، واحْتَجُّوا بالآية، وبقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون﴾ [الأنبياء: ٣٤] فنفى الخلد عن البَشَرِ مع أنَّه - تعالى - أعطى بعضهم العمر الطويل، والمنفيّ غير المثبت، فالخلدُ هو البقاءُ الدَّائمُ؛ وبقول امرئ القيس: [الطويل]
٣٢٠ - وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي كَسَاعٍ إلَى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا
٣٢١ - وَهَلْ يَنْعَمَنْ إلاَّ سَعيدٌ مُخَلَّدٌ قَلِيلُ الهُمُومِ ما يَبِيتُ بأَوْجَالِ
قال ابن الخطيب: وقال أصحابنا: الخلدُ هو الثّباتُ الطويل، سواء دام أو لم يَدُم؛ واستدلُّوا بقوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ [التوبة: ١٠٠] ولو كان التأبيد داخلاً في مفهوم الخلد، لكان ذلك تكرُّراً، واستدلّوا أيضاً بالعرفِ؛ يقال: حَبَسَ فلانٌ فُلاَناً حَبْساً مُخَلَّداً، ويكتبُ في الأوقاف: وقَفَ فلانٌ وَقْفاً مُخَلَّداً.
وقال الآخرون: «العقلُ يَدُلُّ على دوامه؛ لأنه لو لم يجب الدوام، لجوّزوا انقطاعه، فكان خوف الانقطاع ينغص عليهم تلك النعمة، لأنَّ النِّعْمَةَ كُلَّمَا كانت أعظم كان خوفها انقطاعها أعظم وقعاً في القَلْبِ، وهذا يقتضي ألا ينفك أهل الثواب [ألبتة] من الغم والحسرةِ، وقد يجابُ عنه بأنَّهم عرفوا ذلك بقرينة قوله:» أبداً «.
458
اعلم أنَّه - تعالى - لَمَّا بَيَّنَ كون القرآن مُعْجزاً، أورد الكُفَّار هنا شبهةً قدحاً في ذلك، وهي أنَّهُ جاء في القرآن ذِكْرُ النَّحلِ، والعنكبوت، والنَّملِ، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفُصَحَاء، فاشتمالُ القرآن عليها يقدحُ في فصاحته، فَضْلاً عن كونه مُعْجزاً، وأجاب الله - تعالى - عنه بأنَّ صِغَر هذه الأَشْيَاء لا يقدح في فصاحةٍ، إذا كان ذكرها مشتملاً على حكم بالغة، فهذا هو الإشارة إلى كيفية تَعُلُّق هذه الآية بما قبلها.
روي عن ابن عبّاس - رضي اللهُ تعالى عنه - أنَّه لما قال: ﴿ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ﴾ [الحج: ٧٣] فطعن في أصنامهم، ثُمَّ شَبَّه عبادتها ببيت العَنْكَبُوت.
قال اليهود: أي قدر للذُّبَاب والعنكبوت حتَّى يَضْربَ اللهُ المَثَل بهما؟! فنزلت هذه الآية.
وقيل: إنَّ المُنَافقين طَعَنوا في ضرب الأمثال بالنَّار، والظلمات، والرَّعد، والبَرْق في قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً﴾ [البقرة: ١٧] وقوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء﴾ [البقرة: ١٩] قالوا: اللهُ أَجَلُّ وأعلى من أن يضرِبَ الأمثالَ، فأنزل الله هذه الآية، وهذه رواية أبي صالح عن ابن عبّاس.
وروى عطاء عن ابن عبّاس أيضاً أنَّ هذا الطعن كان من المشركين.
فقال القَفَّالُ رَحِمَهُ اللهُ: الكُلُّ محتملٌ هاهنا. أمَّا اليهود، فلأنه قيل في آخر الآية: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ وهذا صفة اليهود؛ لأنَّ الخطاب بالوفاءِ بالعهدِ إنَّمَا هو لبني إسرائيل، وأمَّّا الكفار والمنافقون فقد ذكروا في سورة «المدثر» :﴿وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً﴾ [المدثر: ٣١]، فالذين في قلوبهم مرض هم الكافرون المُنَافقون، والذين كفروا يحتمل المشركين، لأنَّ السورة مَكِّيَةٌ، فقد جُمِعَ الفريقان ها هنا.
إذا ثبت هذا، فنقول: احتمال الكُلِّ هاهنا قائمٌ؛ لأنَّ الكافرين والمُنافقين واليهود
459
كانوا مُتَوَافقين في إيذاء الرَّسول، وقد مضى من أوّلِ السُّورةِ إلى هذا الموضع ذكر المنافقين، واليهود، والمشركين، وكُلُّهم من الذين كفروا.
ثُمَّ قال القَفَّال: «وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداءً من غير سبب؛ لأنَّ معناه مفيدٌ في نفسه».
فَصْلٌ في معنى الحياء واشتقاقه
الحياء: تَغَيَّرَ وانكسارٌ يعتري الإنسانَ من خوفِ ما يُعَابُ بِهِ ويُذَم، واشتقاقه من الحياة، ومعناه على ما قال الزمخشري: نقصت حياته، واعتلت مجازاً، كما يُقَالُ: نَسِيَ وخَشِيَ، وشظي القوسُ: إذا اعتلت هذه الأعضاء، جُعِلَ الحييُّ لما يعتريه من الانكسار، والتَّغَيُّرِ منتكس القوة منتقص الحياة كما قالوا: فلان هلك من كذا حياءً، ومات حياءً، وذاب حياءً، يعني بقوله: «نَسِيَ وخَشِيَ وشظي» أي: أصيبَ نَسَاه، وهو «عرق» وحَشَاه، وهو ما احتوى عليه البَطْنُ، وشظاهُ وهو عَظْم في الوَرِك، واستعماله هُنَا في حَقِّ الله - تعالى - مَجَازٌ عن التَّرْكِ.
وقيل: مجاز عن الخِشْيَةِ؛ لأنَّها أيْضاً من ثمراته، وَرَجَّحَهُ الطَّبريُّ، وجعله الزمخشريُّ من باب المُقَابلةِ، يعني أنَّ الكُفَّارَ لَمَّا قالوا: أَمَا يَسْتَحي رَبُّ محمد أن يضرب المثَلَ بالمُحْقّرَات، «قُوبِلَ» قولهم ذلك بقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً﴾ [ونظيره قول] أبي تمَّام: [الكامل]
٣٢٢ - مَنْ مُبْلِغٌ أَفْنَاءَ يَعْرُبَ كُلَّهَا أَنِّي بَنَيْتُ الجَارَ قَبْلَ لمَنْزِلِ
لو لم يذكر بناء الدَّارِ لم يصحّ بناء الجار.
وقيل: معنى لا يستحيي، لا يمتنع، وأصْلُ الاستحياء الانقباضُ عن الشَّيء، والامتناعُ منه؛ خوفاً من مُواقعة القبيح، وهذا محالٌ على الله تعالى، وفي «صحيح مسلم» عن أم سلمة قالت: «جاءت أم سليم إلى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: يا رسولَ الله إنَّ اللهَ لا يَسْتَحي من الحَقِّ» المعنى لا يأمر بالحَيَاء فيه، ولا يمتنع من ذكره.
قال ابن الخطيب: «القانون في أمثال هذه الأشياء، أنَّ كُلَّ صفةٍ ثبتت للعبدِ مما يختص بالأجسام، فإذا وصف الله بذلك، فلذلك محمولٌ على نهايات الأعراض، لا
460
على بدايات الأعراض، مثاله: حالةٌ تَحْصُلُ للإنسان، ولكن هل لها مبدأ ومنتهى، أمَّا المبدأ فهو التغيُّر الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن يُنْسبَ إليه القبيح، وأمَّا النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل، فإذا ورد الحياءُ في حقِّ الله تعالى، فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته، بل تركُ الفعلِ الذي هو منتهاه وغايته، وكذلك الغضبُ [له مقدمةٌ] وهو غليان دم القَلْبِ وشهوة الانتقام وله غاية، وهي إنزال العقاب بالمغضوب عليه، فإذا وصفنا الله - تعالى - بالغَضَبِ، فليس المراد ذلك المبدأ، يعني شهوة الانتقام، وغليان دم القَلْبِ، بل المرادُ تلك النّهاية، وهي إنزال العقاب، فهذا هو القانون الكُلِّ في هذا الباب».
فَصْلٌ في تنزيه الخالق سبحانه
قال القاضي: ما لا يجوز على الله - تعالى - من هذا الجنس إثباتاً، فيجب أَلاَّ يطلق على طريقة النفي عليه، وإنَّما يقال: إنَّه - تعالى - لا يوصفُ به، فأمَّا أن يقال: «لا يستحي» ويطلقُ عليه فمحالٌ؛ لأنَّهُ يوهم نفي ما يجوز عليه، وما ذكره الله - تعالى - في كتابه من قوله: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: ٣] فهو بصورة النفي، وليس بنفي على الحقيقة، وكذلك قوله تعالى: ﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ﴾ [المؤمنون: ٩١]، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: ١٤] وليس كل ما ورد في القرآن جائز أن يُطْلَقَ في المخاطبة، فلا يجوز أن يطلق ذلك إلاَّ مع بيان أنَّ ذلك مُحَالٌ.
ولقائلٍ أن يقولَ: لاَ شَكَّ أنَّ هذه الصِّفات منتفيةٌ عن الله تعالى، فكان الإخبار عن انتفائها يدلُّ على صحّتها عليه.
فنقول: هذه الدلالة ممنوعة، وذلك أن تخصيص هذا النفي بالذكر، لا يَدُلُّ على ثبوته لغيره، لو قرنَ اللَّفظ بما يَدُلُّ على انتفاء الصِّحة كان ذلك أحسن، من حيث إنه يكون مبالغة في البيان، وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون ذلك قبيحاً.
فَصْلٌ في إعراب الآية
قوله: «لا يَستَحيي» جملة في محلِّ الرفع خبراً ل «أن»، واستفعل هنا للإغناء عن الثُّلاثي المجرّد.
وقال الزمخشري: «إنَّه مُوَافق له أي: قد ورد» حَيي «، و» استَحْيى «بمعنى واحد، والمشهور: اسْتَحْيَى يَسْتَحْيي فهو مستحيٍ ومُسْتَحْيىً منه من غير حَذْف».
461
قال القرطبي: «ويستحيي» أصله يَسْتَحْييُ عينه ولامه حرفا علة أعلّت «اللام» منه بأن استثقلت الضمةُ على «الياء» فسكنت، والجمعُ مستحيون ومستحيين، وقد جاء استحى يستحي فهو مستح مثل: اسْتَقَى يَسْتَقِي.
وقرأ به ابن محيصن.
ويروى عن ابن كثير، وهي لغة «تميم» و «بكر بن وائل»، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى «الحاء» فسكنت، ثم استثقلت الضَّمة على الثانية، فسكنت، فحذف إحداهما للالتقاء، والجمعُ مستحون ومستحين، قاله الجوهري.
ونقل بعضهم أن المحذوف هنا مختلفٌ فيه؛ فقيل: عينُ الكلمة، فوزنُه يَسْتَفِل.
وقيل: لامُه، فوزنه يَسْتَفِع، ثُمَّ نُقِلت حركةُ اللاَّم على القول الأوّل، وحركةُ العَيْن على القول الثاني إلى الفاء، وهي الحاء؛ ومن الحذف قولُه: [الطويل]
٣٢٣ - ألا تَسْتَحِي مِنَّا المُلُوكُ وَتَتَّقِي مَحَارِمَنا لاَ يَبُؤِ الدَّمُ بِالدَّمِ
وقال آخر: [الطويل]
٣٢٤ - إذا ما اسْتَحَيْنَ المَاءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ كَرَعْنَ بِسبْتٍ في إِنَاءٍ مِنَ الوَرْدِ
و «استحيي» يتعدَّى تارة بنفسه، وتارة بحرف جرّ تقول: استحييتُه وعليه:
إذا ما استحين الماء..
واستحييت منه؛ وعليه:
أَلاّ تستحي مِنَّا الملوك..
فيحتمل أن يكون قد تعدَّى في هذه الآية إلى أن يضرب بنفسه، فيكون في محل نصب قولاً واحداً، ويحتمل أن يكون تَعَدَّى إليه بحرف المحذوف، وحينئذٍ يجري الخلافُ المتقدّم في قوله: «أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ».
و «يَضْرِب» معناه: يُبَيِّنُ فيتعدَّى لواحدٍ.
وقيل: معناه التصييرُ، فيتعدّى لاثنين نحو: «ضَرَبْتُ الطِّينَ لَبِناً».
وقال بعضهم: «لا يتعدَّى لاثنين إلاَّ مع المثل خاصة»، فعلى القول الأوّلِ يكونُ «
462
مَثَلاً» مفعولاً و «ما» زائدة.
وقال أبو مسلم الأصفهاني: «معاذ الله أنْ يكون في القرآن زيادة».
وقال ابن الخطيب: والأصح قول أبي مُسْلِمِ؛ لأن الله - تعالى - وصف القرآن بكونه: هدى وبَيَاناً، وكونه لَغْواً ينافي ذلك، فعلى هذا يكون «ما» صفة للنكرة قبلها، لتزداد النكرة اتساعاً. ونظيره قولهم: «لأَمْرٍ مَّا جَدَعَ قَصيرٌ أَنْفُهُ» وقولُ امرئ القيس: [المديد]
٣٢٥ - وَحَدِيثُ الرَّكبِ يَوْمَ هُنَا وَحَدِيثٌ مَّا عَلَى قِصَرِهْ
وقال أبو البَقَاءِ: وقيل: «ما» نَكِرَةٌ موصوفةٌ، ولم يجعل بعوضة صفتها، بل جعلها بدلاً منها، وفيه نظرٌ؛ إذ يحتاج أن يُقدِّر صفةً محذوفة ولا ضرورة لذلك، فكان الأولى أن يجعل بعوضةً صفتها بمعنى أنَّهُ وصفها بالجنس المُنكَّرِ لإبهامِه، فهي في معنى «قليل»، وإليه ذهب الفرّاء والزَّجَّاجُ وثَعْلَبٌ، وتكون «ما» وصفتها حينئذٍ بدلاً من «مَثَلاً» و «بعوضة» بدلاً من «ما»، أو عطف بيان لها، إن قيل: «ما» صفة ل «مثلاً»، أو نعتٌ ل «ما» إن قيل: إنَّها بدلٌ من «مثلاً» كما تقدَّم في قول الفَرَّاء، وبدلٌ من «مثلاً» أو نعتٌ ل «ما» إن قيل: إنَّها بدلٌ من «مثلاً» كما تقدَّم في قول الفَرَّاء، وبدلٌ من «مثلاً» أو عطف بيان له إن قيل: إن «ما» زائدة.
وقيل: «بعوضة» هو المفعول، و «مثلاً» نُصِبَ على الحالِ قُدِّمَ على النكرةِ.
وقيل: نُصِبَ على إسقاط الخافض، التقدير: ما بين بعوضةٍ، فلمَّا حُذِفَتْ «بين» أعربت «بعوضة» بإعرابها، وتكون الفاء في قوله: «فما فوقها» بمعنى إلى، أي: إلى ما فوقها، ويعزى هذا للكسائي والفرّاء وغيرهم من الكوفيين؛ وأنشدوا: [البسيط]
٣٢٦ - يَا أَحْسَنَ النَّاسِ مَا قَرْناً إلَى قَدَمٍ وَلاَ حِبَالَ مُحِبٍّ وَاصِلٍ تَصِلُ
أي: ما بين قَرْنٍ.
وَحَكَوْا: «له عشرون ما ناقةً فَجَمَلاً»، وعلى القول الثَّاني يكونُ «مثلاً» مفعول أوَّلَ، و «ما» تحتمل الوجهين المتقدمين، و «بعوضةً» مفعولٌ ثانٍ.
وقيل: بعوضةً هي المفعولُ الأولُ، و «مَثَلاً» هو الثَّاني، ولَكِنَّهٌُ قُدِّم.
وتلخَّص مما تقدَّم أنَّ في «ما» ثلاثة أوجه:
زائدة، صفة لما قبلَها، نكِرةٌ موصوفةٌ، وأنَّ في «مثلاً» ثلاثة أيضاً:
463
مفعول أوّل، أو مفعول ثان، أو حالٌ مقدّمة، وأنَّ في «بعوضة» تسعة أوجه، والصوابُ من ذلك كُلُّه أن يكون «ضَرَبَ» متعدِّياً لواحدٍ بمعنى بَيَّنَ، و «مثلاً» مفعولٌ به، بدليل قوله: «ضُرِبَ مَثَلٌ»، و «ما» صفةٌ للنَّكِرة، و «بعوضةً» بدلٌ لا عطف بيان، لأن عطف البيان ممنوع عند جمهور البصريين في النكرات.
وقرأ إبراهيم بن أبي عَبْلَةَ والضَّحَّاكُ ورؤبة بن العجاج برفع «بعوضةٌ» واتفقوا على أنَّها خبرٌ لمبتدأ، ولكنهم اختلفوا في ذلك المبتدأ، فقيل: هو «ما» على أنَّها استفهاميةٌ أيك أيُّ شيء بعوضةٌ، وإليه ذهب الزمخشري ورَجَّحَهُ.
وقيل: المبتدأ مضمرٌ تقديرُه «: هو بعوضةٌ، وفي ذلك وجهان:
أحدهما: أن تُجْعَلَ هذه الجملة صلة ل»
ما «لكونها بمعنى الذي، ولكنَّه حذف العائد، وإن لم تَطُل الصِّلةُ، وهذا لا يجوز عند البصريين إلاَّ في» أيّ «خاصّة لطولها بالإضافة، وأمَّا غيرُها فشاذٌّ، أو ضرورة كقراءة:
﴿تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ﴾ [الأنعام: ١٥٤] وقوله: [البسيط]
٣٢٧ - مَنْ يُعَنْ يِالحَقِّ لاَ يَنْطِقْ بِمَا سَفَهٌ وَلاَ يَحِدْ عَنْ سَبِيلِ الحَمْدِ وَالكَرَمِ
أي: الذي هو أحسنُ، وبما هو سَفَهٌ، وتكونُ «ما» على هذا بدلاً من «مثلاً» كأنَّهُ قيل: مثلاً الذي هو بعوضةٌ.
قال النَّحَّاسُ: «والحذفُ في» ما «أقبحُ منه في» الذي «لأن» الذي «إنّما له وجه واحد، والاسم معه أطول».
والثاني: أن تُجْعَلَ «ما» زائدة، أو صفةً، وتكون «هو بعوضةٌ» جملة كالمفسِّرة لما انطوى عليه الكلامُ.
464
ويقال: إنَّ معنى: «ضربتُ له مثلاً» مَثَّلْتُ له مَثَلاً، وهذه الأبنيةِ على ضربٍ واحدٍ، وعلى مثال [واحد] ونوعٍ واحد.
والضربُ: النوعُ، والبعوضةُُ: واحِدةُ البعوض، وهو معروف، وهو في الأَصْلِ وَصْفٌ على فَعُول كالقَطُوع، مأخوذ من البَعْض، وهو القَطْع، وكذلك البَضْع والعَضْب؛ قال: [الوافر]
٣٢٨ - لَنِعْمَ البَيْتُ بَيْتُ أَبِي دِثَارٍ إِذَا مَا خَافَ بَعْضُ القَوْمِ بَعْضَا
وقال الجوهري: البعوض: البَقُّ، الواحدة بعوضة، سُميت بذلك لصغرها.
فَصْلٌ في استحسان ضرب الأمثال
اعلم أنّ ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول، وقد اشتهر العربُ في التمثيل بأحقر الأشياء، فقالوا في التمثيل بالذَّرَّةِ: «أجمع من ذَرَّةٍ»، و «أضبط من ذرَّة»، «وأخفى من ذَرَّةٍ»، وفي التمثيل بالذُّباب: «أجرأ من الذُّبَاب»، «وأخطأ من الذُّبَاب»، «وأطيش من الذباب»، و «أشبه من الذبابِ بالذباب»، «وألخّ من الذُّبَاب».
وفي التمثيل بالقراد: «أسمع من قراد»، وأضعف من قرادة، وأعلق من قرادة، وأغم من قرادة، وأدبّ من قرادة.
وقالوا في الجراد: أَطْيَرُ من جَرَادة، وأحْطَم من جَرَادة، وأَفْسد من جرادة، وأصفى من لعاب الجرادة.
وفي الفراشة: «أضعف من فراشة»، «وأجمل من فراشة»، و «أطيش من فراشة».
وفي البعوضةِ: «كلفني مخّ البعوضة»، مثلٌ في تكليف ما لا يُطاق. فقولهم: ضرب الأمثال لهذه الأشياء الحقيرة لا يليق بالله تعالى.
قلنا: هذا جَهْلٌ، لأنَّهُ - تعالى - هو الذي خلق الكبير والصغير، وحكمه في كُلِّ ما خلق وبرأ عام؛ لأنَّه قد أحكم جميعه، وليس الصغير أخفّ عليه من العظيم، ولا العظيم أصعب عليه من الصَّغير، وإذا كان الكُلُّ بمنزلةٍ واحدةٍ لم يكن الكبير أَوْلَى من أن يضربه مثلاً لعباده من الصغير، بل المعتبر فيه ما يليقُ بالقضيَّةِ، وإذا كان الأليق بها الذُّباب والعنكبوت، ضرب المثل بهما، لا بالفيل والجمل، فإذا أراد أن يُقَبَّحَ عبادتهم للأصنام، ويُقَبِّحَ عدو لهم عن عبادة الرحمن، صَلَحَ أن يضرب المثل بالذُّبَاب، لِيُبَيِّنَ أن قدر مَضَرَّتها لا تندفع بهذه الأصنام، ويضرب المثل العَنْكَبُوت؛ لِيُبَيِّنَ أنَّ عبادتها أَوْهَى وأضعف
465
من ذلك كُلَّما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح، وضرب المَثَلِ بالبعوضة؛ لأَنَهُ من عجائب خلق الله تعالى؛ فإنه صغير جِدًّا، وخرطومه في غاية الصغر، ثُمَّ إنَّه من ذلك مجوّف، ثمَّ ذلك الخرطوم مع فرط صغره، وكونه مجوّفاً يغوص في جلد الفِيل والجَامُوس على ثَخَانَتِهِ، كما يضرب الرجل أصابعه في الخبيص، وذلك لما رَكَّبَ الله في رأس خرطومه من السم.
قوله: ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ قد تقدَّم أنَّ «الفاء» بمعنى «إلى»، وهو قولٌ مرجوحٌ جَدًّا، و «ما» في «فَمَا فَوْقَهَا» إن نصبنا «بعوضة» كانت معطوفة عليها موصولةً بمعنى «الذي»، وصلتُهَا الظَّرفُ، أو موصوفةً وصفتها الظرفُ أيضاً، وإن رفعنا «بعوضةٌ»، وجعلنا «ما» الأولى موصولة أو استفهامية، فالثانية معطوفة عليها، لكن في جَعْلِنَا «ما» موصولةً يكون ذلك من عَطْفِ المفردات، وفي جعلنا إيَّاها استفهامية يكون من عَطْفِ الجمل، وإن جعلنا «ما» زائدة، أو صفة لنكرةٍ، و «بعوضةٌ» ل «هو» مضمراً كانت «ما» معطوفة على بعوضة.
فَصْلٌ في معنى قوله: «فما فوقها»
قال الكِسَائيّ وأبو عُبَيْدَةَ، وغيرهما: معنى «فما فوقها» والله اعلمُ: ما دونها في الصِّغَرِ، والمحقّقون مالوا إلى هذا القول؛ لأنَّ المقصود من هذا التمثيل تحقير الأوثان، وكُلَّمَا كان المشبَّهُ به أشدَّ حقارةً كان المقصود أكمل حصولاً في هذا الباب.
وقال قتادة، وابن جريج: «المعنى في الكبر كالذُّباب، والعنكبوت، والكلبِ، والحمار؛ لأنَّ القوم أنكروا تمثيل اللهِ بتلك الأشياء».
قوله: ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ﴾.
«أمَّا» حرفٌ ضُمِّنَ معنى اسم شرط وفعله، كذا قَدَّرَه سيبويه قال: «أمَّا» بمنزلةِ مَهْمَا يَكُ مِنْ شَيءٍ.
وقال الزَّمَخْشَرِيّ: وفائدته في الكلام أن يعطيه فَضْلَ توكيد، تقولُ: زيدٌ ذاهبُ، فّا قصدت توكيد ذلك، وأنَّهُ لا محالة ذاهبٌ، قلت: أمَّا زيدٌ فذاهبُ.
وقال بعضهم: «أمَّا» حرف تفصيل لما أجمله المتكلم، أو ادَّعاه المخاطبُ، ولا يليها إلاَّ المبتدأ، وتلزم الفاءُ في جوابها، ولا تُحْذَفُ إلاَّ مع قولٍ ظاهرٍ ومقدَّرٍ كقوله: ﴿فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦] أي: فيقال لهم: أكَفَرْتُمْ، وقد تحذفُ حيث لا قَوْلَ؛ كقوله: [الطويل]
466
أي: فلا قتالَ.
ولا يجوز أن تليها «الفاء» مباشرة، ولا أن تتأخّر عنها بِجُزْأَي جملةٍ، لو قلت: «أَمَّا زَيدٌ منطلقٌ ففي الدَّار» لم يجز، ويجوز أنْ يَتَقَدَّمَ معمولُ ما بعد «الفاءِ» عليها ممتليٌّ أمَّا كقوله: ﴿فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ﴾ [الضحى: ٩]
ولا يجوز الفصلُ بَيْن أَمَّا والفاءِ بمعمول خبر «إنَّ» خلافاً للمبرد، ولا بمعمول خبر «ليت» و «لَعَلَّ» خلافاً للفرّاء، وإن وقع بعدها مصدرٌ نحو: «أمَّا عِلْماً فعالمٌ» فإن كان نكرةً جاز نصبه عند التميميين فيه الرفع والنصب نحو: «أَمَّا العِلْمُ فَعَالِمٌ»، ونصب المنكِّر عند سيبويه على الحال، والمعرَّف مفعول له.
وأمَّا الأخفشُ فنصبهما عنده على المفعول المطلق، والنصب بفعلِ الشرط المقدَّر، أو بما بعد الفاء، ما لم يمنع مانعٌ، فيتَعَيَّن فِعلُ الشرط نحو: أمَّا عِلْمَاً فلا عِلْمَ له أو: فإنَّ زيداً عالمٌ؛ لأن «لا» و «إنَّ» لا يَعْمَلُ ما بعدهما فيما قبلهما.
وأمَّا الرفعُ فالظاهِرُ أنه بفعل الشرط المقدَّرِ، أي: مهما يُذْكَرْ عِلْمٌ، أو: العلم فزيدٌ عالمٌ، ويجوز أن يكون مبتدأ، وعالمٌ خبر مبتدأ محذوف، والجملةُ خبرةُ، والتقديرُ: أَمَّا علمٌ - أو العلمُ - فزيدٌ عالمٌ به، وجاز الابتداء بالنكرة، لأنَّهُ موضعُ تفصيل، وفيها كلام طويل.
و «الَّذِينَ آمَنُوا» في مَحَلِّ رفع بالابتداء، و «فيعلمون» خبره.
قوله: «فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ».
الفاءُ جواب «أَمَّا» لما كان تضمنته من معنى الشَّرط، و «أَنَّهُ الْحَقُّ» سَادٌّ مَسَدَّ المفعولين عند الجمهور، [وساد] مسدّ المفعول الأوّل فقط، والثاني محذوف، عند الأخفش، أي: فيعلمون حَقِيْقَتَهُ ثَابِتَةً.
وقال الجمهور: لا حَاجَةَ إلى ذلك؛ لأنَّ وجود النسبة فيها بعد «أّنَّ» كافٍ في تَعَلُّقِ العلمِ، أو الظَّنِّ به، والضمير في «أَنَّهُ» عائدٌ على المَثَلِ.
وقيل: على ضرب المثل المفهوم من الفِعْلِ.
467
وقيل: على ترك الاستحياء.
و «الحقُّ» : هو الثابت، ومنه حَقَّ الأمْرُ أي: ثبت، ويقابله الباطل.
و «الحق» واحدُ الحقوق، و «الحَقَّة» بفتح الحاء أخص منه، يقال: هذه حَقَّتِي، و «مِنْ» لابتداء الغاية المَجَازية.
قوله: «وأَمَّا الَّذِينَ كفروا» لغة «بني تميم»، و «بني عامر» في «أَمَّا» «أَيْمَا» يبدلون من أحد الميمَْن ياءً؛ كراهيةٌ للتضعيف؛ وأنشد عمرُ بنُ أبي رَبِيعَةَ: [الطويل]
٣٢٩ - فأَمَّا القِتَالُ لا قِتَالَ لَدِيْكُمُ وَلَكِنَّ سَيْراً في عِرَاضِ المَوَاكِبِ
٣٣٠ - رَأَتْ رَجُلاً أَيْمَا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ فَيَضْحَى وَأَيْمَا بِالعَشِيِّ فَيَخْصَرُ
قوله: «فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ».
اعلم أَنَّ «ما» في كلام العرب ستى استعمالات:
أحها: أن تكون «ما» اسم استفهام في محل رفع بالابتداء، و «ذا» اسمُ إشارةٍ خبرُهُ.
والثاني: أن تكون «ما» استفهاميةً و «ذا» بمعنى الَّذِي، والجملةُ بعدها صلةٌ، وعائدها محذوفٌ، والأجودُ حينئذٍ أن يرفع ما أجيبَ به أو أُبْدِلَ منه؛ كقوله: [الطويل]
468
ف «ذا» هنا بمعنى الذي؛ لأنه أُبْدِلَ منه مرفوعٌ، وهو «أَنْحبٌ»، وكذا ﴿مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو﴾ [البقرة: ٢١٩] في قراءة أبي عمرو.
والثالث: أن يُغَلَّبَ حكم «ما» على «ذا» فَيُتْرَكَا، ويصيرا بمنزلة اسمٍ واحدٍ، فيكون في محلِّ نصبٍ بالفِعْلِ بَعْدَهُ، والأجودُ حينئذٍ أن يُنْصبَ جوابُه والمبدلُ منه كقوله: «مَاذَا يُنْفِقُونَ قلِ: الْعَفْوَ» في قراءة غير أبي عمرو، و ﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً﴾ [النحل: ٣٠] عند الجميع. ومنه قوله: [البسيط]
٣٣١ - لاَ تَسْأَلاَنِ المَرْءَ مَاذَا يُحَاوِلُ أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضَلاَلٌ وَبَاطِلُ
٣٣٢ - يَا خُزْرَ تَغْلِبَ مَاذَا بَالُ نِسْوَتِكُمْ لاَ يَسْتَفِقْنَ إِلَى الدِّيِدَيْنِ تَحْنَانَا
ف «ماذا» مبتدأ، و «بالُ نسوتكم» خبرُه.
الرابع: أن يُجْعَلَ «ماذا» بمنزلةِ الموصول تغليباً ل «ذا» على «ما» عكس الصورة التي قبله، وهو قليلٌ جداًّ؛ ومنه قوله: [الوافر]
٣٣٣ - دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ سَأَتَّقِيهِ وَلَكِنْ بِالْمُغَيِّبِ حَدِّثِينِي
ف «ماذا» بمعنى الذي؛ لأنَّ ما قبله لا تعلّق له به.
الخامس: زعم الفَارِسِيُّ أَنَّ «ماذا» كله نكرة موصوفة، وأنشدَ: «دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ» أي: دَعِي شيئاَ معلوماً، وقد تقدَّم تأويله.
السَّادس: وهو أضعفها أَنْ تكون «ما» استفهاماً، و «ذا» زائدة، وجميع ما تقدَّم يُصْلُحُ أن يكون مثالاً له، ولكنَّ زيداة الأسماء ممنوعة أو قليلة جِداً.
إذا عُرِفَ ذلك فقوله «مَاذَا أَرَادَ اللهُ» يجوز فيه وجهان دون الأربعة الباقية:
أحدهما: أن تكون «ما» استفهامية في محلِّ دفع بالابتداء، و «ذا» بمعنى «الذي»، و «أراد اللهُ» صِلَة، والعائِدُ محذوف لاستكمال شروطَه، تقديره: «أراد اللهُ» والموصول خَبَرُ «ما» الاستفهامية.
والثاني: أن تكون «مَاذَا» بمنزلةِ اسم واحدٍ في مَحَلِّ نَصْبٍ بالفعلِ بعده، تقديره:
469
أيَّ شيء أراد اللهُ. قال ابن كَيْسَان: وهو الجيد ومحل هذه الجملة النصب بالقول، و «مثلا» نصب على التمييز، قيل: وجاء على معنى التوكيد؛ لأنه من حيث أُشير إليه بهذا عُلِمَ أَنَّهُ مَثَلٌ، فجاء التمييز بعده مؤكّدا للاسم الذي أُشيرَ إليه.
وقيل: نصب على الحالِ، واختلف في صاحبها، فقيل: اسم الإشارة، والعاملُ فيها معنى الإشارة.
وقيل: اسم اللهِ - تعالى - مُتَمَثِّلاً بذلك.
وقيل: على القطع وهو رأي الكوفيين، وَمَعْنَاه عندهم: أَنَّهُ كان أصله أن يتبع ما قبله، والأصلُ: بهذا المَثلِ، فلمَّا قَطِعَ عن التَّبعيَّةِ انتصب؛ وعلى ذلك قول امرئ القيس: [الطويل]
٣٣٤ - سَوامِقُ جَبَّارٍ أَثِيثِ فُرُوعُهُ وَعَالَيْنَ قِنْواناً مِنَ البُسْرِ أَحْمَرَا
أصله: من البُسْرِ الأَحْمَرِ.
فَصْلٌ في معنى الإرادة واستقاقها
و «الإرادةُ» لغةٌ طلبُ الشيءً مع المَيْلِ إليه، وقد تتجرّد للطلب، وهي التي تنسبُ إلى اللهِ - تعالى - وعَيْنُها واوٌ من رادَ يرودُ، طَلَبَ، فأصلُ «أراد» أَرْوَدَ «مثل: أقام، والمصدرُ الإرادةُ مثلُ الإقامةِ، وأصلُها: إرْوَاد فأُعِلَّتٍ وعُوِّضَ من محذوفِها تاءُ التأنيث.
فَصْلٌ في ماهية الإرادة
و»
الإرادةُ «ماهية يجدها العاقل من نفسه، ويُدْرِكُ بالتفرقةِ البديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذّته، وإذا كان كلك لم يكن تصور ماهيتها محتاجاً إلى التعريف.
وقال المتكلمون: إنها صفة تقتضي رُجْحَانَ أحد طرفي الجائز على الآخر، لا في الوقوع، بل في الإيقاع، واحترزنا بهذا القِيْدِ الأخير عن القدرةِ.
قوله:»
﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً﴾ الياء فيه للسَّببيَّة، وكذلك في «يهدي به»، وهاتان الجملتان لا محل لهما؛ لأنَّهما كالبيان للجملتين المُصَدَّرَتِيْنِ ب «أَمَّا»، وهما من كلام الله تعالى. وقيل: في محلِّ نَصْبِ؛ لأنهما صفتان ل «مَثَلاً» أي: مَثَلاً يُفَرِّقُ النَّاس به إلى ضُلاَّلٍ ومُهْتَدِين، وهما على هذا من كلام الكفَّار.
470
وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من اسم الله، أي: مُضِلاَّ به كثيراً، وهادياً به [كثير].
وجَوَّزَ ابن عطية أن يكون جملة قوله: «يُضِلُّ بِعِ كَثِيراً» من كلام الكُفَّارِ، وجملةُ قوله: «وَيَهْدِي بِهِ كَثيراً» من كلام الباري تعالى. وهذا ليس بظاهرٍ لأنّهُ إلباسٌ في التركيب.
والضميرُ في «به» عائدٌ على «ضَرْب» المضاف تقديراً إلى المَثَل، أي يضرب المثل، وقيل: الضميرُ الأوّل للتكذيب، والثاني للتصديق، ودَلَّ على ذلك قوة الكلام.
[وقُرِئ: «يُضَلُّ به كثيرٌ، ويُهِدَى به كثيرٌ، وما يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقُونَ» بالبناء للمفعول].
وقُرِئَ أيضاً: «يَضِلُّ كَثِيرٌ ويَهْدِي به كثيرٌ، وما يَضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقون» بالبناء للفاعل.
قال بعضهم: «وهي قراءة القَدَرِيَّة، وقد نَقَلَ ابن عطية عن أبي عمرو الدَّاني أنَّهَا قراءة المعتزلة». ثم قال: وابن أبي عبلةَ من ثِقَاتِ الشاميين «يعني قارئها، وفي الجملةِ فهي مخالفة لسواد المصحفِ.
فإنْ قيل: كيف وصف المهتدين هنا بالكثرة وهم قليلون؛ لقوله: ﴿وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ [ص: ٢٤]، و ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور﴾ [سبأ: ١٣] فالجوابُ أَنّهم، وإن كانوا قليلينَ في الصُّورة، فهم كثيرون في الحقيقةِ؛ كقوله: [البسيط]
٣٣٥ - إِنَّ الكِرَامَ كَثِيرٌ فِي الْبِلاَدِ وَإِنْ قَلُّوا كَمَا غَيْرُهُمْ قَلَّ وَإِنْ كَثُرُوا
فصار ذلك باعتبارين.
471
فَصْلٌ في استعمالات الهمزة
قال ابن الخطيب:» الهمزةُ تجيءُ تارةً لتنقل الفِعْلِ من غير التعدِّي إلى التعديّ كقولك: «خَرَجَ» فَإِنَّهُ غير متعدٍّ، فإذّا قلت «أَخْرج» فقد جعلته متعدّياً، وقد تجيء لتنقل الفعل من التعدِّي إلى غير التعدِّي كقوله: كَبَبَتْهُ فأكب «وقد تجيء لمجرّد الوجدان».
حُكِيَ عن عمرو بن معد يكرب أَنَّهُ قال لبني سليم: «قَاتَلْنَاكُمْ فَمَا أَجْبَنّاكُم، وَهَاجَيْنَاكم فما أفْحَمْنَاكُم، وسألناكم فما أبخلناكم»، أي: ما وجدناكم جبناء ولا مفحمين، ولا بخلاء. ويقال: أتيت أرضَ فُلاَن فأعمرتها، أي: وجدتها عامرةً.
ولقائل أن يقولَ: لم لا يجوز أن يقال: الهمزة لا تفيد إلاَّ نقل الفعل من غير التعدّي إلى التعدِّي، وأمَّا قوله: كَبَبْتُهُ فَأَكَبَّ، فلعلَّ المراد كببته فأكبَّ نفسه على نفسه فيكون قد ذكر الفعل مع حذف المفعولين، وهذا ليس بعرف؟!
وأما قوله: «قاتلناكم فما أجبناكم» فالمراد ما أثّر قتالنا في صيرورتكم جبناء، وكذا القول في البواقي وهذا الذي قلناه أولى دفعاً للاشتراك.
إذا ثبت هذا فنقول قولنا: «أَضَلَّهُ الله» لا يمكن حمله إلاّ على وجهين:
أحدهما: أنه صَيَّرَهُ ضَالاَّ عن الدِّين.
والثاني: وجده ضالاَّ.
فَصْلٌ في معنى الإضلال
واعلم أن معنى الإضلالِ عن الدين في اللًُّعة: هو الدعاء إلى ترك الدِّيْنِ، وتقبيحه في عَيْنِهِ، وهذا هو الإضلال الذي أضافه اللهُ - تعالى - إلى «إبليس» فقال: ﴿إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ﴾ [القصص: ١٥] وقال: ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ﴾ [النساء: ١١٩].
وقوله: ﴿رَبَّنَآ أَرِنَا اللذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا﴾ [فصلت: ٢٩]، وأيضاً أضاف هذا الإضلال إلى فرعون، فقال: ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى﴾ [طه: ٧٩].
واعلم أنَّ الأُمَّةَ مجمعة على أن الإضلال بهذا المَعنى لا يجوز على اللهِ تعالى؛ فإنَّه ما دعا إلى الكفر، وما رَغَّبَ فيه، بل نهى عنه، وزَجَرَ وتَوَعَّدَ بالعقاب عليه، وإذا كان المعنى الأصلي في الإضلال في اللُّغة هذا، وهذا المعنى منفي بالإجماع، ثبت انعقاد
472
الإجماع على أنه لا يجوز إجراء هذا اللَّفظ على ظاهره، وعند هذا افتقر أهل الْجَبْرِ والقدر إلى التأويل.
أمَّا أهل الجَبْرِ فقد حملوه على أَنَّهُ - تعالى - خالق الضلال والكفر فيهم وصدّهم عن الإيمان، وحال بينهم وبينهُ، ورُبَّما قالوا: هذا هو حقيقةُ اللفظ في أصل اللغةِ؛ لأنَّ الإضلال عبارة عن جَعْلِ الشَّيء ضالاَّ كما أنَّ الإخراج والإدخال عبارةٌ عن جَعْلِ الشيء خارجاً وداخلاً. وأما المعتزلة فقالوا: التأويل من وجوه:
أحدها: قالوا: إنَّ الرَّجُلَ إذا ضَلَّ باختياره عن حضور شيء من غير أن يكون لذلك الشَّيء أثر في ضلالة فيقال لذلك الشيء: إنَّهُ أَضَلَّهُ قال تعالى في حق الأصنام: ﴿إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً﴾ [إبراهيم: ٣٦] أي: ضَلُّوا بِهِنَّ وقال: ﴿وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً﴾ [نوح: ٢٣ - ٢٤] أي: ضَلَّ كثيرٌ من النَّاسِ بهم.
وقال: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ [المائدة: ٦٤]. وقوله:
﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً﴾ [نوح: ٦] أي: لم يزدهم الدُّعاءُ إلاَّ فِراراً.
وقال: ﴿فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي﴾ [المؤمنون: ١١٠] وهم لم ينسوهم في الحقيقة، وكانوا يُذَكِّرونهم الله.
وقال: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٤ - ١٢٥].
فأخبر تعالى أنَّ السورة المشتملة على الشَّرَائعِ يُعَرَّفُ أحوالهم.
فمنهم من يصلح عليها؛ فيزداد بها إيماناً؛ ومنهم من يفسد عليها فيزداد بها كُفْراً، فأضيفت الزيادةُ في الإيمان، والزيادة في الكُفُرِ إلى السُّورة؛ إذ كانوا إنَّما صلحوا عند نزولها وفسدوا، فهكذا أُضيفَ الضَّلالُ والهُدَى إلى الله تعالى؛ إذ كان حدوثهما عند ضربة - تعالى - الأمثال لهم.
وثانيهما: أنَّ الإضلال هو التسمية بالضلالة، فيقال: أَضَلَّهُ إذا سماه ضالاً، وأكفر فلان فلاناً إذا سمّاه كافراً، وذهب إليه قطرب، وكثير من المعتزلة.
ومن أهل اللغةِ من أنكره، وقال: إِنَّمَا يقال: ضللته تضليلاً، إذا سمَّيْتُهُ ضالاًّ، وكذلك فَسّقته وفَجَّرته، أي: سَمَّيْتُه: فاسقاً وفاجراً.
وأجيب عنه بأنَّه حتى صَيَّرَهُ في نَفْسِهِ ضالاَّ لَزِمَهُ أي يُصَيِّره محكوماً عليه بالضَّلال فهذا الحكم من لوازم ذلك التصيير وإطلاق اسم الملزوم على اللازمِ مشهورٌ.
وثالثهما: أن يكون الإضلال هو التَّخلية، وترك المنع بالقهر، والجبر، فيقال: أَضَلَّهُ أي: خَلاَّه وضلاله.
473
قالوا: ومجازه من قولهم: «أَفْسَدَ فُلانٌ ابْنَهُ، وأهلكه» إذا لم يتعهدّه بالتأديب؛ ومنه قوله: [الوافر].
٣٣٦ - أَضَاعُونَي وَأَيِّ فَتَىً أَضَاعُوا.........................................
ويقال لمن ترك سيفه في الأرضِ النَّدِيَّةِ حَتَّى فَسَدَ وصدئ: أفسدت سيفك وأصدأته.
ورابعها: الضلال، والإضلال هو العذاب والتعذيب لقوله ﴿إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر: ٤٧] ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار﴾ [القمر: ٤٨]، فوصفهم بأنَّهُم يوم القيامةِ في ضلال، وذلك هو عذابه.
وخامسها: أن تحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال، كقوله: ﴿الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: ١] قيل: أهلكها، وأبطلها، ومجازه من قولهم: «ضَلَّ الماءُ في اللَّبَنِ» إذا صار مستهلكاً فيه.
ويقال: أضَلَّ القَوْمَ مَيِّتَهُمْ، أي: واروه في قبره فأخفوه حتى صار لا يُرَى.
وقالوا: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض﴾ [السجدة: ١٠] فيتحمل أن يضل الله إنساناً أي: يهلكه ويعدمه.
وسادسها: أن يحمل الإضلال على الإضلال عن الجَنَّةِ.
قالت المعتزلة: وهذا في الحقيقة ليْسَ تأويلاً، بل حَمْلٌ للَّفظ على ظاهره فإن الآية تَدُلُّ على أَنَّهُ يضلّهم، وليس فيها دلالة على أنه عن ماذا يُضلهم؟ فنحن نحملها على أنَّهُ - تعالى - يُضِلُّهم عن طريق الْجَنَّةِ، ثُمَّ حملوا كُلَّ ما في القرآنِ من هذا الجنس على هذا المحمل، وهو اختيار الجُبَّائي. قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير﴾ [الحج: ٤] أي: يُضِلُّه عن الجَنَّةِ وثوابها هذا كله إذا حملنا الهمزة في الإضلال على التعدية.
وسابعها: ان تحمل الهمزة لا على التعدية، بل على الوجدان على ما تقدَّم، فيقال: أَضَلَّ فلانٌ بَعِيرَهُ أي: ضَلَّ عنه، فمعنى إضلال الله - تعالى - لهم أَنَّهُ وجدهم ضَالِّين.
وثامنها: أن يكون قوله: «يُضِلُّ به كَثِيراً، ويَهْدِي بِهِ كَثِيراً» من تمام قول الكُفَّار كأَنَّهم قالوا: ماذا أراد اللهُ بهذا المثل الذي لا يظهر وجه الفائدة فيه؟
474
ثُمَّ قالوا: يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً، ذكروه على سبيل التَّهَكُّمِ، فهذا من قول الكُفَّارِ، ثُمَّ قال تعالى جواباً لهم: «وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِيْنَ» أي ما أضَلَّ إِلاَّ الفاسقين.
هذا مجموع كلام المعتزلة.
قالت الجبرية: وهذا معارضٌ بمسألة الدّاعي، وهي أن القادِرَ على العلم والْجَهِلِ والإهداء والضلالِ لم فعل أحدهما دون الآخر؟
ومعارضٌ أيضاً بمسألة العلم ما سبق تقريرها في قوله تعالى: ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ﴾ [البقرة: ٧].
والجَوَابُ عن الآيات يأتي في مواضعه.
قوله: «وما يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقِيْنَ» «الفاسقين» مفعول ل «يضل» وهو استثناء مُفَرّغ، وقد تقدَّم معناه، ويجوز عند القرّاء أن يكون منصوباً على الاستثناء والمستثنى منه محذوف تقديره: «وما يُضِلُّ به أحداً إِلاَّ الفاسقين» ؛ كقوله: [الطويل]
475
أي: لم ينجُ بشيء، ومنع أبو البقاء نصبه على الاستثناء، كأنَّه اعتبر مذهب جمهور البَصْريين.
و «الفِسْقُ» لغةً: الخروجُ، يقالُ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عن قِشْرهَا، أي: خَرَجَتْ، والفأرة من جُحُرِها.
و «الفاسقُ» : خارج عن طاعةِ الله، يقال: فَسَقَ يَفْسُقُ وَيَفْسِقُ بالضم والكسر في المضارح فِسْقاً وفُسُوقاً، عن الأخفش فهو فَاسِقٌ.
وزعم ابن الأعرابي، أنَّه لم يسمع في كلام الجاهلية، ولا في شعرهم «فاسق»، وهذا عجيبٌ، وهو كلامٌ عربيٌّ حكاه عنه ابن فارس والجَوْهَرِيُّ، وقد ذكر ابنُ الأَنْبَارِيُّ في كتاب «الزَّاهِر» لمَّا تَكَلَّمَ على معنى «الفِسْقِ» قَوْلَ رُؤْبَة: [الرجز]
٣٣٧ - نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشِدْقِهِ وَلَمْ يَنْجُ إِلاَّ جَفْنَ سَيْفٍ ومئزَرَا
٣٣٨ - يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْراً غَائِراً فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا
و «الفسيق» : الدائم الفسق، ويقال في النداء: يا فَاسِق ويا خبيث، يريد يا أيُّها الفاسق ويا أيها الخبيث. والفسقُ في عرف الاستعمال الشرعي الخروج من طاعةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فقد يقع على من خرج بعصيان. واختلف أهل القبلة في أنَّهُ مؤمنٌ أو كافر.
فعند بعضهم أنَّه مؤمن، وعند الخوارج: أنَّه كافرٌ، وعند المعتزلة: أنَّه لا مؤمن ولا كافر.
واحْتَجَّ الخَوَارجُ بقوله تعالى: ﴿بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان﴾ [الحجرات: ١١].
476
وقال: ﴿إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: ٦٧]. وقال: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان﴾ [الحجرات: ٧] وهذه مسألة طويلة مذكورة في علم الكلام.
قوله: «الَّذيِنَ يَنْقُضُون» فيه أربعة وجوه:
أحدها: أَن يكون نعتاً ل «الفاسقين».
والثاني: أَنَّهُ منصوبٌ على الذَّمِّ.
والثالث: أَنَّه مرفوعٌ بالابتداء، وخبره الجملة من قوله «أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ».
والرابع: أَنَّهُ خبر لمبتدأ محذوف أي: هم الفاسقون. والعهدُ في كلامهم على معانٍ:
منها الوصيَّةُ والضَّمان، والاكتفاء، والأمر.
و «مِنْ بَعْدِ» متعلِّق ب «ينقضون»، و «من» لابتداء الغاية، وقيل: زائدة، وليس بشيء. والضميرُ في ميثاقه يجوز أن يعود على العهد، وأن يعود على اسم الله تعالى، فهو على الأوّل مصدرٌ مضاف إلى المفعول، وعلى الثَّاني مضافٌ للفاعل.
و «الميثاقُ» العَهْدُ المؤكَّدُ باليمين مِفْعَال الوثاقةِ والمعاهدةِ، والجمع: المواثيق على الأصل؛ لن أصل مِيِثَاق: مِوْثَاق، صارت «الواو» ياء؛ لانكسار ما قبلها وهو مصدرٌ ك «الميلاد» و «المِيعَاد» بمعنى الولادة، والوعد؛ وقال ابن عطية: هو اسْمٌ في وضع المصدر؛ كقوله: [الوافر]
٣٣٩ - أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةِ الرِّتَاعَا
أي: إِعْطَائِكَ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك، والمادة تَدُلُّ على الشَّدِّ والرَبْطِ، وجمعه مَوَاثِيق، ومَيَاثِق، أيضاً، ومَيَاثيق؛ وأنشد ابن الأعرابيِّ: [الطويل]
477
والمَوْثِق: المِيثَاق والمُواثَقَة والمُعَاهَدَة؛ ومنه قوله تعالى: ﴿وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ﴾ [المائدة: ٧].
فَصْلٌ في النقض
النقضُ إفسادُ ما أبرمته من بناءٍ أو حبل أو عهد، والرجوع به إلى الحالة الأولى.
والنقاضة: ما نُقِضَ من حبل الشعر، والمُنَاقضةُ في القولِ: أَنْ يَتَكَلَّمَ بما يناقض معناه، والنَّقيضةُ في الشّعر ما ينقضُ به.
والنَّقض: المَنْقُوض، واختلف النَّاسُ في هذا العَهْدِ، فقيل: هو أذلي أخذه اللهُ على بني آدم - عليه السَّلام - حين استخرجهم من ظهره.
قال المتكلمون: «هذا ساقطٌ» ؛ لأنَّه - تعالى - لا يحتج على العبادِ بعهد وميثاق لا يشعرون به، كما لا يؤاخذهم بالسَّهْوِ والنسيان وقيل: هو وصيَّةُ اللهِ - تعالى - إلى خلقه، وأمرمه إياهم بها أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم من معصيته في كتبه على ألسنة رسله، ونقضهم ذلك ترك العمل به، وقيل: بل نَصبَ الأدلّة على وحدانيته بالسموات، والأرضِ، وسائر الصنعة، وهو بمنزلة العَهْدِ، ونقضهم ترك النَّظَر في ذلك.
وقيل: هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوَّة محمد عليه السَّلام، ولا يكتموا أمره، فالآية على هذا في أَهْل الكتاب.
وقاب أبو إسحاق الزَّجَّاج: عهده جَلَّ وعَزَّ ما أخذه على النَّبيين ومَنْ تبعهم، ألاَّ يَكْفُرُوا بالنبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ودليلُ ذلك: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين﴾ [آل عمران: ٨١] إلى قوله: ﴿وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي﴾ [آل عمران: ٨١] أي: عهدي.
قوله: «وَيَقْطَعُونَ» عطف على «يَنْقُضُونَ» فهي صلة أيضاً، و «ما» موصولة، و «أَمَرَ الله به» صلتها وعائدها.
وأجاز أبو البقاء أن تكون نكرةً موصوفةً، ولا يجوز أن تكون مصدرية لعود الضمير عليها إلاَّ عند أبي الحَسَن وابن السراج وهي مفعولة ب «يَقْطَعُونَ» والقطع معروف، والمصدر - في الرّحم - القطيعة، يقال: قطع رحمه قطيعة فهو رجل قُطَعٌ وقُطَعَةٌ، مثل «هُمَزَة»، وقَطَعْتُ الحبل قَطْعاً، وقطعت النهر قُطُوعاً، وقَطَعَت الطير قُطُوعاً، وقُطَاعاً، وقِطَاعاً إذ خرجت من بَلَدٍ إلى بَلَدٍ.
وأصاب الناسَ قُطْعَةٌ: إذا قلت مياههم، ورجل به قُطْعٌ أي انبهار.
478
قوله: «مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» «ما» في موضع نصب ب «يقطعون» و «أَنْ يُوصلَ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: الجر على البدل من الضمير في «بِهِ» أي ما أمر الله بِوَصْلِهِ؛ كقول امرئ القيس: [الطويل]
٣٤٠ - حِمًى لا يَحِلُّ الدَّهْرُ إلاَّ بإِذْنِنَا وَلاَ نَسْأَلُ الَقْوَامَ عَهْدَ الْمَيَاثِقِ
٣٤١ - أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ فَتَقْصُرُ عَنْهَا خُطْوَةٌ أَوْ تَبُوصُ
أي: أمِنْ نَأْيِهَا.
والنصب وفيه وجهان:
أحدهما: أنه بدل من «مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ» بدل اشتمال.
والثاني: أنه مفعول من أجله، فقدره المَهْدوِيّ: كراهية أن يوصل، وقدره غيره: ألا يوصل.
والرفع على أنه خبر مبتدأ [مضمر] أي: هو أن يوصل، وهذا بعيداً جداً، وإن كان أبو البقاء ذكره.
واختلف في الشيء الذي أمر بوصله فقيل: صلة الأرْحَام، وحقوق القرابات التي أمر الله بوصلها، وهو كقوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد: ٢٢] وفيه إشارة إلى أنهم قطعوا ما بينهم وبين النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من القرابة، وعلى هذا فالآية خاصة.
وقيل: أمر أن يوصل القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا، ولم يعملوا. وقيل: أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه، فقطعوه بتصديق بعضهم، وتكذيب بعضهم. وقيل: الإشارة إلى دين الله، وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه، وحفظ حدوده، فهي عامة في كل ما أمر الله - تعالى - أمرهم أن يصلوا حَبْلَهُمْ بِحَبْلِ المؤمنين، فانقطعوا عن المؤمنين، واتصلوا بالكفار.
وقيل: إنهم نهوا عن التنازع وإثارة الفتن، وهم كانوا مشتغلين بذلك.
و «يُفْسِدُونَ» عطف على الصّلة أيضاً، و «في الأَرْضِ» متعلق به.
والأظهر أن يراد به الفساد في الأرض الذي يتعدى دون ما يقف عليهم.
وقيل: يعبدون غير الله، ويجورون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، ثم إنه -
479
تعالى - أخبر أن من فعل هذه الأَفَاعيل خسر فقال: «أُولِئَكَ هُمُ الخَاسِرُونَ» كقوله: ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ [البقرة: ٥]، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون هذه الجملة خبر «الذِينَ يَنْقُضُونَ» إذا جعل مبتدأ.
وإن لم يجعل مبتدأ، فهي مستأنفة، فلا محل لها حينئذ، و «هم» زائدة، ويجوز أن يكون «هم» مبتدأ ثان، و «الخَاسِرُونَ» خبره، والثاني وخبره خبر الأول.
والخاسر: الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز.
والخسران: النقصان، كان في ميزان أو غيره؛ قال جرير: [الرجز]
٣٤٢ - إِنَّ سَلِيطاً فِي الخَسَارِ إِنَّهْ أَوْلادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ
يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم.
قال الجوهري: وخسرت الشيء بالفتح - وأخسرته نقصته.
والخَسَار والخَسَارَة والخَيْسَرَى: الضَّلال والهلاك. فقيل للهالك: خاسر؛ لأنه خسر نفسه، وأهله يوم القيامة، ومنع منزله من الجَنَّة.

فصل


قال القرطبي: في هذه الآية دليلٌ على أنَّ الوفاء بالعهد والتزامه، وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه، فلا يحل له نقضه، سواء أكان بين مسلم أم غيره، لذم الله - تعالى - من نقض عهده.
وقد قال: ﴿أَوْفُواْ بالعقود﴾ [المائدة: ١] وقد قال لنبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ﴾ [الأنفال: ٥٨] فنهاه عن الغَدْرِ، وذلك لا يكون إلاَّ بنقض العهد، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
480
قوله :" الَّذِينَ يَنْقُضُونَ " فيه أربعة وجوه :
أحدها : أَنُ يكون نعتاً ل " الفاسقين ".
والثاني : أَنَّهُ منصوبٌ على الذَّمِّ.
والثالث : أَنَّهُ مرفوعٌ بالابتداء، وخبره الجملة من قوله ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾.
والرابع : أَنَّهُ خبر لمبتدأ محذوف أي : هم الفاسقون. والعهدُ١ في كلامهم على٢ معانٍ :
منها الوصيَّةُ والضَّمان، والاكتفاء، والأمر.
و " مِنْ بَعْدِ " متعلِّق ب " ينقضون "، و " من " لابتداء الغاية، وقيل : زائدة، وليس بشيء. والضميرُ في ميثاقه يجوز أن يعود على العهد، وأن يعود على اسم الله تعالى، فهو على الأوّل مصدرٌ مضاف إلى المفعول، وعلى الثَّاني مضافٌ للفاعل.
و " الميثاقُ " العَهْدُ المؤكَّدُ باليمين مِفْعَال الوثاقةِ والمعاهدةِ، والجمع : المواثيق على الأصل ؛ لأن أصل مِيِثَاق : مِوْثَاق، صارت " الواو " " ياء " ؛ لانكسار ما قبلها وهو مصدرٌ ك " الميلاد " و " المِيعَاد " بمعنى الولادة، والوعد ؛ وقال ابن عطية٣ : هو اسْمٌ في وضع المصدر ؛ كقوله :[ الوافر ]
أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوتِ عَنِّي وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرِّتَاعَا٤
أي : إِعْطَائِكَ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك، والمادة تَدُلُّ على الشَّدِّ والرَبْطِ، وجمعه مَوَاثِيق، ومَيَاثِق، أيضاً، ومَيَاثيق ؛ وأنشد ابن الأعرابيِّ :[ الطويل ]
حِمًى لاَ يَحُلُّ الدَّهْرُ إلاَّ بإِذْنِنَا وَلاَ نَسْأَلُ الأَقْوَامَ عَهْدَ الْمَيَاثِقِ٥
والمَوْثِق : المِيثَاق والمُواثَقَة والمُعَاهَدَة ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ ﴾ [ المائدة : ٧ ].
فَصْلٌ في النقض
النقضُ إفسادُ ما أبرمته من بناءٍ أو حبل أو عهد، والرجوع به إلى الحالة الأولى.
والنقاضة : ما نُقِضَ من حبل الشعر، والمُنَاقضةُ في القولِ : أَنْ يتكَلَّمَ بما يناقض معناه، والنَّقيضةُ في الشّعر ما ينقضُ به.
والنِّقض : المَنْقُوض، واختلف النَّاسُ في هذا العَهْدِ، فقيل : هو الذي أخذه اللهُ على بني آدم - عليه السَّلام - حين استخرجهم من ظهره.
قال المتكلمون :" هذا ساقطٌ " ؛ لأنَّه - تعالى - لا يحتج على العبادِ بعهد وميثاق لا يشعرون به، كما لا يؤاخذهم بالسَّهْوِ والنسيان وقيل : هو وصيَّةُ اللهِ - تعالى - إلى خلقه، وأمره إياهم بها أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم من معصيته في كتبه على ألسنة رسله، ونقضهم ذلك ترك العمل به، وقيل : بل نَصبَ الأدلّة على وحدانيته بالسماوات، والأرضِ، وسائر الصنعة، وهو بمنزلة العَهْدِ، ونقضهم ترك النَّظَر في ذلك.
وقيل : هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوَّة محمد عليه السَّلام، ولا يكتموا أمره، فالآية على هذا في أَهْل الكتاب.
وقال أبو إسحاق الزَّجَّاج : عهده جَلَّ وعَزَّ ما أخذه على النَّبيين ومَنْ تبعهم، ألاَّ يَكْفُرُوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ودليلُ ذلك :﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ ﴾ إلى قوله :﴿ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ﴾ [ آل عمران : ٨١ ] أي : عهدي.
قوله :﴿ وَيَقْطَعُونَ ﴾ عطف على ﴿ يَنْقُضُونَ ﴾ فهي صلة أيضاً، و " ما " موصولة، و﴿ أَمَرَ اللهُ به ﴾ صلتها وعائدها.
وأجاز أبو البقاء أن تكون نكرةً موصوفةً، ولا يجوز أن تكون مصدرية لعود الضمير عليها إلاَّ عند أبي الحَسَن وابن السراج وهي مفعولة ب " يَقْطَعُونَ " والقطع معروف، والمصدر - في الرّحم - القطيعة، يقال : قطع رحمه قطيعة فهو رجل قُطَعٌ وَقُطَعَةٌ، مثل " هُمَزَة "، وقَطَعْتُ الحبل قَطْعاً، وقطعت النهر قُطُوعاً، وقَطَعَت الطير قُطُوعاً، وقُطَاعاً، وقِطَاعاً إذا خرجت من بَلَدٍ إلى بَلَدٍ.
وأصاب الناسَ قُطْعَةٌ : إذا قلت مياههم، ورجل به قُطْعٌ أي انبهار.
قوله :﴿ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ﴾ " ما " في موضع نصب ب " يقطعون " و " أَنْ يُوصلَ " فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : الجر على البدل من الضمير في " بِهِ " أي ما أمر الله بِوَصْلِهِ ؛ كقول امرئ القيس :[ الطويل ]
أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ فَتَقْصُرُ عَنْهَا خُطْوَةٌ أَوْ تَبُوصُ٦
أي : أمِنْ نَأْيِهَا.
والنصب وفيه وجهان :
أحدهما : أنه بدل من " مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ " بدل اشتمال.
والثاني : أنه مفعول من أجله، فقدره المَهْدوِيّ : كراهية أن يوصل، وقدره غيره : ألا يوصل.
والرفع على أنه خبر مبتدأ [ مضمر ]٧ أي : هو أن يوصل، وهذا بعيداً جداً، وإن كان أبو البقاء ذكره.
واختلف في الشيء الذي أمر بوصله فقيل : صلة الأَرْحام، وحقوق القرابات التي أمر الله بوصلها، وهو كقوله تعالى :﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ ﴾ [ محمد : ٢٢ ] وفيه إشارة إلى أنهم قطعوا ما بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرابة، وعلى هذا فالآية خاصة.
وقيل : أمر أن يوصل القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا، ولم يعملوا. وقيل : أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه، فقطعوه بتصديق بعضهم، وتكذيب بعضهم. وقيل : الإشارة إلى دين الله، وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه، وحفظ حدوده، فهي عامة في كل ما أمر الله - تعالى - به أن يوصل، هذا قول الجمهور.
وقيل : إن الله - تعالى - أمرهم أن يصلوا حَبْلَهُمْ بِحَبْلِ المؤمنين، فانقطعوا عن المؤمنين، واتصلوا بالكفار.
وقيل : إنهم نهوا عن التنازع وإثارة الفتن، وهم كانوا مشتغلين بذلك.
و " يُفْسِدُونَ " عطف على الصّلة أيضاً، و " في الأَرْضِ " متعلق به.
والأظهر أن يراد به الفساد في الأرض الذي يتعدى دون ما يقف عليهم.
وقيل : يعبدون غير الله، ويجورون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، ثم إنه - تعالى - أخبر أن من فعل هذه الأَفَاعيل خسر فقال :" أُولِئَكَ هُمُ الخَاسِرُونَ " كقوله :﴿ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
[ البقرة : ٥ ]، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون هذه الجملة خبر " الذِينَ يَنْقُضُونَ " إذا جعل مبتدأ.
وإن لم يجعل مبتدأ، فهي مستأنفة، فلا مَحلّ لها حينئذ، و " هم " زائدة، ويجوز أن يكون " هم " مبتدأ ثان، و " الخَاسِرُونَ " خبره، والثاني وخبره خبر الأول.
والخاسر : الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز.
والخسران : النقصان، كان في ميزان أو غيره ؛ قال جرير :[ الرجز ]
إِنَّ سَلِيطاً فِي الخَسَارِ إِنَّهْ أَوْلادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ٨
يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم.
قال الجوهري : وخسرت الشيء بالفتح - وأخسرته نقصته.
والخَسَار والخَسَارَة والْخَيْسَرَى : الضَّلال والهلاك. فقيل للهالك : خاسر ؛ لأنه خسر نفسه، وأهله يوم القيامة، ومنع منزله من الجَنّة.

فصل


قال القرطبي : في هذه الآية دليلٌ على أنَّ الوفاء بالعهد والتزامه، وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه، فلا يحل له نقضه، سواء أكان بين مسلم أم غيره، لذم الله - تعالى - من نقض عهده.
وقد قال :﴿ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ﴾ [ المائدة : ١ ] وقد قال لنبيه عليه الصلاة والسلام :﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ﴾ [ الأنفال : ٥٨ ] فنهاه عن الغَدْرِ، وذلك لا يكون إلاَّ بنقض العهد، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
١ - في أ: العمل..
٢ - في ب: في..
٣ - ينظر المحرر الوجيز: ١/١١٣..
٤ - البيت للقطامي ينظر ديوانه: ص ٣٧، وتذكرة النحاة: ص ٤٥٦، وخزانة الأدب: ٨/١٣٦، ١٣٧، والدرر: ٣/٦٢، وشرح التصريح: ٢/٦٤، وشرح شواهد المغني: ٢/٨٤٩، وشرح عمدة الحافظ: ص ٦٩٥، ولسان العرب (عطا)، (رهف)، ومعاهد التنصيص: ١/١٧٩، والمقاصد النحوية: ٣/٥٠٥، والأشباه والنظائر: ٢/٤١١، وأوضح المسالك: ٣/٢١١، وشرح الأشموني: ٢/٣٣٦، وشرح شذورة الذهب: ص ٥٢٨، وشرح ابن عقيل: ص ٤١٤، وهمع الهوامع: ١/١٨٨، ٢/٩٥، والدر المصون: ١/١٦٨..
٥ - البيت لعياض بن درة الطائي ينظر لسان العرب (وثق)؛ والمقاصد النحوية: ٤/٥٣٧، ونوادر أبي زيد: ص ٦٥، وبلا نسبة في إصلاح المنطق: ص ١٣٨، والخصائص: ٣/١٥٧، وشرح الأشموني: ٣/٧١٥، وشرح شافية ابن الحاجب: ١/٢١٠، وشرح شواهد الشافية: ص ٩٥، وشرح المفصل: ٥/١٢٢، الدر المصون: ١/١٦٩..
٦ - ينظر ديوانه: ص ١٧٧، ولسان العرب (قصر)، (بوص)، رصف المباني: ص ٤٣٥، الدر المصون: ١/١٦٩..
٧ - سقط في أ..
٨ - ينظر البيت في ديوانه: (٥٩٨)، القرطبي: (١/٢٤٨)، الطبري: (١/٤١٧)، الدر المصون: (١/١٦٨)..
اعلم أنه - تعالى - لما تكلَم في دلائل التوحيد، والنبوة، والمعاد شَرَعَ في شَرْحِ النعم التي عمت جميع المكلفين. فالمراد بهذا الاستخبار التَّبكيت والتعنيف.
قوله: «كيف» استفهام يسأل به عن الأحوال، وبني لتضمنه معنى الهمزة، وبني على أخف الحركات، وكان سبيلها أنْ تكون ساكنةً؛ لأن فيها معنى الاستفهام الذي معناه التعجب.
480
وشذّ دخول حرف الجر عليها، قالوا: «على كيف تبيعُ الأَحْمَرَيْنِ».
وكونها شرطاً قليل، ولا يجزم بها خلافاً للكوفيين، وإذا أبدل منها اسم، أو وقع جواباً، فهو منصوبٌ إذا كان بعدها فعل متسلّط عليها نحو كيف قمت. أصحيحاً أم سقيماً؟ وكيف سرت؟ فتقول: رَاشِداً، وإلا فمرفوعان نحو: كيد زيد؟ أصحيح أم سقيم؟ وإن وقع بعدها اسم مسؤول عنه بها، فهو مبتدأ، وهي خبر مقدم، نحو: كيف زيد؟
وقد يحذف الفعل بعدها، قال تعالى: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا﴾ [التوبة: ٨] أي: كيف تُوَالُونَهُمْ؟.
وكيف في هذه الآية منصوبة على التشبيه بالظرف عند سيبويه، أي: في أي حالة تكفرون؟ وعلى الحال عند الأخفش. أي: على أي حال تكفرون؟ والعامل فيها على القولين «تكفرون»، وصاحب الحال الضمير في «تكفرون».
ولم يذكر أبو القاء غير مذهب الأخفش، ثم قال: والتقدير: معاندين تكفرون؟ وفي هذا التقدير نظر؛ إذ يذهب معه معنى الاستفهام المقصُود به التنعجّب، أو التوبيخ، أو الإنكار.
قال الزمخشري بعد أن جعل الاستفهام للإنكار: وتحريره أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها، وقد علم أن كلّ موجود لا بدَّ له من حالٍ، ومُحَالٌ أن يوجد بغير صفة من الصفات كان إنكاراً لوجوده على الطريق البرهاني.
وفي الكلام التفات من الغيبة في قوله «وأَما الَّذين كَفَروا» إلى آخره إلى الخطاب في قوله: «تَكْفُرُونَ» و «كُنْتُم».
وفائدته: أن الإنكار إذا توجّه إلى المخاطب كان أبلغ.
وجاء «تَكْفُرُون» مضارعاً لا ماضياً؛ لأن المنكر الدّوام على الكفر، والمُضَارع هو المشعر بذلك، ولئلا يكون ذلك توبيخاً لمن آمن بعد كفر. وكَفَر «يتعدّى بحرف الجر نحو:» تَكْفُرُونَ باللهِ « ﴿تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ [آل عمران: ٧٠] ﴿كَفَرُواْ بالذكر﴾ [فصلت: ٤١] وقد يتعدّى بنفسه في قوله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ﴾ [هود: ١٨] وذلك لما ضمن معنى جحدوا.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب، وهم لم يكفروا بالله؟
فالجواب أنهم [لما] لم يسمعوا أمر محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولم يصدقوه فيما جاء به، فقد أشركوا؛ لأنهم لم يقروا بأن القرآن من عند الله، ومن يزعم أن القرآن من كلام البشر، فقد أشرك بالله، وصار ناقضاً للعَهْدِ.
481

فصل في الرد على المعتزلة


قال المعتزلة: هذه الآية تدلّ على أن الكفر من قبل العباد من وجوه:
أحدها: أنه - تعالى - لو كان هو الخالق للكفر فيهم لما جاز أن يقول: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ» موبخاً لهم، كما لا يجوز أن يقول: كيف تَسْوَدُّونَ وتبيضون وتصحون وتسقمون لما كان ذلك كله من خلقه فيهم.
وثانيها: إذا كان خلقهم أولاً للشقاء والنار، وما أراد بخلقهم إلاّ الكفر وإرادة الوقوع في النَّار، فكيف يصح أن يقول موبخاً لهم: «كيف تكفرون» ؟.
وثالثها: أنه - تعالى - إذا قال للعبد كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ، فهذا الكلام إما أن يكون موجهاً للحجّة على العبد، وطلباً للجواب منه، أو ليس كذلك، فإن لم يكن لطلب هذا المعنى لم يكن في ذكره فائدة، فيكون هذا الخطاب عبثاً، وإن ذكره لتوجيه الحجّة على العبد، فللعبد أن يقول: حصل في حقي أمور كثيرة موجبة للكفر.
فالأول: أنك علمت بالكفر منّي، والعلم بالكفر يوجب الكفر.
والثاني: أنك أردت الكفر مني، وهذه الإرادة موجبة له.
والرابع: أنك خلقت فيّ قدرة موجبة للكفر.
والخامس: أنك خلقت فيَّ إرادة موجبة للكفر.
والسادس: أنك خلقت فيَّ قدرة موجبة للإرادة الموجبة للكفر.
ثم لما حصلت هذه الأسباب السّتة في حصول الكفر، فالإيمان متوقّف على حُصُول هذه الأسباب السّتة في طرف الإيمان، وهي بأسْرِهَا كانت مفقودةً، فقد حصل لعدم الإيمان اثنا عشر سبباً واحد منها مستقل [بالمنع من الإيمان] ومع قيام هذه الأَسْبَاب الكثيرة فكيف يعقل أن يقال: كيف تكفرون بالله؟ وآيات أخر تأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى.
والجواب عن هذا انّ الله - سبحانه - علم أن لا يكون، فلو وجد [لانقلب عليه] جهلاً، وهو محال، ووقوعه محال، وأيضاً فالقدرة على الكفر إن كانت صالحةً للإيمان امتنع كونها مصدراً للإيمان على التعيين إلاّ لمرجح، وذلك المرجّح إن كان من العبد عاد السؤال، وإن كان من الله، فلما لم يحصل ذلك المرجح من الله امتنع حصول الكفر، وإذا حصل ذلك امرجح وجب، وعلى هذا يعقل قوله: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ» قاله ابن الخطيب.
قوله: «وكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُم» «الواو» الحال، وعلامتها أن يصلح موضعها «
482
إذ». [والجملة في] موضع نَصْبٍ على الحال، ولا بد من إضمار «قد» ليصح وقوع الماضي حالاً.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف صح أن يكون حالاً، وهو ماض؟
قلت: لم تدخل «الواو» على «كُنْتُمْ أَمْوَاتاً» وحده، ولكن على جملة قوله: «كُنْتُمْ أَمْوَاتاً» إلى «تُرْجَعُونَ» كأنه قيل: كيف تكفرون بالله، وقصتكم هذه، وحالكم أنكم كنتم أمواتاً في أصلاب آبائكم، فجعلكم أحياء، ثم يميتكم بعد هذه الحَيَاة ثم يحييكم بعد الموت، ثم يُحَاسبكم؟.
ثم قال: فإن قلت: بعض القصّة ماض، وبعضها مستقبل، والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقع حالاً حتى يكون فعلاً حاضراً وقت وجود ما هو حال عنه، فما الحاضر الذي وقع حالاً؟
قلت: هو العلم بالقصّة كأنه قيل: كيف تكفرون، وأنتم عالمون بهذه القصة بأولها وآخرها؟
قال أبو حيان ما معناه: هذا تكلّف، يعني تأويله هذه الجملة بالجملة الاسمية. قال: والذي حمله على ذاك اعتقاده أن الجمل مندرجةً في حكم الجملة الأولى، قال: ولا يتعيّن، بل يكون قوله تعالى: «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» وما بعده جملاً مستأنفة أخبر بها - تعالى - لا داخلة تحت الحال، ولذلك غاير بينها وبين ما قبلها من الجمل بحرف العطف، وصيغة الفعل السَّابقين لها في قوله: «وكُنْتُم أَمْوَاتاً فأحْيَاكُمْ».
و «الفاء» في قوله «فأحياكم» على بابها من التَّعقيب، و «ثُمَّ» على بابها من التَّرَاخي؛ لأن المراد بالموت الأول العدم السابق، وبالحَيَاة الأولى الأولى الخَلْق، وبالموت الثاني المَوْتَ المعهود، وبالحياة الثانية الحياة للبعث، فجاءت الفاء، و «ثم» على بابهما من «التَّعقيب» والتراخي على هذا التفسير، وهو أحسن الأقوال.
ويعزى لابن عباس وابن مسعود ومجاهد، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخٍ عن البعث.
قال ابن عطية: وهذا القول هو المُرَاد بالآية، وهو الذي لا مَحِيدَ للكفار عنه لإقرارهم بهما، وإذا أذعنت نفوس الكُفّار لكونهم أمواتاً معدومين، ثم الإحياء في الدنيا، ثم الإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإِحْيَاءِ الآخر، وجاء جحدهم له دعوى لا حُجّة عليها، والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم الدنيا.
483
وقيل: لم يعتدّ بها كما لم يعتد بموت من أَمَاتَهُ في الدنيا، ثم أحياهُ في الدنيا.
وقيل: كنتم أمَواتاً في ظهر آدم، ثم أخرجكم من ظهره كالذُّرِّ، ثم يميتكم موت الدنيا، ثم يبعثكم.
وقيل: كنتم أمواتاً - أي نُطَفاً - في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، ثم نقلكم من الأرحام فأحياكم، ثم يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم في القبر للمسألة، ثم يميتكم في القبر، ثم يحييكم حَيَاةَ النشر إلى الحَشْرِ وهي الحياة التي ليس بعدها موت.
قال القرطبي: فعلى هذا التأويل هي ثلاث مَوْتَات، وثلاث إحْيَاءَات، وكونهم موتى في ظهر ابن آدم، وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفاً في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، فعلى هذا تجيء أربع موتات وأربع إحياءات.
وقد قيل: إن الله - تعالى - أوجدهم قبل خلق آدم - عليه الصَّلاة والسّلام - كالهَبَاءُ، ثم أماتهم، فيكون هذا على خمس موتات، وخمس إحياءات، وموتة سادسة للعُصَاة من أمة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذا دخلوا النَّار، لحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«أما أهل النَّارِ الَّذِين هم أهلها فَإِنَّهُمْ لا يَمُوتُونَ فيها ولا يَحْيَون، ولكن ناس أصابَتْهُمُ النَّارُ بذنوبهم - أو قال بِخَطَايَاهم - فأماتهم الله إماتَةً حتى إذا كانوا فَحْماً أذن في الشَّفاعة، فجيء بهم ضَبَئر ضَبَئر، فَبُثُّوا على أنهار الجَنَّة ثم قيل: يا أهل الجَنّة أفيضوا عليهم فينبتون نَبَات الحِبَّة تكون في حَمِيْل السّيل» الحديث.
قال: فقوله: «فأماتهم الله» حقيقة في الموت، لأنه أكّده بالمصدر، وذلك تكريماً لهم.
وقيل: يجوز أن يكون «أماتهم» عبارة عن تغييبهم عن آلامها بالنوم، ولا يكون ذلك موتاً على الحقيقة، والأول أصح، وقد أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكّد بالمصدر لم يكن مجازاً، وإنما هو على الحقيقة، كقوله: ﴿وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً﴾ [النساء: ١٦٤]، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقيل: المعنى: وكنتم أمواتاً بالخمول، فأحياكم بأن ذكرتم، وشرفتم بهذا الدين، والنبي الذي جاءكم، ثم يميتكم فيموت ذكركم، ثم يحييكم للبعث.
484

فصل في أوجه ورود لفظ الموت


قال أبو العبَّاس المقرئ: ورد لفظ «الموت» على خمسة أوجه:
الأول: بمعنى «النُّطْفة» هذه الآية.
الثاني: بمعنى «الكفر» قال تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢] ومثله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات﴾ [فاطر: ٢٢].
الثالث: بمعنى «الأرض التي لا نَبَات لها»، قال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا﴾ [يس: ٣٣].
الرابع: بمعنى «الضّم» قال تعالى: ﴿والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ﴾ [النحل: ٢٠، ٢١].
الخامس: بمعنى «مفارقة الروح الجسد».

فصل في أوجه ورود لفظ الحياة


الأول: بمعنى دخول الرُّوح في الجَسَدِ كهذه الآية.
الثاني: بمعنى «الإسلام» قال تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢] أي: هديناه إلى الإسلام.
الثالث: بمعنى «صفاء القلب» قال تعالى: ﴿اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الحديد: ١٧] أي يصفي القلوب بعد سَوَاداها.
الرابع: بمعنى «الإنبات» قال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا﴾ [يس: ٣٣] أي: أنبتناها.
الخامس: بمعنى «حياة الأنفس» قال تعالى: ﴿ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: ٢٤].
السادس: بمعنى «العيش» قال تعالى: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] أي: لنرزقنّه عيشاً طيباً.

فصل في إثبات عذاب القبر


قال ابن الخطيب: احتج قوم بهذه الآية على بطلان عذاب القَبْرِ، قالوا: ويؤيده قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: ١٥، ١٦] ولم يذكر حياةً فيما بين هاتين الحالتين، قالوا: ولا يجوز الاستدلال بقوله تعالى: ﴿قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين﴾ [غافر: ١١] ؛ لأنه قول الكفار، ولأنّ كثيراً من الناس أثبتوا حياة الذَّر في صُلب آدم حين استخرجهم وقال لهم: ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ٣٢]
485
وعلى هذا التقدير حصل حَيَاتان وموتتان من غير حَاجَةٍ غلى إثبات حَيَاةٍ في القبر، فالجواب لم يلزم من عدم الفِكْرِ في هذه الآية ألا تكون حاصلة، وأيضاً فللقائل أن يقول: إن الله - تعالى - ذكر حَيَاة القبر في هذه الآية؛ لأن قوله: «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» ليس هو الحياة الدائمة، وإلا لما صح أن يقول: «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون» ؛ لأن كلمة «ثُمَّ» تقتضي التَّراخِي، والرجوع إلى الله - تعالى - حاصل عقب الحَيَاةِ الدَّائمةِ من غير تَرَاخٍ، فلو جعلنا الآية من هذا الوجه دليلاً على حياة القبر كان قريباً.
قوله: «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون» الضمير في «إليه» لله تعالى، وهذا ظاهر؛ لأنه كالضمائر قبله، وثَمَّ مضاف محذوف أي: إلى ثوابه وعقابه.
وقيل: على الجزاء على الأعمال.
وقيل: على المكان الذي يتولّى الله فيه الحكم بينكم.
وقيل: على الإحياء المدلول عليه ب «أحياكمط، يعني: أنكم ترجعون إلى الحال الأولى التي كنتتم عليها في ابتداء الحياة الأولى من كونكم لا تملكون لأنفسكم شيئاً.
والجمهور على قراءة»
تُرْجَعُون «مبنياً للمفعول.
وقرأ يحيى بن يعمر: وابن أبي إسحاق، ومُجَاهد، وابن مُحَيصن، وسلام، ويعقوب مبنياً للفاعل حيث جاء.
ووجه القراءتين أن»
رجع «يكون قاصراً ومتعدياً فقراءة الجُمْهور من المتعدّي، وهو أرجح؛ لأن أصلها» ثُمَّ إِلَيْهِ مرجعكم «لأن الإسناد في الأفعال السَّابقة لله تَعَالَى، فناسب أن يكون هذا كله، ولكنه بني للمفعول لأجل الفواصل والمقاطع.
و»
أموات «جمع» ميِّت «وقياسه على فعائل كسيّد وسيائد، والأولى أن يكون أن يكون» أموات «جمع» مَيْت «مخففاً ك» أقوال «في جمع» قول «، وقد تقدمت هذه المادّة.
486
هذا هو النعمة الثانية اليت عمّت المكلفين بأسرهم.
«هو» مبتدأ، وهو ضمير موفوع منفصل للغائب المذكر، والمشهور تخفيفُ واوه وفتحها، وقد تشدد؛ كقوله: [الطويل]
٣٤٣ - وَإِنَّ لِسَانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا وَهُوَ عَلَى مَنْ صَبَّهُ اللهُ عَلْقَمُ
وقد تسكن، وقد تحذف كقوله: [الطويل]
٣٤٤ - فَبَيْنَاهُ يَشْرِي رَحْلَهُ......................................
والموصول بعده خبر عنه. و «لكم» متعلّق ب «خلق»، ومعناها السَّببية، أي: لأجلكم، وقيل: للملك والإباحة، فيكون تميكاً خاصاً بما ينتفع به.
وقيل: للاختصاص، و «ما» موصولة، و «في الأرض» صلتها، وهي في محلّ نصب مفعول به، و «جميعاً» حال من المفعول بمعنى «كلّ»، ولا دلالة لها على الاجتماع في الزَّمَان، وهذا هو الفَارِقُ بين قولك: جَاءُوا جميعاً و «جاءوا معاً» فإنّ «مع» تقتضى المُصَاحبة في الزمان، بخلاف «جميع» قيل: وهي - هُنَا - حال مؤكدة، لأن قوله: «مَا فِي الأَرْضِ» عام.

فصل في بيان أن الأصل في المنافع الإباحة


استدلّ الفُقَهَاء بهذه الآية على أنّ الأصل في المَنَافع الإباحة.
وقيل: إنها تدلُّ على حرمة أكل الطِّين، لنه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض، وفيه نظر؛ لأن تخصيص الشيء بالذِّكر لا يدلّ على نفي الحكم عما عَدَاه،
487
وأيضاً فالمعادن داخلة في ذلك، وكذلك عروق الأرض، وما يجري مجرى البعض لها.
وقد تقدّم تفسير الخلق، وتقديره الآية كأنه - سُبْحانه وتعالى - قال: كيف تكفرون بالله، وكنتم أمواتاً فأحياكم؟ وكيف تكفرون بالله، وقد خلق لكم ما في الأرض جميعاً؟
أو يقال: كيف تكفرون بقدرة الله على الإعادة، وقد أحياكم بعج موتكم، وقد خلق لكم كل ما في الأرض، فكيف يعجز عن إعادتكم؟.
قوله: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتَ».
أصل «ثم» أن تقتضي تراخياً زمانياً، ولا زمان هنا، فقيل: إشارة إلى التراخي بين رُتْبَتَيْ خلق الأرض والسماء.
وقيل: لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال أُخَر من جعل الجِبَال والبَرَكة، وتقدير الأقوات، كما أشار إليه في الآية الأخرى عطف ب «ثم» ؛ إذ بين خلق الأرض والاستواء إلى السماء تراخ.
و «استوى» : معناه لغة: استقام واعتدل، من استوى العُودُ.
وقيل: علا وارتفع؛ قال الشاعر: [الطويل]
٣٤٥ - فأَوْرَدْتُهُمْ مَاءً بِفَيْفَاءَ قَفْرَةٍ وَقَدْ حَلَّقَ النَّجْمُ اليَمَانِيُّ فَاسْتَوَى
وقال تعالى: ﴿فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك﴾ [المؤمنون: ٢٨].
ومعناه هنا: قصد وعمل. وفاعل «اسْتَوَى» ضمير يعود على الله.
وقيل: يعود على الدُّخَان نقله ابن عطية.
وهو غلط لوجهين:
أحدهما: عدم ما يدلّ عليه.
والثاني: أنه يرده قوله تعالى: ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصلت: ١١].
و «إلى» حرف انتهاء على بَابها.
وقيل: هي بمعنى «عَلَى» ؛ فتكون في المَعْنَى كقول الشاعر: [الرجز]
٣٤٦ - قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مَنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْرَاقِ
ومثله قوله الآخر: [الطويل]
488
٣٤٧ - فَلَمَّا َعَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ
وقيل: ثَمَّ مضاف محذوفٌ ضميره هو الفاعل، أي: استوى أمره، و «إلَى السَّمَاءِ» متعلّق ب «اسْتَوَى»، والضمير في «فَسَوَّاهُنّ» يعود على السَّمَاء، إما لأنها جمع «سماوة» كما تقدم، وإما لأنها اسم جنس يطلق على الجمع.
وقال الزمخشري: «هُنَّ» ضمير مبهم، و «سَبْعَ سَمَاوَاتٍ» تفسيره، كقولهم: رُبَّهُ رَجُلاً «، وقد رد عليه بأنه ليس من [المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده؛ لأن النحويين حصروا ذلك في سبع مواضع] :
ضمير الشأن، والمجرور ب»
رب «، والمرفوع ب» نعم وبئس «، وما جرى مجراهما، وبأول المتنازعين، والمفسر بخبره، وبالمُبْدَل منه.
ثم قال هذا المعترض: إلا أن يتخيل فيه أن يكون»
سَبْعَ سَمَاواتٍ «بدلاً، وهو الذي يقتضيه تشبيهه ب» رُبُّهُ رَجَلاً «فإنه ضمير مبهم ليس عائداً على شيء قبله، لكن هذا يضعف بكون التقدير يجعله غير مرتبطٍ بما قبله ارتباطاً كلياً، فيكون أخبرنا بإخبارين:
أحدهما: أنه استوى إلى السماء.
والثاني: أنه سوى سبع سماوات.
وظاهر الكلام أن اذلي استوى إليه هو المستوي بعينه.
ومعنى تسويتهنّ: تعديل خلقهن، وإخلاؤه من العِوَجِ، والفُطُور وإتمام خَلْقهن.
قوله:»
سَبْعَ سَمَواتٍ «في نصبه خمسة أوجه:
أحسنها: انه بدلٌ من الضمير في»
فَسَوَّاهُنَّ «العائد على» السَّمَاءِ «كقولك، أخوك مررت به زيد.
الثاني: أنه بدل من الضمير أيضاً، ولكن هذا الضمير يفسره ما بعده، وهذا يضعف بما ضعف به قول الزمخشري المتقدّم.
الثالث: أنه مفعول به، والأصل، فسوَّى منهن سَبْعَ سموات، وشبهوه بقوله تعالى: ﴿واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا﴾ [الأعراف: ١٥٥] أي: من قومه قاله أبو البقاء وغيره، وهذا ضعيف لوجهين:
أحدهما: بالنسبة إلى اللفظ.
والثاني: بالنسبة إلى المعنى.
489
أما الأول فلأنه ليس من الأفعال المتعدية لاثنين.
أحدهما: بإسقاط الخافض؛ لأنها محصورة في» أمر «و» اختار «وأخواتها.
الثاني: أنه يقتضي أن يكون ثَمَّ سماوات كثيرة، سوى من جملتها سبعاً، وليس كذلك.
الرابع: أن»
سوى «بمعنى» صَيَّر «فيتعدّى لاثنين، فيكون» سَبْعَ «مفعولاً ثانياً، وهذا لم يثبت أيضاً، أعني جعل» سَوَّى «مثل» صَيَّرَ «.

فصل في هيئة السماوات السبع


اعلم أن القرآن - هاهنا - قد دلّ على سبع سماوات.
وقال أصحاب الهيئة: أقربها إلينا كرة القمر، وفوقها كرة عطارد، ثم كرة الزّهرة، ثم كرة الشَّمس، ثم كرة المرّيخ، ثم كرة المشتري، ثم كرة زُحَل، قالوا: لن الكوكب الأسفل إذا مَرَّ بين أبصارنا، وبين الكوكب الأعلى، فإنهما يصيران ككوكب واحدٍ، ويتميز السَّاتر عن المَسْتور بلونه الغَالب كَحُمْرَةِ المريخ، وصُفْرَة عطارد، وبَيَاض الزهرة، وزُرْقَة المُشْتري، وكدرة زُحَل، وكلّ كوكب فإنه يكسف الكوكب الذي فوقه.

فصل في الاستدلال على سبق خلق السماوات وعلى الأرض


قال [بعض المَلاَحدة] : هذه الآية تدلّ على أن خلق الأرض قبل خلق السَّماء، وكذا قوله: ﴿أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: ٩] إلى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء﴾ وقال في سورة «النازعات»
:﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: ٣٠] وهذا يقتضي أن يكون خلق الأرض بعد السماء، وذكروا في الجواب وجوهاً:
أحدها: يجوز أن يكون خلق الأرض قبل السماء إلاّ أنه دَحَاهَا حتى خلق السماء؛ لأن التدحية هي البَسْط.
ولقائل أن يقول: هذا مُشْكل من وجهين:
الأول: ان الأرض جسم عظيم، فامتنع انفكاك خلقها عن التَّدْحية، وإذا كانت التَّدْحية متأخّرة عن خلق السماء كان خلقها لا مَحَالَة متأخراً عن خلق السماء.
الثاني: أن قوله: «خَلَقَ لَكُم الأَرْضَ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء» يدلّ على أن خلق الأرض، وخلق كل ما فيها متقدم على خلق السماء، وخلق هذه الأشياء في الأرض لا يمكن إِلاَّ إذا كانت مدحوةً، فهذه الآية على كونها مدحوة قبل خلق السَّماء، فيعود التَّنَاقض.
490
والجواب الثاني: أن قوله: ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: ٣٠] يقتضي تقديم خلق السماء على الأرض، ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدّمة على خَلْقِ الأرض، وعلى هذا التَّقْدِير يزول التناقض.
ولقائل أن يقول: قوله: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ [النازعات: ٢٧ - ٢٨] يقتضي أن يكون خلق السماء، وتسويتها مقدماً على تدحية الأرض، ولكن تَدْحِيَةَ الأرض ملازمة لخلق ذات الأرض، وحينئذ يعود السؤال.
والجواب الثالث وهو الصحيح أن قوله: «ثُمّ» ليس للترتيب هاهنا، وإنما هو على جِهَةِ تعديد النعم، على مثل قول الرَّجل لغيره: أليس قد أعطيتك النعم العظيمة، ثم وقعت الخُصُوم عنك، ولعلّ بعض ما أخره في الذكر قد تقدّم فكذا ها هنا، والله أعلم.
فإن قيل: هل يَدُلّ التنصيص على سَبْعِ سموات على نَفْي العدد الزائد؟
قال ابن الخطيب: الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يَدُلُّ على نفي الزائد.

فصل في إثبات سبع أَرْضين


ورد في التنزيل أن السموات سبع، ولم يأت في التنزيل أن الأرضين سبع إلاَّ قوله ﴿وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ١٢] وهو محتمل للتأويل، لكنه وردت في أحاديث كثيرة صحيحة تدلّ على أن الأرضين سبع كما روي في «الصحيحين» عن رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال:
«من ظَلَمَ قِيْد شِبْرٍ مِنَ الأرض طُوِّقَهُ من سبع أرضين» إلى غير ذلك.
وروى أبو الضحى - واسمه مسلم - عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْه - قال: «الله الذي خَلَقَ سبع سَمَاواتٍ ومن الأرضِ مِثْلَهُنَّ قال: سبع أرضين في كل أرض نَبِيّ كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم وعِيسَى كعيسى» قال البيهقي: إسناد هذا عن ابن عَبَّاسٍ صحيح وهو شاذّ لا أعلم لأبي الضّحى عليه دليلاً.
491
و «السماء» تكون جمعاً ل «سماوة» في قول الأخفش، و «سماءة» في قول الزّجاج، وجمع الجمع «سَمَاوات» و «سماءات»، فجاء «سِوَاهن» إما على أن «السّماء» جمع، وإما على أنها مفرد اسم جنس، وقد تقدّم الكلام على «السَّماء» في قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء﴾ [البقرة: ١٩].
قوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ هو: مبتدأ، و «عليم» خبره، والجار قبله يتعلّق به.
واعلم انه يجوز تسكين هاء «هُو» و «هي» بَعْدَ «الواو» و «الفاء» و «لام» الابتداء و «ثُمّ» ؛ نحو: ﴿فَهِيَ كالحجارة﴾ [البقرة: ٧٤] ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة﴾ [القصص: ٦١] ﴿لَهُوَ الغني﴾ [الحج: ٦٤] ﴿لَهِيَ الحيوان﴾ [العنكبوت: ٦٤] وقرأ بها الكسائي وقالون عن نافع، تشبيهاً ل «هُو» ب «عَضُد» ول «هِي» ب «كَتِف»، فكما يجوز تسكين عين «عَضُد» و «كَتِف» يجوز تسكين هاء «هُوَ»، و «هِي» بعد الأحرف المذكورة؛ إجراءً للمنفصل مجرى المتّصل، لكثرة دورها معها، وقد تسكن بعد كاف الجر؛ كقوله: [الطويل]
٣٤٨ - فَقُلْتُ لَهُمْ:
مَا هُنَّ كَهِيَ فَكَيْفَ لِي سُلُوٌّ وَلاَ أَنْفَكُّ صَبًّا مُتَيَّمَا
وبعد همزة الاستفهام؛ كقوله: [البسيط]
٣٤٩ - فَقُمْتُ للطَّيْفِ مُرتاعاً فَأَرَّقَنِي... فَقُلْت: أَهِيَ سَرَتْ أمْ سَرَت أَمْ عَادِنِي حُلُمُ
وبعد «لكن» في قراءة ابن حَمْدُون: ﴿لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي﴾ [الكهف: ٣٨] وكذا في قوله: ﴿يُمِلَّ هُوَ﴾ [البقرة: ٢٨٢]. فإن قيل عليم «فعيل» من «علم»، و «علم» متعدّ بنفسه، فكيف تعدّى ب «الباء»، وكان من حقه إذا تقدم مفعوله أن يتعدّى إيله بنفسه أو ب «
492
اللام» المقوية، وإذا تأخر أن يتعدى إيله بنفسه فقط؟
فالجواب: أن أمثلة المُبالغة خالفت أفعالها، وأسماء فاعليها لمعنى وهو شبهها ب «أفعل» التفضيل بجامع ما فيها ن مَعْنَى المبالغة، و «أفعل» التفضيل له حكم في التعدّي، فأعطيت أمثلة المُبَالغة ذلك الحكم، وهو أنها لا تَخْلُو من أن تكون من فعل متعدٍّ بنفسه أو لا.
فإن كان الأول فإما أن يفهم علماً أو جهلاً أو لا.
فإن كان الأول تعدت بالباء نحو: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ [النجم: ٣٢] ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ [الحديد: ٦] و «زيد جهول بك» و «أنت أجهل به» وإن كان الثَّاني تعدّت ب «اللام» نحو: «أنا أضرب لزيد منك» و «أنا ضراب له، ومنه: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧]، وإن كانت من متعدٍّ بحرف جَرّ تعدّت هي بذلك الحرف نحو:» أنا أصبر على كذا «و» أنا صبور عليه «، و» أزهد فيه منك «، و» زهيد فيه «.

فصل في إثبات العلم لله سبحانه بخلقه


هذه الآية تدلّ على أنهلا يمكن أن يكون خالقاً للأرض وما فيها، وللسماوات وما فيها من العَجَائب والغرائب إذى إذا كان عالماً بها محيطاً بجزئياتها وكلّياتها، وذلك يدلّ على أمور:
أحدها: أن يفسد قول الفَلاَسفة الَّذين قالوا: إنه لا يعلم الجُزئيات، ويدلّ على صحة قول المتكلمين فإنهم قالوا: إنه - تعالى - فاعل لهذه الأجسام على سبيل الإحكام والإِتْقَان، وكل فاعل على هذا الوجه، فإنه لا بد وأن يكون عالماً بما فعله كما ذكر في هذه الآية.
وثانيها: يدل على فساد قول المعتزلة، وذلك لأنه - سبحانه وتعالى - بين أن الخالق للشَّيء على سبيل التقدير والتحديد، ولا بد أن يكون عالماً به وبتفاصيله، لأن خالقه قد خصّه بقدر دون قدر، والتخصيص بقدر معين لا بُدّ وأن يكون بإرادة، وإلا فقد حصل الرُّجْحَان من غير مرجّح، والإرادة مشروطة بالعلم، فثبت أن خالق الشَّيء لا بد وأن يكون عالماً به على سبيل التفصيل.
فلو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بها، وبتفاصيلها في العَدَدِ والكميّة والكيفية، فلمَّا لم يحصل هذا العلم علمنا أنه غير موجدٍ لأفعال نفسه.
وثالثها: قالت المعتزلة: إذا جمع بين هذه الآية وبين قوله: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٦] ظهر أنه - تعالى - عالم بذاته.
والجَوَاب: قوله تعالى:»
وَفَوْقَ كُلُّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ «عام، وقوله: ﴿أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ [النساء: ١٦٦] خاصّ والخاص مقدّم على العام.
493
هذه الآية دالّة على كيفية تنظيم الله - تعالى - لآدم عليه الصَّلاة والسلام، فيكون ذلك إنعاماً عامًّا على جميع بني آدم، فيكون هذا هو النعمة الثالثة من تلك النعم العامّة التي أوردها.
«إذ» ظرفُ زمانٍ ماض، يخلص المضارع للمضي، وبني لشبهة بالحَرْفِ في الوضع والافتقار، وتليه الجُمَل مطلقاً.
قال المبرد: إذا جاء «إذ» مع المستقبل كان معناه ماضياً كقوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ﴾ [الأنفال: ٣٠] يريد: إذ مكروا، وإذا جاء مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله: ﴿وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦] وقد يبقى على مُضِيِّهِ كهذه الآية.
وإذا كانت الجملة فعلية قبح تقديم الاسم، وتأخير الفعل نحو: «إذ زيد قام»، ولا يتصرّف إلا بإضافة الزمن إليه، نحو: «يومئذ»، ولا يكون مفعولاً به، وإن قال به اكثر المعربين، فإنهم يقدرون «ذكر وقت كذا»، ولا ظرف مكان، ولا زائداً، ولا حرفاً للتعليل، ولا للمفاجأة خلافاً لمن زعم ذلك.
وقد تحذف الجملة المضاف هو إليها للعلم، ويعرض منها تنوين كقوله: ﴿وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ﴾ [الواقعة: ٨٤] وليس كَسْرَته - والحالةُ هذه - كسرة إعراب، ولا تنوينه تنوينَ صرفٍ خلافاً للأخفش، بل الكسر لالتقاء السَّاكنين، والتنوين للعوض بدليل وجود الكسر، ولا إضافة؛ قال الشاعر: [الوافر]
٣٥٠ - نَهَيْتُكَ عَنْ طِلاَبِكَ أُمُّ عَمْرٍو بِعَاقِبَةٍ وَأَنْتَ إِذٍ صَحِيحُ
وللأخفش أن يقول: أصله: «وأنت حينئذ» فلما حذف المضاف بقي المُضَاف إليه على حاله، ولم يقم مقامه نحو: ﴿والله يُرِيدُ الآخرة﴾ [الأنفال: ٦٧] بالجر، إلا أنه ضعيف.
و «قَالَ رَبُّكَ» : جملة فعلية في محلّ خفض بإضافة الظرف إليها، واعلم أنّ «إذ» فيه تسعة أوجه، أحسنها أنه منصوب ب «قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا» أي: قالوا ذلك القول وضقْتَ قول الله عَزَّ وَجَلَّ إني جاعل في الأرض خليفة، وهذا أسهل الأوجه.
494
الثاني: أنه منصوب ب «اذكر» مقدراً، وقد تقدم أنه لا يتصرّف، فلا يقع مفعولاً.
الثالث: أنه منصوب ب «خلقكم» المتقدّم في قوله: ﴿اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] والواو زائدة. وهذا ليس بشيء لطول الفصل.
الرابع: أنه منصوب ب «قال» بعده، وهذا فاسد؛ لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف.
الخامس: أنه زائد، ويُعْزَى لأبي عبيدة.
السادس: أنه بمعنى «قد».
السابع: أنه خبر لمبتدأ مَحْذوف تقديره: ابتداء خلقكم وَقْتَ قول ربك.
الثامن: أنه منصوب بفعل لائقٍ تقديره: ابتداء خلقكم وَقْتَ قوله ذلك.
وهذان ضعيفان، لأن وقت ابتداء الخَلْقِ ليس وقت القول، وايضاً لا يتصرف.
التاسع: أنه منصوب ب «أحياكم» مقدراً، وهذا مردودٌ باختلاف الوقتين أيضاً.
و «للملائكة» متعلّق ب «قال» واللاَّم للتبليغ. و «ملائكة» جمع «مَلَك»، واختلف في «ملك» على ستة أقوال، وذلك أنهم اختلفوا في ميمه، ها هي أصلية أو زائدة؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا.
فقال بعضهم: «ملك» وزنه «فَعَلٌ» من المِلْك، وشذّ جمعه على «فَعَائلة»، فالشذوذ في جمعه فقط.
وقال بعضهم: بل أصله «مَلأْك»، والهمزة فيه زائدة ك «شَمْأَل»، ثم نقلت حركة الهمزة إلى «اللام»، وحذفت الهمزة تخفيفاً، والجمع جاء على أصل الزيادة، فهذان قولان عند هؤلاء.
والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضاً:
فمنهم من قال: هو مشتقٌّ من «أَلَكََ» أي: أرسل، ففاؤه همزة، وعينه لام؛ ويدلّ عليه قوله: [المنسرح]
٣٥١ - أَبْلِغْ أَبا دَخْتَنُوسَ مَألُكَةً عَنِ الَّذِي قَدْ يُقَالُ مِلْكَذِب
وقال الآخر: [الرمل]
٣٥٢ - وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ
وقال آخر: [الرمل]
495
٣٥٣ - أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلَكاً أَنَّه قََدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَاري
فأصل ملك: ثم قلبت العين إلى موضع الفاء «، و» الفاء «إلى موضع» العين «على وزن» مَفْعَلٍ «ثم نقلت حركة» الهمزة «إلى» اللام «، وحذفت» الهمزة «تخفيفاً، فيكون وزن ملك:» مَعَلاً «بحذف الفاء.
ومنهم من قال: هو مشتقّ من»
لأك «أي: أرسل أيضاً، ففاؤه لام، وعينه همزة، ثم نقلت حركة الهمزة، وحذفت كما تقدّم، ويدلّ على ذلك أنه قد نطق بهذا الأصل قال: [الطويل]
٣٥٤ - فَلَسْتَ لإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لمَلأَكٍ تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
ثم جاء الجمع على الأصل، فردّت الهمزة على كلا القولين، فوزن»
ملائكة «على هذا القول» مَفَاعلة «، وعلى القول الذي قبله» مَعَافِلَة «بالقَلْب.
وقيل: هو مشتقٌّ من:»
لاَكَهُ - يَلُوكُه «إذا» أداره - يديره «؛ لأن الملك يدير الرسالة في فِيهِ، فأصل مَلْك: مَلُوك، فنقلت حركة» الواو «إلى» اللام «الساكنة قبلها، فتحرك حرف العلّة، وانفتح ما قبله فقلب» ألفاً «، فصار: ملاكاً مثل:» مقام «، ثم حذفت الألف تخفيفاً، فوزنه:» مفل «بحذف العين، وأصل» ملائكة «:» ملاوكة «، فقلبت» الواو همزة «، ولكن شرط قلب الواو والياء همزة بعد ألف مفاعل أن تكون زائدة نحو:» عَجَائز «و» رَسَائل «، على أنه قد جاء ذلك في الأصل قليلاً قالوا:» مَصَائب «و» مَنَائِر «، وقرىء شاذَّا، ﴿مَعَايِشَ﴾ [الأعراف: ١٠] بالهمز، فهذه خمسة أقوال.
السّادس: قال النضر بن شُمَيْلٍ: لا اشتقاق ل»
الملك «عند العرب» والهاء «في» ملائكة «لتأنيث الجمع، نحو:» صَلاَدمة «.
وقيل: للمُبَالغة ك «عَلاّمة»
و «نسَّابة»، وليس بشيء، وقد تحذف هذه الهَاء شذوذاً؛ قال الشاعر: [الطويل]
٣٥٥ - أَبَا خَالِدٍ صَلَّتْ عَلَيْكَ المَلاَئِكُ...
496

فصل في ماهية الملائكة


اختلفوا في ماهيّة الملائكة، وحقيقتهم، والضابط فيه أن يقال: إن المَلاَئكة ذوات قائمة بنفسها، وهي إما متحيّزة، أو ليست بمتحيّزة، فإن كانت متحيّزة فهاهنا أقوال:
أحدها: أنها أجسام لطيفة هَوَائية تقدر على التشكُّل بأشكال مختلفةٍ مسكنها السموات، وهذا قول أكثر المسلمين.
الثاني: قول طوائف من عَبَدَةِ الأوثان: أن الملائكة هي هذه الكواكب الموصوفة بالإسْعَادِ، والإِنْحَاسِن فَالْمُسْعِدَات منها ملائكة الرَّحمة، والمنحسات منها مَلاَئكة العذاب.
الثالث: قول معظم المَجُوس، والثنوية: وهو أن هذا العَالمَ مركّب من أصلين أزليين، وهما النور والظّلمة، وهُمَا في الحقيقة جَوْهَرَان شَفَّافان مُخْتَاران قادران، متضادا النّفس والصورة، مختلفا الفعل والتدبير، فجوهر النُّور فاضل خيّر، نفيّ طيّب الريح، كريم النفس يسر ولا يضر، وينفع ولا يمنع، ويَحْيَا ولا يبلى، وجوهر الظلمة على ضدّ ذلك.
ثم إنَّ جوهر النور لم يزل يولد الأولياء، وهم الملائكة لا على سبيل التَّنَاكح، بل على سبيل تولّد الحكمة من الحكيم، والضوء من المضيء، وجوهر الظلمة لم يزل يولد الأعداء، وهم الشياطين على سبيل تولّد السَّفهِ من السفيه لا على سبيل التناكح.
القول الثاني: وهو أنها ذوات قائمة بأنفسها، وليست بمتحيّزة، ولا بأجسام. فهاهنا قولان:
الأول: قول طوائف من النَّصَارى، وهو أن الملائكة في الحقيقة هي الأنفس النَّاطقة المفارقة لأبدانها على نَعْتِ الصفاء والخيرية، وذلك لأن هذه النفوس المفارقة إن كانت صافيةً خالصة فهي الملائكة، وإن كانت خبيثةً كَدِرَةً فهي الشياطين.
والثاني: قول الفَلاَسفة وهي أنها جَوَاهر قائمة بأنفسها وليست بمتحيّزة ألبتة، وأنها بالماهية مخالفة لأنواع النفوس النَّاطقة البشرية، وأنها أكملُ قوةً منها، وأكثر علماً منها، وأنها للنفوس البشرية جارية جرى الشَّمس بالنسبة إلى الأضواء، ثم إنَّ هذه الجَوَاهر على قسمين: منها ما هي بالنسبة إلى أجْرَام الأَفْلاَك والكواكب كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا، ومنها ما هي لا هي عَلَى شَيْءٍ من تدبير الأفلاك، بل هي مستغرقة في معرفة الله، ومحبته ومشتغلة بطاعته، وهذا القسم هُمُ الملائكة المُقَرَّبُون، ونسبتهم إلى الملائكة الَّذين يدبرون السَّمَاوات، كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا النَّاطقة، فهذان القِسْمان قد اتفقت الفلاسفة على إثباتهما، ومنهم من أثبت انواعاً أُخَرَ من الملائكة، وهي الملائكة الأرضية المدبِّرة لأحوال هذا العالم السفليّ، ثم إن المدبرات لهذا العَالَم إن كانت خيرةً فهم الملائكة، وإن كانت شريرةً فهم الشياطين.
497

فصل في شرح كثرتهم


قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أن تَئِطَّ ما فيها مَوْضِعَ قَدَمٍ إلا وفيه مَلَكٌ ساجدٌ، أو راكع».
[وروي أن بني آدم عشر الجن، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البَرّ، وهؤلاء كلهم عُشر حيونات البَرّ، وهؤلاء كلّهم عشر حيوانات البَحْرِ، وهؤلاء كلّهم عشر ملائكة الأرض الموكّلين بها، وكلّ هؤلاء ملائكة سَمَاء الدنيا، وكل هؤلاء عشر ملائكة السَّماءِ الثانية وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السّرادق الواحد من سُرَادقات العرش التي عددها ستمائة ألف، طول كلّ سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السَّمَاوات والأرضون وما فيها وما بينها، فإنها كلها تكون شيئاً يسيراً وقدراً صغيراً، وما من مقدار موضع قدم إلا وفيه مَلَكٌ ساجد، أو راكع] وقائم، لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتَّقديس، ثم كلّ هؤلاء في مُقَابلة الملائكة الذين يَحُومُونَ حول العرش كالقَطْرَةِ في البحر، ولا يعلم عَدَدَهُمْ إلا اللهُ تعالى، ثم مع هؤلاء ملائكة اللَّوحِ الذين هم أشياع إسرافيل عليه السّلام، والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه السَّلام، ولا يحصى أجناسهم ولا مدة أعمارهم ولا كيفية عبادتهم إلا الله تعالى، على ما قال: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾ [المدثر: ٣١].
وروي في بعض كتب التَّذكير أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حين عرج به رأى ملائكة في مَوْضِعٍ بمنزلة سوق بعضهم يمشي تُجَاهَ بعض، فسأل رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إلَى أيْنَ يَذْهَبُونَ؟» فقال جبريل عليه السَّلام: لا أَدْرِي إِلاّ أَنِّي أراهُمْ مذ خلقت ولا أرى واحداً منهم قد رأيته قبل ذلك، ثم سأل واحداً منهم وقيل له: مذ كم خلقت؟ فقال: لا أدري غير أن الله - تعالى - يخلق كوكباً في كلّ أربعمائة ألف سنةٍ، فخلق مثل ذلك الكوكب منذ خَلَقَنِي أربعمائة ألف مرة فسبحانه من إله ما أعظم قدرته وما أجلّ كماله.

فصل فيمن قيل له من الملائكة: «إني جاعل»


اختلفوا في المَلاَئكة الَّذين قال لهم: «إنِّي جاعلٌ لهم» كلّ الملائكة، أو بعضهم؟ فروى الضَّحَّاك عن ابن عباس أنه سبحانه إنما قال هذا القول للملائكة الذين [كانوا مُحَاربين] مع «إبليس» ؛ لأن الله - تعالى - لما أسكن الجنّ الأرض، فأفسدوا فيها،
498
وسفكوا الدّماء، وقتل بعضهم بعضاً، بعث الله «إبليس» في جُنْدٍ من الملائكة، فقتلهم «إبليس» بعسكره حتى أخرجوهم من الأرض؛ وألْحَقُوهُمْ بِجَزَائِرِ البَحْر، وشعوب الجِبَالِ، وسَكَنُوا الأرض، وخفّف الله عنهم العبادة، وأعطى «إبليس» ملك الأرض، وملك سماء الدنيا، وخزانة الجنّة، فكان يعبد الله تارة في الأرض، وتارة في السماء، وتارة في السماء، وتارة في الجنة، فاخذه العجب وقال في نفسه: ما أعطاني الله هذا المُلْكَ إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال تعالى لهم: «إنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً».
وقال أكثر الصحابة والتابعين إنه قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص، لأن لفظ الملائكة يفيد العُمُوم.
فإن قيل: ما الفائدة في أن الله قال للملائكة: «إنِّي جَاعِلٌ في الارضِ خليفةً» مع أنه منزّه عن الحاجة إلى المَشُورة؟.
فالجواب من وجهين:
الأوّل: أنه - تعالى - علم أنهم إذا اطَّلعُوا على ذلك السّر أوردوا عليه ذلك السُّؤال، فكانت المَصْلَحَة تقتضي إحاطتهم بذلك الجَوَاب، فعرّفهم هذه الواقعة لكي يوردوا ذلك السُّؤال، ويسمعوا ذلك الجواب.
والثاني: أنه - تعالى - علم عباده المَشُورة.
قوله: «إنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً» هذه الجملة معمولُ القول، فهي في محل نصب به، وكسرت «إنَّ» هنا، لوقوعها بعد القول المجرّد من معنى الظَّنِّ محكية به، فإن كان بمعنى الظَّن جرى فيها وجهان: الفَتْح والكَسْر؛ وأنشدوا: [الطويل]
٣٥٦ - إِذَا قُلْتَ إِنِّي آيبٌ أَهْلَ بَلْدَةٍ نَزَعْتُ بِهَا عَنْهُ الْوَلِيَّةَ بِالهَجْرِ
وكان ينبغي أن يفتح ليس إلاَّ؛ نظراً لمعنى الظن، لكن قد يقال جاز الكسر مُرَاعاةً لصورة القول.
و «إن» على ثلاثة أقسام:
قسم يجب فيه كسرها، وقسم يجب فيه فتحها، وقسم يجوز فيه الوجهان.
والضابط الكُلّي في ذلك: أن كلَّ موضع سَدَّ مسدَّها المصدرُ، وجب فيها فتحها؛ نحو: «بلغني انك قائمٌ»، وكلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّهَا، وجب فيه كَسْرُها؛ كوقوعها بعد القول ومبتدأةً وصلةً وحالاً، وكلّ موضع جاز أن يسدّ مسدّها، جاز الوجهان؛ كوقوعها بعد فاء الجزاء، و «إذا» الفجائية.
499
و «جاعل» فيه قولان:
أحدهما: أنه بمعنى «خالق» فيكون «خليفة» مفعولاً به و «فِي الأَرضِ» فيه حينئذ قولان:
أحدهما: وهو الواضح - أنه متعلّق ب «جاعل» والثاني: أنه متعلّق بمحذوف؛ لأنه حال من النكرة بعده.
القول الثانيك أنه بمعنى «مُصَيِّر» ذكره الزَّمَخْشَرِي، فيكون «خليفة» هو المفعول الأول، و «في الأرض» هو الثَّاني قدم عليه، ويتعلّق بمحذوف على ما تقرر.
والأرض قيل: إنها «مكة»، روى ابن سابط عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «دُحِيَتِ الأَرْضُ من مَكَّةَ» ولذلك سميت «أم القرى»، قال: وقبر نوح، وهود، وصالح، وشعيب بين «زمزم» والمَقَام.
والظاهر أنّ الأرض في الآية جميع الأرض من المشرق والمغرب.
و «خليفة» يجوز أن يكون بمعنى «فاعل» أي: يخلفكم أو يخلف من كان قبله من الجنّ، وهذا أصح، لدخول تاء التأنيث عليه.
وقيل: بمعنى «مفعول» أي: يخلف كل جيل من تقدمه، وليس دخول «التَّاء» حينئذ قياساً، إلاَّ أن يقال: إن «خليفة» جرى مجرى الجَوَامِدِ ك «النَّطيحة» و «الذَّبيحة». وإنما استغنى بذكره كما يستغنى بذكر أبي القَبِيلَةِ نحو: «مُضَر» و «رَبِيعَة» وقيل: المعنى على الجنس.
وقال «ابن الخطيب» : الخليفة: اسم يصلح للواحد والجمع كما يصلح للذكر والأنثى.
و «الخَلَفُ» - بالتحريك - من الصَّالحين، وبتسكينها من الطَّالحين.
واختلفوا في أنه لِمَ سمّاه - أي: خليفة - على وجهين:
فروي عن «ابن عباس» أنه - تعالى - لما نفى الجنّ من الأرض، وأسكنها آدم كان
500
آدم - عليه الصلاة والسَّلام - خليفة لأولئك الجنّ الذين تقدّموه، لأنه خلفهم.
والثاني: إنما سمَّاه الله خليفةً، لأنه يخلف الله في الحكم بين خلقه، ويروى عن ابن مسعود، وابن عباس، والسّدي وهذا الرأي متأكّد بقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق﴾ [ص: ٢٦]. [روى أبو ذر قال: قلت: يا رسول الله أنبياً كان آدم مرسلاً؟ قال: «نعم..» الحديث].
فإن قيل: لمن كان رسولاً إلى ولده، وكانوا أربعين ولداً في عشرين بطناً في كل بَطْنٍ ذكر وأنثى، وتوالدوا حتى كثروا، وأنزل عليهة تحريم الميتة والدَّم ولحم الخِنْزِير، وعاش تسعمائة وثلاثين سنةً. ذكره أهل التوراة والله أعلم. [وروي عن وهب بن منبه أنه عاش ألف سنة].
وقرئ: «خلِيقةً» بالقاف، و «خليفة» منصوب ب «جاعل» كما تقدّم؛ لأنه اسم فاعل، وأسم الفاعل يعمل عمل فعله مطلقاً إن كان فيه الألف واللام، ويشترط الحال أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه، ويجوز إضافته تخفيفاً ما لم يفصل بينهما كهذه الآية.

فصلٌ في وجوب نصب خليفة للناس


هذه الآية دليلٌ على وجوب نصب إمام وخليفة يسمع له ويُطَاع، لتجتمع به
501
الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة، ولا خلاف في وجوب ذلك بَيْنَ الأئمة إلاّ ما روي عن
502
الأصَمّ، وأتباعه أنها غير واجبةٍ في الدين - وأن الأمة متى أقاموا حججهم وجهادهم،
503
وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحقّ من أنفسهم، وقسموا الغَنَائم والفَيء والصدقات على أهلها، وأقاموا الحُدُود على من وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولّى ذلك، وشروط الإمامة مذكورة في كتب الفِقْه.
وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحقّ من أنفسهم، وقسموا الغَنَائم والفَيْء والصدقات على أهلها، وأقاموا الحُدُود على من وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولّى ذلك، وشروط الإمامة مذكورة في كتب الفِقْه.
قوله: «قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا» قد تقدم أن «قالوا» عامل في «إِذْ قَالَ رَبُّكَ»، وأنه المختار، والهمزة في «أتجعل» للاستفهام على بابها، وقال الزمخشري: «للتعجب»، وقيل: للتقرير؛ كقوله: [الوافر]
٣٥٧ - أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالِمينَ بُطُونَ رَاحِ
وقال «أبو البَقَاءِ» للاسترشاد، أي: أتجعل فيها من يفسد كمن كان قبل.
و «فيها» الأولى متعلّقة ب «تجعل» إن قيل: إنها بمعنى «الخَلْق»، و «من يفسد» مفعول به.
وإن قيل: إنها بمعنى «التصيير»، فيكون «فيها» مفعولاً ثانياً قدّم على الأول، وهو «من يفسد»، و «من» تحتمل أن تكون كموصولةً، أو نكرة موصوفة، فعلى الأول لا محلّ للجملة بعدها من الإعراب، وعلى الثَّاني محلها النصب، و «فيها» الثانية متعلّقة ب «يفسد». و «يفسك» عطف على «يفسد» بالاعتبارين.
والجمهور على رَفْعِهِ، وقرئ منصوباً على جواب الاتسفهام بعد «الواو» التي تقتضي الجمع بإضمار «أن» كقوله: [الكامل]
٣٥٨ - أَتَبِيتُ رَيَّانَ الجُفُونِ مِنَ الكَرَى وَأَبِيتَ مِنْكَ بِلَيْلَةِ الْمَلْسُوعِ
وقال: «ابن عطية» :«منصوب بواو الصرف» وهذه عبارةُ الكوفيين، ومعنى «واو الصرف» أن الفعل كان يقتضي إعراباً، فصرفته «الواو» عنه إلى النصب.
والمشهور «يَسْفِكُُ» بكسر الفاء، وقرئ بضمها أيضاً بضم حرف المُضَارعة من «أُسْفِكُ».
504
وقرئ أيضاً مشدداً للتكثير. و «السَّفْك» : هو الصَّب، ولا يستعمل إلاّ في الدم.
وقال ابن فارس والجوهري: «يستعمل أيضاً في الدمع».
وقال «المَهْدَوِيّ» : ولا يستعمل السَّفك إلاّ في الدم، وقد يستعمل في نَثْرِ الكلام، يقال: سفك الكلام، أي: نثره.
و «السَّفاك» : السفاح، وهو القادر على الكلام.
و «الدِّمَاء» جمع «دَم» ولا يكون اسمٌ معربٌ على حرفين، فلا بُدَّ له من ثالث محذوف هو لامه، ويجوز أن تكون «واواً» وأن تكون «ياء» ؛ لقولهم في التثنية «دَمَوَان» و «دَمَيَان» ؛ قال الشاعر: [الوافر]
٣٥٩ - فَلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذُبِحْنَا جَرَى الدَّمَيَانِ بِالخَبَرِ الْيَقِينِ
وهل وزن دم: «فَعْل بسكون العين، أو» فَعَل «بفتحها؟ قولان؛ وقد يُرَدُّ محْذُوفُهُ، فيستعمل مقصوراً ك» عَصَا «؛ وعليه قول الشاعر:
٣٦٠ - كَأَطُومٍ فَقَدَتْ بُرْغُزَهَا أَعْقَبَتْهَا الغُبْسُ مِنْهُ عَدَمَا
غَفَلَتْ ثُمَّ أَتَتْ تَرْقُبُهُ فَإِذّا هِيَ بِعِظَامٍ وَدَمَا
»
الأَطُوم «: الناقة،» وبرغزها «: ولدها، و» الغُبْسُ «: الضباع.
وقد تشدّد ميمه؛ قال الشاعر: [البسيط]
٤٦١ - أَهانَ دَمَّكَ فَرْغاً بَعْدَ عِزَّتِهِ يَا عَمْرُو بَغْيُكَ إِصْرَاراً عَلَى الْحَسَدِ
وأصل الدَّمَاء:»
الادِّمَاو «أو» الدِّمَاي «فقلب حرف العلّة همزة لوقوعه طرفاً بعد ألف زائدةٍ، نحو:» كِسَاء «و» رِدَاء «.
505
فإن قيل: الملائكة لا يعلمون إلا بما عملوا، ولا يسبقونه بالقول، فكيف قالوا:» أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا «.
فالجواب: اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: إنهم ذكروا ذلك عن ظَنّ قياساً على حالِ الجِنّ الذين كانوا في الأرض قبل آدم عليه الصَّلاة والسّلام، قاله ابن عباس، والكلبي وأحمد بن يحيى.
الثَّاني: أنهم عرفوا خلقة آدم، وعرفوا أنه مركب من الأخلاط الأربعة فلا بد وأن يتولد منه المشهور بالغَضَبِ، فيتولّد الفساد من الشَّهْوَةِ، وسَفْكِ الدماء من الغضب.
ومنهم من قال: إنهم قالوا ذلك على يَقِيْنِ، وهو مروي عن «ابن معود»
وناس من الصحابة، وذكروا وجودهاً:
أحدها: أنه - لما قال: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةٌ» قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة.
قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضاً، فعند ذلك قالوا: «أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيْهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ» ؟
إما على طريق التَّعجُّب من استخلاف الله من يعصيه، أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه، وينعم عليه بذلك، وإما على طريق الاستعظام والاستكبار للفعلين جميعاً الاستخلاف والعصيان.
وثانيها: أنه - تعالى - كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلقٌ عظيم أفسدوا فيها، وسفكوا الدماء.
وثالثها: قال ابن زَيْدٍ: لما خلق الله النَّار خافت الملائكة خوفاً شديداً، فقالوا: ربنا لمن خلقت هذه النار؟ قال: لمن عَصَانِي من خلقي، ولم يَكُنْ لله يومئذ خلقٌ سوى الملائكة، ولم يكن في الأرض خلق ألبتة، فلما قال: «إني جاعل في الأرض خليفةٌ» عرفوا أن المعصية تظهر منهم.
ورابعها: لما كتب القلم في اللوح [المحفوظ] ما هو كائن إلى يوم القيامة، فلعلّهم طالعوا اللّوح، فعرفوا ذلك.
وخامسها: إذا كان مَعْنَى الخليفة من يكون نائباً لله في الحكم والقضاء، والاحتياج إلى الحاكم والقاضي إنما يكون عند التنازع، والتَّظَالم، فكان الإخبار عن وُجود الخليفة إخباراً عن وقوع الفساد والشَّرِّ بطريق الالتزام.
506
وسادسها: قال قتادة: كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خليفةً يفعل كذا وكذا، قالوا: أتجعل فيها الَّذي علمناه أم غيره.
قوله: «ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ» الواو: للحال، و «نحن نسبح» : جملة من مبتدأ وخبر في محلٍّ النصب على الحال.
و «بحمدك» : متعلّق بمحذوف؛ لأنه حالٌ أيضاً، و «الباء» فيه للمصاحبة أي: نسبّح ملتبسين بحمدك، نحو: جاء زيدٌ بثيابه. فهما حَالاَنِ مُتَدَاخِلان، أي حال في حال.
وقيل: «الباء» للسببية فتتعلّق بالتسبيح، قل «بن عطية» : ويحتمل ن يكون قولهم: «بحمدك» اعتراضً بين الكلامين، كأنهم قلوا: ونحن نسبح ونقدس، ثم اعترضا على جهة التسليم، أي: وأنت المَحْمُودُ في بالهداية إلى ذلك وكأنه يحاول أنه تكون «الباء» فعلاً محذوفاً لائقاً بالمعنى تقديره: حصل لنا التسبيح والتقديس بسبب حمدك.
و «الحمد» هنا: مصدر مُضَاف لمفعوله، وفاعله محذوف تقديره بحمدنا إيّاك، وزعم بعضهم أنّ الفاعل مضمر فيه، وهو غلط؛ لأنَّ المصدر اسم جامد لا يضمر فيه على أنه قد حكي الخِلاَف في المصدر الواقع موقع الفِعْل، نحو: «شرياً زيداً» هل يتحمّل ضميرً أو لا وقد تقدم.
و «نُقَدِّسُ» عطف على «نُسَبِّحُ» فهو خير أيضاً عن «نحن»، ومفعوله محذوف أي: نقدس أنفسنا وأفعالنا لك.
و «لك» متعلّق به، أو ب «نسبح» ومعناها العلّة.
وقل: زائدة، فإنَّ ما قبلها متعدٍّ بنفسه، وهو ضعيف، إذ لا تُزادَ «اللام» إلا مع تقديم المعمول، أو يكون العامل فرعاً.
وقيل: هي مُعَدِّيَةٌ: نحو: «سجدت لله».
وقيل: للبيان كهي في قولك: «سُقْياً لك» فعل هذا تتعلّق بمحذوف، ويكون خبر مبتدأ مضمر أي: تقديساً لك.
وهذا التقدير أحسن من تقدير قولهم: أعني؛ لأنه أليق بالموضع. وأبعد من زعم أن جملة «ونحن نسبح» داخلة في حيز استفهام مقدر تقديره: وأنحن نسبح أم نتغير؟ واستحسنه ابن عطية مع القول بالاستفهام المحض في قولهم: «أتجعل» وهذا يأباه الجمهور، أعني: حذف همزة الاستفهام من غير ذكر «أم» المعادلة وهو رأي «الأخفش» وجعل من ذلك قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ﴾ [الشعراء: ٢٢] أي: وأتلك نعمة.
507
وقول الآخر: [الطويل]
٣٦٢ - طَرِبَتْ وَمَا شَوْقَاً إلى البِيضِ أَطْرَبُ وَلا لَعِباً مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يَلِعًبُ
أي: وأذو الشيب؟
وقول الآخر: [المنسرح]
٣٦٣ - أَفَرِحَ أَنْ أُزْرَأَ الكِرَامَ وَأَنّْ أُورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاَ نَبَلا
أي: أأفرح؟.
فأما مع «أم» جائز لدلالتها عليه؛ كقوله: [الطويل]
٣٦٤ - لَعَمْرِكَ ما أدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِياً يِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانٍ
أي: أبسبع؟
و «التسبيح» : التنزيه والبَرَاءة، وأصله من السَّبح وهو البعد، ومنه السَّابح في الماء، فمعنى «سبحان الله» أي: تنزيهاً له وبراءة عما لا يليق بجلاله ومنه: [السريع]
٣٦٥ - أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ سُبٍحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ
أي: تنزيهاً، وهو مختص بالباري تَعَالى.
قال «الراغب» في قوله: سبحان من عَلْقَمَةَ الفاخر إن أصله: سُبْحَانَ علقمة، على سبيل التهكُّم فزاد فيه «من».
508
وقيل: تقديره: سبحان الله من أجل عَلْقَمَة، فظاهر قوله أنه يجوز أن يقال لغير البَارِي على سبيل التهكُّم، وفيه نظر.
و «التقديس» : التَّطهير، ومنه الأرض المقدَّسَة، وبيت المَقْدِس، ورُوح القُدُس؛ وقال الشاعر: [الطويل]
٣٦٦ - فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بِالسَّاقِ وَالنِّسَا كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدِّسِ
أي: المُطَهِّر لهم.
وقال: «الزمخشري» : هو من قدس في الأرض: إذا ذهب فيها وأبعد، فمعناه قريب من معنى «نسبّح».
ثم اختلفوا على وجوع:
أحدها: نطهرك أي: نَصِفُكَ بما يليق بك من العلو والعزّة.
وثانيها: قول مجاهد: نطهر أفعالنا من ذنوبنا حتى تكون حالصةٌ لك.
ورابعها: نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك حتى تصير مستغرقةً في أنوار معرفتك.
قالت المعتزلة: هذه الآية تدلّ على مذهبنا من وجوه:
أحدها: قولهم: «ونَحْنُ نُسَبِّحُ بحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ» أضافوا هذه الأفعال إلى أنفسهم، فلو كانت أفعالاً لله - تعالى - لما حسن التمدُّح بذلك، ولا فضل لذلك على سفك الدماء؛ إذ كل ذلك من فعل الله تعالى.
وثانيها: إذا كان لا فاحشة، ولا ظُلْم، ولا وجود إلاّ بصنعه وخلقه ومشيئته، فكيف يصح التنزيه والتقديس؟
وثالثها: أن قوله: «أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» يدلّ على مذهب العَدْلِ، لأنه لو كان خالقاً للكفر لكان خلقهم لذلك الكفر، فكان ينبغي أن يكون الجواب نعم خلقهم ليفسدوا وليقتلوا، فلما لم يَرْضَ بهذا الجواب سقط هذا المذهب.
ورابعها: لو كان الفساد والقَتْلُ من فعل الله - تعالى - لكان ذلك جارياً مجرى أجسامهم، وألوانهم، وكما لا يصح التعجُّب من هذه الأشياء، فكا من الفساد والقتل. والجواب: المُعَارضة بمسألة الداعي والعلم، والله أعلم.
قوله: " إني أعلم ما لا تعلمون ".
509
أصل «إنّي» : فاجتمع ثلاثة أمثال، فحذفنا أحدها، وهل هو «نون» الوقاية، أو «النون» الوسطى؟
قولان: الصحيح الثاني، وهذا شبيه بما تقدم في ﴿إِنَّا مَعَكْمْ﴾ [البقرة: ١٤] وبابه، والجملة في محل نَصْب بالقول.
و «أعلم» يجوز فيه أن يكون فعلاً مضارعاً، وهو الظاهر، و «ما» مفعول به، وهي: إما نكرة موصوفة أو موصولة، وعلى كل تقدير، فالعائد محذوف لاستكماله الشروط: أي: تعلمونه.
وقال «المهدي، ومكّيّ: وتبعهما» أبو البقاء «: إن» أعلم «اسم بمعنى» عالم «؛ كقوله: [الطويل]
٣٦٧ - لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وإنّي لأَوْجَلُ عَلَى أَيِّنَا تَعْدُو المَنِيَّةُ أَوَّلُ
ف»
ما «يجوز فيها أن تكون في محلّ جر بالإضافة، أو نصب ب» أعلم «، ولم ينون» أعلم «لعدم انصرافه بإجماع النحاة.
واختلفوا في أفعل إذا سمي به وكان نكرة، فسيبويه والخليل لا يصرفانه، والأخفش يصرفه نحو:»
هؤلاء حَوَاجّ بيت الله «.
وهذا مبني على أصلين ضعيفين:
أحدهما: جعل»
أفعل «بمعنى» فاعل «من غير تفضيل.
والثاني: أن»
أفعل «إذا كانت بمعنى اسم الفاعل علمت عمله، والجمهور لا يثبتونها.
وقيل:»
أعلم «على بابها من كونها للتفضيل، والمفضل عليه محذوف، أي: اعلم منكم، و» ما «منصوبة بفعل محذوف دلّ عليه» أفعل «أي: علمت ما لا تعلمون، ولا جائز أن ينصب ب» أفعل «التفضيل؛ لأنه أضعف من الصفة المشبّهة التي هي أضعف من اسم الفاعل الذي هو أضعف من الفِعْلِ في العمل، وهذا يكون نظير ما أوّلوه من قول الشاعر: [الطويل]
510
٣٦٨ - فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الحَيِّ حَيَّاً مُصَبِّحاً وَلاَ مِثْلَنَا يَوْمَ الْتَقِيْنَا فَوَارِسَا
أَكَرَّ وأَحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ وَأَضَرَبَ مِنَّا بالسُّيُوف القَوَانِسَا
ف «القَوَانِس» منصوب بفعل مقدر أي: ب «ضرب» لا ب «أضرب»، وفي ادعاء مثل ذلك في الآية الكريمة بعد الحَذْفِ يتبيّن المفضل عليه، والناصب ل «ما».

فصل في بيان علام الجواب في الآية


اختلف علماء التأويل في هذا الجواب وهو قوله: «إِنَّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ» فقيل: إنه جواب لتعجّبهم، كأنه قال: لا تتعجّبوا من أن فيهم من يفسد، ويقتل، فإني أعلم مع هذا أن فيهم صالحين، ومتّقين، وأنتم لا تعلمون.
وقيل: إنه جواب لغمّهم كأنه قال: لا تغتمّوا بسبب وجود المفسدين، فإني أعلم أيضاً أن فيهم جمعاً من المتّقين، ومن لو أقسم على لأبرّه. وقيل: إنه طلب الحكمة كأنه قال: إن مصلحتكم أن تعر فرا وجه الحكمة فيه على الإجمال دون التفصيل. بل ربما كان ذلك التفصيل مفسدة لكم.
وقال «ابن عباس» : كان «إبليس» - لعنة الله - قد أعجب ودخله الكِبَرُ لما جعله خازن السّماء، وشرفه، فاعتقد أن ذلك لمزيّةٍ له، فاستحب الكفر والمعصية في جانب آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقالت الملائكة: «ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك»، وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك، فقال الله لهم: «إني أعلم ما لا تَعْلَمُونَ»، وقيل: المعنى عام، أي: أعلم ما لا تعلمون مما كان، وما يكون، وما هو كائن.
511
اعلم أن الملائكة لما سألوا عن وجه الحكمة، فأجابهم على سبيل الإجمال بقوله: «إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون».
أراد الله تعالى أن يزيدهم بياناً، وأن يفصّل لهم ذاك المُجْمَل، فبين تعالى لهم من فضل آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما لم يكن معلوماً لهم، وذلك بأن علم آدم الأسماء
511
كلها، ثم عرضهم عليهم ليظهر بذلك كَمَال فَضْلِه، وقُصُورهم عنه في العلم، فيتأكّد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي.

فصل في إعراب الآية


قوله: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسمَاء» هذه الجملة يجوز ألاَّ يكون لها مَحَلّ من الإعراب، لاستئنافها، وأن يكون محلها الجر، لعطفها على «قَالَ رَبُّكَ».
و «علم» متعدّية إلى اثنين، وكانت قبل التضعيف متعديةً لواحد؛ لأنها عرفانية، فتعدّت بالتضعيف لآخر، وفرقوا بين «علم» العِرْفَانية واليَقِينيّة في التعدية، فإن أرادوا أن يعدوا اليقينية عدوها بالهمزة ذكر ذلك «أبو علي الشّلوبين».
وفاعل «علم» يعود على الباري تَعَالى، و «آدم» مفعوله.
وآدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كُنيته أبو البَشَر، وقيل: أبو محمد ذكره السُّهيلي، وقيل: كنيته في الأرض أبو البشر، وكنيته في الجنة أبو محمد.
وأصله بهمزتين، لأنه «أفعل» إلا أنهم لَيَّنُوا الثانية، فإذا احتجت إلى تحريكها جعلتها «واواً» فقلت: «أوادم» في الجمع؛ لأنه ليس لها أصل في الياء معروف، فجعلت الغالب عليها الواو، عن «الأخفش».
وفي «آدم» ستة أقوال: أرجحها أنه اسم أعجمي لا اشتقاق فيه، ووزنه «فَاعَلَ» كَنَظَائره نحو: «آزر» و «شالخ»، وإنّما مُنعَ من الصَّرف للعلمية والعُجْمة الشخصية.
والثاني: أنه مشتقٌّ من «الأُدْمَةِ»، وهي حُمْرَةٌ تميل إلى السَّوَاد، واختلفوا في الأُدْمَةِ، فزعم «الضَّحاك» أنها السُّمرة، وزعم «النَّضْر» أنها البياض، وأن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان أبيض، مأخوذ من قولهم: ناقة أَدْمَاء، إذا كانت بيضاء، وعلى هذا الاشتقاق جمعه «أَدْمٌ» و «أَوَادِمُ» ك «حُمَرٍ: و» أَحَامِرَ «، ولا ينصرف بوجه.
الثالث: أنه مشتقٌ من أديم الأرض، وهو وجهها. ومنع من الصَّرف على هَذَيْنِ القولين للوزن والعلميّة.
الرابع: أنه مشتقٌ من أَدِيم أيضاً على هذا الوزن أعني وزن فاعل، وهذا خطأ، لأنه كان يبنغي أن ينصرف، لأن كونه مشتقٌّ من الأُدْمَة، وهو أديم الأرض جمعه»
آدَمُون «فيلزم قاشلو هذه المقالة صرفه.
الخامس: أنه عِبْرِيّ من الإدام، وهو التراب.
السّادس: قال»
الطبري «: إنه في الأصل فعل رباعي مثل:» أكرم «، وسمي به لغرض إظهار الشيء حتى تعرف جِهَته.
والحاصل أن ادّعاء الاشتقاق فيه بعيد؛ لأن الأسماء الأعجمية لا يَدْخُلُهَا اشتقاق ولا تصريف.
512
و «آدم» وإن كان مفعولاً لفظاً فهو فاعل معنى، و «الأسماء» مفعول ثانٍ، والمسألة من باب «أعطى وكَسَا»، وله أحكام تأتي إن شاء الله تعالى.
وقرئ: «عُلَِمَ» مبنياً للمفعول و «آدمُ» رفع لقيامه مقام الفاعل. و «كُلَّهَا» تأكيد للأسماء تابع أبداً، وقد يلي العوامل كما تقدّم.
وقوله: «الأَسْمَاءَ كُلَّهَا» الظاهر أنه لا يحتاج إلى ادِّعَاء حذف؛ لأن المعنى: وعلم آدم الأسماء، ولم يبين لنا أسماء مخصوصة، بل دلّ قوله: «كلها» على الشُّمول، والحكمة حاصلة بتعلُّم الأسماء، وإن لم يعلم مسمياتها، أو يكون أطلق الأسماء، وأراد المسميات، فَعَلَى هذين الوجهين لا حَذْفَ.
وقيل: ى بُدّ من حذف، واختلفوا فيه، فقيل: تقديره: أسماء المسميات، فحذف المُضاف إليه للعلم.
قال الزمخشري: وعوض منه «اللام»، كقوله تعالى: ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ [مريم: ٤] ورجّح هذا القول بقوله: «أَنْبِئُونِي بأَسْمَاءِ هَؤلاَءِ»، «فَلَمَا أَنْبَأَهَمْ بَأَسْمَائِهِمْ» ولم يقل: «أَنْبِئُونِي بِهَؤُلاَءِ»، «فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِهِمْ» ولكن في قوله «وعوض منه اللام» نظر؛ لأن الألف واللام لا تقوم مَقَامَ الإضافة عند البصريين. وقيل: تقديره: مسميات الأسماء، فحذف المُضاف، وأقيم المُضَاف إليه مقامه، ورجح هذا القول بقوله: «ثُمَ عَرَضَهُمْ» لأن الأسماء لا تجمع كذلك، فدلّ عوده على المسميات، ونحو هذه الآية قوله تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ﴾ [النور: ٤٠].
تقديره: أو كَذِي ظُلُمَاتٍ، فالهاء في «يغشاه» على «ذي» المحذوف.

فصل في المراد بالأسماء في الآية


اختلف أهل التأويل في معنى الأسماء التي علّمها لآدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقال ابن عباس، وعكرمه، وقتادة، ومجاهد، وابن جبير: علمه أسماء جميع الأشياء كلّها جليلها وحقيرها.
وروى عاصم بن كليب عن سعد مولى الحَسَنِ بن علي قال: «كنت جالساً عند ابن عباس، فكروا اسْمَ الآنِيَةِ وَاسْمَ السّوط، قال ابن عباس: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا».
وروي عن ابن عبَّاس، ومجاهد، وقتادة: «علمه أسماء كلّ شيء حتى القصْعَة
513
والقصيعة وحتى الجَفنة والمِخْلب» وعن قتادة قال: علم آدم من الأسماء أسماء خلقه ما لم تعلم المَلائكة، وسمى كل شيء باسمه، وأنحى منفعة كل شيء إلى جنسه.
قال النَّحَّاس: «وهذا أحسن ما روي».
وقال الطبري «علمه أسماء الملائكة وذريّته» واختار هذا، ورجّحه بقوله: «ثم عرضهم».
وقال القتيبي «أسماء ما خلق في الأرض».
وقيل: أسماء الأجناس والأنواع.
وقال الربيع بن أنس: «أسماء الملائكة».
وقيل: أسماء ذريّته.
وقيل: أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.
وقيل: صنعة كلّ شيء.
وقال أصحاب التأويل: إن الله - عزّ وَجَلّ - علم آدم جميع اللُّغات، ثم تكلم كل واحد من أولاده بلغة فتفرقوا في البلاد، واختص كل فرقة منهم بِلُغةٍ.

فصل في بيان أن اللغات توقيفية أو اصطلاحية؟


قال «الأشعري» و «الجبائي» و «الكعبي» : اللُّغات كلها توفيقيةٌ، بمعنى أن الله تعالى خلق علماً ضرورياً بتلك الألفاظ، وتلك المعاني، وبأن تلك الألفاظ موضوعةٌ
514
لتلك المعاني: لقوله تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا».
515
وقال «أبو هاشم» : إنه لا بد من تقدم لغة اصطلاحية، وأن الوضع لا بد وأن يكون مسبوقاً على الاصطلاح، واحتج بأمور:
أحدها: أنه لو حصل العلم الضروري بأنه - تعالى - وضع ذلك اللَّفظ لذلك المَعْنَى لصارت صفةُ الله معلومةً بالضرورة، مع أن ذاته معلومة بالاستدلال، وذلك مُحَال، ولا جائز أن يحصل لغير العاقل، لأنه يبعد في العقول أن يحصل العلم بهذه اللُّغَات مع ما فيها من الحكم العجيبة لغير العاقل، فالقول بالتوقيف فاسد.
وثانيعا: أنه - تعالى - خاطب الملائكة، وذلك يوجب تقدُّم لغة على ذلك التكلم.
وثالثها: أن قوله: «وَعَلَّم آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا» يقتضي إضافة التعليم إلى الأسماء، وذلك يقتضي في تلك الأسماء أنها كانت أسماء قبل ذلك التَّعليم، وإذا كان كذلك كانت اللُّغات حاصلةٌ قبل ذلك التعليم.
516
ورابعها: أن آدم - عليه الصَّلاة والسلام - لما تَحَدَّى الملائكة بعلم الأسماء، فلا بد وأن تعلم الملائكة كونه صادقاً في تعيين تلك الأسماء لتلك المسميات على ذلك التعليم.

فصل في بيان هل كان آدم نبياً قبل المعصية؟


قالت المعتزلة: إن علم آدم الأسماء معجزة دالّة على نبوّته - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والأقرب أنه كان مبعوثاً إلى حَوّاء، ولا يبعد أيضاً أن يكون إلى من توجّه التحدي إليهم من الملائكة؛ لأن جميعهم وإن كانوا رسلاً فقد يجوز الإرْسَال إلى الرسول، كبعثة إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى لُوطٍ - عليه الصلاة والسّلام - واحتجوا بأن حصول ذلك العلم له ناقصٌ للعادة، فوجب أن يكون معجزاً، وإذا ثبت كونه معجزاً ثبت كونه رسولاً في ذلك الوقت.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن ذلك العلم ناقص للعادة؛ لأن حصول العلم باللُّغة لمن علمه الله، وعدم حصوله لمن لم يعلمه ليس بناقصٍ للعادة.
وأيضاً فإما أن يقال: الملائكة علموا كون تلك الأسماء موضوعةً لتلك المسميات، فحينئذ تحصل المُعَارضة، ولا تظهر المزية، وإن لم يعلموا ذلك، فكيف عرفوا أن آدم أصاب فيما ذكر من كون كلّ واحد من تلك الألفاظ اسماً لكل واحد من تلك المعاني؟ واعلم أنه يمكن دفع هذا السُّؤال من وجهين:
الأول: ربّما كان لكل صِنْفٍ من أصناف الملائكة لغة من هذه اللغات، وكان كل صنف جاهلاً بلغة الصنف الآخر، ثم إن جميع أصناف الملائكة حضروا وإن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما عَدّ عليهم جميع تلك اللُغات بأسرها عرف كل صنف إصابته في تلك اللُّغة خاصّة، فعرفوا بهذه الطريق صدقة إلاَّ انهم بأسرهم عجزوا عن معرفة تلك اللغات بأسرها، فكان ذلك معجزاً.
الثَّاني: لا يمتنع أن يقال: إنه - تعالى - عرفهم قبل ذلك أنهم إذا سمعوا من آدم - عليه الصلاة والسَّلام - أظهر فعلاً خارقاً للعادة، فَلِمَ لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات أو من باب الإرهاص؟ وهما عندنا جائزان.
واحتج من قطع بأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان نبياً في ذلك الوَقْتِ بوجوه:
أحدها: أنه لو كان نبياً في ذلك الزمان لكان قد صدرت منه المعصية بعد النبوة، وذلك غير جائز.
وثانيها: لو كان رسولاً في ذلك الوقت لكان إما أن يكون مبعوثاً إلى أحد، أو لا يكون مبعوثاً إلى أحد، وإما أن يكون مبعوثاً إلى الملائكة والإنس والجن، والأوَّل باطل، لأن الملائكة عند المعتزلة أفضل من البشر، ولا يجوز جعل الأدون رسولاً إلى الأشرف؛ لأن الرسول متبوع، والأمّة تبع، وجعل الأدون متبوع الأشرف خلاف الأصل، وأيضا
517
فالمرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً﴾ [الأنعام: ٩] ولا جائز أن يكون مبعوثاً إلى البشر، لأنه ما كان هناك أحد من البشر إلا حَوّاء، وحواء ما عرفت التكليف إلا بواسطة آدم لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ [البقرة: ٣٥] شافههما بهذا التكليف، وما جعل آدم واسطة، ولا جائز أن يكون مبعوثاً إلى الجن؛ لأنه ما كان في السماء أحد من الجنّ، ولا جائز أيضاً أن يكون مبعوثاً إلى أحد، لأن المقصود من جعله رسولاً التبليغ، فحيث لا مبلغ لم يكن في جعله رسولاً فائدة.
وثالثها: قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ﴾ [طه: ١٢٢] دليل على أنه إنما اجتباه ربه بعد الزّلة، فوجب أن يكون قبل الزِّلة غير مجتبي، وإذا لم يكن ذلك الوقت مجتبي وجب ألا يكون رسولاً؛ لأن الاجتباء والرسالة مُتَلاَزمان، لأن الاجتباء لا مَعْنَى له إلاّ التخصيص بأنواع التشريفات، وكل من جعله الله رسولاً، فقد خصّه بذلك لقوله تعالى: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤].
قوله: «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلاَئِكَةِ».
«ثم» : حرف للتَّرَاخي كما تقدّم، والضَّمير في «عَرَضَهُمْ» للمسميات المقدّرة، أو لإطلاق الأسماء وإرادة المسميات، كما تقدم.
وقيل: يعود على الأسماء. ونقل عن ابن عباس، ويؤيده قراءة أُبيّ «عَرَضَهَا»، وقراءة ابن مسعود: «عَرَضَهُنَّ» إلا أن في هذا القول جعل ضمير غير العقلاء كضمير العقلاء أو نقول: إنما قال ابن عباس ذلك بناء منه أنه أطلق الأسماء، وأراد المسميات كما تقدم وهو واضح.
و «عَلَى المَلاَئِكَةِ» متعلّق ب «عَرَضَهُمْ».
قال ابن مسعود وغيره: عرض الأشخاص، لقوله تعالى: «عَرَضَهُمْ» وقوله: «أَنْبِئُونِي لأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ».
وفي الحديث: «إنَّه عَرَضَهُمْ أَمْثَالَ الذَّرِّ».
518
وقال ابن عباس وغيره: عرض الأسماء.

فصل في بيان أول من تكلم بالعربية


اختلف في أوَل من تكلم بالعربية.
روى كعب الأحبار: أن أول من وضع الكتاب العربي والسّرياني والكتب كلها، وتكلم بالألسنة كلها آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. فإن قيل: روى ثور بن يزيد عن خَالِدِ بن مَعْدَان عن كعب قال: أوّل من تكلّم بالعربية جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وهو الذي أَلْقَاهَا على لسان نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وألقاها نوح على لسان ابنه سَام.
وقال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَعَلمً آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا حَتَّى القَصْعَة والقُصَيْعَة» وما ذكروه يحتمل أن يكون المراد به أول من تكلّم بالعربية من ولد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إسماعيل عليه الصلاة والسَّلام، وكذلك إن صَحّ ما سواه فإنه يكون محمولاً على أن المذكور أول من تكلّم من قبيلته بالعربية.
وكذلك جبريل أول من تكلم بها من الملائكة، وألقاها على لسان بعد أن علمها الله آدم أو جبريل، على ما تقدم.
قوله: «أَنْبِئُونِي بأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ».
«الإِنْبَاء» الإخبار، وأصل أنبأ أن يتعدّى لاثنين ثانيهما بحرف الجر كهذه الآية، وقد يحذف حرف الجر، قال تعالى: ﴿مَنْ أَنبَأَكَ هذا﴾ [التحريم: ٣] أي: بهذا، وقد يتضمّن معنى أعلم اليقينية، فيتعدّى تعديتها إلى ثلاثة مَفَاعيل، ومثل أنبأ: نبّأ وأخبر، وخبر وحدث.
و «هؤلاء» في محل خفض بالإضافة، وهو اسم إشارة، ورتبته دُنْيَا، ويُمَدُّ وَيُقْصَرُ؛ كقوله: [الخفيف]
519
والمشهورة بناؤه على الكَسْرِ، وقد يضم، وقد ينوِّن مكسوراً، وقد تبدل همزته هاء، فيقال: هؤُلاَه، وقد يقال: هَوْلاءِ؛ كقوله: [الوافر]
٣٧٠ - تَجَلَّدْ لاَ يَقُلْ هَؤْلاَءِ: هَذَا... بَكَى لَمَّا بَكَى أَسَفاً عَلَيِكَا
ولامه عند الفارسي همزة فتكون فاؤه ولامه من مادّة واحدة، وعند المبرد أصلها ياء، وإنما قلبت همزةً لتطرفها بعد الألف الزَّائدة.
قوله: «إنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ» تقدّم نظيره وجوابه محذوف أي: إنْ كُنتم صادقين، فأنبئوني. والكوفيين والمبرد يرون أن الجواب هو المتقدم، وهو مردود بقولهم: «أنت ظالم إن فعلت» لأنه لو كان جواباً لوجبت الفاء معه كما تجب معه متاخراً.
وقال ابن عطية: إن كون الجواب مَحْذوفاً هو رأي المبرد، وكونه متقدماً هو رأي سيبويه، وهو وهم؛ لأن المنقول عن المبرد أن التقدير: إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبئوني. وهذه الآية دالة على فضيلة العلم.
520
«سبحان» : اسم مصدر، وهو التسبيح، وقيل: بل هو مصدر؛ أنه سمع له فعلٌ ثلاثيٌّ، وهو من الأسماء اللاَّزمة للإضافة، وقد بفرد، وإذا أفرد، منع الصَّرف للتعريف، وزيادة الألف والنون؛ كقوله: [السريع]
٣٧١ - أَقُولُ أَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ... سُبحَانَ............................
وَقَدْ جَاءَ مُنَوَّناً كقوله: [البسيط]
٣٦٩ - هَؤُلَى ثُمَّ كُلاًّ اعْطَيْ تَ نِعَالاً مَحْذُوَّةً بِمِثَالِ
٣٧٢ - سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَاناً نَعُوذُ بِهِ وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجُمُدُ
فقيل: صرف ضرورة.
وقيل: هو بمنزلة «قَبْلُ» و «بعدُ» أن نوي تعريفه بقي على حاله، وإن نكر اعرب منصرفاً، وهذا البيت يساعد على كونه مصدراً لا اسم مصدر، لوروده منصرفاً.
520
ولقائل القول الأول أن يجيب عنه بأن هذا نكرة لا معرفة، وهو من الأسماء اللازم النصب على المصدرية، فلا ينصرف والناصب له فعل مقدر لا يجوز إظْهاره، وقد روي عن الكَسائِيّ أنه جعله مُنَادَى تقديره: يا سُبْحَانَك ومنعه جمهور النحويين وإضافته - هُنا - إلى المفعول؛ لأن المعنى: نسبحك نحن.
وقيل: بل إضافته للفاعل، والمعنى تنزّهت وتباعدت من السُّوء.
وسبحانك العامل فيه في مَحَلّ نصب بالقول.
قوله: «لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا» كقوله: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ و «إلاّ» حرف استثناء، و «ما» موصولة، و «علمتنا» صلتها، وعائدها محذوف، على أن يكون «علم» بمعنى «معلوم»، ويجوز أن تكون مصدرية، وهي في محلّ نصب على الاستثناء، ولا يجوز أن تكون منصوبةً بالعلم الذي هو اسم «لا» ؛ لأنه إذا عمل كان معرباً.
وقيل: في محلّ رفع على البَدَل من اسم «لا» على الموضع.
وقال ابن عطية: هو بدلٌ من خبر التبرئة كقولهم: «لا إله إلا الله»، وفيه نظر؛ لأن الاستثناء إنَّمَا هو من المحكوم عليه بقيد الحكم لا من المحكوم به.
ونقل هو عن «الزَهراوي» أن «ما» منصوبةٌ ب «علمتنا» بعدها، وهذا غير معقول؛ لأنه كيف ينتصب الموصول بصلته وتعمل فيه؟
قال أبو حيان: إلاّ أن يتكلّف له وجه بعيد، وهو أن يكون استثناء منقطعاً بمعنى لكن، وتكون «ما» شرطية، و «علمتنا» ناصب لها، وهو في محل جزم بها، والجواب محذوف، والتقدير: «لكن ما علمتنا علمناه».

فصل


الضمير يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون تأكيداً لاسم «إنَّ» فيكون منصوب المحل، وأن يكون مبتدأ، وخبره ما بعده، والجملة خبر «إنَّ»، وأن يكون فصلاً، وفيه الخلاف المشهور.
وهل له محل من الإعراب أم لا؟
وإذا قيل: إن له محلاًّ، فهل بإعراب ما قبله كما قال الفراء، فيكون في محل نصب، أو بإعراب ما بعده فيكون في محل رفع كقول الكسائي؟
قوله: «الحكيم» خير ثانٍ أو صفة «العليم»، وهما «فعيل» بمعنى «فاعل» وفيهما من المُبالغة ما ليس فيه.
521
و «الحكيم» لغة: الإتقان، والمنع من الخروج عن الإرادة، ومنه حَكَمَةُ الدابة؛ وقال جَرِيرٌ «: [الكامل]
٣٧٣ - أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا
وقدم»
العليم «على» الحكيم «؛ لأنه هو المتّصل به في قوله:» وعلم «، وقوله:» وعلم «، وقوله:» لا عِلْمَ لنا «فناسب اتصاله به؛ ولأن الحِكْمَةَ ناشئةٌ عن العلم وأثر له، وكثيراً ما تقدّم صفة العلم عليها.
والحكيم صفةٌ ذاتٍ إن فسر بذي الحِكْمَةِ، وصفة فعل إن فسر بأنه المحكم لصنعته فكأن الملائكة قالت: أنت العالم بكل المعلومات، فأمكنك تعليم آدم، وأنت الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه.
وعن»
ابن عباس «أن مراد الملائكة من» الحكيم «أنه هو الذي حكم بجعل آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - خليفةً في الأرض.

فصل


احتج أهل الإسلام بهذه الآية على أنه لا سَبِيْلَ إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله - تعالى - وأنه لا يمكن التوصُّل إليها بعلم النجوم والكهانة، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ﴾ [الأنعام: ٥٩] وقوله: ﴿عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً﴾ [الجن: ٢٦].
قوله:»
يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بأسْمَائِهِمْ «.
آدم: مبني على الضم؛ لأنه مفرد معرفة، وكل ما كان كذلك بُني على ما كان يرفع به، وهو في محل نصب لوقوعه موقع المَفْعول به، فإن تقديره: ادعوا آدم، وبني لوقوعه موقع المُضْمَرِ، والأصل: يا إياك كقولهم:»
يَا قَدْ كَفَيْتُكَ «، و» يا أَنْتَ «؛ كقوله [الرجز]
522
وتحرزت بالمفرد عن المضاف نحو: يا عبد الله، ومن الشبيه به، وهو عبارة عما كان الثَّانِي فيه من تمام معنى الأوّل نحو:» يا خيراً من زيد «و» يا ثلاثةً وثلاثين «، وبالمعرفة من النكرة المقصودة؛ نحو قوله: [الطويل]
٣٧٤ - يَا أَبْجَرُ بْنُ أَبْجَرٍ يَا أَنْتَا أَنْتَ الَّذِي طَلَّقْتَ عَامَ جُعْتَا
قَدْ أَحْسَنَ اللهُ وَقَدْ أَسَأْتَا و» يَا إِيَّاكَ «أقيس من» يا أنت «؛ لأن الموضع موضع نصب، ف» إياك «أليق به،
٣٧٥ - فَيا إِمَّا رَاكِباً إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلَغَنْ نَدَامَاي مِنْ نَجْرَانَ أَنْ لاَ تَلاَقيَا
فإن هذه الأنواع الثلاثة معربة نصباً.
»
أنبئهم «فعل أمر، وفاعل، ومفعول، والمشهور» أنبئهم «مهموز مضموماً، وقرئ بكسر الهاء. ويروى عن» ابن عامر «، كأنه أتبع الهاء لحركة» الباء «، ولم يعتد ب» الهمزة «، لأنها ساكنةٌ، فهي حاجز غير حَصِيْنٍ.
وقرئ بحذف الهمزة، ورُويت عن «ابن كثير»
، قال «ابن جنّيّ» هذا على إبدال الهمزة ياء، كما تقول: أنبيت كأعطيت، قال: وهذا ضعيف في اللّغة؛ لأنه بدلٌ لا تخفيف، والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر.
وهذا من أبي الفَتْحِ غيرِ مرضٍ، لأن البدل جاء في سَعَة الكلام، حكى «الأخفش» في «الأوسط» أنهم يقولون في أَخْطَأَت: أَخْطَيْت، وفي توضأت: توضيت.
قال: وربما حَرَّكوه إلى «الواو»، وهذا قليل قالوا: «رَفَوْت» في «رَفَأْت»، ولم أسمع «رَفَيْت».
إذا تقرر ذلك، فللنحويين في صرف العلّة المبدل من الهمزة نظر في أنه هل يجرى مجرى العلّة الأصلي أم ينظر إلى أصله؟ ورتبوا على ذلك أحكاماً، ومن جملتها: هل يحذف جزماً كالحرف غير المبدل أم لا نظراً إلى أصله؟ واستدل بعضهم على حذفه جزماً بقول زهير: [الطويل]
523
٣٧٦ - جَرِيءٍ مَتَى يُظْلَمُ يُعَاقِبْ سَرِيعاً وإلاَّ يُبْدَ بِالظُّلْمِ يَظْلِمِ
لأن أصله: «يبدأ» بالهمزة، فكذلك هذه الآية أُبدلت الهمزة ياء، ثم حذفت حملاً للأمر على المجزوم.
وقرئ: «أَنْبِهُمْ» بإثبات «الياء» نظراً إلى «الهمزة» وهل تضم «الهاء» نظراً للأصل أم تكسر نظراً للصورة؟
وجهان منقولان عن حمزة «عند الوقف عليه.
و»
بِأَسْمَائِهِمْ «: متعلّق ب» أَنْبِئْهُمْ «، وهو المفعول الثاني كما تَقَدَّم، وقد يتعدّى ب» عن «نحو:» أنبأته عن حاله «، وأما تعديته ب» من «في قوله: ﴿قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ﴾ [التوبة: ٩٤] فسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله:»
فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمواتِ وَالأرْضِ «.
والمراد من هذا الغيب أنه كان عالماًَ بأحوال آدم قبل نطقه، وهذا يدل على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل حدوثها، وذلك يدلّ على بطلان مذهب»
هشام بن الحكم «في أنه لا يعلم الأشياء إلاَّ عند وقوعها، فإن قيل: قوله:» الَّذِيْنَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ «يدلّ على أنّ العبد قد يعلم الغيب؛ لأن الإيمان بالشَّيء فرع العلم به، وهذا الآية مشعرة بأن علم الغيب ليس إلا لله تعالى، وأن كل من سواه فهم خالُونَ عن علم الغيب.
والجواب: ما تقدم في قوله: ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب﴾ [البقرة: ٣].
قوله:»
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ «» قال «جواب» فلما «، والهمزة للتقرير إذا دخلت على تفي تقرير قررته، فيصير إثباتاً كقوله: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ﴾ [الشرح: ١] أي: قد شرحنا.
و»
لم «حرف جزم، و» أقل «: مجزوم بها حذفت عينه، وهي» الواو «لالتقاء الساكنين، و» لكم «متعلّق به، و» اللام «للتبليغ، والجُمْلَة من قوله:» إني أعلم «في محلّ نصب بالقول.
وقد تقدم نظائر هذا التركيب.
قوله: «وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ»
كقوله «أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» من كون «أعلم» فعلاً مضارعاً، و «أفعل» بمعنى «فاعل» أو «أفعل» تفضيل، وكون ما في محلّ نصب أو جر، وقد تقدم.
524
والظاهر: أن جملة قوله: «وأعلم» معطوفة على قوله: «إنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ»، فتكون في محلّ نصب بالقول.
وقال «أبو البقاء» : إنه مستأنف، وليس محكياً بالقول: ثم جوَّز فيه ذلك.
و «تبدون» وزنه: «تفعون» ؛ لأن أصله: تبدوون مِثْل: تخرجون، فأعلّ بحذف «الواو» بعد سكونها، و «الإبداء» : الإظهار، و «الكَتْم» الإخفاء؛ يقال: بَدَا يَبْدُو بَدَاء؛ قال: [الطويل]
٣٧٧ -............................ بَدَا فشي تِلْكَ القَلُوصِ بَدَاءُ
وقوله: «وَمَا كُنْتُمْ تَكْتَمونَ» عطف على «ما» الأول بحسب ما تكون عليه من الإعراب.
روي عن ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير: أن قوله: «ما تُبْدُون» أراد به قولهم: «أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيْهَا» وبقوله: «وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون» أراد به ما أسر «إبليس» في نفسه من الكبر وألاَّ يسجد.
قال «ابن عطية» : وجاء «تكتمون» للجماعة، والكاتم واحدٌ في هذا القول على تجوّز العرب واتِّسَاعها، كما يقال لقوم قد جَنَى مهم واحد: أنتم فعلتم كذا، أي: منكم فاعله، وهذا مع قَصْد تعنيف، ومنه قوله: ﴿إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات﴾ [الحجرات: ٤] وإنما ناداه منهم عُيَيْنَةُ.
وقيل: «إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ» من الأمور الغائبة، والأسرار الخفية التي يظن في
525
الظاهر أنه لا مصلحة فيها، ولكن لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أنّ المصلحة في خلقها.
وقيل إنه - تعالى - لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجيباً قالوا: ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه، فهذا الذي كَتَمُوا، ويجوز أن يكون هذا القول سرًّا أسروه بينهم، فأبداه بعضهم لبعض، وأسروه عن غيرهم، فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان.
وقالت طائفة: الإبْدَاء والكَتْم المراد به العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع، وهذه الآية تدلّ على فضيلة العلم.
526
قوله :﴿ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بأسْمَائِهِمْ ﴾.
آدم : مبني على الضم ؛ لأنه مفرد معرفة، وكل ما كان كذلك بُني على ما كان يرفع به، وهو في محلّ نصب لوقوعه موقع المَفْعول به، فإن تقديره : ادعوا آدم، وبني لوقوعه موقع المُضْمَرِ، والأصل : يا إياك كقولهم :" يَا إيَّاكَ قَدْ كَفَيْتُكَ "، و " يا أَنْتَ " ؛ كقوله [ الرجز ]
يَا أَبْجَرُ بْنَ أَبْجَرٍ يَا أَنْتَا *** أَنْتَ الَّذِي طَلَّقْتَ عَامَ جُعْتا
*** قَدْ أَحْسَنَ اللهُ وَقَدْ أَسَأْتَا١ ***
و " يَا إِيَّاكَ " أقيس من " يا أنت " ؛ لأن الموضع موضع نصب، ف " إياك " أليق به، وتحرزت بالمفرد عن المضاف نحو : يا عبد الله، ومن الشبيه به، وهو عبارة عما كان الثَّانِي فيه من تمام معنى الأوّل نحو :" يا خيراً من زيد " و " يا ثلاثةً وثلاثين "، وبالمعرفة من النكرة المقصودة ؛ نحو قوله :[ الطويل ]
فَيَا رَاكِباً إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ *** نَدَامَايَ مِنْ نَجْرَانَ أَنْ لاَ تَلاَقيَا٢
فإن هذه الأنواع الثلاثة معربة نصباً.
" أنبئهم " فعل أمر، وفاعل، ومفعول، والمشهور " أنبئهم " مهموز مضموماً، وقرئ٣ بكسر الهاء. ويروى عن " ابن عامر "، كأنه أتبع الهاء لحركة " الباء "، ولم يعتد ب " الهمزة "، لأنها ساكنةٌ، فهي حاجز غير حَصِيْنٍ.
وقرئ٤ بحذف الهمزة، ورُويت عن " ابن كثير "، قال " ابن جنّيّ " هذا على إبدال الهمزة ياء، كما تقول : أنبيت كأعطيت، قال : وهذا ضعيف في اللّغة ؛ لأنه بدلٌ لا تخفيف، والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر.
وهذا من أبي الفَتْحِ غير مرضٍ، لأن البدل جاء في سَعَةِ الكلام، حكى " الأخفش " في " الأوسط " أنهم يقولون في أَخْطَأَت : أَخْطَيْت، وفي توضأت : توضيت.
قال : وربما حَرّكوه إلى " الوا "، وهذا قليل قالوا :" رَفَوْت " في " رَفَأْت "، ولم أسمع " رَفَيْت ".
إذا تقرر ذلك، فللنحويين في صرف العلّة المبدل من الهمزة نظر في أنه هل يجرى مجرى العلّة الأصلي أم ينظر إلى أصله ؟ ورتبوا على ذلك أحكاماً، ومن جملتها : هل يحذف جزماً كالحرف غير المبدل أم لا نظراً إلى أصله ؟ واستدل بعضهم على حذفه جزماً بقول زهير :[ الطويل ]
جَرِيءٍ مَتَى يُظْلَمْ يُعَاقِبْ بِظُلْمِهِ *** سَرِيعاً وَإِلاَّ يُبْدَ بِالظُّلْمِ يَظْلِمِ٥
لأن أصله :" يبدأ " بالهمزة، فكذلك هذه الآية أُبدلت الهمزة ياء، ثم حذفت حملاً للأمر على المجزوم.
وقرئ :" أَنْبِيهُمْ " ٦ بإثبات " الياء " نظراً إلى " الهمزة " وهل تضم " الهاء " نظراً للأصل أم تكسر نظراً للصورة ؟
وجهان منقولان عن " حمزة " عند الوقف عليه.
و " بِأَسْمَائِهِمْ " : متعلّق ب " أَنْبِئْهُمْ "، وهو المفعول الثاني كما تَقَدّم، وقد يتعدّى ب " عن " نحو :" أنبأته عن حاله "، وأما تعديته ب " من " في قوله :﴿ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ﴾ [ التوبة : ٩٤ ] فسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله :﴿ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِِ ﴾.
والمراد من هذا الغيب أنه كان عالماًَ بأحوال آدم قبل نطقه، وهذا يدل على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل حدوثها، وذلك يدلّ على بطلان مذهب " هشام بن الحكم " في أنه لا يعلم الأشياء إلاَّ عند وقوعها، فإن قيل : قوله :﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ يدلّ على أنّ العبد قد يعلم الغيب ؛ لأن الإيمان بالشَّيء فرع العلم به، وهذا الآية مشعرة بأن علم الغيب ليس إلا لله تعالى، وأن كل من سواه فهم خَالُونَ عن علم الغيب.
والجواب : ما تقدم في قوله :﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ [ البقرة : ٣ ].
قوله :﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ ﴾ " قال " جواب " فلما "، والهمزة للتقرير إذا دخلت على نفي قررته، فيصير إثباتاً كقوله :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ ﴾ [ الشرح : ١ ] أي : قد شرحنا.
و " لم " حرف جزم، و " أقل " : مجزوم بها حذفت عينه، وهي " الواو " لالتقاء الساكنين، و " لكم " متعلّق به، و " اللام " للتبليغ، والجُمْلَة من قوله :" إني أعلم " في محلّ نصب بالقول.
وقد تقدم نظائر هذا التركيب.
قوله :﴿ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ﴾ كقوله ﴿ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ من كون " أعلم " فعلاً مضارعاً، و " أفعل " بمعنى " فاعل " أو " أفعل " تفضيل، وكون ما في محلّ نصب أو جر، وقد تقدم.
والظاهر : أن جملة قوله :" وأعلم " معطوفة على قوله :﴿ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ ﴾، فتكون في محلّ نصب بالقول.
وقال " أبو البقاء " ٧ : إنه مستأنف، وليس محكياً بالقول : ثم جوَّز فيه ذلك.
و " تبدون " وزنه :" تفعون " ؛ لأن أصله : تبدوون مِثْل : تخرجون، فأعلّ بحذف " الواو " بعد سكونها، و " الإبداء " : الإظهار، و " الكَتْم " الإخفاء ؛ يقال : بَدَا يَبْدُو بَدَاء ؛ قال :[ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** بَدَا لَكَ فِي تِلْكَ القَلُوصِ بَدَاءُ٨
وقوله :﴿ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمونَ ﴾ عطف على " ما " الأولى بحسب ما تكون عليه من الإعراب.
روي عن ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير : أن قوله :" ما تُبْدُون " أراد به قولهم :﴿ أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيْهَا ﴾ وبقوله :﴿ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون ﴾ أراد به ما أسر " إبليس " في نفسه من الكبر وألاَّ يسجد.
قال " ابن عطية " ٩ : وجاء " تكتمون " للجماعة، والكاتم واحدٌ في هذا القول على تجوّز العرب واتِّسَاعها، كما يقال لقوم قد جَنَى منهم واحد : أنتم فعلتم كذا، أي : منكم فاعله، وهذا مع قَصْد تعنيف، ومنه قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ﴾ [ الحجرات : ٤ ] وإنما ناداه منهم عُيَيْنَةُ.
وقيل :" الأقرع " ١٠.
وقيل :﴿ إِنِي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ من الأمور الغائبة، والأسرار الخفية التي يظن في الظاهر أنه لا مصلحة فيها، ولكن لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أنّ المصلحة في خلقها.
وقيل إنه - تعالى - لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجيباً قالوا : ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه، فهذا الذي كَتَمُوا، ويجوز أن يكون هذا القول سرًّا أسروه بينهم، فأبداه بعضهم لبعض، وأسروه عن غيرهم، فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان.
وقالت طائفة : الإبْدَاء والكَتْمُ المراد به العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع، وهذه الآية تدلّ على فضيلة العلم.
١ - ينظر الأبيات في التصريح: (٢/١٦٤)، الهمع: (١/١٧٤)، الدرر: (١/١٥١)، شرح الأشموني: (٣/١٣٥)، أوضح المسالك: (٣/٧٢)، الدر المصون: (١/١٨٤)..
٢ - البيت لعبد يغوث بن وقاص ينظر خزانة الأدب: ٢/١٩٤، ١٩٥، ١٩٧، والكتاب: ٢/٢٠٠، ولسان العرب (عرض)، والمقاصد النحوية: ٤/٢٠٦، والعقد الفريد: ٥/٢٢٩، وشرح التصريح: ٢/١٦٧، والأشباه والنظائر: ٦/٢٤٣، وشرح اختيارات المفضل: ص ٧٦٧، خزانة الأدب: ١/٤١٣، ٩/٢٢٣، والمقتضب: ٤/٤٢٠٤، ورصف المباني: ص ١٣٧، وشرح الأشموني: ٢/٤٤٥، وشرح شذور الذهب: ص ١٤٥، وشرح ابن عقيل: ص ٥١٥، وشرح قطر الندى: ص ٢٠٣، الدر المصون: ١/١٨٤..
٣ - ونسبها أبو علي الفارسي إلى ابن كثير، وقال: قال أحمد: هذا خطأ لا يجوز. انظر الحجة للقراء السبعة: ٢/٦ - ٧، والسبعة: ١٥٣، والبحر المحيط: ١/٢٩٨، وإتحاف فضلاء البشر: ١/٣٨٦، والدر المصون: ١/١٨٤، وإعراب القراءات: ١/٨٢..
٤ - وهي قراءة ابن كثير من طريق القواس، وقراءة الحسن والأعرج.
انظر المحرر الوجيز: ١/١٢٢، والبحر المحيط: ١/٢٩٨، والدر المصون: ١/١٨٤، والمحتسب: ١/٦٦..

٥ - ينظر ديوانه: ص ٢٤، وخزانة الأدب: ٣/١٧، ٧/١٣، والدرر: ١/١٦٥، وسر صناعة الإعراب: ٢/٧٣٩، وشرح شواهد الشافية: ص ١٠، وشرح شواهد المغني: ١/٣٨٥، والممتع في التصريف: ١/٣٨١، ٢/٤٥٨، وشرح شافية ابن الحاجب: ١/٢٦، والمقرب: ١/٥٠، وهمع الهوامع: ١/٥٢، الدر المصون: ١/١٨٤..
٦ - قرأ بها ابن أبي عبلة، انظر الشواذ: ٤، والبحر المحيط: ١/٢٩٨، والدر المصون: ١/١٨٥..
٧ - ينظر الإملاء: ١/٣٠..
٨ - عجز بيت لمحمد بن بشير العدوالي الخارجي وصدره:
.................. *** لعلك والموعود حق لقاؤه
ينظر الخصائص: (٣٦٨)، ابن الشجري: (٢/١٧)، الهمع: (١/٢٤٧)، الدرر: (١/٢٠٤)، الأغاني: (١٤/١٥)، التصريح: (١/٢٦٨)، اللسان: (بدا)، التاج: (بدا)، الدر المصون: (١/١٨٥)..

٩ - ينظر المحرر الوجيز: ١/١٢٣..
١٠ - الأقرع بن حابس بن عقال المجاشعي الدارمي التميمي: صحابي من سادات العرب في الجاهلية قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد من بني دارم (من تيمم) فأسلموا، وشهد حنينا وفتح مكة والطائف وسكن المدينة، وكان من المؤلفة قلوبهم ورحل إلى دومة الجندل في خلافة أبي بكر وكان مع خالد بن الوليد في أكثر وقائعه حتى اليمامة، واستشهد بالجوزجان وفي المؤرخين من يرى أن اسمه "فراس" وأن الأقرع لقب له لقرع كان برأسه وكان حكما في الجاهلية.
ينظر الأعلام: ٢/٥ (٣٦)، الذيل على الكاشف: رقم ٨٦، تعجيل المنفعة: ٦١، تاريخ البخاري الصغير: ٥٩، أسد الغابة: ١/١٣٥، الإصابة: ١/١٠١..

العامل في «إذ» محذوف دلّ عليه قوله: «فَسَجَدُوا» تقديره: أطاعوا وانقادوا، فسجدوا؛ لأن السجود ناشئ عن الانقياد.
وقيل: العامل «اذكر» مقدراً.
وقيل: زائدة وقد تقدّم ضعف هذين القولين.
وقال «ابن عطية» :«وإذ قلنا» معطوف على «إذ» المتقدمة، ولا يصحّ هذا لاختلاف الوقتين.
وقيل: «إذ» بدل من «إذ» الولى، ولا يصحّ لما تقدّم، ولتوسّط حرف العَطْف، وجملة «قلنا» في محل خَفْضٍ بالظرف، ومنه التفات من الغيبة إلى التكلُّم للعظمة، و «اللام» للتَّبليغ كنظائرها.
والشمهور جَرّ تاء «الملائكة» بالحَرْف «، وقرأ» أبو جعفر «بالضم إتباعاً لضمة» الجيم «ولم يعتد بالسَّاكن، وغلّطه الزَّجاج وخطأه الفارسي، وشبهه بعضهم بقوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ اخرج﴾ [يوسف: ٣١] بضم تاء التأنيث، وليس بصحيح، لأن تلك حركة التقاء الساكنين، وهذه حركة إعراب، فلا يتلاعب بها، والمقصود هناك يحصل بأي حركة كانت.
وقال الزمخشري: لا يجوز استهلاك الحركة استهلاك الإعرابية إلاّ في لغة ضعيفة كقراءة ﴿الحمد للَّهِ﴾ [الفاتحة: ٢] يعني بكسر الدال.
526
قال الشيخ» شهاب الدين «: وهذا أكثر شذوذاً، وأضعف من ذاك مع ما في ذاك من الضَّعف المتقدم؛ لأن - هناك - فاصلاً، وإن كان ساكناً.
وقال»
أبو البقاء «: وهي قراءة ضعيفة جدًّا، وأحسن ما تحمل عليه أن يكون الرَّاوي لم يضبط عن [القارئ] أشار إلَى الضَّم تنبيهاً على أنّ الهمزة المحذوفة مضمومةٌ في الابتداء، فلم يدرك الراوي هذه الإشارة، وقيل: إنه نَوَى الوَقْفَ على» التَّاء «ساكنة، ثم حركها بالضم إتباعاً لحركة الجيم، وهذا من إجراء الوصل مجرى الوَقْفِ.
ومثله ما روي عن امرأة رأت رجلاً مع نساء، فقالت:»
أفي السَّوتَنْتُنَّهْ «- نوت الوقف على» سوءة «، فسكنت التاء، ثم ألقت عليها حركة همزة» أنتن «فعلى هذا تكون هذه حركة السَّاكنين، وحينئذ تكون كقوله:» قَالَتُ: أخْرُجْ «وبابه، وإنما أكثر الناس توجيه هذه القراءة لجلالة قارئها أبي جعفر يزيد بن القَعْقَاع شيخ نافع شيخ أهل» المدينة «وترجمتها مشهورة.
و»
اسجدوا «في محل نصب بالقول، و» اللام «في» لآدم «الظَّاهر أنها متعلّقة ب» اسجدوا «، ومعناها التعليل، أي: لأجله.
وقيل: بمعنى»
إلى «أي: إلى [جهته له] جعله قبلة لهم، والسجود لله.
وقيل: بمعنى مع، لأنه كان إمامهم كذا نقل.
وقيل: اللاَّم للبيان فتتعلّق بمحذوف، ولا حاجة إلى ذلك.
و»
فسجدوا «الفاء للتعقيب، والتقدير: فسجدوا له، فحذف الجار للعلم به، والسُّجود لغة: التذلَّل والخضوع، وغايته وضع الجَبْهَةِ على الأرض، وقال» ابن السكيت «:» هو الميل «، قال:» زيد الخيل «: [الطويل]
٣٧٨ - بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ تَرَى الأُكْمَ فِيهَا سُجَّداً لِلْحَوَافِرِ
يريد: أن الحوافر تطأ الأرض، فجعل بأثر الأُكْمِ للحوافر سجوداً؛ وقال آخر: [المتقارب]
٣٧٩ -............................ سُجُودَ النَّصَارَى لأَحْبَارِهَا
527
وفرق بعضهم بين «سجد»، و «أسجد» ف «سجد» : وضع جبهته، وأسجد: أَمَال رأسه وَطَأْطَأْ؛ قال الشاعر: [المتقارب]
٣٨٠ - فُضُولَ أَزِمَّتِهَا أَسَجَدَتْ سُجُودَ النَّصَارَى لأَحْبَارِها
وقال آخر: [الطويل]
٣٨١ - وَقُلْنَ لَهُ أَسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجَدَا...................................
يعني أن البعير طَأْطَأَ رأسَه لأجلها.
ودَرَاهِمُ الأسجاد: دَرَاهِمُ عليها صُوَرٌ كانوا يسجدون لها، قال: [الكامل]
٣٨٢ -............................ وَافَى بِهَا كَدَرَاهِمِ الأَسْجَادِ

فصل في تعداد النعم العامة على بني آدم


اعلم أن هذا هو النعمة الرّابعة من النعم العامة على جميع البشر، وهو أنه خصص آدم بالخلافة أولاً، ثم خصصه بالعلم ثانياً، ثم بلوغه في العلم إلَى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم، ثم ذكر الآن كونه مسجوداً للملائكة.
فإن قيل: الأمر بالسجود حصل قبل أن يسوي الله - تعالى - خلقه آدم بدليل قوله: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: ٧١ - ٧٢]، فظاهر هذه الآية يدلّ على أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما صار حيًّا صار مسجود الملائكة؛ لأن «الفاء» في قوله: «فَقَعُوا» للتعقيب، وعلى هذا التقدير يكون تعليم الأسماء، ومناظرته مع الملائكة في ذلك الوَقْتِ حصل بعد أن صار مسجود الملائكة.
فالجَوابُ: أجمع المسلمون على أن ذلك السُّجود ليس سُجُودَ عِبَادَةٍ، ثم اختلفوا على ثلاثة أقوال:
الأول: أن ذلك السجود كان لله - تعالى - وآدم - عليه السلام - كان كالقِبْلَةِ، وطعنوا في هذا القول من وجهين:
الأول: أنه لا يقال: صلّيت للقبلة، بل يقال: صليت إلى القبلة، فلو كان - عليه الصّلاة والسلام - قبلة لقيل: اسْجُدوا إلى آدم.
528
الثاني: أن «إبليس» قال: ﴿أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾ [الإسراء: ٦٢] أي: أن كونه مسجوداً يدلّ على أن أعظم حالاً من السّاجد، ولو كان قِبْلَةً لما حصلت هذه الدرجة بدليل أن محمداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يصلِي إلى الكعبة، ولم تَكُنِ الكعبة أفضل من محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
والجواب عن الأول: أنه كما يجوز أن يقال: صَلَّيْتُ إلَى القبلة، جاز أن يقال: صَلَّيْتُ للقبلة؛ قال تعالى: ﴿أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس﴾ [الإسراء: ٧٨] والصّلاة لله لا للِدُّلُوكِ؛ وقال حسان: [البسيسط]
٣٨٣ - مَا كُنْتُ أَعْرِفُ أَنَّ الأَمْرَ مُنْصَرِفٌ عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهَا عَنْ أَبِي حَسَنِ
أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ وَأَعْرَفَ النَّاسِ بالقٌرْآنِ وَالسُّنَنِ
والجواب عن الثاني: لا نسلم أن التكرُّم حصل بمجرد ذلك السُّجود، بل لعله حصل بذلك مع أمور أخر.
والقول الثاني: أن السجدة كان لآدم تعظيماً له وتحيَّةً له كالسَّلام مهم عليه، وقد كانت الأمم السَّالفة تفعل ذلك.
قال قتادة: قوله: ﴿وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَ﴾ [يوسف: ١٠٠] كانت تحيّة الناس يومئذ.
الثَّالث: أنَّ السجود في أَصْلِ اللُّغة، هو الانقياد والخضوع، ومنه قوله تعالى: ﴿والنجم والشجر يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٦].
واعلم أن القول الأوّل ضعيف، لأن المقصود تعظيم آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وجعله مجرّد القِبْلَةِ لا يفيد تعظيم حاله.
والقول الثالث: ضعيف أيضاً؛ لأن السجود في عرف الشرع عبارة عن وضع الجَبْهَةِ على الأرض فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك؛ لأن الأصل عدم التغيير.
فإن قيل: السجود عِبَادَةٌ، والعبادة لغير الله لا تجوز.
فالجواب: لا نسلم عِبَادَةٌ، والعبادة لغير الله لا تجوز.
فالجواب: لا نسلم أنه عِبَادَةٌ؛ لأن الفعل قد يصير بالمُواضعة مفيداً كالقول، كقيام أحدنا للغير يُفِيدُ من الإعظام ما يفيده القول، وما ذاك إلا للعادة، وإذا ثبت ذلك لم يمتنع أن يكون في بعض الأوقات سقوط الإنسان على الأَرْضِ وإلصاقه الجَبينَ بها مفيداً ضرباً من العظيم، وإن لم يكن ذلك عِبَادَة، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يتعبّد الله النلائكة بذلك إظهاراً لرفعته وكرامته.

فصل في بيان أن الأنبياء أفضل من الملائكة


قال أكثر أهل السُّنة: الأنبياء أفضل من الملائكة.
529
وقالت المعتزلة: الملائكة أَفْضَلُ من الأنبياء، وهو اختيار القاضي أبي بكر الباقِلاني [وأبي عبد الله الحليميّ].
وحجّة المعتزلة أمور:
أحدها: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ [الأنبياء: ١٩] والمراد من هذه العِنْدِيَّة القرب، والشرف، وهذا حاصل لهم لا لغيرهم.
ولقائل أن يقول: إنه - تعالى - أثبت هذه الصّفة في الآخرة لآحاد المؤمنين في قوله: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ﴾ [القمر: ٥٥].
وأما في الدنيا فقال عليه الصَّلاة والسلام يقول الله سبحانه: «أَنا مَعَ المُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لأَجْلِي».
وهذا أكثر إشعاراً بالتعظيم؛ لأن كون الله - تعالى - عند العبد أدخل في التعظيم من كون العبد عند الله.
وثانيها: قالوا: عبادات الملائكة أشَقّ من عبادات البشر، فيكونون أكثر ثواباً من عبادات البشر، فإن الملائكة سُكّان السماوات، وهي جَنَّات، وهم آمنون من المَرضِ والفقر، ثم إنهم مع استكمال أسباب النّعم لهم خاشعون وجِلُونَ كأنهم مَسْجُونون لا يلتفتون إلى نعيم الجنات، بل يقبلون على الطَّاعة الشاقة، ولا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوماً واحداً فضلاً عن تلك الأعصار المُتَطَاولة، ويؤيّده قصّة آدم - عليه الصّلاة والسلام - فإنه أطلق له الأكل في جميع مواضع الجنة، ثم إنه منع من شجرة واحدة فلم يملك نفسه.
وثالثها: أن انتقال المكلّف من نوع عِبَادَةٍ إلى نوع آخر كالانتقال من بُسْتَان إلى بستان، أما الإقامة على نَوْعٍ واحدٍ، فإنها تورث المَشَقّة والمَلاَلَة، والملائكة كلّ واحد منهم مُوَاظب على عمل واحد لا يعدل عنه إلى غيره، فكانت عبادتهم أَشَقّ، فيكون أفضل لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:
«أَفْضَلُ الأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا» أي: أَشَقُّهَا، وقوله لعائشة: «إنَّمَا أَجْرُكِ على قَدْرِ نَصْبِكِ».
ولقائل: أن يقول: في الوَجْه الأول لا نسلّم أن عبادة الملائكة أشقّ.
أما قولهم: السماوات جنات.
530
قلنا: نسلم، ولم قلتم بأن العبادة في المَوَاضع الطّيبة أشقّ من العبادة في المواضع الرَّديئة؟ أكثر ما في الباب أنه تهيّأ لهم أسباب النعم، فامتناعه عنها مع تهيئتها له أشق، ولكنه معارض بما أن أسباب البلاء مجتمعةٌ على البشر، ومع هذا يرضون بقضاء الله، ولا تغيرهم تلك المِحَنُ عن المُوَاظبة على عبوديته، وهذا أعظم في العبودية.
وأما قولهم: المُوَاظبة على نَوْعٍ واحدٍ من العبادة أشقّ.
قلنا: لما اعتادوا نوعاً واحداً صاروا كالمَجْبُورين الذين لا يقدرون على خِلاَفِهِ؛ لأنَّ العادة طبيعة خامسة، ولذلك قال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ كان يصوم يوماً ويُفْطر يوماً».
ورابعها: قالوا: عبادات المَلاَئكة أَدْوَم؛ لأن أَعمارهم أطول، فكانت أفضل لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَفْضَلُ العُبَّاد من طل عمره، وحَسُنَ عمله».
ولقائل أن يقول: إن نوحاً ولقمان والخَضِر - عليهم الصَّلاة والسلام - كانوا أطول عمراً من محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فوجب أن يكونوا أفضل منه، وذلك باطل بالاتفاق.
وخامسها: أنهم أسبق في كل العِبَادِاتِ فيكونون أفضل لقوله تعالى: ﴿والسابقون السابقون أولئك المقربون﴾ [الواقعة: ١٠، ١١] ولقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من سَنَّ سُنَّةٌ حَسَنَة فله أَجْرُهَا وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة».
531
ولقائل أن يقول: فهذا يقتضي أن يكون آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أفضل من محمد عليه الصلاة والسّلام؛ لأنه أوّل من سَنّ عبادة الله من البشر وأسبق، وذلك باطل.
وسادسها: أن الملائكة رُسُل إلى الأنبياء، والرسول أفضل من الأمة.
فإن قيل: إن السلطان إذا أرسل واحداً إلى جمع عظيم ليكون حاكماً فيهم، فإنه يكون أشرف منهم، أمّا إذا أرسل واحداً إلى واحد، فقد لا يكون الرسول أشرف، كما إذا أرسل السلطان مَمْلُوكَهُ إلى وزيره في مُهِمَّة [فإنه لا يلزم أن يكون ذلك العبد أشرف من الوزير]. قلنا: لكن جبريل - عليه السلام - مبعوث إلى كافة الأنبياء والرسل من البشر، فعلى هذا يكون جبريل أفضل منهم.
وأيضاً أن الملك قد يكون رسولاً إلى ملك آخر أو إلى أحد من الأنبياء، وعلى التقديرين الملك رسول، وأمته رسل، والرسول الذي كل أمته رسل أفضل من الرسول الذي ليس كذلك، ولأن إبراهيم - عليه الصّلاة والسلام - كان رسولاً إلى لُوطٍ - عليه السّلام - فكان أفضل منه، وموسى كان رسولاً إلى الأنبياء الذين كانوا في عَصْرِهِ، فكان أفضل منهم.
ولقائل أن يقول: الملك إذا أرسل رسولاً إلى بعض النواحي، فقد يكون ذلك الرسول حاكماً ومتولياً أمورهم، وقد يكون ليخبرهم عن بعض الأمور مع أنه لا يجعله حاكماً عليهم، فالقسم الأوّل هم الأنبياء المبعوثون إلى أممهم، فلا جرم كانوا أفضل من الأنبياء.
وسابعها: قوله: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملاائكة المقربون﴾ [النساء: ١٧٢] فقوله: «ولا الملائكة» خرج مخرج التأكيد للأول، وهذا التأكيد إنما يكون بذكر الأفضل يقال: هذه الخَشَبة لا يقدر على حملها العَشْرة، ولا المائة، ولا يقال: لا يقدر على حملها العشرة ولا الواحد، ويقال: هذا العالم لا يَسْتَنْكِفُ عن خدمته الوزير ولا الملك، ولا يقال: ولا يستنكف عن خدمته الوزير ولا البواب.
ولقائل أن يقول: هذه الآية إن دلّت، فإنما تدلّ على فضل الملائكة المقرّبين على المسيح، لكن لا يلزم منه فَضْلُ الملائكة المقربين على مَنْ هو أفضل من المسيح، وهو
532
محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - وموسى وإبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - بإجماع المسلمين.
ثم نقول قوله: «ولا المَلاَئكَة» ليس فيه إلا «واو» العطف، و «الواو» للجمع المُطْلق، فيدلّ على أنّ المسيح لا يستنكف، والملائكة لا يستنكفون، فأما أن يدلّ على أن الملائكة أفضل من المسيح فلا.
قال تعالى: ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد﴾ [المائدة: ٢] أو نقول: سلمنا أن عيسى دون مَجْمُوعِ الملائكة في الفَضْلِ، فإن قلتم: دون كل واحد من الملائكة في الفضل؟ فإن قيل: وصف الملائكة بكونهم مقربين يوجب ألاَّ يكون المسيح كذلك.
قلنا: تخصيص الشّيء بالذكر لا يدلُّ على نفيه عما عداه.
وثامنها: قوله: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ [الأعراف: ٢٠] ولو لم يكن متقرراً عند آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - أن الملك أفضل من البَشَرِ لم يقدر «إبليس» على غرورهما بذلك.
ولقائل أن يقول: هذا قول «إبليس» فلا يكون حُجّة، ولا يقال: إن آدم اعتقد صحة ذلك، واعتقاد آدم حُجّة، لأنا نقول: لعلّ آدم - عليه الصَّلاة والسّلام - ما كان نبياً في ذلك الوقت، فلم يلزم من فَضْلِ الملك عليه في ذلك الوَقْتِ فضل الملك عليه حال ما صار نبيًّا، ولأن الزَّلَّة جائزة على الأنبياء.
وأيضاً فهب أن الآية تدلّ على أن الملك أفضل من البَشَرِ في بعض الأمور المرغوبة.
فلم قلتم: إنها تدلّ على فضل الملك على البَشَرِ في باب القدرة والقوة، والحسن والجمال، والصفاء والنقاء عن الكُدُورات الحاصلة بسبب التركيبات؟ فإن الملائكة خلقوا من الأنوار وآدم خلق من التراب، فلعل آدم وإن كان أفضل منهم في كثرة الثواب إلاّ أنه رغب في أن يكون مساوياً لهم في تلك الأمور المعدودة.
وتاسعها: قوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ولاا أَعْلَمُ الغيب ولاا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾
[الأنعام: ٥٠].
ولقائل أن يقول: يحتمل أن يكون المراد: ولا أقول لكم إني مَلَكٌ في كثرة العلوم، وشدة القوة، ويؤيده أن الكفار طالبوه بأمور عظيمة نحو: صعود السَّماء، ونقل الجِبَالِ، وإحضار الأموال العظيمة، وأيضاً قوله: «قل: لا أقول لكم عِنْدِي خَزَائِنُ الله» يدلّ على
533
اعترافه بأنه لا يعلم كلّ المعلومات، فلذلك لا أدّعي قُدْرَةٌ مِثْلَ قُدْرَةِ الملك، ولا علماً مثل علمه.
وعاشرها: قوله تعالى: ﴿مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف: ٣١].
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد التشبيه في الجمال؟
قلنا: الأَوْلَى أن يكون هذا التشبيه في السِّيرة لا في الصّورة، لأن الملك إنما تكون سِيرَتُهُ المرضية لا بمجرد الصورة.
ولقائل: أن يقول: قول المرأة: ﴿فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ [يوسف: ٣٢] كالصريح في أن مراد النِّسَاء بقولهن: ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف: ٣١] تعظيم لحسن يُوسف وجماله لا في السَِّيرة؛ لأن ظهور عُذْرِهَا في شدّة عشقها، إنما يحصل بسبب فرط يوسف في الجَمَال لا بسبب فرط زُهْده وورعه، فإن ذلك لا يُنَاسب شدّة عشقها.
سلمنا أن المراد تشبيه يوسف - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بالمَلَكِ في حسن السِّيرة، فلم قلتم: يجب أن يكون أقل ثواباً من الملائكة؟
الحادي عشر: قوله تعالى: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٠]، ومخلوقات الله - تعالى - إما المكلفون، أو من عداهم، ولا شك أن المكلفين أفضلُ من غيره، فالمكلّفون أربعة أنواع: الملائكة، والإنس، والجنّ، والشياطين، ولا شَكّ أن الإنس أفضل من الجنّ والشياطين، فلو كان البشر أفضل من الملائكة لزم أن يكون البشر أفضل من كلّ المخلوقات، وحينئذ لا يبقى لقوله: «وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى جَمِيْعِ مَنْ خَلَقْنَا»، ولما لم يقل ذلك علمنا أن الملك أفضل من البشر.
ولقائل أن يقول: هذا تمسُّك بدليل الخطاب؛ لأن التصريح بأنهم أفضل من كثيرٍ من المَخْلُوقات لا يدلّ على أنه ليس أَفْضل من الباقي ألا بواسطة دليل الخطاب.
وأيضاً فهب أن جنس الملائكة أفضل من [جنس بني آدم، ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من] المجموع الثاني [أن يكون كُلّ واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من أفراد المجموع الثاني]، فإنا إذا قدرنا عشرة من العَبيدِ كلّ واحد منهم يساوي مائة دينار، وعشرة أخرى حصل فيهم عبد يساوي مائتي دينار والتسعة الباقية كل واحد منهم ديناراً، فالمجموع الأول أفضل من آحاد المجموع الأول فكذا ها هنا.
534
الثاني عشر: قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ﴾ [الانفطار: ١٠، ١١] فيدخل فيه الأنبياء وغيرهم، وهذا يقتضي كونهم أفضل من البشر لوجهين:
الأوّل: أنه - تعالى - جعلهم حَفَظَةً، والحافظ للمكلّف عن المعصية يكون أبعد عن الخطأ من المحفوظ، وذلك يقتضي أن يكون قولهم أولى بالقَبُولِ من قول البشر، ولو كان البشر أعظم حالاً منهم لكان الأمر بالعكس.
ولقائل أن يقول: أما كون الحافظ أكرم من المحفوظ، فهذا بعيد، فإن المَلكَ قد يوكّل بعض عبيده على ولده.
وأما الثاني فقد يكون الشاهد أدون حالاً من المشهود عليه.
الثالث عشر: قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن﴾ [النبأ: ٣٨].
والمقصود من ذكر أحوالهم المُبَالغة في شَرْحِ عظمة الله وجلاله، ولو كان في الخلق طائفة أخرى قيامهم وتضرعهم أقوى في الإنباء عن عَظَمةِ الله وجلاله وكبريائه من قيامهم لكان ذكرهم أولى.
ولقائل أن يقول: ذلك يدلّ على أنهم أزيد حالاً من البَشَرِ في بعض الأمور، فلم لا يجوز أن تكون تلك الحالة هي قوتهم وشدّتهم وبطشهم؟ وهذا كما يقال: إن السُّلطان لما جلس وقف حَوْلَ سريره ملوك أطراف العالم خاضعين فإن عظمة السُّلطان إنما تشرح بذلك، ثم إنَّ هذا لا يدلُّ على أنهم أكرم عند السلطان من ولده، فكذا ها هنا.
الرابع عشر: قوله: ﴿والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملاائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥] فبيّن تعالى أنه لا بدّ في صحّة الإيمان من الإيمان بهذه الأشياء، فبدأ بنفسه، وثَنَّى بالملائكة، وثلّث بالكتب، وربّع بالرسل، وكذا في قوله: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم﴾ [آل عمران: ١٨]، وقال: ﴿إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي﴾ [الأحزاب: ٥٦]، والتقديم في الذّكر يدلّ على التقديم في الدرجة؛ لأن تقديم الأدْوَنِ على الأشرف في الذكر قبيح عرفاً، فوجب أن يكون قبيحاً شرعاً.
ولقائل أن يقول: هذه الحجّة ضعيفة؛ لأن الاعتماد إن كان على «الواو» ف «الواو» لا تفيد الترتيب، وإِنْ كان على التقديم في الذِّكْرِ ينتقض بتقديم سورة «تَبّت» على سورة ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١].
الخامس عشر: قوله تعالى: «إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ»، فجعل صلوات
535
الملائكة كالتشريف للنبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذلك يدلّ على كون الملائكة أشرف من النبي. ولقائل أن يقول: هذا ينتقض بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» فأمر المؤمنين بالصلاة على النبي، ولم يلزم كون المؤمنين أفضل من النبي، فكذا في الملائكة.
واحتجّ من قال بتفضيل الأَنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - على الملائكة بأمور:
أحدها: أن الله - تعالى - أمر الملائكة بالسجود لآدم، وثبت أن آدم لم يكن كالقِبْلَةِ، فوجب أن يكون آدم أفضل منهم؛ لأن السجود نهايَةَ التواضُعِ، وتكليف الأشرف بنهاية التواضُعِ للأَدْوَنِ مُسْتَقْبَحٌ في العقول.
وثانيها: أن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - خليفةٌ له، والمراد منه خلافة الولاية لقوله: ﴿ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق﴾ [ص: ٢٦].
ومعلوم أن أعلى الناس منصباً عند الملك من كان قائماً مَقَامَهُ في الولاية والتصرف، فهذا يدل على أن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان أشرف الخلائق.
فالدنيا خلقت متعةً لبقائه، والآخرة مملكة لجزائه، وصارت الشياطين ملعونين بسبب التكبُّر عليه، والجن رعيته، والملائكة في طاعته وسجوده، والتواضع له، ثم صار بعضهم حافظين له ولذريته، وبعضهم منزلين لرزقه وبعضهم مستغفرين لزلاَّته.
وثالثها: أن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان أعلم، والأعلم أفضل، أما أنه أعلم فلأنه - تعالى - لما طلب منهم علم الأسماء ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ﴾ [البقرة: ٣٢] فعند ذلك قال الله: ﴿يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ﴾ [البقرة: ٣٣] وذلك يدلّ على أن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان عالماً بما لم يكونوا عالمين به، والعالم أَفْضَلُ لقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩].
ورابعها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين﴾ [آل عمران: ٣٣] والعَالَم عبارة عن كل ما سوى الله - تعالى - فمعناه أن الله - تعالى - اصطفاهم على المخلوقات.
فإن قيل: يُشْكل بقوله تعالى: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين﴾ [البقرة: ٤٧].
قلنا: الإشكال مدفوع؛ لأن قوله: «وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمينَ» خطاب مع الأنبياء الذين كانوا أسلاف اليهود، وحينما كانوا موجودين لم يكن محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - موجوداً في ذلك الزمان، والمعدوم لا يكون من العالمين؛ لأن اشتقاق العالم من العَلَمِ فكل ما كان عَلَماً على الله ودليلاً عليه فهو عالم، وإذا كان كذلك لم يلزم اصْطِفاء الله إياهم على العالمين في ذلك الوقت أن يكونوا أفضل من محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -
536
والملائكة كانوا موجودين، فيلزم أن يكون الله - تعالى - قد اصطفى هؤلاء على الملائكة، وأيضاً فهب أن تلك دَخَلَها التخصيص لقيام الدليل، وها هنا فلا دليل يوجب ترك الظاهر، فوجب إجراؤه على ظاهره في العموم.
وخامسها: قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] والملائكة من جملة العالمين، فكان محمد - عليه الصلاة والسَّلام - رحمة لهم، فوجب أن يكون أفضل منهم.
وسادسها: أنَّ الآدمي له شهوةٌ تدعوهم إلى المعصية، وهي شهوة الرئاسة.
قلنا: هَبْ أن الأمر كذلك، لكن البشر لهم أنواع كثيرة من الشهوات مثل شهوة البَطْنِ والفَرْجِ، وشهوة الرئاسة والملك ليس إلا شهوة واحدة، وهي شهوة الرئاسة، والمبتلى بأنواع كثيرة من الشهوات تكون الطاعة عليه أشقّ من المبتلى بشهوة واحدة. وأيضاً الملائكة لا يعملون إلاَّ بالنَّص لقوله: ﴿لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ﴾ [البقرة: ٣٢] وقوله: ﴿لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٧] والبشر لهم قوّة الاسْتنباط والقياس، والعمل بالاسْتِنْبَاط أشقَ من العمل النص، وأيضاً فإن الشبهات للبشر أكثر منها للملائكة؛ لأن من جملة الشبهات القوية كون الأفلاك والأنجم السَّيَّارة أسباباً لحوادث هذا العالم، فالبَشَرُ احتاجوا إلى دفع هذه الشُّبهة، والملائكة لا يحتاجون إليها، لأنهم ساكنون في عالم السَّمَاوات، فيشاهدون كيفية افتقارها إلَى المدبّر الصَّانع، وأيضاً فإن الشيطان لا سَبِيلَ له إلى وسوسة الملائكة، وهو مسلّط على البشر في الوَسْوَسَةِ، وذلك تفاوت عظيم.
إذا ثبت أن طاعتهم أشقّ، فوجب أن يكونوا أكثر ثواباً للنص والقياس.
فأما النص قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَفْضَلُ العِبَادَاتِ أَحْمَزُهَا» أي: أشقُّها، وأما القياس فإن الشيخ الذي ليس له مَيْلٌ إلى النِّسَاء إذا امتنع عن الزِّنَا ليست فضيلته كفضيلة من يمتنع عنه مع النَيْلِ الشّديد، والشَّوق العظيم.
وسابعها: أن الله - تعالى - خلق للملائكة عقولاً بلا شهوة، وخلق للبهائم شهوةً بلا عَقْلٍ، وخلق الآدمي وجمع فيه الأمرين، فصار الأدمي بسبب العَقْل فوق البهيمة بدرجة، فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون المَلاَئكة، ثم وجدنا الآدمي هَوَاهُ عقله، فإنه بصير دون البَهِيْمَةِ على ما قال: «أولئك كَالأَنْعَام بَلْ هُمْ أَضَلُّ» فيجب أن يقال: إذا غلب عقله هواه أن يكون فوق الملائكة اعتباراً لأحد الطرفين بالآخر.
وثامنها: أن الملائكة حَفَظَةٌ، وبنو آدم محفوظون، والمحفوظ أشرف من الحافظ، أجاب القائلون بتفضيل الملك عن الأول، فقالوا: قد سبق بيان أنّ من الناس من قال:
537
المراد من السُّجود التَّواضع لا وضْع الجَبْهَةِ على الأرض، وإن سلم أنه وضع الجبهة لكنه قال: السُّجود لله وآدم قبله، فزال الإِشْكَال، وإن سلم أن السجود كان لآدم، فلم قلتم: إن ذلك لا يجوز من الأشرف؟ وذلك لأن الحكمة قد تقتضي إظهار نهاية الانقياد، والطاعة، فإن للسلطان أن يجلس عَبْداً من عبيده، ويأمر الأكابر بخدمتهن ويكون غرضه إظهار كونهم مُطِيْعِين مُنْقَادين له في كلّيات الأمور، وأيضاً فإن الله - تعالى - يفعل ما يَشَاءُ، ويحكم ما يريد، فإن أفعاله غير معلّلة، ولذلك قلنا: إنه لا اعتراض عليه في خلق الكُفْرِ في الإنسان، ثم يعذبه عليه أبد الآباد، وإذا كان كذلك، فكيف يعترض عليه في ان أمر الأعلى بالسجود لمن هو دونه.
وأما الحجّة الثانية فجوابها أن كون آدم خليفة في الأرض وهذا يقتضي أن يكون آدم - عليه السلام - كان أَشْرَفَ من كل من في الأرض ولا يدلّ على كونه أشرف من ملائكة السماء.
فإن قيل: فَلِمَ لم يجعل واحداً من ملائكة السماء خليفة له في الأرض؟
قلت: لوجوه: منها أن البشر لا يطيقون رُؤْيَةَ الملائكة، ومنها أن الجنس إلى الجنس أميل.
وأما الحجّة الثالثة: فلا نسلّم أنّ آدم كان أعلم منهم، وأكثر ما في الباب أن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان عالماً بتلك الُّلغات، وهم ما علموها، لكنهم لعلهم كانوا عالمين بسائر الأشياء، مع أن آدم - عليه السلام - ما كان عالماً بها ويحقق هذا أن محمداً - عليه أفضل الصلاة والسلام - أفضل من آدم - عليه السلام - مع أن محمداً ما كان عالماً بهذه اللُّغات بأسرها، وأيضاً فإن «إبليس» كان عالماً بأن قرب الشجرة مما يوجب خروج آدم من الجَنّة، وأن آدم - عليه السلام - ليس كذلك، والهُدْهُد قال لسليمان صلوات الله وسلامه عليه:
﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ [النمل: ٢٢] ولم يكن أفضل من سُلَيْمَانَ، سلمنا أنه كان أعلم منهم، ولكن لِمَ لَمْ يجز أن يقال: إن طاعنهم أكثر إخلاصاً من طاعة آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؟.
وأما الحجة الرابعة: فهي قويّة.
وأما الخامسة: فلا يلزم من كون محمّد - عليه الصّلاة والسلام - رحمة لهم أن يكون أفضل منهم كما في قوله تعالى: ﴿فانظر إلى آثَارِ رَحْمَةِ الله كَيْفَ يُحْيِيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ﴾ [الروم: ٥٠] ولا يمتنع أن يكون - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - رحمةً لهم من وجه، وهم يكونون رحمة له من وجه آخر.
وأما الحجّة السادسة: وهي أن عبادة البشر أشقّ فهذا ينتقض بما أنا نرى الواحد من الصُّوفية يتحمّل في طريق المُجّاهدة من المَشَاقّ والمتاعب ما يقطع بأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لم يتحمّل مثلها مع أنا نعلم أن محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أفضل من الكل.
538
أما الحُجّة السَّابعة: فهي جمع بين الطَّرفين من غير جامع.
فإن قيل: فإذا لم يكن افضل منهم، فما الحكمة بالأمر بالسجود له؟
قيل له: إنَّ الملائكة لما استعظموا تَسْبِيْحَهُمْ، وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريه استغناءه عنهم، وعن عبادتهم.
وقال بعضهم: عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به، فأمروا بالسجود له تكريماً، ويحتمل أن يكون إنما أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: ٣٠].
فإن قيل: فقد استدلّ ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - على فضل البشر بأن الله - تعالى - أقسم بحياة مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقال: ﴿لَعَمْرُكَ﴾ [الحجر: ٧٢] وأمنه من العذاب لقوله: ﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: ٢]، وقال للملائكة: ﴿وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٢٩].
قيل له: إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بِحَيَاةِ نفسه سبحانه فلم يقل: «لَعَمْري» وأقسم بالسماء والأرض، ولم يدلّ على أنها أرفع قدراً من العرش، وأقسم ب «التِّين والزَّيْتُون».
وأما قوله سبحانه: «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ» فهو نظير قوله لنبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ﴾ [الزمر: ٦٥] وهذا آخر الكلام في هذه المسألة.
قوله: «إلاَّ إِبْلِيسَ» «إِلاَّ» حرف استثناء، و «إبليس» نصب على الاستثناء، وهل نصبه ب «إلا» وحدها أو بالفعل وحده أو به بوساطة «إلاّ» أو بفعل محذوف أو ب «أن» أقوال؟
وهل هو استثناء متّصل أو منقطع؟ خلاف مشهور.
والأصح أنه متّصل - وأما قوله تعالى: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن﴾ [الكهف: ٥٠]، فلا يرد؛ لأن الملائكة قد يسمونه جنًّا لاجْتِنَابِهِمْ، قال الشاعر في سليمان: [الطويل]
٣٨٤ - وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلاَئِكِ تِسْعَةً قِيَاماً لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلاَ أَجْرِ
وقال تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً﴾ [الصافات: ١٥٨] يعني: الملائكة.
واعلم أن المستثنى على أربعة أقسام:
قسم واجب النّصْب، وقسم واجب الجَرّ، وقسم جائز فيه النصب والجر، وقسم جائز فيه النَّصْب والبَدَل مِمَّا قبله، والأرجح البدل.
539
الأول: المُسْتَثْنَى من الموجب والمقدّم، والمكرر والمنقطع عند «الحجاز» مطلقاً، والواقع بعد «لا يَكُون» و «لَيْسَ» و «ما خَلاَ» و «ما عَدَا» عند غير الجَرْمِيّ؛ نحو: «قَامَ القَوْمُ إلاَّ زَيْداً»، و «مَا قَامَ إلاَّ زَيْداً القَوْمُ»، و «ما قَامَ أحدٌ إلاّ زَيْداً إلا عَمْراً»، و «قاموا إلاّ حِمَاراً» و «قَامُوا لا يكونُ زيداً» و «مَا خضلاَ ويداً» و «مَا عَدَا زيداً».
الثاني: المستثنى ب «غَيْر» و «سِوًى» و «سُوًى» و «سَوَاء».
الثالث: المستثنى ب «عَدَا» و «حَاشَا» و «خَلاَ».
الرابع: المستثنى من غير الموجب؛ نحو: ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ [النساء: ٦٦].
و «إبليس» اختلف فيه، فقيل: إنه اسم أعجمي منح من الصّرف للعلمية والعُجْمة، وهذا هو الصّحيح، قاله «الزَّجاج» وغيره؛ وقيل: أنه مشتقٌّ من «الإبْلاَس» وهو اليأس من رحمة الله - تعالى - والبعدُ عنها؛ قال: [السريع أو الرجز]
٣٨٥ -................................. وَفِي الْوُجُوهِ صُفْرَةٌ وَإِبْلاَسْ
ووزنه عند هؤلاء: «إِفْعِيل» ؛ واعترض عليهم بأنه كان ينبغي أن يكون منصرفاً، وأجابوا بأنه أِبه الأسماء الأعجميّة لعدم نظيره في الأسماء العربية؛ ورد عليهم بأنه مثله في العربية كثير؛ نحو: «إزْمِيل» و «إكْلِيل» و «إغريض» و «إخْرِيط».
وقيل: لما لم يقسم به أحدٌ من العرب، صار كأنه دَخِيلٌ في لسانهم، فأشبه الأعجمية، وفيه بُعْدٌ.

فصل في جنس إبليس


اختلفوا في «إبليس»
فقال أكثر المتكلمين والمعتزلة: إنه لم يكن من المَلاَئكة، وهو مرويّ عن ابن عَبَاس، وابن زيد، والحسن، وقتادة - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - قالوا: «إبليس أبو الجِن كما أن آدم أبو البَشَرِ، ولم يكن ملكاً فأشبه الحرف».
وقال شهر بن حَوْشَبٍ، وبعض الأصوليين: «كان من الجن الذين كانوا في الأرض، وقاتلهم الملائكة فَسَبُوهُ وتعبّد مع الملائكة وخوطب».
وحكاه الطبري، وابن مسعود، وابن جريح، وابن المسيب، وقتادة وغيرهم، وهو
540
اختبار الشيخ أبي الحَسَنِ، ورجّحه الطبري، وهو ظاهر الآية أنه من الملائكة.
قال ابن عباس: «وكان اسمه عزَازِيل، وكان من أشراف الملائكة، وكان من أُولِي الأَجْنِحَةِ الأَرْبَعَةِ ثم إبليس بعد».
وروى سليمان بن حَرْب عن عكرمة عن ابن عَبَّاس قال: كان إبْلِيسُ من الملائكة، فلما عَصَى الله غضب عليه فَلَعَنَهُ، فصار شيطاناً.
وحكى المَاوَرْدِيّ عن قتادة: أنه كان من أَفْضَلِ صنف من الملائكة يقال لهم الجنّة.
وقال سعيد بن جبير: إن الجنّ سِبْطٌ من الملائكة خُلقوا من نار، وإبليس منهم، وخلق معاشر الملائكة من نور.
حجّة القول الأول، وهو أنه لم بكن من الملائكة وجوه:
أحدها: قوله تعالى: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن﴾ [الكهف: ٥٠] وإذا كان من الجنّ وجب أن ألاّ يكون من الملائكة لقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن﴾ [سبأ: ٤٠، ٤١]، وهذا صريح في الفرق بين الجنّ والمَلَكِ.
فإن قيل: لا نسلّم أنه كان من الجنّ، لأن قوله: ﴿كَانَ مِنَ الجن﴾ [الكهف: ٥٠] يجوز أن يكون المراد كان من الجنّة على ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أنه كان من الجنّ كان خازن الجنة.
سلمنا ذلك، لكن لِمَ لاَ يجوز أن يكون قوله: «من الجن» أي: صار من الجن كقوله: ﴿وَكَانَ مِنَ الكافرين﴾.
سلّمنا ما ذكرتم، فَلِمَ قلتم: إن كونه من الجنّ ينافي كونه من الملائكة؛ لأن الجن مأخوذ من الاجتنان، وهو الستر، ولهذا سمي الجَنين جنيناً لاجتِنَانِه، ومنه الجُنّة لكونها سائرة، والجِنّة لكونها مستترة بالأَغْصَان، ومنه الجُنُون لاستتار العَقْل به، والملائكة مستترون عن الأعين، فوجب جواز إطلاق لفظ الجِنّ عليهم بحسب اللُّغة، يؤيد هذا التأويل قوله تعالى في الآية الأخرى: ﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً﴾ [الصافات: ١٥٨]، وذلك لأن قريشاً قالت: الملائكة بنات الله، فهذه الآية تدلّ على أن الملائكة تسمى جنًّا.
والجواب: لا يجوز أن يكون المُرَاد من قوله: «كان من الجن» أنه كان خازن الجنّة؛ لأن قوله: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن﴾ [الكهف: ٥٠] يشعر بتعليل تركه السُّجود
541
بكونه جنياً، ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه خازن الجنّة، فبطل ذلك.
﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً﴾ [الصافات: ١٥٨] قلنا: يحتمل أن بعض الكُفّار أثبت ذلك النسب في الجنّ، كما أثبته في الملائكة، وأيضاً أن الملك يسمى جنّاً بحسب أصل اللُّغة، لكن لفظ الجنّ بحسب العرف اختص بالغير، كما أن لفظ الدَّابة يتناول كل ما دَبّ بحسب اللُّغة الأصلية، كلغة بحسب العرف اختص ببعض ما يدبّ، فيحتمل أن تكون هذه الآية على اللغة الأصلية والآية التي ذكرناها على العرف الحادث.
وثانيها: أن «إبليس» له ذريّة لقوله تعالى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ﴾ [الكهف: ٥٠] والملائكة لا ذريّة لها؛ لأن الذريّة إنما تحصل من الذَّكَرِ والأُنْثَى، والملائكة لا أنثى فيها لقوله: ﴿وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ﴾
[الزخرف: ١٩] أنكر على من حكم عليهم بالأنوثة.
وثالثها: أنّ الملائكة معصومون، و «إبليس» لم يكن كذلك فوجب ألا يكون من الملائكة.
ورابعها: أن «إبليس» مخلوق من نار لقوله تعالى حكاية عن «إبليس» :﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ﴾ [الأعراف: ١٢].
قال: ﴿والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم﴾ [الحجر: ٢٧] والملائكة مخلوقون من النّور، لما روت عائشة عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «خلقت المَلاَئِكَةُ من نُورٍ وخُلِقَ اجَانّ من مَارِجٍ من نَارٍ».
حجّة القول الثاني، وهو أن «إبليس» كان من الملائكة أمران:
الأول: أن الله - تعالى - استثناه من الملائكة، والاستثناء المنقطع مشهور في كلام العرب، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: ٢٦، ٢٧] وقال: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً﴾ [الواقعة: ٢٥، ٢٦] وقال: ﴿لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً﴾ [مريم: ٦٢]، وقال: ﴿لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ﴾ [النساء: ٢٩]، وقال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً﴾ [النساء: ٩٢] وأيضاً فلأنه كان جنيًّا واحداً بين اللوف من الملائكة، فغلبوا عليه في قوله: فسجدوا، ثم استثني هو منهم استثناء واحد منهم؛ لأنا
542
نقول: كل واحد من هَذَيْنِ الوجهين على خلاف الأصل، وذلك إنما يُصَار إليه عند الضرورة، والدلائل الذي ذكرتموها في نفي كونه من المَلاَئكة ليس فيها إلاّ الاعتماد على العُمُومَاتِ، فلو جعلنا من الملائكة لزم تَخْصِيصُ ما عَوَّلْتُمْ عليه من العُمُومَاتِ.
ولو قلنا: إنه ليس من الملائكة لزمنا جعل الاستثناء منقطعاً، فكان قولنا أولى، وأيضاً فالاستثناء إنما يتحقّق من الشيء والصرف، ومعنى الصرف إنما يتحقّق حَيْثُ لولا الصّرف لدخل، والشيء لا يدخل في غير جنسه، فيمتنع تحقق معنى الاستثناء منه.
وأما قوله: إنه جني واحد من الملائكة لما كان قوله: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا﴾ متناولاً، ولا استحال أن يكون تركه السجود إباءً واستكباراً ومعصية، ولما استحقّ الذم والعقاب، ولما حصلت هذه الأمور، علمنا أن ذلك الخطاب يتناوله، ولن يتناوله ذلك الخطاب إلاّ إذا كان من الملائكة. لا يقال: إنه وإن لم يكن من الملائكة إلا أنه لمّا نشأ منهم، وطالت خُلْطته بهم والتصق بهم علا ولكن الله تعالى أمر بالسجود بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: ١٢] لأنا نقول: أما الأول فجوابه: أن المُخَالطة لا توجب ما ذكرتموه ولهذا قيل في أصول الفقه: خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدّة المخالطة بين الصنفين، وأيضاً فشدّة المُخَالطة بين الملائكة، وبين «إبليس» لما لم يمنع اقتصار اللَّعن على إبليس، فكيف يمنع اقتصار ذلك التَّكليف على المَلاَئِكَةِ، لونا كونه أمر بأمر آخر غير محكي في القرآن، فإن ترتيب الحكم على الوَصْفِ يشعر بالغَلَبَةِ، فلما ذكر قوله: «أَبَى واسْتَكْبَرَ» عقيب قوله: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ: اسْجُدُوا لآدَمَ»، أشعر هذا التعقيب بأن هذا الإباء إنما حصل بسبب مُخَالفة هذا الأمر، لا بسبب مُخَالطة أمر آخر، وطريق الجمع بين الدليلين ما ذكرنا عن ابن عباس أن «إبليس» كان من الملائكة، فلما عَصَى الله غضب عليه، فَصَار شيطاناً.
وقول سعيد بن جبير إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نَارٍ، وإبليس منهم وليس في خلقه من نَارٍ، ولا في تركيب الشَّهْوَةِ حيث غضب عليه ما يدفع أنه من المَلاَئِكَةِ، وحكى الثعلبي عن ابن عباس: «أنّ إبْلِيسَ كان من حَيّ من أحياء الملائكة يقال لهم: الجِنّ خلقوا من نارِ السَّمُوم، وخلقت الملائكة من نُورٍ، وكان اسمه بالسّريانية عَزَازيل، وبالعربية الحَارِث، وكان من خزّان الجنّة، وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا، وكان من سُلْطَانها، وسلطان الأرض، وكان من أشدّ الملائكة اجتهاداً، وأكثرهم علماً، وكان يَسُوسُ ما بين السَّماء والأرض، فرأى لنفسه بذلك شرفاً وعظمةً، فذلك الذي دعاه إلى الكُفْرِ، فعصى الله، فمسخه شيطاناً رجيماً».
543
قوله تعالى: «أَبَى واسْتَكْبَرَ».
الظاهر أن هاتين الجملتين استئنافيتان لمن قال: فما فعل؟
والوقف على قوله: «إلاَّ إِبْلِيسَ» تام.
وقال أبو البقاء: «في موضع نصب على الحال من» إبليس «تقديره: ترك السجود كارهاً له ومستكبراً عنه».
فالوقف عنده على «واستكبر»، وجوز في قوله: «وَكَانَ مِنَ الكَافِرينَ» أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً أيضاً، و «الإباء» : الامتناع؛ قال الشاعر: [الوافر]
٣٨٦ - وَإِمَّا أنْ يَقُولُوا قَدْ أَبَيْنَا وَشَرُّ مَوَاطِنِ الحَسَبِ الإبَاءُ
وهو من الأفعال المفيدة للنفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء المفرّغ قال تعالى: ﴿ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾ [التوبة: ٣٢].
والمشهور «أَبِيَ - يَأْبَى» بكسرها في الماضي، وفتحها في المضارعن وهذا قياس، فيحتمل أن يكون من قال: «أَبَى - يَأْبَى» بالفتح فيهما استغنى بمُضَارع من قال «أَبِيَ» بالكسر ويكون من التداخل نحو: «رَكَنَ - يَرْكَنُ» وبابه.
واستكبر بمعنى: تَكَبَّرَ، وإنما قدم الإباء عليه، وإن كان متأخراً عنه في الترتيب؛ لأنه من الأفعال الظَّاهرة؛ بخلاف الاستكبار؛ فإنه من أفعال القلوب.
قوله: «وَكَانَ» بل: هي هنا بمعنى «صَارَ» ؛ كقوله: [الطويل]
٣٨٧ - بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كَأَنَّهَا قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي: قد صارت. ورد هذا ابن فورك وقال: «تردّه الأصول، والأظهر أنها على بابها والمعنى: كان من القوم الكافرين الَّذين كانوا في الأَرْضِ قبل خَلْقِ آدم على ما روي، وكان في علم الله».

فصل في بيان بطلان قول أهل الجبر


قال القاضي: هذه الاية تدلُّ على بطلان قول أهل الجبر من وجوه:
أحدها: أنهم يزعمون أنه لما لم يسجد لم يقدر على السُّجود؛ لأن عندهم القُدْرَة
544
على الفعل شرط، فإن من لا يقدر على الشيء لا يقال: إنه أباه.
وثانيها: أن من لا يَقْدِرُ على الفعل لا يقال: استكبر بأن لم يفعل، فإنما يوصف بالاستكبار إذا لم يفعل مع أنه لو أراد الفعل لأمكنه.
وثالثها: قال: «وكَانَ مَنَ الكَافِرِينَ» ولا يجوز أن يكون كافراً بأن لم يفعل ما لا يقدر عليه.
ورابعها: أن استكباره، وامتناعه خلق من الله فيه، فهو بأن يكون معذوراً أولى من أن يكون مذموماً قال: ومن اعتقد مذهباً يقيم العذر لإبليس فهو خاسر الصَّفقة.
والجواب: يقال له: صدور ذلك عن «إبليس» لا يخلو، إما أن يكون عن قَصْدٍ ودَاعٍ أو لا.
فإن وقع لا عن فاعل، فكيف يثبت الصّانع، وإن وقع العبد فوقوع ذلك القصد عنه إن كان عن قصد آخر فيلزم التسلسل.
وإن كان لا عن قَصْدٍ فقد وقع الفعل لا عن قَصْد.
[أما إن قلت وقع ذلك الفعل عنه لا عن قصد] وداعٍ، قد ترجّح الممكن من غير مرجّح، وهو يسد باب إثبات الصانع، وأيضاً فإن كان كذلك كان وقوع ذلك الفعل اتفاقياً، والاتفاقي لا يكون في وسعه واختياره، فكيف يؤمر به وينهى عنه، وإن وقع عن فاعل هو الله، فحينئذ يلزمك كل ما أوردته علينا.
فإن قيل: هذا منقوض بأفعال الله - سبحانه وتعالى - فإن التقسيم وارد فيها ليس اتفاقية ولا خبراً؟
قلنا: الله - تعالى - واجب الوجود لذاته، وإذا كان كذلك كان واجب الوجود أيضاً في صفاته، وإذا كان كذلك فهو مُسْتَغْنٍ في فاعليته عن المؤثرات والمرجّحات، إذ لو افتقر لكان محتاجاً.

فصل في بيان حال إبليس


قال قوم: كان «إبليس» منافقاً منذ كان.
وقال آخرون: كان كافراً، واستدلوا بقوله: «وضكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ» ؛ لأن كلمة «من» للتبعيض، والحكم عليه بأنه بعض الكافرين يقتضي وجود قوم آخرين من الكفار حتى يكون هو بعضاً منهم، ويؤكده ما روي عن أبي هُرَيْرَةَ قال: إن الله خلق خلقاً من الملائكة، ثم قال لهم: إني خالق بشراً من طين؛ فإذا سوّيته، ونفخت فيه من روحي فَقَعُوا له سَاجِدِينَ. فقال: لا تفعل ذلك، فبعث الله عليهم ناراً، فأحرقتهم، وكان «إبليس» من أولئك الذين أَبْوا.
545
وقال آخرون: إنّ «كان» ها هنا بمعنى «صار» فيكن معنى الآية صار من الذين وقعوا في الكُفْرِ بعد ذلك، وأنه كان من قبل ذلك مؤمناً، وهذا قول «الأصَمّ»، وذكر في مثاله قوله تعالى:
﴿المنافقون
والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾
[التوبة: ٦٧] فأضاف بعضهم إلى بعض بسبب المُوَافقة في الدين، وأيضاً فإن هذه إضافة لفرد من أفراد الماهية إلى تلك الماهية، وصحّة هذه الإضافة لا تقتضي وجود تلك المَاهِيّة، كما أن الحيوان الذي خلقه الله تَعَالَى أولاً يصح أن يقال: إنه فرد من أفراد الحيوان، لا بمعنى أنه وَاحِدٌ من الحيوانات الموجودة خارج الذهن، بل بمعنى أنهة فرد من أفراد هذه الماهية. واعلم أنه بتفرع على هَذَا أن «إبليس» هل كان أول من كفر بالله؟ والذي عليه الأكثرون أنه أول من كفر بالله.

فصل في بيان أن الأمر كان للملائكة كلهم


قال الأكثرون: إن جميع الملائكة كانوا مأمورين بالسُّجُودِ لآدم، واحتجوا عليه بوجهين:
الأول: أن لفظ المَلاَئكة صيغة جمع، وهي تفيد العموم، لا سيما وقد أكدت بأكمل وجوه التوكيد في قوله: «كلّهم أَجْمَعُونَ».
الثاني: أن استثناء «إبليس» منهم، واستثناء الشخص الواحد منهم يدلّ على أن من عدا ذلك الشخص يكون داخلاً في ذلك الحكم، ومن الناس من أنكر ذلك، وقال: المأمور بهذا السُّجود هم ملائكة الأرض، واستعظم أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك.
وأما الحُكّمّاء فإنهم يحملون المَلاَئكة على الجَوَاهر الرُّوْحَانية، وقالوا: يستحيل أن تكون الأرواح السَّمَاوية مُنْقَادة للنفوس الناطقة، والكلام في هذه المسألة مذكور في العقليات.
546
الجملة من قوله: ﴿وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة﴾ معطوفة على جملة «إذ قُلْنَا» لا على «قلنا» وحده لا خلاف زمنيهما.
و «أنت» توكيد للضمير المستكن في «أسكن» ليصح العطف عليه «وزوجك»
546
عطف عليه، هذا هو مذهب البَصْرِيين، أعني اشتراط الفعل بين المُتَعَاطفين إذا كان المعطوف عليه ضميراً مرفوعاً متصلاً، ولا يشترط أن يكون الفاصل توكيداً؛ بل أي فصل كان، نحو: ﴿مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام: ١٤٨].
وأما الكوفيون فيجيزون ذلك من غير فاصل؛ وأنشدوا: [الخفيف]
٣٨٨ - قُلْتُ إذْ أَقْبَلَتْ وَزُهْرٌ تَهَادَى كَنِعَاجِ الفَلاَ تَعَسَّفْنَ رَمْلا
وهذا عند البصريين ضرورة لا يقاس عليه، وقد منع بعضهم أن يكون «زوجك» عطفاً على الضمير المستكن في «أسكن»، وجعله من عطف الجُمَلِ، بمعنى أن يكون «زوجك» مرفوعاً بفعل محذوف، أي: وَلْتَسْكُنْ زَوْجُكَ «فحذف لدلالة» اسكن «عليه، ونظيره قوله: ﴿لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ﴾ [طه: ٥٨] وزعم أنه مذهب سيبويه، وكان شبهته في ذلك أن من حَقّ المعطوف حلوله محل المعطوف عليه، ولا يصح هنا حلول» زوجك «محلّ الضمير لأنّ فاعل فعل الأمر الواحد المذكور نحو: قُمْ واسْكُن» لا يكون
547
إلا ضميراً مستتراً وكذلك فاعل يفعل، فكيف يصح وقوع الظاهر المضمر الذي قبله؟ وهذا الذي يزعم ليس بشيء؛ لأنَّ مذهب سيبويه بنصّه يخالفه؛ ولأنه لا خلاف في صحّة: تقوم هند وزيد «ولا يصحّ مُبَاشرةُ» زيد «لا تقوم» لتأنيه.
و «السُّكُون» و «السُّكَنى» : الاستقرار، ومنه «المِسْكِينُ» لعدم حركته وتصرّفه، والسّكين لأنها تقطع حركة المَذْبوح، والسَّكينة لأن بها يذهب القَلَقُ.
وسكّان السفينة عربي لأنه يسكنها عن الاضطراب، والسّكن: النار.
قال الشاعر: [مشطور السريع]
٣٨٩ -................................ قَدْ قُوِّمَتْ بِسَكَنٍ وَأَدْهَانْ
و «الجَنّ» : مفعول به لا ظرف، نحو: «سكنت الدَّار».
وقيل: هي ظَرْف على الاتساع، وكان الأصل تعديته إليها ب «في» لكونها ظرف مكان مختصّ، وما بعد القول منصوب به.

فصل في بيان هل الأمر في الآية للإباحة أو لغير ذلك


اختلفوا في قوله: «اسكن» هل هو أمر أو إباحة؟
فروي عن قتادة: أن الله ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابْتَلَى الملائكة بالسُّجود، وذلك لأن كلفه بأن يكون في الجنّة يأكل منها حيث شاء، ونهاه عن شجرة واحدة.
وقال آخرون: إن ذلك إباحة.
والصحيح أن ذلك الإسكان مشتمل على إباحة، وهي الانتفاع بجميع نعم الجنة وعلى تكليف، وهو النهي عن أَكْلِ الشجرة.
قال بعضهم: قوله: «اسكن» تنبيه عن الخُرُوج؛ لأن السُّكْنَى لا تكون ملكاً؛ لأن من اسكن رجلاً مَسْكَنَاً له فإنه لا يملكه بالسُّكْنى، وأن له يخرجُه منه إذا انقضت مدة الإسكان، وكان «الشَّعْبِيّ» يقول: إذا قال الرجل: داري لك سُكْنَى حتى تموت، فهي له حياته وموته، وإذا قال: داري هذه اسْكُنْهَا حتى تموت، فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مَاتَ، ونحو السُّكْنَى العُمْرَى، إلا أن الخلاف في العُمْرَى أقوى منه في السُّكْنَى.
قال «الحربي» : سمعت «ابن الأعرابي» يقول: لم يختلف العَرَبُ في أن هذه الأشياء على ملك أربابها، ومنافعها لمن جعلت له العُمْرَى والرُّقْبَى والإفقار والإخْبَال والمِنْحَة والعَرِيّة والسُّكْنَى والإطْراق.
548

فصل في وقت خلق حواء


اختلفوا في الوَقْتِ الذي خلقت زوجته فيه، فذكر «السّدي» عن ابن مسعود، وابن عباس، وناس من الصَّحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهم: أن الله - تعالى - لما أخرج «إبليس» من الجنة، وأسكن آدم بقي فيها وَحْدَهُ ما كان معه من يَسْتَأنس به، فألقى الله - تعالى - عليه النَّوم، ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شِقِّهِ الأيسر، ووضع مكانه لحماً، وخلق حواء منه، فلما استيقظ وَجَدَ عند رأسه امرأةً قاعدةً فسألها ما أنت؟ قال: امرأة. قيل: ولم سميت امرأة؟ قال: لأنها من المراء أخذت، فقالوا له: ما اسمها؟ قال: حَوّاء، قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حََيّ.
وعن «ابن عباس» رَضِيَ اللهُ عَنْهما قال: «بعث الله جنداً من الملائكة، فحملوا آدم وحَوّاء - عليهما السلام - على سَرِيْرٍ من ذهب كما يحمل الملوك، ولباسهما النور حتى أدخلا الجنّة».
فهذا الخبر يدلّ على أن حواء خلقت قبل إدخالهما الجنة.
روى الحسن عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «إنَّ المرأة خلقت من ضِلع الرَّجُل، فإذا أردت تَقْوِيمَهَا كَسَرْتَها، وإن تركتها انْتَفَعْتَ بها واسْتَقَامَتْ»، وهذا القول منقول «عن أبي بن كعب، وابن عباس ووهب بن منبه، وسفيان بن عُيَيْنَةَ».
واختاره ابن قتيبة في «المَغَازي»، [والقاضي منذر بن سعيد البلوطي] وحكاه عن «أبي حنيفة» وأصحابه، وهو نصّ التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.
وفي رواية: «وإنْ أَعْوَجَ شَيءٍ في الضِّلْعِ أَعْلاَهُ؛ لن تستقيم لك على طَرِيقَةٍ واحدة، فإن اسْتَمْتََعْتَ بها، استمتعت وبها عِوَجٌ، وإن ذهبت تُقِيمُها كَسْرَتَهَا، وكَسْرُهَا طَلاَقُهَا» ؛ وقال الشاعر: [الطويل]
549
٣٩٠ - هِيَ الضَّلَعُ العَوْجَاءُ لَسْتَ تُقِيمُها أَلاَ إِنَّ تَقْوِيمَ الضُّلُوعِ انِكِسَارُهَا
أَتَجْمَعُ ضَعْفَاً وَاقْتِداراً عَلَى الفَتَى أَلَيْسَ عَجِيباً ضَعْفُهَا وَاقْتِدَارُهَا

فصل في بيان خلافهم في الجنة المقصودة


اختلفوا في هذه الجنة هل كانت في الأرض أو في السماء؟ وبتقدير أنها كانت في السَّمَاء، فهل هي دار ثواب او جنّة الخُلْدِ؟
فقال أبو القاسم البَلْخِيّ، وأبو مسلم الأصفهاني: هذه الجنة كانت في الأرض وحملا الإهباط على الانتقال من بُقْعَةٍ إلى بُقْعَةٍ كما في قوله: ﴿اهبطوا مِصْراً﴾ [البقرة: ٦١] واحتجّا عليه بوجوه:
أحدها: أن هذه الجنة لو كانت هي دار الثواب لكانت جنة الخلد، ولو كان آدم في جنة الخلد لما لحقه الغُرُورُ من إبليس ولما صحّ قوله: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين﴾ [الأعراف: ٢٠].
وثانيهما: أن من دخل هذه الجَنَّة لا يخرج منها لقوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ [الحجر: ٤٨].
وثالثهما: أن إبليس لما امتنع عن السجود لعن فما كان يقدر مع غضب الله أن يصل إلى جنة الخلد.
ورابعها: أن جنة الخلد لا يفنى نعيمها لقوله: ﴿وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [هود: ١٠٨] إلى أن قال: ﴿عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود: ١٠٨] أي: غير مقطوع.
وخامسها: لا نزاع في أن الله - تعالى - خلق آدم في الأَرْضِ، ولم يذكر في هذه القصّة أنه نقله إلى السماء، ولو كان - تعالى - قد نقله إلى السَّماء لكان أولى بالذكر؛ لأن نقله من الأرض إلى السماء من أعظم النعم، فدلّ على أن ذلك لم يحصل، وذلك يوجب أن هذه الجنّة غير جنّة الخلد.
وقال «الجُبَّائي» : أن تلك الجَنّة كانت في السَّمَاء السَّابعة، والدليل عليه قوله: «اهْبِطُوا مِنْهَا» ثم إنّ الاهباط الأول كان من السَّماء السَّابعة إلى السماء الأولى، والإهباط الثاني كان مِنَ السماء غلى الأرض.
وقال أكثر العلماء: إنها دَارُ الثواب؛ لأنَّ الألف واللام في لفظ الجَنَّةِ لا يفيدان العموم؛ لأن سكون جميع الجِنَان مُحَال، فلا بد من صرفها إلى المَعْهُود السَّابق، وجنّة الخلد هي المعهودة بين المسلمين، فوجب صرف اللفظ إليها.
550
وقال بعضهم: الكُلّ ممكن، والأدلّة النقلية ضعيفة ومتعارضة، فوجب التوقٌّف وترك القطع، والله أعلم.

فصل في إعراب الآية


قوله: ﴿وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً﴾ هذه الجملة عطف على «اسْكُنْ»، فهي في محلّ نصب بالقول، وأصل «اؤكل» بهمزتين: الأولى هزة وصل، والثانية فاء الكلمة، فلو جاءت هذه الكلمة على الأصل لقيل: أوكلُ بإبدال الثانية حرفاً مجانساً لحركة ما قبلها، إلاّ أن العرب حذفت فاءه في الأمر تخفيفاً، فاستغنت حينئذ عن همزة الوَصْلِ، فوزنه إلاّ أن العرب حذفت فاءه في المر تخفيفاً، فاستغنت حينئذ عن همزة الوَصْلِ، فوزنه «عُلْ» ومثله: «خُذْ» و «مُرْ»، ولا يقاس على هذه الأفعال غيرها، في تقول: من «أَجَرَ - جُر» ولا تَرَدُّ العرب هذه الفاء في العَطْفِ، بل تقول: «قم وخذ وكل» إلاَّ «مُرْ»، فإن الكثير رَدّ فاءه بعد الواو والفاء، قال تعالى:
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ﴾ [طه: ١٣٢]، وعدم الرد قليل.
وحكى سيبويه «اؤكل» على الأصل، وهو شاذّ.
وقال «ابن عطية» : حذفت النون من «كُلا» للأمر.
وهذه العِبَارَةُ موهمةٌ لمذهب الكوفيين من أنّ الأمر عندهم معرب على التدريج، وهو عند البصريين محمول على المجزوم، فإن سكن المجزوم سكن المر منه، وإن حذف منه حرف حذف من الأمر.
و «منها» متعلّق به، و «من» للتبعيض، ولا بُدّ من حذف مضاف أي: من ثمارها ويجوز أن تكون «من» لابتداء الغاية، وهو حسن.
فإن قيل: ما الحكمة في عطفه هنا «وَكُلاّ» بالوا، وفي «العراف» بالفاء؟
والجواب: كلّ فعل عطف عليه شيء، وكان الفعل بمنزلة الشَّرط، وذلك الشَّيء بمنزلة الجزاء، عطف الثَّاني على الأوَّل بالفاء دون الواو، كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ مِنْهَا﴾ [البقرة: ٥٨] فعطف «كلوا» على «ادخلوا» بالفاء لما كان وجود الأكل منها متعلقاً بدخولها فكأنه قال: إن دخلتموها أكلتم منها، فالدُّخول موصل إلى الأَكْل، والكل متعلّق وجوده بوجوده يبين ذلك قوله في سورة «الأعراف» :﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية وَكُلُواْ﴾ [الأعراف: ١٦١] فعطف «كلوا» على قوله: «اسكنوا» بالواو دون الفاء؛ لأن «اسكنوا» من السُّكْنَى، وهو المقام مع طول اللّبْث والكل لا يختص وجوده بوجوده؛ لأن من دخل بستاناً قد يأكل منه، وإن كان مجتازاً، فلما لم يتعلّق الثاني بالأول تعلّق الجزاء بالشرط وجب العطف بالواو دون الفاء. إذا ثبت هذا
551
فقوله: «اسكن» يقال لمن أراد منه، الزم المَكَان الذي دخلته، فلا تنفك عنه، ويقال أيضاً لمن لم يدخله: اسكن هذا المكان يعني: ادخله واسكن فيه، فقوله في سورة البقرة: ﴿اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ﴾ إنما ورد بعد أن كان آدم في الجنّة، فكان المُرَادُ منه اللُّبث والاستقرار، وقد بَيَّنَّا أن الأكل لا يتعلّق به، فلهذا ورد بلفظ الواو، وفي سورة «الأعراف» هذا الأمر إنما ورد قبل دخول الجَنّة، فكان المراد منه دخول الجنة، وقد بينا أن الأَكْلَ متعلّق به، فلهذا ورد بلفظ الفاء، والله اعلم.
و «رَغَداً» نعت لمصدر مَحْذوف، وقد تقدم أن مذهب سيبويه في هذا ونحوه أن ينتصب حالاً.
وقيل: هو مصدرٌ في موضع الحال أي: كُلاَ طَيِّبَيْنِ مُهَنَّأَيْنِ.
وقرأ النَّخْعي: وابن وَثّاب: «رَغْداً» بسكون الغَيْنِ، وهي لغة «تميم».
وهذا فيه نظر، بل المنقول أن «فَعْلاً» بسكون العين إذا كانت عينه حَلْقِية لا يجوز فتحها عند البصريين؛ إلاّ أن يسمع فيقتصر عليه، ويكون ذلك على لُغِتِيْن؛ لأن إحداهُما مأخوذة من الأخرى.
وأما الكوفيون فبعض هذا عندهم ذو لُغَتِيْنِ، وبعضه أصله السّكون، ويجوز فتحه قياساً، أما أن «فَعَلاً» المفتوح العين الحَلْقِيها يجوز فيه التسكين، فيجوز في السَّحر: السَّحْر، فهذا لا يجيزه أحد.
و «الرَّغد» الواسع الهنيء؛ قال امرؤ القيس: [الرمل]
٣٩١ - بَيْنَمَا المَرْءُ تَرَاهُ نَاعِمَاً يَأْمَنُ الأَحْدَاثُ في عِيْشٍ رَغْدٍ
ويقال: رَغُدَ عيشهم - بضم الغَيْن وبكسرها - وأرغد القوم: صاروا في رَغَدٍ.
«حَيْثُ شِئْتُمَا» حيث: ظرف مكان، والمشهور بناؤها على الضم لشبهها بالحرف في الافتقار إلى جملة، وكانت حركتها ضمة تشبيهاً ب «قَبْلَ وَبَعْدَ».
ونقل «الكسائي» إعرابها عن «قيس» وفيها لغات: «حَيْث» بتثليث الثاء، و «حَوْث» بتثليثها أيضاً، ونقل: «حَاثَ» بالألف.
552
وهي لازمة الظرفية لا تتصرف، وقد تجر ب «من» كقوله تعالى: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾ [البقرة: ٢٢٢] ﴿مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٢] وهي لازمة للإضافة إلى جملة مطلقاً، ولا تضاف إلى المفرد إلا نادراً؛ قالوا: [الرجز]
٣٩٢ - أَمَا تَرَى حَيْثُ سُهِيْلٍ طَالِعَا... وقال آخر: [الطويل]
٣٩٣ - وَنَطْعَنُهُمْ تَحْتَ الحُبَى بَعْدَ ضَرْبِهِمْ بِبيضِ المَوَاصْي حَيْثُ لَيَّ العَمَائِمِ
وقد تزداد عليها «ما» فتجزم فعلين شرطاً وجزاءً ك «إن»، ولا يجزم بها دون «ما» خلافاً لقوم، وقد تُشْرَبُ معنى التعليل، وزعم الأخفش أنها تكون ظرف زمان، وأنشد: [المديد]
٣٩٤ - لِلْفِتَى عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ حَيْثُ تَهْدِي سَاقَهُ قَدَمُهْ
ولا دليل فيه، لأنها على بابها. والعامل فيها هنا «كُلاَ» أي: كلا أي مكان شئتما «توسعه عليهما.
وأجاز»
أبو البقاءِ «أن تكون بدلاً من» الجنة «قال:» لأنّ الجنة مفعول بهما، فيكون حيث مفعولاً به «وفيه نظر؛ لأنها لا تتصرّف كما تقدّم إلا بالجر ب» من «.
و»
شئتما «الجملة في محلّ خفض بإضافة الظرف إليه. وهل الكسرة التي على لاشين أصل كقولك: جئتما وخفتما، أو محوّلة من فتحة لتدلّ على ذوات الياء نحو: يعتمد؟
قولان مبنيان على وزن شاء ما هو؟ فمذهب المبرد أنه:»
فَعَل «بفتح العين، ومذهب سيبويه» فَعِل «بكسرها، ولا يخفى تصريفهما.
553
قوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ » لا «ناهية و» تَقْرَبَا: مجزوم بها حذفت نونه.
وقرئ: «تِقْرَبَا» بكسر حرف المُضَارعة، و «الألف» فاعل، وتقول: «قَرِبْتُ» الأمر «أَقْرَبَهُ» - بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع أي: التسبب به.
وقال «الجَوْهَرِيّ» «قَرُبَ» - بالضم - «يَقْرُبُ» - «قُرْباً» أي دنا. وَ «قَرْبِتُه» - بالكسر - «قِرْبَاناً» دنوت منه.
وَقَرَبت - أَقْرَبُ - قِرَابَةً - مثل: كَتَبت - أَكْتُبُ - كِتَابَةً - إذا سِرْتَ إلى الماء وبينك وبينه ليلة. وقيل: إذا قيل: لا تَقْرَب - بفتح الرَّاء كان معناه - لا تلتبس بالفِعْلِ، وإذا قيل: لا تَقْرَب - بالضَّم - لا تَدْنُ منه.
و «هذه» مفعول به اسم إشارة للمؤنث، وفيها لُغات: هَذِيِ وَهَذِهِ وهَذِهِ بِكسر الهاء بإشباع [ودونه] «وَهَذِه» بسكونها و «هذِهْ» بكسر الذال فقط، والهاء بدل من الياء لقربها منها في الخفاء.
قال «ابن عطية» ونقل أيضاً عن النَّحاس وليس في الكلام هاء تأنيث مكسور ما قبلها غير «هذه»، وفيه نظر؛ لأن تلك الهاء التي تدلُّ على التأنيث ليست هذه؛ لأن «تيك» بدل من تاء التأنيث في الوقف، وأما هذه الهاء فلا دلالة لها على التأنيث، بل الدَّال عليه مجموع الكلمة كما لا يقال: الياء في «هذي» للتأنيث، وحكمها في القرب والبعد والتوسُّط، ودخول هاء التنبيه وكاف الخطاب حكم «ذا» وقد تقدم.
ويقال فيها أيضاً: «تيكَ» و «تيلك» و «تَالِكَ؛ قال: [الوافر]
٣٩٥ - تَعَلَّمْ أَنَّ بَعْدَ الغَيِّ رُشْدَاً وأَنَّ لِتَالِكَ العُمْرِ انْكِسَاراً
قال هشام: ويقال:»
تَا فَعَلَتْ «؛ وأنشد [الطويل]
٣٩٦ - خَلِيلِيِّ لَوْلاَ سَاكِنُ الدَّارِ لَمْ أقِمْ بِتَا الدَّارِ إِلاَّ عَابِرَ ابْنِ سَبِيلِ
و»
الشجرة «بدل من» هذه «.
وقيل: نعت لها لتأويلها بمشتقِّ، أي: بهذه الحاضرة من الشجر. والمشهور أنَّ اسم الإشارة إذا وقع بعده مشتقّ كان نعتاً له، وإن كان جامداً كان بدلاً منه.
554
و» الشجرة «واحدة» الشجر «: اسم جنس، وهو ما كان على ساقٍ، وله أغصان، وقيل: لا حاجة إلى ذلك لقوله تعالى: ﴿وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ﴾ مع أنها كالزرع والبِطِّيخ، فلم يخرجه ذهابه على وجه الأرض من أن يكون شجراً.
قال المبرد:»
وأحسب كلّ ما تفرعت له عِيدان وأغصان، فالعرب تسميه شجراُ في وقت تشعبه «.
وأصل هذا أنه كلما تشجر، أي: أخذ يَمْنَةٍ ويسره، يقال: رأيت فلاناً قد شجرته الرّماح، قال تعالى: ﴿حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: ٦٥] وتَشَاجَرَ الرجُلاَنِ في أمر كذا.
وقرئ:»
الشَّجَرة «بكسر الشين والجيم، وبإبدالها ياءً مع فتح الشِّين، وكسرها؛ لقربها منها مخرجاً؛ كما أبدلت الجيم منها في قوله: [الرجز]
٣٩٧ - يَارَبِّ لإِنْ كُنْتَ قَبِلْتَ حَجَّتجْ فَلاَ يَزالُ شَاححٌ يَأْتِيكَ بِخْ
يريد: حجّتي وبي.
وقال الراجز أيضاً: [الرجز]
٣٩٨ - خَالِي عُوَيْفٌ وَاَبُو عَلِجْ أَلمُطْعِمَانِ اللَّحْمِ بالعِشِجّ
يريد: أبو عَلِيّ، وبالْعَشِيّ.
وقال الشاعر في»
شيَرَة «: [الطويل]
٣٩٩ - إذَا لَمْ يَكُنْ فِيكُنَّ ظِلٌّ وَلاَ جَنَى فَأَبْعَدَكُنَّ اللهُ مِنْ شِيرَاتِ
وقال أبو عمرو: «إنما يقرأ بها برابر مكة وسودانها، وجمعت»
الشَّجَرَةِ «على» شَجْرَاء «، ولم يأت جمع على هذه الزِّنَةِ إلا قَصَبة وقَصْبَاء، وطَرَفَة وطَرْفَاء، وحَلَفَة وحَلْفَاء.
555
وكان الأصمعي يقول:» حَلِفَة - بكسر اللام «وعند سيبويه أن هذه الألفاظ واحدة وجمع.
و»
المشجرة «: موضع الأشجار، وأرض مشجرة، وهذه الأرض أشجر من هذه أي أكثر شجراً، قاله الجوهري.

فصل في جنس الشجرة المذكورة


اختلف العلماء في هذه الشجرة المنهي عنها، فروي عن بعض العلماء أنه نهى عن جنس من الشجر.
وقال آخرون: إنما نهى عن شَجَرِ بعينه، واختلفوا في تلك الشجرة.
روى السُّدى عن ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وجَعْدَة بن هُبَيْرَةَ هي الكَرْمُ، ولذلك حرمت علينا الخَمْرُ.
وقال ابن عباس أيضاً: وأبو مالك وقتادة، ورواه أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللهُ عَنْه - عن النّبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي السُّنْبُلة، والحَبَّة منها كشكل البقر، أحلى من العَسَلِ، وألين من الزّبد، قاله وهب بن منبّه.
ونقل ابن جريج عن بعض الصحابة أنها التين، وهو مروي أيضاً عن مجاهد وقتادة، ولذلك تعتبر في الرُّؤيا بالندامة لآكلها، ذكره السهيلي.
وروي عن قتادة أيضاً هي شجرة العلم، وفيها من كل شيء.
وقال عَلِيّ: شجرة الكافور.

فصل في الإشعار بأن سكنى آدم لا تدوم.


قال بعض أرباب المعاني في قوله:»
ولا تقربا «إشعار بالوقوع في الخَطِيئَةِ، والخروج من الجنة، وانَّ سُكْنَاهُ فيها لا يدوم، لأن المخلد لا يخطر عليه شيء، والدليل على هذا قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] فدلّ على خروجه منها.
556

فصل في المراد بالنهي عن الكل من الشجرة


هذا النهي نهي تحريم، أو تنزيه؟ فيه خلاف.
557
قال قوم: هذا نهي تَنْزيه؛ لأن هذه الصِّيغة وردت في التنزيه والتحريم، والأصل عدم الاشتراك فلا بُدّ من جعل اللفظ حقيقةً في القَدْرِ المشترك بين القسمين، وما ذلك إلاَّ أن يجعل حقيقة في ترجيح جانب الترك على جانب الفعل، من غير أن يكون فيه دلالة على المنع من الفعل، أو الإطلاق فيه كان ثابتاً بحكم الأصل، عدم الاشتراك فلا بُدّ من جعل اللفظ حقيقةً في القَدْرِ المشترك بين القسمين، وما ذلك إلاَّ أن يجعل حقيقة في ترجيح جانب الترك على جانب الفعل، من غير أن يكون فيه دلالة على المنع من الفعل، أو الإطلاق فيه كان ثابتاً بحكم الأصل، فإن الأصل في المَنَافِع الإباحة، فإذا ضممنا مَدْلَولَ اللفظ إلى هذا الأصل صار المجموع دليلاً على التنزيه، قالوا: وهذا هو الأولى بهذا المَقَام؛ لأنّ على هذا التقدير يرجع حاصل معصية آدم - عليه الصلاة والسَّلام - إلى ترك الأولى، ومعلوم أن كل مذهب أفضى إلى عِصْمَةِ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كان أولى.
وقال آخرون: بل هذا نهي تحريم، واحتجوا عليه بأمور:
أحدها: أن قوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ كقوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٢] وقوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم﴾ [الإسراء: ٣٤] فكما أن هذا للتحريم فكذا الأول.
558
وثانيهما: قوله: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظالمين﴾ أي: إن أكلتما منهما ظلمتما أنفسكما ألا ترى لما أكلا ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ [الأعراف: ٢٣].
وثالثهما: لو كان للتنزيه لما استحقّ آدم بفعله الإخراج من الجنة، ولما وجبت التوبة عليه.
قال ابن الخطيب: الجواب عن الأول: أن النهي وإن كان في الأَصْلِ للتنزيه، لكنه قد يحمل على التحريم بدليل منفصل.
وعن الثاني: أن قوله تعالى: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظالمين﴾ أي: فتظلما أنفسكما بفعل ما الأولى بكما تركه؛ لأنكما إذا فعلتما ذلك أخرجتما من الجنّة التي لا تظمآن فيها، ولا تَضْحَيَان ولا تَجُوعان ولا تَقْرُبَان إلى موضع ليس فيه شيء من هذا.
وعن الثالث: أنا لا نسلم أن الإخراج من الجنّة كان لهذا السبب.

فصل في فحوى الآية


قال قوم قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ يفيد بِفَحْوَاهُ النهي عن الأكل؛ وفيه نظر لأن النهي عن القُربان لا يستلزم النهي عن الأَكْلِ؛ إذ ربما كان الصلاح في ترك قربها مع انه لو حمل إليه لجاز له أكله، بل الظاهر [إنما] يتناول النهي عن القرب.
وأما النهي عن الكل، فإنما عرف بدلائل أخرى وهي قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا﴾ [الأعراف: ٢٢] ولأنه حدث الكلام بالأكل فقال: ﴿وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ فصار ذلك كالدّلاَلَةِ على أنه تعالى نَهَاهُمَا عن أكل ثمرة الشَّجرة، لكن النهي بهذا القول يعم الكل، وسائر الانتفاعات، ولو كان نصّ على الأكل ما كان يعمّ ذلك، ففيه مزيد فائدة.
قوله: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظالمين﴾ فتكونا: فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مجزوماً عطفاً على «تَقْرَبا» ؛ كقوله: [الطويل]
٤٠٠ - فَقُلْتُ لَهُ:
صَوِّبْ وَلاَ تَجْهَدَنَّهُ فِيُدْرِكُ مِنْ أَعْلَى القَطَاةِ فَتَزْلَقِ
والثَّاني: أنه منصوب على جواب النَّهْي لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ﴾ [طه: ٨١] والنصب بإضمار «أن» عند البَصْريين، وبالفَاءِ نفسها عند الجرمي، وبالخلاف عند الكوفيين. وهكذا كل ما يأتي مثل هذا.
و «الظَّالِمِينَ» خبر «كان».
559
و «الظلم» : وضْع الشَّيْ في غَيْرَ موضعه، ومنه قيل للأرض الَّتي لم تستحقَّ الحَفْر، فتحفر: مَظْلُومة، قال النابغة: [البسيط]
٤٠١ - إِلاَّ الأَوَارِيَّ لأْياً مَا أُبَيِّنُهَا وَالنُّؤْيُ كَالحَوْضِ بَالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ
وقيل: سميت مظلومةً؛ لأنَّ المَطَر لم يأتها، قال عَمْرُو بْنُ قَمِيئَةَ: [الكامل]
٤٠٢ - ظَلَمَ البِطَاحَ بِهَا انْهِلاَلُ حَرِيصَةٍ فَصَفَا النِّطافُ بِهَا بُعَيْدَ المُقْلِعِ
وقالوا: «مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ» ؛ قال: [الرجز]
٤٠٣ - بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِيُّ في الكَرَمْ وَمَنْ يُشَابِهُ أَبَهُ فَمَا ظَلَمْ
والمراد من الآية هو أنكما إن أكلتما منها فقد ظلمتما أنفسكما؛ لأن الأكل من الشجرة لا يقتضي ظُلْمَ الغير، وقد يكون ظالماً بأن يظلم نفسه، وبأن يظلم غيره، فظلم النفس اعم وأعظم. والظلم على وجوه:
الأول: ظلم الظَّالم لنفسه بالمعصية كهذه الآية أي: فتكونا من العاصين.
الثاني: الظَّالمون المشركون، قال تعالى: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين﴾ [هود: ١٨] يعني: المشركين.
الثالث: الظلم: الضرر، قال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [النحل: ١١٨]، أي: ما ضررناهم، ولكن كانوا أنفسهم يضرون.
الرابع: الظلم: الجحود، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [الأعراف: ٥١] ومثله: «فَظَلَمُوا بِهَا» أي: فجحدوا بها.
560
المفعول في قوله: «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطََانِ» واجب التقديم، لأنه ضمير متّصل، والفاعل ظاهر، وكل ما كان كذا فهذا حكمه.
وقرأ «حمزة» :«فأَزَالَهُمَا» والقراءتان يحتمل أن تكونا بمعنى واحد، وذلك أن
560
قراءة الجماعة «أزلهما» يجوز أن تكون من «زَلَّ عَنِ المَكَانِ» : إذا تنحى عنه، فتكون من الزوال كقراءة «حمزة»، ويدل عليه قول امرئ القيس: [الطويل]
٤٠٤ - كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ كَمَا زَلَّتْ الصَّفْوَاءُ بِالمُتَنَزِّلِ
وقال أيضاً: [الطويل]
٤٠٥ - يَزِلُّ الغُلاَمُ الخِفُّ عَنْ صَهَوَاتِهِ وِيُلْوِي بِأَثْوَابِ العَنِيفِ المُثَقَّلِ
فرددنا قراءة الجماعة إلى قراءة «حمزة»، أو نرد قراءة «حمزة» إلى قراءة الجماعة بأن نقول: معنى أزالهما: أي صرفهما عن طاعة الله، فأوقعهما في الزِّلةِ؛ لأن إغواءه وإيقاعه لهما في الزِّلة سبب للزوال، ويحتمل أن تفيد كل قراءة معنى مستقلاً، فقراءة الجماعة تؤذن بإيقاعها في الزِّلةِ، فيكون «زلّ» بمعنى: استزلّ، وقراءة: حمزة «تؤذن بتنحيتهما عن مكانهما، ولا بُدَّ من المجاز في كِلْتَا القراءتين، لأن الزَّلَلَ أصله من زلّة القدم، فاستعمل هنا في زلّة الرأي والتنحية لا يقدر عليها الشَّيطان، وإنما يقدر على الوسوسة التي هي سبب التنحية.
و»
عنها «متعلّق بالفعل قبله، ومعنى» عن «هنا السَّببية إن أعدنا الضمير على» الشجرة «أي: أوقعهما في الزِّلة بسبب الشجرة.
قال»
الزَّمخشري «لفظة» عن «في هذه الآية كما في قوله: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف: ٨٢].
ويجوز أن تكون على بابها من المُجاوزة إن عاد الضمير على»
الجنّة «، وهو الأظهر، لتقدّم ذكرها، وتجيء عليه قراءة» حمزة «واضحة، ولا تظهر قراءته كلّ الظُهور على كون الضمير ل» الشجرة «.
قال»
ابن عطيّة «فأما من قرأ» أزالهما «فإنه يعود على» الجنة «فقط.
وقيل: الضَّمير للطاعة، أو للحالة، أو للسماء، وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة السياق عليهما. وهذا بعيد جدَّا.
فإن قيل: إن الله - تعالى - قد أضاف الإزْلاَل إلى»
إبليس «فلم عاتبهما على ذلك الفعل؟
561
والجواب: أن قوله:» فأزلهما «أنهما عند وَسْوَسَتِهِ أتيا بذلك الفعل، وأضيف ذلك إلى» إبليس «كما في قوله: ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً﴾ [نوح: ٦] قال تعالى حاكياً عن إبليس: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي﴾ [إبراهيم: ٢٢]، هذا قول المعتزلة، والتحقيق في هذه الإضافة ما ذكرناه، وهو أن القادر على الفعل والترك مع التَّسَاوي يستحيل أن يكون موجداً لأحد هذين الأمرين إلا عند انضمام الدَّاعي إليه، والدَّاعي في حَقّ العبد عبارة عن علم أو ظن، أو اعتقاد بكون الفعل مشتملاً على مصلحةٍ، فإذا حصل ذلك العلم أو الظن بسبب منبّه نبه عليه كان الفعل مضافاً إلى ذلك المنبّه؛ لأنه هو الفاعل لما لأجله صار الفَاعِلُ بالقوة فاعلاً بالفعل، فهكذا المَعْنَى انضاف - ها هنا - إلى الوسوسة.
فإن قيل: كيف كانت الوَسْوَسَةُ؟
فالجواب: هي التي حكى الله عنها في قوله: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين﴾ [الأعراف: ٢٠] فلم يقبلا ذلك منه، فلما أيس عدل إلى اليمين على ما قال تعالى: ﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ [الأعراف: ٢١] فلم يصدقاه.
والظاهر أنه بعد ذلك عَدَلَ إلى شيء آخر، وهو أنه شغلهما باستيفاء اللاَّت المُبَاحَة حتى صارا مستغرقين فيها، فَحَصَلَ بسبب استغراقهما فيها نِسْيَان النهي، فعند ذلك حصل ما حصل، والله اعلم.

فصل في بيان كيف وسوس إبليس لآدم


اختلفوا في أنه كيف تمكّن إبليس من وَسْوَسَةِ آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع أن إبليس كان خارج الجنّة، وآدم عليه الصَّلاة والسَّلام داخل الجنّة؟ وذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: ما روي عن وهب بن منبّه والسدي عن ابن عباس وغيره: أن إبليس أراد دخول الجنة، فمنعته الخزنة، فأتى الحية بعد ما عرض نفسه على سائر الحيوانات فما قبله واحد من الحيوانات، فابتلعته الحية وأدخلته الجَنَّة خفية من الخَزَنَةِ، فلما دخلت الحَيّة الجنة خرج إبليس من فيها واشتغل بالوَسْوَسَةِ، فلا جرم لعنت الحَيّةِ، وسقطت قوائمها، وصارت تمشي على بطنها، وجعل رزقها في التراب، وصارت عدواً بني آدم، وأمرنا بقتلها في الحِلّ والحَرَمِ.
قال ابن الخطيب: وهذا وأمثاله يجب ألا يلتفت إليه؛ لأن إبليس لو قدر على
562
الدخول في فَمِ الحيّة فلم يقدر على أن يجعل نَفسه حَيّة ثم يدخل الجَنَة؟ ولأن الحية لو فعلت ذلك، فلم عوقبت مع أنها ليست بعاقلة ولا مكلفة؟ وأيضاً فلما خرج من بطنها صارت في الجنة كانت الملائكة والخزنة يرونه.
وثانيها: أن «إبليس» دخل الجَنَّة في صورة دَابّة، وهذا القول أقلّ فساداً من الأول.
وثالثها: قال بعض أَهْلِ الأصول: لعلّ آدم وحَوّاء - عليهما السلام - كانا يخرجان إلى باب الجنة، وإبليس كان بقرب الماء يُوَسْوِسُ لهما.
ورابعها: قال الحسن: كان إبليس في الأرض، وأوصل الوَسْوَسَةَ إليهما في الجنَة.
قال بعضهم: هذا بعيد؛ لأن الوسوسة كلام خفيّ، والكلام الخفيّ لا يمكن إيصاله من الأرض إلى السَّماء.
واختلفوا في أن «إبليس» باشر خطابهما، أو أوصل الوسوسة إليهما على لسان بعض أتباعه.
حجّة الأول: قوله تعالى: ﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ [الأعراف: ٢١] ﴿فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ﴾ [الأعراف: ٢٢]. وحجّة الثاني: أن آدَمَ وحواء - عليهما الصَّلاة والسَّلام - كان يعرفانه، ويعرفان ما عنده من العداوة والحَسَد، فيستحيل في العادة أن يقبلا قوله، فلا بد وأن يكون المباشر للوسوسة بعض أتباع إبليس.
وقد يُجَاب عن هذا بأن إبليس لما خالف أمر ربّه ولعن لعلّه انتقل من تلك الصورة التي يُعْرَفُ بها إلى صورة أخرى، ولعلّ إبليس تشكّل لهما في صورة لا يعرفانها، فإن له قدرة التشكل، والله أعلم.

فصل في بيان أن آدم عصى ربه ناسياً


اختلفوا في صدور ذلك الفعل عن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بعد النبوة، هل فعله ناسياً أو ذاكراً؟
قال طائفة من المتكلَمين: فعله ناسياً، واحتجوا بقوله تعالى: ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ [طه: ١١٥] ومثلوه بالصَّائم إذا أكل ناسياً، وهذا باطل من وجهين:
الأول: قوله تعالى: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ [الأعراف: ٢٠].
وقوله: ﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ [الأعراف: ٢١] يدلّ على أنه ما نسي النهي حال الإقدام.
الثاني: أنه لو كان ناسياً لما عوتب على ذلك الفعل.
أما من حيث العقل فلأن الناسي غير قادر على الفعل فلا يكون مكلفاً به لقوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَ﴾ [البقرة: ٢٨٦].
563
وأما من حيث النقل فلقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «رُفعَ عَنْ أمّتي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ».
وقد يجاب عن الأول بأنا لا نسلّم أن آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - قَبَلاَ من إبليس ذلك الكلام وصَدّقاه؛ لأنهما لو صدقاه لكانت معصيتهما في ذلك التصديق أعظم من أكل الشَّجرة؛ لأن إبليس لما قال لهما: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ [الأعراف: ٢٠] الآية فقد ألقى إليهما سوء الظَّن بالله - تعالى - ودعاهما إلى ترك التَّسْلِيم لأمره، والرضا بحكمه، وان يعتقدوا فيه كون إبليس ناصحاً لهما، وأن الرب - تَعَالَى - قد غضهما ولا شك أن هذه الأشياء أعظم من أكل الشجرة، فوجب أن تكون المُعَاتَبَةِ في ذلك أشد، وأيضاً آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان عالماً بتمرد «إبليس»، وكونه مبغضاً له وحاسداً له، فكيف يجوز من العاقل أن يقبل قول عدوّه مع هذه القرائن، وليس في الآية أنهما أقدما على ذلك الفعل عند ذلك الكلام.
وأما الجواب الثاني: فهو أن العتاب إنما حصل على قلّة التحفُّظ من سباب النسيان، وهذا الضرب من السَّهو موضوع عن المسلمين، وقد كان يجوز أن يؤاخذوا به، وليس بموضوع عن الأنبياء لعظم خَطَرِهِمْ ومثّلوه بقوله: ﴿يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء﴾ [الأحزاب: ٣٢]، ثم قال: ﴿مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ﴾ [الأحزاب: ٣٠].
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَشَدُّ النَّاس بَلاَءً الأنبياءُ ثم الأوْلِيَاءُ ثم الأَمْثَلُ فالأَمْثَلُ»، ولقد كان على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من التَّشْديدات في التَّكليف ما لم يَكُنْ على غيره.
وذكر بعض المفسّرين أن حوّاء سقته الخَمْرَ، فسكر وزفي أثناء السّكر فعل ذلك قالوا وهذا ليس ببعيد؛ عليه الصَّلاة والسَّلام - كان مأذوناً له في تناول كل الأشياء سوى تلك الشجرة، فكان مأذوناً له في تناول الخمر، ولقائل أن يقول: إن خمر الجَنَّة لا يسكر لقوله تعالى في صفة خمر الجنة: ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ [الصافات: ٤٧].
القول الثاني: أن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فعله عامداً؛ فها هنا قولان:
أحدهما: أن ذلك النهي نهي تَنْزِيِهِ، لا نهي تحريم، وقد تقدم.
الثاني: أنه تعمّد وأقدم على الكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه، وذلك لا يقتضي كون الذَّنْبِ كبيرة، وهذا اختيار أكثر المعتزلة.
564
وبيان خطأ الاجتهاد أنه لما قيل له: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ [الأعراف: ١٩] فلفظ «هذه» يشار به إلى الشَّخص، وقد يشار به إلى النوع، كما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - اخذ حريراً وذهباً بيده وقال: «هَذَانِ حَلاَلٌ لإنَاثِ أمّتِي حَرَامٌ على ذُكُرِهَا» وأراد به توعهما، وتوضأ مرة وقال: «هذا وُضُوءٌ لا يقبل الله الصَّلاةَ إلاَّ به» وأراد نوعه، فلما سمع آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قوله: «ولا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ» ظنّ أن النهي إنما يتناول تلك الشجرة المعينة، فتركها وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع، فكان مخطئاً في ذلك الاجتهاد؛ لأن مراد الله - تعالى - النهي عن النوع لا عن الشخص.
والاجتهاد في الفروع إذا كان خطأً لا يوجب استحقاق العقاب لاحتمال كونه صغيرةً مغفورة كما في شرعنا.
فغن قيل: الكلام على هذا القول من وجوه:
أحدها: أن كلمة «هذا» في أصل اللغة للإشارة إلى الشَّيء الحاضر، وهو لا يكون إلا شيئاً معيناً، فإن أشير بها إلى النوع، فذاك على خلاف الأصل، وأيضاً فأنه - تعالى - لا تجوز الإشارة عليه، فوجب ان يكون أمر بعض الملائكة بالإشَارَةِ إلى ذلك الشَّخص، فكان ما عداه خارجاً عن النهي لا مَحَالة، وإذا ثبت هذا فالمجتهد مكلف يحمل اللفظ على حقيقته، فأدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما حمل لفظ «هذه» على المُعَيّن كان قد فعل الواجب، ولا يجوز له حمله على النوع، وهذا متأيد بأمرين:
أحدهما: أن قوله: ﴿وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ [البقرة: ٣٥] أفاد الإذْنَ في تناول كل ما في الجنّة إلا ما خصه الدليل.
والثاني: أن العقل يقتضي حلّ الانتفاع بجميع المَنَافِع إلاَّ ما خصّه الدليل، والدليل المخصص لم يدلّ على ذلك المعيّن، وإذا ثبت هذا امتنع أن يستحقّ بسبب تناول غيره وغن كان من ذلك النوع المنهي عنه عتاباً، فوجب على هذا أن يكون مصيباً لا مخطئاً.
الاعتراض الثاني: هب أن لفظة «هذه» مترددة بين الشخص والنوع، ولكن هل قرن الله بهذا اللَّفْظ ما يدلّ على أن المراد منه النوع دون الشخص أو لا؟
فإن قرن به، فإما أن يقال: إن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قصر في معرفة ذلك البيان، فحينئذ يكون قد أتى بالذَّنب وإن لم يقصر بل عرفه، فحينئذ يكون إِقْدَامه على التَّناول من شَجَرَة من ذلك النوع إقداماً على الذنب قصداً.
الاعتراض الثالث: أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لا يجوز لهم الاجْتِهَادُ؛ لأن الاجتهاد إقدام على العمل بالظنّ وذلك إنما يجوز في حَقّ من لا يتمكن من تحصيل العلم، أمّا الأنبياء فإنهم قادرون على تَحْصِيلِ اليقين، فوجب ألا يجوز لهم الاجتهاد؛ لأن الاكتفاء بالظن مع القدرة على تحصيل اليقين غير جائز عقلاً وشرعاً، وذا ثبت ذلك ثبت أن افقدام على الاجتهاد معصية.
565
الاعتراض الرابع: هذه المسألة إما أن تكون من المَسَائل القَطْعِية او الظنية، فإن كانت من القطيعات كان الخطأ فيها كبيراً، وحينئذ يعود الإشكال، وإن كانت من الظَّنيات فإن قلنا: إن كل مجتهد مصيب فلا يتحقّق الخطأ فيها أصلاً.
وإن قلنا: المصيب فيها واحد، والمخطيء فيها معذور بالاتفاق، فكيف صار هذا القدر من الخطأ سبباً لإخراج آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - من الجنة؟
والجواب عن الأوّل: أن لفظة «هذا» وإن كان في الأصل إشارة إلى الشَّخص، لكنه قد يستعمل في الإشارة إلى النوع كما تقدم بيانه.
والجواب عن الثاني: أن الله - سبحانه وتعالى - كان قد قرن به ما دلّ على أنّ المراد هو النوع، لكن لعلّ آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قصر في معرفة ذلك الدَّليل؛ لأنه ظنّ أنه لا يلزمه ذلك في الحال.
أو يقال: إنه عرف ذلك الدليل في وقت ما نهاه الله - تعالى - عن عين الشَّجرة، فلما طالت المدة غفل عنه، لأن في الخبر أن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بقي في الجَنّة الدهر الطويل، ثم اخرج.
والجواب عن الثالث: أنه لا حاجة ها هنا إلى إثبات أن الأنبياء تمسَّكوا بالاجتهاد، فإنَّا بيَّنَّا أن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قصّر في معرفة تلك الدّلالة، وإن كان قد عرفها، لكنه قد نسيها، وهو المراد من قوله تعالى: ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ [طه: ١١٥].
والجواب عن الرَّابع: يمكن أن يقال [كانت] الدلالة قطيعة [إلا أنه]- عليه الصَّلاة والسَّلام - لما نسيها صار النِّسْيان عذراً في ألاّ يصير الذنب كبيراً، أو يقال: كانت ظنيةً إلاَّ أنه ترتَّب عليه من التَّشديدات ما لم يترتّب على خطأ سائر المجتهدين؛ لأن ذلك يجوز أن يختلف باختلاف الأشخاص، وكما أن الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - مخصوص بأمور كثيرة في باب التَّشديدات بما لا يثبت في حق المة فكذا ها هنا.
واعلم أنه يمكن أن يقال في المسألة وجه آخر، وهو أنه - تعالى - لما قال: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ [الأعراف: ١٩] فهم آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - من هذا النهي أنهما إنما نُهِيَا حال اجتماعهما؛ لأن قوله: «وَلاَ تَقْرَبَا» نهي لهما عن الجمع، ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الاجتماع حال الانفراد، فلعل الخطأ في الاجتهاد إنما وقع من هذا الوجه.
قوله: ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾
566
«الفاء» - هنا - فاء السببية.
وقال المَهْدَويّ: إذا جعل «فأزلهما» بمعنى زلَّ عن المضكَان كان قوله: ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ توكيداً، إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر، وزهذا الذي قال المَهْدَوِيّ أشبه شيء بالتأسيس لا التأكيد، لإفادته معنى جديداً.
قال «ابن عطية» : وهنا محذوف يدلّ عليه الظاهر تقديره: فأكلا من الشَّجرة، يعني بذلك أن المحذوف [يقدر] قبل قوله: «فَأَزَلَّهُمَا».
و «مَمَّا كَانَا» متعلّق ب «اخرج»، و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، وأن تكون نكرة موصوفة، أي: من المكان أو النعيم الَّذِي كانا فيه، أو من مكان، أو نعيم كانا فيه، فالجملة من «كان» واسمها وخبرها لا مضحَلّ لها على الأوّل ومحلّها الجَرّ على الثاني، و «من» لابتداء الغابة.

فصل في قصة الإغواء


روي عن ابن عبّاس، وقتادة قال الله تعالى لآدم: أَلَمْ يك فيما أبحتك الجَنّة مَنْدُوحَة عن الشَّجَرة، قال: بلى يا رَبّ وعزّتك، ولكن ما ظننت أن احداً يحلف بك كاذباً قال: فبعزّتي لأهبطنّك إلى الأرض، ثم لا تَنَالُ العيش إلا كدّاً، فأهبطا من الجنة، فكانا يأكلان فيها رغداً فعلم [صنعة] الحديد، وامر بالحَرْثِ فحرث وزرع وسقى، حتى إذا بلغ حصد، ثم دَاسَهُ، ثم ذَرَاه، ثم طحنه، ثم خبزه، ثم أكله، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله تعالى. ويروي أن «إبليس» أخذ من الشجرة التي نهى آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - عنها فجاء بها إلى حَوّاء فقال: انظري إلى هذه الشَّجرة ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لَوْنَهَا، فلم يزل يغويها حتى أخذتها فأكلتها وقالت لآدم: كُلْ فإني قد أكلت فلم تضرني، فأكل منها فبدت لهما سَوْآتهما، [وبقيا] عرايا، فطلبا ما يستتران به، فتباعدت الأشجار عنهما، وبكّتوه بالمعصية، فرحمته شجرة التين، فأخذ من وَرقها، فاسْتَتَرُوا به فَبُلِيَ بالعُرْيِ دون الشجر.
567
وقيل لحواء: كما أدميت الشجرة، فذلك يصيبك الدّم كلّ شهر، وتََحْمِلين وتَضَعِيِن كرهاً، وتُشْرفين [به] على المضوْتِ، وزاد الطبري والنَّقاش، وتكونين سفيهةً وقد كنت حليمةً [ولعنت] الحية وردّت قوائمها في جَوْفِهَا، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم، ولذلك أمرنا بِقِتْلِهَا.
قوله: ﴿اهبطوا﴾ جملة أمرية في محلّ نصب بالقول قبلها، وحذفت الألف من «اهبِطُوا» في اللفظ؛ لأنها ألف وصل، وحذفت الألف من «قلنا» في اللفظ؛ لسكونها وسكون الهاء بعدها.
وقرئ: «اهْبُطُوا» بضم الباء، وهو كثير في غير المتعدّي.
وأما الماضي ف «هَبَطَ» بالفتح فقط، وجاء في مضارعه اللّغتان، والمصدر «الهبوط» بالضم، وهو النزول.
وقيل: الانتقال مطلقاً.
وقال المفضل: الهبوط: الخروج من البلد، وهو - أيضاً - الدخول.
وفيه نظر: لأن «إبليس» حين أَبَى عن السُّجود أخرج من الجنة لقوله تعالى: ﴿فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾ [الأعراف: ١٣] وقوله: ﴿فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ [الحجر: ٣٤] وزلة آدم وحَوّاء إنما وقعت بعد ذلك بمدّة طوسلة، فكيف يكون متناولاً له فيها وهو من الأضداد؟
والضمير في «اهبطوا» الظاهر أنه لجماعة، فقيل: لآدم وحواء والحيّة وإبليس.
568
وقيل: لهما وللحيّة. وفيه بعد؛ لأنّ المكلفين بالإجماع هم المَلاَئكة والجنّ والإنس.
وقيل: لهما وللوسوسة. وفيه بعد.
وقيل: لبني آدم وبني إبْلِيِسَ، وهذا وإن كان نقل عن «مُجَاهد والحَسَن» لا ينبغي أن يقال؛ لأنهما لم يولد لهما في الجنة بالاتفاق. وقال الزَّمَخْشَرِيّ: إنه يعود لآدم وحواء، والمراد هما وذرّيتهما؛ لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعّبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم، ويدلّ عليه: ﴿قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً﴾ [طه: ١٢٣]. وهذا ضعيف؛ لأن الذّرية ما كانوا موجودين في ذلك الوَقْتِ، فكيف يتناولهم الخطاب؟ أما من زعم ان أقل الجمع اثنان، فلا يرد عليه شيء من هذا.
قوله: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ هذه جملة من مبتدأ وخبر، وفيها قولان:
أصحهما: أنها في محل نصب على الحال، أي اهبطوا متعادين.
والثاني: أنها لا محل لها؛ لأنها استئناف إخبار بالعداوة.
وأفرد لفظ «عدو» وإن كان المراد به جمعاً لأحد وجهين:
إما اعتباراً بلفظة «بعض» فإنه مفرد، وإمّا لأن «عدوَّا» أشبه بالمَصادر في الوزن ك «القَبُول» ونحوه.
وقد صرح «أبو البقاء» بأن بعضهم جعل «عدوّا» مصدراً، قال: وقيل: «عدو» مصدر ك «القبول والولوع»، فلذلك لم يجمع.
وعبارة «مكي» قريبة من هذا. فإنه قال: وإنما وحد وقبله جمع؛ لأنه بمعنى المصدر، تقديره: «ذوي عداوة» ونحوه: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي﴾ [الشعراء: ٧٧] و ﴿هُمُ العدو فاحذرهم﴾ [المنافقون: ٤].
واشتقاق العدو من «عدا» - «يعدو» : إذا ظلم.
وقيل: من «عَدَا» - «يَعْدُو» : إذا جاوز الحق، وهما متقاربان.
وقيل: من عَدْوَتَي الجبل، وهما طَرَفَاه، فاعتبروا بعد ما بينهما.
ويقال: عدْوَة، وقد يجمع على «اعداء».
فأما حصول العداوة بين آدم ولإبليس فلقوله تعالى: ﴿ياآدم إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ﴾ [طه: ١١٧]، وقوله: ﴿إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً﴾ [فاطر: ٦].
569
وأما عداوة الحَيّة فلما نقله أهل التفسير من إدخاله إبليس في فِيِها، وقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اقتلوا الحَيَّات صَغِيرَهَا وكَبِيرَهَا وأَبْيَضَهَا وأَسْوَدَهَا، فإن من قتلها كانت له فِدَاءً من النار ومن قَتَلَتْهُ كان شهيداً».
وما كان من الحيات في البيوت فلا يُقْتَل حتى يؤذن ثلاثة أيام؛ لقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن بالمَدِينَةِ جِنَّا قد أسلموا، فإذا رَأَيْتُمْ منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بَدَا لكم بعد ذلك فَاقْتُلُوه فإنما هو شَيْطَان».
وفي رواية: «إنَّ لهذه البيوت عَوَامِرَ فإذا رَأَيْتُمْ شيئاً منها فَحَرَّجُوا عليها ثلاثاً، فإن ذهب وإلا فَاقْتُلُوهُ فإنه كافر».
وصفة الإنذار أن يقول: أنذرتكم بالعَهْدِ الذي أخذه عليكم سليمان - عليه الصَّلاة والسَّلام - أن تخرجوا.
واما كون الجنّ حيات فلقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «الجنّ على ثَلاَثَةِ أثْلاثِ فثُلُثٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يِطِيرُونَ في الهَوَاءِ، وثُلث حَيَّت وكِلاَب، وثُلُث يَحلُّونَ وَيَظْعَنُونَ».
واللاَّم في «لِبَعْضٍ» متعلقة ب «عدو»، فلما قدم عليه انتصب حالاً، فتتعلق اللام حينئذٍ بمحذوف، وهذه الجملة الحالية لا حاجة إلى ادّعاء حذف «واو» الحال منها؛ لأن الرَّبْطَ حصل بالضمير، وإن كان الكثر في الجمل الاسمية الواقعة حالاً أن تقترن بالواو.
و «البعض» في الأصل مصدر بَعضَ الشيء يَبْغَضُهُ، إذا قطعه فأطلق على القطعة من النَّاس؛ لأنها قطعة منه، وهو مقابل «كلاًّ»، وحكمه حكمه في لزوم الإضَافَةِ معنى، وأنه
570
معرفة بنيّة الإضافة فلا تدخل عليه «أل» وينتصب عنه الحال؛ تقول: «مررت ببعض جالساً» وله لفظ ومعنى، وقد تقدم تقرير ذلك.
تنبيه
من قال: إن جنّة آدم كانت في السماء فسّر الهبوط بالنزول من العُلُو إلى أسفل، ومن قال: إنها كانت في الأرض فسره بالتحوّل من مكان إلى آخر كقوله: ﴿اهبطوا مِصْراً﴾ [البقرة: ٦١].
هذه الجملة يجوز فيها الوجهان المتقدّمان في الجملة قبلها من الحالية، والاستئناف كأنه قيل: اهبطوا مثَُعَادين، ومستحقين الاستقرار.
و «لكم» خبر مقدم. و «في الأرض» متعلّق بما تعلّق به الخبر من الاستقرار.
وتعلقه به على وجهين:
أحدهما: أنه حال.
والثاني: أنه غير حال، بل كسائر الظروف، ويجوز أن يكون «في الأرض» هو الخبر، و «لكم» متعلّق بما يتعلّق به هو من الاستقرار، لكن على أنه غير حال؛ لئلا يلزم تقديم الحال على عاملها المعنوي، على أن بعض النحويين أجاز ذلك إذا كانت الحال نفسها ظرفاً، أو حرف كهذه الآية، فيكون في «لكم» أيضاً الوجهان، قال بعضهم: ولا يجوز أن يكون «في الأَرْض» متعلّقاً ب «مستقر»، سواء جعل مكاناً أو مصدراً؛ اما كونه مكاناً فلأن أسماء الأمكنة لا تعمل، وأما كونه مصدراً فلأن المَصْدَرَ الموصول لا يجوز تقديم معمول عليه.
ولقائل ان يقول: هو متعلّق به على أنه مصدر، لكنه غير مؤول بحرف مَصْدَرِيّ، بل بمنزلة المصدر في قولهم: «لَهُ ذَكَاءُ الحُكَمَاءِ» وقد اعتذر صاحب هذا القَوْلِ بهذا العذر نفسه في موضع آخر مثل هذا. و «إلى حِينَ» الظَّاهر أنه متعلّق ب «متاع»، وأن المسألة من باب الإعمال؛ لأن كل واحد من قوله: «مستقر ومَتَاع» يطلب قوله: «إلى حِين» من جهة المعنى. وجاء الإعمال هُنضا على مختار البَصْريين، وهو إعمال الثَّاني وإهمال الأول، فلذلك حذف منه، والتقدير: ولكم في الأرض مستقرّ إليه، ومتاع إلى حين، ولو جاء على إعمال الأول لأضمر في الثاني.
فإن قيل: من شرط الإعمال أن يصحّ تسلّط كل من العاملين على المعمول، و «مستقر» لا يصحّ تسلّطه عليه لئلاّ يلزم الفصل بين المَصْدَر ومعموله، والمصدر بتقدير الموصول.
فالجواب: أن المحذور في المصدر الذي يُرَاد به الحدث، وهذا لم يرد به حَدَث،
571
فلا يؤول بموصول، وأيضاً فإنّ الظرف وشبهه فيه رَوَائِح الفعل حتى الأعلام؛ كقوله: [الرجز]
٤٠٦ - أَنَا ابْنُ مَاوِيَّةَ إذْ جَدَّ النَّقُرْ... و «مستقر» يجوز ان يكون اسم مكان، وأن يكون اسم مصدر، «مستفعل» من القَرَار، وهو اللَّبْثُ؛ ولذلك سميت الأرض قراراً؛ قال: [الكامل]
٤٠٧ -.................................. فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارِةِ كَالدِّرْهَمِ
ويقال: استقر وَقَرَّ بمعنى واحد.
قال قوم: «المُسْتَقَرّ» : حالتا الحياة والموت، وروى السّدي عن ابن عباس أن المُسْتَقَرّ هو القبر، والأول أولى؛ لأنه - تعالى - قرن به المَتَاع من الأكل والشرب وغيره، وذلك لا يليق إلا بِحَالِ الحَيَاة؛ ولأنه خاطبهم بذلك عند الإهباط، وذلك يقتضي الحياة والمَتَاع.:
واختار أبو البَقَاء أن يكون «إلى حين» في مَحَلّ رفع صفة ل «متاع».
و «المتاع» : البُلْغَة مأخوذة من متع النهار، أي: ارتفع.
وقال أبو العباس المقرئ: و «المتاع» على ثلاثة أوجه:
الأول: بمعنى «العيش» كهذه الآية.
الثاني: بمعنى: «المَنْفَعَة» قال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ﴾ [المائدة: ٩٦] أي: منفعة لكم ولأنعامكم.
الثالث: بمعنى «قليل» قال تعالى: ﴿وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ﴾ [الرعد: ٢٦] أي: قليل.
و «الحين» : القطعة من الزمان طويلةً كانت او قصيرةً، وهذا هو المشهور.
وقيل: الوقت البعيد ويقال: عاملته مُحَايَنَةً، من الحِينِ، وَأَحْنَيْتُ بِالمَكَانِ: إِذا أقمت بهِ حيناً. وحان حين كذا، أي: قرب؛ قالت بُثَيْنَةُ: [الطويل]
٤٠٨ - وإِنَّ سُلوِّي عَنْ جَمِيلٍ لسَاعَةٌ مِنَ الدَّهْرِ مَا حَانَتْ وَلاَ حَانَ حِينُها
وقال بعضهم: تزاد عيه التاء فيقال: «تَحِينَ قُمْتَ»، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله
572
تعالى، وأنشد على زيادة التاء قوله: [الكامل]
٤٠٩ - أَلعَاطِفُونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ والمُطْعِمُونَ زَمَانَ أَيْنَ المُطْعِمُ

فصل في المراد بالحين


واختلفوا في «الحِيْنِ» على أقوال فقالت فرقة: إلى الموت.
وقيل: إلى قيام السَّاعة، فالأوّل قول من يقول: المستقرّ هو البَقَاء في الدُّنيا.
والثَّاني قول من يقول: المستقر هو في القبور.
وقيل: الحين: الأَجَلْ، والحين، المدّة، قال تعالى: ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ﴾ [الإنسان: ١].
والحين: الساعة، قال تعالى: ﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب﴾ [الزمر: ٥٨] والحِينُ ستة أشهر، قال تعالى: ﴿تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾ [إبراهيم: ٢٥]
وقيل: الحين: اسم كالوقت يصح لجميع الأزمان كلّها طالت أم قصرت.

فصل في هبوط آدم ومن معه


يروي أن آدم أهبط ب «سرنديب في الهند» بجبل يقال له «نود»، ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها، وأوديتها، فامتلأ ما هنالك طيباً، فمن ثم يؤتى بالطّيب من ريح آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وكان السَّحَاب بمسح رَأْسَهُ فأصلع، فأورث ولده الصلع.
روى البُخَارِي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «خَلَقَ اللهُ آدَمَ وطولِهِ سِتُّونَ ذِراعاً».
وأهبطت حواء ب «جدّة» وإبليس ب «الأبلة» و «الأبلة» موضع من «البصرة» على أميال، والحية ب «بيسان».
573
وقيل: ب «سجستان»، وقيل: ب «أصفهان»، ولولا أن العِرْبدِّ يأكلها ويغني كثيراً منها لخلت «سجستان» من أجل الحيات. [ذكره أبو الحسن المسعودي].
574
الفاء في قوله: «فتلقى» عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها، و «تلقى» «تفعل» من اللِّقاء بمعنى المجرد.
وله معانٍ أخر: مطاوعة «فعل» نحو: «كسرته فتكسر».
والتكلّف نحو «تحلّم.
والصيرورة: تَأَلَّمْ.
واتخاذُ: نحو: تَبَنَّيْتُ الصبي، أي: اتخذته ابناً.
ومُواصَلَةِ العمل في مُهْلَة نحو، تجرّع وتفهم.
ومُوافقة استفعل نحو: تكبر.
والتوقُّع نحو: تخوّف.
والطَّلب نحو: تنجزّ حاجته.
والتكثير نحو: تغطَّيت بالثياب.
والتلبُّس بالمُسَمَّى المُشْتَقْ منه نحو: تقمّص، أو العمل فيه نحو: تسخّر.
والختل: نحو: تغفلته.
وزعم بعضهم أن أصل»
تَلَّقَّى «:» تَلَقَّنَ «بالنون فأبدلت النون الفاً، وهذا غلط؛ لأن ذلك إنما ورد في المضعّف نحو» قَصَصْتَ «و» تَظَنَّنْتُ «، و» أمْلَلْتُ «فأحد الحرفين إنما يقلب ياء إذا تجانسا.
قال القَفَّال: أصل التلقّي هو التعرُّض للقاء، ثم وضع في موضع الاستقبال للمتلقِّي، ثم يوضع القبول والأخذ، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ [النمل: ٦] ويقال: خرجنا نتلقى [الحاجَّ]، أي: نستقبلهم، وكان - عليه الصَّلاة والسَّلام - يتلقَّى الوحي، أي: يستقبله ويأخذه.
وإذا كان هذا أصل الكلمة، وكان من تلقى رجلاً فتلاقيا لقي كل واحد صاحبه، فأضيف الاجتماع إليهما معاً صلح أن يشتركا في الوَصْفِ بذلك، تلقَّى آدمَ
574
بالنَّصب على معنى جاءته عن الله - تعالى - كلمات، و» من ربه «متعلّق ب» تلقى «، و» من «لابتداء الغاية مجازاً.
وأجاز أبو البَقَاءَ أن يكون في الأصل صفة ل»
كلمات «فلما قدم انتصب حالاً، فتصبح نسبة الفعل إلى كلّ واحد.
وقيل: لما كانت الكلمات سبباً في توبته جعلت فاعلة، ولم يؤنث أنَ مَنْ تلقَّاك فقد تلقيته، فتصبح نسبة الفعل إلى كلّ واحد.
وقيل: لما كانت الكلمات سبباً في توبته جعلت فاعلة، ولم يؤنث الفعل على هذه القراءة وإن كان الفاعل مؤنثاً؛ لأنه غير حقيقي، وللفصل أيضاً، وهذا سبيل كل فعلٍ فصل بينه وبين فاعله المؤنثّ بشيء، أو كان الفاعل مؤنثاً مجازياً.

فصل في الكلمات التي دعا بها آدم ربه


اختلفوا في تلك الكلمات ما هي؟
فروى»
سعيد بن جبير «رضي الله أن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال: يا ربّ ألم تخلقني بِيَدِكَ بلا وَاسِطَةٍ؟ قال: بلى، قال: يا رب أَلَمْ تنفخ فِيَّ من رُوحِكَ؟ قال: بلى. قال: ألم تُسْكِني جنتك؟ قال: بلى. قال: يا ربّ ألم تسبق رحمتك غَضَبَكَ؟ قال: بلى. قال يا رب إن تُبْتُ وأصلحت تردّني إلى الجنة؟ قال: بلى. فهو قوله: ﴿فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾.
وزاد السّدى فيه: يا ربّ هل كنت كتبت علي ذنباً؟ قال: نعم.
وقال النَّخعي: أتيت ابن عباس فقلت: ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال: علّم الله آدم أمر الحجّ فحجا، وهي الكلمات التي تقال في الحجّ، فلما فرغا الحجّ أوحى الله - تعالى - إليهما قبلت توبتكما.
وروي عن ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، والضحاك، ومجاهد، وقتادة في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾ [الأعراف: ٢٣]،
575
وعن مجاهد أيضاً: «سبحانك اللهم لا إله إلاَّ أنت ظلمتني فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم».
وقالت طائفة: رأي مكتوباً على ساق العرش: محمد رسول الله، فشفّع بذلك.
وعن ابن عباس، ووهب بن منبّه أن الكلمات سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت علمت سوءاً، وظلمت نفسي [فاغفر لي إنك خير الغافرين، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءاً، وظلمت نفسي] فتب عليّ إنك أنت التَّوَّاب الرحيم «.
قالت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها: لما أراد الله أن يتوبَ على آدم، وطاف بالبيت سبعاً - والبيت حينئذ ربوة حمراء - فلما صلّى ركعتين استقبل البيت، وقال:»
اللهم إنك تعلم سرِّي وعلانيتي، فأقبل مَعْذِرَتِي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي، اللهُمّ إني أسألك إيماناً يُبَاشِرُ قلبي، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلاَّ ما كتبت لي ورضِّني بما قسمت لي «فأوحى الله - تعالى - إلىَ آدم يا آدم قد غفرت لك ذنوبك، ولن يأتي أحد من ذريّتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني إلاَّ غفرت ذنبه، وكشفت هُمُومه وغمومه، ونزعت الفَقْرَ من عينيه، وجاءته الدُّنيا وهو لا يريدها».
قوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ عطف على ما قبله، ولا بُدَّ من تقدير جملة قبلها أي: فقالها. و «الكلمات» جمع «كلمة» وهي: اللَّفظ الدَّالُ على معنى مفرد، وتطلق على الجمل
576
المفيدة مجازاً تسمية للكلّ باسم الجزء كقوله تعالى: ﴿إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ﴾ [آل عمران: ٦٤] ثم فسرها بقوله: ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ﴾ [آل عمران: ٦٤] إلى آخر الآية، وقال: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ﴾ [المؤمنون: ١٠٠] يريد قوله: ﴿رَبِّ ارجعون﴾ [المؤمنون: ٩٩] إلى آخره، وقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَصْدَقُ كلمةٍ قالها شَاعِرٌ كلمة لَبِيِد» وهو قوله: [الطويل]
٤١٠ - أَلاَ كُلَّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ وَكُلَُ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ
فسمى هذا البيت كلمةً، والتوبة: الرجوع، ومعنى وصف الله - تعالى - بذلك أنه عبارةٌ عن العَطْفِ على عباده، وإنقاذهم من العذاب.
وقيل: قبول توبته.
وقيل: خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسمى، وآخر الطَّاعات على جَوَارحه، ووصف عن العَطْفِ على عباده، وإنقاذهم من العذاب.
وقيل: قبول توبته.
وقيل: خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسمى، وآخر الطَّاعات على جَوَارِحِه، ووصف العَبْدِ بها ظاهر؛ لأنه يرجع عن المعصية إلى الطاعة.
و «التواب الرحيم» صفتا مُبَالغة، ولا يختصَّان بالباري تعالى.
قال تعالى: ﴿يُحِبُّ التوابين﴾ [البقرة: ٢٢٢]، ولا يطلق عليه «تائب»، وإن صرح بفعله مسند إليه تعالى. وقدم «التواب» على «الرحيم» لمناسبة «فتاب عليه»، ولأنه مناسب لختم الفواصل بالرحيم.
وقوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم﴾ نظير قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم﴾ [البقرة: ٣٢].
وأدغم أبو عمرو هاء «إنَّه» في هاء «هُوَ»، واعترض على هذا بأنّ بين المثلين ما يمنع من الإدغام وهو «الواو» ؛ واجيب: بأن «الواو» وُصْلَةٌ زائدةٌ لا يعتدّ بها؛ بدليل سقوطها في قوله: [الوافر]
577
وقوله: [البسيط]
٤١١ - لَهُ زَجلٌ كأَنَّهُ صَوْتُ حَادٍ إذَا طَلَبَ الوَسِيقَةَ أَوْ زِميرُ
٤١٢ - أوْ مُعْبَرُ الظَّهْرِ يُبْنِي عَنْ وَلِيَّتِهِ مَا حَجَّ رَبَّهُ في الدُّنْيَا وَلاَ اعْتَمَرَا
والمشهور قراءة «إنه» بكسر «إن»، وقرئ بفتحها على تقدير لام العلّة، وقرأ الأعمش: «آدَم مِّنْ رَبِّهِ» مدغماً.

فصل في نظم الآية


قوله: «فتاب عليه» أي: قبل توبته، أو وفقه للتوبة، وكان ذلك في يوم عاشوراء في يوم الجُمُعَة.
فإن قيل: لم قال «عليه» ولم يقل: «عليهما»، وحواء مُشَاركة له في الذنب.
فالجواب: انها كانت تبعاً له كما طوى حكم النِّسَاء في القرآن والسُّنة.
وقيل: لأنه خصّه بالذكر في أوّل القصّة بقوله: ﴿اسكن﴾ [البقرة: ٣٥]، فكذلك خصّه بالذكر في التلقّي.
وقيل: لأن المرأة حرمة ومستورةٌ، فأراد الله السّتر بها، ولذلك لم يذكرها في القصّة في قوله: ﴿وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى﴾ [طه: ١٢١].
578
كرر قوله: «قلنا: اهبطوا» ؛ لأن الهبوطين مختلفان باعتبار تعلّقهما، فالهبوط الأوّل علّق به العداوة، والثاني علّق به إتيان الهدى.
وقيل: لأن الهبوط الأول من الجنّة إلى السماء، والثاني من السماء إلى الأرض. واستبعده بعضهم لوجهين:
الأول: لقوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ﴾ [البقرة: ٣٦] وذكر هذا في الهبوط الثَّاني
578
أولى. وهذا ضعيف؛ لأنه يجوز أن يراد: ولكم في الأرض مستقرّ بعد ذلك.
وثانيهما: أنه قال في الهُبُوط الثَّاني: «اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً»، والضمير في «منها» عائد إلى «الجنّة» وذلك يقتضي كون الهُبُوط الثاني من الجنّة.
قال «ابن عطية» وحكى «النَّقَّاش» أن الهبوط الثَّاني إنما هو من الجنّة إلى السّماء، والأولى في ترتيب الآية إنما هو إلى الأرض، وهو الآخر في الوقوع.
وقيل: كرّر على سبيل التاكيد نحو قولك: «قم قم».
والضَّمير في «منها» يعود على الجنّة، أو السَّماء.
قال «ابن الخطيب» : وعندي فيه وجه ثَالثٌ، وهو أن آدم لما أتيا بالزِّلَّة أمرا بالهبوط، فتابا بعد الأمر بالهبوط، فأعاد الله الأمر بالهبوط مَرّةً ثانيةً ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزِّلَّة حتى يزول بزوالها، بل الأمر بالهبوط باق بعد التوبة؛ لأن الأمر به كان تحقيقاً للوَعْدِ المتقدّم في قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠].
قوله: «جميعاً» حال من فاعل «اهْبِطُوا» أي: مجتمعين: إما في زمان واحدٍ، أو في أزمنة متفرقة؛ لأن المُرَاد الاشتراك في أصل الفعل، وهذا هو الفرق بين «جاءوا جميعاً»، و «جاءوا معاً»، فإن قوك: «معاً» يستلزم مجيئهم جميعاً في زمن واحد، لما دلّت عليه «مع» من الاصْطِحَاب بخلاف «جميعاً» فإنها لا تفيد إلا أنه لم يتخلّف أحد منهم عن المجيء من غير تعرُّض لاتحاد الزمان.
و «جميع» في الأَصْلِ من ألفاظ التَّوكيد، نحو: «كل»، وبعضهم عدها معها.
وقال: «ابن عطية» : و «جميعاً» حال من الضمير في «اهبطوا»، وليس بمصدر ولا اسم فاعل، ولكنه عوض منهما دالّ عليهما، كأنه قال: هبوطاً جميعاً أو هابطين جميعاً، كأنه يعني ان الحال في الحقيقة محذوف، وأن «جميعاً» تأكيد له، إلاَّ أن تقديره بالمصدر ينفي جعله حالاً إلا بتأويل لا حَاجَةَ إليه.
579
وقال بعضهم: التَّقْدِير: قلنا: اهبطوا مجتمعين، فهبطوا جميعاً، فحذف الحال من الأول لدلالة الثَّني عليه، وحذف العامل من الثاني لدلالة الول عليه، وهذا تكلّف لم تدع إليه الضرورة.
قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ﴾ الفاء مرتبة معقبة. و «إمّا» أصلها: أن الشرطية زيدت عليها «ما» تأكيداً، و «يأتينكم» في مَحَلّ جزم بالشَّرْط؛ لأنه بني لاتصاله بنون التوكيد.
وقيل: بل هو معرب مطلقاً.
وقيل: مبني مطلقاً.
والصّحيح: التفصيل: إن باشرته كهذه الآية بني، وإلا أعرب، نحو: هل يَقُومَانِ؟ وبني على الفَتْحِ طلباً للخفّة، وقيل: بل بني على السُّكون، وحرك بالفتح لالتقاء السَّاكنين.
وذهل الزجاج والمبرد إلى أن الفعل الواقع بعد «إن» الشَّرطية المؤكِّدة ب «ما» يجب تأكيده بالنون، قالا: ولذلك لم يأت التَّنْزيل إلاّ عليه، وذهب سيبويه إلى أنَّه جائز لا واجب؛ لكثرة ما جاء به منه في الشعر غير مؤكَّد، فكثرة مجيئه غير مؤكَّد يدلُّ على عدو الوجوب؛ فمن ذلك قوله: [الطويل]
٤١٣ - فَإِمَّا تَرَيْنِني كَابْنِةِ الرَّمْلِ ضَاحِياً عَلَى رِقَّةٍ أخْفَىَ وَلاَ أَتَنَعَّلُ
وقولُ الآخر: [البسيط]
٤١٤ - يَا صَاحِ إمَّا تَجِدْنِي غَيْرَ دِي جِدةٍ فَمَا التَّخَلِّي عَنِ الخُلاَّنِ مِنْ شِيَمِي
وقول الآخر: [المتقارب]
٤١٥ - فَإِمَّا تَرَيْنِي وَلِي لِمَّةٌ فَإنَّ الحَوادِثَ أوْدَى بِهَا
وقول الآخر: [الكامل]
580
وقال المهدوي: «إما» هي «إن» التي للشرط زيدت عليها «ما» ليصحّ دخول «النّون» للتوكيد في الفعل، ولو سقطت «ما» لم تدخل النّون، و «ما» تؤكّدا أول الكلام، والنون نؤكد آخره، وتبعه ابن عطية.
وقال بعضهم: هذا الذي ذهبا إليه من أن النّون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت «إن» ب «ما» هو مذهب المُبَرّد والزَّجَّاج، وليس في كلامهما ما يدلُّ على لزوم «النُّون» كما ترى، غاية ما فيه أنهما اشترطا في صحّة تأكيده بالنون زيادة «ما» على «إن»، أما كون التوكيد لازماً، وغير لازم، فلم يتعرضا له، وقد جاء تأكيد الشرط بغير «إن» ؛ كقوله: [الكامل]
٤١٦ - زَعَمَتْ تُمَاضِرُ أنَّنِي إمَّا أَمُتْ يَسْدُدْ أُبَيْنُوهَا الأَصَاغِرُ خَلَّتِي
٤١٧ - مَنْ يُثْقَفَنْ مِنْهُمْ فَلَيْسَ بِآئِبِ أبَداً وَقَتَلُ بَنِي قُتَيْبَةَ شَافِي
و «مني» متعلق ب «يأتين» وهي لابتداء الغاية مجازاً، ويجوز أن تكون في محل حال من «هدى» لأنه في الأصل صفة نكرة قدم عليها، وهو نظير ما تقدم في قوله: ﴿مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: ٣٧]. و «هدى» فاعل، والفاء مع ما بعدها من قوله: ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ﴾ جواب الشرط الأول، والفاء في قوله: ﴿فَلاَ خَوْفٌ﴾ جواب الثَّاني. وقد وقع الشَّرْط الثاني وجوابه جواب الأول، ونقل عن «الكسائي» أن قوله: «فَلاَ خَوْفٌ» جواب الشَّرطين معاً. قال: ابن عطية «بعد نقله عن» الكِسَائي «ذلك: هكذا حكي، وفيه نظر، ولا يتوجّه أن يخالف سيبويه هنا، وإنما الخِلاَفُ في نحو قوله:
﴿فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ﴾ [الواقعة: ٨٨، ٨٩] فيقول سيبويه: جواب أحد الشرطين محذوف، لدلالة قوله: «فروح»
عليه.
ويقول الكوفيون: «فروح» جواب الشرطين، وأما في هذه الآية، فالمعنى يمنع أن يكون «فلا خوف» جواباً للشرطين.
وقيل: جواب الشرط الأوّل محذوف تقديره: «فإمّا يأتينكم منّي هُدىً فاتبعوه» وقوله: «فمن تبع» جملة مستقلة [وهو بعيد أيضاً].

فصل في المراد بالهدى


اختلف في «الهُدَى» فقال «السّدي» : كتاب الله، وقال قوم: الهدى الرّسل، وهذا
581
إنما يتم لو كان المُخَاطب بهذا الكلام آدم وبنيه، فالرُّسل إلى آدم من الملائكة، وإلى بنيه من البشر.
وقيل: المراد من الهُدَى كل دلالة وبيان.
وقيل: التوفيق للهداية. وفي قوله: «مني هُدىً» إشارة إلى أن أفعال العباد خلق الله تعالى.
و «من» يجوز أن تكون شرطية، وهو الظاهر، ويجوز أن تكون موصولة، ودخلت الفاء في خبرها تشبيهاً لها بالشرط، ولا حاجة إلى هذا، فإن كانت شرطية كان «تبع» في محل جزم، وكذا «فلا خوف» لكونهما شرطاً وجزاء، وإن كانت موصولةً فلا مَحَلّ ل «تبع»، وإذا قيل بأنها شرطية فهي مبتدأ أيضا، وفي خبرها خلاف مشهور.
والأصح أنه فعل الشرط، بدليل أنه يلزم عود ضمير من فعل الشرط اسم الشرط، ولا يلزم ذلك في الجواب، تقول: «من يقم أكرم زيداً»، فليس في «أكرم زيداً» ضمير يعود على «من» ولو كان خبراً للوم فيه ضمير.
ولو قلي: «من يقم زيداً أكرمه» وأنت تعيد الهاء على «من» لم يجز، لخلوّ فعل الشرط من الضمير.
وقيل: الخبر الجواب، ويلزم هؤلاء أن يأتوا فيه بعائد على اسم الشرط، فلا يجوز عندهم: «من يقم أكرم زيداً» ولكنه جائز، هذا ما أورده أبو البقاء.
وسيأتي تحقيق القول في لزوم عود الضَّمِيِر من الجواب إلى اسم الشَّرْط عند قوله: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٧].
وقيل: مجموع الشرط والجزاء هو الخبر، لأن الفائدة إنما تحصل بهما.
وقيل: ما كان فيه ضمير عائد على المبتدأ، فهو الخبر والمشهور «هُدَايَ»، وقرئ: «هُدَيَّ» بقلب الألف ياء، وإدغامها في ياء المتكلم، وهي لغة «هُذَيْل»، يقولون في عَصَاي: عَصَيَّ، وقال شاعرهم: [الكامل]
٤١٨ - سَبَقُوا هَوَيَّ وأَعنَقوا لِهَواهُمُ فَتُخُرِّمُوا وَلِكُلِّ جَنْبٍ مَصرَعُ
كأنهم لما لم يصلوا إلى ما تستحقه ياء المتكلّم من كسر ما قبلها لكونه ألفاً أتوا بما يجانس الكسرة، فقلبوا الألف ياء.
582
نقل «النحاس» هذه العلّة عن الخليل وسيبويه وهذه لغة مطّردة عندهم إلاّ أن تكون الألف للتثنية، فإنهم يثبتونها: نحو: «جاء مسلماي، وغلاماي».
قوله: ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ قد تقدّم أنه يجوز أن يكون جواباً للشرط، فيكون في محلّ جزم، وأن يكون خبراً ل «من» إذا قيل بأنها موصولة، وهو أولى لمقابلته بالمَوْصُول في قوله: ﴿والذين كَفَرواْ﴾ [البقرة: ٣٩]، فيكون في محل رفع، و «لا» يجوز أن تكون عاملة عمل «ليس» فيكون «خوف» اسمها، و «عليهم» في محلّ نصب خبرها، ويجوز أن تكون غير عاملة، فيكون «خوف» مبتدأ «، و» عليهم «في محلّ رفع خبره، وهذا أولى مما قبله لوجهين:
أحدهما: أن عملها عمل»
ليس «قليل، ولم يثبت إلاّ شيء محتمل، وهو قوله: [الطويل]
٤٢٠ - وَحَلَّتْ سَوَادَ القَلْبِ لا أَنَا بَاغِيَا سِوَاهَا وَلاَ في حُبِّهَا مُتَرَاخِيَا
ف»
أَنَا «اسمها و» بَاغِيَا «خبرها.
قيل: ولا حجّة فيه؛ لأن»
بَاغِيَا «حال عاملها محذوف هو الخَبَرُ في الحقيقة تقديره: وَلاَ أَنَا أَرَى بَاغِياً، أو يكون التقدير: ولا أَرَى باغِيا، فلما حذف الفعل انفصل الضمير.
وقرئ:»
فَلاَ خَوْفٌ «بالرفع من غير تنوين، والأحسن فيه أن تكون الإضافة مقدّرة، أي: خوف شيء.
583
وقيل: أنه على نِيَّةِ الألف واللام.
وقيل: حذف التنوين تخفيفاً، وقرأ الزهري، والحسن وعيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق، ويعقوب:» فَلاَ خَوْفَ «مبنياً على الفتح؛ لأنها» لا «التبرئة، وهي أبلغ في النَّفي، ولكن الناس رجَّحوا قراءة الرفع.
قال»
أبو البقاء «: لوجهين:
أحدهما: أنه عطف عليه ما لا يجوز فيه إلاَّ الرفع، وهو قوله:»
ولا هم «لأنه معرفة، و» لا «لا تعمل في المَعَارِف، فالأولى أن يجعل المعطوف عليه كذلك لِتَتَشَاكل الجملتان، ثم نظره بقولهم:» قام زيد وعمراً كلّمته «يعني في تَرْجيح النَّصْب في جملة الاشتغال للتشاكل.
ثم قال: والوجه الثاني: من جهة المعنى، وذلك أن البناء يدلّ على نفي الخوف عنهم بالكلية، وليس المراد ذلك، بل المراد نفيه عنهم في الآخرة.
فإن قيل: لم لا يكون وجه الرفع أن هذا الكلام مذكور في جزاء من اتبع الهُدَى، ولا يليق أن ينفى عنهم الخوف اليسير، ويتوهّم بثبوت الخوف الكثير.
قيل: الرفع يجوز أن يضمر معه نفي الكثير، تقديره: ولا خوف كثير عليهم، فيتوهّم ثبوت القليل، وهو عكس ما قدر في السُّؤال، فبان أن الوجه في الرفع ما ذكرنا.
قوله:»
ولا هم يحزنون «تقدّم أنه جملة منفية، وأن الصَّحيح أنها غير عاملةٍ. و» يحزنون «في محلّ رفع خبر للمبتدأ، وعلى ذلك القَوْل الضَّعيف يكون في محلّ نصب و» الخوف «: الذُّعر والفَزَع، يقال: خاف يَخَاف خوفاً، فهو خائف، والأصل: خوف بوزن» علم «ويتعدّى بالهمزة والتضعيف، قال تعالى:
﴿وَنُخَوِّفُهُمْ﴾ [الإسراء: ٦٠] ولا يكون إلا في الأمر المستقبل.
والحُزْن: ضد السرور، وهو مأخوذ من «الحَزْن»
، وهو ما غلظ من الأرض، فكأنه ما غلظ من الهَمّ، ولا يكون إلا في الأمر الماضي، يقال: حَزِنَ يَحْزَنُ حُزْناً وَحَزَناً، ويتعدّى بالهمزة نحو: أَحْزَنْتُهُ، وحَزّنته بمعناه، فيكون «فعّل» و «أَفْعَل» بمعنى. وقيل: أَحْزَنَهُ حَصَّل له حزناً.
وقيل: الفتحة مُعَدِّية للفعل: نحو: شترَتْ عينه وشَتَرها الله، وهذا يدل علة قول من يرى أن الحركة تعدّي الفعل، وقد قرئ باللغتين: «حَزَنَهُ وأَحْزنه»، وسيأتي تحقيقهما إن شاء الله تعالى.
584
فَصْلٌ في لغات «حزن»
قال ابن الخطيب: قال اليزيدي: حَزَنَه لغة «قريش»، وأَحْزَنَهُ لغة «تميم»، وَحَزِنَ الرجل - بالكسر - فهو حَزِنٌ وحَزِينٌ، وأُحْزِنَ فهو مَحْزُونٌ، واحتَزَنَ وتَحَزَّنَ بمعنى. وهذه الجُمْلة مع اختصارها تجمع شيئاً كثيراً من المعاني؛ لأن قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى﴾ دخل فيه الإنعام بجميع الأدلّة العقليّة، والشرعية الواردات للبيان، وجميع ما لا يتمّ ذلك إلاّ به من العقل، ووجوه التمكُّن، وجميع قوله: ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ﴾ تأمل الأدلّة بنصّها والنظر فيها، واستنتاج المعارف منها، والعمل بها وجميع قوله: ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ جميع ما أعدَّ الله - تعالى - لأوليائه؛ لأن زوال الخوف يتضمّن السَّلامة من جميع الآفات، وزوال الحزن يقتضي الوصول إلى كل اللَّذَّات والمرادات، وقدم على الخَوْف على عدم الحزن؛ لأن زوال ما لا ينبغي مقدّم على طَلَبِ ما ينبغي وهذا يدلّ على أن المكلّف الذي أطاع الله - تَعَالَى - لا يلحقه خوف في القَبْرِ، ولا عند البَعْثِ، ولا عند حضور المَوْقِف، ولا عند تَطَايُرِ الكُتب، ولا عند نَصْب الموازين، ولا عند الصراط كما قال: ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٣] وقال قوم من المتكلّمين: إن أهوال القيامة كما تصل إلى الكُفّار والفسّاق تصل إلى المؤمنين لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ﴾ [الحج: ٢] فإذا انكشفت تلك الأهوال، وصاروا إلى الجنّة والرضوان صار ما تقدّم كأن لم يكن، بل ربما كان زائداً في الالتذاذ بما يجده من النعيم، وهذا ضعيف؛ لأن قوله: ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر﴾ [الأنبياء: ١٠٣] أخص من قوله: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ﴾ [الحج: ٢] والخاص مقدّم على العام.
فإن قيل: هذا يقتضي نَفْيَ الخَوْفِ والحُزْن مطلقاً في الدنيا والآخرة، وليس الأمر كذلك؛ لأنهما حصلا في الدنيا للمؤمنين أكثر من حصولهما لغير المؤمنين قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «خُصَّ البَلاَءُ بالأَنْبِيَاءِ، ثم الأَوْلِيَاءِ ثُمّ الأَمْثَل فالأمْثَل».
وأيضاً فالمؤمن لا يمكنه القطع بأنه أتى بالعَبَادات كما ينبغي، فخوف التقصير حاصلٌ وأيضاً فخوف سوء العاقبة حاصل.
قلنا: قَرَائِنُ الكلام تدلّ على أنّ المراد نفيهما في الآخرة لا في الدنيا، ولذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا حين دخلوا الجنة: ﴿الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن﴾ [فاطر: ٣٤].
585
لما وعد الله من اتبع الهدى بالأَمْنِ من العَذَاب والحزن عقبه بذكر كمن أعدّ له العَذَاب مثال الذين كفروا. و «الذين» مبتدأ وما بعدها صلة وعائد، و «بآياتنا» متعلّق
585
ب «كذبوا»، ويجوز أن تكون أن تكون الآية من باب الأعمال؛ لأن «كفروا» يطلبها، ويكون من إعمال الثَّاني للحذف من الأوّل، والتَّقدير: والذين كفروا بنا وكذّبوا بآياتنا.
و «أولئك» مبتدأ ثان، و «أصحاب» خبره، والجملة خبر الأول، ويجوز أن يكون «أولئك» بدلاً من الموصول، أو عطف بيان له، و «أصحاب» خبر المبتدأ الموصول. وقوله: «هم فيها خالدون» جملة اسمية في محلّ نصب على الحال للتَّصريح بذلك في مواضع قال تعالى: «أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدينَ».
وأجاز «أبو البقاء» : أن تكون حالاً من «النار» قال: لأن فيها ضميراً يعود عليها، ويكون العامل فيها معنى الإضافة، أو اللاَّم المقدرة.
وقد عرف ما في ذلك، ويجوز أن تكون في محل رفع خبر ل «أولئك» أيضاً، فيكون قد أخبر عنه بخبرين:
أحدهما: مفرد وهو «أصحاب».
والثاني: جملة، وقد عرف ما فيه من الخلاف.
و «فيها» متعلّق ب «خالدون» قالوا: وقد حذف من الكلام الأوّل ما أثبت في الثاني، ومن الثاني ما أثبت في الأول، والتقدير: فمن تبع هُدَاي فلا خوف ولا حُزْن يلحقه، وهو صاحب الجَنَّة، ومن كفر وكذب لحقه الخَوْفُ والحزن، وهو صاحب النار؛ لأنّ التقسيم يقتضي ذلك، ونظروه بقول الشَّاعر: [الطويل]
٤٢١ - وَإِنِّي لتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ كَمَا انْتَفَضَ العُصْفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ
«والآية» لغة: العلامة؛ قال النَابغَةُ: [الطويل]
٤٢٢ - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا للعَامُ سَابِعُ
وسميت آية القرآن [آية] ؛ لأنه علامة لانفصال ما قبلها عما بعدها، وقيل:
586
سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنها تجمع حروفاً من القرآن، فيكون من قولهم، «خَرَجَ بنُو فلاَنٍ بآيتِهِمْ» أي: بجماعتهم؛ قال: [الطويل]
٤٢٣ - خَرَجْنَا مَنَ النَّقْبَيْنِ لاَ حَيَّ مِثْلُنَا بِآيَاتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ المَطَافِلاَ
واختلف النحويون في وزنها: فمذهب «سيبويه والخليل» أنها «فَعَلَة» والأصل: «أَيَيَة» - بفتح العين - تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت الفاً، وهو شاذّ؛ لأنه إذا اجتمع حرفا عِلّة أعلّ الأخير؛ لأنه محلّ التغيير نحو: هوى وحوى، ومثلها في الشّذوذ: «غَايَة، وطَايَة، وَرَايَة».
ومذهب «الكِسَائِيّ» أن أصلها: «آيِيَة» على وزن «فَاعِلَة»، فكان القياس أن يدغم فيقال: آية ك «دابّة»، إلاّ أنه ترك ذلك تخفيفاً، فحذوفوا عينها، كما خففوا «كَيْنُونة» والأصل: «كيّنونة» بتشديد الياء، وضعفوا هذا بأن «كيّنونة» أثقل فَنَاسب التَّخفيف بخلاف هذه.
ومذهب «الفَرَّاء» أنها فَعْلَة «بسكون العين، واختاره أبو» البَقَاء «قال: لأنها من تايَّا القوم، إذا اجتمعوا، وقالوا في الجمع: آياء، فظهرت الياء الأولى، والهمزة الأخير بدل من ياء، ووزنه» أفعال «والألف الثانية بدل من همزة هي فاء الكلمة، ولو كانت عينها» واو «لقالوا في الجمع:» آواء «ثم إنهم قلبوا» الياء «الساكنة» ألفاً «على غير قياس.
يعني: أن حرف العلّة لا يقلب حتى يتحرّك وينفتح ما قبله.
وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها»
آيِيَة «بكسر العَيْنِ مثل» نَبِقَة «فَأُعِلّ، وهو في الشّذوذ كمذهب» سيبويه والخَليل «.
وقيل: وزنها»
فَعُلَة «بضم العَيْن، وقيل: أصلها: أَيَاة» بإعلال الثاني، فقلبت: بأن قدمت الازم، وأخرت العين، وهو ضعيف. فهذه ستة مذاهب لا يسلم واحد منها من شذوذ.

فصل في معنى «الصحبة»


الصّحبة: الاقتران بالشيء في حالة ما، في زمان ما، فإن كانت الملازمة والخُلْطة فهي كمال الصُّحبة.
587
[اعلم] أنه لما أقام دلائل التوحيد، والنبوة، والمعاد أولاً، ثم عقبها بذكر الإنعامات العّامة لكل البشر عقبها بذكر الإنعامات الخاصّة على أسلاف اليَهُودِ استمالةٌ لقلوبهم، وتنبيهاً على ما يدلّ على نبوة «محمّد عليه الصَّلاة والسَّلام» من حيث كونها إخباراً عن الغيب، موافقاً لما كان موجوداً في التَّوْراة والإنجيل من غير تعلّم، ولا تتلمُذِ. قوله: «يَابَنِي» منادى منصوب وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكّر سالم، وحذفت نونه للإضافة، وهو شبيه بجمع التَّكسير لتغير مفرده، ولذلك عاملته العرب ببعض معاملة جمع التكسير، فألحقوا في فعله المسند إليه تاء التأنيث، نحو: «قالت بنو فلان»، وقال الشاعر: [البسيط]
٤٢٤ - قَالَتْ بَنُو عَامرٍ خَالُوا بَنِي أَسَدٍ يَابُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرَّاراً لأَقْوَامِ
وأعربوه بالحركات أيضاً إلحاقاً له به، قال الشاعر: [الوافر]
٤٢٥ - وَكَانَ لَنَا أبُو حَسَنٍ عَليٌّ أَباً بَرًّا وَنَحْنُ لَهُ بَنِينُ
[فقد روي بَنِينُ] برفع النون، وهل لامه ياء؛ لأنه مشتقّ من البناء؛ لأن الابن من فرع الأب، ومبنيٌّ عليه، أو واو؛ لقولهم: البُنُوًَّة كالأُبُوَّة والأُخُوَّة؛ قولان.
3
الصَّحيح الأول، وأما البُنّوة فلا دلالة فيها؛ لأنهم قد قالوا: الفُتُوَّة ولا خلاف أنها من ذوات «اليَاءِ». إلا أن «الأخفش» رجّح الثاني بأن حذف الواو أكثر. واختلف في وزنه فقيل: «بَنَيٌ» بفتح العين، وقيل: بَنْيٌ _ بسكونها، وقد تقدم أنه أحد الأسماء العَشْرة التي سكنت فاؤها وعوض من لامها همزة الوَصْل. و «إسرائيل» خفض بالإضافة، ولا ينصرف للعملية والعُجْمة، وهو مركّب تركيب الإضافة مثل: «عبد الله» فإن «إِسْرَا» هو العبد بلغتهم، و «إيل» هو الله تعالى. وقيل: «إسْرا» هو مشتقّ من الأسْر، وهو القوّة، فكان معناه الذي قَوَّاه الله. وقيل «إسْرَا» هو صفوة الله، و «إيل» هو الله. وقال القَفّال: قيل: إن «إسرا» بالعبرانية في معنى إنسان، فكأنه قيل: رجل الله، فكأنه خطاب مع اليَهُودِ الذين كانوا بالمدينة. وقيل: إنه أسرى بالليل مهاجراً إلى الله. وقيل: لأنه أَسَرَ جِنِّنًّا كان يطفىء سِرَاجَ بَيْتِ المَقْدِسِ. قال بعضهم: فعلى هذا يكون بعض الاسم عربيّاً، وبعضه أعجميّاً، وقد تصرفت فيه العرب بلغات كثيرة أفصحها لغة القرآن، وهي قراءة الجمهور. وقرأ «أبو جعفر والأعمش» :«إسْرَايِل» بياء بعد الألف من غير همزة، وروي عن «وَرْش» «إسْرَائِل» بهمزة بعد الألف دون ياء، و «إسْرَأَل» بهمزة مفتوحة، و «إسْرَئِل» بهمزة مكسورة بين الراء واللام، و «إسْرَال» بألف محضة بين الراء واللام؛ قال: [الخفيف]
٤٢٦ - لاَ أَرَى مَنْ يُعِينُنِي في حَيَاتِي غَيْرَ نَفْسِي إلاَّ بَنِي إسْرَالِ
وروي قراءة غير نافع قرأ عن نافع. و «إسْرائيل» هذه مهموزة مختلسة حكاها شنبوذ، عن ورش، و «إسْرَايل» من غير همز ولا مَدّ و «إسْرَائِين» أبدلوا من اللام نوناً ك «أُصَيْلاَن» في «أُُصَيْلاَل» ؛ قال: [الرجز]
4
٤٢٧ - يَقُولُ أَهْلُ السُّوءِ لَمَّا جِينَا هَذَا وَرَبِّ البَيْتِ إِسْرائِينَا
وقال آخر: [الرجز]
٤٢٨ - قَالَتْ وَكُنْتُ رَجُلاً فَطِينَا هَذَا لعَمْرُ الله إٍسْرَائِينَا
ويجمع على «أَسَارِيل». وأجاز الكوفيون «أَسَارِلَة» و «أَسَارل»، كأنهم يجيزون التعويض بالياء وعدمه، نحو: «فَرَازِنة» و «فَرَازين». قال الصَّفار: لا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوله. قال ابن الجوزي: ليس في الأنبياء من له اسمان غيره إلا نبينا محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنَّ له أسماء كثيرة. وقد قيل في المسيح إنه اسم علم لعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام غير مشتقّ، وقد سمَّاه الله تَعَالَى روحاً والمسيح، وإسرائيل ويعقوب، ويونس وذو النُّون، وإلياس وذو الكِفْل، صولات الله وسلامه عليهم أجمعين. قول: ﴿اذكروا نِعْمَتِيَ﴾. «اذكرو» فعل وفاعل، و «نعمتي» مفعول. وقال «ابن الأنباري» : لا بدّ له من حذف مضاف تقديره: شكر نِعْمتي.
5
و «الذكر» بضم الذال وكسرها بمعنى واحد، ويكونان باللِّسان والجِنَان. وقال «الكسائي» : هو بكسر اللسان، وبالضّّم للقَلْب ضدّه النسيان، والذي محلّه اللسان ضده الصَّمت، سواء قيل: إنهما بمعنى واحد أم لا. و «الذَّكَر» بالفتح خلاف الأُنْثَى، و «الذِّكر» أيضاً الشرف ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: ٤٤]. فصل في النعمة النعمة اسم لما ينعم به، وهي شبيهة ب «فِعْل» بمعنى «مفعول» نحو: ذبح ورعي، والمراد الجمع؛ لأنها اسم جنس، قال الله تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ﴾ [النحل: ١٨]. قال «أبو العباس المقرىء» :«النَّعْمَة» بالكسر هي الإسلام، قال تعالى: ﴿واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٣]. وقال: ﴿فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً والله﴾ [الحجرات: ٨] يعني الإسلام. وقال: ﴿رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ﴾ [النمل: ١٩]. وقوله: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ﴾ [آل عمران: ١٧١] أي: الإسلام. فصل في حد النعمة قال ابن الخطيب: حَدّ النعمة أنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير. وقيل: الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، قالوا: وإنما زدنا هذا؛ لأن النعمة إن كانت حسنة يستحق بها الشكر، وإن كانت قبيحة لم يستحق بها الشكر.
قال: والحقّ أن هذا القيد غير معتبر؛ لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان، وإن كان فعله محظوراً؛ لأن جهة استحقاق الشكر غير جِهَةِ استحقاق الذَّم والعقاب، فأي امتناع في اجتماعهما؟ ألا ترى أن الفاسق يستحقّ الشكر بإنعامه والذّم بمعصيته، فلم لا يجوز هاهنا أن يكون الأمر كذلك؟ واعلم أن نعم الله على العَبْدِ لا تتناهى، ولا تحصى كما قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: ٣٤]. فإن قيل: فإذا كانت النعم غير مُتَنَاهية، وما لا يتناهى لا يحصل به العلم في حق العبد، فكيف أمر بتذكرها في قوله: ﴿اذكروا نِعْمَتِيَ﴾ ؟
6
والجواب: أنها غير مُتَنَاهية بحسب الأشخاص والأنواع، إلاّ أنها متناهية بحسب الأجناس، وذلك يكفي في التذكّر الذي يفيد العلم بوجود الصَّانع الحكيم. فصل في بيان هل لله نعمة على الكافر في الدنيا اختلفوا في أنه هل لله نعمة على الكافر في الدنيا؟ فمنهم من قال: هذه النعم القليلة في الدنيا لما كانت مؤدّية إلى الضرر في الآخرة لم تكن نعمة، فإن من جعل السّم في الحلوى لم يعد النفع الحاصل من أكل الحلوى نعمة لما كان ذلك سَبيِلاً إلى الضرر العظيم، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [آل عمران: ١٧٨]. ومنهم من قال: إنه تعالى وإن لم ينعم على الكافر بنعمة الدِّين، فلقد أنعم عليه بنعمة الدنيا [وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رَحِمَهُ اللهُ]. قال ابن الخطيب: وهذا القول أصوب ويدلّ عليه وجوه: أحدها: قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] الآيات فأمر الكُلّ بطاعته لمكان هذه النعم وهي نعمة الخلق والرزق. وثانيها: قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً﴾ [البقرة: ٢٨] وذكره في معرض الامتنان، وشرح النعم، ولو لم يصل إليهم من الله تعالى شَيْءٌ من النعم لما صَحّ ذلك. وثالثها: قوله: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ وهذا نصّ صريح؛ لأنه خطاب لأهل الكتاب، وكانوا من الكفار، وكذا قوله تعالى: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٤٧] إلى قوله: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة: ٤٩]. ورابعها: قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض﴾ إلى قوله: ﴿وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً﴾ [الأنعام: ٦]. وخامسها: قوله تعالى: ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر﴾ [الأنعام: ٦٣] إلى قوله: ﴿ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٦٤]. وسادسها: قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: ١٠] وقال في قصة «إبليس» :﴿وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٧]. وسابعها: قوله: ﴿واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض﴾ [الأعراف: ٧٤] وقال: ﴿قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين﴾ [الأعراف: ١٤٠].
7
وثامنها: قوله: ﴿ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ﴾
[الأنفال: ٥٣]. وتاسعها: قوله: ﴿هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق﴾ [يونس: ٥]. وعاشرها: قوله: ﴿هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك﴾ [يونس: ٢٢] إلى قوله: ﴿يَبْغُونَ فِي الأرض﴾ [يونس: ٢٣]. واعلم أن الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأنه لا نِزَاعَ في أن الحياة والعقل والسمع والبصر، وأنواع الرزق، والمنافع من الله تعالى إنما الخِلاَفُ في أن أمثال هذه المنافع إذا حصل عقيبها تلك المَضَارّ الأبدية، هل يطلق عليها في العرف اسم النعمة أم لا؟ ومعلوم أن ذلك نِزَاعٌ في مجرّد عبارة. فَصْلٌ في النعم المخصوصة ببني إسرائي وهي كثيرة منها: استنقذهم من فرعون وقومه، وخلّصهم من العبودية وأولادهم من القَتْلِ ونساءهم من الاستحياء، وخلصهم من البلاء، ومكنهم في الأرض، وجعلهم ملوكاً، وجعلهم الوَارِثين بعد أن كانوا عبيداً للقبط، وأهلك أعداءهم وأورثهم أرضهم وديارهم، وأموالهم، وأنزل عليهم [الكتب العظيمة، وجعل فيهم أنبياء، وآتاهم ما لم يُؤْت أحداً من العَالَمينَ، وظَلَّل عليهم الغمام، وأنزل عليهم] المّنّ والسَّلْوَى، وأعطاهم الحجر ليسقيهم ما شَاءُوا من الماء متى أرادوا، فإذا استغنوا عن الماء رفعوها فاحتبس الماء عنهم، وأعطاهم عموداً من النور يضيء لهم بالليل، وكانت رؤوسهم لا تتشعّث وثيابهم لا تَبْلَى. رواه «ابن عباس». فصل في سبب تذكيرهم بهذه النعم قال ابن الخطيب: إنما ذكرهم بهذه النعم لوجوه: أحدها: أن جملة النعم ما يشهد بصدق محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهي التوراة، والإنجيل، والزَّبُور. وثانيها: أن كثرة النعم توجب عظم المعصية، فذكرهم تلك النعم لكي يحذروا مُخَالفة ما دعوا إليها من الإيمان بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبالقرآن. وثالثها: أن تذكّر النعم الكثيرة يفيد الحَيَاءَ عن إظهار المخالفة. ورابعها: أن تذكر النعم الكثيرة يفيد أن المُنْعِمَ خصّهم من بين سائر الناس بها، ومن خص أحداً بنعم كثيرة، فالظاهر أن تذكر تلك النعم يطمع في النِّعَمِ الآيتة، وذلك الطمع مانعٌ من إظهار المخالفة والمخاصمة.
8
فإن قيل: إن هذه النِّعم إنما كانت على المُخَاطبين وأسْلافهم، فكيف تكون نعمة عليهم؟ فالجواب: لَوْلاَ هذه النعم على آبائهم لما بقوا، فصارت النعم على الآباء نعمة على الأبناء، وأيضاً فالانتساب إلى الآباء المخصوصين بنعم الدِّين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد، وأيضاً فإنّ الأولاد متى سمعوا أن الله تعالى خصّ آباءهم بهذه النِّعَم لطاعتهم وإعراضهم عن الكفر رغب الولد في هذه الطريقة؛ لأنَّ الولد مجبول على الاقتداء بالأب في أفعال الخير، فيصير هذا التذكر داعياً إلى الاشْتِغَال بالخيرات. قوله: ﴿التي أَنْعَمْتُ﴾. «التي» صفة «النعمة» والعائد محذوف. فإن قيل: من شرط [حذف] عائد الموصول إذا كان مجروراً أن يجرّ الموصول بمثل ذلك الحرف، وأن يتّحد متعلقهما، وهنا قد فقد الشَّرطان، فإن الأصل: التي أنعمت بها.
فالجواب: إنما حذف بعد أن صار منصوباً بحذف حرف الجرّ اتساعاً فبقي «أنعمتها» وهو نظير: ﴿كالذي خاضوا﴾ [التوبة: ٦٩] في أحد الأوجه، وسيأتي إن شاء الله تعالى. و «عليكم» متعلّق به، وأتى ب «على» دلالة على شمول النعمة لهم. قوله: ﴿وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾. هذه جملة أمرية عطف على الأمكرية قبلها. ويقال: «أَوْفَى»، و «وَفَى» مشدداً ومخففاً ثلاث لغاتٍ بمعنى؛ قال الشاعر: [البسط]
٤٢٩ - أَمَّا ابْنُ [طُوْقٍ] فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ كَمَا وَفَى بِقِلاَصِ النَّجْمِ حَادِيها
فجمع بين اللغتين. وقيل: يقال: أوفيت ووفيت بالعهد، وأوفيت الكَيْلَ لا غير، وعن بعضهم: أن اللغات الثلاث واردة في القرآن. أما «أوفى» فكهذه الآية. وأما «وَفَّى» بالتشديد فكقوله: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى﴾ [النجم: ٣٧]. وأما «وَفَى» بالتخفيف، فلم يصرح به، وإنما أخذ من قوله تعالى: ﴿أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله﴾ [التوبة: ١١١] وذلك أن «أَفْعَل» التفضيل لا يبنى إلاّ من الثلاثي كالتعجُّب هذا هو المشهور، وإن كان في المسألة كلام كثير ويحكى أن المستنبط لذلك أبو القاسم الشَّاطبي.
9
ويجيء «أَوْفَى» بمعنى: ارتفع؛ قال: [المديد]
٤٣٠ - رُبَّمَا أَوْفَيْتُ في عَلَمٍ تَرْفَعَنْ ثَوْبِي شَمَالاتُ
و «بعهدي» متعلّق ب «أوفوا»، و «العَهْد» مصدر، ويحتمل إضافته للفاعل أو المفعول. والمعنى: بما عاهدتكم عليه من قَبُولِ الطَّاعة، ونحوه: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ﴾ [يس: ٦٠] أو بما عاهدتموني عليه، ونحوه: ﴿وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله﴾ [الفتح: ١٠]، ﴿صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٢٣]. و «أُوفِ» مجزوم على جواب الأمر، وهل الجازم الجملة الطَّلبية نفسها لما تضمّنته من معنى الشرط، أو حرف شرط مقدر تقديره: إن توفوا بعهدي أوف؟ قولان.
وهكذا كل ما جزم في جواب طلب يجري فيه هذا الخلاف.
وقرأ الزّهري: «أَوَفِّ» بفتح الواو وتشديد الفاء للتَّكثير.
و «بِعَهْدِكُمْ» متعلّق به [وهذا] محتمل للإضافة إلى الفاعل، أو المفعول على ما تقدّم.

فصل في المراد بالعهد المأمور بوفائه


في العَهْدِ المأمور بوفائه قولان:
أحدهما: أنه جميع ما أمر الله به من غير تخصيص، وقوله: ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ أراد به الثواب والمغفرة.
وقال «الحسن» : هو قوله: ﴿وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمْ الزكاة﴾ إلى قوله: ﴿الأنهار﴾ [المائدة: ١٢].
وحكى «الضحاك» عن ابن عباس أوفوا بما أمرتكم به من الطَّاعات، ونهيتكم عنه من المعاصي، وهو قول جمهور المفسرين.
10
وقيل: هو ما أثبته في الكتب المتقدّمة في صفة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنه سيبعثه على ما قال في سورة المائدة:
﴿وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ﴾ إلى قوله: ﴿لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ [المائدة: ١٢].
وقال في سورة الأعراف: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٥٦] إلى قوله ﴿والإنجيل﴾ [الأعراف: ١٥٧] وأما عهد الله معهم، فهو أن يضع عنهم إصْرَهُمْ والأغلال، لقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ [آل عمران: ٨١] الآية وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ﴾ [الصف: ٦].
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: [إن الله تعالى] كان عهد إلى بني إسرائيل في التَّوْرَاة أني باعث من بني إسماعيل نبيَّا أمياً، فمن تبعه وصدّق بالنور الذي يأتي به أي القرآن [أغفر له ذنبه، وأدخله] الجَنَّة، وجعلت له أجرين؛ أجراً باتباع ما جاء به موسى وجاءت به أنبياء بني إسرائيل، وأجراً [باتباع] ما جاء به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [النبي الأمي] من ولد إسماعيل، وتصديق هذا القُرْآن في قوله تعالى: ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: ٥٢] إلى قوله ﴿أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ﴾ [القصص: ٥٤].
وتصديقه أيضاً بما روى أبو مسوى الأشعري عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ثلاثة يُؤْتَوْنَ أجرهم مَرَّتَيْنِ بما صبروا: رَجُل من أهْل الكتاب آمن بِعِيسَى، ثم آمَنَ بمحمّد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [فله أَجْرَانِ]، ورجل أدّب أَمَتَهُ فأحسن تَأدِيبَهَا، وعلّمها فأحسن تعليمها، ثم أَعْتَقَهَا فتزوَّجَهَا، فله أَجْرَان، وعبد أَطَاعَ الله، وأطاع سَيّدَهُ فله أَجْرَان».
فإن قيل: إنْ كان الأمر هكذا، فكيف يجوز جَحْدَهُ من جماتهم؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أنّ هذا العلم كان حاصلاً عند العلماء في كتبهم، لكن لم يكن منهم عَدَدٌ كثير، فجاز منهم كِتْمَانُ ذلك.
الثاني: أن ذلك النصّ كان خفيًّا لا جليًّا، فجاز وقوع الشَّكَ فيه.
فإن قيل: الشخص الموعود به في هذه الكتب، أما أن يكون قد ذكر فيه هذه
11
الكتب وَقْت خروجه، ومكان خروجه، وسائر التَّفَاصيل المتعلّقة بذلك، أو لم يذكر شيء من ذلك.
فإن كان الأول كان [ذلك] النص نصًّا جليًّا وارداً في كتب مَنْقُولة إلى أهل العلم بالتواتر، فيمتنع قدرتهم على الكِتْمَانِ، ويلزم أن يكون ذلك معلوماً بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين.
وإن كان الثاني لم [يدلّ] ذلك النَّص على نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لاحتمال أن يقولوا: إن ذلك المبشّر به سيجيء بعد ذلك على ما هو معتقد جمهور اليهود.
والجواب: قال بن الخطيب: «لم يكن منصوصاً عليه نصًّا جليًّا يعرفه كل أحد، بل كان منصوصاً عليه نصًّا خفيًّا، فلا جَرمَ لم يلزم أن يعلم ذلك بالضَّرورة من دين الأنبياء المتقدّمين».
قوله
: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾.
«إياي» ضمير منصوب منفصل، وقد عرف ما فيه في «الفاتحة، ونصبه بفعل محذوف يفسره الظاهر بعده، والتقديرط» وإيايَ ارْهَبُوا فارْهَبُون «وإنما قدرته متأخراً فيهح لأن تقديره متقدماً عليه لايحسن لانفصاله، وإن كان بعضهم قدره كذلك.
والفاء في»
فارهبون «فيها قولان للنحويين:
أحدهما: أنها جواب أمر مقدر تقديره: تنبّهُوا فارهبونن وهو نظير قولهم:»
زيداً فاضرب «أي: تنبيه فاضرب زيداً، ثم حذف» تنبه «، فصار: فاضرب زيداً، ثم قدم المفعول إصلاحاً للفظ؛ لئلا تفع الفاء صدراً، وإنما دخلت الفاء لتربط هاتين الجملتين.
والقول الثاني في هذه»
الفاء «: أنها زائدة.
وقال»
أبو حيان «بعد أن حكى القول الأول: فتحمل الآية وجهين:
أحدهما: أن يكون التدقير:»
وإيّاي ارهبوا تنبهوا فارهبون «، فتكون» الفاء «حصلت في جواب الأمر، وليست مؤخّرة من تقديم.
والوجه الثاني: أن يكون التقدير: وتنبّهوا فارهبون، ثم قدّم المفعول فانفصل، وأتى بالفاء حين قدّم المفعول، وفعل الأمر الذي هو»
تنبهوا «محذوف، فالتقى بعد حذفه الواو والفاء، يعني: فصار التقدير:» وفإياي ارهبوا «، فقدم المفعول على الفاء إصلاحاً للفظ، فصار:» وإيّاي فارهبوا «، ثم أعيد المفعول على سبيل التَّأكيدن ولتكمل الفاصلة، وعلى
12
هذا في» إياي «منصوب بما بعده لا بفعل محذوف، ولا يبعد تأكيد المنفصل بالمتّصل، كما لا يمتنع تأكيد المتصل بالمنفصل.
و»
الرَّهَبُ «و» الرَّهْب «، و» الرَّهْبَة «: الخوف، مأخوذ من الرّهَابة، وهي عظم في الصدر يؤثر فيه الخوف، وسقطت» الياء «بعد» النون «؛ لأنها رأس فاصلة.
وقرأ ابن أبي إسحاق:»
فأرْهَبُوني «بالياء، وكذا: ﴿فاتقون﴾ [البقرة: ٤١] على الأصل.
ويجوز في الكلام»
وأنا فارهبون «على الابتداء والخير.
وكون»
فارهبون «الخبر على تقدير الحذف كان المعنى:» وأنا ربكم فارهبون «.
ذكره القُرْطبي.
وفي الآية دليلٌ على أنّ المرء يجب عليه ألا يخاف أحداً إلا الله تعالى، ولما وجب ذلك في الخوف، فكذا في الرجاء فيها دلالة على أنه يجب على المكلف أن يأتي بالطاعات للخوف والرجاء، وأن ذلك لا بد منه.
13
قوله: «ما» يجوز أن تكون بمعنى «الذي»، والعائد محذوف، أي: بالذي أنزلته، ويجوز أن تكون مصدرية، والمصدر واقع موقع المفعول أيك [بالمنزل].
و «مصدقاً» نصب على الحال، وصاحبها العائد المَحْذُوف.
وقيل: صحابها «ما» والعامل فيها «آمنوا»، وأجاز بعضهم أن تكون «ما» مصدرية من غير جعله المصدر واقعاً موقع الفعل به، وجعل «لما معكم» من تمامه، أي: بإنزالي لما معكم، وجعل «مصدقاً» حالاً من «ما» المجرورة باللاَّم قدمت عليها، وإن كان صاحبها مجروراً؛ لأن الصَّحيح جواز تقديم حال المجرور بحرف الجر عليه؛ كقوله [الطويل]
13
«فِرْغاً» حال من «بِقَتْل»، وأيضاً فهذه «اللام» زائدة، فهي في حكم المطرح، و «مصدقاً» حل مؤكّدة؛ لأنه لا تكون إلا كذلك.
والظاهر أن «ما» بمعنى «الذي» وأن «مصدقاً» حال من عائد الموصول، وأن اللاّم في «لما» مقوية لتعدية «مصدقاً» ل «ما» الموصولة بالظَّرْفِ.

فصل في بيان المخاطبين في الآية


اعلم أن المخاطبين بقوله: «وآمنوا» هم بنو إسرائيل لتعطفه على قوله: «اذْكُرُوا نِعْمَتِي»، ولقوله: «مُصَدّقاً لِمَا مَعَكُمْ».
وقوله: «بِمَا أَنْزَلت» فيه قولان:
أحدهما: أنه القرآن؛ لأنه وصفه بكونه منزلاً، وبكونه مصدقاً لما معهم.
والثاني: قال قَتَادَةُ: بما أنزلت من كتاب ورسول تجدونه مكتوباً في التَّوراة، والإنجيل.
ومن جعل «ما» مصدرية قدّرها ب «إنزالي لما معكم» يعني: التوراة.
وقوله ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ﴾ فيه تفسيران:
أحدهما: أن في القرآن أنَّ موسى وعيسى حَقّ، والتوراة والإنديل حَقّ، فالإيمان بالقرآن مؤكّد للإيمان بالتوارة والإنجيل.
والثاني: أنه حصلت البِشَارَةُ بمحمد عليه الصَّلاة والسَّلام وبالقرآن في التوراة والإنجيل، فكان الإيمان بالقرآن، وبمحمد تصديقاً للتوراة والإنجيل، وتكذيب محمد والقرآن تكذيبٌ للتوراة والإنجيل.
قال ابن الخطيب: وهذا يدلّ على نبوة محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من وجهين:
الأول: أن شهادة كتب الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام لا تكون إلا حقًّا.
والثاني: أنه عليه الصلاة السَّلام لم يقرأ كتبهم، ولم يكن له معرفة بذلك إلاَّ من قبل الوحي.
قوله: «وَلاَ تكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ».
«أول» خبر كان، وفيه أربعة أقوال:
أحدهما وهو مذهب سيبويه: أنه «أفعل»، وأن فاءه وعينه واو، وتأنيثه «أُوْلَى»، وأصلها: «وُوْلَى»، فأبدلت الواو همزة وجوباً، وليست مثل «وُورِي» في عدم قلبها
14
لسكون الواو بعدها، لأن واو «أُوْلَى» تحركت في الجمع في قولهم «أوْل»، فحمل المفرد على الجمع في ذلك، ولم يتصرف من «أول» فعل لاستثقاله.
وقيل: هو من «وأل» إذا نجا، ففاؤه واو، وعينه همزة، وأصله: «أوأل» فخففت بأن قلبت الهمزة واواً، وأدغمت الواو الأولى فيها فصار: «أول»، وهذا ليس بقياس تخفيفه، بل قياسه أن تلقى حركة الهمزة على «الواو» الساكنة، وتحذف الهمزة، ولكنهم شبهوه ب «خَطِية وبَرِية» وهو ضعيف، والجمع: «أوَائِل» و «أَوَالي» أيضاً على القلب.
وقيل: هو من «آلَ يَئُولُ» إذا رجع، وأصله: «أَأْوَل» بهمزتين، الأولى زائدة والثانية فاؤه، ثم قلبت فأخرت الفاء بعد العين فصار: «أَوْأَل» بوزن «أَعْفَل»، ثم فعل به ما فعل في الوجه الذي قبله من القلب والإدْغَام، وهو أضعف منه.
وقيل: هو «وَوّل» بوزن «فَوْعَل»، فأبدلت الواو الأولى همزة، وهذا القول أضعفها؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرف، والجمع «أوائل» والأصل: «وواول» فقلبت الاولى همزة لما تقدم، والثالثة أيضاً لوقوعها بعد ألف الجمع، وإنما لم يجمع لعى «أواول» لاستثقالهم اجتماع واوين بينهما ألف الجمع.
واعلم أن «أوّل» «أفعل» تفضيل، و «أفعل» التفضيل إذا أضيف إلى نكرة كان مفرداً مذكراً مطلقاً، ثم النكرة المضاف إليها «أفعل»، إما أن تكون جامدةً أو مشتقةً، فإن كانت جامدة طابقت ما قبلها نحو: الزّيدان أفضلُ رجلين، الزيدون أفضلُ رجال، الهندات أفضلُ نسوة.
وأجاز المبرد إفرادها مطلقاً.
وإن كانت مشتقة، فالجمهور أيضاً على وجوب المطابقة، نحو: «الزيدون أفضلُ ذاهبين وأكرمُ قادمين»، وأجاز بعضهم المُطَابقة وعدمها؛ أنشد الفراء: [الكامل]
٤٣١ - فَإِنْ يَكُ أُصِبْنَ وَنِسْوَةٌ فَلَن تّذْهَبُوا فِرْغاً بِقَتْلِ حِبَالِ
٤٣٢ - وَإِذَا هُمُ طَعِمُوا فَأَلأَمُ طَاعِمٍ وَإِذَا هُمْ جَاعُوا فَشَرٌّ جِيَاع
فأفرد في الأول، وطابق في الثاني، ومنه عندهم: ﴿وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ [البقرة: ٤١].
إذا تقرر هذا، فكان ينبغي على قوله الجمهور أن يجمع «كافر»، فأجابوا عن ذلك بأوجه:
أجودها: أن «أفْعَل» في الآية، وفي البيت مُضَاف لاسم مفرد مفهم للجمع حذف، وبقيت صفته قائمةً مقامه، فجاءت النكرة المضاف إليها «أفعل» مفردة اعتباراً بذلك الموصوف المحذوف، والتقدير: ولا تكونوا أوّل فريق أو فَوْجٍ كافر، وكذا «فألأم
15
فرق طاعم»، وقيل: لأنه في تأويل: «أول من كفر به».
وقيل: لأنه في معنى: لا يكن كل واحد منكم أول كافر، كقولك: كَسَانَا حُلّة أي: كل واحد منَّا، ولا مفهوم لهذه الصفة هنا فلا يراد: ولا تكونوا أول كافر، بل آخر كافر؛ لأن ذكر الشّيء ليس فيه دلالة على أن ما عداه بخلافه.
وأيضاً فقوله: ﴿وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ﴾ دليل على أن كفرهم أولاً وآخراً محظور، وأيضاً قوله: ﴿رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ [الرعد: ٢] لا يدلّ على وجود عَمَدٍ لا يرونها، وقوله: ﴿وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آل عمران: ١٨١] لا يدلّ على وقوع قتل الأنبياء بحق.
وقوله بعد هذه الآية: ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾ [البقرة: ٤١] لا يدلّ على إبَاحَةِ ذلك بالثّمنِ الكثير، فكذا هاهنا، ولما اعتقد بعضهم أن لها مفهوماً احتاج إلى تأويل جعل «أول» زائداً، قال تقديره: ولا تكونوا كافرين به، وهذا ليس بِشَيْءٍن وقدّره بعضهم بأن ثَمَّ معطوفاً محذوفاً تقديره: ولا تكونوا أوّل كافر به، ولا آخر كافر، ونصّ على الأول؛ لأنه أفحش للابتداء به؛ وهو نظير قوله: [الرممت]
٤٣٣ - مِنْ أُنَاسِ لَيْسَ في أَخْلاَقِهِمْ عَاجِلُ الفُحْشِ وَلاَ سُوءُ الجَزَعْ
لا يريد أن فيهم فحشاً آجلاً، بل يريد لا فحش عندهم لا عاجلاً ولا آجلاً. والهاء في «ب» تعود على «ما أنزلت».
وقيل: على الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ لأن التنزيل يستدعي منزلاً إليه.
وقيل: على النعمة ذهاباً بها إلى معنى الإحسان.
فإن قيل: كيف جعلوا أوّل من كفر به، وقد سبقهم إلى الكُفْرِ به مشركو العرب؟
فالجواب: من وجوه:
أحدها: أن هذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أوّل من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته؛ لأنهم كانوا هم المبشّرين بزمان محمد عليه الصَّلاة والسَّلام والمُسْتفتحين على الذين كفروا به، فلّما بعث كان أمرهم على العكس لقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩].
وثانيها: المُرَاد: ولا تكونوا مثل أو كافر به، يعني: من أشرك من أهل «مكة»، أي أنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة والإنجيل، فلا تكونوا مثل من لم يعرفه، وهو مشرك لا كتاب له.
16
وثالثها: ولا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب؛ لأن هؤلاء كانوا أول من كفر بالقرآن من بني إسرائيل، وإن كانت قريش كَفَرَتْ به قبل ذلك.
ورابعها: ولا تكونوا أو كافر به، يعني بكتابكم يقول ذلك لعلمائهم، أي: ولا تكونوا أول أحد من أمتكم كذب كتابكم؛ لأن تكذيبكم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بموجب تَكْذِيبَكُمْ بكتابكم.
وخامسها: ولا تكونوا أوّل كافر به عند سَمَاعكم بذكره، بل تثبَّتوا فيه، وراجعوا عقولكم فيه.
قوله: ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾.
«بآياتي» متعلّق بالاشتراء وضمن الاشتراء معنى الاستبدال، فلذلك دخلت الباء على الآيات، وكان القياس دخولها على ما هو ثَمَن؛ لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشتري به، لا أن يشترى، لكن لما دخل الكلام معنى الاستبدال جاز ذلك؛ لأن معنى الاستبدال أن يكون المنصوب فيه حاصلاً والمجرور بالباء زائلاً.
وقد ظنّ بعضهم أن قولك: «بدلت الدِّرْهَمَ بالدينار» وكذا: «أبدلت» أيضاً أن الدينار هو الحاصل، والدرهم هو الزَّائل، وهو وهم؛ ومن مجيء «اشترى» بمعنى «استبدل» قوله: [الجز]
٤٣٤ - كَمَا اشْتَرَى المُسْلِمُ إذْ تَنَصَّرَا... وقول الآخر: [الطويل]
٤٣٥ - فَإِنْ تَزْعُمِيني كُنْتُ أَجْهَلُ فيكُمُ فَإِنِّي شَرَيْتُ الحِلْمَ بَعْدَكِ بِالجَهْلِ
وقال المهدوي: دخول «الباء» على «الآيات» كدخولها على «الثَّمن»، وكذلك كل ما لا عَيْنَ فيه، وإذا كان في الكلام دَرَاهم أو دنانير دخلت الباء على الثمن، قاله الفرّاء، يعني أنه إذا لم يكن في الكلام دِرْهَمٌ ولا دينار صحّ أن يكون كلّ من العوضين ثمناً، ومثمناً، لكن يختلف ذلك بالنسبة إلى المُتَعَاقدين، فمن نسب الشراء إلى نفسه أدخل الباء على ما خرج منه، وزال عنه، ونصب ما حصل له، فتقول «اشتريت هذا الثَّوْبَ بهذا العبد».
17
وأما إذا كان ثَمّ دراهم أو دنانير كان ثمناً ليس إلا، نحو «اشتريت الثوب بالدرهم»، ولا تقول: «اشتريت الدِّرْهَمَ بالثوب».
وقدر بعضهم مضافاً فقال: بتعليم آياتي؛ لأن الآيات نفسها لا يُشْتَرَى بها، ولا حَاجَةَ إلى ذلكح لأن معناه الاستبدال كما تقدم.
و «ثمناً» مفعول به، و «قليلاً» صفته.
و «إيَّايَ فَاتَّقُونِ» كقوله: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠].
وقال هنا: «فَاتَّقُونِ» وهناك: «فَارْهَبُونِ» لأن ترك المأمور به هناك معصية، وهي ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعَهءد، وهنا ترك الإيمان بالمنزل والاشتراء به ثمناً قليلاً كفر، فناسب ذكر الرهب هناكح لأنه أخف يجوز العفو عنه لكونه معصية، وذكر التقوى هنا؛ لأنه كفر لايجوز العفو عنه؛ لأن التقوى اتخاذ الوقاية لما هو كائن لا بُدْ منه.

فصل في الباعث على كفر زعماء اليهود


قال ابن عباس: إن رؤساء اليهود مثل كَعْب بن الأَشْرَشف وحُيَي بن أَخْطَبَ وأمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهَدَايا، وعلموا أنهم لو ابتعوا محمداً لانقعطت عنه تلك الهدايا، فأصروا على الكفر لئلا ينقطع عنهم ذلك القَدْرُ المحتقر.
قال القرطبي: في تفسيره: هذه الآية وإن كانت خاصّة ببني إسرائيل، فهي تتناول من فعل فعلهم، فمن أخذ رِشْوَةً على تغيير حق، أو إبطاله، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه، أو أداء ما علمه، وقد تعيّن عليه حتى يأخذ عليه أجراً، فقد دخل في مقتضى الآية.
وروى أبو داود عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«من تَعَلَّم علماً مما يبتغي به وَجْه الله لا يتعلَّمُهُ إلا لِيُصِيبَ به غرضاً من الدنيا لم يَجِدْ عرفَ الجَنَّةِ يوم القِيَامَةِ» يعني: ريحَهَا.
وقد اختلف العلماء في أخذ الأُجْرة على تعليم القرآن والعلم، فمنع ذلك الزّهري،
18
وأصحاب الرأي وقالوا: لا يجوز أخذ الأُجْرة على تعليم القُرْآن؛ لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نِيَّةِ التقرب، فلا يؤخذ عليها أجره كالصَّلاة والصيام.
واستدلوا بالآية وروى أبو هريرة قال: قلت: يارسول الله ما تقول في المُعَلِّمِينَ؟ قال: «درهمهم حَرَام، وشربهم سُحْتٌ وكلامهم رِيَاءٌ».
وروى عبادة بن الصامت قال: علمت ناساً من أهل الصفّة القرآن والكتابة، فأهدى إليّ رجل مهم قَوْساً، فقلت: ليست بمال [وأرمي] عنها في سبيل الله، فسألت عنها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «إنْ سَرَّكَ أن تُطَوَّقَ بها طَوْقاً من نارٍ فاقْبَلْهَا».
وأجاز أخذ الأُجْرَةِ على تعليم القرآن مالكُ، والشَّافعي، وأحمد، وأبو ثور، وأكثر العلماء، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في حديث الرُّقية:
«إنَّ أَحَقّ ما أَخَذْتُمْ عليه أجراً كِتَابُ الله» أخرجه البُخَاري، وهو نصّ [برفع الخلاف، فينبغي أن يُعَوْل عليه].
وأما حُجّة [المخالفين] فقياسهم في مقابلة النَّص، وهو قادر، ويمكن الفرق، وهو أن الصَّلاة والصَّوم عبادات مُخْتَصَّة بالفاعل، وتعليم القرآن عبادة متعدّية لغير المعلم، فيجوز الأجرة على مُحَاولته النقل كتعليم كتابة القرآن.
قال ابن المنذر، وأبو حنيفة: يُكْره تعليم القرآن بأجرة، ويجوز أن يستأجر الرجل يكتب له لوحاً أو شعراً أو غناء معلوماً بأجر معلوم، فيجوز الإجارة فيما هو مَعْصية، ويبطلها فيما هو طَاعَةٌ.
وأما الآية فهي خَاصَّة ببني إسرائيل، وشرع من قبلنا هل هو شرعٌ لنا؟ فيه خلاف، وهو لا يقول به، ويمكن أن تكون الآية فيمن تعيّن عليه التَّعْليم، فأبى حتى يأخذ عليه أجراً.
فأما إذا لم يتعيّن فيجوز له أخذ الأُجرة بدليل السُّنّة في ذلك، وقد يتعيّن عليه إلاّ أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه، ولا على عِيَالِهِ، فلا يجب عليه التَّعليم، وله أن يقبل على صِنْعَتِهِ وحِرْفَتِهِ. [وأما أحاديثهم فلا يصح منها شيء في الدليل].
19
أمر بترك الإغواء والإضلال وإضلال الغير له طريقان:
أحدهما: أن يكون لغير قد سمع دَلاَئِلَ الحق، فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش دلائل الحقّ عليه بالشبهات.
والثاني: أن تخفي تلك الدَّلائل عنه، وتمنعه من الوصول إليها فقوله: ﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل﴾ إشارة إلى الأول، وقولهك ﴿وَتَكْتُمُواْ الحق﴾ إشارة إلى الثاني.
والباء في قوله: «بالباطل» للإلصاق كقولك: «خلطت المَاءَ باللَّبَنِ»، أي: لا تخلطوا الحقّ بالباطل، فلا يتميز.
وقال «الزمخشري» : إن كانت صلةً مثلها في قولك: ليست الشيء بالشَّيء، وخلطته به كان المعنى: ولا تَكْتُبُوا في التوراة ما ليس فيها فَيَخْتَلِطَ الحق المنزّل بالباطل الذي كتبتم.
وإن كانت «باء» الاستعانة كالتي في قولك: «كتبت بالقَلَمِ» كان المعنى: ولا تجعلوا الحقَّ مشتبهاً بباطلكم الذي تكتبونه.
فأجاز فيها وجهين كما ترى، ولا يريد بقوله «صِلَة: انها زائدة، بل يريد أنها موصلة للفعل كا تقدم.
وقال»
أبو حيان «:» وفي جعله إياها للاستعانة بُعْد، وصرف عن الظاهر من غير ضرورة «، ولا أدري ما هذا الاستبعاد مع وضوح هذا المعنى الحق؟
وقال ابن الخطيب: [إنها»
باء «الاستعانة]. والمعنى: ولا تلبسوا الحَقّ بسبب الشبهات التي تُورِدُونَهَا على السَّامعين، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد كانت نصوصاً خفيةً يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال، ثم إنهم كاناو يُجَادلون فيها، ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بإلقاء الشبهات، فهذا هو المراد بقوله: ﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل﴾، فهو المذكور في قوله: ﴿وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق﴾ [غافر: ٥].
و»
اللَّبْسُ «: الخَلْط والمَزْج؛ لقوله: لَبَسْتُ عليه الأمر أَلْبِسُهُ خَلَطْتُ بَيِّنَهُ بمُشْكِلِهِ؛ ومنه قوله الخَنْسَاءِ: [البسيط].
20
وقال العَجَّاج: [الرجز]
٤٣٦ - تَرَى الجَلِيسَ يَقُولُ الحَقَّ تَحْسَبُهُ رُشْداً وَهَيْهَاتَ فَانْكُرْ مَا بِهِ الْتَبَسَا
صَدِّقْ مَقَالَتَهُ وَاحْذَرْ عَدَاوَتَه وَالْبِسْ عَلَيْهِ أُمُوراً مِثْلَ مَا لَبَسَا
٤٣٧ -[لَمَّا لَبَسْنَ الحَقَّ بِالتَّجَنِّي غَنِينَ وَاسْتَبْدَلْنَ زَيْداً مِنِّي]
ومنه أيضاً: [البسيط]
٤٣٨ - وَقَدْ لَبَسْتُ لِهَذَا الأَمْرِ أَعْصُرَهُ حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ فَاشْتَعَلا
وفي فلان مَلْبَسٌ، أي مستمتع؛ قال: [الطويل]
٤٣٩ - أَلاَ إِنَّ بَعْدَ العُدْمِ لِلْمَرْءِ قُنْوَةً وَبَعْدَ المَشِيبِ طُولَ عُمْرٍ وَمَلْبَسَا
وقول الفَرَّاء وغيره: [الكامل]
٤٤٠ - وَكتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِبَةٍ حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي
يحتمل أن يكون منه، وأن يكون من» اللِّبَاس «، والآية الكريمة تحتمل المعنيين، أي: لا تغطّوا الحق بالباطل.
ولبس الهَوْدَج والكعبة: ما عليهما من»
لِبَاس «بكسر اللام ولِبَاسُ الرجل زوجته، وزوجها لِبَاسُهَا. قال تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٨٧] وقال النابغة: [المتقارب]
٤٤١ - إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَنْ لِبَاسَا
و «اللَّبُوس»
: كل ما يُلْبَس من ثياب ودرع؛ قال تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٠] ولاَبَسْتُ فلاناً حتى عرفت باطنه.
و «الباطل» : ضد الحق، وهو الزائل؛ كقول لَبِيدٍ: [الطويل]
٤٤٢ - أَلاَ كُلٌّ شَيْءٍ مَا خَلاَ الله بَاطِلُ... ويقال: بَطَلَ الشيءُ يَبْطُلُ بُطُولاً وبُطْلاً وبُطْلانَاً.
21
و «البَطَل» : الشّجاع، سمي بذلك؛ لأنه يبطل شجاعة غيره.
وقيل: لأنه يبطل دمه فهو «فَعَل» بمعنى «مفعول».
وقيل: لأنه يبطل دم غيره فهو بمعنى «فاعل». وقد بَطُلَ بالضَّم يَبْطُلُ بُطُولاً وبَطَالَةً، أي: صار شجاعاً؛ قال النابغة: [البسيط]
٤٤٣ - لَهُمْ لِوَاءُ بِكَفِّيْ مَاجِدٍ بَطَلٍ لاَ يَقْطَعُ الخَرْقَ إلاَّ طَرْفُهُ سَامِي
وبَطَل الأجيرُ بالفتح بِطَالة بالكَسْر: إذا تعطَّل، فهو بَطَّال، وذهب دمه بُطْلاً بالضم أي: هدراً.

فصل في المراد من قوله تعالى: «الحق بالباطل»


اختلفوا في المراد من قوله: «الحَقّ بِالبَاطِلِ» فروي عن «ابن عباس» وغيره: لا تخلطوا ما عندكم من الحَقّ في الكتاب بالباطل، وهو التغيير والتبديل.
وقال «أبو العالية» : قالت اليَهُود: محمد بمعوثٌ ولكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثته حق، وجحدهم أه بعث اليهم باطل.
وقال «مجاهد» : لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام.
قوله: «وَتَكْتمُوا الحَقّ» فيه وجهان:
أحدهما، وهو الأظهر: أنه مجزوم بالعَطْفِ على الفعل قبله، نَهَاهم عن كل فعل على حِدَتِهِ، أي: لا تفعلوا هذا ولا هذا.
والثاني: أنه منصوب بإضمار «أن» في جواب النهي بعد «الواو» التي تقتضي المعية، أي: لا تجمعوا بين لَبْسِ الحق بالباطل وكِتْمَانه، ومنه: [الكامل]
٤٤٤ - لا تَنْهَ عَنْ خُلُقِ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
و «أن» مع ما في حيّزها في تأويل مصدر، فلا بد من تأويل الفعل الذي قبلها
22
بمصدر أيضاً ليصبح عطف [الاسم] على مثله، والتقدير: لا يكن منكم لَبْس الحق بالباطل وكتمانه، وكذا سائر نظائره.
وقال «الكوفيون» : منصوب ب «واو» الصرف، وقد تقدم معناه، والوجه الأول أحسن؛ لأنه نهي عن كل فعل على حِدَتِهِ، وأما الوجه الثاني فإنه نهي عن الجمع، ولا يلزم من النَّهْي عن الجمع بين الشَّيئين النهي عن كل واحد حِدَتِهِ إلا بدليل خارجي.

فصل في المراد بالكتمان


قال «ابن عبَّاس» : يعني كتمانهم أمر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم يعرفونه.
وقال «محمد بن سِيرِينَ» : نزل عصابة من ولد هَارُونَ ب «يثرب» لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور العَدُوْ عليهم، وتلك العصابة هم حَمَلَةُ التوراة يومئذ، فأقاموا ب «يثرب» يرجون أن يخرج محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين ظَهْرَانيهم، وهم مؤمنون مصدقون بنبوته، فمضى أولئك الآباء، وهم مؤمنون، وخلف الأبناء وأبناء الأبناء، فأدركوا محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكفروا به وهم يعرفون، وهو معنى قوله تعالى:
﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩].
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحَالِ، وعاملها: إما «تلبسوا» أو «تكتموا» إلاّ أن عمل «تكتموا» أولى لوجهين:
أحدهما: أنه أقرب.
والثاني: أن كتمان الحَقّ مع العلم به أبلغ ذمّاً، وفيه نوع مقابلة.
ولا يجوز أن تكون المسألة من باب الإعمال؛ لأنه يستدعي الإضمار، ولا يجوز إضمار الحال؛ لأنه لا يكون إلا نكرةّ، ولذلك منعوا الإخبار عنه ب «الذي».
فإن قيل: تكون المسألة من باب الإعمال على معنى أنا حذفنا من الأوّل ما أثبتناه في الثاني من غير إضمار، حتى لا يلزم المَحْظور المذكور، والتتقدير: ولا تلبسوا الحق بالباطل وأنتم تعلمون، ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون.
فالجواب: أن هذا لايقال: فيه إعمال، لأن الإعمال يستدعي أن يضمر في المهمل، ثم يحذف.
وأجاز «ابن عطيَّة» ألا تكون هذه الجملة حالاً، فإنه قال: «ويحتمل أن تكمون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ولم يشهد لهم بالعلم على الإطلاق، فعلى هذا لا تكون الجُمْلة في موقع الحال». وفيما قاله نظر.
23
وقرىء شاذاً: «وَتَكْتُمُونَ» بالرفع، وخرجوها على أنها حَالٌ، وهذا غير صحيح؛ لأنه مضارع مثبت فمن حقه ألا يقترن بالواو، وما ورد من ذلك، فهو مؤول بإضمار متبدأ قبله، نحو: «قُمْتُ وأَصُكُّ عَيْنَهُ»، وقول الآخر: [االمتقارب]
٤٤٥ - فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ نَجَوْتُ وأرْهَنُهُمْ مَالِكَا
أي: «وأَنَا أَصُكُّ»، و «أَنَا أَرْهَنُهُمْ»، وكذا «وأنتم تكتمون»، إلا أنه يلزم منه إشكال آخر، وهو أنهم منهيُّون عن اللّبس مطلقاً، والحال قيد في الجملة السابقة، فيكون قد نهوا بقيد، وليس ذلك مراداً إلاّ أن [يقال: إنها حال لازمة، وقد قيّده «الزمخشري» ب «كاتمين»، فجعله حالاً، وفيه الإشكال المقتدّم، إلاّ أنه] يكون أراد تفسير المعنى لا تفسير الإعرابن قال «ابن الخطيب» : وجواب الإشكال أنه إذا لم يعلم حال الشيء لم يعلم أن ذلك اللبس والكتمان حق أو باطل، وما لا يعرف كونه حقًّا وباطلاً لا يجوز الإقدام عليه بالنفي، ولا بالإثبات، بل يجب التوقّف فيه. وسبب ذكر هذا القيد أن الإقدام على الفعل الضَّار مع العلم بكونه ضارًّا أفحش من الإقدام عليه عند الجَهْلِ بكونه ضارّاً، فلما كانوا عالمين [بما] في التبليس من المفاسد كان إقدامهم عليه أقبح.
ويجوز أن تكون جلمة خبرية عطفت على جملة طلبية، كأنه تعالى نَعَى عليهم كتمهم الحقّ مع علمهم أنه حق.
[ومفعول] العلم غير مُرَاد؛ لأن المعنى: وأنتم من ذوي العلم.
وقيل: حذف للعلم به، والتقدير: تعلمون الحقّ من الباطل.
وقدره «الزمخشري» :«وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون»، فجعل المفعول اللَّبْس والكَتْم المفهومين من الفعلين السابقين. وهو حسن.
24
أمرهم بالإيمان، ثم نهاهم عن لَبْس الحق الباطلن وكِتْمَان دلائل النُّبوة، ثم ذكر بعد ذلك بيان ما لزمهم من الشّرائع، وذكر من جملته ما هو كالأصل فيها، وهو الصَّلاة التي هي أعظم العبادات البدنية، والزكاة التي هي أعظم العبادات المالية.
24
قوله: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة﴾ هذه الجُمْلَة وما بعدها عطف على الجملة قبلها عطف أمر على نهي.
وأصل «أقيموا» :«أقْوِمُوا»، ففعل به ما فعل ب ﴿وَيُقِيمُونَ﴾ [البقرة: ٣] وقد تقدحم الكلام عليها وعلى «الصًّلاة»، وأصل «آتوا» «ائْتِيُوا» بهمزتين مثل «أكْرِمُوا»، فقلبت الثانية ألفاً لسكونها بعد همزة مفتوحة، واستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان «الياء والواو»، فحذفت الياء؛ لأنها أول وحركت التاء بحركتها.
وقيل: بل ضمت تبعاً للواو، كما ضم آخر «اضربوا» ونحوه، ووزنه: «افعوا» بحذف اللام.
وألف «الزكاة» منقلبة عن واو، لقولهم: زَكَوَات، وزَكَا يَزْكُو، وهي النحو.
وقيل: الطهارة.
وقيل: أصلها الثَّنَاء الجميل، ومنه: زكى القاضي الشُّهود، والزَّكَا: الزوج صار زوجاً بزيادة فرد آخر عليه، والخَسَا: الفرد، قال: [البسيط]
٤٤٦ - كَانُوا خَساً أَوْ زَكاً مِنْ دُونِ أْرْبَعَةٍ لَمْ يَخْلَقُوا وَجُدُودُ النَّاسِ تعْتَلِجُ
قوله: ﴿مَعَ الراكعين﴾ منصوب ب «ارْكَعُوا».
و «الركوع» : الطّمأنينة والانْحِنَاء، ومنه قوله: [الطويل]
٤٤٧ - أُخَبِّرُ أْخْبَارَ القُرُونِ الَّتِي مَضَتْ أَدِبُّ كَأَنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ
وقيل: الخضوع والذِّلَّة؛ ومنه: [المسرح]
25

فصل في عدم تأخير البيان عن الحاجة


قال ابن الخطيب: القائلون بأنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب، قالوا: إنما جاء في قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة﴾ بعد أن كان النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام وصف لهم أركان الصَّلاة وشرائطها، فكأنه تعالى قال: وأقيموا الصلاة التي عرفتموها، والقائلون بجواز التأخير قالوا: يجوز أن يراد الأمر بالصَّلاة، وإن كانوا لا يعرفون أن الصَّلاة ما هي؟ ويكون المقصود أن يوطن السَّامع نفسه على الامتثال، وإن كان لا يعلم أن المأمور به، ما هو؟ كما يقول السيد لعبده: إني آمرك غداً بشيء فلا بد وأن تفعله، ويكون غرضه مه بأن يعزم العَبْدُ في الحال على أدائه في الوقت الثاني.

فصل في أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع


قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ خطاب مع اليهود، وذلك يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام. فإن قيل: قوله: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة﴾ أمر بالصَّلاة، وقوله: ﴿واركعوا مَعَ الراكعين﴾ أمر بالصّلاة أيضاً، فيكون تكراراً.
فالجواب: أن قوله: ﴿واركعوا مَعَ الراكعين﴾ أي: صَلُّوا مع المصلِّين، ففي الأوّل أمر بإقامة الصَّلاة، وفي الثاني أمر بفعلها في الجماعة فلا تكْرار
وقيل: إن اليهود لا ركوع في صلواتهم، فخصّ الركوع بالذكر تحريضاً لهم على الإتيان بصلاة المسلمين.
وقيل: الركوع: الخضوع، فيكون نهياً عن الاستكبار المذموم.
26
الهمزة في «أتأمرون» للإنكار والتَّوبيخ، أو للتعجُّب من حالهم.
26
و «أمر» يتعدى لاثنين: أحدهما بنفسه، والآخر بحرف الجر، وقد يحذف، وقد جمع الشاعرُ بين الأمرين في قوله: [البسيط]
٤٤٨ - وَلاَ تُهِينَ الفَقِيرَ عَلَّكَ أنْ تَرْكَعَ يَوْماً والدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ
٤٤٩ - أَمْرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ
و «الناس» مفعول أول، و «بالبر» مفعول ثانٍ، و «البر» سَعَةُ الخير من الصّلة والطاعة، ومنه: «البرّ» و «البَرِيَة» لسعتهان والفعل منه: «بَرَّ يَبَرُّ»، على وزن «فَعِلَ يَفْعَلَ» ك «عَلِمَ يَعْلَمُ» ؛ قال: [الرجز]
٤٥٠ - لاهُمَّ رَبِّ إنَّ بَكْراً دُونَكَا يَبَرُّكَ النَّاسُ وَيَفْجُرُونَكَا
أي: يطيعونك.
و «البِرّ» أيضاً: ولد الثَّعْلب، وسوق الغَنَم، ومنه قولهم: «لا يعرفُ الهِرَّ مِنَ البِرِّ»، أي لا يعرف دُعَاءها من سوقها.
و «البِرّ» أيضاً: الفؤادُ، قال: [الطويل]
٤٥١ - أَكُونُ مَكَانَ البِرِّ مِنْهُ ودُونَهُ وَأَجْعَلُ مَا لِي دُونَهُ وأُوَامِرُهْ
و «البَرّ» بالفتح الإجْلاَل والتعظيم، ومنه: ولد بَرّ بوالديه، أي يعظمهما، والله تعالى بَرّ لِسَعَعِ خيره على خَلْقِهِ، وقد يكون بمعنى الصدقِ كما يقال: بَرّ في يمينه أي: صدق ولم يَحْنَثْ ويقال: صَدَقْتُ وَبَرَرْتُ.
قوله: ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ داخل في حَيّز الإنكار، وأصل «تنسون» : تَنْسَيُون «فأُعلّ بحذف الياء بعد سكونها، وقد تقدّم في ﴿اشتروا﴾ [البقرة: ١٦] فوزنه» تَفْعُون «والنسيان: ضد الذِّكْرن وهو السَّهو الحاصل بعد حصول لعلم، وقد يطلق على التَّرك، ومنه:» نَسُوا اللهِ فَنَسِيَهُمْ «، وقد يدحخله التعليق حملاً على نقيضه، قال: [الطويل]
٤٥٢ - وَمَنْ أَنْتُمُ إِنَّا نَسِينَا مَنَ أَنْتُمُ وَرِيحُكُمْ مِنْ أَيِّ رِيحِ الأَعَاصِرِ
ويقال: رجل»
نَسْيَان « [بفتح النون كثير النِّسْيَان ونسيت الشيء نِسْيَاناً، ولا يقال:» نَسَيَاناً «] بالتحريك، لأن النَّسَيَان تثنية نَسَا العِرْق.
و»
الأَنْفُس «: جمع نَفْس.
فإن قيل: النّسيان عبارة عن السّهو الحادث بعد حصول العلم، والنَّاسي غير مكلّف
27
ومن لا يكون مكلفاً لا يجوز أن يذمّه الله تعالى على ما صدر منه، فالمراد بقوله: ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أنكم تغلفون عن حق أنفسكم، وتعدلون عما لها فيه من النَّفْعِ.
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب﴾ مبتدأ وخبر في محلّ نصب على حال، العامل فها» تنسون «.
و»
التّلاوة «: التتابع، ومنه تولاة القرآنح لأن القارىء يتبع كلماته بَعْضَها ببعض، ومنه: ﴿والقمر إِذَا تَلاَهَا﴾ [الشمس: ٢] واصل» تتلوون «بواوين فاستثقلت الضمة على الواو الأولى فحذفتن فالتقى ساكنان، فحذفت الأولى فوزنه» تفعون «.
ويقال: تلوته إذا تبعته تلواً، وتلوت القرآن تِلاَوَةَ. وتلوت الرجل تلواً إذا خذلته. والتَّلِيَّة والتُّلاوة: البقية، يقال: تليت لي من حقّي تلاوةً وتليةً أي بقيت.
وأتليت: أبقيت.
وتتليت حقّي إذا تتبعته حتى تستوفيه.
قال «أبو زيد»
:«تلي الرجل إذا كان بآخر رمق».
قوله: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ الهمزة للإنكار أيضاً، وهي في نية التأخير عن الفاء؛ لأنها حرف عطف، وكذا تتقدّم أيضاً على «الواو» و «ثم» نحو: ﴿أَوَلاَ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٧٧] ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ﴾ [يونس: ٥١] والنِّيَة بها التأخير، ما عدا ذلك من حروف العطف فلا تتقدّم عليه، تقول: «ما قام زيد بل أقعد؟» هذا مذهب الجُمْهور.
وزعم «الزمَّخشري» أن الهمزة في موضعها غير مَنْوِيّ بها التأخير، ويقدر قبل «الفاء» و «الواو» و «ثم» فعلاً محذوفاً، فاعطف عليه ما بعده فيقدر هنا: أتغفلون فلا تعقلون، وكذا ﴿أَفَلَمْ يَرَوْاْ﴾ [سبأ: ٩] أي: أعموا فَلَم يروا؟
وقد خالف هذا الأصل ووافق الجمهور في مواضع يأتي التنبيه عليها إن شاء الله تعالى.
ومفعول «تعقلون» غير مراد؛ لأن لامعنى: أفلا يكون منكم عَقْل، وقيل تقديره: أفلا تعقلون قُبْحَ ما ارتكبتم من ذلك.
والعَقْل: الإدراك المانع من الخطأ، وأصله المَنْعن منه العِقَال، لأنه يمنع البعير عن الحَرَكَةِ، وَعَقْل الدِّيَةِ، لأنه يمنع من قَتْلِ الجَانِي، والعَقْل أيضاً ثُوْب موشَّى؛ قال عقلمة: [البسيط]
28
قال ابن فارس: «والعَقْل من شِيَاتِ الثيابِ ما كان نقشه طولاً، ما كانن نقشه مستديراً فهو الرَّقم». ولا محلّ لهذه الجملة لاستئنافها.

فصل في المراد بالبر في الآية


اختلفوا في المراد بالبرّ في هذا الموضع على وجوه:
أحدها: قال «السُّدّي» إنهم كانوا يأمرون النَّاس بطاعة الله، وينهونهم عن معصية الله، وهم يتركون الطّاعةن ويقدمون على المعصية.
وثانيها: قال «ابن جُرَيْجٍ» إنهم كانوا يأمرون النَّاس بالصَّلاة والزكاة، وهم يتركونها.
وثالثها: كان إذا جاءهم أحد في الخُفْية لاستعلام أمر محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا: هو صادق فيما يقول، أمره حقّ فاتبعوه، وهم كانوا لايتبعونه لطمعهم في الهَدَايا والصّلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم.
ورابعها: أن جماعة من اليهود كانو قبل مَبْعَثِ الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام يخبرون بعث الله محداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَسَدُوهُ وكفروا به، فبكّتهم الله تعالى بسبب أنهم كانوا يأمرون باتباعه قبل ظهوره، فلما ظهر تركوه، وأعرضوا عن دينه، وهذا اختيار «أبي مُسْلِم».
وخاسمها: قال «الزَّجَّاج» :«إنهم كانوا يأمرون الناس ببَذْلِ الصدقة، وكانوا يشحُّون بها، لأن الله تعالى وصفهم بقَسَاوَةِ القلوبن وأكل الربا والسُّحت».

فصل في سبب هذا التعجب


سبب هذا التعجُّب وجوه:
الأوْل: أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغَيْر إلى تحصيل المصلحة، وتحذيره عما يوقعه في المَفْسَدَةِن والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير.
الثاني: أنّ من وعظ النَّاس، وأظهر علمه للخلق، ثم لم يَتَّعظ صار ذلك الوَعْظُ سبباً لرغبة الناس في المعصية؛ لأن الناس يقولون: إنه مع هذا العلم لولا أنه مُطّلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات، وإلاّ لما أقدم على المَعْصية، وإذا كان الوَاعِظ زاجراً عن المعصية، ويأتي بفعل يوجب الجَرَاءة على المعصية، فكأنه جمع بين المُتَناقضين، وذلك لا يليق بالعاقل.
29
والثالث: أنّ من وعظ، فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذاً في القلوب، والإقدام على المعصية مما يُنَفّر القلوب عن القبول.
فصيل في دفع شبه المبتدعة في اشتراطهم العدالة في الأمر بالمعروف
قال: «القُرْطبي» :«احتجّت المبتدعة بقوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٣] على أنه يشترط فيمن يأمن بالمعروف، وينهى عن المنكر أني كون عدلاً.
قال: وهذا استدلال سَاقِطٌ؛ لأن الذم هاهنا إنما وقع على ارتكاب ما نهى عنه لا عن نهيه عن المنكر، ولا شك أن النهى عن المنكر ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه، وأيضاً فإن العَدَالَة محصورة في القليل من الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس.
وذكر عن»
ابن عبد البر «أنه قال: أجمع المسلمون على أنه لا يَجِبُ على كلّ من قدر على إزالة المنكر أن يغيره إذغ لم يحصل له بتغييره إلا اللَّوم الذي لا يصل إلى الأذى.

فصل في ماهية العقل


قال بعض الفلاسفة: العَقْلُ جَوْهَرٌ لطيف في البَدَنِ ينبثّ شعاعه منه بمنزلة السِّرَاج في البيت، يفصل بين حَقَائق المعلومات.
ومنهم من قال: إنه جَوْهَرٌ بسيط، ثم اختلفوا في محلّه.
فقالت طائفة منهمك محلّه الدِّماغ؛ لأن الدماغ محل الحسّ.
ومنهم من قال: محله القلب؛ لأن القلب معدن الحَيَاة، ومادّة الحواس.
وقالت طائفة: محله القلب وله أشعة إلى الدماغ.
وقال»
أبو الحسن الأشعري وأبو إسحاق الإسفراييني «وغيرهما: العقل هو العِلْم.
وقال»
القاضي أبو بكر «: العَقْلُ علوم ضرورية بوجوب الواجبات، وجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات.
واختار»
أبو المَعَالي «في» البُرْهان «أنه صفة يتأتى بها دَرْكُ العُلُوم.
وقال»
الشافعي «: العَقْلُ غريزةٌ.
وقال»
أبو العَبَّاس القلانسي «: العقل قوة التَّمييز.
وحكي عن»
المحاسبي «أنه قال: العَقْل أنوار وبصائر.

فصل في خلق أفعال العباد


احتجّت المعتزلة بهذه الآية على أنّ فعل العبد غير مخلوق لله تعالى فقالوا قوله
30
تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ إنما يصحّ، ويحسن لو كان ذلك الفعل منهم، فأما إذا كان مخلوقاً فيهم على سبيل الاضطرار، فإن ذلك لا يحسن إذ لا يجوز أن يقال للأسود: لم لا تبيض؟
والجواب: أنّ قدرته لما صلحت للضدين بأن حصل أحد الضدين دون الآخر لا لمرجع كان ذلك مَحْض الاتفاق، والأمر الاتفاقي لا يمكن التوبيخ عليه، وإن حصل المرجح فإن كان ذلك المرجح منه عاد البَحْث فيه، وإن حصل من الله تعالى فعند حصوله يصير ذلك الطرف راجاً، والآخر مرجوحاً، والمرجوح ممتنع الوقوع؛ لأنه حال الاستواء لما كان ممتنع الوقوع، فحال المرجوحية أولى بأن يكون ممتنع الوقوع، وإذا امتنع أحد النقيضين وجب الآخر، فيعود عليهم ما أوردوه، ثم الجواب الحَقِيقي عن الكل: ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء: ٢٣].
قوله
: ﴿واستعينوا
بالصبر
والصلاة﴾
جملة أمرية عطف على ما قبلها من الأوامر، ولكن اعترض بينهما بهذه الجمل.
وأصل «اسْتَعِنُوا» :«اسْتَعونُوا» ففعل فيه ما فعل في «نَسْتَعِين» وقد تقدم تحقيقه ومعناه. و «بالصبر» متعلّق به، والياء للاستعانة أو للسّببية، والمُسْتَعَان عليه محذوف ليعم جميع الأحوال المستعان عليهان واستعان يتعدّى بنفسه نحو: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥]، ويجوز أن تكون الباء للحال، أي: مُلْتَبِسِينَ بالصبر.
والظَّاهر أنه يتعدّي بنفسه وبالباء، تقول: استعنت الهل واستعنت بالله، وقد تقدم أن السِّين للطلب.
والصّبر: الحبس على المكروه؛ ومنه: «قُتِلَ فُلاَنٌ صَبْراً» ؛ قال: [الوافر]
٤٥٣ - عَقْلاً وَرَقْماً يَظَلُّ الطَّيْرُ يَتْبَعُهُ كَأَنَّهُ مِنْ دَمِ الأجْوافِ مَدْمُومُ
٤٥٤ - فَصَبْراً في مَجَالِ المَوْتِ صَبْراً فَمَا نَيْلُ الخُلُودِ بِمُسْتَطَاعِ
و «المَصْبُورة» التي نهي عنها في الحديث هي المَحْبوسة على الموت، وهي المجثمة. والصبر المأمور به هو الصَّبر على الطَّاعة.
قال النحاسيك «ولا يقال لمن صبر على المصيبة: صابر إنما يقال: صابر على كذا». ويرده قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصابرين﴾ [البقرة: ١٥٥] ثم قال: ﴿الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ﴾ [البقرة: ١٥٦] الآية.
31

فصل في فضل الصلاة


خص الصلاة بالذكر من بين سائر العِبَادات تنويهاً بذكرها.
وكان عليه الصلاة والسَّلام «إذا حَزَبَهُ أمر فَزَعَ إلى الصَّلاة».
ومنه ما روي عن عبد الله بن عَبَّاسِ أنه نُعي إليه أخوه قثم وقيل بنت له وهو سَفَرٍ فاسْتَرجع وقال: عَوْرَةٌ سَتَرَها الله، ومُؤْنَةٌ كَفَاها الله، واجْرٌ ساقه الله، ثم تَنَحَّى عن الطريق وصَلَّى، ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ: ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾.
فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية.
وقال قومك هي الدعاء على عرفها في اللُّغة، فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله﴾ [الأنفال: ٤٥] ؛ لأن الثبات هو الصبر، والذكر هو الدعاء.
وقال مجاهد: الصبر في هذه الآية الصَّوم، ومنه قيل لرمضان: شهر الصَّبْرِ، فجاء الصَّوم والصَّلاة على هذا القول في الآية متناسباً في أن الصِّيَام يمنع من الشَّهَوَات، ويزهد في الدنيا، والصَّلاة تنهى عن الفَحْشَاء والمُنْكَرِ، وتخشع، ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة.
وإنما قد الصَّبر على الصلاة؛ لأن تأثير الصَّبر في إزالة ما لا ينبغي، وتأثير الصَّلاة في حصول ما ينبغي.
وقد وصف الله تعالى نفسه بالصَّبْرِ كما في حديث أبو موسى عن النبي صلى الله عليه سلم قال: «ليس أَحَدٌ أو ليس شيء أَصْبَرَ على أَذَى سمعه من الله تعالى إنهم ليدعون له ولداّ وإنه ليُعَافِيهمْ ويَرْزُقُهُمْ» أخرجه البُخَاري.
قال العلماء: وَصْفُ الله تعالى بالبصبر إنما هو بمعنى الحِلْمِ، ومعنى وصفه تعالى بالحِلْمِ هو تأخير العقوبة عن مستحقِّيها، ووصْفُهُ تعالى بالصَّبْرِ لم يرد في التنزيل، وإنما ودر في حديث أبي موسى وتأوله أهل السُّنة على الحِلْمِ، قاله «ابن فورك» وغيره.
32
وجاء في أسمائه «الصبور» للمبالغة في الحِلْمِ عمن عَصَاه.
قوله: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾ إن واسمها وخبرها، والضَّمير في «إ‘نها» قيل: يعود على «الصلاة»، وإن تقدم شيئان؛ لأنها أغلب منه وأهم، وهو نظير قوله: ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: ١١] أعاد الضمير على التِّجَارة؛ لأنها أهم وأغلب، كذا قيل، وفيه نظر؛ لأن العطف ب «أو» فيجب الإفراد، لكن المراد أنه ذكر الأهم من الشَّيئين، فهو نظيرها من هذه الجهة.
وقيل: يعود على الاستعانة المفهومة من الفعل نحو: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى﴾ [المائدة: ٨].
وقيل: على العبادة المّدْلُول عليها بالصَّبر والصلاة، وقيل: هو عائد على الصبر والصَّلاة، وإن كان بلفظ المفرد، وهذا ليس بشيء.
وقيل: حذف من الأول لدلالة الثاني عليه؛ وتقديره: وإنه لكبيرٌ؛ نحو قوله [الخفيف]
٤٥٥ - إنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ والشَّعَرَ الأَسْوَدَ مَالَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونا
ولم يقل: «يُعَاصيا» ردّ إلى الشباب؛ لأن الشعر داخل فيه، وكذا الصَّبر لما كان داخلاً في الصلاة عاد عليها كما قال: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢]، ولم يقل: يرضوهما؛ لأن رضا الرسول داخلٌ في رِضَا الله عَزّ وجلّ.
وقيل: ردّ الكتابة إلى كل واحد منهما، لكن حذف اختصاراً، كقوله: ﴿وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠]، ولم يقل: آيتين، وقال الشاعر: [الطويل]
٤٥٦ - فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالمَدِينَةِ رَحْلُهُ فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
أراد: «لَغَرِيبَانِ».
وقيل: على إجابة محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، لأنَّ الصبر والصَّلاة مما كان يدعو
33
إليه، وقيل: على الكَعْبَةِ؛ لأن الأمر بالصَّلاة إنما هو إليها.
قوله: «لَكَبِيرَةٌ» : لشاقَة ثقيلة من قولك: كَبُرَ هذا عليَّ؛ قال تعالى: ﴿كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ [الشورى: ١٣].
و «إلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ» استثناء مُفَرّع، وجاز ذلك وإن كان الكلام مثبتاً، لأنه في قوة النفي، أي لا تسهل ولا تخفّ إلا على هؤلاء.
و «عَلَى الخَاشِعِين» متعلّق ب «كبيرة» نحو: «كَبُرَ عليّ هذا» أيك عظم وشق.
فإن قيل: إن كانت ثقيلةً على هؤلاء سهلةً على الخاشعين، فوجب أن يكون ثوابهم أكثر، وثواب الخاشعين أقلّ، وهذا باطل.
فالجواب: ليس المراد أن الذي يحلقهم من التَّعب أكثر مما يلحق الخاشع، وكيف يكون ذلك، والخاشع يستعمل عند صلاته جوارِحَهُ وقَلْبَهُ وسمعه وبصره، ولا يغفل عن تدبُّر ما يأتي من الذِّكر، والتذلُّل والخضوع، وإذا تذكّر الوعيد لم يخل من حَسْرَةٍ وغَمّ، وإذا ذكر الوَعْدَ فكمثل ذلك، وإذا كان هذا فعل الخاشع فالثِّقْلُ عليه بفعل صلاته أعظم، وإنما المراد بقوله هاهنا لثقيلة على من لم يَخْشَعْ من حيث لا يعتقد في فعلها ثواباً، ولا في تركها عقاباً، فيصعب عليه فلعها؛ لأن الاشتغال بما لا فائدة فيه يثقل على الطَّبْعِ.
و «الخشوع» ك الخضوع، وأصله: اللِّينُ والسُّهولة، ومنه «الخُشْعَةُ» للرَّمْلَةِ، وقيل: قطعة من الأرض رخوة، وفي الحديث «كَانَتْ خُشْعَةً على المَاءِ ثم دُحِيَتْ بَعْدُ» أي: كانت الأرض لَيِّنَةً.
وقال النابغة: [الطويل]
٤٥٧ - رَمَادٌ كَكُحْلِ العَيْنِ لأْياً أُبَيِّنُهُ ونُؤْيٌ كَجِذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ
أي: عليه أثر الذُّل.
وفرق بعضهم بين الخضوع والخشوع، فقال: الخضوع في البدن خاصّة، والخشوع في البَدَن والصّوت والبَصَرِ، فهو أعم منه.
34
«الذين» يحتمل موضعه الحَرَكات الثلاث، فالجر على أنه تابع لما قبله نعتاً، وهو الظَّاهر، والرفع والنَّصْب على القطع، وقند تقدم معناه.
وأصل الظَّن رجحان أحد الطرفين وأما هذه الآية ففيها أوجه:
أحدهما: وعليه الأكثر أن الظَّن هاهنا بمعنى اليقين؛ ومثله ﴿أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [
34
الحاقة: ٢٠] ؛ وقال تعالى: ﴿أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ﴾ [المطففين: ٤].
وقال دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّة: [الطويل]
٤٥٨ - فَقُلْتُ لَهُمْك ظُنُّوا بأَلْفَي مُدَجَّجٍ سَرَاتُهُمْ في الفَارِسِيِّ المُسَرَّدِ
وقال أبو دُؤَاد: [الخفيف]
٤٥٩ - رُبَّ هَمٍّ فَرَّجْتُهُ بِعزيمٍ وُغُيُوبِ كَشَّفْتُهَا بِظُنُونِ
فاسْتُعْمِلَ الظَّن استعمال اليَقين [مجازاً، كما استعمل العِلْم استعمال الظّن؛ كقوله: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ﴾ [الممتحنة: ١٠] ولكن العرب لا تستعمل الظَّن استعمال اليقين] إلاّ فيما لم يخرج إلى الحسّ والمشاهدة كالآيتين والبَيْت، ولا تجدهم يقولون في رجل حاضر: أظنّ هذا إنساناً.
قائلو هذا القول قالوا: إن الظن هنا بمعنى العلم، قالوا: لأنّ الظن وهو الاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض يقتضي أن يكون صاحبه غير جازم بيوم القيامة، وذلك كفر والله تعالى مدح على [الظّن]، والمدح على الكُفْرِ غير جائز، فوجب أن يكون المراد من الظن هاهنا العلم، وسبب هذا المجاز أن العلم والظن يشتركان في كون كل واحد منهما اعتقاداً راجحاً، إلا أن العلم راجحٌ مانعن من النقيض، والظن راجحُ غير مانع من النقيض، فلما اشتبها من هذا الوجه صَحّ إطلاق اسم أحدهما على الآخر، كما في الآية والبَيْت.
والثاني: أن الظّن على بابه وفيه تأويلان:
أحدهما: أن تجعل مُلاَقَاة الرب مجازاً عن الموت؛ لأن مُلاَقاة الرب سبب عن الموت، فأطلق المسبّب، وأراد السبب، وهو مجاز مشهور فإنه يقال لمن مات: إنه لقي رَبَّهُ، فتقدير الآية: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو المَوْت في كل لَحْظَةِ، فإن من كان متوقعاً للموت في كل لحظة، فإنه لا يفارق قلبه الخشوع.
وثانيها: أنهم يظنون مُلاَقاة ثواب ربهم؛ لأنهم ليسوا قاطعين بالثواب، دون العِقَاب، والتقدير: يظنون أنهم ملاقو ثَوَاب ربهم، ولكن يشكل على هذا عطف ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فإنه إذا أعدناه على الثَّوَاب المقدر، فيزول الإشْكَال أو يقال: إنه بالنسبة إلى الأوّل بمعنى الظَّن على بابه، وبالنِّسْبَة إلى الثَّاني بمعنى اليقين، ويكون قد جمع في الكلمة الوَاحِدَةِ بين الحقيقة والمجاز، وهي مسألة خلاف.
35
وثالثها: قال المَهْدَوِيّ والمَاوَرْدِيّ وغيرهما: أن يضمر في الكلام «بذنوبهم»، فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين؛ لأن الإنسان الخاشع قد ينسى ظنه بيقينه وبأعماله.
قال «ابن عطية» :«وهذا تعسُّف».

فصل في أوجه ورود لفظ الظن


قال «أبو العباس المقرىء» : وقد ورد «الظَّن» في القرآن بإزاء خمسة معان:
الأول: بمعنى «اليقين» كهذه الآية، ومثله:
﴿إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ﴾، [الحاقة: ٢٠] ومثله: ﴿الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله﴾ [البقرة: ٢٤٩].
الثاني: بمعنى «الشَّك» قال تعالى: ﴿إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجاثية: ٣٢].
الثالثك بمعنى «حسب» قال تعالى: ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ﴾ [الانشقاق: ١٤] أي: حسب ألا يرجع، ومثله: ﴿ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: ٢٢].
الرابع: بمعنى «الإنكار» قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ [ص: ٢٧] أي: إنكارهم.
والخامس: بمعنى «الجَحْد» قال تعالى: ﴿وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب﴾ [يونس: ٦٠] أي: وما جَحْدُهم.
و «أن» وما في حَيْزها سادّة مسدّ المفعولين عند الجمهور، ومَسَدّ الأول والثاني محذوف عند «الأخفش»، وقد تقدّم تحقيقه.
و: مُلاَقُو رَبِّهِمْ «من باب إضافة اسم الفاعل لمعموله إضافة تخفيف؛ لأنه مستقبل، وحذفت النون للإضافة، والأصل:» مُلاَقُون ربَهم «والمُفَاعلة هنا بمعنى الثلاثي نحو: عَافَاكَ الله.
قال»
المهدوي «: قال» ابن عطية «: وهذا ضعيف؛ لأن» لَقِيَ «يتضمن مَعْنَى» لاَقى «. كأنه يعني أن المادّة لذاتها تقتضي المُشَاركة بخلاف غيرها من» عَاقَبْت وطَارَقْت وعَافَاك «.
وقد تقدم أن في الكلام حذفاً تقديره: ملاقو ثَوَاب ربهم وعقابه.
قال»
ابن عطية «:» ويصح أن تكون المُلاَقاة هاهنا بالرؤية التي عليها أهل السُّنة، وورد بها متواتر الحديث «. فعلى هذا الذي قاله لا يحتاج إلى حَذْفِ مضاف.
و»
أَنَّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُونَ «عطف على» أنهم «وما في حَيّزها، و» إليه «متعلّق ب» راجعون «، والضمير: إما للرَّبِّ سبحانه، أو للثواب كما تقدّم، أو للقاء المفهوم من قولهك» إنهم مُلاَقُوا «.
36
ويجوز:» وإنهم «بالكسر على القطع.

فصل في رؤية الله تعالى


استدّل بعض العلماء بقوله:»
مُلاَقُو رَبِّهِمْ «على جواز رؤية الله تعالى، قالت
37
المعتزلة: لفظ اللِّقاء لا يفيد الرؤية، لقوله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ [
38
التوبة: ٧٧]، وقوله: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً﴾ [الفرقان: ٦٨]، وقوله: {واتقوا الله
39
واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ} [البقرة: ٢٢٣] وهو يتناول المؤمن والكافر، والرؤية لا تثبت
40
للكافر، وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» من حَلَفَ على يَمِينٍ ليقتطع بها مَالَ أمْرىءٍ مسلمٍ لَقِيَ الله وهو عَلَيْه غَضْبان «وليس المراد رؤية الله؛ لأن ذلك وصف لأهل النار، فعلمنا أن اللقاء ليس عبارةً عن الرؤية. وفي العرف قول المسلمين: من مات لَقِيَ الله، ولا يعنون أنه رأى الله، وأيضاً فاللقاء يراد به القُرْب، فإن الأمير إذا أذن للشَّخص في الدخول عليه يقول: لقيته، وإن كان ضريراً، وإذا منعه من الدُّخول يقول: ما لقيته، وإن كان قد رآه، ويقال: لقي فلان جهداً، وكل هذا يدلّ على أنّ اللقاء ليس عبارة عن الرُّؤية، وقال تعالى:
﴿فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: ١٢] وهذا إنما يصحّ في حقّ الجسمن ولا يصح في [حق] الله تعالى.
قال ابن الخطيب: أجاب الأصحاب بأن اللقاء في اللُّغة: عبارة عن وصول أحد
41
الجِسْمَيْن إلى الآخر بحيثُ يماسّه بمسطحه، يقال: لقي هذا ذاك إذا ماسّه، واتصل به، ولما كانت المُلاَقاة بين الجسمين المدركين سبباً لحصول الإدراك بحيث لا يمتنع إجراء اللفظ عليه، وجب حمله على الإدراك؛ لأن إطلاق لفظ السبب على معنى المسبّب من أقوى وجوه المجاز، فثبت أنه يجب حمل لفظ اللِّقَاء على الإدراك [أكثر ما في الباب أنه ترك هذا المعنى في بعض الصُّور بدليل يخصه، فوجب إجراؤه على الإدراك] في البواقي.
وعلى هذا التقرير زالت السُّؤالات.
وأما قوله: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً﴾ [التوبة: ٧٧] الآية.
42
قلنا: لاجل الضرورة؛ لأن المراد: إلى يوم يلقون جزاءه وحكمه، والإضمار على خلاف الدليل، فلا يُصَار إليه إلاّ عند الضرورة.
وأما قوله: ﴿الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾ فلا ضرورة في صَرْفِ اللفظ عن ظاهره، ويمكن أن يقال ملاقاة كل أحد بحسبه، فالمؤمن من يلقى الله، وهو عنه راضٍ، فيثيبه، وينعم عليه بأنواع النعم: والكافر والحالف الكاذب يلقى الله، وهو عليه غضبان، فعيذبه بأنواع العِقَابِ، كما أن خاصّة الأمير يلقون الأمير، وهو راضٍ عنهم، فيعطيعهم وينعم عليهم، وأما اللّص وقاطع الطريق إذا لقوا الأمير عاقبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم بما استحقوا، وشَتَان بين اللقاءين.
43
قلنا: لاجل الضرورة؛ لأن المراد: إلى يوم يلقون جزاءه وحكمه، والإضمار على خلاف الدليل، فلا يُصَار إليه إلاّ عند الضرورة.
وأما قوله: ﴿الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾ فلا ضرورة في صَرْفِ اللفظ عن ظاهره، ويمكن أن يقال ملاقاة كل أحد بحسبه، فالمؤمن من يلقى الله، وهو عنه راضٍ، فيثيبه، وينعم عليه بأنواع النعم: والكافر والحالف الكاذب يلقى الله، وهو عليه غضبان، فعيذبه بأنواع العِقَابِ، كما أن خاصّة الأمير يلقون الأمير، وهو راضٍ عنهم، فيعطيعهم وينعم عليهم، وأما اللّص وقاطع الطريق إذا لقوا الأمير عاقبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم بما استحقوا، وشَتَان بين اللقاءين.
44
أعاد الكلام توكيداّ للحجّة عليهم، وتحذيراً من ترك اتباع محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
قوله: «وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ» «أن» وما في حَيْزها في محلّ نصب لعطفها على المَنْصُوب في قوله: «اذْكُرُوا نِعْمَتي» أيك اذكروا نِعْمَتِي وتفضيلي أيَّاكم، والجار متعلّق به، وهذا من باب عطف الخَاصّ على العام؛ لأن النعمة تشمل التَّفْضِيل.
والفضلك الزيادة في الخير، واستعماله في الأصل التعدّي ب «على»، وقد يتعدَّى ب «عَنْ» إمَّا على التضْمِين، وإما على التجوُّز في الحذف؛ كقوله: [البسيط]
45
وقد يتعدّى بنفسه؛ كقوله: [الوافر]
٤٦٠ - لاَهِ ابْنُ عَمِّكَ لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ عَنِّي وَلاَ أَنْتَ دَيَّانِي فتَخْزُوني
٤٦١ - وَجَدْنَا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْماً كَفَضْلِ ابْنِ المَخَاضِ عَلَى الفَصِيلِ
فعدّاه بنفسه، وب «عن»، وفعله «فَضَل» بالفَتْحِ «يَفْضُل» بالضم ك: «قَتَل يَقْتُل».
وأما الذي معناه «الفَضْلَة» من الشيء، وهي: البقيّة فَفِعْلُه أيضاً كما تقدم.
ويقال فيه أيضاً: «فَضِل» بالكسر «يَفْضَلُ» بالفتح ك: «عَلِم يَعْلَم»، ومنهم من يكسرها في الماضي، ويضمّها في المضارع، وهو من التَّدَاخل بين اللغتين.
فإن قيل: قوله: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين﴾ يلزم منه أن يكونوا أفضل من محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وذلك باطل.
والجواب من وجوه:
أحدها: قال قوم: العالم عبارةٌ عن الجمع الكثير من النَّاس كقولك: رأيت عالماً من النَّاس، والمراد منه الكثرة، [وهذا] ضعيف؛ لأن لفظ العالم مشتقّ من العلم وهو الدليل، فكل ما كان دليلاً على الله تعالى فإنه عالم، وهذا تحقيق قول المتكلمين: العالم كلّ موجود سوى الله.
وثانيها: المراد فضلتكم على عالمي زمانكم، فإن الشَّخص الذي لم يوجد بعد ليس من جملة العالمين، ومحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما كان موجوداً في ذلك الوَقْتِ، فما كان ذلك الوقت من العالمين، فلا يلزم من كون بني إسرائيل أَفْضَلَ العالمين في ذلك الوَقْت كونهم أفضل من محمد، وهذا هو الجواب ايضاً عن قوله تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين﴾ [المائدة: ٢٠]، وقال: ﴿وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين﴾ [الدخان: ٣٢]، أراد به عالمي ذلك الزمان.
وثالثها: قوله: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين﴾ عام في العالمين، لكنه مطلق في الفضل، والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة، فالآية تدلّ على أن بني إسرائيل فضّلوا على كل العالمين في أمرِ ما، وهذا لايقتضي أن يكونوا أفضل من كلّ العالمين في كل الأمور، بل لعلهم، وإن كانوا أفضل من غيرهم في أمر واحد، فغيرهم يكون أفضل منهم فيما عدا ذلك الأمر، وعند ذلك يظهر أنه لا يصحّ الاستدلال بقوله تعالى:
﴿إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين﴾ [آل عمران: ٣٣] على أن الأنبياء أفضل من الملائكة.
46
تنبيه
قال: «ابن زَيْدٍ» : أراد به المؤمن منهم؛ لأن عُصَاتهم مُسِخُوا قردةً وخنازير. وقال: ﴿لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ﴾ [المائدة: ٧٨].

فصل في بيان أن خطاب الله لبني إسرائيل هو كذلك للعرب


جمعي ما خوطب به بنو إسرائيل تنبيه للعرب، وكذلك أقاصيص الأنبياء تنبيه وإرشاد، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب﴾ [يوسف: ١١١]، وقال تعالى: ﴿الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر: ١٨].
وروي قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْه كان يقول: قد مضى والله بَنُوا إسرائيل وما يغني ما تَسْمَعُونَ [عن] غيركم.
فإن قيل: لما [خصهم] بالنعم العظيمة في الدنيا، فهذا يناسب أن يخصهم أيضاً بالنعم العظيمة في الآخرة، كما قيل: إتمام المعروف خَيْرٌ من ابتدائه، فلم أردف ذلك التخويف الشديد في قوله: ﴿واتقوا يَوْماً﴾ [البقرة: ٤٨].
والجواب: [أن] المعصية مع عظيم النِّعمة تكون أقبح وأفحِش، فلهذا حذرهم عنها.
47
«يوماً» مفعول به، [ولا بد من حذف] مضاف أي: عذاب يوم أو هول يوم، وأجيز أن يكون منصوباً على الظرف، والمفعول محذوف تقديره: واتقوا العَذَاب في يومٍ صِفَتثهُ كَيْتَ وَكَيْتَ.
ومنع «أبو البقاء» كونه ظرفاً، قال: «لأن الأمر بالتقوى لا يقع في يوم القيامة».
والجواب عما قاله: أن الأمر بالحَذَرِ من الأسباب المؤدّية إلى العقاب في يوم القيامة.
وأصل «اتَّقُوا» :«اوْتَقُوا»، ففعل به ما تقدم في ﴿تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١]. قوله: ﴿لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ﴾.
التنكير في «نفس» و «شيئاً» معناه أن نفساً من الأنفس لا تجزي عن نفس مثلها شيئاً من الأشياء، وكذلك في «شَفَاعة» و «عَدْل».
47
قال الزمخشري: و «شيئاً» مفعول به على أن تجزي بمعنى «تقتضي»، أي: لا تقضي نفسٌ عن غيرها شيئاً من الحُقُوقن ويجوز أن يكون في موضع مَصْدَر، أي: قليلاً من الجزاء كقوله: ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً﴾ [مريم: ٦٠]، أي: شيئاً من الجزاء؛ لأن الجزاء شيء، فوضع العام موضع الخاص.
واحْتَزَأْتُ بالشَّيء اجْتِزَاءً: اكْتَفَيْتُ، قال الشاعر: [الوافر]
٤٦٢ - بأَنَّ الغَدْرَ في الأَقْوَامِ عَارٌ وَأَنَّ الحُرَّ يَجْزَأُ بِالكُرَاعِ
أي: يجتزىء به.
والجملة في محلّ نصب صفة ل «يوماً» والعائد محذوف، والتقدير: لا تَجْزِي فيه، ثم حذف الجار والمجرور، لأن الظروف يتّسع فيها ما لا يتّسع في غيرها، وهذا مذهب «سيبويه».
وقيل: بل حذف بعد حذف حَرْفِ الجَرّ، ووصول الفعل إليه فصار: لا تجزية؛ كقوله: [الطويل]
٤٦٣ - وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعَامِراً قَلِيلٍ سِوَى الطَّعْنِ النَّهَالِ نَوَافِلُهْ
ويُعْزَى للأخفش، إلاّ أن «المهدوي» نقل أن أن الوجهين المتقدّمين جائزان عند الأخفش وسيبويه والزجاج؛ ويدلّ على حذف عائد الموصوف إذا كان منصوباً قوله: [الوافر]
٤٦٤ - فَمَا أَدْرِي أَغَيَّرَهُمٍ قَنَاءٍ وَطُولُ الدَّهْرِ أَمْ مَالٌ أَصَابُوا؟
أي: أصابوه، ويجوز عند الكوفيين أن يكون التقدير: يوماً يوم لا تَجْزي نفسٌ، فيصير كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ﴾ [الانفطار: ١٩]، ويكون «اليوم» الثاني بدلاً من يوماً الأول، ثم حذف المُضَاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، كقوله: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢]، وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير عائدٍ؛ لأن الظرف متى أضيف إلى الجملة
48
بعده لم يؤت له فيها بضمير، إلاّ في ضرورة شعر؛ كقوله: [الوافر]
٤٦٥ - مَضَتْ مائَةٌ لِعَامَ وُلِدْتُ فِيهِ وَسَبْعٌ بَعْدَ ذَاكَ وَحِجَّتَانِ
و «عن نفس» متعلّق ب «تجزي»، فهو في محلّ نصب به.
قال «أبو البَقَاء» : يجوز أن يكون نصباً على الحال.
و «الجزاء» : القضاء والمكافأة؛ قال: [الرجز]
٤٦٦ - يَجْزِيهِ رَبُّ العَرْشِ عَنِّي إِذْ جَزَى جَنَّاتِ عَدْنٍ في العَلاَلِيِّ العُلا
و «الإجزاء» : الإغناء والكِفَايَة، أجزأئي كذا: كفاني، قال: [الطويل]
٤٦٧ - وأَجْزَأْتَ أَمْرَ العَالَمِينَ وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْزَأَ إلاَّ كَامِلٌ وَايْنُ كَامِلِ
وأجْزَأْتُ وجَزَأْتُ متقاربانِ.
وقيل: إن الإِجْزَاء والجَزَاء بمعنَى، تقول فيه: جَزَيْتُهُ وأَجْزَيْتُهُ.
وقد قرىء: «تُجْزِىء» بضم حرف المُضَارعة من «أجزأ».
قوله: ﴿وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ هذه الجملة عطف على ما قبلها، فهو صفة أيضاً ل «يوماً» والعائد «منها» عليه محذوف كما تقدم، ولا يقبل منها فيه شفاعة.
و «شفاعة» مفعول لم يُسَمّ فاعله، فلذلك رُفِعَتْ.
وقرىء: «يُقْبَل» بالتذكير والتأنيث، فالتأنيث للفظ، والتذكير لأنه مؤنّث مجازي، وحسنه الفصل.
وقرىء: «ولا يَقْبَلُ» مبنياً للفاعل وهو «الله» تعالى. و «شَفَاعةٌ» نصبا مفعولاً به. «وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ» صفة أيضاً، والكلام فيه واضح.
49
و «منها» متعلّق ب «يُقْبَل» و «يُؤْخَذ».
وأجاز أبو البقاء: أن يكون نصباً على الحال؛ لأنه في الأصل صف ل «شفاعة» و «عَدْل»، فلما قدم عليهما نصب على الحَالِ، ويتعلّق حينئذ بمحذوف، وهذا غير وَاضِحٍ، فإنّ المعنى منصب على تعلقه بالفعل، والضمير في «منها» يعود على «نفس» الثانية؛ لأنها أقرب مذكور، ويجوز أن يعود الضَّمير الأول على الأولى، وهي النفس الجازية، والثاني يعود على الثَّانية، وهي المجزيّ عنها، وهذا مُنَاسب.
و «الشَّفَاعة» مشتقة من الشَّفْع، وهو الزوج، ومنه «الشُّفْعَة» ؛ لأنها ضَمَ ملك إلى غيره، والشافع والمشفوع له؛ لأن كلاًّ منهما يزوج نفسه بالآخرن ونَاقَةٌ شَفُوعٌ يجمع بين مَحْلَبَيْنِ في حَلْبَةٍ واحدة، وناقة شَافِعٌ: إذا اجتمع لها حَمْلٌ وَوَلَدٌ يَتْبَعُهَا.
وَالعَدْل بالفتح الفِدَاء وبالكَسْرِ: المِثْل، يقال: عَدْل وعَدِيل.
وقيل: عَدْل بالفتح المساوي للشيء قيمةً وقدراً، وإن لم يكن من جنسه، وبالكَسْرِ: المساوي له في جنسه وجِرْمِهِ.
وحكى الطبري: «أن من العرب من يكسر الذي بمعنى الفِدَاء، وأما عِدْل واحد الأعدال فهو بالكسر لاغيره». وعَدْل واحد الشهود [فبالفتح لا غير، وأما قوله عليه السلام: «لَمْ يَقْبَلِ الله مِنْهُ صَرْفاً وَعَدْلاً» ] فهو بالفتح أيضاً. وقيل: المراد ب «الصَّرْف» : النَّافلة، وب «العَدْل» : الفريضة.
وقيل: الصَّرف: التوبة، والعَدْل: الفِدْيَة.
قوله: ﴿وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ جملة من مبتدا وخبر معطوفة على ما قلها، وإنما أتى هنا بالجملة مصدّرة بالمبتدأ مخبراً عنه بالمُضَارع تنبيهاً على المُبَالغة والتأكيد في عدم النصرة.
والضمير في قوله «وَلاَهُمْ» يعود على «النَّفس» ؛ لأن المراد بها جنسُ الأنفس، وإنما عاد الضمير مذكراً، وإن كانت النفس مؤنثةً؛ لأنّ المراد بها العباد والأَنَاسِيّ.
قال الزمخشري: «كما تقول: ثلاثة أنفس». يعني: إذا قصد به الذُّكُور؛ كقوله: [الوافر]
٤٦٨ - ثَلاَثةُ أَنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذوْدٍ............................
50
ولكن النُّحَاة نَصُّوا على أنه ضرورةٌ، فالأَوْلَى أن يعود على الكفار الذين اختصتهم الآية؛ كما قال «ابن عطية».
و «النَّصْر» : العون: ، والأَنْصَار: الأَعْوَان، ومنه ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ [آل عمران: ٥٢] والنّصر أيضاً الانتقام، انتصر زيد: انتقم، والنصر: الإتْيَان نَصَرْتُ أَرْضَ بني فلانِ: أتيتها؛ قال الشاعر: [الطويل]
٤٦٩ - إذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الحَرَامُ فَوَدِّعِي بِلاَدَ تَمِيمٍ وانْصُرِي أَرْضَ عَامِرِ
والنَّصْر: المطر، يقال: نصرت الأرض: مطرت.
قال «القَفّال» : تقول العرب: أرض مَنْصورَة أي ممطورة، والغَيْثُ ينصر البلاد: إذا أنبتها، ف: انه أغاث أَهْلَهَا.
وقيل في قوله: ﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله﴾ [الحج: ١٥] أي: لن يرزقه الله، كما يرزق الغَيْثُ البِلادَ.
والنَّصْر: العَطَاءُ؛ قال: [الرجز]
٤٧٠ - إِنِّي وَأَسْطَارٍ سُطِرْنَ سَطْرَا... لَقَائِلٌ: يَا نَصْرٌ نَصْرٌ نَصْرَا
ويتعدّى ب «على» قال تعالى: ﴿فانصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾ [البقرة: ٢٨٦] وأما قوله: ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم﴾ [الأنبياء: ٧٧] فيحتمل التعدّي ب «من» ويحتمل أن يكون من التضمين. أي: نصرناه بالانتقام له منهم.
فإن قيل: قوله: ﴿لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً﴾ تفيد ما أفاده ﴿وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ فما المقصود من هذا التكرار؟
فالجواب: أن قوله: ﴿لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ﴾ أي: لا تتحمّل عنه غيره ما يلزمه من الجَزَاء.
وأما النُّصْرَة فهو أن يحاول تخليصه من حكم المعاقب، فإن قيل: قدم في هذه الآية قَبُول الشفاعة على أخذ الفدية، وفي الآية التي قيل قوله ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: ١٢٤] قدم قبول الفدية على ذكر الشَّفاعة فما [الحكم؟ قال ابن الخطيب:]
فالجواب: أن من كان مَيْله إلى حبّ المال أشدّ من ميله إلى عُلُوّ النفس فإنه يقدّم [التمسُّك] بالشافعين على إعطاء الفدية، ومن كان بالعَكْسِ يقدّم الفدية على الشفاعة،
51
ففائدة تغيير الترتيب الإشارة إلى هذين الصنفين.

فصلل في سبب نزول الآية


ذكروا أن سبب هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] وأبناء أنبيائه، وسيشفع لنا آباؤنا، فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تُقْبَلُ فيه الشفاعات، ولا يؤخذ فيه فدية.
وإنما خصّ الشّفاعة والفدية والنصر بالذِّكْرِ، لأنها هي المعاني التي اعتادها بَنُو آدم ف يالدنيا، فإنّ الواقع في الشِّدَّة لا يتخلَّص إلا بأن يشفع له، أو يفتدى، أو ينصر.

فصل في الشفاعة


أجمعت الأمّة على أنّ الشفاعة في الآخرة لمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم [اختلفوا في] أن شفاعته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ [لمن] تكون أي للمؤمنين المستحقّين للثواب أم لأهل الكبائر المستحقين للعقاب؟
فذهب المعتزلة إلى أنها للمستحقّين للثواب، وتأثير الشفاعة زيادة المَنَافع على ما استحقّوه.
وقال أصحابنا: تأثيرها في إسقاط العقاب عن المستحقّين العقاب بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار، فإن دخلوا النار، فشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنة.
واتفقوا على أنها ليست للكفار.
52
«إذا» في موضع نصب عطفاً على «نعْمَتي» وكذلك الظُّروف التي عبده نحو: ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا﴾ [البقرة: ٥١]، ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ﴾ [البقرة: ٥٥]. وقرىء: [أَنْجَيْتُكُمْ] على التوحيد.
وهذا الخطاب للموجودين في زمن الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولا بُدّ من حذف مضاف، أي: أنجينا آباءكم، نحو: ﴿حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية﴾ [الحاقة: ١١] ؛ لأن إنجاء الآباء سبب في وجود الأبناء، وأصل الإنْجَاء والنَّجَاة: الإلقاء على نَجْوَةِ من الأرض،
52
وهي المرتفع منها ليسلم من الآفات، ثم أطلق الإنْجاء على كل فَائِزٍ وخارج من ضِيْقٍ إلى سَعَةٍ، وإن لم يُلْقِ على نَجْوَةٍ.
و «من آل» متعلّق به، و «من» لابتداء الغاية.
و «آل» اختلف فيه على ثلاثة أقوال: فقال «سيبويه» [وأتباعه] : إن أصله «أهل» فأبدلت الهاء همزة لقربها منها [كما قالوا: ماء، وأصله ماه]، ثم أبلدت الهمزة ألفاً، لسكونها بعد همزة مفتوحة نحو: «آمن وآدم» ولذلك إذا صُغِّرَ رجع إلى أصله فتقول: «أُهَيْل».
قال أبو البقاء: وقال بعضهم: «أويل»، فأبدلت الألف واواً].
ولم يرده إلى أصله، كما لم يردوا «عُبَيْداً» إلى أصله في التصغير يعني فلم يقولوا: «عُوَيْداً» لأنه من «عَادَ يَعُود»، قالوا: لئلا يلتبس بِعُودِ الخَشَبِ. وفي هذا نظر؛ لأن النحاة قالوا: من اعتقد كونه من «أهل» صغره على «أُهَيْل»، من اعتقد كونه من «آل يَئُول» أي: رجع صَغّره على «أُوَيل».
وذهب «النحاس» إلى أن أصله «أَهْل» أيضاً، إلا أنه قلب الهاء ألفاً منغير أن يقلبها أولاً همزة، وتصغيره عنده على «أُهَيْلٍ».
وقال الكسَائِيٌّ: «أُوَيْل» وقد تقدّم ما فيه.
ومنهم من قال أصله: «أَوَلَ» مشتق من «آل يَئُول»، أي: رجع؛ لأنّ الإنسان يرجع إلى آله، فتحركت الواو، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، وتصغيره على «أُوَيْل» نحو: «مَال» و «مُوَيْل» و «بَاب» و «بُوَيْب» ويعزى هذا الكسَائِيِّ.
وجمعه: «آلُون» و «آلين» وهذا شاذٌّ ك «أَهْلِين» ؛ لأنه ليس بصفة ولا عَلَمٍ.
قال ابن كَيْسَان: إذا جمعتَ «آلا» قُلْتَ: «آلُونَ»، فإن جمعت «آلا» الذي هو [السَّراب] قلت: «آوَال» ليس إلاّ؛ مثل: «مَال وأَمْوَال».
واختلف فيه فقيل: «آل» الرجل قرابته كأهله.
وقيلك من كان من شيعته، وإن لم يكن قريباً منه؛ قال: [الطويل]
٤٧١ - فَلاَ تَبْكِ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أَجَنَّهُ عَلِيٌّ وَعَبَّاسٌ وَآلُ أبِي بَكْرِ
ولهذا قيل: آل النبي من آمن به إلى آخر الدَّهْرِ، ومن لمؤ يؤمن به فليس بآله، وإن كان نسيباً له، كأبي لَهَبٍ وأبي طالب، ونقل بعضهم أن «الرَّاغب» ذكر في «المفردات أن»
53
الآل «يطلق على الرَّجل نفسه.
واختلف فيه النُّحَاة: هل يضاف إلى الضمير أم لا؟
فذهب الكسائي، وأبو بكر الزبيدي، والنحاس إلى أن ذلك لا يجوز، فلا يجوز اللهم صَلِّ على محمَّد وآله، بل وعلى آل محمد، وذهب جَمَاعة، منهم ابن السِّيدِ إلى جوازه؛ واستدلُّوا بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما سئل فقيل: يا رسول الله من آلُكَ؟ فقال:»
آلِي كُلُّ تَقِيٍّ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ «؛ وأنشدوا قول [عبد المطلب] :[الكامل]
٤٧٢ - لاَهُمَّ إنَّ العَبْدَ يَمْنَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حَلاَلَكْ
وانْصُرْ عَلَى آل الصَّلِيبِ وَعَابِدِيهِ اليَوْمَ آلَكْ
[وقول نُدْبَة: [الطويل]
٤٧٣ - أَنَا الفَارِسُ الحَامِي حَقِيقَةَ وَالِدِي وَآلِي كَمَا تَحْمِي حَقِيقَةَ آلِكَا]
واختلفوا أيضاً فيه: هل يُضَاف إلى غير العُقَلاَء فيقال: آل»
المدينة «وآل» مكة «؟
54
فمنعه الجمهور، وقال» الأخفش «: قد سمعناه في البُلْدَان، قالوا: أهل» المدينة «وآل» المدينة «ولا يضاف إلاَ إلى مَنْ له قَدْرٌ وخَطرٌ، فلا يقال: آل الإسْكَاف ولا آل الحَجّام، وهو من الأسماء اللازمة للإضافة معنّى ولفظاً، وقد عرفت ما اختص به من الأحكام دون أصله الذي هو» أهل «هذا كلّه في» آل «مراداً به لأهل، أما» آل «الذي هو السَّراب فليس مما نحن فيه في شيء، وتصغيره» أُوَيْل «نحو:» مَال وَمُوَيْل «وتقدم جمعه.
قوله: ﴿فِرْعَوْنَ﴾ خفض بالإضافة، ولكنه لا ينصرف للعُجْمَةِ والتعريف.
واختلف فيه: هل هو علم شخص، أو علم جنس؛ فإنه يقال لكلّ [من] ملك القِبْط و»
مِصْر «: فرعون، مثل كِسْرَى لكل من ملك الفرس، وقَيْصَر [وهرقل] لكل من ملك الروم، ويقال لكل من ملك» الهند «: نهمز، وقيل: يَعْفُورن ويقال لمن ملك الصَّابئة: نمْرُوذ، ولمن ملك البربر: جَالُوت، [ولمن ملك اليهود فيطون، والمعروف شالخ ولمن ملك فَرْغَانَة الإخشيد]، ولمن ملك العرب من قبل العَجم النُّعْمَان؛ ولمن ملك» الصين «يعفو، وهِرَقْل لكل من ملك الروم، والقَيْل لكل من ملك» حِمْير «، والنَّجاشي لكل من ملك» الحبشة «وبَطْلَيْمُوس لكل من ملك» اليونان «وتُبَّع لمن ملك» اليمن «، وخَاقَان لمن ملك التُّرك.
وقال»
الزمخشري «: وفرعون علم لمن ملك العَمَالقة كقيصر للروم، ولعُتُوّ الفراعنة اشتقوا منه تَفَرْعَنَ فلانٌ، إذا عَتَا وتَجَبَّرَ؛ وفي مُلَحِ بعضهم: [الكامل]
٤٧٤ - قد جَاءَهُ الموسَى [الكَلُومُ] فَزَادَ في أَقْصَى تَفَرْعُنِهِ وَفَرْطِ عُرَامِهِ
وقال «المَسْعُودي»
:«لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية».
وظاهر كلام «الجوهري» أنه مشتق من معنى العتو، فإنه قال: «والعُتَاة: الفَرَاعنة، وقد تَفَرْعَنَ، وهو ذو فَرْعَنَةٍ، أي دهاء ومكر».
وفي الحديث: «أخذنا فِرْعَون هذه الأُمّة» إلا أن [يريد] معنى ما قاله الزمخشري المتقدم.
55
واسم فرعون موسى: قَابُوس في قول أهل الكتاب، نقله وهب بن منبه وقال ابن إسحاق وَوَهْب: «اسمه الوليد بن مصعب بن الريان، ويكنى أبا مُرَّة». وحكى ابن جريج «أن» اسمه مصعب بن رَيّان، وهو من بني عمْلِيق بن ولاد بن إرم بن سام بن نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وذكر ابن الخطيب أن [ابن] وهب قال: إن فرعون يوسف عليه الصَّلاة والسَّلام هـ فرعون موسى، لقول موسى عليه الصَّلاة والسلام. ﴿وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات﴾ [غافر: ٣٤] وقال: هذا غير صحيح، إذ كان بين دخول يوسف «مصر»، وبين أن دخلها موسى أكثر من أربعمائة سنة.
وذكر النووي أن فرعون موسى عمر أكثر من أربعمائة سنة، فمشى قول ابن وهب.
وقال محمد بن إسحاق: «هو غير فرعون يوسف إن فرعون يوسف كان اسمه الريان بن الوليد».
قوله: ﴿يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب﴾ هذه الجملة في محل نصب على الحال من «آل» أي: حال كونهم سَائِمِين، ويجوز أن تكون مستأنفة لمجرد الإخبار بذلك، وتكون حكاية حال ماضية، قال بمعناه ابن عطية، وليس بظاهر.
وقيل: هو خبر لمبتدأ محذوف، أي: هم يسومونكم، ولا حَاجَةَ إليه أيضاً.
و «كم» مفعول أول، و «سوء» مفعول ثان؛ لأن «سَامَ» يعتدّى لاثنين ك «أعْطَى»، ومعناه أَوْلاَهُ كذا، وألزمه إياه؛ ومنه قول عمرو بن كُلْثُومٍ: [الوافر]
٤٧٥ - إِذَا مَا المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفاً أَبَيْنَا أن نُقِرَّ الخَسْفَ فينا
قال الزمخشري: «وأصله من سَامَ السّلعة إذا طلبها، كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب، ويزيدونكم عليه».
وقيل أصل السَّوم: الدوام، ومنه سَائِمَةُ الغَنَمِ لمداومتها الرعي. والمعنى: يديمون تعذيبكم.
وسوء العذاب: أشدّه وأقطعه، وإن كان كله سيّئاً، كأنه أقبحه بالإضافة إلى سائره.
والسوء: كل ما يعم الإنسان من أمْرٍ دنيوي وأخروي، وهو في الأصل مصدر،
56
ويؤنث بالألف، قال تعالى: ﴿أَسَاءُواْ السواءى﴾ [الروم: ١٠].
[وأجاز بعضهم أن يكون «سوء» نعتاً لمصدر محذوف تقديره: يسومونكم سوماً سيئاً، كذا قدره.
وقال أيضاً:] «ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب»، كأنه يريد بذلك أنه منصوب على نوع المصدر نحو: «قعد جلوساً» ؛ لأن سوء العذاب نوع من السوم.
قال أبو العباس المُقْرىء: ورد لفظ «السّوء» على خمسة عشر وجهاً:
الأول: بمعنى «الشدة» كهذه الآية، أي: شدة العذاب.
الثاني: بمعنى «العَقْر» قال تعالى: ﴿وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء﴾ [هود: ٦٤].
الثالث: «الزِّنا: قال تعالى: ﴿مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء﴾ [يوسف: ٥١].
الرابع:»
المَرَض «قال تعالى: ﴿تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء﴾ [طه: ٢٢].
الخامس:»
اللّعْنة «قال تعالى: ﴿إِنَّ الخزي اليوم والسواء عَلَى الكافرين﴾ [النحل: ٢٧].
السادس:»
العَذَاب «قال تعالى: ﴿لاَ يَمَسُّهُمُ السواء﴾ [الزمر: ٦١].
السابع:»
الشِّرْك «قال تعالى: ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء﴾ [النحل: ٢٨].
الثامن:»
العِصْيَان «قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء بِجَهَالَةٍ﴾ [النحل: ١١٩].
التاسع:»
الشَّتْم «قال تعالى: ﴿ويبسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسواء﴾ [الممتحنة: ٢] أي: بالشَّتم، ومثله: ﴿لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول﴾ [النساء: ١٤٨] أي: الشَّتْم.
العاشر:»
الجُنُون «قال تعالى: ﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء﴾ [هود: ٥٤] أي بجنون.
الحادي عشر:»
اليأس «قال تعالى: ﴿وَلَهُمْ سواء الدار﴾ [الرعد: ٢٥] أي: يأس الدار.
الثاني عشر:»
المرض «قال تعالى: ﴿وَيَكْشِفُ السواء﴾ [النمل: ٦٢] يعني المرض.
الثالث عشر:»
الفَقْر «قال تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِيَ السوء﴾ [الأعراف: ١٨٨] أي: الفقر.
الرابع عشر:»
الهَزِيمة «قال تعالى: ﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء﴾ [آل عمران: ١٧٤] أي: هزيمة.
الخامس عشر:»
السوء «: الصيد، قال تعالى: ﴿فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء﴾ [الأعراف: ١٦٥] أي: الصيد.
57

فصل في السوء الذي ضرب على بني إسرائيل


قال» محمد بن إسحاق «: جعلهم خولاً وخدماً له، وصنفهم في [أعماله] فصنف يَبْنُون، وصنف يَحْرُثُون، وصنف يَزْرَعُون، وصنف يخدمونه، ومن لم يكن في فرع من أعماله، فإنه يضع عليه جزيةّ يؤديها.
وقال»
السُّدي «: جعلهم في الأعمال الصَّعبة الشديدة مثل: كنس المَبْرزن وعمل الطِّين، ونحت الجِبَال.
قوله: ﴿يُذَبِّحُونَ﴾ هذه الجملة يُحْتَمَلُ أن تكون مفسّرة للجملة قبلها، وتفسيرها لها على وجهين:
أحدهما: أن تكون مستأنفةً، فلا محلّ لها حيئنذ من الإعراب، كأنه قيل: كيف كان سومهم العذاب؟ فقيل يذبحون.
الثاني: أن تكون بدلاً منها؛ كقوله: [الطويل]
٤٧٦ - مَتَى تأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا في دِيَارنَا..........................
﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً ٠ يُضَاعَفْ لَهُ العذاب﴾ [الفرقان: ٦٨ - ٦٩]، ولذلك ترك العاطف، ويحتمل أن تكون حالاً ثانية، لا على أنها بدل من الأول.
وذلك على رأي من يجوز تعدد الحال وقد منع»
أبو البقاء «هذا الوجه محتجاً بأن الحال تشبه المفعول بهن ولا يعمل العامل في مفعولين على هذا الوصف، وهذا بناء منه على أحد القولين، ويحتمل أن تكون حالاً من فاعل:» يسومونكم «.
وقرىء: «يَذْبَحُونَ»
بالتخفيف، والأولى قراءة الجماعة؛ لأن الذبح متكرر.
فإن قيل: لِمَ لم يؤت هُنَا بواو العطف كما أُتِيَ بها في إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؟
فالجواب: أنه أريد هنا التَّفسير كما تقدَّم، وفي سورة إبراهيم معناه: يعذِّبُونَكُم بالذَّبْح وبغير الذَّبْح.
وقيل: يجوز أن تكون «الواو» زائدةً، فتكون كآية «البقرة» ؛ واستدلَّ هذا القائل على زيادة الواو بقوله: [الطويل]
٤٧٧ - فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى......................
58
يريد: انتحى. وقوله: [المتقارب]
٤٧٨ - إلَى المَلِكَ القَزْمِ وَابْنِ الهُمَامِ............................
والجواب الأول أصح.
قل ابن الخطيب: المقصود من ذكر العطف في سورة «إبراهيم» عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه تعالى قال قبل هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله﴾ [إبراهيم: ٥] والتذكير بأيام الله لا يصحل إلا [بتعدد] النعم، فوجب أن يكون المراد من قوله: ﴿يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب﴾ نوعاً من العذاب، والمارد من قوله: ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ﴾ نوعاً آخر، فتحصل منهما نوعان من النعمة، فلهذا وجب ذكر حرف العَطْف، وأما هذه الآية لم يرد الأمر إلاَّ بتذكر جنس النعمة، وهي قوله: ﴿اذكروا نِعْمَتِي﴾ [البقرة: ٤٧]، فسواء كان المراد من سوء العذاب هو الذّبح أو غيره، فإنَّ التذكير لجنس النعمة حاصل.
«والذّبح» أصله الشَّقّ، منه المَذَابح لأَخَادِيد السُّيول في الأرض.
والذَّبحك المذبوح «والذُّبَاح» : تشقق في [أصول] الأصابع. والمَذَابح أيضاً: المحاريب.
وأما «أبناء» جمع «ابن»، رجع به إلى أصله، فَزُدَّت لامه، إما الواو أو الياء حسبما تقدم.
والأصل: «أبناو» أو «أبناي»، فأبدل حرف العلة همزة لتطرفه بعد ألف زائدة، والمراد بهم: الأطفال عند أكثر المفسرين.
وقيل: الرجال، وعبر عنهم بالأبناء باعتبار ما كانوا؛ لأنه ذكرهم في مُقَابلة النساء. و «النِّسَاء» أسم للبَالِغَات، فكذا المُرَاد من الأبناء الرِّجَال البالغون.
قالوا: إنه كان يأمر بقَتْلِ الرجال الذين يخافون منهم الخُرُوج عليهم والتجمُّع لإفساد أمره.
والأول أولى لحمل لفظ الأبناء على ظاهره، ولأنه كان متعذّر قتل جميع الرِّجَال على كثرتهم، وأيضاً فكانوا مُحْتَاجين إليهم في استعمالهم في الأعمال الشَّاقة، ولو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في التَّابوت حال صغره معنى.
59
وأما قولهم: لأنه ذكرهم في مقابلة النساء ففيه جوابان:
الأول: أن الأبناء لما قتلوا حَالَ الطفولة لم يصيروا رجالاً، لم يجز إطلاق اسم الرجال عليهم.
أما البنات لما لم يُقْتَلْنَ، بل وصلن إلى حَدّ النساء جاز الإطلاق اسم النساء عليهن اعتباراً بالمآل.
الثانيك قال بعضهم: المراد بقوله: ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ﴾ أي يُفَتِّشُون حيء المرأة أي: فَرْجَهَا هل بها حمل أم لا؟

فصل في السبب الباعث على تقتيل الأبناء


ذكروا في سبب قَتْلِ الأبناء وجوهاً:
أحدها: قال ابن عباس: وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد به إبراهيم أنيجعل في ذرّيته أنبياء وملوكاً فخافوا ذلك، واتفقت كلمتهم على إعدد رِجَالٍ يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذَبَحُوهُ فلما رأوا أكابرهم يموتون، وصغارهم يذبحون خافوا الفَنَاءَ فلا يجدون من يُبَاشر الأعمال الشّاقة، فصاروا يقتلون عاماً دون عام.
وثانيها: قال السُّدي: إن فرعون رأى ناراً أقبلت من بيت المَقْدِسِ حتى اشتملت على بيوت «مصر»، فأحرقت القبط، وتركت بني إسرائيل فدعا فرعون الكَهَنَةَ، وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القِبْطِ على يديه.
وثالثها: أن المنجّمين أخبروا فرعون بذلك.
قال ابن الخطيب: والأقرب هو الأول؛ لأن الذي يُسْتَفَاد من علم التعبير، وعلم النجوم لا يكون أمراً مفصلاً، وإلا قدح ذلك في كون الإخبار عن الغَيْبِ معجزاً، بل يكون أمراً مجملاً، والظاهر من حال العاقل ألاَّ يقدم على مثل هذا الأمر العظيم بسببه.
فإن قيل: إنَّ فرعون كان كافراً بالله فبأن يكون كافراً بالرسل أولى، وإذا كان كذلك فكيف يمكن أن يقدم على هذا الأمر العظيم بسبب إخبار إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلاة والسلام عنه؟
فالجواب: لعلّ فرعون كان عارفاً بالله، وبصدق الأنبياء إلاَّ أنه كان كافراً كفر عِنَادٍ أو يقال: إنه كان شاكًّا متحيراً في دينه، وكان يجوِّز صدق إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فأقدم على ذلك الفعل احتياطاً.
60
قوله: «وَيَسْتَحْيُونَ» عطف على ما قبله، واصله: «يَسْتَحييُون»، فأعلّ بحذف الياء بعد حذف حركتها، وقد تقدم بيانه فوزنهك «يَسْتَفعُون».
والمراد بالنِّسَاء: الأطفال، وإنما عبر عنهم بالنساء، لمآلهن إلى ذلك.
وقيل: المراد غير الأطفال كما قيل في الأبناء. ولام «النساء» الظاهر أنها من واو لظهورها في مرادفه وهوك نِسْوَان ونِسْوَة.
وهل «نساء» جمع «نسوة» أو جمع «امرأة» من حيث المعنى؟ قولان، ويحتمل أن تكون ياءً اشتقاقاً من النّسْيَان.
قوله: ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بلااء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ الجار والمجرور خبر مقدم، و «بَلاَء» مبتدأ. ولامه واو لظهورها في الفعل نحوك بَلَوْتُه ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٥]، فأبدلت همزة. والبلاء يكون في الخير والشر، قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥] ؛ لأن الابتلاء امتحان، فيمتحن الله عباده بالخير ليشكروا، وبالشر ليصبروا.
وقال ابن كيسن: «أَبْلاَه وبَلاَه في الخير والشر» ؛ وأَنْشَدَ: [الطويل]
٤٧٩ - جَزَى الله بِالخَيْرَاتِ ما فعلاَ بِكُمْ وَأَبْلاَهُمَا خَيْرَ البَلاَءِ الَّذِي يَبْلُو
فجمع بين اللغتين.
وقيل: الأكثر في الخير أَبْلَيْتُهُ، وفي الشر بَلَوْتُهُ، وفي الاختبار ابْتَلَيْتُهُ وبَلَوْتُهُ.
قال النحاس: فاسم الإشارة من قوله: «وفي ذلكم» يجوز أن يكون إشارة إلى الإنْجَاءِ وهو خير محبوب، ويجوز أن يكون إشارة إلى الذّبح، وهو شر مكروه.
وقال الزمخشري: والبلاء: المِحْنة إن أشير ب «ذلكم» إلى صنيع فِرْعَونَ، والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء، وهو حسن.
وقال ابن عطية: «ذلكم» إشارة إلى جملة الأمر، إذ هو خير فهو كفرد حاضر، كأنه يريد أن يشير به إلى مجموع الأمرين من الإنْجَاءِ، والذبحن ولهذا قال بعده: «يكون البلاء في الخير والشر»، وهذا غير بعدي؛ ومثله: [الرمل]
٤٨٠ - إنَّ لِلْخَيْرِ ولِلشَّرِّ مَدًى........................
61
وكل ذلك وجه.
وقيل: و «من ربكم» متعلّق ب «بلاء»، و «من» لابتداء الغاية مجازاً.
وقال أبو البقاء: هو في موضع رفع صفة ل «بلاء»، فيتعلّق بمحذوف. وفي هذها نظر، من حيث إنه إذا إجتمع صفتان، إحْدَاهما صريحة، والأخرى مؤولة، قُدِّمت الصريحة، حتى إن بعض الناس يجعل ما سواه ضرورةً، و «عظيم» صفة ل «بلاء» وقد تقدم معناه مستوفى [في أول السورة].
62
«إذْ» في موضع نصب، و «الفَرْق» [والفَلْق] واحد، وهو الفصل والتمييز، ومنه: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ﴾ [الإسراء: ١٠٦] أيى: فَصّلناه ومَيَّزْنَاه بالقرآن والبيان.
والقرآن فُرقان لتمييزه بين الحق والباطل.
وقرأ الزُّهْرِي: «فَرَّقْنَا» بتشديد الراء. أي: جعلناه فرقاً.
قوله: «بكم» الظاهر أن الباء على بابها من كونها داخلة على الآلة، فكأنه فرق بهم كما يفرق بين الشَّيئين بما توسط بينهما.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن تكون المعدية كقولك: «ذهبت بزيد»، فيكون التقدير: أفرقناكم البَحْر، ويكون بمعنى: ﴿وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر﴾ [الأعراف: ١٣٨]. وهذا أقرب من الأول.
ويجوز أن تكن الباء للسببية أي: بسببكم، ويجوز أن تكون للحال من «البحر» أيك فرقناه ملتبساً بكم، ونظره الزمخشري بقوله: [الوافر]
٤٨١ -.................... تَدُوسُ بِنَا [الجَمَاجِمَ] والتَّرِيبَا
أي: تَدُوسُهاَ ونحن راكبوها.
قال أبو البقاء: أي: فرقنا البحر وأنتم به، فيكون إما حالاً مقدرة أو مقارنة، ولا حاجة إلى ذلك؛ لأنه لم يكن مفروقاً إلا بهم حال كونهم سالكين فيه.
62
وقال أيضاً: و «بكم» في موضع نصب مفعول ثانٍ ل «فَرَقْنَا» و «البحر» مفعول أول، والباء هنا في معنى اللام.
وفيه نظر؛ لأنه على تقدير تسليم كون الباء بمعنى اللامن فتكون لام العلّة، والمجرور بلام العلة لا يقال: إنه مفعول ثانٍ، لو قلت: ضربت زيداً لأجلك، لا يقول النحوي: «ضرب» يتعدّى لاثنين إلى أحدهما بنفسه، وللآخر بحرف الجر.
و «البَحْر» اصله: الشِّق الواسع، ومنه «البَحِيْرة» لِشَقِّ أذنهان وفيه الخلاف المتقدّم في «النهر» في كونه حقيقة في الماء، أو في الأّخْدُود؟
ويقال: فرس بَحْر أي: واسع الجَرْي، ويقال: أبْحَرَ الماء: ملح؛ قال نُصَيْب: [الطويل]
٤٨٢ - وَقَدْ عَادَ مَاءُ الأَرْضِ بَحْراً فَزَادَنِي إلَى مَرَضِي أنْ أبْحَرَ المَشْرَبُ العَذْبُ
والبَحْر يكنى إياه، وقد يطلق على العَذْب بحراً، وهو مختص بالماء المَلْح وفيه خلاف. و «البَحْر» : البلدة، يقال: هذه بَحْرتنا، أي: بلدتنا.
و «البحر» ك السُّلال يصيب الإنسان. ويقولون: لقيته صَحْرَةٌ بَحْرَةٌ، أي: بارزاً مكشوفاً.
قوله: «فأنجيناكم» أي: أخرجنانكم منه، يقال: نجوت من كذا نِجَاءً، ممدوداً، ونَجَاةً، مقصوراً، والصدق مَنْجَاة، وأَنْجَيْت غيري ونَجَّيته، وقرىء بهما: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم﴾ [البقرة: ٤٩] «فأنجيناكم».
قوله: ﴿وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ﴾.
«الغَرَق» : الرسول في الماء، يقال: غَرِقَ في الماء غَرَقاً، فهو غَرِقٌ وغَارِقٌ أيضاً، وأَغْرَقَ غَيْرَهُ وغَرَّقَهُ، فهو مُغَرَّقٌ وغَرِيقُ؛ قال أبو النَّجْمِ: [الرجز]
٤٨٣ - مِنْ بَيْن مَقْتُولٍ وطَافٍ غَارِقٍ... ويطلق على القتل بأي نوع كان؛ قال الأعشى: [الطويل]
٤٨٤ -...................... ألاّ لَيْتَ قَيْساً غَرَّقَتْهُ القَوابِلُ
وذلك إن القَابِلَةَ كانت تغرق المولود في دم السَّلَى عام القَحْطِن ذكراً كان أو أنثى
63
حتى يموت، فهذا الأصل، ثم جعل كل قتل تغريقاً، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]
٤٨٥ - إذَا غَرَّقَتْ أرْبَاظُهَا ثِنْيَ بَكْرةٍ بِتَيْهَاءَ لَمْ تُصْبِحْ رَءُوماً سَلُوبُهَا
والأَرْبَاض: الحِبَال. والبَكْرَة: النَّاقة. وثِنْيُهَا: بطنها الثَّاني، وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب.
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من «آل فرعون» أي: وأنتم تنظرون إغْرَاقَكُم، والعامل «أغرقنا»، ويجوز أن يكون حالاً من مفعول «أنجيناكم».
والنَّظر يحتمل أن يكون بالبَصَرِ؛ لأنهم كانوا يبصرون بعضهم بعضاً لقربهم؛ وقيل: إن آل فرعون طغوا على الماء، فنظروا إليهم. وأن يكون بالبصيرة والاعتبار.
وقيل المعنى: وأنتم بحال من ينظر لو نظرتم، ولذلك لم يُذْكر له مفعول.

فصل في البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه


قال بعض المفسرين: والبَحْرُ الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه هو «نيل مصر»، وقيل: بحر «قلزم» طرف من بحر «فارس» ؟
وقال قتادة: بحر من وراء «مصر» يقال له «إسَافَة» واختلفوا هل تفرق البحر عرضاً أو طولاً؟
فقيل: إنه [تفرق] عرضاً وأن بني إسرائيل خرجوا إلى البَرِّ الذي كانوا فيه أولاً. وهذا هو الظاهر وفيه جمع بين القولين، فإنهم دخلوا فيه أولاً عرضاً، ثم مشوا فيه طولاً، وخرجوا من بَرْ الطول، وتبعهم فرعون فالْتَطَم عليه البحر، فغرق هو وجنوده، وصار بنو إسرائيل في بَرْ الطول، وإلا فأي من يقابل بر «القلزم» خرجوا إليه حتى ذهبوا إلى «الطُّور».
ومن قال: إن البحر هو النيل فلا إشْكال؛ لأنهم كانوا في «مصر القديمة»، وجاءوا إلى شاطىء النيل، فانفرق لهم، وخرجوا إلى بَرّ الشرق، وذهبوا إلى «برية الطور».

فصل في نعم الله على موسى وقومه في تلك الواقعة


اعلم أن هذه الواقعة تضمّنت نعماً كثيرة في الدنيا والدين في حَقّ موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وبني إسرائيل.
أما نعم الدنيا فهي أنهم لما وقعوا إلى ذلك المَضِيقِ، ومن ورائهم فرعون وجنوده،
64
وقُدَّامهم البحر، فإن توقّفوا أدركهم فرعون وأهلكهم، وإن ساروا أغرقوا، فلا خوف أعظم من ذلك، ثم إن الله تعالى نَجّاهم بغرق البحر، فلا نِعْمَةَ أعظم من ذلك، وإيضاً فإنهم شاهدوا هَلاَكَ أعدائهم، وأورثهم أرضهم وديارهم، وأموالهم، وخلّصهم من أيديهمنولو أنه تعالى خلّص موسى وقومه من تلك الحالة، وما أهلك فرعون لكان الخوف باقياً؛ لأنه رُبّما اجتمعوا واحتالوا على من أذاهم بحيلة، ولكن الله تعالى حَسَمَ عنهم مادة الخوف.
وأما نعم الدِّين فهي أن قوم موسى لما شَاهَدُوا تلك المُعْجزة الباهرة زالت عن قلوبهم الشُّكُوك والشُّبُهَات، فإنّ دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصَّانع الحكيم، وعلى صدق موسى تُقَرِّب من العلم الضروري، فكأنه تعالى رفع عنهم تحمُّل النظر الدقيق، والاستدلال، وأيضاً لما عاينوا ذلك صار داعياً لقوم فرعون إلى ترك تكذيب موسى، والإقدام على تكذيب فرعون، وايضاً أنهم عرفوا أن الأمور بيد الله، وأنه لم يكن في الدنيا أكمل ما كان لفرعون، ولا شدّة أكثر مما كانت لبني إسرائيل، ثم إنّ الله تعالى في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلاً، والذليل عزيزاً، وذلك يوجب انقطاع القَلْب عن عَلاَئق الدُّنيا، والإقبال بالكليّة على خدمة الخالق، والتوكُّل عليه في كل الأمور.
فإن قيل: إن فرعون لما شاهد فَلْقَ البحر وكان عاقلاً فلا بد وأن يعلم أن ذلك من فعل قادرٍ عالمٍ مخالفٍ لسائر القادرين، فكيف بقي على الفكر؟
والجواب: لعلّه اعتقد أن ذلك أيضاً السحر، كما قال حين ألقى موسى عصاه، وأخرج يده.
يروى أن فرعون كان راكباً حصاناً، فلما أراد العُبُور في البحر خلف بني إسرائيل جَفل الحصان، فجاء جبريل على فَرَسٍ أنثى فتقدّمهم فتبعه الحصان، فلمّا اقتحموا البحر، وميكائيل خلفهم يَسوقهم حتى لم يَبْقَ منهم أحد، وخرج جبريل وهم أولهم بالخروج أمر الله البحر فالْتَطَمَ عليهم.
واعلم أن هنا لطائف:
أولها: أن كل نبي لأمّته نصيب مما أعطي نبيهم، فموسى عليه الصَّلاة السلام لما نُجِّي من الغَرَقِ حين ألقي في اليَمِّ، كذلك [نُجّيت] أمته من الغَرَقِ.
ثانيها: أن فرعون ادَّعى العلو والربوبية، فأغرق ونزل إلى الدَّرْك الأسفل.
ثالثها: أنه لما ذبح أبناءهم، والذبح هو إنْهَار الدم، أغرقه الله في النَّهر.

فصل في فضل يوم عاشوراء


روى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما قدم «المدينة»، فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا هَذا اليوم الذي تَصُومُونَهُ» فقالوا: هذا يوم
65
عَظِيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً فنحن نصومه فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فنحن أَحَقّ وأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ»، فصامه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمر بصيامه. وأخرجه البخاري أيضاً عن ابن عباس، وأن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لأصحابه: «أَنْتُمْ أَحَقّ بموسى منهم فَصُومُوا».
فظاهر هذا أنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما صامه اقتداءً بموسى عليه السَّلام على ما أخبره اليَهُود، وليس كذلك، لما روته عائشة قالت: «كان يوم عَاشُورَاء تصومه قُرَيْشٌ في الجاهلية، وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصومه في الجاهلية، فلما قدم» المدينة «صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك صِيَامَ يوم عَاشُورَاء، فمن شاء صامه، ومن شاء تَرَكَه».
مُتَّفَقٌ عليه.
فإن قيل: يحتمل أن تكون قريش إنما صامته؛ لأن اليهود أخبروهم، وكانوا عندهم أصحاب عِلْمٍ، فصامه النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كذلك في الجاهلية، أيى ب «بمكة»، فلما قدم «المدينة»، ووجد اليهود يصومونه قال: «نَحْنُ أَحَقّ وأولى بموسى منكم»، فصامه اتِّبَاعاً لموسى.
فالجوابك أن هذا مبني على أنه عليه الصلاة والسَّلام كان متعبداً بشريعة موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وليس كذلك.
66
قرأ أبو عمرو ويعقوب: «وَعَدْنَا» هنا، وما كان مِثْلَه ثلاثاً، وقرأ الباقون: «وَاعَدْنَا» بالألفن واختار أبو عبيدة قراءة أبي عمرو، ورجّحها بأن المُوَاعدة إنما تكون من البَشَرِ، وأمَا الله عَزَّ وَجَلَّ فهو المنفرد بالوَعْدِ والوَعِيدِ، على هذا وجدنا القرآن نحو: ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ﴾ [المائدة: ٩]، ﴿وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق﴾ [إبراهيم: ٢٢]، ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله﴾ [الأنفال: ٧].
ورجحه مكّي فقال: وأيضاً فإن ظاهر اللفظ فيه «وعد» من الله تعالى لموسى، وليس فيه «وَعْد» من موسى، فوجب حمله على الواحد، بظاهر النص
ثم ذكر جماعة جلّة من القراء عليها كالحَسَنِ، وإبي رجاء، وأبي جعفر، وشيبة، وعيسى بن عمر، وقتادة، وابن إسحاق، ورجّحه أبو حاتم أيضاً بأن قراءة العامة عندنا «وَعَدْنَا» بغير ألف؛ لأن المُوَاعدة أكثر ما تكون بين المَخْلُوقين والمُتَكَافئين.
وقد أجاب الناس عن قول أبي عبيد، وأبي حاتم، ومكي بأن «المُفَاعلة» هنا صحيحة، بمعنى أن موسى نزل قبوله لالتزام الوفاء بمنزلة الوعد منه، أو أنه وعد أن يفي بما كلفه ربه.
وقال القفال: «ولا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله تعالى ويكون معناه يعاهد الله
67
تعالى»، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله﴾ [التوبة: ٧٥] إلى أن قال: ﴿بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ﴾ [الأنفال: ٧٧].
وقال مكّي: المُوَاعدة أصلاً من اثنين، وقد تأتي بمعنى «فعل» نحو: «طَارَقْتُ النَّعْل» فجعل القراءتين بمعنى واحدٍ.
وقال الكسائي: ليس قوله الله: ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ﴾ [النور: ٥٥] من هذا الباب في شيء؛ لأن «واعدنا موسى» إنما هو من باب المُوَافاة، وليس من الوعد في شيء، وإنما هو من قولك: «موعدك يوم كذا»، و «موضع كذا».
والفصيح في هذا أن يقال: «واعدته»، قال تعالى حكاية عن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه قال: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة﴾ [طه: ٥٩].
وقال الزجاج: «وَاعَدْنَا» بالألف جَيّد؛ لأن الطَّاعة في القبول بمنزلة المُوَاعد، فمن الله وَعْد، ومن موسى قَبُول واتباع، فجرى مجرى المواعدة.
وقال مكّي أيضاً: «والاختيار» واعدنا «بالألف؛ لأنه بمعنى» وعدنا «في أحد معنييه؛ ولأنه لا بُدَّ لموسى من وَعْد أو قَبُول يم مقام الوَعْدِ فتصحّ المُفَاعلة».
قال ابن الخَطِيب: الأقوى أن الله تعالى وعد الوَحْي، وهو وعد الله المجيء للميقات.
قال الجوهري: «المِيعَادُ: المُوَاعدة والوقت والموضع» ؟
ووعد يتعدّى لاثنين، ف «موسى» مفعول أول، و «أربعين» مفعول ثانٍ، ولا بد من حذف مضاف، أي: تمام أربعين، ولا يجوز أن يتنصب على الظَّرف، لفساد المعنى، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جار مجرى جمع المذكر السَّالم، وهو في الأصل مفرد اسم جمع، سمي به هذا العَقْد من العدد، ولذلك أعربه بعضهم بالحركات؛ ومنه في أحد القولين: [الوافر]
٤٨٦ - وَمَاذَا يَبْتَغِي الشُّعَرَاءُ مِنِّي وَقَدْ جَاوَزْتُ حَدَّ الأَرْبَعِينِ
بكسر النون.
68
و «ليلة» نصب على التَّمييزن والعقود التي هي من عشرين إلى تِسْعِين، وأحد عشر إلى تسعة عشر كلها تميز بواحد منصوب.
و «موسى» هو موسى بن عِمْران بن يصهر بن قاهت بن لاوي ين يَغْقُوب بن إسْحَاق ابن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، اسم أعجمي غير منصرف، وهو في الأصل على ما يقال مركّب والأصلأ: مُوشَى بالشين لأن «ماء» بلغتهم يقال له: «مو» والشّجر يقال له: «شَا» فعربته العرب فقالوا: موسى.
قالوا: إما سمي به؛ لأن أمه جعلته في التَّابوت حين خافت عليه من فِرْعون، وألقته في البحر، فدفعته أمواج البحر حتى أدختله بين أشْجَار عند بيت فرعون، فخرجت جَوَاري آسيَةَ امرأة فرعون يَغْسِلْنَ فوجدن التَّابوت، فأخذنه فسمي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ باسم المكان الَّذِي أصيب فيه وهو الماء والشجر، وليس لموسى اسم النَّبِيّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ اشتقاق؛ لأنه أعجمي؛ لأن بني إسرائيل والقْبط ما كانوا يتكلّمون بلغة العرب.
ومنهم من قال: إنه مشتق، واختلفوا في اشتقاقه، فقيل: هو «مفعل» من أوْسَيْت رأسه: إذا حلقته فهو مُوسى، ك «أعطيته فهو مُعْطَى» ن فمن جعل اسمه عليه مشتقاً قال: إنما سمي بذلك لِصَلَعِهِ.
وقيل: مشتق من «مَاسَ يَمِيسُ» أي: يَتَبَخْتَرُ في مشيته ويتحركن فهو «فعلى» وكان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كذلك، فقلبت الياء واواً لانظمام ما قبلها ك «مُوقِن» من «اليَقين».
والصحيح الأول، وهذا الاشتقاق إنما هو في مُوسى آلة الحَلْق.

فصل في قصة موسى بعد نجاة قومه


ذكر المفسرون أن موسى عليه الصلاة والسَّلام قال لبني إسرائيل: إن خرجنا من البحر سالمين آتيكم بكتاب من عند الله يبيّن لكم فيه ما يجب عليكم من الفِعْل والتَّرْكِ، فلما جاوز البحر، وأغرق الله فرعون قالوا: يا موسى ائتنا بذلك الكتاب الموعود، فخرج إلى الطُّور في سَبْعين من [أخيار] بني إسرائيل، وصعدوا الجبل، وواعدهم إلى تمام أربعين ليلةً، فعدوا فيما ذكر المفسرون وعشرين يوماً وعشرين ليلة، وقالوا: قد [أخلفنا] موعده. فاتّخذوا العجل.
وقال أبو العالية: «بلغنا أنه لم يحدث حدثاً في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور».
فإن قيل: لم خصّ الليالي بالذِّكْر دون الأيَام؟
قيل: لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قَبْلَهُ في الرتبة وقع بها التاريخ، فاللَّيَالي أول
69
الشهور، والأيام تَبَعٌ لها، وأيضاً فليس المراد انقضاء أي أربعين كان، بل أربعين معيناً وقيل: لأن الظلمة سابقة على النُّور، فهي الأصل يؤيده قوله تعالى:
﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار﴾ [يس: ٣٧].

فصل في معنى أربعين ليلة


قوله: ﴿أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ معناه: واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلةً كقولهم: «اليوم أربعين يوماً منذ خروج فلان» أي: تمام الأربعين، والحاصل أنه حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه كقوله: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] وأيضاً فليس المراد انقضاء أي أربعين كان، بل أربعين معيناً، وهو الثلاثون من ذي القِعْدَة، والعشر الأول من ذي الحجّة؛ لأن موسى عليه السَّلام كان عالماً بأن المراد هو هذه الأربعون، وكان ذلك بعد أن جاوز البحر.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون المراد أنه وعد قَبْلَ هذه الأربعين أن يجيء إلى الجَبَل بعد انقضاء هذه الأربعين.
قال: وهذا الاحتمال هو المؤيّد بالأخبار. فإن قيل: قوله هاهنا: «أربعين ليلة» يفيد أن المواعدة كانت من أول الأمر على الأربعين.
وقوله في الأعراف: ﴿وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [الأعراف: ١٤٢] يفيد أن المُوَاعدة كانت في أول الأمر على الثلاثين، فكيف التوفيق بينهما؟ أجاب الحَسَن البَصْري فقال: ليس المراد أن وعده كان ثلاثين ليلة، ثم بعد ذلك وعده بعشر، لكنه وعده أربعين ليلة جميعاً، وهو كقوله: ﴿ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٦].
قوله: ﴿ثُمَّ اتخذتم العجل﴾ «اتَّخَذَ» يتعدّى لاثنين، والمفعول الثاني محذوف أي: اتخذتم العِجْلَ إلهاً، وقد يتعدّى لمفعول واحد إذا كان معناه «عمل» و «جعل» نحو: ﴿وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً﴾ [البقرة: ١١٦].
وقال بعضهم: «تَخِذَ» و «اتَّخَذَ» يتعدّيان لاثنين ما لم يفهما كسباً، فيتعديان لواحد، واختلف في «اتَّخَذَ» فقيل: هو «افتعل» من الأّخْذِ، والأصل: «ائْتَخَذَ» الأولى همزة وصل، والثانية فاء الكلمة، فاجتمع همزتان ثانيتهما ساكنة بعد أخرى، فوجب قلبها ياء ك «إيمان» فوقعت الياء فاء قبل تاء الافتعال، فأبدلت تاء، وأدغمت في تاء الافتعال ك «اتَّسَرَ» من اليُسْرِ «، إلا أن هذا قليل في باب الهمز؛ نحو:» اتَّكَلَ «من» الأَكْل «، و» اتَّزَر «من» الإزَار «؛ وقال أبو عليٍّ: هو» افْتَعَل «من تَخِذَ يَتْخَذُ؛ وأنشد: [الطويل]
70
وقال تعالى: ﴿لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ [الكهف: ٧٧] وهذا أسهل القولين.
والقُرّاءُ على إدغام الذَّال في التاء لقرب مخرجهما، وابن كثير، وعاصم في رواية حَفْص بالإظهار، وهذا الخلاف جارٍ في المفرد نحو:» اتَّخَذْتُ «، والجمع نحو:» اتَّخَذْتُم «، وأتى في هذه الجملة ب» ثم «دلالة على أن الإتِّخَاذ كان بعد المُوَاعدة بمهلة.
وقال ابن الخطيب: لما أنعم عليهم بهذه النِّعْمَة، وأتوا عَقِيْبَ ذلك بأقبح أنواع الجهل الكُفْر، كان ذلك في حل التعجُّبن فهو كمن يقول: إني أحسنت إليك، وفعلت كذا وكذا، ثم إنك تقصدني بالسُّوء والإيذاء منه، ومثله: ﴿ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١]، ﴿ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ٢] ؛ ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك﴾ [البقرة: ٧٤]، ﴿ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً﴾ [الجاثية: ٨]، ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥].
قوله: «مِنْ بعْدِهِ»
متعلّق ب «اتَّخَذَتُمْ»، و «مِنْ» لابتداء الغاية والضمير بعود على مُوسى، ولا بُدّ من حذف مضافٍ، إي: من بعد انطلاقه أو مُضِيّه.
وقل ابن عطية: «يعود على موسى».
وقيل: «على انطلاقه للمتكلّم».
ويل: عرى الوَعْدِ، وفي كلامه بعض مُنَاقشة، فإن قوله: «وقيل يعود على انطلاقه» يقتضي عوده على موسى من غير تقدير مضاف، وذلك غير مُتَصَوَّر.
قوله: «وَأَنْتُم ضَالِمُونَ» جملة حالية من فاعل «اتَّخَذْتُمْ».
و «العِجْل» ولد البقرةن والعُجُول مثله، والجمع عَجَاجِيْل، والأنثى «عِجْلة»، عن أبي الحسن، وسمي العجل عِجْلاً لاستعجالهم عبادته، ذكره القُرْطبي، وفيه نظر؛ لأن العِجْلَ ولد البقرة كان موجوداً قبل أن يتخذ بنو إسرائيل العِجْل.

فصل


قال أهل التَّفسير: لما ذهب موسى إلى الطُّور، وقال لأخيه هارون: اخلفني في قَوْمي، وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحُلِيّ الذي استعاروه من القِبْطِ قال لهم
71
هارون: إن هذه الثياب والحُلِيّ لا تحلّ لكم، وكان السَّامِرِيُّ من مسيره مع موسسى عليه السلام إلى البحر ينظر إلى حافر دَابّة جبريل حين تقدم على فرعون في دخول البحر.
قال بعض المفسرين: كان لكما نقل حافره يخضرّ مكانه نَبْتاً، فلهذا سمي فرس الحياة، ولا يصيب شيئاً إلا حَيي، فقال السّامريُّ: «إن لهذا النبت نَبَتأً، فقبض منه قَبْضَةَ، وقيل: قبض من تراب حَافِرِهِ، فذلك قوله: ﴿فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول﴾ [طه: ٩٦]، ثم إن السَّامري أخذ ما كان معهم من الذَّهب، فصوَّر منه عِجْلاً وألقى فيه تلك القَبْضة، فخرج له صوت كالخُوَارِ، فقال القوم:» هذا إلَهُكُمْ وإله موسى «
قال ابن عبّاس:»
لأنه كان مُنَافقاً يظهر الإسلام، وكان يعبد البقر، وكان اسمه موسى بن ظفر «.
وقيل: متَّى.
وقيل: هارون، وإنهم عبدا العجل بعد مُجاوزة النَّهر لقوله تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: ١٣٨].
فإن قيل: كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الصنم الذي لا يتحرّك، ولا يحسّ، ولا يعقل مستحيل أن يكون له إله السموات والأرض، وَهَبْ أنه ظهر من خُوَار، ولكن هذا القَدْر لا يصلح أن يكون شُبْهة في قَلْب أحد من العقلاء في كونه إلهاً، وأيضاً فإن القوم قد شاهدوا قبل ذلك من المعجزات الظاهرة التي تكون قريبةً من حَدّ الإلجاء من الدلالة على الصانع وصدق موسى عليه السَّلام فمع قوة هذه الدلالة وبلوغها إلى حَدّ الضرورة، لا يكون صدور الخُوَارِ من ذلك العِجْلِ يقتضي شبهة في كون ذلك الجسم المصوت إلهاً.
قال ابن الخطيب: والجواب أنّ هذه الواقعة لا يمكن تصحيحها إلاّ على وجه واحدٍ، وهو أن السَّامري ألقى إلى القوم أن موسى عليه السَّلام إنما قدر على ما أتى به؛ لأنه كان يتّخذ طلسمَات على قوى ملكية، وكان يقدر بواسطها على هذه المُعجِزَاتِ فقال السَّامري للقوم: «وأنا أتخذ لكم طلسمات مثل طلسمته، وروّج عليهم ذلك بأن جعله بحيث خرج منه صَوْتٌ عجيب، فأطمعهم في أن يصيروا مثل مُوسَى عليه السَّلام في الإتيان بالخوارق، أو لعلَ القوم كانوا مجسّمة وحُلُولية، فجوزوا حلول الإله في بعض الأجْسَام، فلذلك وقعوا في تلك الشبهة.

فصل في فوائد من قصة بني إسرائيل


في هذه القصة فوائد:
72
أحدها: أنها تدلّ على أن أمّة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خير الأمم؛ لأن أولئك اليهود مع مُشَاهدتهم تلك البَرَاهين البَاهِرَة اغْتَرُّوا بهذه الشبهة الرَّكيكة، وأمّا أمة محمد عليه السلام فإنهم مع أنهم محتاجون في ثبوت كون القُرْآن معجزاً إلى الدَّلائل الدقيقة لم يَغْتَرُّوا بالشُّبُهَات العظيمة، وذلك يدلُّ على أنهم أكمل عَقْلاً، وأدعى خاطراً من اليهود.
وثانيها: فيه تحذير عظيم من التقليد والجَهْل بالدلائل، فإن هؤلاء الأقوام لو عرفوا الله بالدَّليل معرفة تامّة لما وقعوا في شبهة السامري.
وثالثها: تسلية النبي صلى الله علي وسلم عما كان شَاهَدَ من مشركي العرب، واليهود، والنَّصارى من الخلاف، فكأنه تعالى أمره بالصَّبْرِ على ذلك كما صَبَرَ مُوسَى عليه السلام في هذه الواقعة المنكرة، فإنهم بعد أن خلّصهم الله تعالى من فرعون، وأراهم المعجزات العجيبة من أوّل ظهور مُوسَى إلى ذلك الوقت، اغْتَرُّوا بتلك الشبهة الرّكيكة، وأن موسى عليه السلام صبر على ذلك، فَلأَنْ يصبر محمد عليه السلام على أّذِيَّةِ قومه أولى.
ورابعها: أن اشدّ الناس مجادلةّ وعداوة مع الرسول هم اليهود، فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء يفتخرون بأسلافهم، ثم إن أسلافهم كاانوا في البَلاَدَةِ، والجهالة، والغباوة إلى هذا الحد بحيث إن أشدّ الأشياء بَلاَدَة، وجهالة، وغباوة، هم البقر، فجعلوه إلهاً، فكيف هؤلاء الأخلاف.

فصل


في تفسير الظّلم وجهان:
الأول: قال فيه أبو مسلم الظُّلم في أصل اللغة من النقص قال تعالى:
﴿كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً﴾ [الكهف: ٣٣].
والمعنى: أنهم تكروا عبادة الخلاّق المحيي المميت، واشتغلوا بعبادة العِجْلِ، فقد صاروا ناقصين في خيرين: الدين والدنيا.
والثّاني: أن الظلم في العرف عبارة عن الضرر الخالي عن نفع يزيد عليه، ودفع مضرّة أعظم منه، والاسْتِحْقَاقُ غير العرفي علمه أو ظنّه، فإذا كان بهذه الصفة كان فاعلاً ظلماً، ثم إن الرجل إذا فعل ما يؤدّيه إلى العقاب والنار، قيل: «إنه ظالم لنفسه»، وإن كان في الحال نفعاً ولذّة كما قال: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣].
وقال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ [فاطر: ٣٢] ولمّا كانت عبادتهم لغير الله ظُلماً ومؤدّياً إلى عذاب النار سُمّي ظلماً.

فصل في ردّ شبهة للمعتزلة


استدّلت المعتزلة بهذه الآية على أنّ المعاصي ليست بخلق الله من وجوه:
73
أحدها: أنه تعالى ذمَّهم عليها، ولو كانت مخلوقةً له لكانوا مطيعين بفعلها؛ لأن الطَّاعة عبارة عن فعل المراد.
وثانيها: لون كان العصيان مخلوق لله تعالى لكان الذَّم بسببه يجري مجرى الذم بسبب كونه أَسْوَدَ، وأبيض، وطويلاً.
قال ابن الخطيب: وهذا تمسّك بفعل المدح والذم، وهو معارض بمسألتي الداعي والعلم، وقد تقدّم.
قوله: «ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ».
و «العفو» المَحْوُن منه: «عَفَا الله عَنْكُمْ» أيك محا ذنوبكم، والعافية: لأنها تمحو السّقم، وعَفَتِ الريح الأَثَر؛ قال: [الطويل]
٤٨٧ - وَقَدْ تَخِذَتْ رِجْلِي إلَى جَنْبِ غَرْزِهَا نَسِيفاً كَأُفْحُوصٍ القطَاةِ المُطَوِّقِ
٤٨٨ - فَتُوضِحَ فَالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ
وقيل: عَفَا كذا أي: كَثُرَ، ومنه «وأَعْفُوا اللِّحَى» فيكون من الأضداد.
وقال ابن عطية: «العَفْوُ تَغطية الأثر، وإذهاب الحال الأوّل من الذَّنْب أو غيره، ولا يستعمل العَفْوُ بمعنى الصَّفح إلا في الذنب». وهذا الذي قاله قريب من تَفْسِيْرِ الغُفْرَان؛ لأن الغفر التغطية والسَّتر، ومنه: المغفر، ولكن قد فُرِّق بينهما بأن العفو يجوز أن يكون بعد العقوبة، فيجتمع معها، وأمّا الغُفْرَانُ فلا يكون مع عقوبة.
وقال الرَّاغب: «العَفُو» : القصد لتناول الشَّيء، يقال: عَفَاه واعْتَفَاهُ أي: قصده مُتَناولاً ما عنده، وعَفَتِ الريحُ التُّرابَ قصدتها متناولةً آثارها، وعَفَتِ الديار كأنها قصدت نحو البِلَى وعفا النَّبْت والشَّعْرُ قصد تناولَ الزِّيادة، وعفوتُ عنك كأنه قصد إِزَالَةَ ذَنْبِهِ صارفاً عنه، وأعْفَيْتُ كذا، أي: تركته يعفو ويكثر، ومنه «أعْفُوا اللِّحَى» فجعل القصد قدراً مشتركاً في العَفْوِ، وهذا ينفي كونه نم الأَضْدَادِن وهو كلام حسن؛ وقال الشاعر [الطويل]
٤٨٩ -..................... إِذَا رَدَّ عَافِي الْقِدْر مَنْ يَسْتَعِيرُهَا
74
معناه: أن العَافِي هنا ما يبقى في القَدْرِ من المَرَقِ ونحوه، فإذا أراد أحد أن يستعير القِدْرَ يُعَلِّلُ صاحبها بالعَافي الذي فيها، فالعَافِي فاعل، ومن يستعيرها مَفْعُول، وهو من الإسناد المجازي؛ لأن الرَّاد في الحقيقة صاحب القِدْرِ بسبب العافي.

فصل في تفسير المعتزلة للعفو في الآية


قالت المعتزلة: «المراد ثم عفونان عنكم بسبب إتيانكم بالتَّوْبَة، وهي قتل بعضكم بَعْضاً».
قالت بن الخطيب: وهذا ضعيف من وجهين:
الأول: أن قبول التوبة وَاجبٌ عَقْلاً، ولو كان المُرَاد ذلك لما جاز عدُّه في معرض الإنعام، لأن أداء الواجب لا يُعَدّ من باب الإنعام، والمقصود من هذه الآيات تَعْدِيْدُ نِعَمِ الله تعالى عليهم.
الثاني: أن العَفْوَ اسم لإسقاط العقاب المستحقّ؛ وأمّا إسقاط ما يجب إسقاطه، وذلك لا يُسمَّى عَفْواً، ألا ترى أن الظالم لما لم يجز له تعذيب المظلوم، فإذا ترك عذابه لم يكن الترك عفواً، فكذلك هاهنا.
إذا ثبت هذا فنقول: لا شَكّ في حصول التوبة في هذه الصورة لقوله تعالى: ﴿فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] وإذا كان كذلك دَلَّت الآية على أن قَبُولَ التوبة غير واجب عَقْلاً، وإذا ثبت ذلك ثبت أيضاً أنه تعالى أسقط عُقُوبَةَ من يجوز عقابه عقلاً، وشرعاً، وذلك أيضاً خلاف قول المعتزلة، وإذا ثبت أنه عفا عن كفّار قوم موسى، فلأن يعفوا عن فُسّاق أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أنهم خير أمة أُخرجت للنَّاس كان أولى.
قوله: «لَعَلَّكُمْ تِشْكُرُونَ».
«تَشْكُرُونَ» في محل رفع خبر «لعلّ»، وقد تقدّم تفسير الشكر عند ذكر الحمد. وقال الراغب: هو تصور النعمة وإظهارها.
وقيل: هو مقلوب عن الكَشْر أي: الكَشْف، وهو ضدّ الكفر، فإنه تَغْطِيَةُ النعمة وقيل: أصله من «عَيْن شَكْرى» أي: ممتلئة، فهو على هذا الامتلاء من ذكر المنعم عليه.
و «شَكَر» من الأفعال المتعدّية بنفسها تارةً، وبحرف الجرِّ أُخْرَى، وليس أحدهما أصلاً للآخَرِ على الصحيحن فمن المتعدِّي بنفسه قوله عَمْرِو بْنِ لُحَيِّ: [الطويل]
75
٤٩٠ - هُمُ جَمَعُوا بُؤْسَى ونُعْمَى عَلَيْكُمُ فَهَلاَّ شَكَرْتَ الْقَوْمَ إِذْ لَمْ تُقَاتِلِ
ومن المتعدِّي بحرف الجر قوله تعالى: ﴿واشكروا لِي﴾ [البقرة: ١٥٢]، وسيأتي هنا تحقيقُهُ.

فصل في الرد على المعتزلة


قالت المعتزلة: إنه تعالى بَيَّن أنه عفا عنهم، ولم يؤاخذهم لكي يشركوا، وذلك يدلّ على أنه تعالى لم يرد منهم إلا الشكر.
والجواب: لو أراد الله تعالى منهم الشكر لأراد ذلك، أنما شرط أن يحصل للشَّاكر داعية للشكر أولاً بهذا الشرط، والأول باطل؛ إذ لو أراد ذلك بهذا الشِّرط، فإن كان هذا الشرط من العَمْدِ لزم افتقار الدَّاعية إلى داعية أخرى، وإن كان من الله بحيث خلق الله الدَّاعي حصل الشكر لا محالة، وحيث لم يخلق الدَّاعي استحال حُصُول الشكر، وذلك ضد قول المعتزلة، وإن أراد حصول الشُّكر منه من غير هذه الداعية، فقد أراد منه المُحَال؛ لأن الفِعْلَ بدون الدواعي مُحَال. فثبت أن الإشكال ورادٌ عليهم.
76
قوله :﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾.
و " العفو " المَحْوُ، ومنه :" عَفَا اللَّهُ عَنْكُمْ " أي : محا ذنوبكم، والعافية : لأنها تمحو السّقم، وعَفَتِ الريح الأَثَرَ ؛ قال :[ الطويل ]
٤٨٨ فَتُوضِحَ فَالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا *** لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ١٢
وقيل : عَفَا كذا أي : كَثُرَ، ومنه " وأَعْفُوا اللِّحَى " فيكون من الأضداد.
وقال ابن عطية :" العَفْوُ تَغطية الأثر، وإذهاب الحال الأوّل من الذَّنْبِ أو غيره، ولا يستعمل العَفْوُ بمعنى الصَّفح إلا في الذنب ". وهذا الذي قاله قريب من تَفْسِيْرِ الغُفْرَان ؛ لأن الغفر التغطية والسَّتر، ومنه : المغفر، ولكن قد فُرِّق بينهما بأن العفو يجوز أن يكون بعد العقوبة، فيجتمع معها، وأمّا الغُفْرَانُ فلا يكون مع عقوبة.
وقال الرَّاغب١٣ :" العَفُو " : القصد لتناول الشَّيء، يقال : عَفَاه واعْتَفَاهُ أي : قصده مُتَناولاً ما عنده، وعَفَتِ الريحُ التُّرابَ قصدتها متناولةً آثارها، وعَفَتِ الديار كأنها قصدت نحو البِلَى وعفا النَّبْت والشَّعْرُ قصد تناولَ الزِّيادة، وعفوتُ عنك كأنه قصد إِزَالَةَ ذَنْبِهِ صارفاً عنه، وأَعْفَيْتُ كذا، أي : تركته يعفو ويكثر، ومنه " أعْفُوا اللِّحَى " فجعل القصد قدراً مشتركاً في العَفْوِ، وهذا ينفي كونه من الأَضْدَادِ، وهو كلام حسن ؛ وقال الشاعر [ الطويل ]
٤٨٩. . . *** إِذَا رَدَّ عَافِي الْقِدْر مَنْ يَسْتَعِيرُهَا١٤
معناه : أن العَافِي هنا ما يبقى في القَدْرِ من المَرَقِ ونحوه، فإذا أراد أحد أن يستعير القِدْرَ يُعَلِّلُ صاحبها بالعَافي الذي فيها، فالعَافِي فاعل، ومن يستعيرها مَفْعُول، وهو من الإسناد المجازي ؛ لأن الرَّاد في الحقيقة صاحب القِدْرِ بسبب العافي.

فصل في تفسير المعتزلة للعفو في الآية


قالت المعتزلة :" المراد ثم عفونا عنكم بسبب إتيانكم بالتَّوْبَة، وهي قتل بعضكم بَعْضاً ".
قال ابن الخطيب١٥ : وهذا ضعيف من وجهين :
الأول : أن قبول التوبة وَاجبٌ عَقْلاً، ولو كان المُرَاد ذلك لما جاز عدُّه في معرض الإنعام، لأن أداء الواجب لا يُعَدّ من باب الإنعام، والمقصود من هذه الآيات تَعْدِيْدُ نِعَمِ الله تعالى عليهم.
الثاني : أن العَفْوَ اسم لإسقاط العقاب المستحقّ ؛ وأمّا إسقاط ما يجب إسقاطه، وذلك لا يُسمَّى عَفْواً، ألا ترى أن الظالم لما لم يجز له تعذيب المظلوم، فإذا ترك عذابه لم يكن الترك عفواً، فكذلك هاهنا.
إذا ثبت هذا فنقول : لا شَكّ في حصول التوبة في هذه الصورة لقوله تعالى :﴿ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾ وإذا كان كذلك دَلَّت الآية على أن قَبُولَ التوبة غير واجب عَقْلاً، وإذا ثبت ذلك ثبت أيضاً أنه تعالى أسقط عُقُوبَةَ من يجوز عقابه عقلاً، وشرعاً، وذلك أيضاً خلاف قول المعتزلة، وإذا ثبت أنه عفا عن كفّار قوم موسى، فلأن يعفو عن فُسّاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم خير أمة أُخرجت للنَّاس كان أولى.
قوله :" لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ".
" تَشْكُرُونَ " في محل رفع خبر " لعلّ "، وقد تقدّم تفسير الشكر عند ذكر الحمد.
وقال الراغب١٦ : هو تصور النعمة وإظهارها.
وقيل : هو مقلوب عن الكَشْر أي : الكَشْف، وهو ضدّ الكفر، فإنه تَغْطِيَةُ النعمة وقيل : أصله من " عَيْن شَكْرى " أي : ممتلئة، فهو على هذا الامتلاء من ذكر المنعم عليه.
و " شَكَر " من الأفعال المتعدّية بنفسها تارةً، وبحرف الجرِّ أُخْرَى، وليس أحدهما أصلاً للآخَرِ على الصحيح، فمن المتعدِّي بنفسه قول عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ١٧ :[ الطويل ]
٤٩٠ هُمُ جَمَعُوا بُؤْسَى ونُعْمَى عَلَيْكُمُ *** فَهَلاَّ شَكَرْتَ الْقَوْمَ إِذْ لَمْ تُقَاتِلِ١٨
ومن المتعدِّي بحرف الجر قوله تعالى :﴿ وَاشْكُرُواْ لِي ﴾ [ البقرة : ١٥٢ ]، وسيأتي هنا تحقيقُهُ.

فصل في الرد على المعتزلة


قالت المعتزلة : إنه تعالى بَيَّن أنه عفا عنهم، ولم يؤاخذهم لكي يشكروا، وذلك يدلّ على أنه تعالى لم يرد منهم إلا الشكر.
والجواب : لو أراد الله تعالى منهم الشكر لأراد ذلك، إنما شرط أن يحصل للشَّاكر داعية للشكر أولاً بهذا الشرط، والأول باطل ؛ إذ لو أراد ذلك بهذا الشَّرط، فإن كان هذا الشرط من العَمْدِ لزم افتقار الدَّاعية إلى داعية أخرى، وإن كان من الله بحيث خلق الله الدَّاعي حصل الشكر لا محالة، وحيث لم يخلق الدَّاعي استحال حُصُول الشكر، وذلك ضد قول المعتزلة، وإن أراد حصول الشُّكر منه من غير هذه الداعية، فقد أراد منه المُحَال ؛ لأن الفِعْلَ بدون الدواعي مُحَال. فثبت أن الإشكال واردٌ عليهم.
«الكتاب» و «الفُرْقان» مفعول ثان ل «آتيْنَا».
وهل المراد بالكتاب والفرقان شيء واحد، وهو التوراة؟
كأنه قيل: الجامع بين كونه كتاباً مُنَزَّلاً، وفرقاناً يفرِّق بَيْن الْحَقِّ والْبَاطل، نحو: رَأَيْتُ الغَيْثَ واللَّيْثَ، وهو مِنْ باب قوله: [المتقارب]
٤٩١ - إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ...........................
أو لأنهم لمَّا اختلف اللفظ، جاز ذلك؛ كقوله: [الوافر]
76
وقوله: [الطويل]
٤٩٣ -....................... وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ
وقوله عنترة: [الكامل]
٤٩٤ -....................... أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ
قال النحاس: «هذا إنما يجوز في الشِّعر، فالأحسن أن يراد بالفُرْقَانِ ما علَّمه الله موسَى من الفَرْقِ بين الحقِّ والباطل».
وقيل: «الواو زائدة»، و «الفرقان» نعت للكتاب أو «الكتابُ» التوراةُ، و «الفرقان» ما فرٌّ به بين الكُفْرِ والإيمان، كالآيات من نحو: العَصَا واليَدِ أو ما فرّق به بين الحلال والحرام من الشرائع.
و «الفُرْقَان» في الأَصل مصدر مثل الغُفْرَان.
وقد تقدّم معناه في ﴿فَرَقْنَا بِكُمُ البحر﴾ [البقرة: ٥٠].
وقيل: «الفُرقَانُ» هنا اسم للقرآن، قالوا: والتقدير: ولقد آتينا موسى الكتاب، ومحمّداً الفرقان.
قال النحاس: هذا خطأ في الإعراب والمعنى، أمّا الإعراب فلأن المعطوف على الشيء مثله، وهذا يخالفه، وأمّا المعنى فلقوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان﴾ [
77
الأنبياء: ٤٨]. وقال قُطْرب وزيد: «الفُرْقَانُ انْفِرَاقُ البَحْرِ له».
فإن قلت: هذا مذكور في قوله: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر﴾ [البقرة: ٥٠] وأيضاً قوله بعد ذلك: «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» لا يليق إلاّ بالكتاب؛ لأن ذلك لا يذكر إلا عقيب الهدى، فالجواب عن الأولى أنه تعالى لم يبين في قوله: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر﴾ أن ذلك كان لأجل موسى عليه السلام، وفي هذه الآية بَيّن ذلك بالتنصيص.
وعن الثاني: أن فَرْقَ البحر كان من الدّلائل فلعلّ المُرَاد: آتينا موسى الكتاب ليستدلُّوا بذلك على وجود الصانع، وصدق موسى عليه السَّلام، وذلك هو الهِدَايَةُ، وأيضاً فالهدى قد يُرَادُ به الفَوْزُ والنَّجَاة ولم يُرَدْ به الدلالة، فكأنه تعالى بيّن أنه أتاهم الكتاب نعمةً من الدين والفرقان الذي جعل به نجاتهم من الخَصْمِ نعمةً عاجلةً.
وقيل: الفرقان: الفَرَجُ من الكَرْب؛ لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط، ﴿إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾ [الأنفال: ٢٩] أي: فَرَجاً ومَخْرَجاً وقيل: الحجّة والبَيَان، قاله ابن بحر.
وقيل: الفُرْقَان الفَرْقُ بينهم وبين قوم فرعون، أنجى هؤلاء، وغرق أولئك، ونظيره يوم الفُرْقَان، فقيل يعني به يوم بدر.

فصل في الرد على المعتزلة


استدلت المعتزلة بقوله: «لعلكْم تهتدون» على أن الله أراد الاهتداء من الكُلّ، وذلك يبطل قول من يقول: أراد لكُفْرَ من الكافر. وأيضاً إذا كان هداهم أنه تعالى لم يخلق الاهتداء ممن يهتدي، والضلال ممن يضل، فما الفائدة في إنزال لكتاب والفرقان، ولقوله: «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» ومعلوم أن الاهتداء إذا كان يخلقه، فلا تأثير لإنزال الكتب فيه لو كان الاهتداء [ولا كتاب لحصل] الاهتداء ولو أنزل الكتاب، ولم يخلق الاهتداء فيهم لما حصل الاهتداء، فيكف يجوز أن يقول: أنزلت [الكتاب] لكي تهتدوا؟ وقد تقدّم مثل [هذا] الكلام.
78
«يا قوم» أعْلَمْ أن في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم ستَّ لُغَات.
أفصحها: حذفها مجتزئاً عنها بالكَسْرَةِ، وهي لغة القرآن.
78
والثانية: ثبوت الياء ساكنة.
الثالثة: ثبوتها مفتوحة.
الرابعة: قلبها ألفاً.
الخامسة: حذف هذه الألف، والاجتزاء عنها بالفتحة؛ كقوله: [الوافر]
٤٩٢ - فَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لِرَاهِشَيْه وَأَلْقَى قَوْلَهَا كَذِباً وَمَيْنَا
٤٩٥ - وَلَسْتُ بِرَاجِعِ مَا فَاتَ مَنِّي بِلَهْفَ وَلاَ بِلَيْتَ وَلاَ لَوَ أنِّي
أي يقول: يا لَهْفَا.
السَّادِسَةُ: بناء المضاف إليها على الضَّمّ تشبيهاً بالمفرد، نحو قراءة من قرأ: ﴿قَالَ رَبِّ احكم بالحق﴾ [الأنبياء: ١١٢].
قال بعضهم: لأن «ياقوم» في تقدير: يا أيها القوم والقوم: سم جمع؛ لأنه دالّ على أكثر من اثنين، وليس له واحد من لفظه، ولا هو على صيغة مختصّة بالتكسير، ومُفْردُهُ «رَجُل»، واشتقاقه من «قَامَ بالأَمرْرِ يقومُ به»، قال تعالى: ﴿الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء﴾ [النساء: ٣٤] والأصل في إطلاقه على الرجال؛ ولذلك قوبل بالنِّسَاء في قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ﴾ [الحجرات: ١١].
وقول زهير: [الوافر]
٤٩٦ - وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي أَقَوْمٌ جِصْنٍ أمْ نِسَاءَ
وأما قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين﴾ [الشعراء: ١٠٥] و ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ﴾ [الشعراء: ١٠٦] والمكذبون رجال ونساء فإنما ذلك من باب التَّغْلِيب، ولا يجوز أن يطلق على النِّساء وحدهن آلبتة، وإن كانت عبادة بعضهم توهم ذلك.

فصل في نظم الآية


في قوله: «يا قوم» لطيفة، وهي أنه أضاف القوم إلى نفسه، وأضاف نفسه إليهم إضافة اختلاط، وامتزاج، فكأنه منهم [وهم] منه فَصَارَا كالجَسَدِ الواحد فهو مقيد لهم ما يريد لنفسه، وإنما يضرهم ما يضره وما ينفعهم ينفعه كقول القائل لغيره إذا نصحه: ما أُحِبُّ لك إلا ما أُحِبُّ لنفسي وذلك إشارة إلى اسْتِمَالَةِ قلوبهم إلى قَبُولِ دعواه، وطاعتهم له فيما أمرهم به، ونَهَاهُمْ عنه.
79
قوله تعالى: ﴿باتخاذكم العجل﴾ الباء للسببية، متعلّقة ب «ظلمتم»، وقد تقدم الخلاف في مثل هذه لمادة.
و «العِجْل» مفعول أوّل، والثَّاني محذوف أي: إلهاً كما تقدم، والمصدر هُنَا مضاف للفاعل، وهو أحسن الوجهين، فإن المصدر إذا اجتمع فاعله ومفعوله فالأولى إضافته إلى الفاعل؛ لأنه رتبته التقديم، وهذا من الصور التي يجب فيها تقديم الفاعل.
وأما ﴿قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٧] فسيأتي إن شاء الله تعالى. وتقدّم الكلام في «العِجْل».
قوله: ﴿إلى بَارِئِكُمْ﴾ متعلّق ب «توبوا»، والمشهور كسر الهمزة؛ لأنها حركة إعراب. وروي عن أبي عمرو ثلاثة أوجه أخر:
الاخْتِلاَس: وهو الإتيان بحركة خفية، والسكون المحض، وهذه قد طعن فيها جماعة من النحاة، ونسبوا راويها إلى الغَلَطِ على أبي عَمْرو.
وقال سيبويه: «إنما اختلس أبو عمرو فظنَّه الراوي سَكَّن ولم يضبط».
وقال المبرِّد: «لا يجوز التسكين مع تَوَالِي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شِعْرِ، وقراءة أبي عمرو لحن».
وهذه جرأة من المبرد، وجهل بأشعار العرب، فإن السُّكُونَ في حركات الإعراب قد ورد في الشعر كثيراً؛ منه قول امرء القيس: [السريع]
٤٩٧ - فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُنْتَحْقِبٍ إِنْماً مِنَ الله وَلاَ وَاغِلِ
فَسكَّن «أَشْرَبْ»، وقال جَرِير: [البسيط]
٤٩٨ -......................... وَنَهْرُ تِيرَى فَلاَ تَعْرِفْكُمُ العَرَبُ
80
وقال آخر: [السريع]
٤٩٩ - رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ مَا فِيهِمَا وَقَدْ بَدَا هَنْكِ مِنَ المِئْزَرِ
يريد: «هَنُك وتَعْرِفُكُكم» فهذه حركات إعراب، وقد سُكّنت، وقد أنشد ابن عطية وغيره رَدَّا عليه قوله: [الرجز]
٥٠٠ - قَالَتْ سُلَيْمَى: اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا... وقول آخر: [الرجز]
٥٠١ - إِذَا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ: صَاحِبْ قَوِّمِ... وقول الآخر: [الرمل]
٥٠٢ - إِنَّما شِعْريَ شَهْدٌ قَدْ خُلِطْ بِجْلْحُلانِ
ولا يحسن ذلك؛ لأنها حركات بناء، وإما منع هو ذلك من حركات الإعراب، وقراءة أبي عمرو صحيحةٌ، وذلك أن الهمزة حرف ثقيلٌ، ولذلك اجتزء عليها بجميع أنواع التخفيف، فاستثقلت عليها الحركة فقدِّرتن وهذه القراءة تشبه قراءة حمزة رَحِمَهُ اللهُ في قوله تعالى: ﴿وَمَكْرَ السيىء وَلاَ﴾ فإنه سكن همزة «السّيِّىء» وصلاً، والكلام عليهما واحد، والذي حسنه هنا أنّ قبل كسرةِ الهمزةِ راءٌ مكسورةٌ، والراء حرف تكرير، فكأنه توالى ثلاث كسرات فحسن التَّسْكين، وليت المبرِّد اقتدى بسيبويه في الاعْتِذَار عن أبي عمرو. وجميع رواية أبي عمرو دائرة على التَّخْفيف، وذلك يدغم المثلين، والمتقاربين، ويُسَهِّل الهمزة، ويسكن نحو: ﴿يَنصُرْكُمُ﴾ [آل عمران: ١٦٠] و ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾ [البقرة: ٦٧] و ﴿بِأَعْلَمَ بالشاكرين﴾ [الأنعام: ٥٣] علكى تفصيل معروف عند القُرَّاء، وروي عنه إبدالُ هذه الهمزة السَّاكنة ياءً، كأنه لم يعتدّ بالحركة المقدرة، وبعضهم ينكر ذلك عنه، فهذه أربع قراءات لأبي عمرو.
81
وروى ابن عطية عن الزهري: «بَارِيكُمْ» بكسر الياء من غير همزة قال: «ورويت عن نافع».
قلتك من حق هذا القارىء أن يكسن الياء؛ لأن الكسرة ثقيلةٌ عليها، ولا يجوز ظهورها إلاّ في ضرورة شعر؛ كقول أبي طالب: [الطويل]
٥٠٣ - كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ الله نُبْزِي مُحَمَّداً وَلَمْ تَخْتَضِبْ سُمْرُ العَوَالِي بالدَّمِ
وقرأ قتادة: «فَاقْتَالُوا» وقال: هي من الاستِقَالة.
قال ابن جنِّي: اقْتَالَ: افتعل، ويحتمل أن تكون عينها واواً ك «اقْتَادُوا» أوياء ك «اقْتَاسَ»، والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة.
ولكن قتادة ينبغي أن يُحْسَنَ الظنُّ به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجّة عنده.
وقرىء أيضاً: «فَأَقِيلُوا أنفسكم» بالياء المُثَنَّاة التحتية، وهي موافقة للرسم أيضاً.
«والبارىء» : الخالق، برأ الله الخلق أيك خلقهم، وقد فرق بعضهم بين الخَالِقِ والبارىء، بأن البَارِىءَ هو المبدع والمُحْدِث، والخالق هو المقدر النَّاقل من حال إلى حال، وأصل هذه المادّة يدلّ على الانفصال والتميز، ومنه: برأ المريض بُرْءاً وبَرْءاً وبَرَاءَةً، وبرئت أيضاً من الدَّيْن براءةً، والبَرِيّة: الخلق؛ لأنهم انفصلوا من العَدَمِ إلى الوجود، إلاّ أنه لا يهمز.
وقيل: أصله من البَرَى وهو التراب. وسيأتي تحقيق القولين إن شاء الله تعالى.
قوله: ﴿فاقتلوا أَنفُسَكُمْ﴾.
قال بعض المفسرين: هذه الآية وما بعدها منقطعمةٌ عما تقدم من التذكير بالنعم؛ لأنها أمر بالقَتْلِ، والقتل لايكون نعمة، وهذا ضعيف لوجوه.
أحدها: أن الله تعالى نبَّههم على عظم ذنبهم، ثم نبّههم على ما به يتخلّصون عن ذلك الذنب العظيم، وذلك من أعظم النعم في الدين، وإذا عدّد الله عليهم النعم الدنيوية، فتعديد النعم الدينية أولى، ثم إنّ هذه النعمة، وهي كيفية التَّوبة لما لم يكن وصفها إلا بمقدّمة ذكر المعصية كان ذكرها أيضاً مع تمام النّعمة، فصار كل ما تضمّنته هذه الآية معدوداً في نعم الله تعالى، فجاز التذكير بها.
وثانيها: أنه تعالى لما أمرهم بالقَتْلِ رفع ذلك الأمر عنهم قيل فَنَائِهِمْ بالكلية،
82
فكان ذلك نعمة في حَقِّ الباقين والموجودين في زمن محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه رفع القَتْلَ عن آبائهم، فكان نعمة في حقهم.
وثالثها: أنه تعالى لما بين أنّ توبة أولئك ما تمّت إلا بالقَتْلِ مع أن محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقول لهم: لا حَاجَةَ بكم الآن في التوبة إلى الَقَتْلِ، بل إن رجعتم عن كفركم، وآمنتم قَبِلَ الله إيمانكم فكان بيان التَّشديد في تلك التوبة تنبيهاً على أن توبة الحاضرين نعمة عظيمة لكونها سهلةٌ هيّنةٌ.
ورابعها: أن فيه ترغيباً شديداً لأمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوبة، فإن أمة موسى عليه الصَّلاة والسَّلام لما رغبوا في تلك التَّوْبة مع [غاية] مشقْتها على النفس، فلأن نرغب نحن في التوبة التي هي مُجَرّد الندم أولى.

فصل في كيفية قتل أنفسهم


أجمعوا على أنه لم يؤمر كلّ واحد من عبدة العِجْلِ بأن يقتل نفسه بِيَدِهِ، قال الزُّهرِي: لما قيل لهم: «فَتُوبُوا إلى بَارِئَكُمْ» قاموا صَفّين، وقتل بعضهم بعضاً، حتى قيل لهم: كفُّوا، كفان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحَيّ.
وقيل: أرسل الله عليهم ظلاماً ففعلوا ذلك.
وقيل: قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا، إذ لم يعبدوا العِجْل. وقيل: إن يُوشَعَ بن نُون خرج عليهم وهم مُحْتَبُونَ فقال: ملعون من حلّ حَبْوَتَهُ أم مَدّ طرفه إلى قاتله، أو اتَّقَاهُ بِيَدٍ أو رِجْلٍ. فلم يَحلّ أحد منهم حبْوَتَه حتى قتل منهم من قتل. ذكره النحاس وغيره. وإنما عوقب الذين لم يبعدوا العِجْلَ بقتل أنفسهم على القول الأول لأنهم لم يغيروا المنكر، وإنما اعتزلوا، وكان الواجب عليهم أن يُقَاتلوا من عبده.
وهذه سُنّة الله في عبادة، قال رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ما من قَوْمٍ يُعمل فيهم بالمَعَاصِي هم أعزُّ منهم وأمنع لا يُغَيِّرُون إلا عَمَّهُمُ الله بِعِقَابٍ».
فإن قيل: التوبة لا تكون إلا للباري فما الفائدة في ذكره؟
والجواب: كأنه قال: لما أذنبتم إلى الله وجب أن تتوبوا إلى الله.
فإن قيل: كيف استحقُّوا القتل، وهم تابوا من الردَّة، والتائب من الردة لا يقتل؟
والجواب: أن ذلك مما يختلف [بالشرائع].
83
قوله: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.
قال بعضهم: «ذلكم» مفرد وقاع مقوع «ذانكم» المُثَنَّى؛ لأنه قد تقدّم اثنان: التوبة، والقَتْل.
قال أبو البقاء: «وهذا ليس بشيء؛ لأن قوله:» فاقتلوا «تفسير للتوبة فهو واحد».
و «خير» «أفعل» تفضيل، و~أصله: أَخْيَر، وإنما حذفت همزته تخفيفاً، ولا ترجع هذه الهمزة إلا في ضرورة؛ قال: [الرجز]
٥٠٤ - بِلاَلٌ خَيْرٌ النَّاسِ وَابْنُ الأخْيَرِ... ومثله: «شَرّ» لا يجوز «أَشَرّ» إلا في ندور، وقد قرىء: ﴿مَّنِ الكذاب الأشر﴾ [القمر: ٢٦] وإذا بني من هذه المادة فعل تعجّب على «أفْعَل»، فلا تحذف همزته إلا في ندور، كقولهم: «ما خَي} ر اللبن للصحيح، وما شَرّه للمبطون» ف «خَيْر وشَرّ» قد خرجا عن نظائرهما في باب التَّفضيل والتعجُّب.
و «خَيْر» أيضاً مخفف من «خَيْر» على «فَيْعل» ولا يكون من هذا الباب، ومنه: ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ [الرحمن: ٧٠].
قال بعضهم: مخفف من «خَيِّرات». والمفضّل عليه محذوف للعلم به، أي: خير لكم من عدم التوبة. ول «أفعل» التفضيل أحكام كثيرة، وباقي منها ما يضطر إليه.
قوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ في الكلام حّذْفٌ، وهو: ففعلتم ما أمرتم به من القتل فتاب عليكم، والفاء الأولى في قوله: «فَتُوبُوا» للسببية؛ لأن الظلم سَبَبُ التوبة.
والثانية للتعقيب؛ لأن المعنى: فاعزموا على التَّوْبةن فاقتلوا أنفسكم.
والثَّالثة متعلقة بمحذوف ولا يخلو: إما أن ينتظم في قول مُوسَى لهم فيتعلّق بشرط محذوف، كأنه قال: وإن فعلتم فقد تاب عليكم، وإما أن يكون خطاباً من الله لهم على طريقة الالْتِفَاتِ، فيكون التقدير: ففعلتم ما أمركم به موسى، فتاب عليكم بارئكم. قاله الزمخشري.
وقوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾، أي فتجاوز عن الباقين منكم. إنه هو التواب الرحيم.
84
قوله: ﴿لَن نُّؤْمِنَ﴾ إنما تعّدى ب «اللام» دون «الباء» لأحد وجهين:
84
إمّا أن يكون التقدير: لن نؤمن لأجل قولك.
وإما أن يضمن معنى الإقرار، أي: لن نقر لك بما ادعيته.
وقرأ أبو عمرو بإدغام النون في اللام، لتقاربهما.
وفرق بعضهم بين قوله: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ﴾ وجعل الإيمان به بما جاء به، والإيمان له هو الاستسلام والانقياد.
قوله: ﴿جَهْرَةً﴾ فيها قولان:
أحدهما: أنها مصدر، وفيها حيئنذ قولان:
أحدهما: أن ناصبها محذوف، وهو من لفظها تقديره: جهرتم جهرة، نقله «أبو البقاء».
والثاني: أنها مصدر من نوع الفعل، فتنتصب انتصاب «القرفصاء» من قولك، «قعد القُرْفُصَاء» فإنها نوع من الرؤية، وبه بدأ «الزمخشري».
والثَّاني: أنها مصدر واقع الحال، وفيها حينئذ أربعة أقوال:
أحدها: أنه حَالٌ من فاعل «نرى»، أي: ذوي جَهْرَة، قاله «الزمخشري».
والثاني: أنها حال من فاعل «قُلْتم»، أي: قلتم ذلك مُجَاهرين، قاله «أبو البقاء». وقال بعضهم: فيكون في الكلام تقديم وتأخير أي: قلتم جَهْرَةً: لن نؤمن لك، ومثل هذا لا يقال فيه تقديم وتأخير، بل أتي بمقول القول، ثم بالحال من فاعله، فهو نظير: «ضربت هنداً قائماً».
والثالث: أنها حال من اسم الله تعالى أي: نراه ظاهراً غير مستور.
والرابع: أنها حال من فاعل «نؤمن»، نقله «ابن عطية»، ولا معنى له. والصحيح من هذه الأقوال هو الثاني.
وقرأ «ابن عَبَّاس» : جَهَرَةً بفتح الهاء، وفيها قولان:
أحدهما: أنها لغة في «جَهْرَة».
قال «ابن عطية» :«وهي لغة» مسموعة «عند البصريين فيما كفيه حرف الحَلْق ساكن قد انفتح ما قبله، والكُوفيون يُجِيزُونَ فيه الفتح، وإن لم يسمعوه» وقد تقدم تحريره.
والثاني: أنها جمع «جَاهِر» نحك «خَادِم وخَدَمَ»، والمعنى: حتى نرى الله كَاشِفِينَ هذا الأمر، وهي تؤيد كون «جَهرة» حالاً من فاعل «نرى».
85
و «الجَهْر» : ضد السِّرّ، وهو الكشف والظهور، ومنه: جَهَرَ بالقراءة أي: أظهرها.
قال الزمخشري: «كأن الَّذِي يرى بالعين جاهر بالرُّؤية، والذي يرى بالقلب مخافت بها».
قوله: ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة﴾ قرأ عمر وعثمان وعلي رَضِيَ اللهُ عَنْهم «الصَّعْقة» بغير ألف، وقرأ الباقون بالألف، وهما لغتان.

فصل في زمان هذه الواقعة


قال محمد بن إسحاق: هذه الواقعة قَبْلَ تكليفهم بالقَتْلِ لما رجع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من الطُّور، فرأى ما همم عليه من عِبَادَةِ العِجْلِ، وقال لأخيه والسامري ما قال، وحرق العجل، وألقاه في البَحْرِ، واختار من قومه سبعين رجلاً، فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى: [أرنا ربك حتى] يسمعنا كلامه، فسأل موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فأجاب الله إليه، ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغَمَامِ، وتغشّى الجبل كله، ودنا من موسى الغَمَام، فدخل فيه فقال للقوم: ادخلوا وادعوا، وكان موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ متى كلمه ربه أوقع على جبهته نوراً ساطعاً لا يستطيع أحد من بني آدم النظر إليه، وسمع القوم كلام الله تعالى مع موسى يقول له: افْعَلْ ولاتَفْعَلْ، فلما تم الكلام انكشف عن موسى الغَمَام الذي دخل فيه، فقال القوم بعد ذلك: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة﴾ فماتوا جميعاً، وقام موسى رافعاً يديه إلى السماء يدعو، ويقول: يا إلهي اخترت بني إسرائيل سبعين رجلاً ليكونوا شهودي بقبول توبتهم، فأرجع إليهم، وليس معي منهم واحد، فما الذي يقولون لي؟ فلم يزل موسى مشتغلاً بالدعاء حتى ردّ الله عليه أرواحهم، وطلب تَوْبَةَ بني إسرائيل من عبادة العجل فقال: «لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم».
وقال «السُّدي» : لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم أمر الله تعالى أن يأتيهم موسى في ناسٍ من بني إسرائيل يعتذرون من عبادتهم العِجْلَ، فاختار موسى سبعين رجلاً، فلما أتوا الطور قالوا: لن نؤمن لك حَتَّى نرى الله جهرةٌ، فأخذتهم الصاعقة، وماتوا، فقام موسى يبكي ويقول: يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل، فإ‘ني أمرتهم بالقَتْلِ، ثم اخترت من أنفسهم هؤلاء، فإذا رجعت إليهم، وليس معي منهم أحد فماذا أقول لهم؟ فأحياهم الله تعالى فقاموا، ونظر كل واحد منهم إلى الآخر [كيف يحييه الله تعالى].
86

فصل


في «الصَّاعقة» قولان:
الأول: قال «الحَسَن وقتادة» : هي الموت، لقوله تعالى: ﴿فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله﴾ [الزمر: ٦٨] وهذا ضعيف لوجوه:
أحدها: قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾، ولو كانت الصاعقة هي الموت لا متنع كونه ناظرين إلى الصَّاعقة.
وثانيها: قوله تعالى: ﴿وَخَرَّ موسى صَعِقاً﴾ [الأعراف: ١٤٣] أثبت الصَّاعقة في حقه مع أنه لم يكن ميتاً؛ لأنه قال: أَفَاقَ، والإفاقة لا تكون عن الموت.
وثالثها: أن الصَّاعقة وهي التي تصعق، وذلك إشارة إلى سبب الموت.
والقول الثاني: الصَّاعقة هي سبب الموت، واختلفوا فيها.
فقيل: هي نار وقعت من السماء فأحرقتهم.
وقيل: صحية جاءت من السماء.
وقيل: أرسل الله جنوداً، فلما سمعوا حسّها خروا صَعِقِيْنَ ميتين يوماً وليلةً.
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ جلمة حالية، والمعنى: وأنتم تنظرون موت بعضكم خلف بعض، أوك تنظرون إلى ما حَلّ بكم، أو: أنتم أعيتكم صَيْحَةٌ وتفكّر.
قوله: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ﴾ [أحييناكم من بعد موتكم].
قال قتادة: ماتوا وذهبت أرواحهم، ثم ردوا لاستيفاء آجالهم.
قال النحاس:: «وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبَعْثِ من قريش، واحتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا».
قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ما فعل بكم من البعث بعد الموت.
وقيل: ماتوا موت هُمُودٍ يعتبر به الغير، ثم أرسلوا.
وأصل البَعْث الإرسال.
وقيل: بل أصله إثارة الشيء من محلِّه، يقال: بعثت الناقة: أثرتها، أي حركتها؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
٥٠٥ - وَفِتْيَانِ صِدْقٍ قَدْ بَعَثْتُ بِسُحْرَةٍ فَقَامُوا جَمِيعاً بَيْنَ عَاثٍ وَنشْوَانِ
وقال غيره: [الكامل]
87
٥٠٦ - وَصَحَابَةٍ شُمٍّ الأُنُوفِ بَعَثْتُهُمْ لَيْلاً وَقَدْ مَالَ الكَرَى بِطُلاَهَا
وقيل: ﴿بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ علَّمناكم من بعد جهلكم.

فصل في اختلافهم في تكليف من بعث بعد موته


قال المَاوَرْدِيّ: اختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته، ومُعَاينة الأحوال المضطرة إلى المعرفة على قولين:
أحدهما: بقاء تكليفهم لئلا يَخْلُو عاقل من تعبد.
الثاني: سقوط تكليفهم معتبراً بالاستدلال دون الاضطرار.
والأول أَصَحّ، لقوله تعالى ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، ولفظ: الشكر يتناول جميع الطاعات، لقوله تعالى: ﴿اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً﴾ [سبأ: ١٣].
فإن قيل: كيف يجوز أن يكلفهم وقد أماتهم، ولو جاز ذلك جاز تكليف أهل الآخرة بعد البعث؟
فالجواب: أنّ الذي منع من تكليف أهْل الآخرة ليس هو الإماتة ثم الإحْياء، وإنما المانع كونه اضطرهم يوم القِيَامةَةِ إلى معرفته لَذَات الجَنّة، وآلام النَّار، وبعد العلم الضروري لا تكليف، وإذا كان كذلك، فيكون مَوْتُ هؤلاء بمنزلة النَّومَ والإغماء.
88
قوله :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ ﴾ [ أحييناكم من بعد موتكم ].
قال قتادة : ماتوا وذهبت أرواحهم، ثم ردوا لاستيفاء آجالهم.
قال النحاس :" وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبَعْثِ من قريش، واحتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا ".
قوله :﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ ما فعل بكم من البعث بعد الموت.
وقيل : ماتوا موت هُمُودٍ يعتبر به الغير، ثم أرسلوا.
وأصل البَعْث الإرسال.
وقيل : بل أصله إثارة الشيء من محلِّه، يقال : بعثت الناقة : أثرتها، أي حركتها ؛ قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
٥٠٥- وَفِتْيَانِ صِدْقٍ قَدْ بَعَثْتُ بِسُحْرَةٍ فَقَامُوا جَمِيعاً بَيْنَ عَاثٍ وَنَشْوَانِ
وقال غيره :[ الكامل ]
٥٠٦- وَصَحَابَةٍ شُمِّ الأُنُوفِ بَعَثْتُهُمْ لَيْلاً وَقَدْ مَالَ الكَرَى بِطُلاَهَا
وقيل :﴿ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾ علَّمناكم من بعد جهلكم.

فصل في اختلافهم في تكليف من بعث بعد موته


قال المَاوَرْدِيّ : اختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته، ومُعَاينة الأحوال المضطرة إلى المعرفة على قولين :
أحدهما : بقاء تكليفهم لئلا يَخْلُو عاقل من تعبد.
الثاني : سقوط تكليفهم معتبراً بالاستدلال دون الاضطرار.
والأول أَصَحّ، لقوله تعالى :﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾، ولفظ : الشكر يتناول جميع الطاعات، لقوله تعالى :﴿ اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً ﴾ [ سبأ : ١٣ ].
فإن قيل : كيف يجوز أن يكلفهم وقد أماتهم، ولو جاز ذلك جاز تكليف أهل الآخرة بعد البعث ؟
فالجواب : أنّ الذي منع من تكليف أهْل الآخرة ليس هو الإماتة ثم الإحْيَاء، وإنما المانع كونه اضطرهم يوم القِيَامَةِ إلى معرفته، وإلى معرفة لَذّات الجَنّة، وآلام النَّار، وبعد العلم الضروري لا تكليف، وإذا كان كذلك، فيكون مَوْتُ هؤلاء بمنزلة النَّوْمَ والإغماء.
هذا هو الإنعام السابع المذكور في سورة «الأعراف»، وظاهر هذه الآية يدلّ على أن هذا الإضلال كان بعد البعث، لأنه تعالى قال: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٦]، ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام﴾ أي: وجعلنا الغَمَام يظلكمن وذلك في التِّيْهِ سخر الله تعالى لهم السحاب يظلّهم من الشمس، ونزل عليهم المَنّ وهو «التَّرنْجِبِين» بالتاء والراء من طلوع الفجر إلى إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع.
وقال «مجاهد» : هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طَعْمُهُ كالشَهد.
وقال «وهب» : خبز الرقاق. وقال «السدي» : عَسَل كان يقع على الشجر من الليل.
88
وقال «الزجاج» :«المَنّ: ما يمنّ الله عَزَّ وَجَلَّ به مما لا تَعَبَ فيه ولا نصب».
روي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «الكَمَأةُ من المَنّ وماؤها شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ».
«والسَّلْوَى» قال «ابن عباس» وأكثر المفسرين: هو طَائِرٌ يشبه السّماني.
وقال أبو العالية ومقاتل: هو السّماني.
وقال «عكرمة» : طير «الهِنْدِ» أ: بر من العصفور.
وقيل: السَّلوى: العسل نقله المؤرّج، وأنشد قول الهذليِّ: [الطويل]
٥٠٧ - وَقَسَمَها بِالله جَهْداً لأَنْتُمُ أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا
وغله «ابن عطية» وادّعى الإجماع على أن السَّلْوَى: طائرن وهذا غير مُرْضٍ، فإ‘ن «المؤرج» من أئمة اللغة والتفسير، واستدلّ ببيت الهذلي، وذكر أنه بلغة «كنانة». وقال «الراغب» :«السَّلْوَى مصدر، أي: لهم بذلك التَّسلِّي».
قوله: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام﴾ تقديرهك وجعلنا الغمام يُظَلِّلُكُمْ.
قال: «ابو البقاء» : ولا يكون كقولك: «ظَلَّلْتُ زيداً يُظَلُّ» ؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون الغمام مستوراً بظل آخر.
وقيل التقدير: بالغمام، وهذا تفسير معنى لا إعراب، لأن حذف الجر لا يَنْقَاس.

فصل في اشتقاق الغمام


الغمام: السَّحَاب، لأنه يغم وَجْه السماء، أي: يَسْتُرُهَا، وكل مستور مغموم أي مغطى.
89
وقيل: الغمام: السَّحاب الأبيض خاصّة، ومثله: الغَيْمُ والغَيْن بالميم والنون وفي الحديث: «إنه لَيُغَانُ عَلىَ قَلْبِي».
وواحدته «غَمَامَةٌ» فهو اسم جنس. و «المَنّ» تقدم تفسيره، ولا واحد له من لفظه.
والمَنّ أيضاً مقدار يوزن به، وهذا يجوز إبدال نونه الأخيرة حرف علّة، فيقال: مَناً مثل: عَصاً، وتثنيته: مَنَوَان، وجمعه: أمْنَاء. والسَّلْوَى تقدمت أيضاً، واحدتها: سَلْوَاةٌ؛ وأنشدوا: [الطويل]
٥٠٧ - وَإنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ سَلْوَةٌ كَمَا انْتَفَضَ السَّلْوَاةُ مِنْ بَلَلِ القَطرِ
فيكون من باب «قَمْح وقَمْحَة».
وقيل: سَلْوَى مفرد وجمعها: سَلاَوى ك «فَتْوَى وَفَتَاوَى» قاله «الكسائي».
وقيل: سلوى يستعمل للواحد والجمع ك: دِفْلَى. و «السُّلْوَانَةُ» بالضم خَرَزَةٌ كانوا يقولون: إذا صُبَّ عليها ماء المَطَرِ فشربه العاشق سَلاَ؛ [قال: [الطويل]
٥٠٩ - شَرِبْتُ عَلَى سُلْوَانَةٍ مَاءً مُزْنَةٍ فَلاَ وَجَدِيدِ العَيْشِ يَا مَيُّ مَا أَسْلُو]
واسم ذلك الماء «السُّلْون».
وقال بعضهم: «السُّلْوَان» دواء يُسْقَاه الحزين فَيَسْلُو، والأطباء يسمونه المُفَرِّح. يقال: سَلَيْتُ وسَلَوْت، لُغَتَان. وهو في سُلْوة من العيش، قاله «أبو زيد».
و «السَّلوى» عطف على «المَنّ» لم يظهر فيه الإعراب، لأنه مقصور، وهذا في المقصور كلّه؛ لأنه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف.
قال الخليل: «والألف حرف هَوَائِيّ لا مُسْتَقَرّ له، فأشبه الحركة، فاستحالت حركته».
وقال «الفراء» :«لو حركت الألف صارت همزة».

فصل في سبب تقديم المن على السلوى


فإن قيل: المعهود تقديم الأهم [فالأهم] والمأكول مقدّم على الفاكهة والحلوى؛ لأن به قيام البِنْيَةِ، فالإنسان أول ما يأكل الغذاء، ثم بعد الشِّبع يتحلّى ويأكل الفاكهة وهاهنا قدم المَنّ وهو الحلوى على الغذاء وهو السلوى فما فائدته؟
فالجواب: أن نزول الحَلْوَى من السماء آمر مخالف للعادة، فقدم لاستطعامه
90
بخلاف الطيور المأكولة، فإنها ليست مخالفةً للعادة، فإنها مألوفةٌ الأكل.
«كلوا» هذا على إضمار القول، أي: وقلنا لهم: كلوا، وإضمار القول كثير، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ﴾ [الرعد: ٢٣] أي: يقولون سلام، ﴿والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ﴾ [الزمر: ٣] أي: يقولونك ما نعبدهم إلاّ. ﴿فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦] أي: فيقال لهم: أكفرتم، وتقدم الكلام في كل تصريفه.
قوله: «مِنْ طَيِّبَات» منك لابتداء الغاية، أو للتبعيض.
وقال: «أبو البقاء» : أو لبيان الجِنْسِ. والمفعول محذوف، أي: كلوا شيئاً من طيبات. وهذا ضعيف؛ لأنه كيف يبين شيء ثم يحذف.
قولهك «مَا رَزَقْنَاكُم» يجوز في «ما» أن تكون بمعنى الَّذي، وما بعدها حاصلة لها، والعائد محذوف، أي: رَزَقْنَاكُمُوهُ، وأن تكون نكرة موصوفة.
فالجملة لا محلّ لها على الأول، ومحلّها الجر على الثَّاني، والكلام في العَائِد كما تقدّم، وأن تكون مصدريةٌ، والجملة صلتها، ولم تَحْتَجْ إلى عائدٍ على ما عرف قبل ذلك، ويكون هذا المصدر واقعاً موقع المفعول، أي: من طيبات مرزوقنا.
قوله: «أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».
«أنفسهم» مفعول مقدم، و «يظلمون» في محل نصب خبر «كانوا» وقدّم المفعول إيذاناً باختصاص الظُّلم بهم، وأنه لا يتعّداهم.
والاستدراك في «لكن» واضح، ولا بُدّ من حذف جملة قبل قوله: «وَمَا ظَلَمُونَا»، فقدره ابن عطية: فعصوا، ولم يقابلوا النعم بالشكر.
وقال الزمخشري «: تقديره فظلمونا بأن كفروا هذه النعم، وما ظلمونا، فاختصر الكلام بحذفه لدلالة» وَمَا ظَلَمُونَا «عليه.
فإن قيل: قوله:»
وَمَا ظَلَمُونَا «جلمة خبرية، فكيف عطفت على قوله:» كلوا «، وهي جملة أمرية؟.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن هذه جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بما قبلها.
والثاني: أَنَّهَا معطوفة على الجملة القولية المحذوفة أي: وقيل لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم، وما ظلمونا، فيكون قد عطف جملة خبرية على خَبَرِيّة.
و»
الظلم «: وضع الشيء في غير موضعه.
91
وقوله:» كانوا «وكانت هذه عادتهم كقولكك» كان حاتم كريماً «.
92
هذا هو الإنعام الثَّامن، وحذفت الألف من «قلنا» لسكونها، وسكون الدال بعدها، والألف التي يبتدأ بها قبل الدّال ألف وصل؛ لأنه من يدخل.
قوله: «هَذِهِ الْقَرْيَةَ».
هذه منصوبة عند سيبويه على الظرف، وعند الأخفش على المفعول به، وذلك أنّ كل ظرف مكان مختصّ لا يتعدّى إليه الفعل إلاّ ب «في»، تقول: صلّيت في البيت ولا تقول: صلّيت البيت إلاّ ما استثني.
ومن جملة ما استثني «دخل» مع كل مكان مختصّ، «دخلت البيت والسُّوق»، وهذا مذهب سيبويه وقال الأخفش: الواقع بعد «دَخَلت» مفعول به كالواقع بعد «هَدَمت» كقولك: «هَدَمت البيت» فول جاء «دَخَلْت» مع الظرف تعدّى ب «في» نحو: «دخلت في الأمر» ولا تقول: «دَخَلْت الأمر»، وكذا لو جاء الظرف المختصّ مع غير «دخل» تعدّى ب «في» إلا ما شَذَّ؛ كقوله: [الطويل]
٥١٠ - جَزَ الله [رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ] رَفِيقَيْنِ قَالاَ خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
و «القرية» «المدينة»، وهي نعت ل «هذه»، أو عطف بَيَان كما تقدم، والقرية مشتَقّة من قَرَيْتُ أي: جمعت، تقول: قَرَيْتُ المَاءَ في الحَوْض، أي: جَمَعْتُهُ، واسم ذلك الماء قِرى بكسر القاف و «المِقْرَاة» للحوض، وجمعها «مَقَارٍ»، قال: [الطويل]
٥١١ - عِظَام الْمَقَارِي ضَيْفُهُمْ لاَ يُفَزَّعُ.........................
و «القَرْيَان» اسم لمجتمع الماء، و «القَرْيَةُ» في الأصل اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وقد يطلق عليهم مجازاً، وقوله تعالى ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] يحتمل الوجهين.
92
وقال الراغب: «إنها اسم للموضع وللناس جميعاً، ويُسْتَعْمَل في كل واحد منهما» و «القِرْية» بكسر القاف في لغة «اليمن»، واختلف في تعيينها.
فقال الجمهور: هي بيت المقدس.
وقال ابن عباس: «أَرِيْحا» وهي قرية الجَبَّارين، وكان فيها قوم من بَقِيَّةِ عَادٍ يقال لهم: العَمَالقة، ورئيسهم عوج بن علق.
وقال «ابن كيسان» :«الشّام».
وقال الضحاك: «الرَّمْلَة» و «الأردنُّ»، و «فلسطين» و «تَدْمُرُ».
وقال مقاتلك «إيليا».
وقيل: بلقاء.
وقيل: «مصر». والصحيح الأول، لقوله من المائدة: ﴿ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ [المائدة: ٢١].
قوله: «وَكُلوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً» تقدّم الكلام على هذه المادة.
قوله: «الْبَابَ سُجَّداً» حال من فاعل «ادْخُلُوا» وهو جمع «سَاجِد».
قال أبو البقاءك «وهو أبلغ من السجود»، يعنيك أن جمعه على «فُعَّل» فيه من المُبَالغة ما ليس في جمعه على «فُعُول».
وأصل باب: بَوَبٌ، لقولهم: أَبْوَاب، وقد يجمع على «أَبْوِبة» ؛ لازدواج الكلام؛ قال: [البسيط]
٥١٢ - هَتَّاك أَخْبِيَةٍ وَلاَّجُ أَبْوِبَةٍ يَخْلِطُ بِالْجِدِّ مِنْهُ الْبِرَّ واللِّينا
ورواه الجَوهريُّ: [البسيط]
٥١٣ -....................... يَخْلِطُ بالْبِرِّ مِنْهُ الْجِدَّ وَاللِّيْنَا
ولو أفرده لم يجزن ومثله قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مرحباً بالقَوْمِ أو بالوفد غير خَزَايَا ولا نَدامَى».
93
وتَبَوَّبْتُ بَوَّاباً اتخذته. وأبواب مُبَوَّبة، كقولهم: أصناف مصنّفة، وهذا شيء من بابتك، أي: يصلح لك وتقدّم معنى السجود.
قوله: «وَقُولُوا» قال [ابن كثير] الواو هنا حالية لا عاطفة، أي: ادخلوا سُجَّداً في حال قولكم حطّة.
وأما قوله: «حطّة» قرىء بالرّفع والنصب، فالرفع على أنه خبر متبدأ محذوف، أي: مسألتنا حطّة، أو أمرك حطة.
قال: «الزمخشري» : والأصل النصب بمعنى: حُطّ عنا ذنوبنا حطّة، وإنما رفعت لتعطي مَعْنَى الثبات كقوله: [الرجز]
٥١٤ - يَشْكُو إِليَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى صَبْرٌ جَميلٌ فكِلانَا مُبْتَلى
والأصل: صبراً عَلَيَّ، أصْبِرْ صبراً، فجعله من باب ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٤] وتكن الجملة في محلّ نصب بالقول.
وقال «ابن عطية» وقيل: أمروا أن يقولوها مرفوعة على هذا اللفظ.
يعني: على الحكاية، فعلى هذا تكون هي وحَدْهَا من غير تقدير شيء في محلّ نصب بالقول وإنما منع [النصب] حركة الحكاية.
وقال أيضاً: وقال عكرمة: أُمِرُوا أن يقولوا: لا إله إلا الله، لِتحطَّ بها ذنوبهم وحَكَى قَوْلَيْن آخرين بمعناه، ثم قال: «فعلى هذه الأقوال تقتضي النَّصب»، يعني أنه إذا كان المَعْنَى على أنّ المأمور به لا يتعيّن أن يكون بهذا اللَّفظ الخاً، بل بأيّ شيء يقتضي حطّ الخطيئة، فكان ينبغي أن ينتصب ما بعد القول مفعولاً به نحك قيل لزيد خيراً، المعنى: قل له ما هو من جنس الْخُيُور. وقال النَّحَاسك الرفع أولى، لما حكي عن العرب في معنى «بَدَّل».
94
قال أحمد بن يحيى: بَدّلته أي غيرته، ولم أزل عينه، وأبْدَلْتُه أَزَلْتُ عينه وشَخْصَهُ؛ كقوله: [الرجز]
٥١٥ - عَزْلَ الأَمِيْرِ لِلأَمِير المُبْدَلِ... وقال تعالى: ﴿ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ﴾ [يونس: ١٥].
وبحديث ابن مسعود قالوا: حطّةٌ تغيؤر على الرَّفع يعني: أن الله تعالى قال: فبدَّل الذي يقتضي التَّغيير لا زَوَالَ العين، قال: وهذا المعنى يقتضي الرَّفع لا النصب.
وقرأ بان أبي عبلة: حطَّةً بالنصب وفيها وجهان:
أحدهما: أنها مصدر نائب عن الفعل، نحو: ضرباً زيداً.
والثاني: أن تكون منصوبة بالقول، أي: قولوا هذا اللَّفظ بعينه، كما تقدم في وجه الرَّفع، فهي على الأوّل منصوبةٌ بالفعل المقدر، وذلك الفعل المقدر ومنصوبه في محل نصب بالقول، ورجح الزمخشري هذا الوجه.
و «الحطّة» اسم الهَيْئَةِ من الْحَطِّ ك «الجِلْسَة» و «الْقِعْدَة».
وقيل: هي لفظة أمروا بها، ولا ندري معناها.
وقيل: هي التَّوْبة، وأنشد: [الخفيف]
٥١٦ - فَازَ بِالْحِطَّةِ الَّتِي جَعَل الله بِهَا ذَنْبَ عَبدِهِ مَغْفُورَا

فصل في المراد بالباب


اختلفوا في «الباب» قال ابن عباس، ومجاهد، والضّحاك، وقتادة: إنه باب يدعى باب الحطّة من بيت المقدس، وحكى الأَصَمّ عن بعضهم أنه عنى بالباب جِهَةً من جهات القرية، ومدخلاً إليها.
واختلفوا في «السُّجود»، فقال الحسن: أراد به نفس السُّجود، إي: إلصاق الوجه بالأرض، وهذا بعيد، لأن الظَّاهر يقتضي وجوب الدُّخول حال السجود، فلو حملنا السجود على ظاهره لامتنع ذلك.
95
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنَّ المُراد به الركوع، لأنّ الباب كان صغيراً يحتاج الدَّاخل فيه إلى الانحناء.
قال ابن الخَطِيْبِ: وهذا بعيد؛ لأنه لو كان ضيقاً لكانوا مضطرين إلى دخوله ركّعاً، فلا حاجة فيه إلى الامر.
وأجيب بأنه روي عن ابن عَبَّاس: أنهم دخلوا يزحفون على أَسْتاههمْ.
وقيل: المراد بالسجود: الخضوع. وهو الأقرب؛ لأنه لما تعذّر حمله على السجود الحقيقي وجب حمله على التواضع؛ لأن التَّائب عن الذنب لا بُدّ وأن يكون خاضعاً.

فصل في تفسير «الحطة»


وأما تفسير «الحطّة» فقال «القاضي» : إنه تعالى لما أمرهم بدخول الباب خاضعين أمرهم بأن يقولوا ما يَدُلّ على التوبة؛ لأن التوبة صفةُ القلب، فلا يطلع الغير عليها، فإذا اشتهر واحدٌ بذنب، أو بمذهب خطأ، ثم تاب عن الذنب، أو أظهر له الحق، فإنه يلزم أن يعرف إخوانه الَّذِين عرفوا منه ذلك الذنب، أو ذلك المذهب، فتزول عنه التُّهْمَة في الثبات على الباطل، ويعودوا إلى مُوَالاته، فالحاصل أنه أمر القوم أن يدخلوا البا ب على وَجْهِ الخضوع، وأن يذكروا بلسانهم الْتِمَاسَ حَطّ الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب، وخضوع الجوارح، والاستغفار باللِّسان.
وقال «الأصَمّ» : هذه اللَّفظة من ألفاظ أهل الكتاب التي لا يعرف معناها في العربية.
وقال أبو مسلم الأَصْفَهَاني: معناه: أمرنا حطّة، أي: أن نحطّ في هذه القرية، ونستقر فيها، ورد القاضي ذلك، وقال: لو كان المراد ذلك لم يكن غفران خَطَايَاهُمْ متعلقاً به، ولكن قوله: ﴿وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ يدلّ على أن غفران الخَطَايا كان لأجل قولهم حطّةن ويمكن أن يجاب عنه بأنهم لما حطُّوا ف يتلك القرية حتى يدخلوا سجدًّا مع التَّوَاضُع كان الغفران متعلقاً به.
وقال معناه: اللهم حط عنا ذنوبنا، فإنّا إنما انحططنا لوجهك، وإرادة التذلل لك، فحطّ عنا ذنوبنا.

فصل في بيان التلفظ بالحطة أو بمعناها


اختلفوا هل كلّفوا بهذه اللفظة بعينها، أو بما يؤدي معناها؟
روي عن ابن عباس: أنهم أمروزا بهذه اللفظة بعينها، وفيه نظر؛ لأن هذه اللفظة
96
عربية، ولم يكونوا يتكلمون بالعربية، وأيضاً فإنما أمروا بأن يقولوا قولاً دالاً على التوبة والندم؛ فلو قالوا: اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلاً.
قولهك «نَغْفِرْ» هو مجزوم ف يجواب الأمر، وقد تقدم الخلاف، هل الجازم نفس الجملة، أو شرط مقدر؟ أي: يقولوا نغفر.
وقرىء: «نَغْفِرْ» بالنون وهو جار على ما قبله [من قوله:] «وإذ قلنا» و «تُغْفَر» بالتاء بالياء مبنيّاً للمفعول.
و «خطاياكم» معفول لم يسم فاعله، فالتَّاء لتأنيث الخَطَايا، والياء؛ لأن تأنيثها غير حقيقين وللفصل أيضاً ب «لكم».
وقرىء: «يغفر» مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى وهو في معنى القراءة الأولى، إلاّ أن فيه التفاتاً.
و «لكم» متعلّق ب «نغفر».
وأدغم «أبو عمرو» الراء في اللاّم، والنحاة يستضعفونها، قالوا: لأن الرَّاء حرف تكرير فهي أقوى من اللام، والقاعدة أن الأضعف يدغم في الأقوى من غير عَكْسٍ، وليس فيها ضعف، لأن انحراف اللاّم يقاوم تكرير الراء. وقد بَيَّن «أبو البَقَاءِ» ضعفه،
وتقدم جوابه.
قوله: «خطاياكم» : إما منصوب بالفعل قبله، أو مرفوع حسب ما تقدّم من القراءات، وفيها [أربعة] أقوال:
أحدها: قول الخليل [أنّ] أصلها «خَطَايىء» بياء بعد الألف، ثم همزة؛ لأنها جمع «خطيئة» مثل: «صَحِيْفة وصَحَايف»، فلو تركت على حالها لوجب قَلْبُ الياء همزة؛ لأن مدة «فَعَايل» يفعل بها كذا، على ما تقرر في التصريف، فضر من ذلك، لئلا تجتمع همزتان، بأن
97
قلب فقدم اللام، وأخّر عنها المدّة فصارت: «خَطَائي»، فاستثقلت الكسرة على حرف ثقيل في نفسه، وبعده ياء من جنس الكَسْرَةِ فقلبوا الكسرة فتحة، فتحرك حرف العّلة، وانفتح ما قبله فقلبت ألفاً، فصارت: «خَطَاءا» بهمز بين ألفين، فاستثقلوا ذلك، فإنّ الهمزة تشبه الألف، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات، فقلبوا الهمزة ياء؛ لأنها واقعة موقعها قبل القَلْبِ، فصارت «خَطَايَا» على وزن «فَعَالَى» ففيها أربعة أعمال: قلب، وإبدال لكسرة فتحة، وقلب الياء ألفاًن وإبدال الهمزة ياء، هكذا ذكر التصريفيون، وهو مذهب الخليل.
الثاني: وعزاه «أبو البقاء» إليه أيضاً أنه: «خطائيء» يهمزتين: الأولى منهما مكسورة وهي المنقلبة عن الياء الزائدة في «خَطِيْئة» فهو مثل «صَحِيْفة» و «صَحَائف»، فاستثقلوا الجمع بين الهمزتين، فنقلوا الهمزة الأولى إلى موضع الثانية، فصار وزنه «فَعَلى»، وإنما فَعَلوا ذلك، لتصير المكسورة ظرفاً، فتنقلب ياء، فتصير «فعالىْ»، ثم أبدلوا من كسرة الهمزة الأولى فتحة، فانقلبت الياء بعدا ألفاً كما قالوا في: يا لَهْفى «» ويا أَسَفى «، فصارت الهمزة بين ألفين، فأبْدِل منها يا، لأن الهمزة قريبة من الألف، فاستنكروا اجتماع ثلاث ألفات.
فعلى هذا فيها خمسة تغييرات: تقديم اللام، وإبدال الكسرة فتحة، وإبدال الهمزة الأخيرة ياء، ثم إبدالها ألفاً، ثم إبدال الهمزة التي هي لام ياء. والقول الأول أَوْلَى، لقلّة العمل، فيكون للخليل في المسألة قولان.
الثالث: قول سيبويه أن أصلها عنده: «خَطَايىء»
كما تقدم، فأبدل الياء الزائدة همزة، فاجتمع همزتان، فأبدل الثانية منهما «ياء» لزوماً، ثم عمل العمل المتقدّمن ووزنها عند «فَعَائل» مثل: «صَحَائف»، وفيها على قوله خمسة تغييرات: إبدال الياء المزيدة همزة وإبدال الهمزة الأصلية ياء، وقلب الكسرة فتحة، وقلب الياء الاصلية ألفاً، وقلب الهمزة المزيدة ياء.
الرابع: قول «الفَرَّاء»، هو أن «خَطَايا» عنده ليس جمعاً ل «خطيئة» بالهمز، إنما هو جمع ل «خَطِيّة» ك «هَدِيَة وهَدَايا» و «رَكيّة ورَكَايَا».
قال الفراء: ولو جمعت «خَطيئة» مهمزة لقلت: «خَطَاءا» يعني: فلم تقلب الهمزة ياء، بل تبقيها على حالها، ولم يعتد باجتماع ثلاث ألفات.
ولكنه لم يقله العرب، فدلّ ذلك عنده أنه ليس جمعاً للمهموز.
وقال «الكسائي» : ولو جمعت مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة مثل: «دواب».
وقرىء: «يَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيْئَاتِكُمْ» و «خَطِيْئَتَكُمْ» بالجمع والتوحيد، وبالياء والتاء
98
على مالم يُسَمَّ فاعله، و «خَطَايَاكُمْ» بهمز الألف الأولى دون الثانية، وبالعكس. والمعنى في هذه القراءات واحد؛ لأن الخطيئة إذا غفرها الله تعالى فقد غفرت، وإذا غفرت فإنما يغفرها الله.
والفعل إذا تقدّم الاسم المؤنث، وحال بينه وبين الفاعل حَائِلٌ جاز التذكير والتّأنيث كقوله تعالى: ﴿وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة﴾ [هود: ٦٧]. و ﴿وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ﴾ [هود: ٩٤].
وقرأ الجحدري: «خَطِيئتكم» بمدة وهمزة وتاء مرفوعة بعد الهمزة.
وقرأ ابن كثير: «خَطَايأكم» بهمزة قبل اكاف.
وقرأ الكسائي: بكسر الطاء والتاء، والباقون بإمالة الياء.
و «الغَفْر» : السّتر، ومنه المِغْفَر: لِسُتْرة الرأسن وغفران الذُّنوبح لأنها تغطيها، وتقد تقدّم الفرق بينه وبين العَفُوا.
و «الغِفارَة» : خِرْقَةٌ تستر الْخِمَار أن يَمَسَّه دهن الرأس.
و «الخَطِيئة» من الخَطَأ، وأصله: العدول عن الجهة، وهو أنواع:
أحدها: إرادة غير ما تحسن إرادته، فيفعله، وهذا هو الأصل [التام] يقال منه: «خَطِىءَ يَخْطَأ خِطْأً وخِطْأةً».
والثاني: أن يريد ما يحسن فعله، ولكن يقع بخلافه، يقال منه: أَخْطَأ إِخْطَاء، فهو مخطىء، وجملة الأمر أنَّ من أراد شيئاً، فاتفق منه غيره يقال: «أخطأ»، وإن وقع كما أراد، يقال: «أصَاب»، وقد يقال لمن فعل فعلاً لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل: إنه أخطأ ولهذا يقال: أَصَابَ الخَطَأ، وأَخْطَأَ الصَّوابَ، وأصاب الصواب، وأخطأ الخطأ.
قوله: «وَسَنَزِيدُ المُحْسِنينَ» أي نزيدهم إحساناً على الإحْسَان المتقدم عندهم، وهو
99
اسم فاعل من «أحسن»، والمُحْسِنُ من صحّح عقد توحيده، وأحسن سياسَةَ نفسهن وأقبل على أداء فرائضه، وكفى المسلمين شره.
وقال بعض المفسرين: معناه: من كان محسناً جازيناه بالإحسان إحساناً، أو زيادة كما جعل للحسنة عشراً وأكثر.
وقيل: من كان محسناً بهذه الطاعة والتوبة، فإنا نغفر خَطَاياه، ونزيده على غُفْران الذنوب إعطاءَ الثواب الجزيل، وفيه وجه آخر أن المعنى من كان خاطئاً غفرنا له ذنبه بهذا الفعل، ومن لم يكن خاطئاً، بل كان محسناً زدنا في إحسانه.
قوله: ﴿فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ﴾.
لا بُدّ في هذا الكلام من تأويل؛ إذ الذّم إنما يتوجه عليهم إذا بدّلوا القول الذي قيل لهم، لا إذا بدَّلوا قولاً غيره.
فقيل: تقديره: فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم ف «بدّل» يتعدّى لمفعول واحد بنفسه، وإلى آخر بالباء، والمجرور بها هو المتروك، والمنصوب هو الموجود، كقول أبي النجم: [الرجز]
٥١٧ - وَبُدِّلَتْ والدَّهْرُ ذُو تَبَدُّلِ هَيْفاً دَبُوراً بِالصَّبَا وَالشَّمْأَلِ
فالمتطوع عنها الصَّبا، والحاصل لها الهَيْفُ.
قاله أبو البقاء وقال يجوز أن يكون «بدل» محمولاً على المعنى، تقديره: فقال الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم؛ لأن تبديل القول كان بقول «فَنَصْبُ» غير عنده في هذين القولين على النِّعت ل «قولاً».
وقيل: تقديره: فبدل الذين قولاً بغير الذي، فحذف الحرفن فانتصب «غير».
ومعنى التَّبْديل: التغيير كأنه قيل: فغيروا قولاً بغيره، إي جَاءُوا بقول آخر، فكان القول الذي أمروا به، كما يروا في القصّة أنهم قالوا: بدل حطّة حِنْطَة.
والإبْدَال والتبديل والاستبدال: جعل الشيء مكان آخر، وقد يقال: التبديل: التغيير، وإن لم يأت ببدله.
وقد تقدم الفرق بين بدل وأَبْدَلَ، وهو أن بدّل بمعنى غيّر من غَيْر إزالة العين، وأبدل تقتضي إزالة العين، إلا أنه قرىء: ﴿عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا﴾ [القلم: ٣٢] ﴿فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا﴾ [الكهف: ٨١] بالوجهين، وهذا يقتضي اتِّحَادهما معنى لا اختلافهما والبديل والبدل بمعنى واحد، وبدله غيره.
100
ويقال: بِدْل وَبَدل كَشِبْه وَشَبَه، وَمِثْل وَمَثَل، وَنِكْل وَنَكَل [قال أبو عُبَيْدة: لم يسمع في فِعْل وفَعَل غي رهذه الأربعة أحرف].

فصل في بيان التبديل


قال أبو مُسلمك قوله: «فبدّل» يدلّ على أنهم لم يفلعوا ما أمروا به لأجل أنهم أتوا له ببدل، ويدلّ عليه أن تبديل القول قد يستعمل في المُخَالفة، قال تعالى: «سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ» إلى قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله﴾ [الفتح: ١٥] ولم يكن تبديلهم الخلاف في الفعل لا في القول، فكذا هاهنا لما أمروا بالتواضع، وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله.
وقال جمهور المفسرين: إنَّ المراد بالتبديل أنهم أتوا ببدل له؛ لأن التبديل مشتقّ من البدل، فلا بُدّ من حصول البدل، كما يقال: بدّل دِيْنَهُ أي: انتقل من دِيْنٍ إلى دين، ويؤيده قوله تعالى: «قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ».

فصل في الباعث على تبديلهم


وقوله: «الَّذِيْنَ ظَلَمُوا» تنبيه على أن الباعث لهم على التبديل هو الظلم، واختلفوا هل هو مُطْلق الظلم، فيكونون كلهم بدلوا، أو الظالمون منهم هم الذين بدلوانوهم الرؤساء والأشراف، وهذا هو الظاهر، لقوله في سورة «الأعراف» :﴿فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ﴾ [الأعراف: ١٦٢] واختلفوا هل التقوا كلهم على الأشياء التي بَدّلوهان أو بدّل كلّ أناس منهم شيئاًن أو بدّلوا في كل وقت شيئاً؟
فإن قيل: إنّهم قد بدّلوا القول والفعلن فلم خصّ القول بالتبديل؟
فالجواب: أن ذكر تبديلهم القول يدلّ على تبديل الفعل كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] أي: والبرد، فكأنه قالك بدّلوا القول والفعل، وأيضاً فقد يكون المراد بالقول المبدل هو الأمر، والأمر يشتمل القول المأمور به والفعل.
واختلفوا في ذلك القول:
فروي عن ابن عَبّاس: أنّهم لم يدخلوا الباب سجداً، ولم يقولوا حطّة، بل دخلوا زَاحِفِيْنَ على اسْتَاههم قائلين جِنْطة.
وقال ابن زيد: استهزؤوا بموسى وقالوا ما شاء موسى أن يلعب بنا لا لعب بنا حطة أي شيء حطة.
وقال «مجاهد» : طؤطىء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم، ويركعوا، فدخلوا زَاحِفِيْنَ. وقيل لهم: قولوا حطة فقالوا: حطًّا شمقاً ما يعني حطة حمراء استخفافاً بأمر الله.
101
قوله: ﴿فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ﴾ أي: أضروا بأنفهسم، وأوسعوا في نقصان خيراتهم في الدين والدنيا.
و «الرجز» : هو العذاب.

فصل في لغات الرجز


وفيه لُغة أخرى وهي ضمّ الراء، وقرىء بهما.
وقيل: المضموم اسم صَنَم، ومنه: ﴿والرجز﴾ [المدثر: ٥]. والرِّجْز والرِّجْس بالزاي والسين بِمَعْنَى ك: السُّدْغ والزُّدْغ.
والصحيح أن الرِّجْزَ: الْقَذَر، والرِّجَز: ما يصيب الإبل، فترتعش منه، ومنه: بحر الرِّجَز في الشّعر.
قوله: «مِنَ السَّمَاءِ» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون متعلقاً ب «أَنْزَلْنَا»، و «من» لابتداء الغاية، أي: من جهة السماء، وهذا الوجه هو الظاهر.
والثاني: أن يكون صفة ل «رِجْزاً» فيتعلّق بمحذوف، و «من» أيضاً للابتداء.
وقوله: ﴿عَلَى الذين ظَلَمُواْ﴾ فأعادهم بذكرهم أولاً، ولم يقل: «عليهم» تنبيهاً على أن ظُلْمهم سبب في عقابهم، وهو من إيقاع الظاهر موقع المُضْمَر لهذا الغرض، وإيقاع الظاهر موقع المُضْمَر على ضربين: ضرب يقع بعد تمام الكلام كهذه الآية، وقول الخنساء: [المتقارب]
٥١٨ - تَعَرَّقَنِي الدَّهْرُ [نَهْساً] وَحَزَّا [وَأَوْجَعَنِي] الدَّهْرُ قَرْعاً وَغَمْزا
أي: أصابتني نوائبه جُمَعُ.
وضرب يقع في كلام واحد؛ نحو قوله: ﴿الحاقة ٠ مَا الحآقة﴾ [الحاقة: ١، ٢].
102
وقد جمع عدي بن زيد المعنيين فقال: [الخفيف]
٥١٩ - لَيْتَ الغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِباً كَانَ الغُرَابُ مُقَطَّعَ الأَوْدَاجِ
٥٢٠ - لاَ أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ نَغَّصَ المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا
قوله: «بَمَا كَانُوا» متعلِّق ب «أنْزَلْنَا» و «الباء» للسببية، و «ما» يجوز أن تكون مصدرية وهوالظّاهر أي: بسبب فِسْقِهِمْ، وأن تكون موصولة اسمية، والعائد محذوف على التدريج المذكور في غير موضع، والأصل: يفسقونه، ولا يقوى جعلها نكرة موصولة.
وقرأ «ابن وَثّاب» :«يَفْسِقُون» بكسر السين، وتقدم أنهما لُغَتَان.

فصل في تفسير الظلم


قال أبو مسلم: هذا الفِسْقُ هو الظلم المذكور في قوله: ﴿عَلَى الذين ظَلَمُواْ﴾ وفائدة التكرار التأكيد.
قال ابن الخطيب: والحق أنه غيره؛ لأن الظلم قد يكون من الصَّغائر، ولذلك قال
103
بعض الأنبياء: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ [الأعراف: ٢٣] وقد يكون من الكَبَائر، قال تعالى: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]، والفِسْق لا بُدّ وأن يكون من الكبائر، ويمكن أن يجاب عنه: بأن أبا مُسْلِم لم يقل بأن الفسق مطلق الظلم، وإنما خصّه بظلم معين، وهو الذي وصفوا به في أوَّول الآية، ويحتمل أنهم استحقُّوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل، فنزل الرِّجْزُ عليهم بالفِسْقِ الذي كانوا يفعلوه قيل التبديل، فيزول التكرار.
احتجّ بعضهم بقوله: «فَبَدَّل الَّذِينَ ظَلَمُوا» على أنَّ ما ورود من الأذكار لا يجوز تبديله بغيره، وعلى هذا لا يجوز تحريم الصَّلاة بفلظ التَّعْظيمن لا يجوز القراءة بالفارسية.
وأجاب أبو الرَّازِي: «بأنهم إنما استحقُّوا الذَّم لتبديلهم القول إلى قول يُضَاد معناه معنى الأول، فلهذا استوجبوا الذم، فأما تغيير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك».
قال ابن الخطيب: «والظَّاهر أن هذا بتناول كل من بدّل قولاً يقول آخر سواء اتَّفَقَا أو لم يتفقا».
فإن قيل: قال هنا: «وإذ قلنا»، وفي «الأعراف» :﴿وَإِذْ قِيلَ﴾ [الأعراف: ١٦١].
قيل: لأن سورة «الأعراف» مكية، و «البقرة» مدنية فأبهم القائل في الأولى وهي «الأعراف» ليكون لهم وَقْع في القلب، ثم بَيَّنَهُ في هذه السورة المدنية، كأنه قال: ذلك القائل هناك هو هذا.
وقال هنا: «ادْخُلُوا» وفي «الأعراف» :«اسْكُنُوا».
قال ابن الخطيب: «لأنّ الدخول مقدّم على السُّكْنَى».
وهذا يرد عليه، فإن «الأعراف» قبل «البقرة» ؛ لأنها مكية.
وقال [هنا] «فَكُلُوا» بالفاء، وفي «الأعراف» «وَكُلُوا» بالواو.
والجواب ها هنا هو الذي ذكرناه في قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً﴾، وفي الأعراف ﴿فَكُلاَ﴾. [ولم ذكر قوله: «رغداً» في «البقرة»، وحذفه في «الأعراف» ؟ لأنه اسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنْعَام الأعظم وهو أن يأكلوا رغداً]، وفي «الأعراف» لما لم يسند الفعل إلى نفسه [لا جرم] لم يذكر الإنعام الأعظم.
وقال هنا: ﴿وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ﴾، وفي «الأعرافش» قدّم المؤخر؛ لأن الواو للجمع المطلق، وأيضاً يحمتل أن يكون بعضهم مذنباً، وبعضهم ليس بمذنب، المُذْنِب يكون اشتغاله أولاً بالتوبة، ثم بالعبادة فكلفوا أن يقولوا أولاً «حطة» ثم يدخلوا الباب سُجَّداً، وأما الذي ليس بمذنب، فالأولى به أن يشتغل بالعبادة أولاً، ثم [يذكروا] التوبة ثانياً على سبيل هَضْم النفس، وإزالة العجب في فعل تلك العبادة
104
فكلفوا أن يدخلوا الباب سجداً أولاً، ثم يقولوا «حطة»، فذكر حكم كل قسم في سورة قاله ابن الخطيب.
وفيه نظر؛ لأن هذا القول إنما كان مَرّة واحدة.
قال هنا: ﴿وَسَنَزِيدُ المحسنين﴾ بالواو، وفي «الأعراف» بغير واو.
وقال ابن الخطيب: لأنه ذكر في «الأعراف» أمرين: قول الحطة، وهو إشارة إلى التوبة، ودخول الباب سجداً، وهو إشارة العبادة، ثم ذكرجزاءين: قوله تعالى: ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾، وهو واقع في مقابلة قول الحطّة، وقوله: ﴿وَسَنَزِيدُ المحسنين﴾، وهو واقع في مُقَابلة دخول الباب سجداً، [فترك] الواو يفيد توزيع كل واحد مِنَ الجَزَاءين على كل من الشرطين.
وأما في «البقرة» فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاءً واحداً لمجموع الفعلين.
وقال هنا: ﴿فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً﴾، وفي «الأعراف» زاد كلمة «منهم».
قال ابن الخطيب: لأنه تعالى قال: ﴿وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ﴾، فذكر أن منهم من يفعل ذلك، ثم عدّد صنوف إنعامه عليهم، وأوامره لهم فلما انتهت القصّة قال: ﴿فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ﴾ [فذكر لفظة «مِنْهُمْ» في آخر القصّة كما ذكرها في أول القصة] ليكون آخر الكلام مطابقاً لأوله، وأما هنا فلم يذكر الآيات التي قيل قوله: ﴿فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ﴾ تمييزا وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص.
وقال هنا: ﴿فَأَنزَلْنَا﴾ وفي [سورة] «الأعراف» ﴿فَأَرْسَلْنَا﴾، وأتى بالمضمر دون الظاهر؛ لأنه تعالى عدّد عليم في هذه السُّورة نعماً جسيمة كثيرة، فكان توجيه الذّمن عليهم، وتوبيخهم بكفرانها أَبْلَغ من حيث إنه لم يعدّد عليهم هناك ما عَدّد هنا.
فلفظ «الإنزال» للعذاب أبلغ من لفظ «الإرسال».
وقال هنا: ﴿يَفْسُقُونَ﴾، وفي «الأعراف» :﴿يَظْلِمُونَ﴾ تنبيها على أنهم جامعون بين هذين الوصفين القبيحين.
105
قوله :﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾.
لا بُدّ في هذا الكلام من تأويل ؛ إذ الذّم إنما يتوجه عليهم إذا بدّلوا القول الذي قيل لهم، لا إذا بدَّلوا قولاً غيره.
فقيل : تقديره : فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم ف " بدّل " يتعدّى لمفعول واحد بنفسه، وإلى آخر بالباء، والمجرور بها هو المتروك، والمنصوب هو الموجود، كقول أبي النجم :[ الرجز ]
٥١٧- وَبُدِّلَتْ والدَّهْرُ ذُو تَبَدُّلِ هَيْفاً دَبُوراً بِالصَّبَا وَالشَّمْأَلِ
فالمتطوع عنها الصَّبا، والحاصل لها الهَيْفُ.
قاله أبو البقاء وقال يجوز أن يكون " بدل " محمولاً على المعنى، تقديره : فقال الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم ؛ لأن تبديل القول كان بقول " فَنَصْبُ " غير عنده في هذين القولين على النِّعت ل " قولاً ".
وقيل : تقديره : فبدل الذين قولاً بغير الذي، فحذف الحرف، فانتصب " غير ".
ومعنى التَّبْديل : التغيير كأنه قيل : فغيروا قولاً بغيره، أي جَاءُوا بقول آخر، فكان القول الذي أمروا به، كما يروا في القصّة أنهم قالوا : بدل حطّة حِنْطَة.
والإبْدَال والتبديل والاستبدال : جعل الشيء مكان آخر، وقد يقال : التبديل : التغيير، وإن لم يأت ببدله.
وقد تقدم الفرق بين بدل وأَبْدَلَ، وهو أن بدّل بمعنى غيّر من غَيْر إزالة العين، وأبدل تقتضي إزالة العين، إلا أنه قرئ :﴿ عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا ﴾
[ القلم : ٣٢ ] ﴿ فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا ﴾ [ الكهف : ٨١ ] بالوجهين، وهذا يقتضي اتِّحَادهما معنى لا اختلافهما والبديل والبدل بمعنى واحد، وبدله غيره.
ويقال : بِدْل وَبَدل كَشِبْه وَشَبَه، وَمِثْل وَمَثَل، وَنِكْل وَنَكَل [ قال أبو عُبَيْدة : لم يسمع في فِعْل وفَعَل غير هذه الأربعة أحرف ].

فصل في بيان التبديل


قال أبو مُسْلم : قوله :" فبدّل " يدلّ على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به لأجل أنهم أتوا له ببدل، ويدلّ عليه أن تبديل القول قد يستعمل في المُخَالفة، قال تعالى :" سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ " إلى قوله :﴿ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ ﴾
[ الفتح : ١٥ ] ولم يكن تبديلهم الخلاف في الفعل لا في القول، فكذا هاهنا لما أمروا بالتواضع، وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله.
وقال جمهور المفسرين : إنَّ المراد بالتبديل أنهم أتوا ببدل له ؛ لأن التبديل مشتقّ من البدل، فلا بُدّ من حصول البدل، كما يقال : بدّل دِيْنَهُ أي : انتقل من دِيْنٍ إلى دين، ويؤيده قوله تعالى :﴿ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾.

فصل في الباعث على تبديلهم


وقوله :" الَّذِيْنَ ظَلَمُوا " تنبيه على أن الباعث لهم على التبديل هو الظلم، واختلفوا هل هو مُطْلق الظلم، فيكونون كلهم بدلوا، أو الظالمون منهم هم الذين بدلوا، وهم الرؤساء والأشراف، وهذا هو الظاهر، لقوله في سورة " الأعراف " :﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾ [ الأعراف : ١٦٢ ] واختلفوا هل التقوا كلهم على الأشياء التي بَدّلوها، أو بدّل كلّ أناس منهم شيئاً، أو بدّلوا في كل وقت شيئاً ؟
فإن قيل : إنّهم قد بدّلوا القول والفعل، فلم خصّ القول بالتبديل ؟
فالجواب : أن ذكر تبديلهم القول يدلّ على تبديل الفعل كقوله :﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ﴾ [ النحل : ٨١ ] أي : والبرد، فكأنه قال : بدّلوا القول والفعل، وأيضاً فقد يكون المراد بالقول المبدل هو الأمر، والأمر يشتمل القول المأمور به والفعل.
واختلفوا في ذلك القول :
فروي عن ابن عَبّاس : أنّهم لم يدخلوا الباب سجداً، ولم يقولوا حطّة، بل دخلوا زَاحِفِيْنَ على اسْتَاههم قائلين حِنْطة.
وقال ابن زيد : استهزؤوا بموسى وقالوا ما شاء موسى أن يلعب بنا لا لعب بنا حطة أي شيء حطة.
وقال " مجاهد " : طؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم، ويركعوا، فدخلوا زَاحِفِيْنَ.
وقيل لهم : قولوا حطة فقالوا : حطّاً شمقاً ما يعني حطة حمراء استخفافاً بأمر الله.
قوله :﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ أي : أضروا بأنفسهم، وأوسعوا في نقصان خيراتهم في الدين والدنيا.
و " الرجز " : هو العذاب.

فصل في لغات الرجز


وفيه لُغة أخرى وهي ضمّ الراء، وقرئ بهما.
وقيل : المضموم اسم صَنَمٍ، ومنه :﴿ وَالرُّجْزَ ﴾ [ المدثر : ٥ ]. والرِّجْز والرِّجْس بالزاي والسين بِمَعْنًى ك : السُّدْغ والزُّدْغ.
والصحيح أن الرِّجْزَ : الْقَذَر، والرَّجَز : ما يصيب الإبل، فترتعش منه، ومنه : بحر الرِّجَز في الشّعر.
قوله :" مِنَ السَّمَاءِ " يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون متعلقاً ب " أَنْزَلْنَا " و " من " لابتداء الغاية، أي : من جهة السماء، وهذا الوجه هو الظاهر.
والثاني : أن يكون صفة ل " رِجْزاً " فيتعلّق بمحذوف، و " من " أيضاً للابتداء.
وقوله :﴿ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ فأعادهم بذكرهم أولاً، ولم يقل :" عليهم " تنبيهاً على أن ظُلْمهم سبب في عقابهم، وهو من إيقاع الظاهر موقع المُضْمَر لهذا الغرض، وإيقاع الظاهر موقع المُضْمَر على ضربين : ضرب يقع بعد تمام الكلام كهذه الآية، وقول الخنساء :[ المتقارب ]
٥١٨- تَعَرَّقَنِي الدَّهْرُ [ نَهْساً ] وَحَزَّا [ وَأَوْجَعَنِي ] الدَّهْرُ قَرْعاً وَغَمْزا
أي : أصابتني نوائبه جُمَعُ.
وضرب يقع في كلام واحد ؛ نحو قوله :﴿ الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ ﴾
[ الحاقة : ١، ٢ ].
وقول الآخر :[ الكامل ]
٥١٩ - لَيْتَ الغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِباً كَانَ الغُرَابُ مُقَطَّعَ الأَوْدَاجِ
وقد جمع عدي بن زيد المعنيين فقال :[ الخفيف ]
٥٢٠- لاَ أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ نَغَّصَ المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا
قوله :" بِمَا كَانُوا " متعلِّق ب " أنْزَلْنَا " و " الباء " للسببية، و " ما " يجوز أن تكون مصدرية وهو الظّاهر أي : بسبب فِسْقِهِمْ، وأن تكون موصولة اسمية، والعائد محذوف على التدريج المذكور في غير موضع، والأصل : يفسقونه، ولا يقوى جعلها نكرة موصولة.
وقرأ " ابن وَثّاب٣ " :" يَفْسِقُون " بكسر السين، وتقدم أنهما لُغَتَان.

فصل في تفسير الظلم


قال أبو مسلم : هذا الفِسْقُ هو الظلم المذكور في قوله :﴿ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ وفائدة التكرار التأكيد.
قال ابن الخطيب : والحق أنه غيره ؛ لأن الظلم قد يكون من الصَّغائر، ولذلك قال بعض الأنبياء :﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ﴾ [ الأعراف : ٢٣ ] وقد يكون من الكَبَائر، قال تعالى :﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ]، والفِسْق لا بُدّ وأن يكون من الكبائر، ويمكن أن يجاب عنه : بأن أبا مُسْلِمٍ لم يقل بأن الفسق مطلق الظلم، وإنما خصّه بظلم معين، وهو الذي وصفوا به في أوّل الآية، ويحتمل أنهم استحقُّوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل، فنزل الرِّجْزُ عليهم بالفِسْقِ الذي كانوا يفعلوه قبل التبديل، فيزول التكرار.
احتجّ بعضهم بقوله :﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ على أنَّ ما ورد من الأذكار لا يجوز تبديله بغيره، وعلى هذا لا يجوز تحريم الصَّلاة بلفظ التَّعْظيم، ولا يجوز القراءة بالفارسية.
وأجاب أبو بكر الرَّازِي :" بأنهم إنما استحقُّوا الذَّم لتبديلهم القول إلى قول يُضَاد معناه معنى الأول، فلهذا استوجبوا الذم، فأما تغيير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك ".
قال ابن الخطيب :" والظَّاهر أن هذا بتناول كل من بدّل قولاً يقول آخر سواء اتَّفَقَا أو لم يتفقا ".
فإن قيل : قال هنا :" وإذ قلنا "، وفي " الأعراف " :﴿ وَإِذْ قِيلَ ﴾ [ الأعراف : ١٦١ ].
قيل : لأن سورة " الأعراف " مكية، و " البقرة " مدنية فأبهم القائل في الأولى وهي " الأعراف " ليكون لهم وَقْع في القلب، ثم بَيَّنَهُ في هذه السورة المدنية، كأنه قال : ذلك القائل هناك هو هذا.
وقال هنا :" ادْخُلُوا "، وفي " الأعراف " :" اسْكُنُوا ".
قال ابن الخطيب :" لأنّ الدخول مقدّم على السُّكْنَى ".
وهذا يرد عليه، فإن " الأعراف " قبل " البقرة " ؛ لأنها مكية.
وقال [ هنا ] " فَكُلُوا " بالفاء، وفي " الأعراف " " وَكُلُوا " بالواو.
والجواب ها هنا هو الذي ذكرناه في قوله تعالى في سورة البقرة :﴿ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً ﴾، وفي " الأعراف " ﴿ فَكُلاَ ﴾. [ ولم ذكر قوله :" رغداً " في " البقرة "، وحذفه في " الأعراف " ؟ لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنْعَام الأعظم وهو أن يأكلوا رغداً ]، وفي " الأعراف " لما لم يسند الفعل إلى نفسه [ لا جرم ] لم يذكر الإنعام الأعظم.
وقال هنا :﴿ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾، وفي " الأعراف " قدّم المؤخر ؛ لأن الواو للجمع المطلق، وأيضاً يحتمل أن يكون بعضهم مذنباً، وبعضهم ليس بمذنب، فالمُذْنب يكون اشتغاله أولاً بالتوبة، ثم بالعبادة فكلفوا أن يقولوا أولاً " حطة " ثم يدخلوا الباب سُجَّداً، وأما الذي ليس بمذنب، فالأولى به أن يشتغل بالعبادة أولاً، ثم [ يذكروا ] التوبة ثانياً على سبيل هَضْم النفس، وإزالة العجب في فعل تلك العبادة فكلفوا أن يدخلوا الباب سجداً أولاً، ثم يقولوا " حطة "، فذكر حكم كل قسم في سورة قاله ابن الخطيب.
وفيه نظر ؛ لأن هذا القول إنما كان مَرّة واحدة.
وقال هنا :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ بالواو، وفي " الأعراف " بغير واو.
وقال ابن الخطيب : لأنه ذكر في " الأعراف " أمرين : قول الحطة، وهو إشارة إلى التوبة، ودخول الباب سجداً، وهو إشارة إلى العبادة، ثم ذكر جزاءين : قوله تعالى :﴿ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ﴾، وهو واقع في مقابلة قول الحطّة، وقوله :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾، وهو واقع في مُقَابلة دخول الباب سجداً، [ فترك ] الواو يفيد توزيع كل واحد مِنَ الجَزَاءين على كل واحد من الشرطين.
وأما في " البقرة " فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاءً واحداً لمجموع الفعلين.
وقال هنا :﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً ﴾، وفي " الأعراف " زاد كلمة " منهم ".
قال ابن الخطيب : لأنه تعالى قال :﴿ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ ﴾، فذكر أن منهم من يفعل ذلك، ثم عدّد صنوف إنعامه عليهم، وأوامره لهم فلما انتهت القصّة قال :﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾ [ فذكر لفظة " مِنْهُمْ " في آخر القصّة كما ذكرها في أول القصة ] ليكون آخر الكلام مطابقاً لأوله، وأما هنا فلم يذكر في الآيات التي قبل قوله :﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ تمييزاً وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص.
وقال هنا :﴿ فَأَنزَلْنَا ﴾ وفي [ سورة ] " الأعراف " :﴿ فَأَرْسَلْنَا ﴾، وأتى بالمضمر دون الظاهر ؛ لأنه تعالى عدّد عليهم في هذه السُّورة نعماً جسيمة كثيرة، فكان توجيه الذّم عليهم، وتوبيخهم بكفرانها أَبْلَغ من حيث إنه لم يعدّد عليهم هناك ما عَدّد هنا.
فلفظ " الإنزال " للعذاب أبلغ من لفظ " الإرسال ".
وقال هنا :﴿ يَفْسُقُونَ ﴾، وفي " الأعراف " :{ يَظْلِ
كسرت الذّال من «إذ» لالتقاء الساكنين، والسين للطلب على وجه الدعاء أي: سأل
105
لهم السُّقْيَا، وألف «إسْتَسْقَى» منقلبة عن ياء؛ لأنه من «السَّقْي»، وتقدَّم معنى «اسْتَفْعَلَ»، ويقال: «سَقَيْتُه» و «أَسْقَيْتُهُ»، بِمَعْنّى؛ وأنشد: [الوافر]
٥٢١ - سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى نُمَيْراً وَالقَبَائِلَ مِنْ هِلاَلِ
وقيل: «سقيته» : أعطيته ما يشرب، «وأسقيته» : جعلت ذلك له يتناوله كيف شاء. و «الإسْقاء» أبلغ من «السَّقْي» على هذا.
وقيل: أسقيته: دَلَلْتُه على الماء، وسيأتي عند قوله: ﴿نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ [النحل: ٦٦] وسقى وأسقى متعدّيان لمفعولين، قال تعالى: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً﴾ [الإنسان: ٢١] وقال: ﴿وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً﴾ [المرسلات: ٢٧].
و «لِقَوْمِهِ» متعلّق بالفعل، واللام للعلّة، أي: لأجل، أو تكمون للبيان لما كان المراد به الدعاء كالتي في قولهم: «سُقْياً لَكَ» فتتعلّق بمحذوف كنظيرتها.
قوله: ﴿اضرب بِّعَصَاكَ الحجر﴾ الإدغام هنا واجبٌ؛ لأنه متى اجتمع مثلان في كلمتين؛ أو كلمة أوّلهما ساكن وجب الإدغام نحو: اضرب بكراً، وألف «عصاك» منقلبة عن واو؛ لقولهم في النّسب: عَصَوِيٌّ، وفي التثنية عَصَوَان؛ قال: [الطويل]
٥٢٢ -...................... عَلَى عَصَوَيْهَا سَابِرِيٌّ مُشَبْرَقُ
والجمع: «عُصِيّ» «وَعِصِيّ» بضم العين وكسرها إتباعاً، و «أَعْصِ» مثل «زَمَنٍ» «وأَزْمُن»، والأصل: «عُصُوُو» و «أَعْصُو»، فأعلّ. وعَصَوْتُه بالعَصَا، وعَصَيْتُه بالسيف. و «ألقى عَصَاه» يعبر به عن بلوغ المنزل، قال: [الطويل]
٥٢٣ - فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى كَمَا قَرَّعَيْنَا بِالإيَابِ المُسَافِرُ
وانشقت العَصَا بين القوم، أي: وقع الخلاف؛ قال: [الطويل]
106
قال الفَرَّاء: «أوّل لحن سمع ب» العراق «هذه عَصَاتي»، يعني: بالتاء.
وفي [المثل] :«العَصَا من العُصَيَّة» أي: بَعْضُ الأمر من بَعْضٍ.
و «الحَجَر» مفعول. و «أل» فيه للعَهْدِ.
وقيلك للجنس، وهو معروف، وقياس جمعه في أدنى العدد «أَحْجَار» وفي التكثير: «حِجَارٌ وحِجَارَةٌ» نادر، وهو كقلونا: «جَمَل وجِمَالة»، و «ذَكَر وذِكَارة» قاله ابن فارس والجَوْهري.
وكيف يكون نادراً وفي القرآن: ﴿فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة﴾ [البقرة: ٢٧]، ﴿قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً﴾ [الإسراء: ٥٠]، ﴿تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ﴾ [الفيل: ٤]، ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً﴾ [هود: ٨٢].
قوله: ﴿فانفجرت﴾ «الفاء» عاطفة على محذوف لا بُدّ من تقديره: فضرب فانفجرت. قال ابن عصفور: إن هذه «الفاء» الموجودة هي الداخلة على ذلك الفعل المحذوف، والفاء الداخلة على «انْفَجَرَتْ» محذوفة، وكأنه يقول: حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه، وحذفت «الفاء» الثانية لدلالة الأولى عليها.
ولا حاجة إلى ذلك، بل يقال: حذفت الفاء، وما عطفته قبلها.
وجعلها الزمخشري جواب شرط [مقدر] قال: [أو] فإن ضربت فقد انفجرت، قال: «وهي على هذا فاء فَصِيحة لا تقع إلا في كلام بليغ». وكأنه يريد تفسير المعنى لا الإعراب.
و «الانْفِجَار» : الانشقاق والتفتُّح، ومنه: الفَجْر لانشقاقه بالضَّوء.
وفي «الأعراف» :﴿فانبجست﴾ [الأعراف: ١٦٠] فقيل: هما بمعنى.
وقيل: «الانْبِجَاس» أضيق؛ لأنه يكون أولاً والانفجار ثانياً.
وقيل: انبجس وتبجّس وتفجّر وتفتّق بمعنّى وَاحِدٍ.
قوله: ﴿اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً﴾ فاعل «انْفَجَرَتْ»، والألف علامة الرفع؛ لأنه محمول على المُثَنّى، وليس بمثنى حقيقة، إذ لا واحد له من لفظه، وكذلك مذكره «اثنان»، ولا يضاف إلى تمييز، لاستغنائه بذكر المعدود «مثنى» تقول: «رجلان وامرأتان» ولا تقول: يضاف إلى «اثنا رَجُل، ولا اثنتا امرأة» إلا ما جاء نادراً فلا يقاس عليه، قال: [الرجز]
107
٥٢٤ - إذَا كَانَتِ الهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ العَصَا فَحَبْسُكَ وَالضَّحَّاحُ سَيْفٌ مُهَنَّدٌ
٥٢٥ - كَأَنَّ خُصْيَيْهِ مِنَ التَّدَلْدُلِ ظَرْفُ عَجُوزٍ فِيهِ ثِنْتَا حَنْضَلِ
و «ثنتان» مثل «اثنتين»، وحكم اثنين واثنتين في العدد المركب أن يُعْرَبا بخلاف سائر أخواتهما، قالوا: لأنه حذف معهما ما يحذف في المعرب عند الإضافة، وهي النون، فأشبها المعرب فأعربا كالمثنى بالألف رفعاً والباء نصباً وجرًّا.
وأما «عَشْرة» فمبني لتنزله منزلة تاء التأنيث، ولها أحكام كثيرة.
و «عَيْناً» تمييز. وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى: «عَشِرَة» بكسر الشين، وهي لغة تميم.
قال النحَّاس: «وهذا عجيب فإن لغة تميم» عشرة «بالكسر، وسبيلهم التخفيف، ولغة» عَشْرة «بالسكون، وسبيلهم التثقيل».
وقرأ الأعمش: «عَشَرَة» بالفتح.
و «العَيْن» : اسم مشترك بين عَيْنِ الإنسان، وعَيْنِ الماء، وعين الرَّكّية، وعَيْنِ الشمس، وعَيْنِ الذهب، وعين الميزان.
والعين: سحابة تقبل من ناحية القبلة. والعين: المَطَر الدائم ستًّا أو خمساً. والعين: الثقب في المَزَادة، وبلد قليل العين، أي: قليل النَّاس. [وبها عين، محركة الياء].
فإن قيل: إذا كانت العين لفظاً مشتركاً بين حقائق، فكيف وقعت هنا تمييزاً؟
فالجواب: أن قوله: «وَإذِ اسْتَسْقَى»، وقوله: «فَانْفَجَرَتْ»، وقوله: «مَشْرَبَهُمْ» دليل على إرادة عين الماء، فاللفظ مع القرينة مميز، والعَيْن من الماء شبيهة بالعين من الحيوان لخروج الماء منها، كخروج الدَّمع من عين الحيوان.
108
وقيل: لما كان عين الحيوان اشرف ما فيه شبّهت به عين الماء؛ لأنها أشرف ما في الأرض.
قوله: ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ﴾
[الأعراف: ٨٢] قد تقدّم الكلام على أنّ «أناس» أصل «النّاس».
وقال الزمخشري في سورة «الأعراف» :«إنه اسم جمع غير تكسير»، ثم قال: «ويجوز أن يكون الأصل الكسر، والتكسير، والضمة بدل من الكسرة، كما أبدلت في سُكَارى» من الفتحة وسيأتي البحث معه إن شاء الله تعالى.
قوله: ﴿مَّشْرَبَهُمْ﴾ مفعول ل «علم» بمعنى «عرف»، و «المَشْرَب» هنا موضع الشُّرْب؛ لأنه روي أنه كان لكل سِبْطٍ عَيْنٌ من اثنتي عشرة عيناً، لا يشاركه فيها سبط غيره.
وقيلك هو نفس المشروب، فيكون مصدراً واقعاً موقع المفعول به، وضمير الجمع في قوله: «مشربهم» يعود على معنى «كُلُّ أُنَاسِ».

فصل في بيان أن الاستسقاء كان في التِّيه


قال جمهور المفسرين: هذا الاستسقاء كان في التِّيْهِ؛ لأن الله تعالى لما ظَلَّلَ عليهم الغمام، وأنزل عليهم المَنّ والسَّلْوَى، وجعل ثيابهم بحيث لا تَبْلَى، ولا تَتَّسِخ خافوا العَطَش، فأعطاهم الله الماء من ذلك الحَجَرِ، وأنكر أبو مسلم ذلك وقال: بل هو كلام مفرد بِذَاتِهِ، ومعنى الاسْتِسْقَاء طلب السُّقْيَا من المطر على عادة الناس إذا [أقحطوا]، ويكون ما فعله الله من تَفْجِيِر الحجر بالماء فوق الإجابة بالسُّقيا، [وإنزال الغيث].
[وقال ابن الخطيب:] وليس في الآية ما يدلّ على أحد القولين، وإن كان الأقرب أن ذلك وقع في التِّيْهِ؛ لأن المعتاد في البلاد الاستغناء عن طلب الماء إلا في النَّادر، وأيضاً روي أنهم كانوا يحملون الحَجَر معهم؛ لأنه صار معدًّا لذلك، [فكما كان] المَنّ والسّلوى ينزلا من كل غَدَاة، فكذلك الماء يتفجّر لهم في كل وقت، وذلك لا يليق إلا بأيّامهم في التّيْهِ.

فصل في جنس الشجرة


اختلفوا في العَصَا، فقال الحسن: كانت عَصَا أخذها من بعض الأشجار وقيل: كانت من آس الجَنّة طولها عشرة أَذْرُع على طول موسى، ولها شُعْبَتَان تَتَّقِدَان في الظلمة، واسمه عليق، وكان آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حمله معه من الجَنّة إلى الأرض، فتوارثه صَاغراً عن كَابِرٍ حتى وصل إلى شُعَيْب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فأعطاه لموسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
والذي ينبغي أن يقال: إنها كانت بمقدار يصحّ أن يتوكّأ عليها، وأن تنقلب حَيَّةً عظيمة، وما زاد على ذلك لا دليل عليه.
109
قال ابن الخطيب: «والسُّكوت عن هذه المباحث واجب؛ لأنه ليس فيها نَصّ متواتر، ولا يتعلّق بها عمل حتى يكتفى فيها بالظَّن المستفاد من أخبار الآحاد».

فصل في المراد بالحجر


إن قلنا: الألف واللام في «الحَجَرِ» للعَهْد، فالإشارة إلى حَجَرٍ معلوم، روي أنه حجر طُوري مربّع قدر رأس الشَّاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به، ينبع من كل وَجْه ثلاثة أعين لكل سِبْط عين تسيل في جدول إلى ذلك السّبط فإذا نزلوا وضع في وسط محلّتهم.
وقيل: بل كانوا يجدونه في كل مَرْحَلة في منزلته من المرحلة الأولى، وهذا من [أعظم] الإعجاز.
وقال سعيد بن جُبَيْرٍ: هو الحَجَرُ الذي وضع عليه موسى ثَوْبَهُ حين اغتسل، فضربه حتى بَرَّأَهُ الله مما رموه به من الأُدْرَة، فقال له جبريل: فيقول الله تعالى لك: أرفع هذا الحَجَرَ، فإن لي فيه قدرة، ولك فيه مُعْجزة، فحمله في مخْلاَتِهِ. قال أبو روق: كان من [الكدّان]، وقيل: من الرُّخَام.
[فإن قلت] : الألف واللام للجنس، فمعناه: [اضرب] أي حجر كان.
قال الحسن: لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه، قال: وهذا أظهر في الحُجّة. وروي أنه كان يضره ضربةً واحدة، فيظهر فيه اثنتا عشر عيناً كل عين مثل ثَدْي المرأة فيعرق، وهو الانْبِجَاس، ثم ينفجر بالأنهار.
قال عطاء: ثم يضربه ضربةً واحدة فَيَيْبَسُ.
وقال عبد العزيز بن يحيى الكتاني: كان يضربه اثنتا عشرة ضربةً لكل عين ضربة.
قال القرطبي: ما أوتي نبينا محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من نَبْعِ الماء وانفجاره من بين أصابعه أعظم في المُعْجزة، فإنا نشاهد الماء يتفجّر من الأحجار، ومعجزة نبينا محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يخرج الماء من بين لَحْمِ ودَمٍ!
وروى الأئمة الثقات عن عبد الله قال: كنا مع النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم مجد ماءً فأتي بِتَوْرٍ
110
فأدخل يده فيه، فلقد رأيت الماء يتفجّر من بين أصابعه، ويقول: «حي على الطّهور».
قال الأعمش: حدثني سالم بن أبي الجَعْدن قال: قلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟
قال: ألفاً وخمسمائة. لفظ النَّسَائي.

فصل في وجوه الإعجاز في انفجار الحجر


والحكمة في جَعْلِ الماء اثنتي عشرة عيناً قطع التنازع والتَّشَاجر بينهم، وهذا الانفجار يدلّ على الإعجاز من وجوه.
أحدها: أن نفس ظهور الماء معجزة.
وثانيها: خروج الماء العظيم من الحجر الصغير.
وثالثها: خروج الماء بِقَدْر حاجتهم.
ورابعها: خروج الماء عند الضَّرْب بالعصا.
وخامسها: خروج الماء بالضَّرب بعصا معينة.
وسادسها: انقطاع الماء عند الاستغناء عنه، فهذه الوجوه لا يمكن تحصيلها إلا بِقُدْرَةٍ تامة في كل الممكنات، وعلم نافذ في جميع المعلومات.
قوله: ﴿كُلُواْ واشربوا﴾ هاتان الجمليتان في محلّ نصب بقول مضمر تقديره: وقلنا لهم: كلوا واشربوا. وقد تقدّم تصريف «كُلْ» وما حذف منه.
قوله: ﴿مِن رِّزْقِ الله﴾ هذه من باب الإعمال؛ لأن كلّ واحد من الفعلين يصحّ تسلّطه عليه، وهو من باب إعمال الثاني للحذف من الأول. والتقدير: كلوا منه.
و «مِنْ» يجوز أن تكون لابتداء الغاية، وأن تكون للتبعيض، ويجوز أن يكون مفعول الأكل محذوفاً، وكذلك مفعول الشرب؛ للدلالة [عليهما]، والتقدير: كلوا المَنّ والسَّلوى لتقدمهما في قوله:
﴿وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى﴾ [البقرة: ٥٧]، واشربوا ماء العيون المتفجّرة. وعلى هذا فالجار والمجرور يحتمل تعلّقه بالفعل قبله، ويحتمل أن يكون حالاً من ذلك المفعول المحذوف، فيتعلّق بمحذوفة.
وقيل: المراد بالرِّزْقِ الماء وحدهن ونسب الأكل إليه لما كان سبباً في نَمَاءِ ما يؤكل وحَيَاته، فهو رزق يؤكل منه ويشرب. والمُرَاد بالزرق المرزوق، وهو يحتمل أن يكون من باب «ذِبْح ورِعْي»، وأن يكون من باب «درهم ضرب الأمير» وقد تقدم بيانه.
فإن قيل: قوله: ﴿مِن رِّزْقِ الله﴾ يفهم منه أن ثَمَّ رزقاً ليس لله، وذلك باطل.
111
فالجواب: من [وجوه] :
[أحدها: أن هذا مفهوم لقب؛ فلا يدل]
الثاني: أن هذا رِزْقٌ لم تعمل فيه أيديهم بِحَرْثٍ ولا غيره، فهو خالص أرسله الله إليهم.
الثالث: أن إضافته إلى الله تعالى إضافة تشريف لكونه أشرف ما يؤكل، وما يشرب؛ لأنه تسبّب عن معجزٍ خارقٍ للعادة.

فصل في كلام المعتزلة


واحتجّت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلاق قالوا: لأن أقل درجات قوله: كلوا واشربوا الإباحة، فهذا يقتضي كون الرزق مباحاً، فلو وجد رزق حرام لكان ذلك الرزق مباحاً وحراماً وإنه غير جائز.
قوله: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾.
أصل «تعثوا» :«تَعْثَيُوا»، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان فحذف الأول منهما وهو الياء، أو لما تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً فالتقى ساكنان، فحذفت الألف، وبقيت الفتحة تدل عليها. وهذا أولى، فوزنه «تفعون».
و «العِثِيّ» و «العَيْث» : أشد الفساد وهما متقاربان.
وقال بعضهمك «إلا أنّ العَيْثَ أكثر ما يقال فيما يدرك حسّه، والعِثِيّ فيما يدرك حكماً، يقال: عَثِيَ يَعْثَى عِثِيًّا، وهي لغة القرآن، وَعَثَا يَعْثُو عُثُوًّا، وعَاثَ يَعيثُ عَيْثاً».
وليس «عاث» مقلوباً من «عَثِيَ» ك «جَبَذَ وجَذَبَ» لتفاوت معنييهما كما تقدم.
ويحتمل ذلك، ثم اختصّ كل واحد بنوع، ويقال: عَثِي يَعْثَى عِثِيًّا ومَعَاثاً، وليس «عَثِيَ» أصله «عَثِوَ» فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ك «رضي» من الرِّضْوَان، لثبوت العِثِيِّ، وإن تَوَهَّم بعضهم ذلك.
ويقال: عَثَّ يَعُيُّ مضافاً أي: فسد، قال ابن الرِّقَاع: [الكامل]
٥٢٦ - لَوْلاَ الحَيَاءُ وَأَنَّ رَأَسِيَ قَدْ عَثَا فِيهِ المَشِيبُ لَزُرْتُ أُمَّ القَاسِمِ
ومنه: العُثَّة: [سوسة] تفسد الصُّوف.
112
وأما «عَتَا» بالتاء المُثَنّاة من فوق فهو قريب من معناه، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
و «مُفْسِدِينَ» حال من فاعل «تَعْثُوا» وهي حال مؤكدة؛ لأن معناها قد فهم من عاملها، وحسن ذلك اختلاف اللفظين، ومثله: ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ [التوبة: ٢٥]، هكذا قالوا. ويحتمل أن تكون حالاً مبينة؛ لأن الفساد أعم، والمعنى أخص، ولهذا قال الزمخشري: فقيل لهم لا تَتَمَادّوْا في الفساد في حال فسادكم؛ لأنهم كانوا متمادين فيه. فغاير بينهما كما ترى.
و «في الأرض» يحتملم أن يتعلّق ب «تعثوا» وهو الظاهر، وأن يتعلّق ب «مفسدين». والمراد بالأرض: عموم الأرض [لا] أرض التِّيْهِ.
والمراد بالفساد هاهنا هو قوله في سورة طه: ﴿وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ﴾ [طه: ٨١].
113
«لن نَصْبِرَ» ناصب منصوب، والجملة في محلّ نصب بالقول، وتقدم الكلام على «لن».
قوله: ﴿طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾، وإنما كان طعامين هما: المَنّ والسَّلْوَى؛ لأن المراد بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل، فأريد بالوحدة نفي التبديل لا الاختلاف، أو لأنهما ضرب واحد؛ لأ، هما من طعام أهل التلذُّذ والترف، ونحن أهل زِرَاعات لا نريد إلا ما ألفناه من الأشياء المتفاوتة، أو لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر، أو لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كانوا يعجنون المَنَّ والسّلوى، فيصير طعاماً واحداً.
وقيل: لأن العرب تعبّر عن الاثنين بلفظ الواحد، وبلفظ الواحد عن الواحد، كقوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢]، وإنما يخرجان من المِلْحِ دون العَذْب.
قال ابن الخطيب: ليس المراد أنه واحد في النوع، بل إنه واحد في المَهْجِ،
113
كما يقال: إن طعام فلان على مائدة طعام واحداً إذا كان لا يتغيّر عن نهجه.
وقيل: كنوا بذلك عن الغنى، فكأنهم قالوا: لن نرضى أن نكون كلنا مشتركين في شيء واحد فلا يخدم بعضنا بعضاً، وكذلك كانوا أول من اتخذ الخدم والعبيد. و «الطعام» : اسم لكل ما يطعم من مأكول ومشروب، ومنه: ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ﴾ [البقرة: ٢٤٩]، وقد يختص ببعض المأكولات كاختصاصه بالبُرّ والتَّمْرِ في حديث الصًّدَقة، أو صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير. والطَّعم بفتح الطاء المصدر أو ما يشتهى من الطعام أو ما يؤديه الذوق، تقول: طَعْمُهُ حُلْو وطَعْمُهُ مُرّ، وبضمها الشيء المطعوم كالأُكْلِ والأَكْل؛ قال أبو خِرَاشٍ: [الطويل]
٥٢٧ - أَرُدُّ شُجَاعَ البَطْنِ لَوْ تَعْلَمِينَهُ وأُوثِرُ غَيْرِي مِنْ عِيَالِكِ بالطُّعْمِ
وأَغْتَبِقُ المَاءَ القَرَاحَ فَأَنْتَهِي إذَا الزَّادُ أَمْسَى للْمُزَلَّجِ ذَا طَعْمِ
أراد بالأول المطعوم، وبالثاني ما يُشْتَهَى منه، وقد يعبَّر به عن الإعطاء؛ قال عليه السلام: «إِذا استَطْعَمَكُمُ الإمام فَأَطْعِمُوهُ» أي: إذا استفتح، فافتحوا عليه، وفلان ما يَطْعَمُ النومَ إلاَّ قائماً؛ قال: [المتقارب]
٥٢٨ - نَعَاماً بِوَجْرَةَ صُفْرَ الْخُدُودِ مَا تَطعَمُ النَّوْمَ إِلاَّ صِيَامَا
قوله: «فادع» اللّغة الفصيحة «ادْعُ».
بضم العين من «دَعَا يدعو».
ولغة بني عامر «فَادْعِ» بكسر العين قال أبو البقاء: «لالتقاء السَّاكنَيْنِ؛ يُجْرُونَ المعتلَّ مُجْرَى الصَّحيح، ولا يراعون المحذُوفَ» يعني أن العَيْنَ ساكنةٌ، لأجل الأمر، والدَّالُ قبلها ساكنةٌ، فكسرت العين، وفيه نظرٌ، لأن القاعدة في هذا ونحوه أن يُكْسَر الأوَّو من الساكنين، لا الثاني، فيجوزُ أنْ يكُون من لُغتِهِمْ «دَعَا يَدْعِي» مثل «رَمَى يَرْمي»، والدُّعَاء هنا السُّؤال، ويكون هنا بمعنَى التَّسْمية؛ كقوله: [الطويل]
114
٥٢٩ - دَعَتْنِي أَخَاهَا أُمُّ عَمْرٍ و........................
وقد تقدم، و «لنا» متعلّق به، واللام للعلة.
قوله: «يُخْرِجْ» مجزوم في جواب الأمر.
وقال بعضهم: مجوزم بلا الأمر مقدرة، أي «ليخرج»، وضعفه الزجاج وسيأتي الكلام على حذف لام الأمر إن شاء الله تعالى.
والقراءة المشهورة «يُخْرِجْ» بضم «الياء» وكسر «الراء» و «تُنْبِت» بضم «التاء» وكسر «الباء» وقرأ زيد بن علي «يَخْرُج» بفتح «الياء» وضم «الراء» و «تَنْبُت» بفتح «التاء» وضم «الباء».
قوله: «مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ» مفعول «يخرج» محذوف عن سيبويه تقديره: مأكولاً مما، أو شيئاً ممّا تنبت الأرض. والجار يجوز أن يتعلّق بالفعل قبله، ويكومن «مِنْ الابتداء الغاية، وأن تكون صفةً لذلك المفعول المحذوف، فيتعلّق بمضمر، أي: مأكولاً كائناً مما تنبته الأرض.
و»
مِنْ «للتبعيض، ومذهب الأخفش: أن» من «زائدة في المفعول، والتقدير: يخرج ما تُنْبِتُهُ الأرض؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً.
قال النَّحاس: وإنما دعى الحسن إلى زيادتها؛ لأنه لم يجد مفعولاً ل»
يخرج «فأراد أن يجعل» ما «مفعولاً و» ما «يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة، والعائد محذوف، أي من الذي تُنْبته، أو من شيء تُنْبته، ولا يجوز جعلها مصدريّة؛ لأن المفعول المحذوف لا يُوصَف بالإنبات؛ لأن الإنبات مصدر، [والمُخْرج] جوهر، وكذلك على مذهب الأخفش؛ لأن المخرج جوهر لا إنبات.
قوله:»
مِنْ بَقْلِهَا «يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون بدلاً من»
ما «بإعادة العامل، و» من معناها: بيان الجِنْس.
والثاني: أن يكون في محلّ نصب على الحال من الضمير المحذوف العائد على «ما» أي: مما تُنْبته الأرض في حال كونه من بقلها، و «من» أيضاً للبيان.
و «البَقْل» : كل ما تنبته الأرض من النَّجم، أي: ما لا سَاقَ له، وجمعهه «بُقُول».
و «القِثَّاء» معروف. الواحدة: قِثَّاءة، فهو من باب قَمْح وقَمْحة، وفيها لغتان:
115
المشهورة كسر القاف وهي قراءة العامة، وقرأ يحيى بن وَثّاب، وطلحة بن مصرّفن والأشهب العُقَيْلِيُّ بضم القاف وهي لغة «تميم».
و «القِثَّاء» مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ ممدود، تقول: «قِثَاء» و «قِثَّاءة» وَ «دِبَّاءَ» وَ «دِبَّاءة»، وَ «دَاء» وَ «دَوَاء» والهمزة أصلٌ بنفسها في قولهم: «أَقْثَأَتِ الأرض»، أي: كثر قِثَّاؤها.
ووزنها «فِعَّال»، ويقال في جمعها: «قَثَائِي»، مثل: «عِلْبَاء» و «عَلاَبِي».
قال بعضهم: إلا أن «قِثَاء» من ذوات الواو، تقول «أَقْثَأْتُ القَوْمَ»، أي: أطمعتهم ذلك، وَقَثأْتُ القِدْرَ سَكَّنْتُ غليانَهَا بالماء.
قال الجعدي: [الطويل]
٥٣٠ - تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا وَنَقْثَؤُهَا عَنَّا إِذَا حَمْيُهَا غَلاَ
وهذا وهم فاحش؛ لأنه لما جعلها من ذوات الواو كيف يستدلّ عليه بقولهم: «أقْثأت القوم» بالهمز، بل كان ينبغي أن يقال: «أَقْثَيْثُ» والأصل «أٌقْثوْتُ» لكن لما وقعت الواو في بناء الأربعة قلبت ياء، ك «أَغْزَيْتُ» من الغَزْوِ، ولكان ينبغي أن يقال: قَثَوْتُ القِدْرَ «بالواون ولقال الشاغر: [نَقْثُهَا] بالواو.
وَ»
الْمَقْثَأة «و» الْمَقْثُؤَة «بفتح الثاء وضمها: موضع» القِثَّاء «.
و»
الفُوم «: الثُوم وروي عن علقمة وابن مسعود أنه قرأ:» وثُومها «، وهي قراءة ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما وفي مصحف عبد الله. والفاء تبدل من الثاء كما قالوا:» جدث وجدف «و» عَاثُور وعَافُور «و» مَغَافير ومَغَاثير «، ولكنه غير قياس.
وعن ابن عباس الفُوم: الخُبْز، تقول العرب: فَوِّمُوا لنا: أي: أختَبزُوا»
.
وقال ابن عباس أيضاً وعطاء أبو مالك: هو الحِنْطَة وهي لغة قديمة، وأنشد ابن عباس لمن سأله عن «الفُومِ» :[الكامل]
116
٥٣١ - قدْ كُنْتَ أَحْسِبُنِي كَأَغْنَى وَاحِدٍ [نَزَلَ] الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعةِ فُومِ
وقال ابن دُرَيْدٍ «» الفُومَةُ السُّنْبُلَةُ «، وأنْشَد: [الوافر]
٥٣٢ - وَقَالَ رَبيئُهُمْ لَمَّ أَتَانَا بِكَفِّهِ فُومَةٌ أَوُ فُومَتَانِ
وقال القتيبي:»
هو الحبوبُ كلها «.
قال الكلبي والنضر بن شُمَيْل والكسَائي والمؤرجك الصّحيح أنه الثُّوم، لقراءة ابن عباس، ولكونه في مُصْحِف عبد الله بن مسعود وثُومها؛ ولأنه لو كان المراد الحِنْطة لما جاز أن يقال لهم: أَتَسْتَبْدِلُون الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ لأن الحِنْطة أشرف الأطعمة، ولأنَّ الثوم أوفق للعَدَس والبَصَل من الحِنْطة وأنشد المؤرج لحسان: [المتقارب]
٥٣٣ - وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الأُصُولِ طَعَامُكُمُ الْفُومُ وَالْحَوْقَلُ
يعني: الثوم والبصل؛ وأنشد النضر لأمية بن أبي الصَّلْت: [البسيط]
٥٣٤ - كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظاهِرَةً فِيْها الْفَرَادِيسُ وَالْفُومَانُ وَالْبَصَلُ
الفَرَادِيس: واحدها فِرْدِيسُ. وَكَوْمٌ مُفَرْدَسٌ، أي: مُعَرَّش.
وقال بعضهم:»
الفُوم: الحِمَّص لغة شامِيّة «.
قوله:»
وَعَدَسِهَا «العَدَس معروف، والعَدَسَة: بَثْرَةٌ تخرج بالإنسانن وربما قَتَلَتْ وعَدَسْ زجر للبِغَال؛ قال: [الطويل]
117
والعدس: شدة الوَطْء، والكَدح أيضاً، يقال: عدسه. وعدس في الأرض ذهب فيها، وعدست إليه المَنِيّة أي: سارت؛ قال الكميت: [الطويل]
٥٣٥ - عَدَسْ مَا لِعَبَّادِ عَليْكِ إِمَارَةٌ نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
٥٣٦ - أُكَلِّفُهَا هَوْلَ الظَّلاَمِ وَلَمْ أَزْلْ أَخَا اللَّيْلِ مَعْدُوساً إِلَيَّ وَعَادِسَا
أي: يسار إليّ بالليل. وعدس لغة في حدس، قاله الجوهري. وعن لعي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «عليكم بالعَدَس فإنه مُبَارك مُقَدّس، وإنه يرقق القَلْب ويكثر الدَّمْعَة فإنه بارك فيه سبعون نبياً آخرهم عِيْسَى ابن مريم».
اختلف العلماء في أكل البصل والثّوم [والكراث] وما له رائحة كريهة من البُقُول.
فذهب الجمهور إلى الإبَاحَةِ، للأحاديث الثابتة في ذلك.
وذهبت طائفة من أهل الظاهر القائلين بوجوب صلاة الفرض في الجَمَاعة إلى المَنْعِ؛ لان النبي عليه الصَّلاة والسَّلام سمّاها خبيثةً.
وقال تعالى: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث﴾ [الأعراف: ١٧٥] والصحيح الأول؛ لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام لبعض أصحابه: «كُلْ فِإنِّي أُنَاجي من لا تُنَاجي».

فصل في لفظ أدنى


قوله: «أَتَسْتَبْدِلُون» ؛ وفي مصحف أُبي «أَتُبَدِّلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى»، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو الظاهر قول الزجاج أن أصله: «أَدْنَوْ» من الدنو، وهو القرب، فقلبت الواو ألفاً لتحركها، وانفتاح ما قبلها، ومعنى الدُّنُوِّ في ذلك فيه وجهان:
أحدهما: أنه أقرب لقلّة قيمته وخَسَاسته.
118
والثاني: أانه أقرب لكم؛ لأنه في الدنيا بخلاف الذي هو خير، فإنه بالصبر عليه يحصل نفعه في الآخرة.
والثاني: قول علي بن سليمان الأَخْفَش أن أصله: «أَدْنَأُ» مَهْمُوزاً من دَنَأَ بَدْنَأُ دَنَاءَة، وهي الشيء الخَسِيْس، إلا أنه خفّف همزته؛ كقوله: [الكامل]
٥٣٧ -........................ فَارْعَيْ فَزَارَةُ لاَ هَنَاكِ الْمَرْتَعُ
ويدل عليه قراءة زهير [القرقبي] الكسائي: «أدنأ» بالهمز.
الثالث: أن أصله: أّدْوَن من الشيء الدّون، أي: الرَّدِيء، فقلب بأن أخرت العين إلى موضع اللام، فصار: أَدْنُوُ، فأعلّ كما تقدم. ووزنه «أفلع»، وقد تقدم معنى الاستبدال.
و «أدنى» خبر عن «هو»، والجملة صلة وعائد، وكذلك: «هو خير» صلة وعائد أيضاً.

فصل في معنى الآية


ومعنى الآية: أتستبدلون البقل والقثّاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمَنْ والسَّلوى الذي هو خير؟ من وجوه:
الأول: أنّ البقول لا خطر لها بالنسبة إلى المَنّ والسلوىن لأنهما طعام مَنّ الله به عليهم، وأمرهم بأكله، فكان في استدامته شكر نعمة الله، وذلك أَجْر وذُخْر في الآخرة، والذي طلبوه عَارٍ من هذه الخصال، فكان أدنى.
وأيضاً لما كان المَنَّ والسَّلوى ألذّ من الذي سألوه، وأطيب كان أدنى، وأيضاً لما كان ما أعطوه لا كُلْفة فيه، ولا تعب، وكان الذي طلبوه لا يجيء إلا بالحَرْثِ والتعب كان [أيضاً] أدنى.
119
وأيضاً لما كان ما ينزل عليهم لا مِرْيَة في حلّة وخُلُوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخلّلها البيوع والغُضُوب وتدخلها الشُّبه، كانت أدنى من هذا الوجه.
وأفرد في قوله: ﴿الذي هُوَ أدنى﴾ وإن كان ما طلبوه أنواعاً حملاً على قوله: «ما» في قوله: ﴿مِمَّا تُنْبِتُ الأرض﴾، أو على الطعام المفهوم من قوله: ﴿لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾.
قوله: ﴿اهبطوا مِصْراً﴾ القراءة المعروفة «أهْبِطُوا» بكسر الياء، وقرىء بضمها. و «مصراً» قرأ الجمهور منوناً، وهو خطّ المصحف.
فقيل: إنهم أمروا بهبوط مِصْرٍ من الأمطار فلذلك صرف.
وقيل: أمروا بِمْصرٍ بعينه، وإنما صرف لخفّته، لسكون وسطه ك «هِنْد ودَعْد» ؛ وأنشد: [المنسرح]
٥٣٨ - لَمْ تَتَلفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزَرِهَا دَعْدٌ وَلَمْ تُسْقَ دَعدُ في العُلَبِ
فجمع بين الأمرين.
أو صرفه ذهاباً به إلى المكان.
وقرأ الحسن: «مِصْرَ» بغير تنوين، وقال: الألف زائدة من الكاتب، وكذلك في بعض مصاحف عُثْمان، ومصحف أُبيّ، وابن مَسْعُودن كأنهم عَنَوْا مكاناً بعينه، وهو بلد فرعون وهو مروي عن أبي العالية
وقال الزمخشري: «‘نه معرّب من لسان العَجَمِ، فإن أصله مِصْرائيمن فعرب»، وعلى هذا إذا قيل بأنه علم لمكان بعينه، فلا ينبغي أن يصرف ألبتة لانضمام العُجْمة إليه، فهو نظير «ماه وَجور وحِمْص»، ولذلك أجمع الجمهور على منعه في قوله: ﴿ادخلوا مِصْرَ﴾ [يوسف: ٩٩]. والمِصْر في أصل اللغة: الحَدّ الفاصل بين الشيئين، وحكي عن أهل «هَجَر» أنهم إذا كتبوا بيع دار قالوا: «اشترى فلانٌ الدَّارَ بِمُصُورِهَا» أي: حُدُودها؛ وأنشد: [البسيط]
120
٥٣٩ - وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْراً لا خَفَاءَ بِهِ بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلاَ
قوله: ﴿مَّا سَأَلْتُمْ﴾ «ما» في محلّ نصب اسماً ل «إن»، والخبر في «لكم»، و «ما» بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: الَّذي سألتموه.
قال أبو البَقَاءك «ويضعف أن تكون نكرة موصوفة». يعني: أنَّ الذي سألوه شيءٌ معيَّنٌ، فلا يحسُنُ أن يُجَابُوا بشيء مُبهَمٍ.
وقرىء: «سِلْتُمْ» مثل: بِعْتُمْ، وهي مأخوذةٌ من «سَالَ» بالألف قال حَسَّان رَضِيَ اللهُ عَنْه: [البسيط]
٥٤٠ - سَالَت هُذَيْلٌ رَسُولَ الله فَاحِشَةً ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ
وهل هذه الألف منقلبة عن ياء أو واو لقولهم: يَتَساوَلاَنِ، أو عن همزة؟ ثلاثة أقوال يأتي بيانها في سورة «المعارج» إن شاء الله تعالى.

فصل في بيان أنه هل عصوا بذلك السؤال


أكثر المفسرين زعموا أن ذلك السؤال كان معصية.
قال ابن الخطيب: وعندنا ليس الأمر كذلك، والدليل عليه أن قوله: «كلوا واشربوا» عند إنزال المَنّ والسّلوى ليس بإيجاب، بل هو إباحةٌ، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم: ﴿لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ﴾ معصية؛ لأن من أُبيح له ضرب الطعام محسن منه أن يسأل غير ذلك، إما بنفسه أو على لسان الرسول، فلما كان عندهم أن سؤال موسى أقرب إلى الإجابة جاز لهم أن يسألوه ذلك، ولم يكن فيه معصية.
واعلم أن سؤال النَّوع الآخر من الطعام يحتمل أن يكون لأغراض منها: أنهم لما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين مَلّوه سنةً، فاشْتَهَوْا غيره.
ومنها: لعلّهم ما تعودوا ذلك النوع، وإما تعودوا سائر الأنواعن ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيساً فوق رَغْبته فيما لم يَعْتَدْهُ وإن كان شريفاً.
ومنها: لعلهم ملوا البقاء في التِّيْه، فسألوه هذه الأطعمة التي لا توجد إلاَّ في البلاد، وغرضهم الوصول إلى البلاد لا نفس الأطعمة.
ومنها: أن المُوَاظبة على نوع واحد سببٌ لنقصان الشهوة، وضعف الهَضْم، وقلّة
121
الرغبة والاستكثار من الأنواع بضد ذلكن فثبت أن تبديل طعام بغيره يصلح أن يكون مقصود العقلاء، وليس في القرآن ما يدلّ على منعهم، فثبت أن هذا القَدْرَ لا يجوز أن يكون معصية، ومما يؤكد ذلك أن قوله: ﴿اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ﴾ كالإجابة لما طلبوا، ولو كانوا عاصين في ذلك السُّؤال لكانت الإجابة إليه معصية، وهي غير جائزة على الأنبياء، لا يقال: إنهم لما أبوا شيئاً اختاره الله لهم أعطاهم عاجل ما سألوه كما قال: ﴿وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [الشورى: ٢٠] لأن هذا خلاف الظاهر.
واحتجوا على أن ذلك السؤال معصية بوجوه:
الأول: قولهم: لن نصبر على طعامٍ واحدٍ يدلّ على أنهم كرهوا إنزال المَنَ والسلوى، فتلك الكراهة معصية.
الثاني: أن قول موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُك ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ﴾ استفهام على سبيل الإنكار، وذلك يدلّ على كونه معصية.
الثال: أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وصف ما سألوه بأنه أدنى، ما كانوا عليه بأنه خير، وذلك يدلّ على ما قلناه.
والجواب عن الأول: أن قولهم: ﴿لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ ليس فيه دليل على أنهم كرهوه، بل اشتهوا شيئاً آخر؛ لأن قلهم: لن صبر إشارةٌ إلى المستقبلح لأن «لن» لنفي المستقبل، فلا يدلّ على أنهم سخطوا الواقع.
وعن الثاني: بأن الاستفهام على سبيل الإنكار قد يكون لما فيه من تفويت الأ نفع في الدنيا، وقد يكون لما فيه من تَفْويت الأنفع في الآخرة.
وعن الثالث: بأن الشيء قد يوصف بأنه خير من حيث إن الانتفاع به حاضر متيقّن، ومن حيث إنه حصل بِلاَ كَدّ ولا تَعَب، فكما يقال ذلك في الحاضر، فقد يقال في الغائب المشكوك فيه: إنه أدنى من حيث إنه لا يتيقّن من حيث لا يوصل إليه إلا بالكَدّ، فلا يمتنع أن يكون مراده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هذا المعنى، أو بعضه، فثبت أن ذلك السؤال لم يكن معصية، بل كان سؤالاً مباحاً، وإذا كان كذلك فقوله: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله﴾، لا يجوز أن يكون لما تقدم؛ بل لما ذكره الله تعالى بعد ذلك وهو قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ إلى آخره.
فهذا هو الموجب للغَضَبِ والعقاب لا كونهم سألوه ذلك.

فصل في المراد ب «مصر»


قال: قوم: المراد من «مصر» البلد الذي كانوا فيه مع فرعون؛ لقوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ﴾ [المائدة: ٢١] فأوجب دخول تلك الأرض، وذلك يقتضي المنع من دخول غيرها، وأيضاً قوله: ﴿كَتَبَ اللهُ لَكُمْ﴾ يقتضي
122
دوامهم فيه؛ وقوله: ﴿وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ﴾ [المائدة: ٢١] صريح في المَنْعِ من الرجوع عن بيت المقدس، وأيضاً فإنه تعالى، بعد الأمر بدخول الأرض المقدّسة، قال: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض﴾ [المائدة: ٢٦].
فلما بيّن تعالى أنهم ممنوعون من دخولها هذه المُدّة، فعند زوال تلك المُدْة يجب أن يلزمهم دخولها، وإذا كان كذلك لم يجز أ، يكون المراد من مِصْر سواها.
فإن قيل: هذه الوجوه ضعيفة.
أما الأول: فلأن قوله: ﴿ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَة﴾ [المائدة: ٢١] أمر ندب فلعلّهم ندبوا إلى دخول الأرض المقدسة، مع أنهم ما منعوا من دخول مصر، وأما قوله: ﴿كَتَبَ اللهُ لَكُمْ﴾ فذلك يدل على دوام تلك الأرض المقدسة.
وأما قوله: ﴿وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ﴾ فلا نسلّم أنّ معناه: ولا ترجعوا إلى مصر، بل يحتمل أن يكون معناه: ولا تعصوا فيما أمرتكم؛ لأن العرب تقول لمن عصى الأمر: أرتَدّ على عقبة، فالمراد من هذا العصيان كونهم أنكروا أن يكون دخول الأرض المقدسة أولى.
ويحتمل أن يكون ذلك النهي مخصوصاً بِوَقْتٍ معين.
والجوابك أنه ثبت في الأصول أن ظاهر الأمر للوجوب، وإن سلّمنا أنه للندب، ولكن الإذن في تركه يكون إذناً في ترك المندوب، وهو لا يليق بالأنبياء.
وأما قوله: لا نسلّم أن المراد من قوله: «ولا ترتدوا» : ولا ترجعوا.
قلنا: الدليل عليه أن أمره بدخول الأرض المقدّسةن ثم قوله بعده: ﴿وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ﴾ يتبادر إلى الفَهْم أن النهي يرجع إلى ما تعلّق به ذلك الأمر.
وقوله: «تخصيص النهي بوقت معين».
قلنا: التخصيص خلاف الظاهر.
قال أبو مسلم الأصفهاني: يجوز أن يكون المراد «مِصْر فرعون» لوجهين:
الأول: من قرأ «مِصْرَ» بغير تنوين كان عَلَماً للبلد المُعَيّن، وليس في العالم بلدة ملقبة بهذا اللقب سواها، فحمل اللفظ عليه، ولأن اللفظ إذا دَارَ بين كونه علماً، وبين كونه صفة فحمله على العلم أولى.
ومن قرأه منوناً فإما أن تجعله اسم عَلَم، وتقول: إنما نون لسكون وسطه، فيكون القريب أيضاً ما تقدم، وإن جعلناه اسم جنس فقوله: ﴿اهبطوا مِصْراً﴾ يقتضي التخيير، كما إذا قال: أَعْتِقْ رَقَبَةً.
123
الوجه الثاني: أن الله تعالى ورث بن إسرائيل أرض «مصر» لقوله: ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: ٥٩] وإذا موروثةً لهم امتنع أن يحرم عليهم دخولها.
فإن قيل: قد يكون الرجل مالكاً للدَّار وإن كان ممنوعاً من دخولها كمن أوجب على نفسه اعتكافَ أيام المسجد، فإنه يحرم عليه دخول دَارِهِ، وإن كانت مملوكةً له، فلم لا يجوز أن يقال: إن الله تعالى وَرَّثهم «مصر» بمعنى الولاية، والتصرف فيها، ثم إنه تعالى حرم عليهم دخولها بإيجابه عليهم سُكْنى الأرض المقدسة؟
قلنا: الأصل أن الملك مطلق للتصرف والمنع من التصرف خلاف الدليل.
وأجاب الفرق الأول عن حجّتي أبي مسلم.
أما قوله «إن القراءة المشهورة بالتنوين يقتضي التخيير».
قلنا: نعم، لكنا نخصّص العموم في حقّ هذه البلدة المعينة بما ذكرنا من الدليل.
وأما الثاني: فإنّا لا ننازع في أن الملك لمطلق التصرف لكن قد يترك هذه الأصل لعارض كالمرهون والمستأجر، فنحن تركنا هذا الأصل لما قدمنا من الدّلائل.
قوله: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة﴾ أيك جُعِلَتِ الذِّلَّة محيطً بهم، مشتملةً عليهم؛ كمن يكون في القُبَّة المَضْرُوبَةِ؛ قال الفرزدقُ لجرير: [الكامل]
٥٤١ - ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الكِتَابُ المُنْزَلُ
أو ألصفت بهم حتى لزمتهم كما يضرب الطِّين على الحائط فيلزمه.
ومن قال: إنها الجزية فبعيد؛ لأن الجزية لم تكن مضروبةً حينئذ.
وقال بعضهم: هذا من باب المُعْجِزَات؛ لأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أخبر عن ضرب الذِّلّة والمَسْكَنة عليهم، ووقع الأمر كذلك، فكان معجزة. و «الذِّلّة» : الصَّغَار.
والذُّلّ بالضم: ما كان عن قَهْرٍ، وبالكسر: ما كان بعد شماس من غير قهر. قاله الراغب.
و «المَسْكَنَةُ» : مَفْعَلَة من السُّكون، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض، لما به من الفَقْرِ، و «المسكين: مُفْعِيْل منه، إلاّ أن هذه الميم قد ثبتت في اشتقاق هذه الكلمة، قالوا: تمسكن يتمسكن فهو متمسكن، وذلك كما تثبت ميم» تَمْنَدل وتَمَدْرَعَ «من» النَّدْلِ «و» الدَّرعِ «وذلك لا يدلّ على أصالتها؛ لأن الاشتقاق قضى عليها بالزِّيَادة.
وقال الراغب: قوله: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة﴾ : فالميم في ذلك زائدة في أصحّ القولين.
124
وإيراد هذا الخلاف يؤذن بأن النون زائدة، وأنه من» مسك «و» ضربت «مبني للمفعول و» الذّلة «مقام الفاعل.
قول: ﴿وَبَآءُوا﴾ ألف»
بَاءَ بكذا «منقلبة عن واو؛ لقوله:» بَاءَ يَبُوءُ «مثل:» قَالَ يَقُولْ «قال عليه الصَّلاة والسَّلام:» أَبُوءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ «، المصدر» البَوَاء «؟
وبَاءَ معناه: رَجَع؛ وأنشد بعضهم هذا: [الوافر]
٥٤٢ - فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّابَايَا وأُبْنَا بِالمُلُوكِ مُصَفَّدينَا
وهذا وَهَمٌ؛ لأن هذا البيت من مادة: «آبَ يَئوب»
فمادته من همزة، وواو، وبَاءٍ، و «بَاءَ» مادته من باء، وواو، وهمزة، وادعاء القلب به بعيدٌ؛ لأنه لم يُعْهَد تقدُّم العين واللام معاً على الفاء في مقلوب، وهذا من ذلك.
والبَوَاءك الردوع بالقَوَدِ، وهُمْ في هذا الأمر بَوَاء، أي: سَوَاء؛ قال: [الطويل]
٥٤٣ - أَلاَ تَنْتَهي عَنَّا [مُلُوكٌ] وتَتَّقِي مَحَارِمَنَا لاَ يَبُؤِ الدَّمُ بِالدَّمِ
أي: لا يرجعُ الدم بالدم في القَوَدِ.
وبَاءَ بكذا: أقرَّ أيضاً، ومنه الحديث المتقدِّم أي: أُقِرُّ بها، وأُلْزِمُهَا نَفْسِي، وقال: [الكامل]
٥٤٤ - أَنْكَرْتُ بَاطِلَها وَبُؤْتُ بِحَقِّهَا..........................
وقال الراغبك «أصل البَواء مُسَاوَاةٌ الأَجْزَاءِ في المكان خلاف النَّبْوَة الذي هو مُنَافاة الأجزاء».
وقوله: «وَبَاءوا بِغَضَبٍ» أي: حلُّوا مَبْوَأً ومعه غَضَب، واستعمال «بَاءَ» تنبيه على أن
125
مكانه الموافق يلزمه فيه غضب الله فكيف بغيره من الأمكنة، وذلك نحو: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١].
ثم قال: وقول من قال: بؤت بحقها، أي: أقررت فليس تفسيره بحسب مقتضى اللفظ.
وقولهم: «حَيّاك الله وبَيّاك» أصله: بَوّأك، وإنما غير للمُشَاكلة، قاله خلف الأحمر.
وقيل: باءوا: استحقوا، ومنه قوله تعالى: ﴿إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾ [المائدة: ٢٩] أي: يستحق لإثم جمعياً، ومن قال: إنه الرجوع فلا يقال: باء إلا بِشَرّ.
قوله: «بغضب» في موضع الحال من فاعل «باءوا» أي: رجعوا مغضوباً عليهم، وليس مفعولاً به ك «مررت بزيد».
وقال الزمخشري: هو من قولك: باء فلان بفلان إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمُسَاواته له ومكافأته، أي صاروا أحقاء بغضبه. وعلى هذا التفسير ينبغي كون الباء للحال.
قوله: ﴿مِّنَ الله﴾ الظاهر أنه محلّ جر صفة ب «غضب»، فيتعلّق بمحذوف، أي: بغضب كائن من الله.
و «من» لابتداء الغاية مجازاً.
وقيل: هو متعلّق بالفعل نفسه أي: رجعوا من الله بِغَضَبٍ. وليس، بقوي.
قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾.
«ذلك» مبتدأ أشير به إلى ما تقدّم من ضرب الذِّلّة والمسكنة [والخلافة] بالغضب.
و «بأنهم» الخبر، والباء للسببية، أي: ذلك مستحقّ بسبب كفرهم.
وقال المهدوي: الباء بمعنى اللام أي: لأنهم، ولا حاجة إلى هذا، فإن باء السببية تفيد التَّعطيل بنفسها.
126
و «يكفرون» في محلّ نصب خبراً ل «كان»، و «كان» وما في حَيّزها في حل رفع خبراً للمبتدأ كما تقدم.
قوله: ﴿بِآيَاتِ الله﴾ متعلّق ب «يكفرون» والباء للتعدية.
قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ﴾ في محلّ نصب عطفاً على خبر «كان»، وقرىء: «تقتلون» بالخطاب التفاتاً إلى الخطاب الأول بعد الغيبة. و «يُقَتَّلونُ» بالتشديد للتكثير.
قوله: ﴿النبيين﴾ مفعول به جمع «نبي».
والقراءة على ترك الهمزة في النُّبوة، وما تصرف منها، ونافع المدني على الهمز في الجميع إلاّ موضعين: في سورة «الأحزاب» :﴿لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ﴾ [الأحزاب: ٥٠]، ﴿بُيُوتَ النبي إِلاَّ﴾ [الأحزاب: ٥٣]، فإن قالون حكى عنه في الوَصْلِ كالجماعة وسيأتي. وما من همز فإنه جعله مشتقاً من «النبأ» وهو الخبر، فالنَّبِيُّ «فعيل» بمعنى «فاعل» أي: مُنَبِّىءٌ عن الله برسالته، ويجوز أن يكون بمعنى «مفعول»، أي: أنه مُنَبَّأٌ من الله بأوامره ونواهيه، واستدلُّوا على ذلك بجمعه على «نُبَآء» ك «طَرِيف وظُرَفَاء» قال العَبَّاسُ بنُ مِرْدَاسٍ: [الكامل]
٥٤٥ - يا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ بِالحَقِّ كُلُّ هُدَى الإلَهِ هُدَاكَا
فظهور الهمزتين يدلُّ على كونه من «النَّبَأ»، واستضعف بعض النحويين هذه القراءة، قال أبو علي: «قال سيبويه» : بلغنا أن قوماً من أهل التحقيق يحققون «نبيئاً وبريئة» قال: وهو رَدِيء، وإنما استردأه؛ لأن الغالب في استعماله التخفيف. وقال أبو عبيدة الجمهور الأعظم من القراء والعَوَامّ على إسقاط الهمز من النَّبِي والأَنْبِيَاء، وكذلك أكثر العرب مع حديث رويناه، فذكر أن رجلاً جاء إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «يا نَبِيءَ الله»
127
فهمز، فقال: «لَسْتُ بِنَبِيءِ الله» فهمز ولَكِنِّي نَبِيُّ اللهِ، ولم يهمز، فأ، كر عليه الهمز.
قال: وقال لي أبو عبيدة: العرب تبدل الهمزة في ثلاثة أحرف: «النبيّ والبَرية والخَابِية» وأصلهن الهَمْز.
قال أبو عبيدة: ومنها حرف رابع: «الذُّرِّيَّة» من ذَرأَ يَذْرَأ، ويدلّ عل أن الأصل الهمز قال سيبويه: [إنهم] كلّهم يقولون: تنبأ مُسَيْلمة فيهمزون.
وبهذا لا ينبغي أن ترد به قراءة هذا الإمام الكبير، أما الحديث فقد ضعفوه.
قال ابن عطيةك ومما يقوي ضعفه أنه لما أنشده العَبَّاس: [الكامل]
٥٤٦ - يَا خَاتضمَ النُّبَآءِ......................................
لم ينكره، ولا فرق بين الجمع والواحد، ولكن هذا الحديث قد ذكره الحاكمك في «المستدرك» وقال: هو صحيح على شرط الشَّيخين، ولم يخرجاه.
فإذا كان كذلك فليلتمس للحديث تخريجٌ يكون جواباً عن قراءة نافع، على أنّ الَطْعِيٌ لا يُعَارَضُ بالظني، وإنما يذكر زيادة فائدة.
والجواب عن الحديث: أنّ أبا زيد حكى: نَبَأْتُ من أرض كذا إلى أرض كذا، أي: خرجت منها إليها فقوله: «يا نبيء الله» بالهمز يوهم يا طَرِيدَ الله الذي أخرجه من بلده إلى غيره، فَنَهَاه عن ذلك لإيهامه ما ذكرنا، لا لسبب يتعلّق بالقراءة.
ونظر ذلك نهيه المؤمنين عن قولهم: ﴿رَاعِنَا﴾ [البقرة: ١٠٤] لما وجدت اليهود بذلك طريقاً إلى السَّب به في لغتهم، أو يكون حضَّا منه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على تَحَرِّي أفصح اللغات في القرآن وغيره، وأما من لم يهمز، فإنه يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه من المهموز، ولكن [خفف]، وهذا أولى ليُوافق القراءتين، ولظهور الهمز في قولهم: تنبأ مسليمة: «يا خاتم النُّبَآء.....».
والثاني: أنه أصل آخر بنفسه مشتقّ من «نَبَا يَنْبُو» : إذا ظهر وارتفع، ولا شَكَ أن رتبة النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مرتفعة، ومنزلته ظاهرة بخلاف غيره من الخَلْقِ، والأصل: «نبيو وأنبواء»، فاجتمع الياء ولواو: وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء ك «ميت» في «ميوت»، وانكسر ما قبل الواو في الجمع فقلبت ياء، فصار: أنبياء.
والواو في «النبوة» بدل من الهمزة على الأول، وأصل بنفسها على الثّاني، فهو «فعيل» بمعنى «فاعل»، أي: ظاهر مرتفع، أو بمعنى مفعول أي: رفعه الله على خَلْقِهِ، أو يكون مأخوذاً من النبي الذي هو الطريق، وذلك أن النبي طريق الله إلى خلقه، به
128
يتوصّلون إلى معرفة خالقهم؛ قال الشاعر: [البسيط]
٥٤٧ - لَمَّا وَرَدْنَ نُبَيِّا وَاسْتَتَبَّ بِنَا مُسْحَنْفِرٌ كَخُطُوطِ النَّسْجِ مُنْسَحِلُ
وقال الشاعر: [المتقارب]
٥٤٨ - لأَصْبَحَ رَتْاً دُقَاقَ الحَصَى مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الكَاثِبِ
«الرَّتْم» بالتاء المثناة والمثلثة جمعياً: الكسر.
و «الكَاثِب» بالمثلثة: اسم جَبَل، وقالوا في تحقير نُبُوّة مسيلمة: نَبِيئة.
وقالوا: جمعه أبيناء قياس مُطّرد في «فعيل» المعتل نحو: «وَلِيّ وأولياء، وصَفِيّ وأصفياء».
وأما قَالُون فإنما ترك الهمز في الموضعين المذكورين لمَدْرَكٍ آخر، هو أنه من أصله في اجتماع الهمزتين من كلمتين إذا كانتا مكسورتين أن تسهل الأولى، إلا أن يقع قبلها حرف مدّ، فتبدل وتدغم، فلزمه أن يفعل هنا ما فعل في: ﴿بالسواء إِلاَّ﴾ [يوسف: ٥٣] من الإبدال والإدغام، إلاّ أنه روي عنه خلاف في: ﴿بالسواء إِلاَّ﴾ ولم يُرْو عنه [هنا] خلافٌ كأنه التزم البدل لكثرة الاستعمال في هذه اللَّفظة وبابها، ففي التحقيق لم يترك همزة «النَّبيّ» ن بل همزه ولما همزه أدّاه قياس تخفيفه إلى ذلك، ويدلّ على هذا الاعتبار أنه إنما يَفْعَل ذلك حيث يَصِل، أمّا إذا وقف فإنه يهمزه في الموضعين، لزوال السَّبب المذكور، فهو تارك للهمز لفظاً آتٍ به تقديراً.
فإن قيل: قوله: «يَكْفُرُونَ» دخل تحته قتل الأنبياء، فَلِمَ أعاد ذكره؟
فالجواب: إن المذكور هنا هو الكفر بآيات الله، وهو الجهل والجَحْد بآياته، فلا يدخل تحته قتل الأنبياء.
قوله: ﴿بِغَيْرِ الحق﴾ في محلّ نصب على الحال من فاعل «يقتلون» تقديره: يقتلونهم مبطلين، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف تقديره: قتلاً كائناً بغير الحَقِّ، فيتعلّق بمحذوف.
قال الزمخشري: قتل الأنبياء لا يكون إلاَّ بغير الحَقّ، فما فائدة ذكره؟
وأجاب: بأن معناه أنهم قتلوهم بغير الحَقّ عندهم؛ لأنهم لم يقتلوا والا أفسدوا في الأرض حتى يقتلوا، فو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهاً يستحقّون به القتل عندهم.
129
وقيل: إنما خرج وصفهم بذلك مخرج الصّفة لقتلهم بأنه ظلم في حقهم لا حقٌ، وهو أبلغ في الشناعة والتعظيم لذنوبهم.
وقيل: هذا التكرير للتأكيد، كقوله تعالى: ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ [المؤمنون: ١١٧]، ويستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني بُرْهَان.
وقيل: إن الله تعالى [لو ذمّهم على مجرد القتل قالوا: أليس أنّ الله يقتلهم، فكأنه تعالى قال: القَتْلُ الصادر من الله تعالى] قَتْلٌ بحقِّ، ومن غير الله قَتْلٌ بغير حق.
فإن قيل: كيف جاز أن يخلّي بين الكافرين [وقتل] الأنبياء؟
قيل: ذلك كرامة لهم، وزيادة في منازلهم كمن يقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك بِخُذْلان لهم.
قال ابن عباس والحسن رَضِيَ اللهُ عَنْهم: لم يقتل قَطّ نبي من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر.

فصل في أوجه ورود لفظ الحق


وقد ورد «الحَقّ» على أحد عشر وجهاً:
الأول: بمعنى «الجَزْ» لقوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آل عمران: ١١٢] أي: بغير جَزْمٍ كهذه الآية.
الثاني: بمعنى «الصّفة» قال تعالى: ﴿الآن جِئْتَ بالحق﴾ [البقرة: ٧١] أي: بالصفة التي نعرفها.
الثالث: بمعنى «الصّدق» قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين﴾ [الروم: ٤٧]، ومثله ﴿ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق﴾ [مريم: ٤٧] أي: قول الصدق.
الرابع: بمعنى: «وجب» قال تعالى: ﴿ولكن حَقَّ القول مِنِّي﴾ [السجدة: ١٣] أي: وجب، ومثله: ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ [غافر: ٦] أي: وجبت.
الخامس: بمعنى: «الولد» قال تعالى: ﴿بَشَّرْنَاكَ بالحق﴾ [الحجر: ٥٥] أي: بالولد.
السادس: الحقّ: الحُجّة قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [يونس: ٧٦] أي: جاءتهم الحجّة، وهي اليَدُ والعَصَاة.
السابع: بمعنى «القَضَاء» قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ احكم بالحق﴾ [الأنبياء: ١١٥] أي: اقض، ومثله: ﴿وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ [النور: ٤٩].
130
الثامن: بمعنى: «التوحيد» قال تعالى: ﴿بَلْ جَآءَ بالحق﴾ [الصافات: ٣٧] أي بالتوحيد.
التاسع: الحَقّ: الإسلام قال تعالى: ﴿وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل﴾ [الإسراء: ٨١] أي: جاء الإسلام، وذهب الكفر، ومثله: ﴿أَفَمَن يهدي إِلَى الحق﴾ [يونس: ٣٥] أي: إلى الإسلام، ومثله: ﴿إِنَّكَ عَلَى الحق المبين﴾ [النمل: ٧٩].
العاشر: بمعنى القرآن، قال تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ﴾ [ق: ٥] أي: بالقرآن.
الحادي عشر: الحَقّ: هو الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ﴾ [المؤمنون: ٧١] أي: في إيجاد الولد، ومثله:
﴿وَتَوَاصَوْاْ
بالحق
[العصر: ٣] أي: بالله.
قوله: «ذَلِكَ بَمَا عَصَوا» مثل ما تقدم.
وفي تكرير اسم الإشاره قولان:
أحدهما: أمه مُشَار به إلى ما أشير بالأول إليه على سبيل التأكيل.
والثاني: ما قاله الزمخشري: وهو أن يشار به إلى الكُفْرِ، وقَتْلِ الأنبياء، على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم، واعتدائهم؛ لأنهم انهمكوا فيها.
و «ما» مصدرية، و «الباء» للسببية، أي بسبب عصيانهم، فلا محلّ ل «عصوا» لوقوعه صلةً، وأصل «عَصَوْا» :«عَصَيُوا» تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً، فالتقى سكنان [الياء] والواو، فحذفت الياء لكونها أوّل السّاكنين، وبقيت الفتحة تدلّ عليها، فوزنه «فَعَوْا».
وأصل «العصيان» : الشدة. واعتصمت النَّوَاة: إذا اشتدت.
قوله: ﴿وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ المراد منه الظُّلم، أو تجاوز الحَقّ إلى الباطل.
وأصل: «الاعتداء» : المُجَاوزة من «عَدَا» «يعْدُوا»، فهو «افْتِعَال» منه، ولم يذكر متعلّق العصيان والاعتداء، ليعم كل ما يُعْصى ويعتدى فيه.
وأصل «يَعْتَدُون» :«يَعْتَدِيُون»، ففعل به ما فعل ب ﴿تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١] من الحذف والإعلال، وقد تقدم، فوزنه: «يَفْتَعُون».
والواو من «عصوا» واجبة الإدغام في الواو بعدها، لانفتاح ما قبلهان وليس فيها [مدٌّ] يمنع من الإدغام، ومثله: ﴿فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ﴾ [آل عمران: ٢٠] وهذا بخلاف ما إذا انظم ما قبل الواو، فإن المَدّ يقوم مقام الحاجز بين المثلين: فجيب الإظهار، نحو: ﴿آمَنُواْ وَعَمِلُواْ﴾ [البقرة: ٢٥] ومثله: ﴿الذى يُوَسْوِسُ﴾ [الناس: ٥].
131
فإن قيل: ما الفرق بين ذكره «الحَقّ» هاهنا معرفاً، وبين ذكره في «آل عمران» منكراً في قوله ﴿وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آل عمران: ١١٢] ؟
والجواب: أن الحَقّ المعلوم الذي يوجب القتل فيما بين الناس هو قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا يَحِلّ دَمُ امرىءٍ مسلم إلا بإحْدَى ثَلاَثٍ، كُفْر بعد [إيمان]، وزِنّى بعد [إحْصَان]، وقَتْل نفس بغير حق».
فالمعرّف إشارة إلى هذا، والمنكّر المراد به تأكيد العموم، أي: لم يكن هناك حقّ ألبتّة لا لهذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره.
فإن قيل: ما الفائدة في جمعه «الأنبياء» هنا جمع سَلاَمة، وفي «آل عمران» جمع تكسير؟
فالجواب: [ذلك لموافقة ما بعده من جمعي السَّلامة، وهو «النَّبِيِّين» «الصَّابِئِين» بخلاف الأنبياء]..
132
قال ابن عباس: والمراد ب «الذين آمنوا» هم الذين آموا قبل [مبعث] محمد بعيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع البراءة عن أباطيل اليهود مثل قَسّ بن سَاعِدة، وبحيرى الراهب، وحبيب النَّجَّار، وزيد بن عمرو بن نُفَيل، وَورقَة بن نَوْفَل وسلمان الفَارِسي، وأبو ذر الغفاري، وخَطَر بن مَالِك، ووَفْد النجاشي، فكأنه قال: إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد، والذين كانوا على الأديان الباطلة كلّ من آمن منهم بعد مبعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالله واليوم الآخر ومحمد، فلهم أجرهم.
وقال سفيان الثوري: المراد من قوله: «الذين آمنوا» هم المنافقون؛ لأنهم يؤمنون باللّسَان دون القَلْبِ، ثم اليهود والنصارى والصَّائبون، فكأنه قال: هؤلاء المُبطلون كل من آمن منهم بالإيمان الحقيقي، فلهم أجرهم.
وقال المتكلمون: المراد أنَّ الذين آمنوا بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الحقيقة، وهو عائد إلى الماضي، ثم قوله: «من آمن بالله» يقتضي المستقبل، فكأنه قال: إن الذين آمنوا في الماضي، وثبتوا عليه في المستقبل.
و «هَادُوا» في ألفه قولان:
132
أحدهما: أنه من واو، والأصل «هَادَ يَهُود» أي: تاب؛ قال الشاعر [السريع]
٥٤٩ -................... إنِّي امْرُؤٌ مِنْ حُبِّهِ هَائِدُ
أي: تائب، منه سمي اليَهُود، لأنهم تابوا عن عبادة العِجْلِ، وقالوا: ﴿إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦] أي: تُبْنَا ورجعنا.
[قاله] ابن عباس.
وقيل: هو من التهويد، وهو النطق في سكون ووَقَارٍ؛ وأنشدوا: [الطويل]
٥٥٠ - وَخُودٌ مِنَ اللاَّئِي تَسَمَّعْنَ بِالضُّحَى قَرِيضَ الرُّدَافَى بِالغِنَاءِ المُهَوِّدِ
وقيل: من «الهَوَادَة»، وهي الخضوع.
الثاني: أنها من ياء، والأصل: «هَادَ يَهِيد»، أي: تَحَرَّك، ومنه سمي اليهود؛ لتحركهم في دراستهم، قاله أبو عمرو بن العلاء.
وقيل: سموا يهوداً نسبة ليَهُوذَا بالذال المعجمة وهو ابن يَعْقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فغيَّرته العرب بالدّال المهملة، جرياً على عادتها في التلاعب بالأسماء الأعجمية، فعرب ونسب الواحد إليه، فقيل يَهُودِيّ، ثم حذف الياء في الجمع، فقيل يَهُود.
وكل جمع منسوب إلى جنس، فهو بإسقاط ياء النسب؛ كقولهم في «زِنْجِيّ» : زَنْجٌ، وفي «رُومِيّ» : رُوم أيضاً. وهيادا: إذا دخل في اليهودية، وتهوَّد إذا [نسبه إليهم] وهوّد إذا دعا إلى اليهودية.
والنَّصَارى جمع واحده «نَصْرَان»، و «نَصْرَانة» ك: «نَدْمَان ونَدمانة ونَدَامَى»، قاله سيبويه؛ وأنشد: [الطويل]
٥٥١ - فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا كَمَا أَسْجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «فَابواه يُهَوِّدَانِهِ»
133
وقرأ أبو السمال ومجاهد: «هادَوْا» بفتح الدال، وإسكان الواو كأنهما من المفاعلة، والأصل: هادَيُوا فأعلّ كنظائره.
وقيل: سُمُّوا يهوداً ليملهم عن دين الإسلام، وعن دين موسى، فعلى هذا إنما سموا يهوداً بعد أنبيائهم.
وقال ابن الأعرابي: يقال: هَادَ: إذا رجع من خير إلى شَرّ، ومن شَرّ إلى خير، وسمي اليهود بذلك لتخليطهم، وكثرة انتقالهم من مذاهبهم، نقله النووي في «التهذيب» عن الوَاحِديّ.
وأنشد الطبري على «نَصْران» [قول الشاعر] :[الطويل]
٥٥٢ - يَضَلُّ إذَا دَارَ العِشَا مُتَحَفِّناً وَيُضْحِي لَدَيْهِ وَهْوَ نَصْرانُ شَامِسُ
قال سيبويه: إلا أنه لم يستعمل في الكلام إلا بياء النَّسَب.
وقال الخليل: «واحد النصارى نَصْرِيّ، كمَهْرِيٍّ ومَهَارَى».
وقال الزمخشريُّ: الياء في «نَصْرانِيّ» للمبالغة كالتي في «أحَمَرِيّ» و «نَصَارَى» نكرةٌ، ولذلك دخلت عليه آل، ووصف بالنكرة في قول الشاعر: [البسيط]
134
وقال جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدهان وقياسه النَّصَارنيون. وسموا بذلك نسبة إلى قرية يقال لها: «نَاصِرة» كان ينزلها عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، قاله ابن عباس، وقَتَادة، وابن جُرَيْج. فنسب عيسى إليها، فقيل: عيسى الناصري، فلما نسب أصحابه إليه قيل: النَّصَارَى.
قال الجوهري: و «نَصْران» قررية ب «الشَّام» ينسب إليها النصارَى. أو لأنهم كانوا يتناصرون؛ قال الشاعر: [الرجز]
٥٥٣ - صَدَّتْ كَمَا صَدَّ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُ سَاقِي نَصَارى قُبَيْلَ الفِصْحِ صُوَّامِ
كُنْتُ لَهُمْ من النَّصَارَى جَارَا... وقيل: لأن عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال للحواريين: ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ [آل عمران: ٥٢].
٥٥٤ - لَمَّا رَأَيْتُ نَبَاطاً أَنْصَارَا شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتي الإِزَارَا
و «الصَّابئين» الجمهور على همزة، وقرأه نافع وشيبة والزهري بياء ساكنة غير مهموزة، وعن أبي جعفر بياءين خَالِصَتَيْنِ بدل الهمزة، فمن همزه جعله من صَبَأَ نابُ البعير أي: خرج، وصبأت النجوم: طلعت.
وقال أبو علي: صَبَأَتُ على القوم إذا طَرَأْتُ عليهم. فالصَّابىء: التَّارك لدينه، كالصَّابىء الطارىء على القوم، فإنه تارك لأرضهن ومنتقل عنها.
ومن لم يهمز فإنه يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مأخوذا من المهموز فَأَبْدَلَ من الهمزة حرف علّة إما ياء أو واواً، فصار من باب المنقوص مثل: «قاض أو غازٍ»، والأصل: صاب، ثم جمع كما يجمع القاضي أو الغازي، إلا أن سيبويه لا يرى قلب هذه الهمزة إلاَّ في الشعر، والأخفش وأبو زيد يريان ذلك مطلقاً.
الثَّاني: أنه من باب «صَبَا.. يَصْبُو» إذا مال، ولذلك كانت العرب يسمون النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صابئاً؛ لأنه أظهر ديناً خلاف أديانهم، فالصَّابي كالغازي أصله: «صَابِوُا» فأعلّ كإعلال
135
غازٍ، وأسند أبو عبيد إلى ابن عباس: «ما الصَّابون إنا هي الصابئون، والخَاطُون إنما هي الخاطئون». فقد اجتمع في قراءة نافع همز «النبيين»، وترك همز «الصابئين».
[وقد عُلم أنّ العكس فيهما أفصح].

فصل في تفسير الصابئين


[وللمفسرين في تفسير «الصَّابئين» أقوال] :
فقال مُجَاهد والحسن: هم طائفة بين اليَهُود والمجوس لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم.
وقال السّدي: هم فرقة من أهل الكتاب [وقاله إسحاق بن راهوية. قال ابن المنذر] :
وقال إسْحَاق: لا بأس بذبائح الصابئين؛ لأنهم طائفة من أهل الكتاب.
وقال أبو حنيفة: لا بأس بذبائحهم، ومناكحة نسائهم.
وقال الخليل: هم قوم يشبه دينهم دين النَّصَارى، إلاَّ أن قبلتهم نحو مهبّ الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح عليه الصَّلاة والسَّلام. [نقله] القرطبي.
وقال قَتَادَةٌ: قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى الشمس كل يوم خمس صلوات.
وقال أيضاً: الأديان خمسة أربعة للشَّيطان، وواحد للرحمن، وهم: الصابئون وهم يعبدون الملائكة، والمَجُوس يعبدون النَّار، والذين أشركوا يعبدون الأوثان، واليهود والنَّصَارى، وقال: قبيلة نحو «الشام» بين اليهود والنَّصَارى، والمجوس لا دين لهم، وكان مجاهد لا يراهم من أهل الكِتَابِ، وهو منقول عن أبي حنيفة.
وقال قتادة ومُقَاتل: هم قوم يقرون بالله عَزَّ وَجَلَّ، ويعبدون الملائكة، ويقرون بالزَّبُور، ويصلون إلى الكعبة أخذوا من كلّ دين شيئاً.
وقال [الكلبي] :«هم قوم بين اليهود والنَّصارى يحلقون أوساط رؤوسهم، ويجبُّون مذاكيرهم». وقال عبد العزيز بن يحيى: درجوا وانقرضوا.
وقيل: هم الكلدانيون الذين جاءهم إبراهيم علي الصَّلاة والسَّلام ردًّا عليهم ومبطلاً لقولهم، وكانوا يعبدون الكواكب.
136
قال ابن الخطيب: وهو الأقرب، ثم لهم قولان:
أحدهما: أنَّ الله خلق هذا العالم، وأمر بتعظيم هذه الكواكب واتخاذها قِبْلَةَ الصلاة، والدعاء والتعظيم.
والثاني: أن الله سبحانه وتعالى خلق الأفلاك والكواكب، وجعل الكواكب مدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر، والصحة والمرض، فيجب على البشر تعظيمها؛ لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم.
قوله: ﴿مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ آمن: صدق. و «من» في قوله: «مَنْ آمَنَ» في موضع نصب بدل من «الَّذِينَ آمَنُوا». والفاء في قوله: «فَلَهُمْ» داخلة بسبب الإبهام الذي في «مَنْ».
وقيل: ف يموضع رفع بالابتداء، ومعناها الشرط، و «آمن» في موضع جزم بالشرط، و «الفاء» جواب و «لَهُمْ أَجْرُهُمْ» خير «من» والجملة كلها خبر «إن»، والعائد على «الذين» محذوف تقديره: من آمن منهم بالله، وحمل الضمير على لفظ «مَنْ» فأفرد، وعلى المعنى في قوله: «فَلَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» فجمع؛ كقوله: [الطويل]
٥٥٥ - أَلِمَّا بِسَلْمَى عَنْكُمَا إنْ عَرَضْتُمَا... وقُولاَ لَهَا: عُوجِي عَلَى مَنْ تَخَلَّفُوا
وقال الفرزدق: [الطويل]
٥٥٦ - تَعَالَ فِإنْ عَاهَدْتَنِي لاَ تَخْونُنِي نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ
[فراعى المعنى] وقد تقدم تحقيق ذلك [عند) قوله: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا﴾ [البقرة: ٨] والأجر في الأصل مصدر يقال: أجره الله يَأْجُرُه أَجْراً، وقد يعبر به عن نفس الشيء المُجَازَى به، والآية الكريمة تحتمل المعنيين.
والمارد بهذه العِنْدِيَّةِ أن أجرهم متيقّن جارٍ مجرى الحاصل عندهم.
قوله: ﴿وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ فقيل: أراد زوال الخوف [عنهم] في الدنيا.
وقيل: الآخرة وهو أصح؛ لأنه عامّ في النفي، وكذا قوله: «وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ»، وهذه لا تحصل في الدنيا؛ لأنّ المكلف في الدنيا لا ينفك من خوف وحزن، إما في
137
أسباب الدنيا، أو في أمور الآخرة، فكأنه سبحانه وعَدَهُمْ في الآخرة بالأجر، ثم بين صفة ذلك الأجر أن يكون خالياً من الخوف والحزن، وذلك يوجب أن يكون نعيمهم دائماً؛ لأنهم لو جوّزوا كونه منقطعاً لاعتراهم الخوف العظيم.
فإن قيل: فما الحكمة في قوله تعالى هاهنا: «الصَّابئين» منصوبة، وفي «المائدة» :﴿والصابئون﴾ [المائدة: ٦٩] مرفوعة. وقال في الحج: ﴿والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا﴾ [الحج: ١٧] فقدم «الصَّابئين» على «النصارى» في آية، وأخَّر «الصَّائبين» في الأخرى، فهل في ذلك حكمة ظاهرة.
قال ابن الخَطيب: إن أدركنا تلك الحكم فقد فُزْنَا بالكمال، وإن عجزنا أحلنا القصور على أفهامنا لا على كلام الحكيم.
138
هذا هو الإنعام العاشر.
والميثاق إنما يكون بفعل الأمور التي توجب الانقياد والطاعة.
واختلفوا في ذلك الميثاق.
قال الأصَمّ: [ما وعده الله القوم] من الدَّلائل الدَّالة على صدق أنبيائه ورسله، وهذا النوع من المواثيق أقوى المواثيق والعُهُود، لأنها لا تحتمل الخلف والكذب والتبديل بوجه ألبتة. وقال أبو مسلم: هو ما روى عبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم أن موسى عليه الصَّلا والسَّلام لما رجع إلى قومه بالألواحن قال لهم: «إن فيها كتاب الله تعالى» فقالوا: لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جَهْرَةً فيقول: هذا كتابي فخذوه فأخذتهم الصَّاعقة، فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، ثم قال لهم بعد ذلك: خذوا كتاب الله، فأبوا فرفع الطور وقيل لهم: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم، [فأخذوه] فرفع الطور هو الميثاق؛ لأنه آية [باهرة] عجيبةُ تبْهِرُ العقول، وتردّ المكذبَ إلى التصديق، والشَّاكَّ إلى اليقين، وأكدوا ذلك، وعرفوا أنه من قبله تعالى وأظهروا التوبة، وأعطوا العهد والميثاق ألاَّ يعودوا إلى ما كان منهم، وأن يقوموا بالتوراة، فكان هذا عهداً موثقاً. وري عن عبد الله بن عباس: أن لله مِثَاقَيْنِ.
138
الأول: حين أخرجهم من صلب آدم، وأشهدهم على أنفسهم.
والثاني: أنه ألزم النَّاس متابعة الأنبياء، وهو المراد من هذا العَهْدِ.
قال ابن الخَطِيبِ: «وهذا ضعيف».
فإن قيل: لهم قال: «ميثاقكم» ولم يقل: «مواثيقكم» ؟
قال القَفَّال: لوجهين:
أحدهما: أراد به الدلالة على أنّ كلّ واحد منهم قد أخذ ذلك كما قال: ﴿يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ [غافر: ٦٧] أي: كل واحد منهم أخذ عليه ما أخذ على غيره، فلا جرم كان كله ميثاقاً واحداً.
والثاني: أنه لو قال: مواثيقكم لأبهم أن يكون هُنَاك مواثيق أخذت عليم لا ميقاق واحد.
قوله: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور﴾ نظيره: ﴿وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧١]. و «الواو» في قوله: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ﴾ واو عطف على تفسير ابن عباس، والمعنى: أن أخذ الميثاق كان متقدماً فلما نقضوه بالامتناع عن قَبُول الكتاب رفعنا عليهم الجبل.
وعلى تفسير أبي مسلم ليست واو عطف ولكنها واو الحال، كما يقال: «فعلت ذلك والزمان زمان» فكأنه قال: وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطُّور فوقكم.
وفوقكم ظرف مكان ناصبه «رفعنا»، وحكم «فوق» مثل حكم «تحت»، وقد تقدم الكلام عليه.
قال أبو البقاء: ويَضْعُفُ أن يكون حالاً من «الطور» ؛ لأن التقدير يصير: ورفعنا الطور عالياً، وقد استفيد من «رفعنا». وفي هذا نظر؛ لأن المراد به علو خاص، وهو كونه عالياً عليم لا مُطْلَقَ العلو حتى يصير: رفعناه عالياً كما قدره.
قال: «لأن الجبل لم يكن فوقهم وقت الرفع، وإنما صار فوقهم بالرفع».
ولقائل أن يقول: لم لا تكون حالاً مقدرة، وقد قال هو في قوله: ﴿بِقُوَّةٍ﴾ إنها حال مقدرة كما سيأتي.
و «الطور» اسم [لكلّ] جبل، وقيل: [لما] أَنْبَتَ منها خاصة دون ما لم ينبت، وهل هو عربي أو سُرْيَانيّ قولان.
وقيل: سمي بطور بن إسماعيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ وقال العَجَّاج: [الرجز]
139
٥٥٧ - دَانَى جَنَاحَيْهِ مِنَ الطُّورِ فَمَرّ تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ
وقال الخليل: الطُّور اسم جبل معلوم؛ لأن التعريف تقتضي حلمه على جبل معهود مسمى بهذا الاسم، وهو جبل المُنَاجاة. وقد يجوز أن ينقله الله إلى حيث هم، فيجعله فوقهم وإن كان بعيداً منهم.
وقال ابن عباس: أمر الله جبلاًُ من جبال «فلسطين»، فانقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظُّلة، وبعث ناراً من قبل وجوههم، وأتاهم البحر الملح من خلفهم، وقيل لهم: خذوا ما آتيناكم، أي: اقبلوا ما أعطيناكم وإلاَّ رضختكم بهذا الجبل، وغرقتكم في هذا البحر، وأحرقتكم بهذه النار فلما رأوا أن لا مهرب منه قلوا ذلك، وسجدوا خوفاً، وجعلوا يلاحظون الجبل، وهم سجود، فصارتْ سُنّة في اليهود لا يسجدون إلاَّ على أنصاف وجوههم.
قوله: «خذوا» في محل نصب بقول مضمر، أي: وقلنا لهم: خذوا، وهذا القول مضمر يجوز أن يكون في محل نصب على الحال من فاعل «رفعنا» والتدقير: ورفعنا الطور قائلين لكم خذوا. وقد تقدّم أن خذ محذوف الفاء أن الأصل: اؤخذ، عند قوله: ﴿وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً﴾ [البقرة: ٣٥].
قوله: ﴿مَآ آتَيْنَاكُم﴾ مفعول «خذوا»، و «ما» موصولة بمعنى الذي لا نكرة موصوفة، والعائد محذوف أي: ما آتيناكموه.
140
قوله: «بقوة» في محل نَصْبٍ على الحال، وفي صاحبها قولان:
أحدهما: إنه فاعل «خذوا» وتكون حالاً مقدرة، والمعنى: خذوا الذي آتيناكموه حال كونكم عازمين على الجدّ في العمل به.
والثاني: أنه ذلك العائد المحذوف، والتقدير: خذوا الذي آتيناكموه في حال كونه مشدداً فيه أي: في العمل به، والاجتهاد في معرفته.
قوله: «ما فيه» الضمير يعود على «ما آتيناكم» أي: أذكروا ما في الكتاب، واحفظوه وادرسوه، ولا تغفلوا عنه، ولا يحمل على الذكر الذي هو ضدّ النسيان؛ لأنه ليس من فعل العبد، فلا يجوز الأمر به، وفي حرف «أُبَيِّ» «واَّكِرُوا» بذال مشددة وكسر الكاف، وفي حرف عبد الله «وتَذَكَّروا مَا فِيهِ» [ومعناه] : اتّعظوا به.
قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي: لكي تتقوا فتنجوا من الهلاك في الدنيا، والعذاب في العقبى.
قوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ التولّي تفعل من الوَلْي، وأصله: الإعراض والإدبار عن الشَّيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأوامر والمعتقدات اتساعاً ومجازاً وذلك إشارة إلى ما تقدم من رفع الطُّور، وايتاء التوراة.
قال القَفَّال رَحِمَهُ اللهُ: «إنهم بعد قبول التوراة، ورفع الطور تولّوا عن التَّوْراة بأمور كثيرة، فحرّفوا التوراة وتركوا العمل بها، وقتلوا الأنبياء، وكفروا بها وعصوا أمرهم ولعلّ فيها اختصّ به بعضهم دون البعض، ومنها ما علمه أوائلهم، ومنها ما فعله متأخروهم، ولم يزالوا في التِّيهِ مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً يخالفون موسى، ويعرضون عنه، ويلقونه بكلّ أذى، ويجاهرون بالمعاصي حتى لقد خسف ببعضهم، وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون، وكلّ هذا مذكور في تراجم التوراة، ثم فعل متأخروهم ما لا خَفَاءَ به من تخريب» بيت المقدس «، وكفروا بالمسيح وهمّوا بقتله. والقرآن وإن لم يكن فيه بَيَانُ ما تولوا به عن التوراة، فالجملة معروفة من إخبار الله تعالى عن عِنَادِ أسلافهم، فلا عَجَبَ في إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من الكتاب والنبوة».
قوله: ﴿فَلَوْلاَ فَضْلُ الله﴾ «لولا» هذه حرف امتناع لوجود، والظَّاهر أنها بسيطة وقال أبو البَقَاءِ: هي مركّبة من «لو»، و «لا» و «لو» قبل التركيب يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، و «لا» للنفي، والامتناع نفي في المعنى، وقد دخل النفي ب «لا» على أحد امتناعي «لو» والامتناع نفي في المعنى، والنَّفي إذا دخل على النَّفي صار إيجاباً، فمن [ثمَّ] صار معنى «لولا» هذه يمتنع بها الشيء لوجود غيره وهذا تكلْف ما لا فائدة فيه،
141
وتكون «لولا» أيضاً حرف تحضيض فتختص بالأفعال، وسيأتي الكلام علهيا إن شاء الله تعالى.
و «لولا» هذه تختص بالمبتدأ، ولا يجوز أن يليها الأفعال، فإن ورد ما ظَاهِرُهُ ذلك أُوِّل؛ كقوله: [الوافر]
٥٥٨ - وَلَوْلاَ يَحْسِبُونَ الحِلْمَ عَجْزاً لَمَا عَدِمَ المُسِيئُونَ احْتِمَالي
وتأويله أن الأصل: «ولولا أن تحسبوا» فلما حذفت أن ارتفع الفعل؛ كقوله: [الطويل]
٥٥٩ - أَلاّ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الوَغَى........................
أي: «أَنْ أَحْضُرَ».
142
والمرفوع بعدها مبتدأ خلافاً للكسائي حيث رفعه بفعل مضمر، وللفراء حيث قال: «مرفوع بنفس لولا». وخيره واجب الحذف للدلالة عليه وسد شيء مسده وهو جوابها والتقدير: ولولا فَضْل الله كائن أو حاصل، ولا يجوز أن يثبت إلا في ضرورة شعر، ولذلك لُحِّنَ المعرِّيُّ في قوله: [الوافر]
٥٦٠ - يُذِيبُ الرُّعْبُ مِنْهُ كُلَّ عَضْبٍ فَلَوْلاَ الغِمْدُ يُمْسِكُهُ لَسَالاَ
حيث أثبت خبرها بعدها، هكذا أطلقوا، وبعضهم فَصَّل فقال: إن كان خبر ما بعدها كونناً مطلقاً، فالحذف واجب، وعليه جاء التنزيل وأكثر الكلام، وإن كان كوناً مقيداً فلا يخلو إما أن يدلّ عليه دليل أوْ لا، فإن لم يدلِّ عليه دليل، وجب ذكره؛ نحو قوله عليه الصَّلاة والسَّلام:
«لَوْلاَ قَوْمُكِ حَديثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ»، وقول الآخر: [الطويل]
٥٦١ - فَلَوْلاَ بَنُوهَا حَوْلَهَا لَخَبَطْتُهَا......................
وإن دلّ عليه دليل جاز الذِّكر والحذف نحو: «لولا زيد لَغُلِبْنَا» : شجاع، وعليه بيت المعرّي المتقدم.
143
وقال أبو البَقَاءِ: ولزم حذف الخبر للعلم به، وطول الكَلاَم فإن وقعت «أن» بعدها ظهر الخبر كقوله: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين﴾ [الصافات: ١٤٣] فالخبر في اللّفظ ل «أن»، وهذا الَّذِي قاله موهم، ولا تعلّق لخبر «أن» بالخبر المحذوف، ولا يغني عنه ألبتة فهو كغيره سواء، والتقدير: فلولا كونه مسبحاً حَاضِرٌ أو موجودٌ. فأي فائدة في ذكره لهذا؟ [والخبر] يجب حذفه في صور أخرى تأتي مفصّلة إن شاء الله تعالى في مواضعها، وقد تقدم عنى الفضل عند قوله: ﴿فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين﴾ [البقرة: ٤٧].
قوله: ﴿لَكُنْتُم مِّنَ الخاسرين﴾ اللاَّ جواب «لولا» والعم أن جوابها إن كان مثبتاً، فالكثير دخول اللام كهذه الآية ونظائرها، ويقلّ حذفها؛ قال: [البسيط]
٥٦٢ - لَوْلاَ الحَيَاءُ وَلَوْلاَ الذِّينُ عِبْتُكُمَا بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إذْ عِبْتُمَا عَوَرِي
وإن كان منفيًّا فلا يخلو: إما أن يكون حرف النَّفي «ما» أو غيرها، إن كان غيرها فترك اللام واجب نحو: «لولا زيد لم أقم، ولن أقوم»، لئلا يتوالى لامان، وإن كان ب «ما» فالكثير الحَذْف، ويقلّ الإتيان بها، وهكذا حكم جواب «لو» الامتناعية، وقد تقدم عند قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٠]، ولا محلّ لجوابها من الإعراب. و «من الخاسرينَ» في محلّ نصب خبر «كان»، و «من» للتبعيض.

فصل في تفسير فضل الله عليهم


ذكر القَفَّال في تفسيره وجهين:
الأول: لولا تفضل الله عليكم من إمهالكم، وتأخير العذاب عنكم لكنتم من الخاسرين، أي من الهالكين [الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم]، ومنه قوله تعالى: ﴿خَسِرَ الدنيا والآخرة﴾ [الحج: ١١].
والثاني: أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذلك﴾، ثم قال: ﴿فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ رجوعاً بالكلام إلى أوله، أي: لولا لطف الله تعالى بكم برفع الجبل فوقكم لَدُمْتُمْ على ردّكم الكتاب ولكنه تفضل عليكم ورحمكم ولولا ذلك لكنتم من الخاسرين ببقائكم على تلك الحالة حتى يتم.
فإن قيل: كلمة «لولا» تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره، فهذا يقتضي أن انْتِفَاء
144
الخسران من لوازم حُصُول فضل الله تعالى بحيث حصل الخُسْران وجب أن يحصل هناك لطف الله تعالى.
وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يفعل بالكافر شيئاً من الألطاف الدينية، وذلك خلاف قوله المعتزلة.
أجاب الكعبي بأنه تعالى سَوّى بين الكُلّ في الفضل، لكن بعضهم انتفع دون بعض، فصح أن يقال ذلك كما يقول القائل لرجل وقد سوى بين أولاده في العطية فانتفع بعضهم لولا أن أباك [فضّلك] لكنت فقيراً، هذا ضعيف؛ لأن أهل اللّغة نصوا على أن «لولا» تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، وإذا ثبت هذا فكلام الكَعْبِي ساقط.
145
قوله :﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ﴾ التولّي تفعل من الوَلْي، وأصله : الإعراض والإدبار عن الشَّيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأوامر والمعتقدات اتساعاً ومجازاً وذلك إشارة إلى ما تقدم من رفع الطُّور، وإيتاء التوراة.
قال القَفَّال رحمه الله :" إنهم بعد قبول التوراة، ورفع الطور تولّوا عن التَّوْراة بأمور كثيرة، فحرّفوا التوراة وتركوا العمل بها، وقتلوا الأنبياء، وكفروا بها وعصوا أمرهم ولعلّ فيها ما اختصّ به بعضهم دون البعض، ومنها ما عمله أوائلهم، ومنها ما فعله متأخروهم، ولم يزالوا في التِّيهِ مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً يخالفون موسى، ويعرضون عنه، ويلقونه بكلّ أذى، ويجاهرون بالمعاصي حتى لقد خسف ببعضهم، وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون، وكلّ هذا مذكور في تراجم التوراة، ثم فعل متأخروهم ما لا خَفَاءَ به من تخريب " بيت المقدس "، وكفروا بالمسيح وهمّوا بقتله. والقرآن وإن لم يكن فيه بَيَانُ ما تولوا به عن التوراة، فالجملة معروفة من إخبار الله تعالى عن عِنَادِ أسلافهم، فلا عَجَبَ في إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من الكتاب والنبوة ".
قوله :﴿ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ ﴾ " لولا " هذه حرف امتناع لوجود، والظَّاهر أنها بسيطة. وقال أبو البَقَاءِ : هي مركّبة من " لو "، و " لا "، و " لو " قبل التركيب يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، و " لا " للنفي، والامتناع نفي في المعنى، وقد دخل النفي ب " لا " على أحد امتناعي " لو " والامتناع نفي في المعنى، والنَّفي إذا دخل على النَّفي صار إيجاباً، فمن [ ثمَّ ] صار معنى " لولا " هذه يمتنع بها الشيء لوجود غيره وهذا تكلُّف ما لا فائدة فيه، وتكون " لولا " أيضاً حرف تحضيض فتختص بالأفعال، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
و " لولا " هذه تختص بالمبتدأ، ولا يجوز أن يليها الأفعال، فإن ورد ما ظَاهِرُهُ ذلك أُوِّل ؛ كقوله :[ الوافر ]
٥٥٨ وَلَوْلاَ يَحْسِبُونَ الحِلْمَ عَجْزاً *** لَمَا عَدِمَ المُسِيئُونَ احْتِمَالي
وتأويله أن الأصل :" ولولا أن تحسبوا " فلما حذفت أن ارتفع الفعل ؛ كقوله :[ الطويل ]
٥٥٩- أَلاَ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الوَغَى ***. . . 
أي :" أَنْ أَحْضُرَ٢ ".
والمرفوع بعدها مبتدأ خلافاً للكسائي حيث رفعه بفعل مضمر، وللفراء حيث قال :" مرفوع بنفس لولا ". وخبره واجب الحذف للدلالة عليه وسد شيء مسده وهو جوابها والتقدير : ولولا فَضْل الله كائن أو حاصل، ولا يجوز أن يثبت إلا في ضرورة شعر، ولذلك لُحِّنَ المعرِّيُّ في قوله :[ الوافر ]
٥٦٠ يُذِيبُ الرُّعْبُ مِنْهُ كُلَّ عَضْبٍ *** فَلَوْلاَ الغِمْدُ يُمْسِكُهُ لسَالاَ
حيث أثبت خبرها بعدها، هكذا أطلقوا، وبعضهم فَصَّل فقال : إن كان خبر ما بعدها كوناً مطلقاً، فالحذف واجب، وعليه جاء التنزيل وأكثر الكلام، وإن كان كوناً مقيداً فلا يخلو إما أن يدلّ عليه دليل أوْ لا، فإن لم يدلَّ عليه دليل، وجب ذكره ؛ نحو قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : لَوْلاَ قَوْمُكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ " ٣، وقول الآخر :[ الطويل ]
٥٦١ فَلَوْلاَ بَنُوهَا حَوْلَهَا لَخَبَطْتُهَا ***. . . ٤
وإن دلّ عليه دليل جاز الذِّكر والحذف نحو :" لولا زيد لَغُلِبْنَا " أي : شجاع، وعليه بيت المعرّي المتقدم.
وقال أبو البَقَاءِ٥ : ولزم حذف الخبر للعلم به، وطول الكَلاَم، فإن وقعت " أن " بعدها ظهر الخبر كقوله :﴿ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴾ [ الصافات : ١٤٣ ] فالخبر في اللّفظ ل " أن "، وهذا الَّذِي قاله موهم، ولا تعلّق لخبر " أن " بالخبر المحذوف، ولا يغني عنه ألبتة فهو كغيره سواء، والتقدير : فلولا كونه مسبحاً حَاضِرٌ أو موجودٌ. فأي فائدة في ذكره لهذا ؟ [ والخبر ]٦ يجب حذفه في صور أخرى تأتي مفصّلة إن شاء الله تعالى في مواضعها، وقد تقدم معنى الفضل عند قوله :﴿ فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [ البقرة : ٤٧ ].
قوله :﴿ لَكُنْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ اللاَّم جواب " لولا "، واعلم أن جوابها إن كان مثبتاً، فالكثير دخول اللام كهذه الآية ونظائرها، ويقلّ حذفها ؛ قال :[ البسيط ]
٥٦٢ لَوْلاَ الحَيَاءُ وَلَوْلاَ الدِّينُ عِبْتُكُمَا *** بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إذْ عِبْتُمَا عَوَرِي٧
وإن كان منفيًّا فلا يخلو : إما أن يكون حرف النَّفي " ما " أو غيرها، إن كان غيرها فترك اللام واجب نحو :" لولا زيد لم أقم، ولن أقوم "، لئلا يتوالى لامان، وإن كان ب " ما " فالكثير الحَذْف، ويقلّ الإتيان بها، وهكذا حكم جواب " لو " الامتناعية، وقد تقدم عند قوله :﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ﴾ [ البقرة : ٢٠ ]، ولا محلّ لجوابها من الإعراب. و " من الخاسرينَ " في محلّ نصب خبر " كان "، و " من " للتبعيض.

فصل في تفسير فضل الله عليهم


ذكر القَفَّال في تفسيره وجهين :
الأول : لولا تفضل الله عليكم من إمهالكم، وتأخير العذاب عنكم لكنتم من الخاسرين، أي من الهالكين [ الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم ]٨، ومنه قوله تعالى :﴿ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ﴾ [ الحج : ١١ ].
والثاني : أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله :﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾، ثم قال :﴿ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾ رجوعاً بالكلام إلى أوله، أي : لولا لطف الله تعالى بكم برفع الجبل فوقكم لَدُمْتُمْ على ردّكم الكتاب ولكنه تفضل عليكم ورحمكم ولولا ذلك لكنتم من الخاسرين ببقائكم على تلك الحالة حتى يتم.
فإن قيل : كلمة " لولا " تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره، فهذا يقتضي أن انْتِفَاء الخسران من لوازم حُصُول فضل الله تعالى بحيث حصل الخُسْران وجب أن يحصل هناك لطف الله تعالى.
وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يفعل بالكافر شيئاً من الألطاف الدينية، وذلك خلاف قول المعتزلة.
أجاب الكعبي بأنه تعالى سَوّى بين الكُلّ في الفضل، لكن بعضهم انتفع دون بعض، فصح أن يقال ذلك كما يقول القائل لرجل وقد سوى بين أولاده في العطية فانتفع بعضهم لولا أن أباك [ فضّلك ] لكنت فقيراً، هذا ضعيف ؛ لأن أهل اللّغة نصوا على أن " لولا " تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، وإذا ثبت هذا فكلام الكَعْبِي ساقط.
لما عدّد وجوه إنعامه عليهم شرح [إليهم] ما وجه إليهم من التشديدات.
و «اللام» في [لقد] جواب قسم محذوف تقديرهك والله لَقَد، وكذلك نظائرها.
قال بعض المتأخرين لها نحو أريين معنى، قال: وجميع أقسام «اللام» التي هي حرف معنى يرجع عند التَّحقيق إلى قسمين: عاملة، وغير عاملة،
فالعاملة قسمان: جارّة، وجازمة، وزاد الكوفيون النَّاصبة للفعل.
وغير العاملة خمسة أقسام: لام ابتداء، ولام فارقة، ولام الجواب، ولام موطّئة، ولام التعريف عند من جعل حرف التعريف أحادياً.
أما الجارة فلها ثلاثون قسماً مذكورة في كتب النحو.
وأمّا الجازمة فلام الأمر، والدعاء والالْتِمَاس. وحركة هذه اللام الكسر.
ونقل ابن مالك عن الفرّاء أن فتحها لغة، ويجوز إسكانها بعد الواو والفاء، وهو الأكثر.
وفي حذف لام الطلب وإبقاء عملها أقوال:
وأما اللام [هنا فهي لام «كي» ] عند الكوفيين، وعند البصريين لام جَرّ.
ولام الجحود نحو: ما كان زيد لِيَذْهَبَ، ولام الصَّيرورة، وتسمى لام التَّعَاقُب، ولام المآل واللام الزائدة كقوله: ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [النساء: ٢٦] واللام بمعنى الفاء كقوله: ﴿رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ﴾ [يونس: ٨٨] أي: فيضلوا. والكلام على هذه اللاَّمات ليس هذا موضعه، وإنما نبّهنا عليه، فيطلب من مكانه.
145
و «قد» حرف تحقيق وتوقّع، وتنفيذ في المضارع التقليلّ إلاّ في أفعالِ الله تعالى فإنها للتحقيق، وقد تخرج المضارع إلى المُضِيِّ كقوله: [البسيط]
٥٦٣ - قَدْ أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرَّا أَنامِلُهُ... كَانَ أُثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصَادِ
وهي أداة مختصّة بالفعل، وتدخل على الماضي والمضارع، وتحدث في الماضي التقريب من الحال.
وفي عبارة بعضهم: «قد» حرف يصحب الأفعال، ويُقَّرب الماضي من الحال، ويحدث تقليلاً في الاستقبال.
والحاصل أنها تفيد مع الماضي أحد ثلاثة مَعَانٍ: التوقّع، في التقريب، والتحقيق، ومع المضارع أحد أربعة معانٍ: التوقّع، والتقليل، والتكثير، والتحقيق. قال ابن مالك: «والدَّالة على التقليل تصرف المضارع»، وكذلك الدّالة على التكثير. وأما الدالة على التحقيق، فقد تصرفه إلى المُضِيِّ، ولا يلزم فيها ذلك، وهي مع الفعل كجزء منه، فلا يفصل بينهما بغير القسمح كقوله: [الطويل]
٥٦٤ - أخَالِدُ قَدْ والله أوْطَأْتَ عَشْوَةً... وَمَا العَاشِقُ المَظْلُومُ فِينَا بِسَارِقِ
وإذا دخلت على الماضي، فيشترط أن يكون متصرفاً، وإذا دخلت على المضارع، فيشترط تجرّدهُ من جازم وناصب، وحرف تنفيس، وتكون اسماً بمعنى «حَسْب» ؛ نحو: «قَدْنِي دِرْهَمٌ»، أي: حَسْبِي، وتتّصل بها نون الوقاية مع ياء المتكلم غالباً، وقد جمع الشاعر بين الأمرين، قال: [الرجز]
٥٦٥ - قَدْنِي مِنْ نَصْرِ الخُبْيبَيْنِ قَدِي... والياء المتّصلة ب «قدني» في موضع نصب إن كان «قَدْني» اسم فعل، وفي موضع جرّ إن كانت بمعنى «حَسْب».
والياء في «قدي» تحتمل أن تكون بمعنى «حسبي»، ولم يأت بنون الوقاية على أحد
146
الوجهين، وتحتمل أن تكون اسم فعل، وحذفت النون للضرورة، وتحتمل أن تكون اسم فعل، والياء للإطلاق.
وإن كانت حرفاً جاز حذف الفعل بعدها، كقوله: [الكامل]
٥٦٦ - أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا لَمّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ
أي: قد زالت.
وللقسم وجوابه أحكام تأتي إن شاء الله تعالى [مفصلة].
و «عَلِمْتُم» بمعنى: عرفتم، فيتعدّى لواحد فقط.
والفرق بين العِلْمِ والمَعْرفة أن العلم يستدعي معرفة الذات، وماهي عليه من الأحوال نحو: «علمت زَيداً قائماً أو ضاحكاً»، والمعرفة تستدعي معرفة الذَّات.
وقيل: لأن المعرفة يسبقها جهل، والعلم قد لايسبقه جهل، ولذلك لا يجوز إطلاق المعرفة عليه سبحانه وتعالى.
و «الَّذِينَ اعْتَدَوا» الموصول وصِلَتُهُ في محصل نصب مفعول به، ولا حاجة إلى حذف مضاف كما قدره بعضهم، أي: أحكام الذين اعتدوا؛ لأن المعنى عرفتم أشخاصهم وأعيانهم.
وأصل «اعْتَدَوْا» :«اعْتَدَيُوا»، فأعلّ بالحذف، ووزنه «افْتَعَوْا»، وقد عرف تصريفه ومعناه.
و «منكم» في محلّ نصب على الحال من الضمير في «اعتدوا»، ويجوز أن يكون من «الذين». أي من المعتدين كائنين منكم.
و «من» للتبعيض.
و «السَّبْتِ» متعلّق ب «اعتدوا»، والمعنى: في حكم السبت.
وقال أبو البقاء: وقد قالوا: «اليوم السَّبت»، فجعلوا «اليوم» خبراً عن «السبت»، كما يقال: «اليوم القتيال»، فعلى ما ذكرنا يكون في الكلام حذف، تقديره: في يوم السَّبْت، فالسَبت في الأصل مصدر «سَبَتَ» أي: قطع العمل.
وقال ابن عطية: والسَّبْت: إما مأخوذ من «السُّبُوت» الذي هو الراحة والدَّعَة، وإما من «السَّبْت» وهو القطْع؛ لأن الأشياء فيه سبتت، وتمت خِلْقَتُهَا.
147
ومنه قولهم: سبت رأسه أي: حلقه.
وقال الزمخشري: «والسّبت مصدر [سبتت] اليهود: إذا عظمت يوم السبت». وفيه نظر، فإنّ هذا اللفظ موجود، واشتقاقه مذكور في لسان العرب قبل فعل اليَهُود ذلك، اللهم إلا [أن] يريد هذا السبت الخاصَّ المذكور في هذه الآية.
والأصل فيه المصدر كما ذكرت، ثم سمي به هذا اليوم من الأسبوع، لاتفاق وقوعه فيه كما تقدم أن خلق الأشياء تَمّ وانقطع، وقد يقال: يوم السبت فكيون مصدراً.
وإذا ذكر معه «اليوم»، أو مع ما أشبهه من أسماء الأزمنة مما يتضمّن عملاً وحدثاً جاز نصب «اليوم»، ورفعه، نحو: «اليوم الجمعة»، «اليوم العيد» كما يقال: «اليوم الاجتماع والعَوْد».
فإن ذكر مع «الأحد» وأخوته وجب الرفع على المشهور، وتحقيقها مذكور في [كتب] النحو.

فصل في قصة عدوانهم بالصيد


روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال: هؤلاء القوم كانوا في زمان دَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ب «أيلة» على ساحل البحر بين «المدينة» و «الشام» وهو مكان يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السّنة حتى لا يرعى الماء لكثرتها، وفي غير ذلك الشهر في كل سَبْت يجتمعون هناك حتى يخرجن بخراطيمهن من لماء لأمنها، فإذا مَضَى السَّبت تفرقن، ولزمن قَعْرَ البحر فذلك قوله: ﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٦٣] فعمد رجال فحفروا حِيَاضاً عند البحر، وشرعوا إليها الجَدَاول، فإذا كانت عشية يوم الجمعة فَتَحُوا تلك الجداول، فكانت الحيتان تدخل إلى الحِيَاض، فلا تطيق الخروج منها لبعد عُمْقِها، وقلّة الماء، فيأخذونها يوم الأحد.
وقيل: كانوا ينصبون الحَبَائل والشّصُوص يوم الجمعة، ويخرجونها يوم الأحد، وذلك هو اعتداؤهم، ففعلوا ذلك زماناً واشتغلوا وهم خائفون من العقوبة، فلما طال العَهْدُ، ولم تنزل عقوبة قَسَتْ قلوبهم [وتجرءوا] على الذنب فاسْتَنّ الأبناء بِسُنَّة الآباء، واتخذوا الأموال، وقالوا: ما نرى السبت إلاّ وقد أحل لنان فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد في السبت، ونهرهم عن ذلك فلم ينتهوا، وقالوا: نحن في هذا العمل منذ زمان، فما زادنا الله به إلا عِزًّا فقيل لهم: لا تفتروا فربما نزل بكم العَذَابُ، فانقسموا ثلاثة أصناف: صنف أَمْسَكَ وانتهى، وصنف ما أمسك ولم يَنْتَهِ،
148
وصنف انتهكوا الحرمة فلما أبوا قَبُولَ النصح قال الناهون: والله لا ننساكم فقسموا القرية بجدار، ومكثوا على ذلك سنين، فلعنهم داود عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وغضب الله عَزَّ وَجَلَّ عليهم لإصرارهم على المعصية، فخرج النَّاهون ذات يوم من بابهم، والمجرمون لم يفتحوا بابهم، ولم يخرج منهم أحد فلما أبطئوا تَسَوروا عليهم الحائط، فإذا هم جميعاً قدرة خاسئين.
فإن قيل: إذا كانوا قد نهوا عن الاصْطِيَاد يوم السَّبت، فما الحكمة في أن أكثر الحيتان يوم السَّبت دون سائر الأيام؟
فالجواب: أما على مذهب أهل السُّنة فإرادة الإضلال جائزة من لله تعالى.
وأما على مذهب المعتزلة، فالتشديد في التكاليف حسن لغرض ازياد الثواب.
و «قِردَةً خَاسِئِيْنَ» يجوز فيه أربعة أوجه:
أحدها: أن يكونا خبرين، قال الزَّمخشري: «أي: كونوا جامعين بين القِردَيّة والخسوء».
وهذا التقدير منه بناء على أن الخبر لا يتعدّد، فلذلك قدرهما بمعنى خبر واحد من باب: «هذا حُلْو حَامض» وقد تقدّم القول فيه.
والثَاني: إن يكون «خاسئين» نعتاً ل «قردة» قاله أبو البقاء. وفيه نظر من حيث إنّ القردة غير عقلاء، وهذا جمع العقلاء.
فإن قيل: المخاطبون عقلاء؟ فالجواب: أنّ ذلك لا يفيد؛ لأن التقدير عندكم حينئذ: كونوا مثل قدرة من صفتهم الخُسوء، ولا تعلّق للمخاطبين بذلك، إلا أنه يمكن أن يقال: إنهم مشبَّهُون بالعقلاء كقوله: ﴿لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤] و ﴿أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت: ١١].
والثالث: أن يكون حالاً من اسم «كونوا»، والعامل فيه «كونوا»، وهذا عند من يجيز ل «كان» أن تعمل في الظروف [والأحوال] وفيه خلاف سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى عند قوله: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً﴾ [يونس: ٢].
الرابع: وهو الأجود أن يكون حالاً من الضمير المُسْتكنّ في «قردة» ؛ لأنه في معنى المشتق أي: كونوا ممسوخين في هذه الحال.
وجمع «فِعْل» على «فِعَلَة» قليل لا يَنْقَاس.
ومادة «القرد» تدلّ على اللُّصوق والسكون، تقول: قَرَد بمكان كذا: لصق به وسكن، ومنه: الصُّوف «الْقَرَد» أي: المتداخل، ومنه أيضاً: «القُرَادُ» هذا الحيوان المعروف ويقال: «خسأته فخَسَاً، فالمتعدي والقاصر سواء نحو: زاد وغاض وقيل: خسأته فخسىء وانسخاً، والمصدر» الخسوء «و» الْخَسْء «.
149
وقال الكسائي:» خسأت الرجل خسأ، وخسأ هو خسوءاً «، ففرق بين المصدرين.
والخسوء: الذّلة والصَّغار والطرد والبعد، ومنه: خسأت الكلب قال مجاهد وقتادة والربيع: وهي لغة»
كنانة «.
وقال أبو روق: يعني خرساً لقوله تعالى: ﴿اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨] والمراد من هذا الأمر سرعة التكوين لا نفس الأمر. روي عن مجاهد رَضِيَ اللهُ عَنْه أن الله تعالى مسخ قلوبهم يعني: بالطَّبع والخَتْم، إلا أنه مَسَخَ صورهم لقوله ﴿كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾ [الجمعة: ٥] وهذا مَجَاز ظاهر [مشهور].

فصل في المقصود من ذكر هذه القصة


والمقصود من ذكر هذه القصّة أمران:
الأول: إظهار معجزة سيدنا محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه كالخطاب لليهود الذي كانوا في زمانه، أخبرهم عليه الصَّلاة والسَّلام عن هذه الواقعة مع أنه كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب، ولم يخالط القوم دلّ على أنه إنما عرفه بالوحي.
والثاني: أنه تعالى لما أخبرهم بما عاجل به أصحاب السَبت، فكأنه يقول لهم: لا تتمردوا ولاتغتروا بالإمهالن فينزل بكم ما نزل بهم، ونظيره قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ﴾ [النساء: ٤٧] الآية.
فإن قيل: إنهم بعد أن صاروا قدرةً لا يبقى لهم فَهْم، ولا عَقْل، ولا علم، فلا يعلمون ما نزل بهم من العذاب، ووجود القرديّة غير مؤلم.
فالجواب: لم لا يجوز أن يقال: إنّ الذي كان إنساناً عاقلاً فاهماً كان ثابتاً لم يتغير، وإنما تغيرت الصورة فلم يقدر على النّطق والأفعال الإنسانية، لكنها كانت تعرف ما نالها من تغير الخِلْقة بسبب المعصية، فكانت في نهاية الخوف والخَجَل، وربما كانت متألمة بسبب تغير تلك الأعضاء؟.
فإن قيل: أولئك القردة بقوا أو هلكوا، فإن قوا فالقردة الموجودون في زماننا هل يجوز أن يكونوا من نَسْلِهمْ أم لا؟
فالجواب: الكل جائز، إلاّ أن الرواية عن ابن عباس أنهم مكثوا ثلاثة أيام، ثم هلكوا ولم يأكلوا ولم يشربوا، ولم ينسلوا.
150
قال ابن عطية: وروي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال «إن المَمْسوخ لا يَنْسِلُ، ولا يَأْكل، ولا يَشْرَب، ولا يَعيْش أكثر من ثَلاَثَة أيام» قاله القُرْطبي. وهذا هو الصحيح.
واحتج ابن العَرَبيّ وغيره على أن المَمْسُوخَ يَعيش، ويَنسل، لقوله عليه الصلاة واللام: «إنّ امة من بَنِي إسْرَائِيْلَ لا يُدْرى ما فعلت ولا أراها إلا الفَأْر ألا ترونها إذا وضع لها أَلْبَان الإِبِلِ لم تَشْرَبْهُ وإذا وضع لها أَلْبَان الشَّاة تشربها».
ويقول جابر رَضِيَ اللهُ عَنْه: أُتِيَ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِضَبٍّ فأَبى أن يأكل منه وقال: «لا أَدْرى لعلّه من القُرُون التي مُسِخَتْ».
وروى البخاري عن عمر بن ميمن أنه قال: «رأيت في الجاهلية قدرةً قد زَنَتْ فرجموها فرجمتها معهم».
قال ابن العربيك فإن قيل: كيف تعرف البَهَائم الشرائع حتى ورثوها خَلْفاً عن خَلْفٍ إلى زمان عمر؟
قلنا: نعم! كان ذلك؛ لأن اليهود غَيَّرُوا الرَّجم، فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون أبلغ في قيام الحُجَّة على ما أنكروا وغيّروه، حتى تشهد عليم كتبهم، وأَخْبارهم، ومسوخهم، حتى يعلموا أنّ الله يعلم ما يُسِرُّون وما يعلنون.
قال القرطبي: ولا حُجَّة في شيء من ذلك، أما حديث الفأر والضَّبّ فكان هذا حَدْساً منه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن يوحى إليه أنّ الممسوخ لا يعيش ولا يَنْسل.
وأما حديث القدرة ففي بعض الروايات لم يذكروا فيها أنها زنت إنما ذكر الرَّجم فقط، وإنما أخرجه البخاري دلالة على أن [عمر بن ميمون أدرك الجاهلية، ولم يُبَالِ بظنه الذي ظنه في الجاهلية، وذكر ابن عبد البر أن] عمرو بن ميمون من كبار التابعين من لكوفيين، هو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة.
«فَجَعَلْنَاهَا» فعل وفاعل ومفعول.
151
«نَكَالاً» مفعول ثانٍ ل «جعل» التي بمعنى «صبر» والأول هو الضمير، وفيه أقوال: أحدها: يعود على المَسْخَة.
وقيل: على القرية، لأن الكلام يقتضيها كقوله: ﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً﴾ [العاديات: ٤] أي: بالمكان.
وقيل: على العقوبة.
وقيل: على الأمة.
«النكال» المنع، ومنه: النّكل، والنِّكلْك اسم للقيد من الحديد، واللِّجَام؛ لأنه يُمنع به، وسمي العقاب نَكَالاً؛ لأنه يُمنْع به غير المعاقب أن يفعل فِعْلَه، ويمنع المعاقب أن يعود إلى فَعله الأول.
و «التنكيل» : إصابة الغير بالنِّكَال لِيُردَعَ غيره، ونَكَلَ عن كذا يَنْكلُ نُكُولاً: امتنع، وفي الحديث: «إنّ الله يحب الرُّجُلَ النِّكل» أي: القوي على الغرس.
«والْمَنْكَل» : مَا يُنكَّلُ به الإنسان، قال: [الرجز]
٥٦٧ - فَارْمِ عَلَى أَقفَائِهِمْ بِمَنْكَلِ... والمعنى: أنا جعلنا ما جرى على هؤلاء عقوبة رادعة لغيرهم.
والضمير في «يَدَيْهَا» و «خلفها» كالضمير في «جَعَلْنَاهَا».
قال ابن الخطيب: لما قبلها وما معها وما بعدها من الأمم والقرون، لأن مَسْخَهُمْ ذكر في كتب الأولين، فاعتبروا بها، «ما يحضرها من [القرون] والأمم. وما خَلْفَهَا من بعدهم.
وقال الحَسَنُك عقوبة لجميع ما ارتكبوه من هذا الفعْلِ، وما بعده.
و»
مَوْعِظَةً «عطف على» نَكَالاً «وهي» مَفعِلَةٌ «، من الوَعْظ وهو التخويف.
وقال الخليل:»
التذكير بالخير فيما يرق له القلب «.
والاسم:»
العظة «ك» العِدَة «و» الزِّنَة «و» لِلْمُتَّقِينَ «متعلّق ب» موعظة «، واللام للعلّة، وخصّ المتّقين بالذِّكر وإن كانت موعطةً لجميع العالم البَرّ والفاجر؛ لأن المنتفع بها هم المتقون دون غيرهم، ويجوز أن تكون اللام [مقوية] ؛ لأن» موعظة «فرع على
152
الفعل في العمل فهو نظير ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: ١٦] فلا تعلّق لها لزيادتها، ويجوز أن تكون متعلّقة بمحذوف؛ لأنها صفة ل» موعظة «.
أي: موعظة كائنة للمتّقين، أي: يعظ المتقون بعضهم بعضاً.
153
" فَجَعَلْنَاهَا " فعل وفاعل ومفعول.
" نَكَالاً " مفعول ثانٍ ل " جعل " التي بمعنى " صير "، والأول هو الضمير، وفيه أقوال :
أحدها : يعود على المَسْخَة.
وقيل : على القرية، لأن الكلام يقتضيها كقوله :﴿ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ﴾ [ العاديات : ٤ ] أي : بالمكان.
وقيل : على العقوبة.
وقيل : على الأمة.
" النكال " : المنع، ومنه : النّكل، والنِّكلْ : اسم للقيد من الحديد، واللِّجَام ؛ لأنه يُمنع به، وسمي العقاب نَكَالاً ؛ لأنه يُمنْع به غير المعاقب أن يفعل فِعْلَه، ويمنع المعاقب أن يعود إلى فَعله الأول.
و " التنكيل " : إصابة الغير بالنِّكَال لِيُردَعَ غيره، ونَكَلَ عن كذا يَنْكلُ نُكُولاً : امتنع، وفي الحديث :" إنّ الله يحب الرُّجُلَ النِّكل١٤ " أي : القوي على الغرس.
" والْمَنْكَل " : مَا يُنكَّلُ به الإنسان، قال :[ الرجز ]
٥٦٧ فَارْمِ عَلَى أَقْفَائِهِمْ بِمَنْكَلِ ***. . .
والمعنى : أنا جعلنا ما جرى على هؤلاء عقوبة رادعة لغيرهم.
والضمير في " يَدَيْهَا " و " خلفها " كالضمير في " جَعَلْنَاهَا ".
قال ابن الخطيب : لما قبلها وما معها وما بعدها من الأمم والقرون، لأن مَسْخَهُمْ ذكر في كتب الأولين، فاعتبروا بها، " ما يحضرها من [ القرون ]١٥ والأمم. وما خَلْفَهَا من بعدهم.
وقال الحَسَنُ : عقوبة لجميع ما ارتكبوه من هذا الفعْلِ، وما بعده.
و " مَوْعِظَةً " عطف على " نَكَالاً " وهي " مَفعِلَةٌ "، من الوَعْظ وهو التخويف.
وقال الخليل :" التذكير بالخير فيما يرق له القلب ".
والاسم :" العظة " ك " العِدَة " و " الزِّنَة " و " لِلْمُتَّقِينَ " متعلّق ب " موعظة "، واللام للعلّة، وخصّ المتّقين بالذِّكر وإن كانت موعظةً لجميع العالم البَرّ والفاجر ؛ لأن المنتفع بها هم المتقون دون غيرهم، ويجوز أن تكون اللام [ مقوية ]١٦ ؛ لأن " موعظة " فرع على الفعل في العمل فهو نظير ﴿ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ [ البروج : ١٦ ] فلا تعلّق لها لزيادتها، ويجوز أن تكون متعلّقة بمحذوف ؛ لأنها صفة ل " موعظة ".
أي : موعظة كائنة للمتّقين، أي : يعظ المتقون بعضهم بعضاً.
في مناسبة هذه القصة لما قبلها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه تعالى لما عدد النعم المتقدمة على بني إسرائيل كإنزال المَنّ والسَّلْوَى، ورفع الطُّور، وغير ذلك ذكر بعده هذه النعم الت بها بيّن البريء من غيره وذلك من أعظم النعم.
الثاني: أنه تعالى لما حكى عنهم التَّشْديدات والتعنُّت كقوله: ﴿أَرِنَا الله جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣] وقولهم: ﴿لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ [البقرة: ٦١]، وغير ذلك من التعنُّت ذكر بعده تعنتاً آخر، وهو تعنتهم في صفة البقرة.
الثالث: ذكرها معجزة للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه أخبر بهذه القصّة من غير تعلّم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.
وهذه الآية متأخرة في المعنى دون التلاوة عن قوله: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً﴾ [البقرة: ٧٢] وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
والجمهور على ضم الرَّاء في «يَأْمُرُكم» ؛ لأنه مضارع معرب مُجَرّد عن ناصب وجازم، وروي عن أبي عمرو سكونها سكوناً محضاً، واختلاس الحركة، وذلك لتوالي الحركات، لأن الراء حرف تكرير، فكأنها حرفان، وحركتها حركتان.
وقيل: شبَّهها ب «عَضْد» فَسُكِّن أوسطه إجراء للمنفصل مجرى المتصلن وهذا كما
153
تقدم في قراءة ﴿بَارِئِكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] وقد تقدم ذكر من استضعفها من النُّحَاة، وتقدّم ذكر الأجوبة عنه.
ويجوز إبدال همزة «يَأمُرُكمْ» ألفاً، وهذا مطرد.
و «يأمركم» هذه الجُمْلة في محلّ رفع خبر ل «إن»، و «إن» وما في حيّزها في محلّ نصب مفعولاً بالقول، والقول وما في حيّزه في محلّ جرّ بإضافة الظرف إليه، والظرف معمول لفعل محذوف أيك اذكر.
قوله: ﴿أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً﴾ أن وما حيّزها مفعول ثانِ ل «يأمركم»، فموضعها يجوز أن يكون نصباً، وأن يكون جرَّا على ما مضى من الخلاف، لأن الأصل على إسقاط حرف الجر أي بأن تَذْبَحُوا، يجوز أن يوافق الخليل هنا على أن موضعها نصب؛ لأن هذا الفعل يجوز حذف الباء معه، ولو لم تكن الباء في «أن» نحو: «أمرتكم الخير».
و «البقرة» واحدة البقر، تقع على الذّكر والأنثى نحو: «حَمَامة»، والصِّفة تميز الذّكر من الأنثى، تقول: بقرة ذكر، وبقرة أنثى.
وقيل: بقرة اسم للأنثى خاصّة من هذا الجنس مقابل الثور، نحو: نَاقَة وجَمَل، وأَتَان وحِمَار.
وسمي هذا الجنس بذلك، لأنه يَبْقُر الأرض، أي: يشقّها بالحرث، ومنه: بَقَرَ بطنه، والباقر أبو جعفر، لشقِّه العلم، والجمع «بَقَر وَبَاقِر وَبَيْقُور وَبَقِير».
و «البَقِيرة» : ثوب يشقّ فتلقيه المرأة في عنقها من غير كُمَّين.

فصل في قصة القتيل


روي عن ابن عباس وسائر المفسرين: أن رجلاً من بني إسرائيل قتل قريباً له ليرثه، وقيل: لينكح زوجته، وقيل: إن ابن أخيه قتله ليتزوج ابنته، وكان امتنع من تزويجها له، فقتله ثم رماه في مجمع الطريق، ثم شكا ذلك إلى موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فاجتهد موسى في أن يعرف القاتل، فلما لم يظهر قالوا: قل لربك «بَيِّنْه» فأوحى الله إليه أن يأمرهم بأن يذبحوا بقرة [فعجبوا] من ذلك، ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهما حالاً بعد حال، واستقصوا في طلب الوصف، فلما تعينت لم يجدوها بذلك النَّعت إلاَّ عند
154
إنسان معيّن ولم يبعها إلاَّ بأضعاف ثمنها فاشتروها وذبحوها، وأمرهم موسى عليه الصَّلاة والسَّلام أن يأخذوا عُضْواً منها، فيضربوا به القتيل، ففعلوا فأحيا الله القتيل، وسمى لهم قاتلهم، وهو الذي ابتدأ بالشّكاية فقتلوه [فوراً].
قوله: «أَتتَّخِذُنَا هُزواً» المفعول الثاني ل «أتتخذنا» هو «هُزواً»، وفي وقوع «هزواً» مفعولاً ثانياً ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه على حَذْف مضاف، أي: ذوي هزء.
الثاني: أنه مصدر واقع المفعول به، أي مهزوءاً بنا.
الثالث: أنهم جعلوا نفس الهزء مُبَالغة. وهذا أولى.
وقال الزمخشري: وبدأ ب «أَتَجْعَلُنَا» مكان هُزْءٍ، وهو قريب من هذا. وفي «هزواً» ستّ قراءات، المشهور منها ثلاث: «هُزُؤًا» بضمتين مع الهمز، و «هُزْءًا» بسكون الزَّاي مع الهمز وصلاً، وهي قراءة حمزة رَحِمَهُ اللهُ، فإذا وقف أبدلها واواً، وليس قياس تخفيفها، وإنما قياسه إلقاء حركتها على الساكن قبلها.
وإنما اتبع رسْمَ المصحف، فإنها رسمت فيه «واو»، ولذلك لم يُبْدِلها في «جزءاً» واواً وقفاً لأنها لم تُرْسَم فيه واواً كما سيأتين وقراءته أصلها الضم كقراءة الجماعة إلاّ أنه خُفِّفَ كقولهم في عنق: عُنْق.
وقيل: بل هي أصل بنفسها ليست مخففةً من ضم.
كى مكّي عن الأخفش عن عيسى بن عمر: «كل اسم ثلاثي أوله مضموم يجوز فيه لغتانك التخفيف والتثقيل».
و «هُزُواً» بضمتين مع الواو وصلاً ووفقاً، وهي قراءة حفص عن عاصم، كأنه أبدل الهمزة واواً تخفيفاً، وهو قياس مطرد في كل همزة مفتوحة مضموم ما قبلها نحو: جُوَن في جُؤن، وحكم [كُفْواً] في قوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤] حكم «هزواً» في جميع ما تقدم قراءةً وتوجيهاً.
و «هْزاً» بإلقاء حركة الهمزة على الزاي وحذفها، وهو أيضاً قياس مطرد.
و «هُزْواً» بسكون العين مع الواو. و «هُزًّا» بتشديد لزاي من غير همزة، ويروى
155
عن أبي جعفر [وتقدم معنى «الهزء» في أول سورة].
وقال الثعلبي في تفسيره: قرىء: «هُزُؤًّا» و «كُفُؤًّا» مثقلات ومهموزات، وهي قراءة أبي عمرو وأهل «الشام» و «الحجاز» واختار الكسائي، وأبو عبيد، وأبو حاتم «هُوُزًّا» و «كُفُوًّا» مثقلات بغير همز قال: وكلّها لغات صحيحة فصيحة معناها: الاستهزاء.

فصل في الباعث على تعجبهم


القوم إنما قالوا ذلك؛ لأنهم لما طلبوا من موسى عليه الصلاة والسَّلام تعيين القاتل، فقال موسى عليه الصّلاة والسلام: اذبحوا بقرة فلم يفرقوا، وبين هذا الجواب وذلك السؤال مناسبة، فظنوا أنه عليه الصَّلاة والسَّلام يُدَاعبهم؛ لأنه من المحتمل أن يكون عليه الصَّلاة والسَّلام أمرهم بذبح البقرة، ولم يعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة، وضربوا القتيل ببعضها يصير حياً، فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء، ويحتمل أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بيّن لهم كيفية الحال إلاّ أنهم تعجّبوا من [أن] القتيل كيف يصير حيًّا بأن يضرب ببعض أجزاء البقرة، وظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء.
نقل القرطبي عن المَاوَرْدَيّ قال: «وإنما أمروا والله أعلم بذبح بقرة دون غيرها؛ لأنها من جنس ما عبدوه من العِجْل ليُهَوِّن عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته».
وهذا المعنى علّة في ذبح البقرة، وليس بعلّة في جواب السَّائل، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حَيّ، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها.

فصل في بيان هل كفر قوم موسى بسؤالهم ذلك؟


قال بعضهم: إن أولئك الأقوام كفروا بقولهم لموسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: أتتخذنا هزوًا، لأنهم إن قالوا لموسى ذلك لأنهم شكّوا في قدرة الله تعالى على إحياء الميت فهو كفر، وإن شكّوا في ذلك أن الذي أمرهم به موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هل هو بأمر الله، فقد جَوْزوا الخيانة على موسى عليه الصَّلاة والسِّلام في الوحي، وذلك أيضاً كفر، ومن الناس من [قال] : إنه لا يوجب الكفر لوجهين:
الأول: أن المداعبة على الأنبياء جائزة، فلعلهم ظنوا أنه عليه الصَّلاة والسَّلام يداعبهم مُدَاعبة حقّه، وذلك لا يوجب الكفر.
والثاني: أن معنى قوله: «أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً» أي: ما أعجب هذا الجواب، كأنك تستهزىء بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء.
قوله: «أَعُوذُ بِالله» تقدم إعرابه في الاستعاذة.
156
وهذا جواب لاستفهامهم في المعنى، كأنه قال لا أهزأ مستعيذاً بالله من ذلك فإن الهازىء جاهل، فلم يستعذ موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من الشَّيء الذي نسبوه إليه، لكنه استعاذة من السَّبب الموجب له، كما يقول: أعوذ بالله من عدم العَقْل؛ وغلبة الهَوَى، والحاصل أنه أطلق اسم السّبب على المسبب مجازاً.
ويحتمل أن يكون المراد «أعوذ بالله أن أكُونَ من الجَاهِلِين» بما في الاستهزاء في أمر الدين من العقاب الشديد، والوعيد والعظيم، فإني متى علمت ذلك امتنع إقْدَامي على الاستهزاء.
وقال بعضهم: إن نفس الهزوّ قد يسمى جهلاً وجهالة، فقد روي عن بعض أهل اللُّغة أن الجَهْل ضدّ الحلم، كما قال بعضهم: إنه ضدّ العلم.
قوله: «أَنْ أَكُونَ» أي من أن أكون، فيجيء فيه الخلاف المعروف.
و «مِنَ الْجَاهِلِيْنَ» خبرها، وهو أبلغ من قولك: أن أكون جاهلاً. فإن المعنى أنّ انتظم في سلك قوم اتصفوا بالجهل.
قوله: «قَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ» ف «يبيّن» مجزوز على جواب الأمر كقوله: ﴿فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا﴾ [البقرة: ٦١].
قوله: «مَا هِيَ»، «ما» استفهامية في محلّ رفع بالابتداء، تقديره: أي شيء هي؟ وما [الاستفهامية] يطلب بها شرح الاسم تارة، نحو: ما العَنْقَاء؟ وماهية المسمى أخرى، نحو: ما الحركة؟.
وقال السكاكي: «يسأل ب» ما «عن الجنس، تقول: ما عندك» أي: أيّ أجناس الأشياء عندك؟ وجوابه «كتاب» ونحوه، أو عن الوصف، تقول: ما زيد؟ وجوابه: «كريم»، وهذا هو المراد في الآية.
و «هي» ضمير مرفوع منفصل في محلّ رفع خبراً ل «ما» والجلمة في محلّ نصب ب «يبيّن» ؛ لأنه معلّق عن الجلمة بعده، وجاز ذلك، لأنه شبيه بأفعال القلوب.
قوله: «لاّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ» لا «نافية» ن و «فارض» صفة ل «بقرة».
واعترض ب «لا» بين الصفة والموصوف، نحوك «مررت برجل لا طويل ولا قصير».
وأجاز أبو البقاء: أن يكون خبر المبتدأ محذوف، أي: لا هي فَارِضٌ.
157
وقوله: «ولا بِكْر» مثل ما تقدّم.
وتكررت «لا» لأنها متى وقعت قبل خبر، أو نعت، أَو حال وجب تكريرها تقول: «زيد لا قائم ولا قاعد»، و «مررت به لا ضحاكاً ولا باكياً».
ولا يجوز عدم التكرار إلا في ضرورة خلاقاً للمبرّد وابن كَيْسَان؛ فمن ذلك: [الطويل]
٥٦٨ - وَاَنْتَ امْرُؤٌ مِنَّا خُلِقْتَ لِغَيْرنا حَيَاتُكَ لاَ نَفْعُ ومَوْتُكَ فَاجِعُ
وقوله: [الطويل]
٥٦٩ - قَهَرْتُ الْعِدَا لاَ مُسْتَعِيناً بِعُصْبَةٍ وَلَكِنْ بَأَنْواعِ الْخَدائِعِ وَالمَكْرِ
فلم يكرهها في الخبر، ولا في الحال.
و «الفارض» : المُسِنّة الهَرِمَة، قال الزمخشريُّ: كأنها سميْت بذلك؛ لأنها فَرَضَتْ سِنَّها، أي: قَطَعَتْهَا وبلغت آخرها؛ قال: [الطويل]
٥٧٠ - لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْطَيْتَ ضَيْفَكَ فَارِضاً تُسَاقُ إِلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ
ويقال لكل ما قَدُمَ: فارض؛ قال [الرجز]
٥٧١ - شَيَّبَ أَصْدَاعِيْ فَرَأْسِي أَبْيَضُ مَحَامِلٌ فِيهَا رِجَالٌ فُرَّضُ
أي: كبار قدماء.
وقال آخر: [الرجز]
٥٧٢ - يَارُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ لَهُ قُرُوءٌ كَقُروءِ الْحَائِضِ
وقال الرَّاغب: سميت فارضاً، لأنها تقطعه الأرض، والْفَرْضُ في الأصل القطع، وقيل: لأنها تحمل الأعمال الشاقة.
158
وقيل: لأن فريضة البقر تَبِيعٌ ومُسِنَّةٌ، قال: فعلى هذا تكون الفارض اساً إسلاميّاً.
وقيل: «الفَارِضُ» : التي ولدت بطوناً كثيرة فيتسّع جوفها لذلك؛ لأن معنى الفارض في اللغة الواسع، نقله القرطبي عن بعض المتأخرين. ويقال: فَرَضَتْ تَفْرِضُ بالفتح فُرُوضاً.
وقيل: فَرُضَتْ بالضم أيضاً.
وقال المفضَّل بن سَلَمَةَ: الفارض: المُسِنَّة. و «البِكْر» : ما لم تحمل.
وقيل: ما ولَدَتْ بطناً واحداً، وذلك الولد بِكْرٌ أيضاَ. قال: الرجز]
٥٧٣ - يَا بِكْرَ بَكْرَين وَيَا خِلْبَ الْكَبِدْ أَصْبَحْتَ مِنِّي كِذِرَاع مِنْ عَضُدْ
و «البِكْر» من الحيوان: من لم يطرقه فحل، و «البَكْر» بالفتح الْفَتِيُّ من الإِبل، والبَكَارة بالفتح المصدر.
وقال المفضَّل بن سلمة: البِكْر: الشابة.
قال القفال رَحِمَهُ اللهُ تعالى: اشتقاق البكر يدل على الأول، ومنه الباكورة لأول الثمرة، ومنه: بُكْرَة النهار، ويقال: بكرت عليه البارحة، إذا جاء في أول الليل.
والأظهر أنها هي التي لم تلد؛ لأن المعروف من اسم البكر من إناث بني آدم: ما لم يَنْزُ عليها الفحل.
قوله: عَوَانٌ صفة ل «بقرة»، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف أي: هي عَوانٌ كما تقدم في ﴿لاَّ فَارِضٌ﴾ [البقرة: ٦٨] والعوان: النَّصَف، وهو التوسُّط بين الشيئين، وذلك أقوى ما يكون وأحسنه؛ قال: [الوافر]
٥٧٤ -.......................... نَوَاعِمُ بَيْنَ أَبْكَارٍ وَعُون
وقال الشاعر يصف فرساًك [الطويل]
٥٧٥ - كُمَيْتٍ بَهِيمٍ اللَّونِ لَيْسَ بِفَارضٍ وَلاَ بِعَوانٍ ذَاتِ لَوْنٍ مُخَصَّفِ
«فرس أخصف» إذا ارتفعَ الْبَلَق من بطنه إلى جنبه، ويقال للنخلة الطويلة: عوان، وهي فيما زعموا لغة عَانِيَة، حكاه القرطبي.
159
وقيل: هي التي ولدت مرة بعد أخرى منه «الحرب العوان» أي التي جاءت بعد حرب أخرى؛ قال زهير: [الطويل]
٥٧٦ - إِذَا لَحِقَتْ حَرْبٌ عَوَانٌ مُضِرَّةٌ ضَرُوسٌ تُهِمرُّ النَّاسَ أَنْيَابُهَا عُصْلُ
والعُوْن بسكون الواو الجمع، وقد يضم ضرورة كقوله: [السريع]
٥٧٧ -.............................. في الأَكُفِّ اللاَّمِعَاتِ سُوُرْ
بضم الواو. ونظيره في الصحيح «قَذَال وقُذُل» و «حِمَار وحُمُر».
قوله: «بين ذلك» صفة ل عوان « [فهي] في محلّ رفع، ويتعلق بمحذوف، أي: كائن بين ذلك، و» بين «إنما تضاف لشيئين فصاعداً، وجاز أن تضاف هنا إلى مفرد؛ لأنه يشار به إلى المُثَنَّى والمجموع؛ كقوله: [الرمل]
٥٧٨ - إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى وَكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ
كأنه قيل: بين ما ذكر من الفارض البكر. قال الزمخشري:
فإن قلت: كيف جاز أن يشار به إلى مؤنثين، وإنما هو لإشارة المذكر؟
قلت: لأنه في تأويل ما ذكر وما تقدم، وقال: وقد يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا، قال أبو عبيدة: قلت لرؤبة في قوله: [الرجز]
٥٧٩ - فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
إن أردت الخطوط فقل: كأنها، وإن أردت السواد والبَلَق فقل: كأنهما، فقال:
160
أردتُ: ذَاكَ وَذلِكَ. والذي حسن منه أن أسماء الإشارة تثنيتها، وجمعها، وتأنيثهما ليست على الحقيقة، وكذلك الموصولات، ولذلك جاء «الذي» بمعنى الجمع واحتج بعض العلماء بقوله: «عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ» على جواز الاجتهاد، واستعمال غلبة النَّص في الأحكام، إذ لا يعلم أنها بين الفَارِض والبِكْر إلا من طريق الاجتهاد.
قوله: ﴿مَا تُؤْمَرونَ﴾ «ما» موصولة بمعنى «الذي»، والعائد محذوف تقديره: تؤمرون به، فحذفت الباء، وهو حذف مطرد، فاتصل الضمير فحذفت «الهاء»، وليس هو نظير: ﴿كالذي خاضوا﴾ [التوبة: ٦٩] فإن الحذف هناك غير مقيس.
ويضعف أن تكون «ما» نكرة موصوفة.
قال أبو البقاء: لأن المعنى على العموم، وهو ب «الذي» أشبه، ويجوز أن تكون مصدرية أي: أمركم بمعنى مأموركم، تسمية للمفعول بالمصدر ك «ضَرْب الأمير» قاله الزمخشري.
و «تؤمرون» مبني للمعفول، و «الواو» قائم مقام الفاعل، ولا محلّ لهذه الجملة لوقوعها صلة.
صل في الغاية من وصف البقرة
والمقصود كون البقرة في أكمل أحوالها، وذلك لأن الصَّغيرة تكون ناقصة؛ لأنها لم تصل إلى حالة الكمال، والمُسِنّة صارت ناقصةً؛ لتجاوزها حَدّ الكمال، والمتوسط هو الذي يكون في حال الكمال. قاله الثعلبي.
قوله: ﴿مَا لَوْنُهَا﴾ كقوله: «مَا هِيَ».
وقرأ الضحاك: «لونها» بالنصب.
وقال أبو البقاء: لو قرىء: لَوْنَهَا «بالنصب لكان له وَجْهٌ، وهو أن تكون» ما «زائدة كهي في قوله ﴿أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ﴾ [القصص: ٢٨] ويكون التقدير: يبين لنا لَوْنَهَا وهذا تجديد للأمر، وتأكيد وتنبيه على ترك التعنّتن وهذا يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب، ويدل على أن الأمر على الفور؛ لأنه تعالى ذمهم على التأخير بقوله: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١].
واستدل بعضهم على أن الأمر على التراخي؛ لأنه تعالى لم يعنفهم على التأخير والمُرَاجعة في الخطاب، قاله القرطبي عن ابن خُوَيْزِمَنْداد.
161
قال الثعلبي: وقرأ الضحاك:» لونَهَا «بالنصب.
وأما»
ما هي «فابتداء وخبر لا غَيْرُ، إذ لا يمكن جعل» ما «زائدة؛ لأن» هي «لا يصح أن يكون مفعول» يبين «يعني: أنها بصيغة الرفع، وهذا ليس من مواضع زيادة» ما «فلا حاجة إلى هذا.
واللَّوْن عبارة عن الحُمْرة والسَّوَاد ونحوهما، واللَّوْن أيضاَ النَّوع، وهو الدَّقَل نوع من النخل.
قال الأَخْفَشُ: «هو جماعة واحدها لِينَة»
وفلان يَتَلَوَّنُ، أي: لا يثبتُ على حال؛ قال الشاعر: [الرمل]
٥٨٠ - كُلَّ يَوْمٍ تَتَلَوَّنْ غَيْرُ هَذَا بِكَ أَحْمَلُ
و «صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا» يجوز أن يكون «فاقع» صفة، و «لونها» فاعل به، وأن يكون خبراً مقدماً و «لونها» مبتدأ مؤخر، والجملة صفة ذكرهما أبو البقاء.
وفي الوجه الأول نظر، وذلك أن بعضهم ذكر أن هذه التوابع للألوان لا تعمل عمل الأفعال.
فإن قيل: يكون العمل ل «صفراء» لا ل «فاقع» كما تقول: «مررت برجل أبيض ناصع لونه» ف «لونه» مرفوع ب «أبيض» لا ب «ناصع».
فالجواب: أن ذلك هاهنا ممنوع من جهة أخرى، وهو أن «صفراء» مؤنَث اللفظ، ولو كان رافعاً ل «لَوْنُها» لقيل: أصفر لونها، كما تقول: مررت بأمرأة أصفر لونها، ولا يجوز: صفراء لونها؛ لأن الصفة كالفعل، إلاَّ أن يقال: إنه لما أضيف إلى مؤنث اكتسب منه التأنيث، فعومل معاملته كما سيأتي.
ويجوز أن يكون «لونها» مبتدأ و «تَسُرُّ» خبره، وإنما أنث الفعل لاكتسابه بالإضافة معنى التأنيث؛ كقوله: [الطويل]
162
وقول الآخر: [الطويل]
٥٨١ - مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ أَعَالِيهَا مَرٌّ الرِّياحِ النَّوَاسِمِ
٥٨٢ - وَتَشْرَقُ [بَالقَوْلِ] الَّذِي قَدْ أَذَعْتَهُ كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّم
أنّث فعل المَرِّ والصَّدْرِ لما أَضيفا لمؤنث، وقرىء: ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة﴾ [يوسف: ١٠].
وقيل: لأن المراد باللَّون هنا الصُّفرة، وهي مؤنّثة، فحمل على المعنى في ذلك، ويقال: أصفر فاقع، وأبيض ناصع، ويَقِقٌ ولَهِقٌ ولِهَاقٌ، وأخضر ناضر، وأحمر قانىء، وأسود حالك وحائك وَحُلْكُوك، ودَجُوجِيٌّ وغِرْبِيبُ، وبَهِيم.
وقيل: «البهيم الخالص من كل لون».
وبهذا يظهر أن «صفراء» على بابها من اللون المعروف لا سَوْدَاء كما قاله بعضهم: فإن الفُقُوع من صفة الأصفر خاصّة، وأيضاً فإنه مجاز بعدي، ولا يستعمل ذلك إلا في الإبل لِقُرْبِ سوادها من الصّفرة، كقوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ﴾ [المرسلات: ٣٣] وقال [الخفيف]
٥٨٣ - تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ وتِلْكَ رِكَابِي هُنَّ صُفْرٌ أَوْلاَدُهَا كَالزَّبِيبِ
فإن قيل: هلاّ قيل: صفراء فاقعة؟ وأي فائدة في ذلك اللون؟
فالجواب: فائدته التأكيد؛ لأن اللون اسم للهَيْئَةِ، وهي الصّفرة، فكأنه قال: شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك: جدّ جدّه.
وعن وهب: إذا نظرت إليها خُيِّل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جِلْدِهَا، فمعنى قوله: «تَسُرُّ النَّاظِرينَ» أي: يعجبهم حسنها وصَفَاءُ لونها، لأن العين تسر بالنظر إلى الشيء الحسن.
قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: من لبس نعلاً صفراء قلْ همه؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ الناظرين﴾.
163
قال الكسائي؛ يقال: فَقَع لونها يَفْقَعُ فُقُوعاً، إذا خَلَصَت صفرته، والإفْقَاع: سوء الحال، وفَوَاقِعُ الدهر: بَوَائِقُه، وفَقَّع بأصابعه: إ ذا صوَّت، ومنه حديث أبن عباس: «نَهَى عن التَّفقيع في الصلاة»، وهي الفرقعة، هي غَمْزُ الأصابع حتى تُنْقِض، قاله القرطبي.
واختلفوا هل كانت جميعها صفراء حتى قُرونها وأظلآفها، أو الصفرة المعتادة؟ قولان. وفي قوله «فاقع» لطيفة، وهي أنه وصفها باسم الفاعل الذي هو نعت للدوام والاستمرار. يعني: في الماضي والمستقبل.
وفي قوله: «تَسُرُّ» لطيفةٌ، وهي أنه أتى بصيغة المضارع وهو يقتضي التجدُّد والحدوث، بخلاف الماضي.
وفي قوله: «النَّاظرين» آية لطيفة، وهي أنه أتى بصيغة الجمع المُحَلّى بالألف واللام، ليعمّ كلّ ناضر منفردين ومجتمعين.
وقيل: المراد بالنظر نظر البصر للمرء والمرأة أو المراد به النظر بعين اليقين، وهو التفكر في المخلوقات.
قوله: ﴿تَسُرُّ الناظرين﴾ جلمة في محل رفع صفة ل «بقرة» أيضاً، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون خبراً عن «لونها» بالتأويلين المذكورين.
و «السرور» لذّة في القلب عند حصول نفع أو توقّعه، ومنه [السرير] الذي يُجْلس عليه إذا كان لأولي النعمة، وسرير الميت تشبيهاً به في الصورة وتفاؤلاً بذلك.
قوله: ﴿ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِيَ﴾ تقرير للسؤال عن حالها وصفتها، واستكشاف زائد، ليزدادوا بياناً لوصفها، وفي مصحف عبد الله: «سل لنا ربك يبين لنا ما هي؟ وما صفتها».
قوله: ﴿إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ البَقَر: اسم إن، وهو اسم جنس كما تقدم.
وقرأ محمد ذو الشامة الأموي: «إنّ البَاقِرَ» وهو جمع البَقَر ك «الجَامِل» جماعة الجَمَل؛ قال الشاعر: [الكامل]
164
قال قطرب: «يقال لجمع البقرة: بَقَر وبَاقِر وبَاقُور وبَيْقُور».
وقال الأَصْمَعِيّ: «الباقر» جمع باقرة، قال: ويجمع بقر على بَاقُورة، حكاه النّحاس.
قال القرطبي: والباقر والبقر والبيقور والبقير لُغَات بمعنى واحد والعرب تذكره وتؤنثه، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في «تشابه».
و «تشابه» جملة فعلية في محلّ رفع خبر ل «إن»، وقرىء: «تَشَّابَهُ» مشدَّداً ومخفَّفاً، وهو مضارع الأصل: «تَتَشَابَهُ» بتاءين، فَأُدْغِمَ تارةً، وحذف منه أخرَى، وكلا الوجهين مقيس.
وقرىء أيضاً: «يَشَّابَهُ» بالياء من تحت، [وأصله: يَتَشَابَهُ فأدغم أيضاً، وتذكير الفعل وتأنيثه جائزات؛ لأن فاعله اسم جنس] وفيه لغتان: التذكيرُ والتأنيثُ، قال تعالى:
﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٧] فَأَنَّث، و ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ [القمر: ٢٠] فذكر، وقيل: ذكر الفعل لتذكير لفظ «البقرة» ؛ كقوله: ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾.
وقال المبرِّد: سئل سِيبَوَيْهِ عن هذه الآية، فقال: «كل جمع حروفه أقل من حروف وَاحِده، فإن العرب تذكره» ؛ واحتج بقول الأعشى: [البسيط]
٥٨٤ - مَالِي رَأَيْتُكَ بَعْدَ عَهْدِكَ مُوحِشاً خَلِقاً كَحَوْضِ البَاقِرِ المُتَهَدِّمِ
٥٨٥ - وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلْ [وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أيُّهَا الرَّجُلُ]
ولم يقل: «مرتحلون».
وفي «تشابه» قراءاتك «تَشَابَهَ» بتخفيف الشين وفتح الباء والهاء، وهي قراءة العامة. و «تَتَشَابَه» بتاءين على الأصل.
و «تَشَّبَّه» بتشديد الشين والباء من غير ألف، والأصل: تَتَشَبَّهُ.
165
و «تَشَابَهَتْ» على وزن «تَفَاعلت» وهو في مصحف أُبَيّ كذلك أَنّثه لتأنيث البقرة.
و «مُتَشَابِهَة» و «مُتَشَبِّهة» على اسم الفاعل من تشابه وتشبّه. وقرىء: «تَشَبَّهَ» ماضياً.
وقرأ ابن أبي إسحاق: «تَشَّابَهَتْ» بتشديد الشين، قال أبو حاتم: هذا غلط، لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلاّ في المضارع.. وهو معذور في ذلك.
وقرىء: «تَشَّابَهَ» كذلك، إلاّ أنه بطرح تاء التأنيث، ووجهها على إشكالها أن يكون الأصل: إن القرة تشابهت، فالتاء الأولى من البقرة و [التاء] الثانية من الفعل، فلما اجتمع مثلان أدغم نحو: الشجرة تمايلت، إلاّ أنه يُشكِل أيضاً في تَشَّابَه من غير تاء؛ لأنه كان يجب ثبوت علامة التأنيث.
وجوابه: أنه مثل: [المتقارب]
٥٨٦ -...................... وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
مع أن ابن كيسان لا يلتزم ذلك في السّعَةِ.
وقرأ الحسنك «تَشَابَهُ» بتاء مفتوحة وهاء مضمومة وتخفيف الشين أراد: تتشابه.
وقرأ الأعرج: «تَشَّابَهُ» بفتح التاء وتشديد الشين وضمّ الهاء على معنى: تتشابه.
وقرأ مجاهد: «تَشَّبَّه» كقراءة الأعرج، إلا أنه بغير ألف. ومعنى الآية: [التلبيس] والتشبه.
قيل: إنما قالوا: «إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا» أي: اشتبه أمره علينا، فلا نهتدي إليه؛ لأن وجوه البقر [تتشابه] يريد: أنها يشبه بعضها بعضاً، ووجوه البقر تتشابه.
قوله: ﴿إِن شَآءَ الله﴾ هذا شرط جوابه محذوف لدلالة «إنْ»، ما في حيّزها عليه، والتقدير: إن شاء الله هِدَايتنا للبقرة، اهتدينا، ولكنهم أخرجوه في جملة اسمية مؤكدة بحرفي تأكيد مبالغة في طلب الهِدَاية، واعترضوا بالشرط تيمُّناً بمشيئة الله تعالى. «المهتدون» اللام: لام الابتداء داخلة على خبر «إن».
وقال أبو البقاء: جواب الشرط «إن» وما عملت فيه عند سيبويه.
166
وجاز ذلك لما كان الشرط متوسطاً، وخبر «إنَّ» هو جواب الشرط في المعنى، وقد وقع بعده، فصار التقدير: إن شاء الله هدايتنا اهتدينا.
وهذا الذي قاله لا يجوز، فإنه متى وقع جواب الشرط ما لا يصلح أن يكون شرطاً وجب اقترانه بالفَاءِ، وهذه الجملة لا تصلح أن تقع شرطاً، فلو كانت جواباً لزمتها الفاء، ولا تحذف إلا ضرورة، ولا جائز أن يريد أبو البقاء أنه دالّ على الجواب، وسماه جواباً مجازاً؛ لأنه جعل ذلك مذهباً للمبرد مقابلاً لمذهب سيبويه فقال: وقال المبرد: والجواب محذوف دلت عليه الجملة؛ لأن الشرط معترض، فالنية به التأخير، فيصير كقولك: أنت ظالم إن فعلت.
وهذا الذي نقله عن المبرد هو المنقول عن سيبويه، والذي نقله عن سيبويه قريبٌ مما نقل عن الكوفيين وأبي زيد من أنه يجوز تقديم جواب الشَّرْط عليه، وقد ردّ عليهم البصريون بقول العرب: «أنت ظالم إن فعلت».
إذ لو كان جواباً لوجب اقترانه بالفاء لما ذكرت ذلك.
وأصل «مُهْتَدُون» :«مُهْتَدِيُون»، فأعلّ بالحذف، وهو واضح.

فصل في الاستثناء بالمشيئة


قال الحسن رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَالَّذِي نَفْسَ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لَمْ يَقُولُوا: إنْ شَاءَ اللهُ لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا أَبَداً».
واعلم أن التلّفظ بهذه الكلمة مندوب إليه في كلّ عمل يراد تحصيله، قاله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً ٠ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الكهف: ٢٣، ٢٤].
وفيه استعانة بالله وتفويض الأمور إليه، والاعتراض بقدرته.

فصل في الإرادة الكونية


احتج أهل السُّنة بهذه الآية على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى.
وعند المعتزلة أن الله تعالى لما أمرهم بذلك، فقد أراد اهتداءهم لا مَحَالَة، وحينئذ لا يبقى لقولهم: «إنْ شاء الله» فائدة.
قال ابن الخطيب: أما على قول أصحابنا، فإن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد فحينئذ يبقى لقولهم: «إن شاء الله» فائدة.
167

فصل في مذهب المعتزلة في المشيئة


احتج المعتزلة بهذه الآية على أن مشيئة الله تعالى محدثة من وجهين:
الأول: أن دخول حرف «إن» يقتضي الحدوث.
الثاني: أنه تعالى علّق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء، فلم لم يكن حصول الاهتداء أزليًّا وجب ألاّ تكون مشيئة الاهتداء أزلية.

فصل في تقدير المشيئة


ذكر القفال في تقدير هذه المشيئة وجوهاً:
أحدها: وإنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيل أوصافها المميزة لها عن غيرها.
وثانيها: وإنا إن شاء الله تعريفها إيَّانا بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها.
وثالثها: وإنا إن شاء الله على هدى، أي: في استقصائنا في السّؤال عن أوصاف البقر، أي إنّا لسنا على ضلالة فيما نفعل من هذا البحث.
ورابعها: إنا بمشيئة الله نَهْتَدِي للقاتل إذا وصفت لنا هذه البقرة بما تمتاز به عن غيرها.
قال القرطبي: وفي هذا الاستثناء إنابةٌ وانقياد، ودليل نَدَم على عدم موافقة الأمر. وتقدير الكلام: وإنما لمهتدون إن شاء الله.
فقدم على ذكر الاهتداء اهتماماً به.
قوله: ﴿إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ﴾ المشهور «ذَلُولٌ» بالرفع على أنها صفة ل «بقرة»، وتوسطت «لا» للنفي كما تقدم في «لاَ فَارِض»، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: لا هي ذلول، والجملة من هذا المبتدأ أو الخبر في [محل] رفع صفة ل «بقرة».
وقرىء: «لاَ ذَلُولَ» بفتح اللام على أنها «لا» التي للتَّبرئة والخبر محذوف تقديره: لا ذلولَ ثَمَّ أو ما أشبهه، وليس المعنى على هذه القراءة، ولذلك قال الأخفس: «لا ذلول نعت، ولا يجوز نصبه».
و «الذَّلول» : التي ذُلِّلَت بالعمل، يقال: بقرة ذَلُوث بَيِّنَةٌ الذِّل بكسر الذال، ورجل ذَليل: بين الذُّل بضمّها، وقدم عند قوله: ﴿الذلة﴾ [البقرة: ٦١].
168
[قوله] :﴿تُثِيرُ الأرض﴾ في هذه الجملة أقوال كثيرة: أظهرها: أنها في محلّ نصب على الحال من الضمير المستكن في «ذلول» تقديره: لا تُذَلُّ حال إثارتها.
وقال ابن عطية: وهي عند قوم جملة في موضع الصفة ل «بقرة» أي: لا ذلولٌ مثيرة.
وقال أيضاً: «ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال، لأنها نكرة».
أما قوله: في موضع الصفة فإنه يلزم منه أن البقرة كانت مثيرة للأرض، وهذا الم يقل به الجمهور، بل قال به بعضهم، وسيأتي إن شاء الله.
وأما قوله: لا يجوز أن تكون حالاً يعني من «بقرة» ؛ لأنها نكرة.
فالجواب: أنَّا لا نسلم أنها حال من «بقرة»، بل من الضمير في «ذلول» كما تقدم، أو تقول: بل هي حال من النكرة؛ لأن النكرة قد وصفت وتخصصت بقوله: «لا ذَلُول»، وإذا وصفت النكرة ساغ إتيان الحال منها اتفاقاً.
وقيل: إنها مستأنفة، [واستئنافها على وجهين:
أحدهما: أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: هي تثير.
والثاني: أنها مستأنفة] بنفسها من غير تقدير مبتدأ، بل تكون جملة فعلية ابْتُدِىءَ بها لمجرد الإخبار بذلك. وقد منع من القول باستئنافها جماعة منه الأخْفَشُ عليّ بن سليمان، وعلل ذلك بوجهينك
أحدهماك أن بعده: «وَلاَ تَسْقِي الحَرْثَ» فلو كان مستأنفاً لما صحّ دخول «لا» بينه وبين «الواو».
والثّانيك إنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها، والله تعالى نفى عنها ذلك بقوله: «لا ذَلُول» وهذا المعنى هو الذي منع أن يكون «تُثِير» صفة ب «بقرة» ؛ لأن اللازم مشترك، ولذلك قال أبو البقاء: ويجوز على قول مَنْ أثبت هذا الوجه [يعني: كونه تثير الأرض ولا تسقي أن تكون «تثير» في موضع رفع صفة ل «بقرة».
وقد أجاب بعضهم عن الوجه الثاني]، فإن إثارة الأرض عبارة عن مَرَحِهَا ونَشَاطِهَا؛ كما قال امرؤ القيس: [الطويل]
٥٨٧ - يُهِيلُ ويُذْرِي تُرْبَهُ وَيُثِيرُهُ إِثَارَةَ نَبَّاثِ الهَوَاجِرِ مُخْمِسِ
أي: تثير الأرض مرحاً ونشاطاً لا حَرثاً وعملاً.
169
وقال أبو البقاء: وقيل: هو مستأنف، ثم قال: وهو بعيد عن الصّحة لوجهين:
أحدهما: أنه عطف عليه قوله: «وَلاَ تَسْقِي الحَرْثَ»، فنفى المعطوف، فيجب أن يكون المعطوف عليه كذلك؛ لأنه في المعنى واحد، ألا ترى أنك لا تقول: مررت برجل قائم ولا قاعد، بل تقول: لا قاعد بغير واو، كذلك يجب أن يكون هذا.
وذكر الوجه الثاني لما تقدم، وأجاز أيضاً أن يكون «تثير» في محلّ رفع صفة ل «ذلول»، وقد تقدم خلاف هل يوصف الوصف أم لا؟
فهذه ستة أوجه تلخيصها: أنها حال من الضمير في «ذَلُول»، أو من «بقرة»، أو صفة ل «بقرة»، أو ل «ذلول»، أو مستأنفة بإضمار مبتدأ، أو دونه.
قوله: ﴿وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا﴾ الكلام فيه هذه كالكلام فيما قبلها من كونها صفة ل «بقرة»، أو خبر لمبتدأ محذوف.
وقال الزمخشري: و «لا» الأولى للنفي يعني الدَّاخلة على «ذلول».
والثانية مزيدة لتأكيد الأولى؛ لأن المعنى: لا ذلول تثير [الأرض] وتسقي، على أن الفعلين صفتان ل «ذَلُول»، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية.
وقرىء: «تُسْقى» بضم التاء من «أَسْقى».
وإثارة الأرض: تحريكها وبَحْثُهَا، ومنه: ﴿وَأَثَارُواْ الأرض﴾ [الروم: ٩] أي: بالحَرْث والزراعة، وفي الحديث: «أَثِيرُوا القُرْآنَ فَإِنَّهُ عِلْمُ الأَوَّلِينَ وَالأَخِرِينَ».
وفي رواية: «مَنْ أَرَادَ العِلْمَ فَلْيُثوِّرِ القُرْآن».
وجملة القول أن القرة لا يكون بها نَقْص، فإن الذلول بالعمل لكونها تثير الأرض، وتسقي الحرث لابد وأن يظهر بها النقص.
قال القرطبي: قال الحسن: وكانت تلك البقرة وَحْشٍية، ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض، ولا تسقي الحرث.
وقال: الوقف هاهنا حسن.
و «مُسَلَّمة» قيل: من العيوب مطلقاً.
170
وقيل: من آثار العمل المذكور.
وقيل: مسلمة من الشّبه التي هي خلاف لونها، أي: خلصت صُفْرتها عن اختلاط سائر الألوان بها، وهذا ضعيف؛ لأن قوله: «لاَ شِيَةَ فِيهَا» يصير تكراراً.
و «شِيَة» : مصدر وَشَيْتُ الثوب أَشِيه وَشْياً وَشِيَةً، حذفت فاؤها؛ لوقوعها بين ياء وكيرة في المضارع، ثم حمل باقي الباب عليه، ووزنها «عِلَةٌ» ومثلها:
«صِلَةٌ وعِدَةٌ وَزِنَة».
وهي عبارة عن اللُّمْعَة المخالفة للون، ومنه: ثوب مَوْشِيٌّ: أي: منسوج بلونين فأكثر، وثور مَوْشِيٌّ القَوَائِم، أي: أَبْلَقُهَا؛ قال: [البسيط]
٥٨٨ - مِنْ وَحْشِ وَجْرَةً مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ طَاوِي المَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ
ومنه: الواشي للنَّمَّام؛ لأنه يَشِي حديثه، أي يزينه ويخلطه بالكذب.
وقال بعضهم: ولا يقال له وَاشٍ حتى يغير كلامه ويزينه.
ويقال: ثور أَشْيَهُ، وفرس أَبْلَقُ، وكمَبْش أخْرَجُ، وتَيْس أَبْرَق، وغُراب أَبْقَع، كل ذلك بمعنى البلقة.
و «شية» اسم «لا»، و «فيها» خبرها.

فصل في ضبط الحيوان بالصفة


دلت هذه الآيات على ضَبْطِ الحيوان بالصفة، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السَّلَمُ فيه، وكذلك كل ما ضبط بالصفة.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:
«لاَتَصِفُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا» فجعل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الصّفة تقدم مقام الرؤية.
قوله: ﴿الآن جِئْتَ﴾ الآن منصوب ب «جئت»، وهي ظَرْف للزّمان يقتضي الحال، ويخلص المضارع له عند جمهور النّحاة.
171
وقال بعضهم: هذا هو الغالب، وقد جاء حيث لا يمكن أن يكون للحال، كقوله: ﴿فَمَن يَسْتَمِعِ الآن﴾ [الجن: ٢] ﴿فالآن بَاشِرُوهُنَّ﴾ [البقرة: ١٨٧] فلو كان يقتضي لحال لما جاء مع فعل الشرط والأمر اللذين هما نصّ في الاستقبال، وعبر عنه هذا القائل بعبارة تُوافق مذهبه وهي: «الآن» لوقت حصر جميعه أو بعضه يريد بقوله: «أو بعضه» نحو: «فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ»، وهو مبني.
واختلف في علّة بنائه: فقال الزَّجَّاج: لأنه تضمن معنى الإشارة؛ لأن معنى أفعل الآن، أي: هذا الوقت.
وقيل: لأنه أشبه الحرف في لزوم لَفْظ واحد، من حيث إنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمع ولا يصغّر.
وقيل: لأنه تضمّن معنى حرف التعريف، وهو الألف واللام ك «أمس»، وهذه الألف واللام زائدة فيه بدليل بنائه، ولم يُعْهَد مُعرفٌ ب «أل» إلا معرباً، ولزمت فيه الألف واللام كما لزمت في «الذي والّتي» وبابهما، ويعزى هذا للفارسي، وهو مردود بأن التضمين اختصار، فكيف يختصر الشيء، ثم يؤتى بمثل لفظه.
وهو لازم للنظر فيه، ولا يتصرف غالباً، وقد وقع مبتدأ في قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «فَهُوَ يَهْوِي في قَعْرِهَا الآنَ حِينَ انْتَهَى».
ف «الآن» مبتدأ، وبني على الفتح لما تقدم، و «حين» خبره، بُنِيَ لإضافته إلى غير متمكّن، ومجروراً في قوله:
٥٨٩ - أَإِلَى الآنِ لاَ يَبِينُ ارْعِوَاءُ........................
وادعى بعضهم إعرابه مستدلاً بقوله: [الطويل]
٥٩٠ - كَأَنَّهُمَا مِلآنِ لَمْ يَتَغَيَّرا وَقَدْ مَرَّ لِلدَّارَيْنِ مِنَ بَعْدِنَا عَصْرُ
يريد: «مِنَ الآنِ» فجره بالكسرة، وهذا يحتمل أن يكون بني على الكسر، وزعم الفراء أنه منقول من فعل ماضي، وأن أصله «آنَ» بمعنى: «حان» فدخلت عليه «أل» زائدة،
172
واسْتُصْحِب بناؤه على الفَتْح، وجعله مثل قولهم «ما رأيته من شب إلى دُبَّ».
وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «وأنْهَاكُمْ عَنْ قِيلٍ وَقَال».
ورد عليه بأن «أل» لا تدخل على المنقول من فعل ماض، وبأنه كان ينبغي أن يجوز إعرابه كنظائره.
وعنه قول آخر أن أصله «أوان» فحذفت الألف، ثم قلبت الواو ألفاً، فعلى هذا ألفعه عن واو.
وأدخله الرَّاغب في باب «أين»، فتكون ألفه عن «ياء». والصواب الأول.
وقرىء: قالوا: ألآن بتحقيق الهمزة من غير نَقْل، وهي قراءة الجمهور.
و «قَالُ: لأنَ» بنقل حركة الهمزة على اللام قبلها، وحذف الهمزة، وهو قياس مطّرد، وبه قرأ نافع وحمزة باختلاف عنه.
و «قَالُوا: لآنَ» بثبوت «الواو» من «قالوا» ؛ لأنها إنما حذفت لالتقاء السكانين، وقد تحركت «اللام» لنقل حركة «الهمزة» إليها، واعتدوا بذلك كما قالوا في الأحمر «مَحْمَر».
وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى في ﴿عَاداً الأولى﴾ [النجم: ٥٠] ويحكى وجه رابع «قَالُوا: آلآنَ» بقطع همزة الوصل، وهو بعيد، و «بِالحَق» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون باء التَّعدية كالهمزة كأنه قيل: «أَجَأْتَ الحق»، أي: ذكرته.
الثاني: أن يكون في محلّ نصب على الحال من فاعل «جئت» أي: جئت ملتبساً بالحق، أو «ومعك الحق».

فصل في تحقيق أنهم لم يكفروا


قال القاضي: قولهم: «الآن جِئْتَ بِالْحَقِّ» كفر من قِبَلِهم لا محالة؛ لأنه يدل على أنهم اعتقدوا فيما تقدم من الأوامر أنها ما كانت حقّة.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به حتى تميزت من غيرها فلا يكون كفراً.
قوله: «فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ» أي: فذبحوا البقرة. و «كَادُوا» كاد واسمها وخبرها، والكثير في خبرها تجرده من «أن».
وشذ قوله: [الرجز]
173
٥٩١ - قَدْ كَادَ مِنْ طُولٍ الْبِلَى أَنْ يَمْصَحَا... وهي عكس «عسى» وذكروا ل «كاد» تفسيرين:
أحدهما: قالوا: نفيها إثبات وإثباتها نفي، فقوله: كاد يفعل كذا، معناه: قرب من أن يفعل، لكنه ما فعله.
والثاني: قال عبد القاهر النحوي: إن «كاد» لمقاربة الفعل، فقوله: «كاد يفعل» [معناه] قرب من فعله.
وقوله: «ما كاد يفعل» معناه: ما قرب منه.
وللأولين أن يحتجوا بهذه الآية؛ لأن قوله: «ومَا كَادُوا» معناه ما قاربوا الفعل، ونفى المقاربة من الفعل يناقض إثبات وقوع الفعل، فلو كانت «كاد» للمقاربة لزم وقوع التناقض في الآية، وقد تقدم الكلام معلى كاد عند قوله: ﴿يَكَادُ البرق﴾ [البقرة: ٢٠].

فصل في النسخ بالأشقّ


روي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما أنه قال: لو ذبحوا آيّة بقرة أرادوا لأجزأت عنهم؛ لكنه شددوا على أنفسهم، فشدد الله تعالى عليهم، فعلى هذا نقول: التكاليف متغيرة فكلفوا في الأول أية بقرة كانت، فلما لم يفعلوا كلفوا بأن تكون لا فارضاً ولا بكراً، قيل: عَوَان، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون صفراء، فلما لم يفعلوا كُلِّفوا أن تكون مع ذلك لا ذَلُول تثير الأرض ولا تسقي الحرث؛ لأنه قد ثبت أنه لا يجوز تأخير البيان، فلا بد من كونه تكليفاً بعد تكليف وذلك يدلّ على نسخ الأسهل بالأشقّ
174
على جواز النسخ قبل الفعل، وعلى وقوع النسخ في شرع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وعلى أن الزيادة على النصح نسخ، وعلى حسن التكليف ثانياً لمن عصى ولم
175
على جواز النسخ قبل الفعل، وعلى وقوع النسخ في شرع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وعلى أن الزيادة على النصح نسخ، وعلى حسن التكليف ثانياً لمن عصى ولم
176
يفعل ما كلف أولاً، وعلى أن الأمر للوجوب والفور؛ لأنه تعالى ذمَّ التثاقل فيه، والتكاسل في الاشتغال بمقتضاه، ولم يوجد في هذه الصورة إلا مجرد الأمر.
قال القاضي: إنما وجب؛ لأن فيه إزالة شرّ وفتنة، فأمر تعالى بذبح البقرة، لكي يظهر القاتل، فيزول الشَّر والفتنة، فلما كانت المصلحة في هذا الفعل صار واجباً.
وقال بعضهم: إما أمروا بذبح بقرة معيّنة في نفسها، فلذلك حسن موقع سؤالهم لأن المأمور به إذا كان مجملاً حسن الاستفسار والاستعلام، وعلى القول الأول لا بُدّ من بيان ما الذي حملهم على [هذا] الاستفسار؟
فقيل: إن موسى عليه الصلة والسلام لما أمرهم بذبح بقرة وأن يضربوا القتيل ببعضها فيصير حيًّا تعجبوا من ذلك، وظنوا أنّ تلك البقرة التي لها هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة فلا جرم استقصوا في السؤال عنها كَعَصا موسى المخصوصة من بين سائر العصِيّ بتلك الخواص، إلاّ أن القوم أخطئوا في ذلك؛ لأن هذه الآية العجيبة ما كانت خاصة للبقرة، بل كانت معجزة يظهرها الله تعالى على يد موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقيل: لعلّ القوم أردوا أَيَّ بقرة معينة لا مطلق البقرة، فلما وقعت المنازعة رجعوا عند ذلك إلى موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
قال القُشيريّ في تفسيره: قيل: إن أوّل من راجع موسى عليه الصَّلاة والسلام في البحث عن البقرة القاتل خوف أن يفتضح، وقد وجدت تلك البقرة عند الشّاب.
وقيل: إن الخطاب الأول للعموم، إلاَّ أن القوم أرادوا الاحتياط فيه، فسألوا طلباً لمزيد البيان، وإزالة سائر الاحتمالات إلاّ أن المصلحة تغيرت، واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة.
وقيل: كان سؤالهم تقديراً من الله عَزَّ وَجَلَّ ّ وحكمة، ومصلحة لصاحب البقرة، فإنه يروى أن رجلاً صالحاً من بني إسرائيل كان له ولد بارّ، وكان له عجلة فأتى بها غَيْضَة وقال: اللهم إن استودعتكها لابْنِي حتى يكبر، ثم مات الأب فشبّت، وكانت من أحسن البقر [وأتمّها] وهي البقرة التي وصفها الله لهم فساوموها اليتيم وأمه حتى
177
اشتروها بملء مَسْكِها ذهباً، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير.
ذكر مكي: أن هذه البقرة نزلت من السماء، ولم تكن من بقر الأرض قاله القرطبي. وزاد المارودي: ثم فرق ثمنها على بني إسرائيل، فأصاب كل فقير دينارين، وروي أنهم طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة.

فصل في سبب تثاقلهم


اختلفوا في السبب الذي كان لأجله «ما كادوا يفعلون»، فقيل: لأجل غلاء ثمنها، وقيل: لخوف الشهوة والفضيحة، وعلى كلا القولين فالإحْجَام عن المأمور به غير جائز.
أما الأول فلأن ذبح البقرة ما كان يتمّ إلا بالثمن الكثير فوجب؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إلاّ أن يدل دليل على خلافه.
وأما خوف الفضيحة فلا يدفع التكليف، فإن القَوَدَ إذا وجب عليه لزمه تسليم النفس من وليّ الدم إذا طالب، وربما لزمه التعويض ليزول الشر والفتنة، وإنما لزمه ذلك لتزول التّهمة عن القوم الذين طرحوا القتيل بالقرب منهم، لأنه الذي عرضهم إليه، فيلزمهم أزالتها، فكيف يجوز جعله سبباً للتَّثَاقُلِ في هذا الفعل.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا﴾.
أعلم أن وقوع ذلك القتل كان متقدماً على الأمر بالذبح، فأما الإخبار عن وقع ذلك القتل، وعن ضرب القتيل ببعض البقرة، فلا يجب أن يكون متقدماً في التلاوة في الأول؛ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود، فأما التقدم في الذكر فغير واجب؛ لأنه تارة يتقدّم ذكر السبب على الحكم، وتارة على العكس، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم الله تعالى بذبح البقرة فلما ذبحوها قال: وإذا قتلتم نفساً من قبل، واختلفتم وتنازعتم، فإني أظهر لكم القاتل الذي [سترتموه] بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة.
وذلك مستقيم والواو لا تقتضي الترتيب.
قال القرطبي: ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين﴾ [هود: ٤٠] إلى قوله «إِلاَ قَلِيْلٌ» فذكر أهلاك من هلك منهم، ثم عطف عليه بقول: ﴿وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ [هود: ٤١] فذكر الركوب متأخراً، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك، ومثله في القرآن كثير، قال تعالى: ﴿الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ٠ قَيِّماً﴾
[الكهف: ١، ٢] أي: أنزل على عبده الكتاب قَيِّماً ولم يجعل له عوجاً فإن قيل [هب أنه] لا خلل في هذا النظم [ولكن النظم] الآخر
178
كان مستحسناً، فما فائدة في ترجيح هذا النظم؟
قلنا: إنما قدمت قصة الأمر بالذبح على ذلك القتل؛ لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة، ولو كانت قصة واحدة لذهب الغرض من تثنية التفريع.
فصيل في نسبة القتل إلى جميعهم
«فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا» فعل وفاعل، والفاء للسببية؛ لأن التَّدَارُؤَ كان مسبباً عن القتل، ونَسَبض القتل إلى الجميع، وإن لم يصدر إلا من واحد أو اثنين كما قيل؛ لأنه وُجِد فيهم وهو مجاز شائع.
وأصل «ادّارأتم» : تدارأتم تَفَاعلتم من الدَّرْء هو الدّفع، فاجتمعت «التاء» مع «الدال» وهي مُقارِبتها، فأريد الإدغام فقلبت التاء دالاً، وسكنت لأجل الإدغام، ولا يمكن الابتداء بساكن، فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بها فبقي «ادارأتم»، والأصل ادْدَارأتم فأدغم، وهذا مطرد في كل فعل على «تفاعل» أو «تفعّل» فاؤه دال نحو: «تَدَايَنَ وادَّايَنَ، وتَدَيَّنَ وأدِّيَنَ» أو طاء، أو ظاء، أو صاداً، أو ضاداً نحو: «تطاير واطَّايَر» وتطير واطّير [وتظاهر واظَّاهر، وتطهر واطَّهَّر، والمصدر على التفاعل أو التفعّل نحو: تَدَارُؤ وتَطَهُّر] نظراً إلى الأصل.
وهذا أصل نافع في جميع الأبواب.
معنى: «ادرأتم» : اختلفتم واختصمتم في شأنها.
وقيل: [تدافعتم] أي كل واحد ينفي القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره.
والكناية في قوله: «فيها» للنفس.
وقال القفال: ويحتمل إلى القتلة؛ لأن قوله: «قتلتم» يدل على المصدر.
قوله: «والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» الله رفع بالابتداء و «مخرج» خبره، و «ما» موصولة منصوبة المحل باسم الفاعل.
فإن قيل: اسم الفاعل لا يعمل بمعنى الماضي إلا محلّى بالألف واللام،
فالجواب: أن هذه حكاية حال ماضية، واسم الفاعل فيها غير ماض وهذا كقوله تعالى: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد﴾ [الكهف: ١٨].
والكسائي يُعْمِله مطلقاً، ويستدل بهذا ونحوه. و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، فلا بد من عائد، تقديره: مخرج الذي كنتم تكتمونه، ويجوز أن تكون مصدرية، والمصدر واقع موضع المفعول به، أي: مخرج مكتومكم وهذه الجملة لا محلّ لها من الاعراب؛ لأنها معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهما: «فَادَّارَأْتُمْ» وقوله: «فَقُلْنَا: اضْرِبُوهُ» قاله الزمخشري.
179
والضمير في: فاضربوه «يعود على» النفس «لتأويلها بمعنى الشخص والإنسان، أو على القتيل المدلول عليه بقوله:» والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ «والجملة من» اضربوه «في محلّ نصب بالقول.
وفي الكلام محذوف والتقدير: قلنا: اضربوه ببعضها فضربوه ببعضها فحيي، إلا أنه حذف ذلك لدلالة قوله:»
يُحْيِي الله الموتى «عليه، فهو كقوله:
﴿اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت﴾ [البقرة: ٦٠] أي فضرب فانفجرت [وقوله: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ﴾ [البقرة: ١٨٤] أي: فأفطر فعدّة] وقوله: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٦] أي: فحلق ففدية.

فصل في بيان المضروب به


اختلفوا في البعض الذي ضربوا القتيل به.
فقيل: اللِّسَان، لأنه آلة الكلام قال الضحاك والحسين بن الفَضْل.
وقال سعيد بن جُبَير: يعجب ذنبها قاله يمان بن رئاب وهو أولى؛ لأنه أساس البدن الذي ركب عليه الخلق، وهو أول ما يخلف وآخر ما يبلى.
وقال مجاهد: بذنبها.
وقال عكرمة والكَلْبي: بخذها الأيمن.
وقال السَدّي: بالبَضْعة التي بين كتفيها.
وقيل: بأذنها.
وقال ابن عباس: بالعظم الذي يلي الغضروف، وهو أصل الأذن [وهو المقتل].
والأقرب أنهم كانوا مخيرين في أبعاض البقرة؛ لأنهم أمروا بضرب القتيل ببعض البقرة وأي بعض من أبعاض البقرة ضربوا القتيل به، فإنهم ممتثلين الأمر، والإتيان بالمأمور به يدل على الخروج عن العُهْدة.
وليس في القرآن ما يدل على تعيين ذلك البعض، فإن ورد فيه خبر صحيح قُبِلَ، وإلا وجب السكوت عنه.
فإن يل: ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أن الله تعالى قادر على أن يحييه ابتداء؟
180
فالجواب: أن الفائدة فيه لتكون الحُجّة أوكد، وعن الحيلة أبعد، فقد يجوز في العقل للملحد أن يوهمهم أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إنما أحياه بضرب من السِّحر أو من الحيلة، فلما حيي بالضرب بقطعة من البقرة المذبوحة فانتفت الشبّهة.
فإن قيل: هلا أمر بذبح غير البقرة؟
فالجواب: أن الكلام في غيرها لو أمروا به كالكلام فيها.
ثم ذكروا فيها فوائد:
أحدهما: التقريب بِالقَرَابِيْن التي كانت العادة بها جارية، ولأن هذا القُرْبَان كان عندهم أعظم القرابين، ولما فيه من مزيد الثواب لتحمل الكُلْفة في تحصيل هذه البقرة.
قيل: على غلاء ثمنها، ولما فيه من حصول المال العظيم لمالك البقرة.
قوله: «كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى» «كذلك» في محلّ نصب؛ لأنه نعت لمصدر محذوف تقديره: يحيي الله الموتى إحياء مثل ذلك الإحياء، فيتعلّق بمحذوف، أي: إحياء كائناً كذلك الإحياء، أو لأنه حال من المصدر المعروف، أي: ويريكم الإراءة حال كمونها مُشَبِهَةً ذلك الإحياء، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه.
و «الموتى» جمع مَيِّت، وفي هذه الإشارة وجهان:
أحدهما: أنها إشارة إلى نفس ذلك الميت.
والثاني: أنها احتجاج على صحّة الإعادة. قال الأصم: إنه على المشركين؛ لأنه إن ظهر لهم بالتَّوَاتر [أن هذا الإحياء قد كان على هذه الوجه علموا صحّة الإعادة، وإنن لم يظهر ذلك بالتواتر]، فإنه داعية إلى التفكُّر.
وقال القَفّال: ظاهره يدلّ على أن الله تعالى قال هذا لبني إسرائيل أي: إحياء الله الموتى يكون مثل هذا الذي شاهدتم؛ لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلاَّ أنهم لم يؤمنوا به إلاَّ من طريق الاستدلال، ولم يشاهدوا شيئاً منه، فإذا شاهدوه اطمأنت قلوبهم، وانتفت عنهم الشّبهة، فأحيا الله القتيلَ عياناً، ثم قال لهمك كذلك يحيي الله المَوْتَى، أي: كما أحياها في الدُّنيا يحييها في الآخرة من غير احتياج إلى مادّة ومثال وآلة التي لا يخلو منها المستدل.
قوله: «وَيُريكُمْ آيَاتِهِ» الرؤيا هنا بَصَرية، فالهمزة للتعدية أكسبت الفعل مفعولاً ثانياً وهو «آياته»، والمعنى: يجعلكم مُبْصرين آياته.
و «كم» هو المفعول الأول، وأصل «يريكم» : يُأَرْإيكم، فحذفت همزة «أفعل» في المضارعة لما تقدم في ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٣] وبابه، [فبقي يُرْئيكم]، فنقلبت حركة الهمزة على «الراء»، وحذفت «الهمزة» تخفيفاً، وهو نقل لازم في مادة «رأى» وبابه دون
181
غيره مما عينه همزة نحو: «نأى ينأى» ولا يجوز عدم النقل في «رأي» وبابه إلا ضرورة كقوله: [الوافر]
٥٩٢ - أُرِي عَيْنَيَّ مَالَمْ تَرْأَيَاهُ كِلاَنا عَلِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ

فصل في نظم الآية


[القائل أن يقول] : إن ذلك كان آية واحدة فلم سميت بالآيات؟
فالجواب: أنها تدلّ على وجود الصانع القادر على المقدورات العالم بكلّ المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع، وعلى صدق موسى عليه الصَّلاة والسَّلام ت وعلى براءة من لم يقتل، وعلى تعيين القاتل، فهي وإن كانت آية واحدة إلا أنها لَمَّا دلت على [هذه] المدلولات الكبيرة لا جرم جرت مجرى الآيات.
قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ تقدم تفسير العَقْل.
قال الواقديك كل ما في القرآن من قوله: «لَعَلَّكُمْ» فهو بمعنى «لكن» إلاّ التي في الشعراء: ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ [الشعراء: ١٢٩] فإنه بمعنى لعلكم تخلدون فلا تموتون.
فإن قيل: القوم كانوا عقلاء قبل عرض هذه الآية عليهم، وإذا كانوا عقلاء امتنع أن يقال: إني عرضت عليك الآية الفلانية لكي تصير عاقلاً [فالجواب أنه] لا يمكن إجراء الآية على ظاهرها، بل لا بد من التأويل، وهو أن يكون المراد: لعلكم تعلمون لعدم الاختصاص حتى لاينكروا المبعث

فصل في توريث القاتل


ذكر كثير من المتقدمين أن من جملة أحكام هذه الآية أن القاتل هل يرث أم لا؟
182
قالوا: لا، لأنه روي عن عَبِيْدَةَ السَّلْمَاني أن الرجل القاتل في هذه [الواقعة] حرم الميراث لكونه قاتلاً.
قال القاضي: «لا يجوز جعل هذه المسألة من أحكام هذه الآية؛ لأنه ليس في ظاهر الآية أن القاتل هل كان وارثاً لقتيله أم لا» وبتقدير أن يكون وارثاً فهل حرم الميراث أم لا؟ وليس يجب إذ روي عن عبيدة أن القاتل حرم الميراث لكونه قاتلاً، أي: بعد ذلك في جملة أحكام القرآن إذا كان لا يدلّ عليه لا مجملاً ولا مفصلاً، وإذا كان كذلك لم يثبت أن شرعهم كشرعنا، وأنه [لا] يلزم الاقتداء لهم.
واستدل مالك بهذه الآية على صحّة القول بالقَسَامَةِ بقول المقتول: حقّي عند فلان، أو فلان قتلني.
ومنعه الشافعي وغيره؛ لأن قول القتيل: دمي عند فلان، أو فلان قتلني خبر يحتمل الصدق والكذب، ودم المدعى عليه معصوم غير مباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاحتمال، وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة فأخبر تعالى أنه يحييه، وذكره يتضمن الإخبار بقاتله خبر ما لا يدخله الاحتمال.
قال ابن العربي: المعجزة إنما كانت في إحيائه، فلما صار حيًّا صار كلامه كسائر كلام الناس.
183
قوله :" قَالُوا : ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ " ف " يبيّن " مجزوم على جواب الأمر كقوله :﴿ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا ﴾ [ البقرة : ٦١ ].
قوله :" مَا هِيَ "، " ما " استفهامية في محلّ رفع بالابتداء، تقديره : أي شيء هي ؟ وما [ الاستفهامية ]١٢ يطلب بها شرح الاسم تارة، نحو : ما العَنْقَاء ؟ وماهية المسمى أخرى، نحو : ما الحركة ؟.
وقال السكاكي١٣ :" يسأل ب " ما " عن الجنس، تقول : ما عندك ؟ أي : أيّ أجناس الأشياء عندك ؟ وجوابه " كتاب " ونحوه، أو عن الوصف، تقول : ما زيد ؟ وجوابه :" كريم "، وهذا هو المراد في الآية.
و " هي " ضمير مرفوع منفصل في محلّ رفع خبراً ل " ما " والجملة في محلّ نصب ب " يبيّن " ؛ لأنه معلّق عن الجملة بعده، وجاز ذلك، لأنه شبيه بأفعال القلوب.
قوله :" لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ " لا " نافية "، و " فارض " صفة ل " بقرة ".
واعترض ب " لا " بين الصفة والموصوف، نحو :" مررت برجل لا طويل ولا قصير ".
وأجاز أبو البقاء : أن يكون خبر المبتدأ محذوف، أي : لا هي فَارِضٌ.
وقوله :" ولا بِكْر " مثل ما تقدّم.
وتكررت " لا " لأنها متى وقعت قبل خبر، أو نعت، أَو حال وجب تكريرها تقول :" زيد لا قائم ولا قاعد "، و " مررت به لا ضحاكاً ولا باكياً ".
ولا يجوز عدم التكرار إلا في ضرورة خلافاً للمبرِّد وابن كَيْسَان ؛ فمن ذلك :[ الطويل ]
٥٦٨ وَأَنْتَ امْرُؤٌ مِنَّا خُلِقُتَ لِغَيْرنا *** حَيَاتُكَ لاَ نَفْعٌ ومَوْتُكَ فَاجِعُ
وقوله :[ الطويل ]
٥٦٩ قَهَرْتُ الْعِدَا لاَ مُسْتَعِيناً بِعُصْبَةٍ *** وَلَكِنْ بَأَنْواعِ الْخَدائِعِ وَالمَكْرِ
فلم يكررها في الخبر، ولا في الحال.
و " الفارض " : المُسِنّة الهَرِمَة، قال الزمخشريُّ : كأنها سميْت بذلك ؛ لأنها فَرَضَتْ سِنَّها، أي : قَطَعَتْهَا وبلغت آخرها ؛ قال :[ الطويل ]
٥٧٠ لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْطَيْتَ ضَيْفَكَ فَارِضاً *** تُسَاقُ إِلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ
ويقال لكل ما قَدُمَ : فارض ؛ قال [ الرجز ]
٥٧١ شَيَّبَ أَصْدَاعِيْ فَرَأْسِي أَبْيَضُ *** مَحَامِلٌ فِيهَا رِجَالٌ فُرَّضُ
أي : كبار قدماء.
وقال آخر :[ الرجز ]
٥٧٢ يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ *** لَهُ قُرُوءٌ كَقُروءِ الْحَائِضِ
وقال الرَّاغب : سميت فارضاً ؛ لأنها تقطع الأرض، والْفَرْضُ في الأصل القطع، وقيل : لأنها تحمل الأعمال الشاقة.
وقيل : لأن فريضة البقر تَبِيعٌ ومُسِنَّةٌ، قال : فعلى هذا تكون الفارض اسماً إسلاميّاً.
وقيل :" الفَارِضُ " : التي ولدت بطوناً كثيرة فيتسّع جوفها لذلك ؛ لأن معنى الفارض في اللغة الواسع، نقله القرطبي عن بعض المتأخرين. ويقال : فَرَضَتْ تَفْرِضُ بالفتح فُرُوضاً.
وقيل : فَرُضَتْ بالضم أيضاً.
وقال المفضَّل بن سَلَمَةَ : الفارض : المُسِنَّة. و " البِكْر " : ما لم تحمل.
وقيل : ما ولَدَتْ بطناً واحداً، وذلك الولد بِكْرٌ أيضاً. قال : الرجز ]
٥٧٣ يَا بِكْرَ بَكْرَين وَيَا خِلْبَ الْكَبِدْ *** أَصْبَحْتَ مِنِّي كِذِرَاع مِنْ عَضُدْ
و " البِكْر " من الحيوان : من لم يطرقه فحل، و " البَكْر " - بالفتح - الْفَتِيُّ من الإِبِل، والبَكَارة بالفتح المصدر.
وقال المفضَّل بن سلمة : البِكْر : الشابة.
قال القفال - رحمه الله تعالى : اشتقاق البكر يدل على الأول، ومنه الباكورة لأول الثمرة، ومنه : بُكْرَة النهار، ويقال : بكرت عليه البارحة، إذا جاء في أول الليل.
والأظهر أنها هي التي لم تلد ؛ لأن المعروف من اسم البكر من إناث بني آدم : ما لم يَنْزُ عليها الفحل.
قوله : عَوَانٌ صفة ل " بقرة "، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف أي : هي عَوانٌ كما تقدم في ﴿ لاَّ فَارِضٌ ﴾ [ البقرة : ٦٨ ] والعوان : النَّصَف، وهو التوسُّط بين الشيئين، وذلك أقوى ما يكون وأحسنه ؛ قال :[ الوافر ]
٥٧٤-. . . *** نَوَاعِمُ بَيْنَ أَبْكَارِ وَعُون
وقال الشاعر يصف فرساً :[ الطويل ]
٥٧٥ كُمَيْتِ بَهِيمِ اللَّونِ لَيْسَ بِفَارِضٍ *** وَلاَ بِعَوانٍ ذَاتِ لَوْنٍ مُخَصَّفِ
" فرس أخصف " إذا ارتفعَ الْبَلَق من بطنه إلى جنبه، ويقال للنخلة الطويلة : عوان، وهي فيما زعموا لغة عَانِيَة، حكاه القرطبي.
وقيل : هي التي ولدت مرة بعد أخرى ومنه " الحرب العوان " أي التي جاءت بعد حرب أخرى ؛ قال زهير :[ الطويل ]
٥٧٦ إِذَا لَحِقَتْ حَرْبٌ عَوَانٌ مُضِرَّةٌ *** ضَرُوسٌ تُهِرُّ النَّاسَ أَنْيَابُهَا عُصْلُ
والعُوْن بسكون الواو الجمع، وقد بضم ضرورة كقوله :[ السريع ]
٥٧٧-. . . *** في الأَكُفِّ اللاَّمِعَاتِ سُوُرْ
بضم الواو. ونظيره في الصحيح " قَذال وقُذُل " و " حِمَار وحُمُر ".
قوله :" بين ذلك " صفة ل " عوان " [ فهي ] في محلّ رفع، ويتعلق بمحذوف، أي : كائن بين ذلك، و " بين " إنما تضاف لشيئين فصاعداً، وجاز أن تضاف هنا إلى مفرد ؛ لأنه يشار به إلى المُثَنَّى والمجموع ؛ كقوله :[ الرمل ]
٥٧٨- إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى *** وَكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ
كأنه قيل : بين ما ذكر من الفارض والبكر. قال الزمخشري :
فإن قلت : كيف جاز أن يشار به إلى مؤنثين، وإنما هو لإشارة المذكر ؟
قلت : لأنه في تأويل ما ذكر وما تقدم، وقال : وقد يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا، قال أبو عبيدة : قلت لرؤبة في قوله :[ الرجز ]
٥٧٩- فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ *** كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَولِيعُ الْبَهَقْ
إن أردت الخطوط فقل : كأنها، وإن أردت السواد والبَلَق فقل : كأنهما، فقال : أردتُ : ذَاكَ وذَلِكَ. والذي حسن منه أن أسماء الإشارة تثنيتها، وجمعها، وتأنيثها ليست على الحقيقة، وكذلك الموصولات، ولذلك جاء " الذي " بمعنى الجمع واحتج بعض العلماء بقوله :" عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ " على جواز الاجتهاد، واستعمال غلبة النَّص في الأحكام، إذ لا يعلم أنها بين الفَارِض والبِكْر إلا من طريق الاجتهاد.
قوله :﴿ مَا تُؤْمَرونَ ﴾ " ما " موصولة بمعنى " الذي "، والعائد محذوف تقديره : تؤمرون به، فحذفت الباء، وهو حذف مطرد، فاتصل الضمير فحذفت " الهاء "، وليس هو نظير :﴿ كَالَّذِي خَاضُواْ ﴾ [ التوبة : ٦٩ ] فإن الحذف هناك غير مقيس.
ويضعف أن تكون " ما " نكرة موصوفة.
قال أبو البقاء : لأن المعنى على العموم، وهو ب " الذي " أشبه، ويجوز أن تكون مصدرية أي : أمركم بمعنى مأموركم، تسمية للمفعول بالمصدر ك " ضَرْب الأمير " قاله الزمخشري.
و " تؤمرون " مبني للمفعول، و " الواو " قائم مقام الفاعل، ولا محلّ لهذه الجملة لوقوعها صلة.

فصل في الغاية من وصف البقرة


والمقصود كون البقرة في أكمل أحوالها، وذلك لأن الصَّغيرة تكون ناقصة ؛ لأنها لم تصل إلى حالة الكمال، والمُسِنّة صارت ناقصةً ؛ لتجاوزها حَدّ الكمال، والمتوسط هو الذي يكون في حال الكمال. قاله الثعلبي.
قوله :﴿ مَا لَوْنُهَا ﴾ كقوله :" مَا هِيَ ".
وقرأ الضحاك :" لونها " بالنصب.
وقال أبو البقاء : لو قرئ :" لَوْنهَا " بالنصب لكان له وَجْهٌ، وهو أن تكون " ما " زائدة كهي في قوله :﴿ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ ﴾ [ القصص : ٢٨ ] ويكون التقدير : يبين لنا لَوْنَهَا وهذا تجديد للأمر، وتأكيد وتنبيه على ترك التعنّت، وهذا يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب، ويدل على أن الأمر على الفور ؛ لأنه تعالى ذمهم على التأخير بقوله :﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [ البقرة : ٧١ ].
واستدل بعضهم على أن الأمر على التراخي ؛ لأنه تعالى لم يعنفهم على التأخير والمُرَاجعة في الخطاب، قاله القرطبي عن ابن خُوَيْزِمَنْداد.
قال الثعلبي : وقرأ الضحاك :" لونَهَا " بالنصب.
وأما " ما هي " فابتداء وخبر لا غَيْرُ، إذ لا يمكن جعل " ما " زائدة ؛ لأن " هي " لا يصح أن يكون مفعول " يبين " يعني : أنها بصيغة الرفع، وهذا ليس من مواضع زيادة " ما " فلا حاجة إلى هذا.
واللَّوْن عبارة عن الحُمْرة والسَّوَاد ونحوهما، واللَّوْن أيضاً - النَّوْع، وهو الدَّقَل نوع من النخل.
قال الأَخْفَشُ :" هو جماعة واحدها لِينَة " وفلان يَتَلَوَّنُ، أي : لا يثبتُ على حال ؛ قال الشاعر :[ الرمل ]
٥٨٠ كُلَّ يَوْمٍ تَتَلَوَّنْ غَيْرُ هَذَا بِكَ أَجْمَلْ
و " صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا " يجوز أن يكون " فاقع " صفة، و " لونها " فاعل به، وأن يكون خبراً مقدماً و " لونها " مبتدأ مؤخر، والجملة صفة ذكرهما أبو البقاء.
وفي الوجه الأول نظر، وذلك أن بعضهم ذكر أن هذه التوابع للألوان لا تعمل عمل الأفعال.
فإن قيل : يكون العمل ل " صفراء " لا ل " فاقع " كما تقول :" مررت برجل أبيض ناصع لونه " ف " لونه " مرفوع ب " أبيض " لا ب " ناصع ".
فالجواب : أن ذلك هاهنا ممنوع من جهة أخرى، وهو أن " صفراء " مؤنّث اللفظ، ولو كان رافعاً ل " لَوْنُها " لقيل : أصفر لونها، كما تقول : مررت بامرأة أصفر لونها، ولا يجوز : صفراء لونها ؛ لأن الصفة كالفعل، إلاَّ أن يقال : إنه لما أضيف إلى مؤنث اكتسب منه التأنيث، فعومل معاملته كما سيأتي.
ويجوز أن يكون " لونها " مبتدأ و " تَسُرُّ " خبره، وإنما أنث الفعل لاكتسابه بالإضافة معنى التأنيث ؛ كقوله :[ الطويل ]
٥٨١- مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ أَعَالِيهَا مَرُّ الرِّياحِ النَّوَاسِمِ
وقول الآخر :[ الطويل ]
٥٨٢- وَتَشْرَقُ [ بَالقَوْلِ ] الَّذِي قَدْ أَذَعْتَهُ كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّم
أنّث فعل المَرِّ والصَّدْرِ لما أضيفا لمؤنث، وقرئ :﴿ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ﴾ [ يوسف : ١٠ ].
وقيل : لأن المراد باللَّون هنا الصُّفرة، وهي مؤنّثة، فحمل على المعنى في ذلك، ويقال : أصفر فاقع، وأبيض ناصع، ويَقِقٌ ولَهِقٌ ولِهَاقٌ، وأخضر ناضر، وأحمر قانئ، وأسود حالك وحائك وَحُلْكُوك، ودَجُوجِيٌّ وغِرْبِيبٌ، وبَهِيم.
وقيل :" البهيم الخالص من كل لون ".
وبهذا يظهر أن " صفراء " على بابها من اللون المعروف لا سَوْدَاء كما قاله بعضهم : فإن الفُقُوع من صفة الأصفر خاصّة، وأيضاً فإنه مجاز بعيد، ولا يستعمل ذلك إلا في الإبل لِقُرْبِ سوادها من الصّفرة، كقوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ﴾ [ المرسلات : ٣٣ ] وقال [ الخفيف ]
٥٨٣- تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ وتِلْكَ رِكَابِي هُنَّ صُفْرٌ أَوْلاَدُهَا كَالزَّبِيبِ
فإن قيل : هلاّ قيل : صفراء فاقعة ؟ وأي فائدة في ذلك اللون ؟
فالجواب : فائدته التأكيد ؛ لأن اللون اسم للهَيْئَةِ، وهي الصّفرة، فكأنه قال : شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك : جدّ جدّه.
وعن وهب : إذا نظرت إليها خُيِّل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جِلْدِهَا، فمعنى قوله :" تَسُرُّ النَّاظِرِينَ " أي : يعجبهم حسنها وصَفَاءُ لونها، لأن العين تسر بالنظر إلى الشيء الحسن.
قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : من لبس نعلاً صفراء قلّ همه ؛ لأن الله تعالى يقول :﴿ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾.
قال الكسائي ؛ يقال : فَقَع لونها يَفْقَعُ فُقُوعاً، إذا خَلَصَت صفرته، والإفْقَاع : سوء الحال، وفَوَاقِعُ الدهر : بَوَائِقُه، وفَقَّع بأصابعه : إذا صوَّت، ومنه حديث ابن عباس :" نَهَى عن التَّفقيع في الصلاة "، وهي الفرقعة، وهي غَمْزُ الأصابع حتى تُنْقِض، قاله القرطبي.
واختلفوا هل كانت جميعها صفراء حتى قُرونها وأظلافها، أو الصفرة المعتادة ؟ قولان. وفي قوله :" فاقع " لطيفة، وهي أنه وصفها باسم الفاعل الذي هو نعت للدوام والاستمرار. يعني : في الماضي والمستقبل.
وفي قوله :" تَسُرُّ " لطيفةٌ، وهي أنه أتى بصيغة المضارع وهو يقتضي التجدُّد والحدوث، بخلاف الماضي.
وفي قوله :" النَّاظرين " آية لطيفة، وهي أنه أتى بصيغة الجمع المُحَلّى بالألف واللام، ليعمّ كلّ ناضر منفردين ومجتمعين.
وقيل : المراد بالنظر نظر البصر للمرء والمرأة أو المراد به النظر بعين اليقين، وهو التفكر في المخلوقات.
قوله :﴿ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ جملة في محل رفع صفة ل " بقرة " أيضاً، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون خبراً عن " لونها " بالتأويلين المذكورين.
و " السرور " لذّة في القلب عند حصول نفع أو توقّعه، ومنه [ السرير ] الذي يُجْلس عليه إذا كان لأولي النعمة، وسرير الميت تشبيهاً به في الصورة وتفاؤلاً بذلك.
قوله :﴿ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِيَ ﴾ تقرير للسؤال عن حالها وصفتها، واستكشاف زائد، ليزدادوا بياناً لوصفها، وفي مصحف عبد الله :" سل لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ وما صفتها ". قوله :﴿ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ﴾ البَقَر : اسم إن، وهو اسم جنس كما تقدم.
وقرأ محمد ذو الشامة الأموي :" إنّ البَاقِرَ " وهو جمع البَقَر ك " الجَامِل " جماعة الجَمَل ؛ قال الشاعر :[ الكامل ]
٥٨٤- مَا لِي رَأَيْتُكَ بَعْدَ عَهْدِكَ مُوحِشاً *** خَلِقاً كَحَوْضِ البَاقِرِ المُتَهَدِّمِ
قال قطرب :" يقال لجمع البقرة : بَقَر وبَاقِر وبَاقُور وبَيْقُور ".
وقال الأَصْمَعِيّ :" الباقر " جمع باقرة، قال : ويجمع بقر على بَاقُورة، حكاه النّحاس.
قال القرطبي : والباقر والبقر والبيقور والبقير لُغَات بمعنى واحد والعرب تذكره وتؤنثه، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في " تشابه ".
و " تشابه " جملة فعلية في محلّ رفع خبر ل " إن "، وقرئ :" تَشَّابَهُ " مشدَّداً ومخفَّفاً، وهو مضارع الأصل :" تَتَشَابَهُ " بتاءين، فَأُدْغِمَ تارةً، وحذف منه أخرَى، وكلا الوجهين مقيس.
وقرئ أيضاً :" يَشَّابَهُ " بالياء من تحت، [ وأصله : يَتَشَابَهُ فأدغم أيضاً، وتذكير الفعل وتأنيثه جائزان ؛ لأن فاعله اسم جنس ] وفيه لغتان : التذكيرُ والتأنيثُ، قال تعالى :﴿ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٧ ] فَأَنَّث، و
﴿ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ [ القمر : ٢٠ ] فذكر، وقيل : ذكر الفعل لتذكير لفظ " البقرة " ؛ كقوله :﴿ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾.
وقال المبرِّد : سئل سِيبَوَيْهِ عن هذه الآية، فقال :" كل جمع حروفه أقل من حروف وَاحِدِه، فإن العرب تذكره " ؛ واحتج بقول الأعشى :[ البسيط ]
٥٨٥- وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ *** [ وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أيُّهَا الرَّجُلُ ]
ولم يقل :" مرتحلون ".
وفي " تشابه " قراءات :" تَشَابَهَ " بتخفيف الشين وفتح الباء والهاء، وهي قراءة العامة. و " تَتَشَابَه " بتاءين على الأصل.
و " تَشَّبَّه " بتشديد الشين والباء من غير ألف، والأصل : تَتَشَبَّهُ.
و " تَشَابَهَتْ " على وزن " تَفَاعلت " وهو في مصحف أُبَيّ كذلك أَنّثه لتأنيث البقرة.
و " مُتَشَابِهَة " و " مُتَشَبِّهة " على اسم الفاعل من تشابه وتشبّه. وقرئ :" تَشَبَّهَ " ماضياً.
وقرأ ابن أبي إسحاق :" تَشَّابَهَتْ " بتشديد الشين، قال أبو حاتم : هذا غلط، لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلاّ في المضارع. . وهو معذور في ذلك.
وقرئ :" تَشَّابَهَ " كذلك، إلا أنه بطرح تاء التأنيث، ووجهها على إشكالها أن يكون الأصل : إن البقرة تشابهت، فالتاء الأولى من البقرة و [ التاء ] الثانية من الفعل، فلما اجتمع مثلان أدغم نحو : الشجرة تمايلت، إلاّ أنه يُشكِل أيضاً في تَشَّابَه من غير تاء ؛ لأنه كان يجب ثبوت علامة التأنيث.
وجوابه : أنه مثل :[ المتقارب ]
٥٨٦-. . . *** وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
مع أن ابن كيسان لا يلتزم ذلك في السّعَةِ.
وقرأ الحسن :" تَشَابَهُ " بتاء مفتوحة وهاء مضمومة وتخفيف الشين أراد : تتشابه.
وقرأ الأعرج :" تَشَّابَهُ " بفتح التاء وتشديد الشين وضمّ الهاء على معنى : تتشابه.
وقرأ مجاهد :" تَشَّبَّه " كقراءة الأعرج، إلا أنه بغير ألف. ومعنى الآية :[ التلبيس ] والتشبه.
قيل : إنما قالوا :" إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا " أي : اشتبه أمره علينا، فلا نهتدي إليه ؛ لأن وجوه البقر [ تتشابه ] يريد : أنها يشبه بعضها بعضاً، ووجوه البقر تتشابه.
قوله :﴿ إِن شَاءَ اللَّهُ ﴾ هذا شرط جوابه محذوف لدلالة " إنْ "، ما في حيّزها عليه، والتقدير : إن شاء الله هِدَايتنا للبقرة، اهتدينا، ولكنهم أخرجوه في جملة اسمية مؤكدة بحرفي تأكيد مبالغة في طلب الهِدَاية، واعترضوا بالشرط تيمُّناً بمشيئة الله تعالى. و " المهتدون " اللام : لام الابتداء داخلة على خبر " إن ".
وقال أبو البقاء : جواب الشرط " إن " وما عملت فيه عند سيبويه.
وجاز ذلك لما كان الشرط متوسطاً، وخبر " إنَّ " هو جواب الشرط في المعنى، وقد وقع بعده، فصار التقدير : إن شاء الله هدايتنا اهتدينا.
وهذا الذي قاله لا يجوز، فإنه متى وقع جواب الشرط ما لا يصلح أن يكون شرطاً وجب اقترانه بالفَاءِ، وهذه الجملة لا تصلح أن تقع شرطاً، فلو كانت جواباً لزمتها الفاء، ولا تحذف إلا ضرورة، ولا جائز أن يريد أبو البقاء أنه دالّ على الجواب، وسماه جواباً مجازاً ؛ لأنه جعل ذلك مذهباً للمبرد مقابلاً لمذهب سيبويه فقال : وقال المبرد : والجواب محذوف دلت عليه الجملة ؛ لأن الشرط معترض، فالنية به التأخير، فيصير كقولك : أنت ظالم إن فعلت.
وهذا الذي نقله عن المبرد هو المنقول عن سيبويه، والذي نقله عن سيبويه قريبٌ مما نقل عن الكوفيين وأبي زيد من أنه يجوز تقديم جواب الشَّرْط عليه، وقد ردّ عليهم البصريون بقول العرب :" أنت ظالم إن فعلت ".
إذ لو كان جواباً لوجب اقترانه بالفاء لما ذكرت ذلك.
وأصل " مُهْتَدُون " :" مُهْتَدِيُون "، فأعلّ بالحذف، وهو واضح.

فصل في الاستثناء بالمشيئة


قال الحسن رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لَمْ يَقُولُوا : إنْ شَاءَ اللَّهُ لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا أَبَداً ١٤ ".
واعلم أن التلفّظ بهذه الكلمة مندوب إليه في كلّ عمل يراد تحصيله، قاله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [ الكهف : ٢٣، ٢٤ ].
وفيه استعانة بالله وتفويض الأمور إليه، والاعتراف بقدرته.

فصل في الإرادة الكونية


احتج أهل السُّنة بهذه الآية على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى.
وعند المعتزلة أن الله تعالى لما أمرهم بذلك، فقد أراد اهتداءهم لا مَحَالَة، وحينئذ لا يبقى لقولهم :" إنْ شاء الله " فائدة.
قال ابن الخطيب : أما على قول أصحابنا، فإن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد، فحينئذ يبقى لقولهم :" إن شاء الله " فائدة.

فصل في مذهب المعتزلة في المشيئة


احتج المعتزلة بهذه الآية على أن مشيئة الله تعالى محدثة من وجهين :
الأول : أن دخول حرف " إن " يقتضي الحدوث.
الثاني : أنه تعالى علّق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء، فلم لم يكن حصول الاهتداء أزليًّا وجب ألاّ تكون مشيئة الاهتداء أزلية.

فصل في تقدير المشيئة


ذكر القفال في تقدير هذه المشيئة وجوهاً :
أحدها : وإنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيل أوصافها المميزة لها عن غيرها.
وثانيها : وإنا إن شاء الله تعريفها إيَّانا بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها.
وثالثها : وإنا إن شاء الله على هدى، أي : في استقصائنا في السّؤال عن أوصاف البقر، أي إنّا لسنا على ضلالة فيما نفعل من هذا البحث.
ورابعها : إنا بمشيئة الله نَهْتَدِي للقاتل إذا وصفت لنا هذه البقرة بما تمتاز به عن غيرها.
قال القرطبي : وفي هذا الاستثناء إنابةٌ وانقياد، ودليل نَدَم على عدم موافقة الأمر. وتقدير الكلام : وإنما لمهتدون إن شاء الله.
فقدم على ذكر الاهتداء اهتماماً به.
قوله :﴿ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ ﴾ المشهور " ذَلُولٌ " بالرفع على أنها صفة ل " بقرة "، وتوسطت " لا " للنفي كما تقدم في " لاَ فَارِض "، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي : لا هي ذلول، والجملة من هذا المبتدأ أو الخبر في [ محل ] رفع صفة ل " بقرة ".
وقرئ :" لاَ ذَلُولَ " بفتح اللام على أنها " لا " التي للتَّبرئة والخبر محذوف تقديره : لا ذلولَ ثَمَّ أو ما أشبهه، وليس المعنى على هذه القراءة، ولذلك قال الأخفس :" لا ذلول نعت، ولا يجوز نصبه ".
و " الذَّلُول " : التي ذُلِّلَت بالعمل، يقال : بقرة ذَلُول بَيِّنَةُ الذِّل بكسر الذال، ورجل ذَلِيل : بين الذُّل بضمّها، وقد تقدم عند قوله :﴿ الذِّلَّةُ ﴾ [ البقرة : ٦١ ].
[ قوله ] :﴿ تُثِيرُ الأَرْضَ ﴾ في هذه الجملة أقوال كثيرة :
أظهرها : أنها في محلّ نصب على الحال من الضمير المستكن في " ذلول " تقديره : لا تُذَلُّ حال إثارتها.
وقال ابن عطية : وهي عند قوم جملة في موضع الصفة ل " بقرة " أي : لا ذلولٌ مثيرة.
وقال أيضاً :" ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال ؛ لأنها نكرة ".
أما قوله : في موضع الصفة فإنه يلزم منه أن البقرة كانت مثيرة للأرض، وهذا لم يقل به الجمهور، بل قال به بعضهم، وسيأتي إن شاء الله.
وأما قوله : لا يجوز أن تكون حالاً يعني من " بقرة " ؛ لأنها نكرة.
فالجواب : أنَّا لا نسلم أنها حال من " بقرة "، بل من الضمير في " ذلول " كما تقدم، أو تقول : بل هي حال من النكرة ؛ لأن النكرة قد وصفت وتخصصت بقوله :" لا ذَلُول "، وإذا وصفت النكرة ساغ إتيان الحال منها اتفاقاً.
وقيل : إنها مستأنفة، [ واستئنافها على وجهين :
أحدهما : أنها خبر مبتدأ محذوف، أي : هي تثير.
والثاني : أنها مستأنفة ] بنفسها من غير تقدير مبتدأ، بل تكون جملة فعلية ابْتُدِئ بها لمجرد الإخبار بذلك. وقد منع من القول باستئنافها جماعة منهم الأَخْفَشُ عليّ بن سليمان، وعلل ذلك بوجهين :
أحدهما : أن بعده :" وَلاَ تَسْقِي الحَرْثَ " فلو كان مستأنفاً لما صحّ دخول " لا " بينه وبين " الواو ".
والثّاني : أنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها، والله تعالى نفى عنها ذلك بقوله :" لا ذَلُول " وهذا المعنى هو الذي منع أن يكون " تُثِير " صفة ل " بقرة " ؛ لأن اللازم مشترك، ولذلك قال أبو البقاء : ويجوز على قول مَنْ أثبت هذا الوجه [ يعني : كونها تثير الأرض ولا تسقي أن تكون " تثير " في موضع رفع صفة ل " بقرة ".
وقد أجاب بعضهم عن الوجه الثاني ]، فإن إثارة الأرض عبارة عن مَرَحِهَا ونَشَاطِهَا ؛ كما قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
٥٨٧- يُهِيلُ ويُذْرِي تُرْبَهُ وَيُثِيرُهُ *** إِثَارَةَ نَبَّاثِ الهَوَاجِرِ مُخْمِسِ
أي : تثير الأرض مرحاً ونشاطاً لا حَرْثاً وعملاً.
وقال أبو البقاء : وقيل : هو مستأنف، ثم قال : وهو بعيد عن الصّحة لوجهين :
أحدهما : أنه عطف عليه قوله :" وَلاَ تَسْقِي الحَرْثَ "، فنفى المعطوف، فيجب أن يكون المعطوف عليه كذلك ؛ لأنه في المعنى واحد، ألا ترى أنك لا تقول : مررت برجل قائم ولا قاعد، بل تقول : لا قاعد بغير واو، كذلك يجب أن يكون هذا.
وذكر الوجه الثاني لما تقدم، وأجاز أيضاً أن يكون " تثير " في محلّ رفع صفة ل " ذلول "، وقد تقدم خلاف هل يوصف الوصف أم لا ؟
فهذه ستة أوجه تلخيصها : أنها حال من الضمير في " ذَلُول "، أو من " بقرة "، أو صفة ل " بقرة "، أو ل " ذلول "، أو مستأنفة بإضمار مبتدأ، أو دونه.
قوله :﴿ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ﴾ الكلام في هذه كالكلام فيما قبلها من كونها صفة ل " بقرة "، أو خبر لمبتدأ محذوف.
وقال الزمخشري : و " لا " الأولى للنفي يعني الدَّاخلة على " ذلول ".
والثانية مزيدة لتأكيد الأولى ؛ لأن المعنى : لا ذلول تثير [ الأرض ] وتسقي، على أن الفعلين صفتان ل " ذَلُول "، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية.
وقرئ :" تُسْقى " بضم التاء من " أَسْقى ".
وإثارة الأرض : تحريكها وبَحْثُهَا، ومنه :﴿ وَأَثَارُواْ الأَرْضَ ﴾ [ الروم : ٩ ] أي : بالحَرْث والزراعة، وفي الحديث :" أَثِيرُوا القُرْآنَ فَإنَّهُ عِلْمُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ ".
وفي رواية :" مَنْ أَرَادَ العِلْمَ فَلْيُثوِّرِ القُرْآن١٥ ".
وجملة القول أن البقرة لا يكون بها نَقْص، فإن الذلول بالعمل لكونها تثير الأرض، وتسقي الحرث لابد وأن يظهر بها النقص.
قال القرطبي : قال الحسن : وكانت تلك البقرة وَحْشِية، ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض، ولا تسقي الحرث.
وقال : الوقف هاهنا حسن.
و " مُسَلَّمة " قيل : من العيوب مطلقاً.
وقيل : من آثار العمل المذكور.
وقيل : مسلمة من الشّبه التي هي خلاف لونها، أي : خلصت صُفْرتها عن اختلاط سائر الألوان بها، وهذا ضعيف ؛ لأن قوله :" لاَ شِيَةَ فِيهَا " يصير تكراراً.
و " شِيَة " : مصدر وَشَيْتُ الثوب أَشِيه وَشْياً وَشِيَةً، حذفت فاؤها ؛ لوقوعها بين ياء وكسرة في المضارع، ثم حمل باقي الباب عليه، ووزنها " عِلَةٌ " ومثلها :
" صِلَةٌ وعِدَةٌ وَزِنَة ".
وهي عبارة عن اللُّمْعَة المخالفة للون، ومنه : ثوب مَوْشِيٌّ : أي : منسوج بلونين فأكثر، وثور مَوْشِيٌّ القَوَائِمِ، أي : أَبْلَقُهَا ؛ قال :[ البسيط ]
٥٨٨- مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ *** طَاوِي المَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ
ومنه : الواشي للنَّمَّام ؛ لأنه يَشِي حديثه، أي : يزينه ويخلطه بالكذب.
وقال بعضهم : ولا يقال له وَاشٍ حتى يغير كلامه ويزينه.
ويقال : ثور أَشْيَهُ، وفرس أَبْلَقُ، وكَبْش أخْرَجُ، وتَيْس أَبْرَق، وغُراب أَبْقَع، كل ذلك بمعنى البلقة.
و " شية " اسم " لا "، و " فيها " خبرها.

فصل في ضبط الحيوان بالصفة


دلت هذه الآيات على ضَبْطِ الحيوان بالصفة، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السَّلَمُ فيه، وكذلك كل ما ضبط بالصفة.
وقال عليه الصلاة والسلام :
" لاَ تَصِفُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا١٦ ". فجعل عليه الصلاة والسلام الصّفة تقوم مقام الرؤية.
قوله :﴿ الآنَ جِئْتَ ﴾ الآن منصوب ب " جئت "، وهي ظَرْف للزّمان يقتضي الحال، ويخلص المضارع له عند جمهور النّحاة.
وقال بعضهم : هذا هو الغالب، وقد جاء حيث لا يمكن أن يكون للحال، كقوله :﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ ﴾ [ الجن : ٩ ] ﴿ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] فلو كان يقتضي الحال لما جاء مع فعل الشرط والأمر اللذين هما نصّ في الاستقبال، وعبر عنه هذا القائل بعبارة تُوافق مذهبه وهي :" الآن " لوقت حصر جميعه أو بعضه يريد بقوله :" أو بعضه " نحو :" فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ "، وهو مبني.
واختلف في علّة بنائه : فقال الزَّجَّاج : لأنه تضمن معنى الإشارة ؛ لأن معنى أفعل الآن، أي : هذا الوقت.
وقيل : لأنه أشبه الحرف في لزوم لَفْظ واحد، من حيث إنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمع ولا يصغّر.
وقيل : لأنه تضمّن معنى حرف التعريف، وهو الألف واللام ك " أمس "، وهذه الألف واللام زائدة فيه بدليل بنائه، ولم يُعْهَد مُعرفٌ ب " أل " إلا معرباً، ولزمت فيه الألف واللام كما لزمت في " الذي والّتي " وبابهما، ويعزى هذا للفارسي، وهو مردود بأن التضمين اختصار، فكيف يختصر الشيء، ثم يؤتى بمثل لفظه.
وهو لازم للنظر فيه، ولا يتصرف غالباً، وقد وقع مبتدأ في قوله عليه الصلاة والسلام :" فَهُوَ يَهْوِي في قَعْرِهَا الآنَ حِينَ انْتَهَى ".
ف " الآن " مبتدأ، وبني على الفتح لما تقدم، و " حين " خبره، بُنِيَ لإضافته إلى غير متمكِّن، ومجروراً في قوله :
٥٨٩- أَإِلَى الآنِ لاَ يَبِينُ ارْعِوَاءٌ ***. . . 
وادعى بعضهم إعرابه مستدلاًّ بقوله :[ الطويل ]
٥٩٠- كَأَنَّهُمَا مِلآنِ لَمْ يَتَغَيَّرا *** وَقَدْ مَرَّ لِلدَّارَيْنِ مِنَ بَعْدِنَا عَصْرُ
يريد :" مِنَ الآنِ " فجره بالكسرة، وهذا يحتمل أن يكون بني على الكسر، وزعم الفراء أنه منقول من فعل ماض، وأن أصله " آنَ " بمعنى :" حان " فدخلت عليه " أل " زائدة، واسْتُصْحِب بناؤه على الفَتْح، وجعله مثل قولهم " ما رأيته من شب إلى دُبَّ ".
وقوله عليه الصلاة والسلام :" وأنْهَاكُمْ عَنْ قِيلٍ وَقَال " .
ورد عليه بأن " أل " لا تدخل على المنقول من فعل ماض، وبأنه كان ينبغي أن يجوز إعرابه كنظائره.
وعنه قول آخر أن أصله " أوان " فحذفت الألف، ثم قلبت الواو ألفاً، فعلى هذا ألفه عن واو.
وأدخله الرَّاغب في باب " أين "، فتكون ألفه عن " ياء ". والصواب الأول.
وقرئ : قالوا : ألآن بتحقيق الهمزة من غير نَقْل، وهي قراءة الجمهور.
و " قَالُ : لأنَ " بنقل حركة الهمزة على اللام قبلها، وحذف الهمزة، وهو قياس مطّرد، وبه قرأ نافع وحمزة باختلاف عنه.
و " قَالُوا : لآنَ " بثبوت " الواو " من " قالوا " ؛ لأنها إنما حذفت لالتقاء الساكنين، وقد تحركت " اللام " لنقل حركة " الهمزة " إليها، واعتدوا بذلك كما قالوا في الأحمر " مَحْمَر ".
وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى في ﴿ عَاداً الأُولَى ﴾ [ النجم : ٥٠ ] ويحكى وجه رابع " قَالُوا : آلآنَ " بقطع همزة الوصل، وهو بعيد، و " بِالحَق " يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون باء التَّعدية كالهمزة كأنه قيل :" أَجَأْتَ الحق "، أي : ذكرته.
الثاني : أن يكون في محلّ نصب على الحال من فاعل " جئت " أي : جئت ملتبساً بالحق، أو " ومعك الحق ".

فصل في تحقيق أنهم لم يكفروا


قال القاضي : قولهم :" الآن جِئْتَ بِالْحَقِّ " كفر من قِبَلِهم لا محالة ؛ لأنه يدل على أنهم اعتقدوا فيما تقدم من الأوامر أنها ما كانت حقّة.
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به حتى تميزت من غيرها فلا يكون كفراً.
قوله :" فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ " أي : فذبحوا البقرة. و " كَادُوا " كاد واسمها وخبرها، والكثير في خبرها تجرده من " أن ".
وشذ قوله :[ الرجز ]
٥٩١- قَدْ كَادَ مِنْ طُولِ الْبِلَى أَنْ يَمْصَحَا ***. . .
وهي عكس " عسى " وذكروا ل " كاد " تفسيرين :
أحدهما : قالوا : نفيها إثبات وإثباتها نفي، فقوله : كاد يفعل كذا، معناه : قرب من أن يفعل، لكنه ما فعله.
والثاني : قال عبد القاهر النحوي : إن " كاد " لمقاربة الفعل، فقوله :" كاد يفعل " [ معناه ] قرب من فعله.
وقوله :" ما كاد يفعل " معناه : ما قرب منه.
وللأولين أن يحتجوا بهذه الآية ؛ لأن قوله :" ومَا كَادُوا " معناه ما قاربوا الفعل، ونفى المقاربة من الفعل يناقض إثبات وقوع الفعل، فلو كانت " كاد " للمقاربة لزم وقوع التناقض في الآية، وقد تقدم الكلام على كاد عند قوله ﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ ﴾ [ البقرة : ٢٠ ].

فصل في النسخ بالأشقّ


روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لو ذبحوا أيّة بقرة أرادوا لأجزأت عنهم ؛ لكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله تعالى عليهم، فعلى هذا نقول : التكاليف متغيرة فكلفوا في الأول أية بقرة كانت، فلما لم
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ﴾.
أعلم أن وقوع ذلك القتل كان متقدماً على الأمر بالذبح، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتل، وعن ضرب القتيل ببعض البقرة، فلا يجب أن يكون متقدماً في التلاوة في الأول ؛ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود، فأما التقدم في الذكر فغير واجب ؛ لأنه تارة يتقدّم ذكر السبب على الحكم، وتارة على العكس، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم الله تعالى بذبح البقرة فلما ذبحوها قال : وإذ قتلتم نفساً من قبل، واختلفتم وتنازعتم، فإني أظهر لكم القاتل الذي [ سترتموه ] بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة.
وذلك مستقيم والواو لا تقتضي الترتيب.
قال القرطبي :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ [ هود : ٤٠ ] إلى قوله :" إِلاّ قَلِيْلٌ " فذكر إهلاك من هلك منهم، ثم عطف عليه بقول :﴿ وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ﴾ [ هود : ٤١ ] فذكر الركوب متأخراً، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك، ومثله في القرآن كثير، قال تعالى :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً ﴾ [ الكهف : ١، ٢ ] أي : أنزل على عبده الكتاب قَيِّماً ولم يجعل له عوجاً فإن قيل [ هب أنه ] لا خلل في هذا النظم [ ولكن النظم ] الآخر كان مستحسناً، فما الفائدة في ترجيح هذا النظم ؟
قلنا : إنما قدمت قصة الأمر بالذبح على ذلك القتل ؛ لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة، ولو كانت قصة واحدة لذهب الغرض من تثنية التفريع.

فصل في نسبة القتل إلى جميعهم


" فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا " فعل وفاعل، والفاء للسببية ؛ لأن التَّدَارُؤَ كان مسبباً عن القتل، ونَسَبَ القتل إلى الجميع، وإن لم يصدر إلا من واحد أو اثنين كما قيل ؛ لأنه وُجِد فيهم وهو مجاز شائع.
وأصل " ادّارأتم " : تدارأتم تَفَاعلتم من الدَّرْء هو الدّفع، فاجتمعت " التاء " مع " الدال " وهي مُقارِبتها، فأريد الإدغام فقلبت التاء دالاً، وسكنت لأجل الإدغام، ولا يمكن الابتداء بساكن، فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بها فبقي " ادارأتم "، والأصل ادْدَارأتم فأدغم، وهذا مطرد في كل فعل على " تفاعل " أو " تفعّل " فاؤه دال نحو :" تَدَايَنَ وادَّايَنَ، وتَدَيَّنَ وادَّيَنَ " أو طاء، أو ظاء، أو صاداً، أو ضاداً نحو :" تطاير واطَّايَر " وتطير واطّير [ وتظاهر واظَّاهر، وتطهر واطَّهَّر، والمصدر على التفاعل أو التفعّل نحو : تَدَارُؤ وتَطَهُّر ] نظراً إلى الأصل.
وهذا أصل نافع في جميع الأبواب.
معنى " ادارأتم " : اختلفتم واختصمتم في شأنها.
وقيل :[ تدافعتم ] أي كل واحد ينفي القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره.
والكناية في قوله :" فيها " للنفس.
وقال القفال : ويحتمل إلى القتلة ؛ لأن قوله :" قتلتم " يدل على المصدر.
قوله :﴿ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ الله رفع بالابتداء و " مخرج " خبره، و " ما " موصولة منصوبة المحل باسم الفاعل.
فإن قيل : اسم الفاعل لا يعمل بمعنى الماضي إلا محلّى بالألف واللام.
فالجواب : أن هذه حكاية حال ماضية، واسم الفاعل فيها غير ماض وهذا كقوله تعالى :﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ ﴾ [ الكهف : ١٨ ].
والكسائي يُعْمِله مطلقاً، ويستدل بهذا ونحوه. و " ما " يجوز أن تكون موصولة اسمية، فلا بد من عائد، تقديره : مخرج الذي كنتم تكتمونه، ويجوز أن تكون مصدرية، والمصدر واقع موقع المفعول به، أي : مخرج مكتومكم وهذه الجملة لا محلّ لها من الإعراب ؛ لأنها معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهما :" فَادَّارَأْتُمْ " وقوله :" فَقُلْنَا : اضْرِبُوهُ " قاله الزمخشري.
والضمير في : فاضربوه " يعود على " النفس " لتأويلها بمعنى الشخص والإنسان، أو على القتيل المدلول عليه بقوله :﴿ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ والجملة من " اضربوه " في محلّ نصب بالقول.
وفي الكلام محذوف والتقدير : فقلنا : اضربوه ببعضها فضربوه ببعضها فحيي، إلا أنه حذف ذلك لدلالة قوله :﴿ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى ﴾ عليه، فهو كقوله :﴿ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ ﴾ [ البقرة : ٦٠ ] أي : فضرب فانفجرت [ وقوله :﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ ﴾ [ البقرة : ١٨٤ ] أي : فأفطر فعدّة ]١٧ وقوله :﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ] أي : فحلق ففدية.

فصل في بيان المضروب به


اختلفوا في البعض الذي ضربوا القتيل به.
فقيل : اللِّسَان، لأنه آلة الكلام قاله الضحاك والحسين بن الفَضْل.
وقال سعيد بن جُبَير : بعجب ذنبها قاله يمان بن رئاب وهو أولى ؛ لأنه أساس البدن الذي ركب عليه الخلق، وهو أول ما يخلق وآخر ما يبلى.
وقال مجاهد : بذنبها.
وقال عكرمة والكَلْبي : بفخذها الأيمن١٨.
وقال السّدّي : بالبَضْعة التي بين كتفيها.
وقيل : بأذنها.
وقال ابن عباس : بالعظم الذي يلي الغضروف، وهو أصل الأذن [ وهو المقتل ]١٩.
والأقرب أنهم كانوا مخيرين في أبعاض البقرة ؛ لأنهم أمروا بضرب القتيل ببعض البقرة وأي بعض من أبعاض البقرة ضربوا القتيل به، فإنهم كانوا ممتثلين الأمر، والإتيان بالمأمور به يدل على الخروج عن العُهْدة.
وليس في القرآن ما يدل على تعيين ذلك البعض، فإن ورد فيه خبر صحيح قُبِلَ، وإلا وجب السكوت عنه.
فإن قيل : ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أن الله تعالى قادر على أن يحييه ابتداء ؟
فالجواب : أن الفائدة فيه لتكون الحُجّة أوكد، وعن الحيلة أبعد، فقد كان يجوز في العقل للملحد أن يوهمهم أن موسى عليه الصلاة والسلام إنما أحياه بضرب من السِّحر أو من الحيلة، فلما حيي بالضرب بقطعة من البقرة المذبوحة فانتفت الشبّهة.
فإن قيل : هلا أمر بذبح غير البقرة ؟
فالجواب : أن الكلام في غيرها لو أمروا به كالكلام فيها.
ثم ذكروا فيها فوائد :
أحدها : التقريب بِالقَرَابِيْن التي كانت العادة بها جارية، ولأن هذا القُرْبَان كان عندهم أعظم القرابين، ولما فيه من مزيد الثواب لتحمل الكُلْفة في تحصيل هذه البقرة.
قيل : على غلاء ثمنها، ولما فيه من حصول المال العظيم لمالك البقرة.
قوله :﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى ﴾ " كذلك " في محلّ نصب ؛ لأنه نعت لمصدر محذوف تقديره : يحيي الله الموتى إحياء مثل ذلك الإحياء، فيتعلّق بمحذوف، أي : إحياء كائناً كذلك الإحياء، أو لأنه حال من المصدر المعروف، أي : ويريكم الإراءة حال كونها مُشْبِهَةً ذلك الإحياء، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه.
و " الموتى " جمع مَيِّت، وفي هذه الإشارة وجهان :
أحدهما : أنها إشارة إلى نفس ذلك الميت.
والثاني : أنها احتجاج على صحّة الإعادة. قال الأصم : إنه على المشركين ؛ لأنه إن ظهر لهم بالتَّوَاتر [ أن هذا الإحياء قد كان على هذه الوجه علموا صحّة الإعادة، وإن لم يظهر ذلك بالتواتر ]، فإنه داعية إلى التفكُّر. وقال القَفّال : ظاهره يدلّ على أن الله تعالى قال هذا لبني إسرائيل أي : إحياء الله الموتى يكون مثل هذا الذي شاهدتم ؛ لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلاَّ أنهم لم يؤمنوا به إلاَّ من طريق الاستدلال، ولم يشاهدوا شيئاً منه، فإذا شاهدوه اطمأنت قلوبهم، وانتفت عنهم الشّبهة، فأحيا الله القتيلَ عياناً، ثم قال لهم : كذلك يحيي الله المَوْتَى، أي : كما أحياها في الدُّنيا يحييها في الآخرة من غير احتياج إلى مادّة ومثال وآلة التي لا يخلو منها المستدل.
قوله :" وَيُريكُمْ آيَاتِهِ " الرؤيا هنا بَصَرية، فالهمزة للتعدية أكسبت الفعل مفعولاً ثانياً وهو " آياته "، والمعنى : يجعلكم مُبْصرين آياته.
و " كم " هو المفعول الأول، وأصل " يريكم " : يُأَرْإِيكم، فحذفت همزة " أفعل " في المضارعة لما تقدم في ﴿ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ البقرة : ٣ ] وبابه، [ فبقي يُرْئيكم ]٢٠، فنقلت حركة الهمزة على " الراء "، وحذفت " الهمزة " تخفيفاً، وهو نقل لازم في مادة " رأى " وبابه دون غيره مما عينه همزة نحو :" نأى ينأى " ولا يجوز عدم النقل في " رأى " وبابه إلا ضرورة كقوله :[ الوافر ]
٥٩٢- أُرِي عَيْنَيَّ مَا لَمْ تَرْأَيَاهُ كِلاَنَا عَالِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ٢١

فصل في نظم الآية


[ لقائل أن يقول ]٢٢ : إن ذلك كان آية واحدة فلم سميت بالآيات ؟
فالجواب : أنها تدلّ على وجود الصانع القادر على المقدورات العالم بكلّ المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع، وعلى صدق موسى عليه الصَّلاة والسَّلام - وعلى براءة من لم يقتل، وعلى تعيين القاتل، فهي وإن كانت آية واحدة إلا أنها لَمَّا دلت على [ هذه ]٢٣ المدلولات الكبيرة لا جرم جرت مجرى الآيات.
قوله :" لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " تقدم تفسير العَقْل.
قال الواقديّ٢٤ : كل ما في القرآن من قوله :" لَعَلَّكُمْ " فهو بمعنى " لكن " إلاّ التي في الشعراء :﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ [ الشعراء : ١٢٩ ] فإنه بمعنى [ لعلكم ]٢٥ تخلدون فلا تموتون.
فإن قيل : القوم كانوا عقلاء قبل عرض هذه الآيات عليهم، وإذا كانوا عقلاء امتنع أن يقال : إني عرضت عليك الآية الفلانية لكي تصير عاقلاً [ فالجواب أنه ]٢٦ لا يمكن إجراء الآية على ظاهرها، بل لا بد من التأويل، وهو أن يكون المراد : لعلكم تعلمون على [ قلة ]٢٧ عقولكم وأن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص حتى لا ينكروا المبعث

فصل في توريث القاتل


ذكر كثير من المتقدمين أن من جملة أحكام هذه الآية أن القاتل هل يرث أم لا ؟
قالوا : لا ؛ لأنه روي عن عَبِيْدَةَ السَّلْمَاني أن الرجل القاتل في هذه [ الواقعة ]٢٨ حرم الميراث لكونه قاتلاً.
قال القاضي :" لا يجوز جعل هذه المسألة من أحكام هذه الآية ؛ لأنه ليس في ظاهر الآية أن القاتل هل كان وارثاً لقتيله أم لا ؟ وبتقدير أن يكون وارثاً فهل حرم الميراث أم لا ؟ وليس يجب إذ روي عن عبيدة أن القاتل حرم الميراث لكونه قاتلاً، أي : بعد ذلك في جملة أحكام القرآن إذا كان لا يدلّ عليه لا مجملاً ولا مفصلاً، وإذا كان كذلك لم يثبت أن شرعهم كشرعنا، وأنه [ لا ] يلزم الاقتداء لهم.
واستدل مالك بهذه الآية على صحّة القول بالقَسَامَةِ بقول المقتول : حقّي عند فلان، أو فلان قتلني.
ومنعه الشافعي وغيره ؛ لأن قول القتيل : دمي عند فلان، أو فلان قتلني خبر يحتمل الصدق والكذب، ودم المدعى عليه معصوم غير مباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاحتمال، وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة فأخبر تعالى أنه يحييه، وذكره يتضمن الإخبار بقاتله خبر ما لا يدخله الاحتمال.
قال ابن العربي : المعجزة إنما كانت في إحيائه، فلما صار حيًّا صار كلامه كسائر كلام الناس.
قال القفال: يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب الذين كانوا في زمان محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أي: اشتدت قلوبكم وقَسَت وضلّت من بعد البَيّنات التي جاءت أوائلكم، والعقاب الذي نزل بمن أَصَرَّ على المعصية منهم، والآيات التي جاءهم بها أنبياءهم، فأخبر بذلك عن طُغْيَانهم، وجَفَائهم على ماعندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب.
قال: لأنه خطاب مُشَافهة فَحَمْله على الحاضرين أولى، ويحتمل أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمان موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ خصوصاً. وروي أن ذلك القتيل لما عين القاتل كذبه، وما ترك الإنكار وساعده عليه جمع، فتكون الإشارة لقوله بعد ذلك إلى ما أظهره الله تعالى من إحياء القتيل بِضَرْبِهِ ببعض البقرة المذبوحة. ويحتمل أن تكون الإشارة إلى جميع ما عدده الله تعالى من النعم العظيمة،
183
والآيات الباهرة التي آظهرها الله تعالى على يد موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فإنّ أولئك اليهود بعد أن كثرت مشاهدتها لها ما خلوا من العِنَاد والاعتراض على موسى عليه الصَّلاة والسَّلام.
فإن قيل: لم أتى ب «ثم» التي تقتضى الترتيب والمُهْلة، فقال: «ثم قست»، وقال: «مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ» والبَعْدية لا تقتضي التعقيب، وقلوبهم لم تزل قاسيةً مع رؤية مالآية وبعدها؟
فالجواب: أنه أتى ب «من» التي لابتداء الغاية فقال: من بعد ذلك فجعل ابتداء المقصود عقيب رؤية الآيات، فنزلت المهلة.
وقال أبو عبيدة: «معنى قَسَتْ: جفت».
وقال الواقدي: خفت من الشّدة فلم تكن.
وقال المؤرخ: «غلظت».
وقيل: اسودت.
وقال االزجاج: «القَسْوة ذهاب اللّين والرحمة والخشوع والخضوع».
قوله: «أَوْ أشَدُّ قَسْوَةً» «أو» هذه ك «أو» التي في قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ [البقرة: ١٩] فكل ما قبل ثمة يمكن القول به هنا، ولما قال أبو الأسود: [الوافر]
٥٩٣ - أُحِبُّ مُحَمَّداً حُبًّا شَديداً وَعَبَّاساً وَحَمْزَةَ أَوْ عَلِيًّا
اعترضوا عليه في قوله: «أو» التي تقتضي الشك، وقالوا له: أشككت؟ فقال: كلا، واستدل بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ﴾ [سبأ: ٢٤] فقال: أو كان شاكًّا من أخبر بهذا؟ وإنما قصد رَحِمَهُ اللهُ الإبهام على المخاطب.
قال ابن الخطيب: كلمة «أو» للتردد، وهي لا تليق بعلاَّم الغيوب، فلا بد من التأويل وهو من وجوه: أحدهما: أنها بمعنى «الواو» كقوله: ﴿إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧] وقوله: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ﴾ [النور: ٣١] وقوله: ﴿أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ﴾
[النور: ٦١] ومن نظائره قوله: ﴿لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى﴾ [طه: ٤٤].
وثانيها: أن المراد: فهي كالحجارة ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة.
[وثالثها: أي: في نظركم واعتقادكم إذا طلعتم على أحوال قلوبهم قلتم: إنها كالحجارة أو أشدّ قسوة من الحجارة].
184
ورابعها: أن «أو» بمعنى «بل» ؛ وقال الشاعر: [الطويل]
٥٩٤ - فَوَاللهِ مَا أَدْرِي أَسَلْمَى تَقَوَّلَتْ أَمِ النَّوْمُ أَو كُلُّ إِلَيَّ حَبِيبُ
وخامسها: أنه على حد قولك: «ما أكل إلا حلواً أو حامضاً» أي: طعامه لا يخرج عن هذين، وليس الغرض إيقاع التردّد بل نفي غيرهما.
وسادسها: أن «أو» حرف إباحة، أي: بأي هذين شبّهت قلوبهم كان صدقاً كقولهم: «جالس الحَسَنَ أو ابن سيرين» أي أيهما جالست كنت مصيباً أيضاً. و «أشَدّ» مرفوع لعطفه على محل «كَالحِجَارةِ» أي: فهي مِثْلُ الحجارة أو أشد. والكاف يجوز أن تكون حرفاً فتتعلّق بمحذوف، وأن كون اسماً فلا تتعلّق بشيء، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفاً أي: أو هي أشد.
و «قسوة» منصوب على التمييز؛ لأن الإبْهَامَ حصل في نسبة التفضيل إليهما، والمفضل عليه محذوف للدلالة عليه، أي: أشدّ قسوة من الحِجَارَةِ.
وقرىء: «أَشَدْ» بالفتح وَوَجْهُهَا: أنه عطفها على «الحجارة» أي: فهي كالحجارة أو [كأشد] منها.
قال الزمخشري موجهاً للرفع: و «أشد» معطوف على الكاف، إما على معنى: أو مثل أشد، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وتعضده قراءة الأعمش بنصب الدال عطفاً على «الحجارة» ويجوز على ما قاله أن يكون مجروراً بالمضاف المحذوف ترك على حاله، كقراءة: ﴿والله يُرِيدُ الآخرة﴾ [الأنفال: ٦٧] بجر «الآخرة» أي: ثواب الآخرة، فيحصل من هذا أن فتحه الدال يُحتمل أن تكون للنصب، وأن تكون للجر.
وقال الزمخشري أيضاً: فإن قلت: لم قيل: أشدُّ قسوة مما يَخْرُج منه «أفعل» التفضيل وفعل التعجب؟ يعني: أنه [مستكمل] للشروط من كونه ثلاثياً تاماً غير لون ولا عاهة متصرفاً غير ملازم للنفي.
ثم قال: قلت: لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة، ووجهٌ آخر وهو الاّ يقصد معنى الأقسى، ولكنه [قصد] وصف القسوة بالشدة، كأنه «اشتدت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشد قسوة».
185
وهذا الكلام حسن، إلا أن كون «القسوة» جوز بناء التعجّب منها فيه نظر من حيث إنها من الأمور الخِلْقِية أو من العيوب، وكلاهما ممنوع منه بناء البابين.
وقرىء: «قاسوة».

فصل في أوجه شدة القسوة من الحجارة


إنما وصفها بأنها أشد قسوةً من الحجارة لوجوه:
أحدها: أن الحجارة لو كانت عاقلة، ورأت هذه الآية لقبلتها كما قال: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله﴾
[الحشر: ٢١].
وثانيها: أن الحجارة ليس فيها امتناع لما يحدث فيها من أمر الله فقال: وإن كانت قاسيةً، بل منصرفة على مراد الله تعالى غير ممتنعة، وهؤلاء مع ما وصفنا في اتّصَال الآيات عندهم، وتتابع نِعَمِ الله عليهم يمتنعون من الطاعة، ولا تلين قلوبهم بمعرفة حق الله.
وثالثها: أن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه، أما قلوب هؤلاء فلا نفع منها ألبتة.

فصل في الرد على المعتزلة


قال القاضي: إن كان الدَّوام على الكفر مخلوف فيهم، فكيف يحسن ذمهم؟ فلو قال: إن الذي خلق الصَّلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القَسْوة، والخالق في الأحجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكُفر بخلق الإيمان فينا، فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجّتهم على موسى أَوْكد من حجّته عليهم، وهذا النمط قد تكرر مراراً.
قوله: ﴿وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار﴾.
واعلم أنه سبحانه وتعالى فَضَّل الحجارة على قلوبهم بأنه قد يحصل في الحجارة أنواع من المنافع، ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع.
فأولها: قوله: «وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار» واللاّم في «لَمَا» لام الابتداء دخلت على اسم «إن» لتقدم الخبر، وهو «من الحجارة»، وهي «ما» التي بمعنى «الذي» في محلّ النصب، ولو لم يتقدم الخبر لم يَجُزْ دخول اللام على الاسم؛ لئلاَّ يتوالى حَرْفاً تأكيد، وإن كان الأصل يقتضي ذلك، والضمير في «منه» يعود على «ما» حملاً على اللفظ.
قال أبو البقاء: ولو كان في غير القرآن لجاز «منها» على المعنى.
186
وهذا الذي قاله قد قرأ به أُبّي بن كعب والضحاك.
وقرأ مالك بن دينار «يَنْفَجِر» من الانفجار.
وقرأ قتادة: «وَإِنْ مِنَ الْحِجَارَةِ» بتخفيف «إنْ» من الثقيلة، وأتى باللام فارقة بينها وبين «إن» النافية، وكذلك: «وَإِنْ منْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ» و «إنْ مِنْهَا لَمَا يَهْبِط»، وهذه القرءاة تحتمل أن تكون «ما» فيها في محل رفع وهو المشهور، وأن تكون في محلّ نصب؛ لأن «إنْ» المخففة سمع فيها الإعمال والإهمال، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ [هود: ١١١] في قراءة من قرأه.
وقال في موضع آخر: ﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا﴾ [يس: ٣٢] إلا أن المشهور الإهمال.
والتفجير: الفتح بالسّعة والكثرة؛ يقال: انفجرت قرحة فلان أي: انشقت بالمدّة، ومنه: الفَجْر والفُجُور.

فصل في تولد الأنهار


قالت الحكماء: الأنهار إنما تتولّد عن أَبْخِرَةٍ تجتمع في باطن الأرض، فإن كان ظاهر الأرض رَخْواً انشقت تلك الأبخرة وانفصلت، وإن كان ظاهر الأرض صلباً حجريّاً اجتمعت تلك الأَبْخِرَةُ، ولا يزال يتصل بعضها ببعض حتى تكثر كثرة عظيمة، فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مَدِّها أن تنشقّ الأرض، وتسيل تلك المياه أوديةً وأنهاراً.
قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء﴾ أي: وإنَّ من الحجارة لما يتصدّع، فينبع الماء منه فيكون عَيْناً لا نهراً جارياً.
و «يَشَّقَّقُ» أصله: يَتَشَقّق، فأدغم وبالأصل قرأ الأعمش، وقرأ طلحة بن
187
مصرف: «لَمَّا بتشديد» الميم «في الموضعين قال ابن عطية:» وهي قراءة غير متّجهة «.
وقرأ أيضا:»
ينشقّ «بالنون وفاعله ضمير» ما «.
وقال ابو البقاء: ويجوز أن يكون فاعله ضمير»
الماء «لأن» يَشَّقَّقُ «يجوز أن يُجْعل ل» الماء «على المعنى، فيكون معك فِعْلان، فيعمل الثاني منهما في الماء، وفاعل الأول مضمر على شريطة التفسير.
وعند الكوفيين يعمل الأول، فيكون في الثاني ضمير، يعني: أنه من باب التنازع، ولا بد من حذف عائد من»
يشقق «على» ما «الموصولة دلَّ عليه قوله:» منه «، والتقدير: وإن من الحجارة لما يشقق الماء منه، فيخرج الماء منه.
وقال أيضاً: ولو قرىء:»
تتفجّر «بالتاء جاز. قال أبو حاتم: يجوز» لما تتفجر «بالتاء؛ لأنه أنثه بتأنيث الأنهار، وهذا لا يكون في» تشقق «يعني التأنيث.
قال النَّحَّاس: يجوز ما أنكره على المعنى، لأن المعنى: وإن منها الحجارة تتشقق يعني فيراعى به معنى»
لما «، فإنها واقعة على الحجارة.
قوله:»
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله «.
قال أبو مُسْلم:»
الضمير في قوله: «وَإِنَّ مِنْها» راجع إلى «القلوب»، فإنه يجوز عليهما الخَشْيَة، والحجارة لا يجوز عليها الخَشْيَة. وقد تقدم ذكر القلوب كما تقدم ذكر الحجارة، وأقصى ما في الباب أن الحجارة أقرب المذكورين إلاّ أنّ هذا الوصف ألْيَقُ بالقلوب من الحجارة، فوجب رجوع الضمير إلى «القلوب» دون «الحجارة»، وفيه بعد لتنافر الضّمائر.
وقال الجمهور المفسرين: الضمير عائد إلى «الحجارة».
وقالوا: يجوز أن يكون حقيقة على معنى أن الله خلق فيها قَابِليَّةً لذلك، وأن المراد من ذلك جَبَلُ موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين تقطع وتجلّى له ربه، وذلك لأن الله
188
تعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدْرَاك، وهذا غير مستعبد في قدرة الله تعالى.
ونظيره قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت: ٢١].
فكما جعل الجِلْد ينطق ويسمع ويعقل، فكذلك الجَبَل وصفه بالخشية.
وقال أيضاً: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله﴾ [الحشر: ٢١].
وروي أنه حنّ الجِذْع لصعود رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المنبر، ولما أتى الوحي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أول المبعث، وانصرف رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى منزله سلمت عليه الحِجَارَةُ فكلها كانت تقول: السَّلام عليك يا رسول الله.
قال مجاهد: ما تَرَدَّى حَجَرٌ من رأس جبل، ولا تَفَجَّرَ نَهْرٌ من حَجَر، ولا خرج منه ماء إلاَّ من خشية الله، نزل بذلك القرآنُ، مثله عن ابن جُرَيْجِ وثبت عنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: «إنَّ حَجَراً كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ فِي الجَاهِلِيَّةِ إنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُوكَ عَلَى ظَهْري فَيُعَذّبني اللهُ فَنَادَاهُ حِرَاءٌ:» إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ «وقوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة﴾ [الأحزاب: ٧٢] الآية.
وأنكرت المعتزلة ذلك، ولا يلتفت إليهم؛ لأنه لا دليل لهم إلا مجرد الاستبعاد.
لو قال بعض المفسِّرين: الضمير عائدٌ إلى»
الحجارة «و» الحجارة «لا تعقلُ، ولا تَفْهَم، فلا بدَّ من التأويل، فقال بعضُهُمْ: إسناد الهبوط استعارة؛ كقوله: [الكامل]
٥٩٥ - لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ سُورُ الْمَدِينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ
وقوله:»
مِنْ خَشْيَةِ اللهِ «أي: ذلك الهبوط لو وجد من العاقل لكان به خاشياً لله، وهو كقوله تعالى: ﴿جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ﴾ [الكهف: ٧٧] أي جداراً قد ظهر فيه المَيَلاَن
189
ومقاربة السقوط ما لو ظهر مثله في حيّ مختارٍ، لكان مريداً للانقضاض، ونحو هذا قوله: [الطويل]
٥٩٦ - بَخِيْلٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ تَرَى الأُكْمَ فِيهِ سُجَّداً لِلْحَوَافِرِ
فجعل ما ظهر في الأكم من أثر الحَوَافر من عدم امتناعها مِنْ دفع ذلك عن نفسها كالسُّجود منها للحوافر.
الوجه الثاني: من التأويل: قوله:» مِنْ خَشْيَةِ اللهِ «: من الحجارة ما ينزل، وما يشقق، ويتزايل بعض عن بعض عند الزلازل من أجل ما يريد الله بذلك من خَشْية عباده له وفزعهم إليه بالدعاء والتوبة.
وتحقيقه أنه كان المقصود الأصلي من أهباط الأحجار في الزلازل الشديدة أن تحصل الخشية في القلوب.
الوجه الثالث: قال الجُبَّائي:»
الحجارة «البَرَدُ الذي يهبط من السحاب تخويفاً من الله تعالى لعباده لِيَزْجُرَهُمْ به.
قال: وقوله:»
مِنْ خَشْيَةِ اللهِ «أي: خشية الله، أي: ينزل بالتخويف للعباد، أو بما يوجب الخشية لله، كما تقول: نزل القرآن بتحريم كذا، وتحليل كذا، أي: بإيجاب ذلك على الناس.
قال القاضي: هذا التأويل ترك للظَّاهر من غير ضرورة؛ لأن البَرَد لا يوصف بالحجارة؛ لأنه ماء في الحقيقة.
قوله:»
مِنْ خَشْيَةِ اللهِ «منصوب المحلّ متعلق ب» يهبط «، و» من «للتعليل.
وقال أبو البقاء:»
من «في موضع نصب ب» يهبط «، كما تقول: يهبط بخشية الله، فجعلها بمعنى» الباء « [المعدية] وهذا فيه نظر لا يخفى.
و «خشية»
مصدر مضاف للمفعول تقديره: من أن يخشى الله، وإسناد الهبوط إليها استعارة؛ كقوله: [الكامل]
٥٩٧ - لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ سُورُ الْمَدِينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ
ويجوز أن يكون حقيقة على معنى: أن الله خلق فيها قابليّةً لذلك.
وقيل: الضمير في «منها» يعود على «القلوب»، وفيه بُعْد لتنافر الضمائر.
190
قوله: «وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ» قد تقدم في قوله: «وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ».
قال القرطبي: «بغافل» في موضع نصب على لغة «الحِجَاز»، وعلى لغة «تميم» في موضع رفع.
قوله: «عَمَّا تَعْمَلُونَ» متعلّق ب «غافل»، و «ما» موصولة اسمية، والعائد الضمير، أي: تعملونه، أو مصدرية فلا يحتاج إليه أي: عن عملكم، ويجوز أن يكون واقعاً موقع المفعول به، ويجوز ألاّ يكون.
وقرىء: يَعْمَلُونَ «بالياء والتاء.

فصل في المقصود بالآية


والمعنى: أن الله بِالْمِرصَاد لهؤلاء القاسية قلوبهم، وحافظ لأعمالهم مُحْصٍ لهان فهو مجازيهم بها وهو كقوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾ [مريم: ٦٤] وهذا وعيد وتخويف كبير.
فإن قيل: هل يصح أن يوصف الله بأنه ليس بغافل؟
قال القاضي: لا يصح؛ لأنه يوهم جواز الغَفْلة عليه، وليس الأمر كذلك؛ لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحّتها عليه، بدليل قوله ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: ١٤].
191
قال القرطبي: هذا استفهما فيه معنى الإنكار، كأنه أَيْأَسَهُمْ من إيمان هذه الفرقة من اليهود.
ويقال: طَمِع فيه طَمَعاً وطَماعيةً مخفف فهو طَمِعٌ على وزن «فَعِل» وأطمعه فيه غيره.
ويقال في التعجب: طَمُعَ الرُّجل بضم الميم أي: صار كثير الطّمع.
والطمع: رزق الجُنْد، يقال: أمر لهم الأمير بأَطْمَاعهم، أي: بأرزاقهم.
وامرأة مِطْمَاع: تُطْمِعُ وَلاّ تُمَكِّن.

فصل في قبائح اليهود


لما ذكر قَبَائح أفعال أَسْلاف اليهود شرع قَبَائح أفعال اليَهود الذين كانوا في زمن محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
191
قال القَفّال رَحِمَهُ اللهُ: إن فيما ذكره الله تعالى في [سورة البقرة] من أقاصيص بني إسرائيل وجوهاً من المقاصد.
أحدها: الدلالة بها على صحّة نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه أخبر عنها غير تعلّم، وذلك لا يكون إلا بالوَحْي، ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب.
أما أهل الكتاب فكانوا يعلمونها، فلما سمعوها من محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من غير تفاوت، علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوَحْي.
وأما العرب فلما [شاهدوا] من أن أهل الكتاب يصدقون محمداً في هذه الأخبار، فلم يكونوا يسمعون هذه الأخبار إلاّ من علماء أهل الكتاب، فيكون ميلهم إلى الطّاعة أقرب.
وثانيها: تعديد النِّعَم على بني إسرائيل، وما مَنَّ الله به على أَسْلاَفهم من أنواع النعم، كالإنْجَاءِ من آل فرعون بعد اسْتِبْعَادهم، وتَصْيِيْرِ أبنائهم أنبياء وملوكاً، وتمكينهم في الأرض، وفَرْق البحر لهم، وأهلاك عَدُوّهم، وإنزال التوراة والصَّفْح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العَجْل، ونَقْض المَوَاثيق، ومسألة النَّظّر إلى الله جَهَرةً، ثم ما أخرجه لهم في التِّيْهِ من الماء من الحَجَر، وإنزال المَنّ والسَّلْوَى وتَظْلِيل الغَمَام من حَرّ الشمس، فذكّرهم بهذه النعم كلها.
وثالثها: إخبار النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقديم كُفْرهم وخلافهم، وتعنّتهم على الأنبياء، وعِنَادهم، وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم، وذلك لأنهم بعد مُشَاهدتهم الآيات الباهرة عَبَدوا العِجْل بعد مفارقة موسى بمدّة يسيرة، ولما أمروا بدخول الباب سُجّداً وأن يقولوا حطّة، ووعدهم أن يغفر لهم خَطَاياهم، ويزيد في ثواب محسنهم، فبدلوا القول وفَسَقوا، وسألوا الفُومَ البَصَلَ بَدَلَ المَنّ والسَّلوى، وامتنعوا من قَبُول التوراة بعد إيمانهم بموسى عليه الصّلاة والسلام وأخذ منهم المَوَاثيق أن يؤمنوا به حين رفع فوقهم الجَبَل، ثم استحلّوا الصيد في السّبت واعتدوا، ثم أمروا بذبح البقرة، فشافهوا موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقولهم: «أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً».
ثم لما شاهدوا إحْيَاء الموتى ازدادوا قَسْوى، فكأن الله تعالى يقول: إذا كانت هذه أفعالهم مع نبيهم الذي أعزّهم الله به، فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فَلْيَهُنْ عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم، وإعراضهم عن الحق.
ورابعها: تحذير أَهْل الكِتَاب الموجودين في زمن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من نزول العذاب علهيم كما نزل بأسلافهم في تلك الوقائع المعدودة.
192
وخامسها: الاحتجاج على من أنكر الإعادة من مشركي العرب مع إقراره بالابتداء كما في قوله: ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى﴾ [البقرة: ٧٣].

فصل في تسلية النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ


اعلم أن المراد تسلية رسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فيما يظهر من أَهْل الكتاب في زمانه من قلّة القبول فقال: «أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ».
قال الحسن: هو خطاب مع الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ والمؤمنين.
قال القاضي: وهذا الأليق بالظاهر، وإن كان الأصل في الدّعاء، فقد كان من الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان، ويظهر لهم الدلائل. قال ابن عَبَّاس: إنه خطاب مع النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ خاصّة؛ لأنه هو الدّاعي، وهو المقصود بالاستجابة. واللفظة وإن كانت للعموم لكن حملناها على هذا الخصوص لهذن [القرينة].
روي أنه حين دخل «المدينة» ودعا اليهود إلى كتاب الله، وكذبوه، فأنزل الله تعالى وسبب هذه الاستعباد ما ذكرناه أي: أتطمعون أن يؤمنوا مع أنهم ما آمنوا بموسى عليه الصَّلاة والسَّلام الذي كان هو السبب في خَلاَصهم من الذّل، وفضلهم على الكل بظهور المُعْجزات المتوالية على يَدِهِ، مع ظهور أنواع العذاب على المتمردين، فأي استبعاد في عدم إيمان هؤلاء.

فصل في إعراب الآية


قوله: «أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ» ناصب ومنصوب، وعلامة النصب حذف النون والأصل في «أن» وموضعها نصب أو جر على ما عرف، وعدي «يؤمنوا» باللاّم لتضمّنه معنى أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم قاله الزمخشري.
فإن قيل: ما معنى الإضافة في قوله: «يُؤْمِنُواْ لَكُمْ» والإيمان إنما هو لله؟
فالجواب: أن الإيمان وإن كان الله فهم الدّاعون إليه كما قال تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ [العنكبوت: ٢٦] لما آمن بنبوّته وتصديقه، ويجوز أن يراد أن يؤمنوا لأجلكم، ولأجل تشدّدكم في دعائهم. قوله: «وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ» «الواو» : للحال.
قال بعضهم: وعلامتها أن يصلح موضها «إذ»، والتقدير: أفتطمعون في إيمانهم، والحال أنهم كاذبون محرفون لكلام الله تعالى.
و «قد» مقربة للماضي من الحال سوّغت وقوعه حالاً.
و «يَسْمَعُون» خبر «كان».
193
و «منهم» في محلّ رفع صفة ل «فريق»، أي: فريق كائن منهم.
قال سيبويه: واعلم أن ناساً من ربيعة يقولون: «مِنْهِم» بكسر الهاء إتباعاً لكسرة الميم.
لم يكن المسكن حاجزاً حصيناً عندهم.
و «الفريق» اسم جمع لا واحد له من لفظه ك «رَهْط وَقَوْم»، وجمعه في أدنى العدد «أَفْرقه»، وفي الكثير «أفْرِقَاء».
و «يَسْمَعُون» نعت ل «فريق»، وفيه بعد، و «كان» وما في حَيّزها في محلّ نصب على ما تقدم.
وقرىء: «كَلِمَ اللهِ» وهو اسم جنس واحدة كلمة، وفرّق النحاة بين الكلام والكلم، بأن الكلام شرطه الإفادة، والكلم شرطه التركيب من ثلاث فصاعداً؛ لأنه جمع في المعنى، وأقلّ الجمع ثلاثة، فيكون بينهما عموم وخصوص من وجه، وهل «الكلام» مصدر أو اسم مصدر؟ خلاف.
والمادة تدل على التأثير، ومنه الكَلْم وهو الجُرْح، والكَلاَم يؤثر في المخاطب.
قال الشاعر: [المتقارب]
٥٩٨ -................... وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ
ويطلق الكلام لغة على الخَطِّ والإشارة؛ كقوله: [الطويل]
٥٩٩ - إِذَا كَلَّمَتْنِي بِالعُيُونِ الفَوَاتِرِ رَدَدْتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوادِرِ
وعلى النفساني؛ قال الأخطل: [الكامل]
٦٠٠ - إِنَّ الْكَلاَمَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنِّمَا جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلاً
وقيل: لم يوجد هذا البيت في ديون الأخطل.
194
وأما عند النحويين [فيطلق] على اللّفظ المركب المفيد بالوضع.
و «ثم» للتراخي إما في الزمان أو الرتبة.
و «التحريف» : الإمالة والتحويل، وأصله من الانحراف عن الشيء، ويقال: قلم محرّف إذا كان مائلاً.
قوله: «منْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ» متعلق ب «يحرفونه»، و «ما» يجوز أن تكن موصولة اسمية، أي: ثم يحرفون الكلام من بعد المعنى الذي فهموه وعرفوه، ويجوز أن تكون مصدرية.
والضمير في «عقلوه» يعود حينئذ على الكلام أي: من بعد تعقلهم إياه.
قوله: «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» جملة حالية، وفي العامل قولان:
أحدهما: «عقلوه»، ولكن يلزم منه أن تكون حالاً مؤكدة؛ لأن معناها قد فهم من قوله: «عقلوه».
والثاني وهو الظاهر: أنه «يحرفونه»، أي: يحرفونه حال علمهم بذلك.

فصل في تعيين الفريق


قال بعضهم: الفريق مَنْ كان في زمن موسى عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لأنه وصفهم بأنهم سمعوا كلام الله، والذين سمعوا كلام الله هم أهل المِيْقَاتِ.
قال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السَبعين المختارين الذين ذهبوا مع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إلى المِيْقَات، سمعوا كلام الله، وأمره ونهيه، فلما رجعوا إلى قومهم رجع الناس إلى قولهم، وأما الصادقون منهم فأدّوا كما سمعوا.
قالت طائفة منهم: سمعنا الله في آخر كلامه يقول: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم ألاَّ تفعلوا فلا بأس.
قال القرطبي: ومن قال: إنّ السبعين سمعوا كما سمع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقد أخطأ، وأذهب بفضيلة موسى، واختصاصه بالتكليم.
وقال السُّدِّي وغيرهك لم يطيقوا سماعه، واختلطت أذهانهم، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم، فلمَّا فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان موسى عليه الصلاة والسَّلام، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله﴾ [التوبة: ٦].
ومنهم من قال: المراد بالفريق مَنْ كان في زمن محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما غيّروا آية
195
الرجم، وصفة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم يعلمون أنهم كاذبون، وهو قول مجاهد وقتادة وعكرمة ووهب والسدي وهذا أقرب؛ لأن الضمير في قوله: «وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ» راجع إلى ما تقدم من قوله: «أَفتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ» والذي تعلّق الطبع بإيمانهم هم الذين كانوا في زمن محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقولهم: الذين سمعوا كلام الله هم الذين حضروا المِيْقَات ممنوع؛ لأن من سمع التوراة والقرآن يجوز أن يقال: إنه سمع كلام الله.
فإن قيل: كيف يلزم من إقدام البعض على التَّحْريف حصول اليأس من إيمان الباقين، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين؟
أجاب القَفّال فقال: يحتمل أن يكون المعنى يؤمن هؤلاء، وهم إنما يأخذون دينهم، ويتعلمونه من علمائهم وهم قوم يتعمدون التحريف عناداً، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وعرفوه.

فصل في كلام القدرية والجبرية


قوله: «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ» استفهام على سبيل الإنكار، فكان ذلك جَزماً بأنهم لا يؤمنون ألبتة، وإيمانُ من أخبر الله تعالى عنهم بأنه لا يؤمن ممتنع، فحينئذ تعود الوجوه المذكورة للقدرية والجبرية.
قال القاضي: قوله: «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لكمْ» يدل على أن إيمانهم من قلبهم؛ لأنه لو كان بخلق الله تعالى فيهم لكان لا يتغّير حال الطمع فيهم بصفة الفريق الذي تقدّم ذكرهم، ولما صحّ كون ذلك تسليةً للرسول وللمؤمنين؛ لأن الإيمان موقوف على خلقه تعالى ذلك، وزواله موقف على ألا يخلقه فيهم.
وأيضاً إعظامه تعالى لكذبهم في التحريف من حيث فعلوه، وهم يعلمون صحته.
وإضافته تعالى التحريف إليهم على وجه الذم يدلّ على ذلك، واعلم أن الكلام عليه قد تقدم جوابه مراراً.

فصل في ذم العالم المعاند


قال أبو بكر الرازي: الآية تدلّ على أن العالم المعاند أبعد من الرّشد، وأقرب إلى اليأس من الجاهل؛ لأن تعمّده التحريف مع العلم بما فيه من العذاب يكون أشد قسوة، وأعظم جناية.

فصل في بيان أنهم إنما فعلوا ذلك لأغراض


فإن قيل: إنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض كما قال تعالى:
{واشتروا بِهِ ثَمَناً
196
قَلِيلاً} [آل عمران: ١٨٧] وقال: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: ١٤٦].
قال ابن الخطيب: ويجب أن يكونوا قليلين؛ لأن الجَمْع العظيم لا يجوز عليم كِتْمَان ما يعتقدون؛ لأنا إنْ جوزنا ذلك لم نعلم المحق من المبطل، إن كثر العدد.
فإن قيل: قوله: «عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» تكْرار.
أجاب القَفّال رضى الله عنه بوجهين:
أحدهما: «مَنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوا مراد الله تعالى منه»، فأوّلوه تأويلاً فاسداً يعلمون أنه غير مراد الله تعالى.
والثاني: أنهم عقلوا مراد الله تَعَالى، وعلموا أن التأويل الفاسد يكسبهم العذاب والعقوبة من الله تعالى.
واعلم أن المقصود من ذلك تسلية الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وتصبيره على عنادهم فكلما كان عنادهم أعظم كان ذلك في التسلية أقوى.
197
روي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه أن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى عليه وسلم قالوا لهم: آمنا بالذي آمنتم به، نشهد أنَّ صاحبكم صادق، وأنَّ قوله حقّ، ونجده بِنَعْتِهِ وصفته في كتابنا، ثم إذا خَلاَ بعضهم إلى بعض قال الرؤساء كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، ووهب بن يهودا وغيرهم أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم في كتابه من نَعْتِهِ وصفته ليحاجوكم به.
قال القَفَّال رَحِمَهُ اللهُ تعالى في قوله تعالى: ﴿فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ﴾ : مأخوذ من قولهم: فتح الله على فلان في علم كذا أي [رزقه الله ذلك] وسهل له طلبه.
قال الكَلْبي: بما قضى الله عليكم من كتابكم أن محمداً حق، وقوله صِدْق، ومنه قبل للقاضي: الفَتَّاح بلغة «اليَمَن».
وقال الكِسَائي: ما بَيّنه الله عليكم.
وقال الواقدي: بما أنزل الله عليكم نظيره ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض﴾ [الأعراف: ٩٦] أي: أنزلنا.
197
وقال أبو عبيدة والأخفش: بما مَنَّ الله عليكم به، وأعطاكم من نصركم على عدوكم.
وقيل: بما فتح الله عليكم أي: أنزل من العذاب ليعيركم به، ويقولون فمن أكرم على الله منكم.
وقال مجاهد والقاسم بن أبي بزّة: هذا قول يهود «قُرَيظة» بعضهم لبعض حين سبهم النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقال: «يَا إخْوَانَ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ وَعَبَدَ الطَّاغُوتِ» فَقَالُوا: من أخبر محمداً بهذا؟ ما خرج هذا إلاَّ منكم.
وقيل: الإعلام والتبيين بمعنى: أنه بيّن لكم صفة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.

فصل في إعراب الآية


قد تقدّم على نظير قوله: «وإذ لَقُوا» في أول السورة وهذه الجملة الشرطية تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون مستأنفة كاشفة عن أحوال اليهود والمنافقين.
والثاني: أن تكون في محلّ نصب على الحال معطوفة على الجملة الحالية قبلها وهي: «وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ» والتقدير: كيف تطمعون في إيمانهم وحالهم كيت وكيت؟
وقرأ ابن السّميفع: «لاَقوا» وهو بمعنى «لقوا» فَاعَل بمعنى فَعِل نحو: «سافر» وطارقت النعل:
وأصل «خلا» :«خَلَو» قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وتقدم معنى «خلا» و «إلى» في أول السورة.
قوله: ﴿بِمَا فَتَحَ الله﴾ متعلق ب «التحديث» قبله، و «ما» موصولة بمعنى «الذي» والعائد محذوف، أي: فتحه.
وأجاز أبو البَقَاءِ أن تكون نكرة موصوفة أو مصدرية، أي: شيء فتحه، فالعائد محذوف أيضاً، أو بِفَتْحِ الله عليكم.
وفي جعلها مصدرية إشكال من حيث إنَّ الضمير في قوله بعد ذلك: «لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ» عائد على «ما» و «ما» المصدرية حرف لا يعود عليها ضمير على المشهورن خلافاً للأخفش، وأبي بكر بن السراج، إلاّ أن يُتَكَلّف فيقال: الضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله: «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» أو من قوله: «فتح»، أي: ليحاجُّوكم بالتحديث الذي حدّثتموهم، أو بالفتح الذي فتحه الله عليكم.
198
والجملة في قوله: «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» في محلّ نصب بالقول، قال القُرْطبي: ومعنى فتح: حكم.
والفتح عند العرب: القضاء والحكم، ومنه قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين﴾ [الأعراف: ٨٩] أي: الحاكمين. والفتاح: القاضي بلغة «اليمن»، يقال: بيني وبينك الفَتّاح، قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم.
والفتح: النصر، ومنه قوله: ﴿يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ﴾ [البقرة: ٨٩] وقوله: ﴿إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح﴾ [الأنفال: ١٩].
قوله: «لِيُحَاجُّوكُمْ» أي: ليخاصموكم، ويحتجوا بقولكم عليكم، وهذه اللام تسمى لام «كي» بمعنى أنها للتعليل، كما أن «كي» كذلك لا بمعنى أنها تنصب ما بعدها بإضمار ب «كي» كما سيأتي، وهي حرف جر، وإنما دخلت على الفعل؛ لأنه منصوب ب «أن» المصدرية مقدّرة بعدها، فهو معرب بتأويل المصدر أي: للمُحَاجَّة، فلم تدخل إلاّ على اسم، لكنه غير صريح.
والنصب ب «أن» المضمرة كما تقدم لا ب «كي» خلافاً لابن كَيْسَان والسّيرافي، وإن ظهرت بعدها نحو قوله تعالى: ﴿لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ﴾ [الحديد: ٢٣] لأن «أن» هي أم الباب، فادعاء إضمارها أولى من غيرها.
وقال الكوفيون: النَّصْب ب «اللام» نفسها، وأن ما يظهر بعدها من «كي»، ومن «أَنْ» إنما هو على سبيل التأكيد، وللاحتجاج موضعٌ غير هذا.
ويجوز إظهار «أن» وإضمارها بعد هذه «اللام» إلاَّ في صورة واحدة، وهي إذا وقع بعدها «لا» نحو قوله: ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ﴾ [الحديد: ٢٩] ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٥٠] وذلك لما يلزم من توالي لاَمَيْنِ، فَيثْقُل اللفظ.
والمشهور في لغة العرب كسر هذه اللام؛ لأنها حرف جر، وفيها لغة شاذة وهي الفتح.
قال الأخفش: «لأن الفتح الأصل».
قال خلف الأحمر: هي لغة بني العَنْبَر. وهذه اللام متعلّقة بقوله: «أَتُحَدِّثُونَهُمْ».
وذهب بعضهم إلى أنها متعلّقة ب «فتح» وليس بظاهر؛ لأن المُحَاجَّة ليست علّة للفتح، وإنما هي نشأت عن التحديث، اللهم إلا أن يقال: تتعلّق به على أنها لام العاقبة، وهو قول قيل به، فصار المعنى أن عاقبة الفتح ومآله صار إلى أن يحاجُّوكم.
أو تقول: إن اللاَّم لام العلة على بابها، وإنما تعلّقت ب «فتح» ؛ لأنه سبب للتحديث، والسبب والمسبب في هذا واحد.
والحُجّة: الكلام المستقيم على الإطلاق، ومن ذلك محجّة الطريق، وحاججت
199
فلاناً [فحججته] أي: غالبته، ومنه الحديث: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى»، وذلك لأن الحجّة نفي الطَّريق المسلوك الموصّلة للمراد.
والضمير في «به» يعود على «ما» من قوله تعالى: ﴿بِمَا فَتَحَ الله﴾ وقد تقدم أنه يضعف القول بكونها مصدرية، وأنه يجوز أن يعود على أحد المصدرين المفهومين من «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» و «فتح».
قوله: «عِنْدَ رَبِّكُمْ» ظرف معمول لقوله: «لِيُحَاجُّوكُمْ» بمعنى: ليحاجُوكم يوم القيامة، فيكون ذلك زائداً في ظهور فضيحتكم على رؤوس الخَلاَئق في الموقف، فكنى عنه بقوله: «عِنْدَ رَبِّكُمْ» قاله الأصم وغيره.
وقال الحسن: «عند» بمعنى «في» أي: ليحاجُّوكم في ربكم أي: فيكونون أحقّ به منكم.
وقيل: ثم مضاف محذوف أي: عند ذكر ربكم. وقال القَفّال رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يقال: فلان عندي عالم أي: في اعتقادي وحُكْمي، وهذا عند الشَّافعي حَلاَل، وعند أبي حنيفة رَحِمَهُ اللهُ تعالى حرام أي: في حكمهما وقوله: «لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ» أي: لتصيروا محجوجين [عند ربكم] بتلك الدلائل في حكم الله.
ونظيره تأويل بعض العلماء قوله: ﴿يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون﴾ [النور: ١٣] اي: في حكم الله وقضائه أن القاذف إذا لم يأت بالشهود لزمه حكم الكاذبين وإن كان في نفسه صادقاً.
وقيل: هو معمول لقوله: «بِمَا فَتَحَ اللهُ» أي: بما فتح الله من عند ربّكم ليحاجّوكم، وهو نَعْته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأخذ ميثاقهم بتصديقه.
ورجّحه بعضهم وقال: هو الصحيح؛ لأن الاحتجاج عليهم هو بما كان في الدّنيا.
وفي هذا نظر من جهة الصناعة، وذلك أن «ليُحَاجُّوكُمْ» متعلق بقوله: «أَتُحَدِّثُونَهُمْ»
200
على الأظهر كما تقدم، فيلزم الفَصْل به بين العامل وهو «فتح» وبين معمول وهو عند ربك وذلك لا يجوز؛ لأنه أجنبي منهما.
قوله: «أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» في هذه الجملة قولان:
أحدهما: أنها مندرجة في حَيِّز القول، أي: إذا خَلاَ بعضهم ببعض قالوا لهم: أتحدثونهم بما يرجع وَبَاله عليكم وصِرْتُم محجوجين به، أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق، وهذا أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم، فَعَلَى هذا محلها النصب.
والثاني: أنها من خطاب الله تعالى للمؤمنين، وكأنه قدح في إيمانهم، لقوله: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٧٥] قاله الحسن.
فعلى هذا لا محلّ له، ومفعول «تعقلون» يجوز أن يكون مراداً، ويجوز ألاّ يكون.
قوله: «أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ» تقدم أن مذهب الجمهور أن النّية بالواو والتقديم على الهمزة؛ لأنها عاطفة، وإنما أخزت عنها، لقوة همزة الاستفهام، وأن مذهب الزمخشري تقدير فعل بعد الهمزة و «لا» للنفي.
و «أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ» في محلّ نصب وفيها حينئذ تقديران:
أحدهما: أنها سادّة مسدّ مفرد إن جعلنا «علم» بمعنى «عرف».
والثاني: أنها سادّة مسدّ مفعولين إن جعلناها متعدية لاثنين ك «ظننت»، وقد تقدم أن هذا مذهب سيبويه والجمهور، وأن الأخفش يدعي أنها سدّت مسدّ الأول، والثاني محذوف. و «ما» يجوز أن تكون بمعنى «الذي»، وعائدها محذوف، اي: ما يسرونه ويعلنونه، وأن تكون مصدرية، أي يعلم سرهم وعلانيتهم. [والسر] والعلانية يتقابلان.
وقرأ ابن محيصن «تسرون» و «تعلنون» بالتاء على الخطاب.

فصل في أن المراد بالسؤال هو التخويف والزجر


في الآية قولان:
الأول: وهو قول الأكثرين أن اليهود كانوا يعرفون أن الله يعلم السّر والعلانية، فخوّفهم به.
والثاني: أنهم ما علموا بذلك، فرغبهم بهذا القول في أن يتفكّروا، فيعرفوا أن
201
ربهم يعلم سرهم وعلانيتهم، وأنهم لا يأمنون حلول العِقَابِ بسببِ نِفَاقِهِمْ، وعلى كلا القولين فهذا الكلام زَجْر لهم عن النفاق، وعن وصية بعضهم بعضاً بكتمان دلائل نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والأقرب أن اليهود المخاطبين بذلك كانوا عالمين بذلك؛ لأنه لا يكاد يقال على طريق الزجر: أو لا يعلم كيف وكيت، إلاّ وهو عالم بذلك الشيء، ويكون ذلك زاجراً له عن ذلك الفعل.

فصل في الاستدلال بالآية على أمور


قال القاضي: الآية تدلّ على أمور منها:
أنه تعالى إن كان هو الخالق لأفعال العباد، فكيف يصح أن يزجرهم عن تلك الأقوال والأفعال، ومنها أنها تدلّ على صحّة الحجاج والنظر وأن ذلك قد كان على طريقة الصّحابة والمؤمنين.
ومنها أنها تدلّ على أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية يكون أعظم جرماً.
202
قوله :﴿ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ ﴾ تقدم أن مذهب الجمهور أن النّية بالواو والتقديم على الهمزة ؛ لأنها عاطفة، وإنما أخرت عنها، لقوة همزة الاستفهام، وأن مذهب الزمخشري تقدير فعل بعد الهمزة و " لا " للنفي.
و ﴿ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ﴾ في محلّ نصب وفيها حينئذ تقديران :
أحدهما : أنها سادّة مسدّ مفرد إن جعلنا " علم " بمعنى " عرف ".
والثاني : أنها سادّة مسدّ مفعولين إن جعلناها متعدية لاثنين ك " ظننت "، وقد تقدم أن هذا مذهب سيبويه والجمهور، وأن الأخفش يدعي أنها سدّت مسدّ الأول، والثاني محذوف. و " ما " يجوز أن تكون بمعنى " الذي "، وعائدها محذوف، أي : ما يسرونه ويعلنونه، وأن تكون مصدرية، أي : يعلم سرهم وعلانيتهم. [ والسر ]٦ والعلانية يتقابلان.
وقرأ ابن محيصن٧ " تسرون " و " تعلنون " بالتاء على الخطاب.

فصل في أن المراد بالسؤال هو التخويف والزجر


في الآية قولان :
الأول : وهو قول الأكثرين أن اليهود كانوا يعرفون أن الله يعلم السّر والعلانية، فخوّفهم به.
والثاني : أنهم ما علموا بذلك، فرغبهم بهذا القول في أن يتفكّروا، فيعرفوا أن ربهم يعلم سرهم وعلانيتهم، وأنهم لا يأمنون حلول العِقَابِ بسببِ نِفَاقِهِمْ، وعلى كلا القولين فهذا الكلام زَجْر لهم عن النفاق، وعن وصية بعضهم بعضاً بكتمان دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
والأقرب أن اليهود المخاطبين بذلك كانوا عالمين بذلك ؛ لأنه لا يكاد يقال على طريق الزجر : أو لا يعلم كيف وكيت، إلاّ وهو عالم بذلك الشيء، ويكون ذلك زاجراً له عن ذلك الفعل.

فصل في الاستدلال بالآية على أمور


قال القاضي : الآية تدلّ على أمور منها :
أنه تعالى إن كان هو الخالق لأفعال العباد، فكيف يصح أن يزجرهم عن تلك الأقوال والأفعال، ومنها أنها تدلّ على صحّة الحجاج والنظر وأن ذلك قد كان على طريقة الصّحابة والمؤمنين.
ومنها أنها تدلّ على أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية يكون أعظم جرماً.
واعلم أنه تعالى لما وصف اليهود العِنَادِ، وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم، فالفرقة الأولى هي الضَّالة والمضلّة، وهم الذين يحرّفون لكلم عن مواضعه.
والفرقة الثانية: المنافقون.
والفرقة الثالثة: الذين يُجَادلون المنافقين.
والفرقة الرابعة: هم المذكورون هنا، وهم العامة الأمّيون الذين لا يعرفون القراءة، ولا الكتابة، وطريقتهم التقليد وقَبُول ما يقال لهم، فبين الله تعالى أن المُمْتَنِعِينَ عن الإيمان ليس سبب ذلك واحداً، بل لكل قسم سبب.
وقال بعضهم: هم بعض اليهود والمنافقين.
وقال عكرمة والضَّحاك: «هم نصارى العرب».
وقيل: «هم قوم من أهل الكتاب رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها، فصاروا آمنين». وعن علي رَضِيَ اللهُ عَنْه هم المجوس.
قولهك «مِنْهُمْ» خبر مقدم، فتعلّق بمحذوف. و «أمّيون» مبتدأ مؤخر، ويجوز على رأي الأخفش أن يكون فاعلاً بالظرف قبله، وإن لم يعتمد.
وقد بنيت على ماذا يعتمد فيما تقدم.
202
و «أُمِّيُّونَ» جمع «أمّي» وهو من لا يَكْتب ولا يَقْرأ.
واختلف في نسبته فقيل: إلى «الأمّ» وفيه معنيان:
أحدهما: أنه بحال أُمّه التي ولدته من عدم معرفة الكتابة، وليس مثل أبيه؛ لأن النساء ليس من شُغْلهن الكتابة.
والثاني: أنه بحاله التي ولدته أمه عليها لم يتغير عنها، ولم ينتقل.
وقيل: نسب إلى «الأُمَّة» وهي القَامَة والخِلْقَة، بمعنى أنه ليس له من النَّاس إلا ذلك.
وقيل: نسب إلى «الأُمَّة» على سَذَاجتها قبل أن يَعْرِف الأشياء، كقولهم: عامي أي: على عادة العامة.
وعن ابن عَبَّاس: «قيل لهم: أميون؛ لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب».
وقال أبو عبيدة: «قيل لهم: أُميون، لإنْزَال الكتاب عليهم، كأنهم نسبوا لأم الكتاب».
وقرأ ابن أبي عَبْلة: «أُمِّيُون» بتخفيف الياء كأنه استثقل توالي تضعيفين.
وقيل: الأمي: من لا يُقِرّ بكتاب ولا رسول.
قوله: «لاَ يَعْلَمُونَ» جملة فعلية في محلّ رفع صفة ب «أميون»، كأنه قيل: أميون غير عالمين.
قوله: «إلاَّ أَمَانِيَّ» هذا استثناء منقطع؛ لأن «الأماني» ليست من جنس «الكتاب»، ولا مندرجة تحت مدلوله، وهذا هو المُنْقطع، ولكن شرطه أن يتوهّم دخوله بوجه ما، كقوله: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن﴾ [النساء: ١٥٧] وقوله النَّابغة: [الطويل]
٦٠١ - حَلَفْتُ يَمِيناً غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةِ وَلاَ عِلْمَ إِلاَّ حُسْنَ ظَنٍّ بِصَاحِبِ
لأن بذكر العلم اسْتُحضِر الظن، ولهذا لا يجوز: صَهَلَتِ الخيل إلاَّ حماراً.
واعلم أن المنقطع على ضربيين: ضرب يصحّ توجه العامل عليه، نحو: جاء القوم إلاّ حماراً.
وضرب لا يتوجه نحو ما مثل به النحاة: «ما زاد إلا ما نقص»، و «ما نفع إلا ما ضر» فالأول فيه لُغتَان: لغة «الحجاز» وجوب نصبه، ولغة «تميم» أنه كالمتّصل، فيجوز فيه بعد النفي وشبهه النصب والإتباع.
203
والآية الكريمة من الضرب الأولن فيحتمل في نصبها وَجْهَان:
أحدهما: على الاستثناء المنقطع.
والثاني: أنه بدل من «الكتاب».
و «إلاّ» في المنقطع تقدر عند البصريين ب «لَكِنَّ»، وعند الكونفيين ب «بل»، وظاهر كلام أبي البقاء أن نصبه على المصدر بفعل مَحْذُوف، فإنه قال: «إلا أماني» اسثناء منقطع؛ لأن الأماني ليس من جنس العلم، وتقدير «إلاّ» في مثل هذا ب «لكن» أي: لكن يتمنونه أماني، فيكون عنده من باب الاستثناء المفرّغ المنقطع، فيصير نظير: «ماعلمت إلا ظنّاً». [وفيه نظر].
الأَمَاني مع «أُمْنِيَّة» بتشديد الياء فيها.
وقال ابو البَقَاءِ: «يجوز تخفيفها فيها».
وقرأ أبو جعفر بتخفيفها، حَذَفَ إحدى الياءين تخفيفاً.
قال الأخفشك «هذا كما يقال في جمع مفتاح: مفتاح ومفاتيح».
قال النَّحَّاس: «الحذف في المعتلّ اكثر» ؛ وأنشد قول النابغة: [الطويل]
٦٠٢ - وَهَلْ يُرْجِعُ التَّسْلِيمَ أو يَكْشِفُ العَمَى ثَلاثُ الأَثافِي والرُّسُومُ البَلاَقِعُ
وقال أبو حَاتِمٍ: «كلّ ما جاء واحده مشدداً من هذا النوع فلك في الجمع الوجهان». وأصله يرجع إلى ما قال الأخفش.
ووزن «أمنية» :«أُفْعُولَة» من تَمَنَّى يَتَمَنَّى: إذا تلا وقرأ؛ قال: [الطويل]
٦٠٣ - تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ آخِرَ لَيْلِهِ تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ
وقال كعب بن مالك: [الطويل]
204
وقال تعالى: ﴿إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: ٥٢] أي: قرأ وتلا. والأصل على هذا: «أُمْنُويَة» فأعلت إعلال «ميت» و «سيد» وقد تقدم.
وقيل: الأمنية: الكذب والاختلاق.
قال أعرابي لابن دَأْب في شيء يحدث به: أهذا الشيء رويته أم تمنيته أي: اختلقته.
وقيل: ما يتمّناه الإنسان ويشتهيه.
وقيل:: ما يقدره ويحزره من مَتَّى: إذا كذب، أو تمنى، أو قدر؛ كقوله: [البسيط]
٦٠٤ - تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ وآخِرَهُ لاَقى حِمَامَ المقَادِرِ
٦٠٥ - لاَ تَأْمَنَنَّ وَإِنْ أَمْسَيْتَ في حَرَمٍ حَتَّى تُلاَقِيَ مَا يَمْنِي لَكَ المَانِي
أي: يقدر لك المقدر.
قال الراغب: والمني: التقدير، ومنه «المَنَا» الذي يُوزَن به، ومنه «المنية» وهو الأجل المقدر للحيوان، «والتَّمَنِّي» : تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، وذلك قد يكون عن ظنّ وتخمين، وقد يكون بناء على رَوِيَّةٍ وأصل، لكن لما كان أكثره عن تخمين كان الكذب أملك له، فأكثر التمني تصوّر ما لاحقيقة له [والأمنية: الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء].
ولما كان الكذب تصوّر ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ الدَّال صار التمني كالمبدأ للكذب فعبر عنه.
ومنه قوله عثمان: «ما تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت».
وقال الزمخشري: والاشتقاق من منَّى: إذا قدَّر؛ لأن المتمني يُقَدِّرُ في نفسه، ويَحْزر ما يتمناه، وكذلك المختلق، والقارىء يقدر أن كلمة كذا بعد كذا، فجعل بين هذه المعاني قدراً مشتركاً وهو واضح.
205
وقال أبو مسلم: حَمْله على تمني القلب أولى بقوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ [البقرة: ١١١].
وقال الأكثرون: حمله على القراءة أليق؛ لأنا إذا حَمَلْنَاه على ذلك كان له به تعلّق، فكأنه قال: لا يعلمون الكتاب إلاَّ بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه، ثم إنَّهُمْ لا يتمكّنون من التدبُّر والتأمل، وإذا حمل على أن المراد الأحاديث والأكاذيب أو الظن والتقدير وحديث النفس كان الاستثناء فيه نادراً.
قوله: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ «إن» نافية بمعنى «ما» وإذا كانت نافية المشهور أنها لا تعمل عمل «ما» الحِجَازية.
وأجاز بعضهم ذلك ونسبه لسيبويه، وأنشد: [المنسرح]
٦٠٦ - إنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً عَلَى أَحَدٍ إلاَّ عَلَى أَضْعَفِ المَجَانِينِ
«هو» اسمها، و «مستولياً» خبرها.
فقوله: «هم» في محل رفع الابتداء لا سام «إن» لأنها لم تعمل على المشهور، و «إلا» للأستثناء المفرغ، ويظنون في محلّ الرفع خبراً لقوله «هم».
وحذف مفعولي الظَّن للعمل بهما واقتصاراً، وهي مسألة خلاف.

فصل في بطلان التقليد في الأصول


الآية تدلّ على بطلان التقليد.
قال ابن الخطيب: وهو مشكل؛ لأن التقليد في الفروع جائز عندنا.
قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب﴾ «ويل» مبتدأ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة، لأنه دعاء عليهم، والدعاء من المسوغات، سواء كان دعاء له نحو: «سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ» أو دعاء عليه كهذه الآية، والجار بعده الخبر، فيتعلّق بمحذوف.
وقال أبو البقاء: ولو نصب لكان له وجه على تقدير: ألزمهم الله ويلاً، واللام
206
للتبيين؛ لأن الاسم لم يذكر قبل المصدر يعني: أن اللام بعد المنصوب للبيان، فيتعلّق بمحذوف. وقوله: لأن الاسم لم يذكر قبل، يعني أنه لو ذكر قبل «ويل» فقلت: «ألزم الله زيداً ويلاً» لم يحتج إلى تبيين بخلاف ما لو تأخر. وعبارة الجرمي توهم وجوب الرفع في المقطوع عن الإضافة؛ ونصّ الأخفش على جواز النّصب، فإنه قال: ويجوز النصب على إضمار فعل أي: ألزمهم الله ويلاً.
واعلم أن «وَيْلاً» وأخواته وهي: «وَيْح» و «وَيْس» و «وَيْب» و «وَيْه» و «ويك» و «عَوْل» من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها، وتلك الأَفْعَال واجبة الإضمار، لا يجوز إظهارها ألبتة؛ لأنها جعلت بدلاً من اللفظ بالفعل، وإذا فصل عن الإضافة فالأحسن فيه الرفع نحوك «ويل له» وإن أضيف نصب على ما تقدم، وإن كانت عبارة الجرمي توهم وجوب الرفع عند قَطْعه عن الإضافة، فإنه قال: فإذا أدخلت اللاّم رفعت فقلت: «ويل له» و «ويح له» كأنه يريد على الأكثر، ولم يستعمل العرب منه فعلاً؛ لاعتلال عنيه وفائه.
وقد حكى ابن عرفة: «تَوَيَّلَ الرجل» إذا دعا بالوَيْلِ. وهذا لا يرد؛ لأنه مثل قولهم: سَوَّفْتَ ولَوْلَيت إذا قلت له: سَوْفَ وَلَوْ.
ومعنى الويل: شدة الشر، قاله الخليل.
وقال الأَصْمَعِيّ: الويل: التفجُّع، والويح: الترحم.
وقال سيبويه: وَيْلٌ لمن وقع في الهَلكة، وويح زجر لمن أشرف على الهلاك.
وقيل: الويل: الحزن.
وهل «ويل وويح وويس وويب» بمعنى واحد أو بينها فرق؟ خلاف فيه، وقد تقدم ما فرقه به سيبويه في بعضها.
وقال قوم: «ويل» في الدعاء عليه، و «ويح» وما بعده ترحم عليه.
وزعم الفراء أنّ أَصْل «ويل» : وَيْ، أي: حزن، كما تقول: وي لفلان أي حُزْنٌ له، فوصلته العرب باللاّم، وقدرت أنها منه فأعربوها، وهذا غريب جدَّا.
ويقال: وَيْلٌ وَوَيْلَة.
وقال امرؤ القيس [الطويل]
207
٦٠٧ - لَهُ الوَيْلُ إنْ اَمْسَى وَلاَ أُمُّ عَامِرٍ لَدَيْه وَلاَ البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
وقال أيضاً: [الطويل]
٦٠٨ - وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ... فَقَالَتْ: لَكَ الوَيْلاَتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي
ف «وَيْلات» جمع «وَيْلة» لا جمع «وَيْل» كما زعم ابن عطية؛ لأن جمع المذكر بالألف والتاء لا ينقاس.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه: «الويل العذاب الأليم»، وعن سفيان الثورى أنه قال: «صديد أهل جهنم». [وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه قال: «الوَيْلُ وَادٍ في جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ»
]. وقال سعيد بن المسيب: «وَادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدّنيا لانماعت من شدّة حره».
وقال ابن يزيد: «جبل من قَبح ودم».
وقيل: صهريج في جهنم.
وحكى الزهراوي عن آخرين: أنه باب من أبواب جَهَنَّم.
وعن ابن عباس: الويل المشقّة من العذاب.
وقيل: ما تقدم في اللغة.
قوله: «بِأَيْدِيْهِمْ» متعلّق ب «يكتبون»، ويبعد جعله حالاً من «الكتاب»، والكتاب هنا بعض المكتوب، فنصبه على المفعول به، ويبعد جعله مصدراً على بابه، وهذا من باب التأكيد، فإن [الكتابة] لا [تكون] بغير اليد، [ونظيره] :
{وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ
208
بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: ٣٨] ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم﴾ [آل عمران: ١٦٧].
وقيل: فائدة ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم، ولم يأمروا به غيرهم، فإنّ قولهم: فعل كذا يحتمل أنه أمر بفعله ولم يباشره، نحو: «بنى الأمير المدينة» فأتى بذلك رفعاً لهذا المجاز.
وقيل: فائدة [ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم، ولم يأمروا به غيرهم. ففائدته] بيان جرأتهم ومجاهرتهم، فإن المُبَاشر للفعل أشدّ مواقعة ممن لم يباشره.
وهذان القولان قريبان من التأكيد، فإنَّ أصل التأكيد رفع توهّم المجاز.
وقال ابن السراج: ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تِلْقَائهِمْ، ومن عند أنفسهم، وهذا الذي قاله لا يلزم.
والأيدي: جمع «يد»، والأصل: أَيْدُيٌ بضم الدال ك «فلس وأفلس» في القِلّة، فاستثقلت الضمة قبل الياء، فقلبت كسرة للتجانُس، نحو: «بيض» جمع «أبيض»، والأصل «بُيْض» بضم الباء ك «حمر» جمع «أحمر»، وهذا رأي سيبويه، أعني أنه يقر الحرف ويغير الحركة، ومذهب الأخفش عكسه، وسيأتي تحقيق مذهبهما عند ذكر «معيشة» إن شاء الله تعالى.
وأصل «يد» : يَدْيٌ بسكون العين.
وقيل: يَدَيٌ بتحريكها فَتحرَّكَ حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفاً، فصار: يَداً ك «رَحًى» وعليه التثنية: يَدَيَانِ [وعليه أيضاً قوله: [الزجز]
٦٠٩ - يَارُبَّ سَارٍ بَاتَ ما تَوَسَّدَا إلاَّ ذِرَاعَ العَنْزِ أَوْ كَفَّ اليَدَا]
[والمشهور في تثنيتها عدم ردِّ لامها، قال تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: ٦٤] ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد: ١] وقد شذّ الردُّ في قوله: يَدَيَانِ؛ قال: [الكامل]
٦١٠ - يَدَيَانِ بَيْضَاوَانِ عِنْدَ مُحَلَّمٍ قَدْ يَمْنَعَانِكَ أَنْ تُضَامَ وتُقْهَرَا
و «أياد» جمع الجمع، نحو: كلب وأكلب وأكالب، ولا بد في قوله: «يَكْتُبُونَ الكِتَابَ» من حذف يصح معه المعنى، فقدره الزمخشري: «يكتبون لكتاب المحرف»، وقدره غيره حالاً من الكتاب تقديره: ويكتبون الكتاب محرفاً، وإنما [أحوج] إلى هذا
209
الإضمار؛ لأن الإنكار لا يتوجّه على من كتب اللكتاب بيده إلا إذا حرفه غيره.
قوله: «لِيَشْتَرُوا» اللام: لام كي، وقد تقدمت، والضمير في «به» يعود على ما أشاروا إليه بقوله «هذا من عند الله».
و «ثَمَناً» مفعوله.
وقد تقدّم تحقيق دخول الباء على غير الثمن عند قوله: ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾ [البقرة: ٤١] فليلتفت إليه، واللاّم متعلقة ب «يقولون» أي: يقولون ذلك لأجل الاشتراء.
وأبعد من جعلها متعلّقة بالاستقرار الذي تضمنه قوله: «مِنْ عِنْد اللهِ».
قوله: «مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ» متعلّق ب «ويل» أو بالاستقرار في الخبر.
و «من» للتعليل و «ما» موصولة اسمية، والعائد محذوف، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة.
والأول أقوى، والعائد أيضاً محذوف أي: كتبته، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: من كَتْبِهِمْ.
و «وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» مثل ما تقدم قبله، وإنما كرر الوَيْل؛ ليفيد أن الهَلَكَة متعلقة بكل واحد من الفعلين على حِدَته لا بمجموع الأمرين، وإنا قدم قوله: «كَتَبَتْ» على «يَكْسِبُون» ؛ لأن الكتابة مقدمة، فنتيجتها كَسْب المال، فالكَتْب سبب والكَسْب مسبب، فجاء النظم على هذا.

فصل في سبب هذا الوعيد


هذا الوعيد مرتّب على أمرين: على الكتابة الباطلة لقصد الإضلال، وعلى أن المكتوب من عند الله، فالجمع بينهما منكر عظيم.
وقوله: «لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً» تنبيه على أمرين:
الأول: أنه يدلّ على نهاية شقاوتهم؛ لأن العاقل لا يرضى بثمن قليل في الدنيا يحرمه الأجر العظيم الأبدي في الآخرة.
والثاني: إنما فعلوا ذلك طلباً للمال والجَاهِ، وهذا يدلّ على أن أخْذَ المال بالباطل وإن كان بالتّراضي فهو مُحَرّم؛ لأن الذي كانوا يعطونه من المال كان عن محبة ورضا.
وقوله: ﴿فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ دليل علىأخذهم المال عليه، فلذلك كرر [ذكر] الويل.
واختلفوا في قوله: «يَكْسِبُونَ» هل المراد سائر معاصيهم، أو ما كانوا يأخذون على الكتابة والتحريف؟
210
والأقرب في نظم الكلام أنه راجعٌ إلى الكَسْب المأخوذ على وجه الكتابة والتحريف، وإن كان من حيث العموم أنه يشمل الكل.

فصل في الرد على المعتزلة


قال القاضي: دلت الآية على أن كتابتهم ليست خلقاً لله تعالى لأنها لو كانت خلقاً لله تعالى لكانت إضافتها إليه تعالى بقولهم: «هو من عند الله» حقيقة؛ لأنه تعالى إذا خلقها فيهم فَهَبْ أن العبد يكتسب إلا أن نسبة ذلك الفعل إلى الخالق أقوى من انتسابه إلى المكتسب، فكان إسناد تلك الكتابة إلى الله تعالى أولى من إسنادها إلى العَبْدِ، فكان يجب أن يستحقوا الحمد على قولهم فيها: إنها من عند الله، ولما لم يكن كذلك علمنا أن تلك الكتابة ليست مخلوقة لله تعالى.
والجواب: أنَّ الداعية الموجبة لها من خَلْق الله كما تقدم في مسألة الداعي.

فصل


يروى أن أَحْبار اليهود خافوا ذهاب كَلِمتهم ومآكلهم وزوال رِيَاستهم حين قدم رسول الله صلى لله عليه وسلم «المدينة» فاحْتَالوا في تَعْويق اليهود عن الإيمان، فعمدوا إلى صفة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة فغيّروها، وكان صفته فيها حَسَن الوجه، حَسَن الشعر، أَكْحَل العينين رَبْعة القامة فغيّروها وكتبوا مكانها طويلاً أَزْرق سَبْطَ الشعر، فإذا سألهم سَفَلتهم عن محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرءوا ما كتبوه عليهم، فيجدونه مخالفاً لصفته فيكذبونه.
وقال أبو مَالِكٍ: نزلت هذه الآية في الكاتب الذي كان يكتب لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيغير ما يملي عليه.
روى الثعلبي بإسناده عن أنس أن رجلاً كان يكتب للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان قد قرأ «البقرة» و «آل عمران» وكان النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا «غفوراً رحيماً» فكتب «عليماً حكيماً» فيقول له النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اكْتُبُ كَيْفَ شِئْتَ» قال: فارتد ذلك الرجل عن الإسلام، ولحق بالمشركين فقال: أنا أعلمكم بمحمد إنِّي كنت أكتب ما شئت، فمات ذلك الرجل فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ الأَرْضَ لاَ تَقْبَلُهُ» قلا: فأخبرني أبو طَلْحَة: أنه أتى الأرض التي مات فيها، فوجده منبوذاً.
211
قال أبو طلحة: ما شأن هذا الميت؟ قالوا دفناه مراراً فلم تقبله الأرض.
212
قوله :﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ ﴾ " ويل " مبتدأ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة، لأنه دعاء عليهم، والدعاء من المسوغات، سواء كان دعاء له نحو :" سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ " أو دعاء عليه كهذه الآية، والجار بعده الخبر، فيتعلّق بمحذوف.
وقال أبو البقاء : ولو نصب لكان له وجه على تقدير : ألزمهم الله ويلاً، واللام للتبيين ؛ لأن الاسم لم يذكر قبل المصدر يعني : أن اللام بعد المنصوب للبيان، فيتعلّق بمحذوف. وقوله : لأن الاسم لم يذكر قبل، يعني أنه لو ذكر قبل " ويل " فقلت :" ألزم الله زيداً ويلاً " لم يحتج إلى تبيين بخلاف ما لو تأخر. وعبارة الجرمي توهم وجوب الرفع في المقطوع عن الإضافة ؛ ونصّ الأخفش على جواز النّصب، فإنه قال : ويجوز النصب على إضمار فعل أي : ألزمهم الله ويلاً.
واعلم أن " وَيْلاً " وأخواته وهي :" وَيْح " و " وَيْس " و " وَيْب " و " وَيْه " و " ويك " و " عَوْل " من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها، وتلك الأَفْعَال واجبة الإضمار، لا يجوز إظهارها ألبتة ؛ لأنها جعلت بدلاً من اللفظ بالفعل، وإذا فصل عن الإضافة فالأحسن فيه الرفع نحو :" ويل له " وإن أضيف نصب على ما تقدم، وإن كانت عبارة الجرمي توهم وجوب الرفع عند قَطْعه عن الإضافة، فإنه قال : فإذا أدخلت اللاّم رفعت فقلت :" ويل له " و " ويح له " كأنه يريد على الأكثر، ولم يستعمل العرب منه فعلاً ؛ لاعتلال عينه وفائه. وقد حكى ابن عرفة١٤ :" تَوَيَّلَ الرجل " إذا دعا بالوَيْلِ. وهذا لا يرد ؛ لأنه مثل قولهم : سَوَّفْتَ ولَوْلَيت إذا قلت له : سَوْفَ وَلَوْ.
ومعنى الويل : شدة الشر، قاله الخليل.
وقال الأَصْمَعِيّ : الويل : التفجُّع، والويح : الترحم.
وقال سيبويه١٥ : وَيْلٌ لمن وقع في الهَلكة، وويح زجر لمن أشرف على الهلاك.
وقيل : الويل : الحزن.
وهل " ويل وويح وويس وويب " بمعنى واحد أو بينها فرق ؟ خلاف فيه، وقد تقدم ما فرق به سيبويه في بعضها.
وقال قوم :" ويل " في الدعاء عليه، و " ويح " وما بعده ترحم عليه.
وزعم الفراء أنّ أَصْل " ويل " : وَيْ، أي : حزن، كما تقول : وي لفلان أي حُزْنٌ له، فوصلته العرب باللاّم، وقدرت أنها منه فأعربوها، وهذا غريب جدًّا.
ويقال : وَيْلٌ وَوَيْلَة.
وقال امرؤ القيس :[ الطويل ]
٦٠٧- لَهُ الوَيْلُ إنْ أَمْسَى وَلاَ أُمُّ عَامِرٍ١٦ لَدَيْه١٧ وَلاَ البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا١٨
وقال أيضاً :[ الطويل ]
٦٠٨- وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ *** فَقَالَتْ : لَكَ الوَيْلاَتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي١٩
ف " وَيْلات " جمع " وَيْلة " لا جمع " وَيْل " كما زعم ابن عطية ؛ لأن جمع المذكر بالألف والتاء لا ينقاس.
قال ابن عباس رضي الله عنه :" الويل العذاب الأليم "، وعن سفيان الثوري أنه قال :" صديد أهل جهنم ". وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال :" الوَيْلُ وَادٍ في جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ " ٢٠ ]٢١.
وقال سعيد بن المسيب :" وَادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدّنيا لانماعت من شدّة حره " ٢٢.
وقال ابن يزيد :" جبل من قَيْح ودم ".
وقيل : صهريج في جهنم.
وحكى الزهراوي عن آخرين : أنه باب من أبواب جَهَنّم.
وعن ابن عباس : الويل المشقّة من العذاب.
وقيل : ما تقدم في اللغة.
قوله :" بِأَيْدِيْهِمْ " متعلّق ب " يكتبُون "، ويبعد جعله حالاً من " الكتاب "، والكتاب هنا بمعنى المكتوب، فنصبه على المفعول به، ويبعد جعله مصدراً على بابه، وهذا من باب التأكيد، فإن [ الكتابة ]٢٣ لا [ تكون ]٢٤ بغير اليد، [ ونظيره ]٢٥ :﴿ ولا طائر يطير بجناحيه ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ] ﴿ يقولون بأفواههم ﴾ [ آل عمران : ١٦٧ ].
وقيل : فائدة ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم، ولم يأمروا به غيرهم، فإن قولهم : فعل كذا يحتمل أنه أمر بفعله ولم يباشره، نحو :" بنى الأمير المدينة " فأتى بذلك رفعا لهذا المجاز.
وقيل : فائدة [ ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم، ولم يأمروا به غيرهم. ففائدته ]٢٦ بيان جرأتهم ومجاهرتهم، فإن المباشر للفعل أشد مواقعة ممن لم يباشره.
وهذان القولان قريبان من التأكيد، فإن أصل التأكيد رفع توهم المجاز.
وقال ابن السراج : ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تلقائهم، ومن عند أنفسهم، وهذا الذي قاله لا يلزم.
والأيدي : جمع " يد "، والأصل : أيدي بضم الدال ك " فلس وأفلس " في القلة، فاستثقلت الضمة قبل الياء، فقبلت كسرة للتجانس، نحو :" بيض " جمع " أبيض "، والأصل " بيض " بضم الباء ك " حمر " جمع " أحمر "، وهذا رأي سيبويه، أعني أنه يقر الحرف ويغير الحركة، ومذهب الأخفش عكسه، وسيأتي تحقيق مذهبهما عند ذكر " معيشة " إن شاء الله تعالى.
وأصل :" يد " : يدي- بسكون العين.
وقيل : يدي- بتحريكها- فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا، فصار : يدا ك " رحى "، وعليه التثنية : يديان [ وعليه أيضا قوله :
[ الرجز ].
٦٠٩- يا رب سار بات ما توسدا إلا ذراع العنز أو كف اليدا٢٧ ]٢٨.
[ والمشهور في تثنيتها عدم رد لامها، قال تعالى :﴿ بل يداه مبسوطتان ﴾ [ المائدة : ٦٤ ] ﴿ تبت يدا أبي لهب وتب ﴾ [ المسد : ١ ] وقد شذ الرد في قوله : يديان ؛ قال :[ الكامل ]
٦١٠- يديان بيضاوان عند محلم قد يمنعانك أن تضام وتقهرا٢٩
و " أياد " جمع الجمع، نحو : كلب وأكلب وأكالب، ولا بد في قوله :" يكتبون الكتاب " من حذف يصح معه المعنى، فقدره الزمخشري :" يكتبون الكتاب المحرف "، وقدره غيره حالا من الكتاب تقديره : ويكتبون الكتاب محرفا، وإنما [ أحوج ]٣٠ إلى هذا الإضمار ؛ لأن الإنكار لا يتوجه على من كتب الكتاب بيده إلا إذا حرفه غيره.
قوله :" ليشتروا " اللام : لام كي، وقد تقدمت، والضمير في " به " يعود على ما أشاروا إليه بقوله " هذا من عند الله ".
و " ثمنا " مفعوله.
وقد تقدم تحقيق دخول الباء على غير الثمن عند قوله :﴿ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ﴾ [ البقرة : ٤١ ] فليلتفت إليه، واللام متعلقة ب " يقولون " أي : يقولون ذلك لأجل الاشتراء.
وأبعد من جعلها متعلقة بالاستقرار الذي تضمنه قوله :" من عند الله ".
قوله :" مما كتبت أيديهم " متعلق ب " ويل " أو بالاستقرار في الخبر.
و " من " للتعليل و " ما " موصولة اسمية، والعائد محذوف، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة.
والأول أقوى، والعائد أيضاً محذوف أي : كتبته، ويجوز أن تكون مصدرية، أي : من كَتْبِهِمْ.
و ﴿ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ مثل ما تقدم قبله، وإنما كرر الوَيْل ؛ ليفيد أن الهَلَكَة متعلقة بكل واحد من الفعلين على حِدَته لا بمجموع الأمرين، وإنا قدم قوله :" كَتَبَتْ " على " يَكْسِبُون " ؛ لأن الكتابة مقدمة، فنتيجتها كَسْب المال، فالكَتْب سبب والكَسْب مسبب، فجاء النظم على هذا.

فصل في سبب هذا الوعيد


هذا الوعيد مرتّب على أمرين : على الكتابة الباطلة لقصد الإضلال، وعلى أن المكتوب من عند الله، فالجمع بينهما منكر عظيم.
وقوله :﴿ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ تنبيه على أمرين :
الأول : أنه يدلّ على نهاية شقاوتهم ؛ لأن العاقل لا يرضى بثمن قليل في الدنيا يحرمه الأجر العظيم الأبدي في الآخرة.
والثاني : إنما فعلوا ذلك طلباً للمال والجَاهِ، وهذا يدلّ على أن أَخْذَ المال بالباطل وإن كان بالتّراضي فهو مُحَرّم ؛ لأن الذي كانوا يعطونه من المال كان عن محبة ورضا.
وقوله :﴿ فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ دليل على أخذهم المال عليه، فلذلك كرر [ ذكر ]٣١ الويل.
واختلفوا في قوله :" يَكْسِبُونَ " هل المراد سائر معاصيهم، أو ما كانوا يأخذون على الكتابة والتحريف ؟
والأقرب في نظم الكلام أنه راجعٌ إلى الكَسْب المأخوذ على وجه الكتابة والتحريف، وإن كان من حيث العموم أنه يشمل الكل.

فصل في الرد على المعتزلة


قال القاضي : دلت الآية على أن كتابتهم ليست خلقاً لله تعالى لأنها لو كانت خلقاً لله تعالى لكانت إضافتها إليه تعالى بقولهم :" هو من عند الله " حقيقة ؛ لأنه تعالى إذا خلقها فيهم فَهَبْ أن العبد يكتسب إلا أن نسبة ذلك الفعل إلى الخالق أقوى من انتسابه إلى المكتسب، فكان إسناد تلك الكتابة إلى الله تعالى أولى من إسنادها إلى العَبْدِ، فكان يجب أن يستحقوا الحمد على قولهم فيها : إنها من عند الله، ولما لم يكن كذلك علمنا أن تلك الكتابة ليست مخلوقة لله تعالى.
والجواب : أنَّ الداعية الموجبة لها من خَلْق الله كما تقدم في مسألة الداعي.

فصل


يروى أن أَحْبار اليهود خافوا ذهاب كَلِمتهم ومآكلهم وزوال رِيَاستهم حين قدم رسول الله صلى لله عليه وسلم " المدينة " فاحْتَالوا في تَعْويق اليهود عن الإيمان، فعمدوا إلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة فغيّروها، وكان صفته فيها حَسَن الوجه، حَسَن الشعر، أَكْحَل العينين رَبْعة القامة فغيّروها وكتبوا مكانها طويلاً أَزْرق سَبْطَ الشعر، فإذا سألهم سَفَلتهم عن محمد صلى الله عليه وسلم قرءوا ما كتبوه عليهم، فيجدونه مخالفاً لصفته فيكذبونه٣٢.
وقال أبو مَالِكٍ : نزلت هذه الآية في الكاتب الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيغير ما يملي عليه.
روى الثعلبي بإسناده " عن أنس أن رجلاً كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وكان قد قرأ " البقرة " و " آل عمران " وكان النبي صلى الله عليه وسلم تلا " غفوراً رحيماً " فكتب " عليماً حكيماً " فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم :" اكْتُبُ كَيْفَ شِئْتَ " قال : فارتد ذلك الرجل عن الإسلام، ولحق بالمشركين فقال : أنا أعلمكم بمحمد إنِّي كنت أكتب ما شئت، فمات ذلك الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إنَّ الأَرْضَ لاَ تَقْبَلُهُ٣٣ " قال : فأخبرني أبو طَلْحَة : أنه أتى الأرض التي مات فيها، فوجده منبوذاً.
قال أبو طلحة : ما شأن هذا الميت ؟ قالوا دفناه مراراً فلم تقبله الأرض.
فقوله: «إلاّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً» استثناء مفرّغ، و «أيَّاماً» منصوب على الظرف بالفعل قبله، والتدقير: لن تَمّسنا النار أبداً إلاّ أياماً قلائل يَحْصُورُها العَدُّ؛ لأن العد يحصر القليل، وأصل: «أيّام» : أَيْوَام؛ لأنه جمع يوم، نحو: «قوم وأقوام»، فاجتمع الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فوجب قلب الواو ياء، وإدغام الياء في الياء مثل: «هَيّت وميّت» ؟

فصل


ذكروا في الأيام المعدودة وجهين:
الأول: أن لفظه الأيام [لا تضاف إلا إلى العشرة فما دونها، ولا تضاف إلى ما فوقها، فيقال: أيام خمسة، وأيام عشرة، ولا يقال: أيام أحد عشر. إلاَّ أن هذا] يشكل بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام﴾ [البقرة: ١٨٣] إلى أن قال: ﴿أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] وهي أيام الشهر كله، وهي أزيد من العشرة.
قال القاضي: إذا ثبت أن الأيام محمولة على العَشْرة فما دونها، فالأشبه أن يقال: إنه الأقل أو الأكثر؛ لأن من يقول ثلاثة يقول: أحمله على أقل الحقيقة فله وجه، ومن يقول: عشرة يقول: أحمله على الأكثر وله وجه.
فأما حمله على أقل من العشرة وأزيد من الثلاثة فلا وجه له؛ لأنه ليس عَدَدٌ أولى من عَدَدٍ، اللهم إلا إنْ جاءت في تقديرها رواية صحيحة، فحينئذ يجب القول بها.
روي عن ابن عباس ومجاهد: أن اليهود كانت تقول: «الدنيا سبعة آلاف سنة، فالله يعذب على كلّ ألف سنة يوماً واحداً».
وحكى الأصم عن بعض اليهود: أنهم عبدوا العِجْل سبعة أيام.
وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه: أنه قدر هذه الأيام بالأربعين، وهو عدد الأيام التي عبد آباؤهم العجل فيها، وهي مدّة غيبة موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عنهم.
212
وقال الحسن وأبو العالية: قالت اليهود: إن ربنا عتب علينا في أمرنا، فأقسم ليعذّبنا أربعين يوماً، فلن تمسّنا النار إلاّ أربعين يوماً تحلّة القسم، فكذبهم الله تعالى بقوله تعالى: «قُلْ: أتخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً».
وقالت طائفة: إن اليهود قالت في التوراة: إنَّ جهنم مسيرة أربعين سنة، وأنهم يقطعون في كلّ يوم سنة حتى يكملوها، وتذهب جهنّم. رواه الضَّحاك عن ابن عباس.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه زعم اليهود أنه وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنّم أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزَّقوم، فتذهب جهنم وتهلك.
فإن قيل: «وَقَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً» وقال في مكان آخر: ﴿أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾ [آل عمران: ٢٤] والمصروف في المكانين واحد وهو «أيام».
فالجواب: أن الاسم إن كان مذكراً، فالأصل في صفة جمعه التاء، يقال: كُوز وكِيزان مكسورة، وثياب مَقْطوعة، وإن كان مؤنثاً كان الأصل في صفة جمعه الألف والتاء يقال: جرّة وجِرَار مكسورات، وخَابِية وخَوَابي مكسورات، إلا أنه قد يوجد الجمع بالألف والتاء فيما واحده مذكّر في بعض الصور، وعلى هذا ورد قوله:
﴿في
أَيَّامٍ
مَّعْدُودَاتٍ﴾
[البقرة: ٢٠٣]، و ﴿في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: ٢٨].

فصل في مدة الحيض


ذهب الحنفيّة إلى أنّ أقل الحَيْض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة، واحتجوا بقوله عَلَيْهِ
213
الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «دَعِي الصَّلاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» فمدّة الحيض تسمى أياماً، وأقلّ عدد يسمى أياماً ثلاثة، وأكثره عشرة على ما بَيّنا، وعليه الإشكال المتقدم.
قوله: «أَتَّخَذْتُمْ» الهمزة للاستفهام، ومعناها الإنكار والتَّقْريع، وبها استغني عن همزة الوصل الدّاخلة على «أتخذتم» كقوله: ﴿أفترى عَلَى الله﴾ [سبأ: ٨] ﴿أَصْطَفَى﴾ [الصافات: ١٥٣] وبابه. وقد تقدم القول في تصريف «أتَّخَذْتُمْ» وخلاف أبي علي فيها.
ويحتمل أن تكون هنا لواحد.
وقال أبو البقاء: وهو بمعنى «جَعَلتم» المتعدية لواحد.
ولا حاجة إلى جعلها بمعنى «جعل» لتعديها لواحد، بل المعنى: هلأ أخذتم من الله عهداً؟ ويُحتمل أن يتعدّى لاثنين، الأول «عهد»، والثاني «عند الله» مقدماً عليه، فعلى الأول يتعلّق «عند الله» ب «اتَّخَذْتُمْ».
وعلى الثاني يتعلّق بمحذوف.
ويجوز نقل حركة همزة الاستفهام إلى لام «قل» قبلها، فتفتح وتحذف الهمزة. وهي لغة مطّردة قرأ بها نافع في رواية وَرْش عنه.
قوله: «فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ» هذا جواب الاستفهام المقتدم في قوله: «أتَّخَذْتُمْ».
وهل هذا بطريق تضمين الاستفهام معنى الشرط، أو بطريق إضمار الشَّرط بعد الاستفهام وأخواته؟
قولان [تقدم تحقيقها] واختار الزمخشري القول الثاني، فإنه قال: «فَلَنْ يُخْلِفَ» متعلّق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده.
وقال ابن عطيةك «فلن يخلف الله عَهْده: اعتراض بين أثناء الكلام» كأنه يعني بذلك أن قوله: «أم تقولون» مُعَادل لقوله: «أتخذتم» فوقعت هذه الجملة بين المتعادلين مُعْترضة، والتقدير أيّ هذين واقع اتخاذكم العهد أم قولكم بغير علم؟ فعلى هذا لا محلّ لها من الإعراب، وعلى الأول محلها الجزم.
214
قوله: «أَمْ تَقُولُونَ» «أم» هذه يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون متّصلة، فتكون للمعادلة بين الشيئين، أي: أيّ هذين واقع، وأخرجه مُخْرج المتردّد فيه، وإن كان قد علم وقوع أحدهما، وهو قولهم على الله مالا يعلمون للتقرير، ونظيره: ﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [سبأ: ٢٤] علم أيهما على هدى، وأيهما في ضلال، وقد عرف شروط المتصلة أول السورة.
ويجوز أن تكون منقطعة، فتكون غير عاطفة، وتقدر ب «بل» والهمزة، والتقدير: بل أتقولون، ويكون الاستفهام للإنكار؛ لأنه قد وقع القول منهم بذلك، هذا هو المشهور في «أم» المنقطعة، وزعم جماعهة أنها تقدر ب «بل» وحدها دون همزة استفهام، فيعطف ما بعدها [على ما قبلها] في الإعراب؛ واستدّل عليه بقولهم: «إن لنا إبلاً أَمْ شَاءً» بنصب «شَاءً» وقول الآخر: [الطويل]
٦١١ - فَلَيْتَ سُلَيْمَى في الْمَمَاتِ ضَجِيعَتي هُنَالِكَ أَمْ فِي جَنَّةٍ أَمْ جَهَنَّمِ
التقدير: بل في جهنَّم، ولو كانت همزة الاستفهام مقدَّرةً بعدها لوجب الرفع في «شاء»، و «جهنم» على أنها خبر لمبتدأ محذوف، وليس لقائل أن يقول: هي في هذين الموضعين مُتَّصلة لما عرف أن من شرطها أن تتقدّمها الهمزة لفظاً أو تقديراً، ولا يصلح ذلك هنا.
قوله: «مَا لاَ تَعْلَمُونَ» ما منصوبة ب «تقولون»، وهي موصولة بمعنى «الذي» أو نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف، أي: ما لا تعلمونه، فالجملة لا محلّ لها على القول الأول، ومحلّها النصب على الثاني.

فصل في الاستدلال بالآية على أمور


الآية تدلّ على أمور:
أحدها: أن القول بغير دليل باطل.
الثاني: ما جاز وجوده وعدمه عقلاً لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلاَّ بدليل سمعي.
الثالث: تمسّك منكرو القياس وخبر الواحد بهذه الآية، قالوا: لأن القياس وخبر الواحد لا يفيدان العلم، فهو قول على الله بما لا يعلم.
215
والجواب: أنه دلت الدلائل على وجوب العمل عند حصول الظّن المستفاد من القياس، منه خبر الواحد، فكان وجوب العمل عنده معلوماً، فكان القول به قولاً بالمعلوم.
216
«بلى» حرف جواب ك «نعم وجير وأَجَلوإي»، إلا أن «بلى» جواب لنفي متقدم، سواءً دخله استفهام أم لا فيكون إيجاباً له نحو قول زيد، فتقول: بلى، أي: قد قام، وتقول: أليس زيد قائماً فتقول: بلى أيى هو قائم قال تعالى: ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى﴾ [الأعراف: ١٧٢] ويروى عن ابن عَبّاس أنهم لو قالوا نعم لكفروا.
وقال بعضهم: إن «بلى» قد تقع جواباً لنفي متقدّم وقد تقع جواباً لاستفهام إثبات كما قال عليه الصّلاة والسلام للذي سأله عن عطية أولاده: أَتُحِبُّ أَنْ تُسَاوِيَ بَيْنَ أَوْلاَدِكَ في البِرِّ «قال:» بَلَى «.
وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لرجل: أَلَسْتَ أَنْتَ الَّذِي لَقِيتُهُ ب»
مكة «؟ قال:» بلى «فأما قوله: [الوافر]
٦١٢ - أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو وَإِيَّانَا، فَذَاكَ بِنَا تَدَانِي
نَعَمْ وَتَرى الْهِلاَلَ كَمَا أَرَاهُ وَيعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلاَنِي
فقيل: ضرورة. وقيل: نظر إلى المعنى؛ لأن الاستفهام إذا دخل على النفي قرره وبهذا يقال: فيكف نقل عن ابن عباس أنهم لو قالوا لكفروا مع أنّ النفي صار إيجاباً. وقيل: قوله:»
نعم «ليس جواباً ب» أليس «إنما هو جواب لقوله:» فَذَاكَ بَنَا تَدانِي «فقوله تعالى:» بَلَى «رد لقولهم:» لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ «أي: بلى تمسّكم أبداً، في مقابلة قولهم:» إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ «وهو تقدير حسن.
والبصريون يقولون: إن»
بلى «حرف بَسِيْط، وزعم الكوفيون أن أصلها» بلى «التي للإضراب زيدت عليها» الباء «ليحسن الوَقْف عليها، وضمنت الياء معنى الإيجاب قيل: تدّل على رد النفي، والياء تدلّ على الإيجاب يعنون بالياء الألف. وإنما سموها ياء؛ لأنها حرف عال وتكتب بالياء.
216
و» مَنْ «يجوز فيها وَجْهَان.
أحدهما: أن تكون موصولة بمعنى»
الذي «والخبر قوله:» فأولئك «، وجاز دخول الفاء في الخبر لاستكمال الشروط، ويؤيد كونها موصولة، وذكر قسيمها موصولاً وهو قوله:» وَالَّذِينَ كَفَرُوا «، ويجوز أن تكون شرطية، والجواب قولهك» فَأُوْلَئِكَ «، وعلى كلا القولين فحملّها الرفع بالابتداء، ولكن إذا قلنا: إنها موصولة كان الخبر:» فأولئك «وما بعدها بلا خلاف، ولا يكون لقوله:» كَسَبَ سَيِّئَةً «وما عطف عليه محلّ من الإعراب؛ لوقوعة صلة.
وإذا قلنا: إنها شرطية جاء في خبرها الخلاف المشهور، إما الشرط أو الجزاء، أو هما حسب ما تقدم، ويكون قوله:»
كَسَبَ «وما عطف عليه في محلّ جزم بالشرط.
«سَيّئة»
مفعول به، وأصلها: «سَيْوِئَة» ؛ لأنها من ساء يسوءُ فوزنها «فَيْعِلَة» فاجتمع الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فأعلت إعلال «سَيِّد ومَيِّت» كما تقدم.
وراعى لفظ «مَن» فأفرد في قوله: «كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ» والمعنى مرة أخرى مجمع في قوله: «فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فيهَا خَالِدُونَ».
وقرأ نافع وأهل «المدينة» «خَطِيئَاتِه» بجمع السلامة والجمور: «خَطِيْئة» بالإفراد، ووجه القراءتين ينبني على معرفة السّيئة والخطيئة.
وفيهما أقوال:
أحدها: أنهما عبارتان عن الكُفْر بلفظين مُخْتلفين.
الثاني: أنهما عبارتان عن الكُفْر بلفظين مخْتلفين.
الثالث: [عكس الثاني].
فوجه قراءة الجماعة على الأول والثالث أن المراد بالخطيئة الكفر، وهو مفرد، وعلى الوجه الثَّاني أن المراد به جنس الكبيرة، ووجه قراءة نافع على الوَجْه الأول والثالث أن المراد بالخَطِيئات أنواع الكُفْر المتجددة في كلّ وقت، وعلى الوجه الثاني أن المراد به الكبائر وهي جماعة.
وقيل المراد بالخطيئة نفس السّيئة المتقدمة، فسماها بهذين الاسمين تقبيحاً لها كأنه قال: وأحاطت به خطيئهُ تلك أي السيئة، ويكون المراد بالسّيئة الكُفْر، أو يراد بهم
217
العُصَاة، ويكون أراد بالخلود المُكث الطويل، ثم بعد ذلك يخرجون.
وقوله: «فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ» إلى آخره تقدم نظيره.
وقرى «خطاياه» تكسيراًن وهذه مخالفة لسواد المصحف؛ فإنه رسم «خطيئتهُ» بلفظ التوحيد، وتقدم القول في تعريف خَطَايا.

فصل في لظفة «بلى»


قال صاحب «الكشاف» : بلى إثبات لما بعد حرف النفي، وهو قوله: «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ» أي: بلى تمسكم أبداً بدليل قوله: «هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».
أما السيئة فإنها تتناول جميع المعاصي، قال تعالى: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] «مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ» ولما كان من الجائز أن يظن أن كلّ سيئة صغرات أو كبرت، فحالها سواء في أنّ فاعلها يخلد في النَّار لا جرم بَيَّنَ تعالى أن الذي يستحقّ به الخلود أن يكون سيئة مُحِيْطة به، ومعلوم أن لفظ الإحاطة حقيقة في إحاطة جسم بجسم آخر كإحاطة السُّور بالبلد والكُوز بالماء، وذلك هاهنا ممتنع، فنحمله على ما إذا كانت السيئة كبيرة لوجهين:
أحدهما: أن المحيط يستر المحاط به، والكبيرة لكونها محيطة لثواب الطاعات كالسَّاترة لتلك الطاعات، فكانت المُشَابهة حاصلةً من هذه الجهة.
والثانيك أن الكبير إذا أَحْبَطَتْ ثواب الطَّاعات، فكأنها استولت على تلك الطاعات، وأحاطت بها كما يحيط العَسْكر بالإنسان بحيث لا يتمكن من التخلص منه فكأنه تعالى قال: بلى من كَسَبَ كبيرة وأحاطت كبيرته بطاعاته، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
فإن قيل: هذه الآية: وردت في حق اليهود؟
[فالجواب] : العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب، هذا وجه استدلال المعتزلة في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر.
وقد اختلف أهل القبلة [فيه] فمنهم من قطع بوعيدهم وهم فريقان؛ منهم من أثبت الوعيد المؤبّد، وهم جمهور المعتزلة والخوارج.
ومنهم من أثبت وعيداً منقطعاً، وهو قول بشر المريسي.
ومنهم من قطع بأنه لا وعيد لهم، وهو قول شاذّ ينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر.
218
والقول الثالث: أنّا نقطع بأنه سبحانه يعفو عن بعض العُصَاة ولكنا نتوقف في حقّ كل أحد على التعيين، ونقطع بأنه إذا عَذَّبَ أحداً منهم، فإنه لا يعذبه أبداً، بل يقطع عذابه، وهذا قول أكثر الأَصْحَاب والتابعين، وأهل السنة والجماعة، وأكثر الإمامية، فيشتمل هذا البحث على مسألتين.
إحداهما: القطع بالوعيد.
والأخرى: إذا ثبت الوعيد، فهل يكون ذلك على صفة الدوام أم لا؟ أما المعتزلة فإنهم استدلوا بالعمومات الواردة وهي على قسمين:
أحدهما: صيغة «من» في معرض الشرط.
والثاني: صيغة الجمع. فأما صيغة «من» في الشرط فإنها تفيد العُمُوم على ما ثبت في أصول الفقه، فكلّ آية وردت في القرآن بصيغة «من» في الوعيد، فقد استدلّت المعتزلة بها.
قالوا: لأنها تفيد العموم من وجوه:
أحدها: أنها لو لم تكن موضوعة للعموم لكانت إما موضوعة للخصوص، أو مشتركة بينهما، والقسمان باطلان، فوجب كونها موضوعة للعموم.
أما بطلان كونها موضوعة للخُصُوص، فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المتكلّم أن يعطي الجزاء لكلّ من أتى بالشرط؛ لأنّ على هذا التقدير لا يكون ذلك الجزاء مرتباً على ذلك الشّرط لكنهم أجمعوا على أنه إذا قال: من دخل داري أكرمته أنه يحسن أن يكرم كلّ من دخل داره، فعلمنا أن هذه اللفظة ليست للخصوص.
وأما بطلان كونها موضعة للاشتراك فلأمرين:
الأول: أنَّ الاشتراك خلاف الأصل.
والثاني: أنه لو كان ذلك لما عرف كيفية ترتّب الجزاء على الشرط إلاَّ بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قال: مَنْ دخل داري أكرمته، فيقال له: أردت الرجال أو النساء؟ فإذا قال: أردت الرجال يقال له: أردت العرب أم العجم؟ فإذا قال: أردت العرب يقال له: أردت ربيعة أم مضر؟ وهلم جرّاً إلى إن يأتي على جميع التقسيمات المُمْكنة، لما علمنا بالضرورة من عادة أهل اللسان قُبْحَ ذلك علمنا أن القول بالاشتراك باطل.
الوجه الثاني: صحة الاستثناء منهما، فإن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل.
219
الوجه الثالث: أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] قال ابن الزبعرى: لأخصمن محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال يا محمد أليس قد عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد عيسى ابن مريم، فتمسك بعموم اللفظ والنبي عليه الصلاة لم ينكر عليه ذلك، فدل ذلك على أن هذه الصيغة تفيد العموم.
النوع الثاني من دلائل المعتزلة: التمسّك في الوعيد بصيغة الجمع المعرفة بالألف واللام، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: ١٤] فإنها تفيد العموم، ويدل عليه وجوه:
أحدها: قول أبو بكر رَضِيَ اللهُ عَنْه: «الائمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» والأنصار سلموا له صحة تلك الحجة. ولما هَمّ بقتال مانعي الزكاة قال له عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه: أليس قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «اُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» فاحتج عليه بهذا اللفظ
220
بعمومه، ولم يقل أبو بكر ولا أحد من الصحابة: إن اللفظ لا يفيده، بل عدل إلى الاستثناء، فقال إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: «إِلاَّ بحَقِّهَا».
الثاني: أن هذا الجمع يؤكّد بما يقتضي الاستغراق، فوجب أن يفيد الاستغراق لقوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ [الحجر: ٣٠] وما كان كذلك فوجب أن يؤكد المؤكد في أصله الاستغراق؛ لأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد أجماعاً، والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتاً في الأصل.
الثالث: صحّة الاستثناء منه.
الرابع: أن المعرف يقتضي الكثرة فوق المنكر؛ لأنه يصح انتزع المنكر من المعرف ولا ينعكس، ومعلوم أن المنتزع [منه أكثر من المنتزع].
النوع الثاني: صيغ الجموع المقرونة بحرف «الذي كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى﴾ [النساء: ١٠] ﴿الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة﴾ [النحل: ٢٨] ﴿والذين كَسَبُواْ السيئات﴾ [يونس: ٢٧] ﴿والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة﴾ [التوبة: ٣٤] ﴿وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات﴾ [النساء: ١٨] فلو لم يكن الفاسق من أهل الوعيد لم يكن له في التوبة حاجة.
النوع الثالث: لفظة»
ما «كقوله ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة﴾ [آل عمران: ١٨٠].
النوع الرابع: لفظة»
كل «كقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ﴾ [يونس: ٥٤].
النوع الخامس: ما يدلّ على أنه سبحانه لا بد وأن يفعل ما توعدهم به وهو قوله: ﴿لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد ٠ مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ﴾ [ق: ٢٨، ٢٩] صريح في أنه تعالى لا بد وأن يفعل ما دلّ اللفظ عليه، وكذا الكلام في الصّيغ الواردة في الحديث.
والجواب من وجوه:
أحدها: لا نسلم أن صيغة»
من «في [معرض] الشرط للعموم، ولانسلّم أن صيغة الجمع إذا كانت معرفة بالألف واللام كانت للعوم، والذي يدلّ عليه أمور:
الأول: أنه يصحّ إدخال لفظتي الكل والبعض على هاتين اللَّفظتين، فيقال: كل من
221
دخل داري أكرمته، وبعض مَنْ دخل داري أكرمته، ويقال أيضاً: كل الناس كذا، وبعض الناس كذا، ولو كانت لفظة» من «في معرض الشرط تفيد العموم لكان إدخال لفظة» كل «عليها تكريراً، وإدخال لفظة» بعض «عليها نقضاً، وكذلك في [فلظ الجمع] المعرف.
الثاني أن هذه الصيغ جاءت في كتاب الله تارةً للاستغراق، وأخرى للبعض، فإن أكثر العمومات مخصوصة، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل، فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين العموم والخصوص، وذلك هو أن يحمل على إفادة الأكثر من غير بيان أن يفيد الاستغراق أو لا يفيد.
الثالث: أن هذه الصيغ لو أفادت العموم إفادة قطعية لاستحال إدخال لفظ التأكيد عليها؛ لأن تحصيل الحاصل مُحَال، فحيث حسن إدخال هذه الألفاظ عليها علمنا أنها لا تفيد معنى العموم لا مَحَالة، سلمنا أنها تفيد معنى ولكن إفادة قطعية أو ظنية، والأول ممنوع وباطل قطعاً؛ لأن من المعلوم بالضرورة أنَّ الناس كثيراً ما يعبرون عن الأكثر بلفظ الكل، والجمع على سبيل المبالغة كقوله تعالى: ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٢٣] وإذا كانت هذه الألفاظ تفيد معنى العموم إفادة ظنية، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية، سلّمنا أنها تفيد معنى العموم إفادة قطعية، ولكن لا بد من اشتراط أَلاَّ يوجد شيء من المخصصات، فإنه لا نزاع في جواز تطرق التخصيص إلى العام، فلم قلتم: إنه لم يوجد شيء من المخصصات؟ أقصى ما في الباب أن يقال: بحثنا فلم نجد شيئاً من المخصصات، لكن عدم الوِجْدَان لا يدلّ على عدم الوجود.
وإذا كانت إفادة هذه الألفاظ الاستغراق متوقفة على نفي المخصصات، وهذا الشرط غير معلوم [كانت الدلالة متوقفة على شرط غير معلوم] فوجب ألاَّ تحصل الدلالة، ومما يؤكد هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٦] حكم على كل الذين كفروا أنهم لا يؤمنون، ثم إنا شاهدنا قوماً منهم قد آمنوا، فعلمنا أنه لا بد من أحد الأمرين:
إما لأن هذه الصيغة ليست موضوعة للشمول، أو لأنها وإن كانت موضوعة لهذا المعنى، إلاَّ أنه قد وجدت قرينة في زمان الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا يعلمون من أجلها أ، مراد الله تعالى من هذا العموم هو الخصوص، وأما ما كان هناك فَلِمَ يجوز مثله هاهنا؟ سلمنا أنه لا بد من بيان المخصص لكن آيات العفو مخصصة لها، والرجحان معنا؛ لأن آيات العفو بالنسبة إلى آيات الوعيد خاصة بالنسبة إلى العام، والخاصّ مقدم على العام لا محالة، سلّمنا أنه لا يوجد المخصّص، ولكن عمومات الوعيد مُعَارضة بعمومات الوعد، ولا بدّ من الترجيح، وهو معنى من وجوه:
222
أحدها: أنَّ الوفاء بالوعد أدخل في الكرم من الوفاء بالوعيد.
الثاني: أنه قد اشتهر في الأخبار أن رحمة الله سابقة على غضبه وغالبة عليه، فكان ترجيح عمومات الوعد أولى.
الثالث: أن الوعيد حق الله تعالى والوعد حق العبد، وحق العبد أولى بالتحصيل من حق الله تعالى، سلّمنا أنه لم يوجد المعارض، ولكن هذه العمومات نزلت في حق الكُفَّار، فلا تكون قاطعة في العمومات.
فإن قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب.
قلنا: هَبْ أنه كذلك، ولكن لما رأينا كثيراً من الألفاظ العامة وردت في الأسباب الخاصة، والمراد تلك الأسباب الخاصة فقط علمنا أنّ إفادتها للعموم لا تكون قوية. والله أعلم.
فهذا أصل البَحْث في دلائل الفريقين، وأما دلائل الفريقين من الكتاب والسُّنة فكثيرة، فمنها على هذه الأصل حجّة من قال بالعفو في حق العبد، [وبعض] الآيات الدالة على أنه تعالى غفور رحيم غافر غفار، وهذا لا يحسن إلاّ في حق من يستحق العذاب.
[فإن قيل] : لم لا يجوز حمله على تأخير العِقَابِ كقوله في قصة اليهود: ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ﴾ [البقرة: ٥٢] والمراد تأخير العقاب إلى الآخرة، وكذا قوله: ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى: ٣٠] وكذا قوله: ﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى: ٣٤].
فالجواب: العفو أصله الإزالة من عَفَا أمره كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ [البقرة: ١٧٨] وليس المراد منه التأخير إلى وقت معلوم، بل الإسقاط المطلق، فإن الغريم إذا أخر المطالبة لا يقال: إنه عفى فيه، ولو أسقطه يقال: إنه عفى عنه.
الثانية: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨] وهذا يتناول صاحب [الصغيرة وصاحب الكبيرة] قبل التوبة؛ لأن الغفران للتائبين وأصحاب الصغائر واجب غير معلّق على المشيئة.
فإن قيل: لا نسلم أن تلك المغفرة تدلّ على أنه تعالى لا يعذب العُصَاة في الآخرة؛ لأن المغفرة إسقاط العقاب، وهو أعم من إسقاطه دائماً أو لا دائماً واللفظ الموضوع بإزار القَدْرِ المشترك لا إشعار له بكل واحد، فيجوز أن يكون المراد أن الله تعالى لا يؤخر عقاب الشرك في الدنيا لمن يشاء، ويؤخر عقاب ما دون ذلك في الدنيا لمن يشاء. فحصل بذلك تخويف كل الفريقين.
223
سلمنا أنَّ الغفران عبارة عن الإسقاط على الدوام، فلم لا يمكن حمله على مغفرة التائب، ومغفرة صاحب الصغيرة؟
وأيضاً لا نسلم أن قوله: «مَا دُونَ ذَلِكَ» يفيد العموم لصحة إدخال لفظ «كل» و «بعض» على البدل، [مثل أن] يقال: ويغفر كل ما دون ذلك، وهو يمنع العموم.
سلمنا أنه للعموم، ولكنا نخصصه بصاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة.
فالجواب: أما إذا حملنا المغفرة على التأخير، وجب أن يكون عقاب المشركين في الدنيا أكثر [من عقاب المؤمنين]، وإلاَّ لم يكن في التفضيل فائدة، وليس كذلك لقوله تعالى: ﴿لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ﴾ [الزخرف: ٣٣].
قوله: لم قلتم: إن قوله: «مَا دُونَ ذَلِكَ» يفيد العموم؟
قلنا: لأن قوله «ما» تفيد الإشَارَة إلى الماهية الموصوفة بأنها دون الشرك وهذه الماهيّة ما هية واحدة، وقد حكم قطعاً بأنه يغفرها، ففي كل صغيرة متحقق فيها هذه الماهية وجب تحقق الغفران.
الثالثة: قال يحيى بن معاذ: إلهي إذا كان توحيد ساعة يَهْدم كفر خسمين سنة فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات كان مقتضى العَدْل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي لعمومات الوعد وهي كثيرة ثم نقول: لما وقع التعارض فلا بد من الترجيح وهو معنا من وجوه:
أحدها: أن عمومات الوعد أكثر، والترجيح بكثرة الأدلة أمر معتبر في الشرع.
وثانيها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات﴾ [هود: ١١٤] [يدلّ على أن الحسنة إنما كانت مذهبة للسيئة لكونها حسنة، فوجب أن تكون كل حسنة مذهبة لكل سيئة] ترك العمل به في حسنات الكُفَّار، [فإنها لا تذهب سيئاتهم] فيبقى معمولاً به في الباقي.
وثالثها: تضعف الحسنة، كما قال تعالى: ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ﴾ [البقرة: ٢٦١] ثم زاد فقال: «وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ» وفي جانب السَّيئة قال: ﴿وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠].
ورابعها: قال في آية الوعد: ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ الله حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً﴾ [النساء: ١٢٢].
ذكره للتأكيد ولم يقل في شيء من المواضع وعيد الله حقّاً.
224
وخامسها: أن القرآن مملوء من كونه تعالى غافراً غفوراً رحيماً كريماً عفوّاً رحماناً.
والأخبار في هذا قد بلغت حدّ التواتر، وكل ذلك يوجب رُجْحَان الوعد، وليس في القرآن ما يدل على أنه تعالى بعيد عن الرحمة والكرم والعفو، وكل ذلك يوجب رُجْحَان جانب الوعد.
سادسها: أن الإنسان [هذا أتى] بأفضل الخيرات وهو الإيمان ولم يأت بأقبح القبائح وهو الكفر [بل أتى بالبشر الذي هو في طبقة القبائح ليس في الغاية والسيد إذا أتى عبده من الطاعات، وأتى بمعصية متوسطة، فلو تولى بتلك المعصية على الطاعة لعد لئيماً مؤذياً].

فصل في الاستدلال بالآية


قد شُرِطَ في هذه الآية شرطان:
أحدهما: اكتساب السّيئة.
والثاني: إحاطة تلك السيئة بالعَبْدِ، وذلك يدل على أنه لا بُدّ من وجود الشرطين ولا يكفي وجود أحدهما، وهذا يدل على أن من عقد اليمين على شرطين في طلاق أو أعتاق أنه لا يحنث بوجود أجدهما.
225
اعلم أنه سبحانه وتعالى: ما ذكر في القرآن آية وعيد إلا وذكر في جنبها آية وَعْد، وذلك لفوائد:
أحدها: أن يظهر سبحانه بذلك عدله؛ لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصّرين على الكفر، وجب أن يحكمم بالنَّعيم الدائم على المصرين على الإيمان.
وثانيهما: أنّ المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه على ما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «المؤمن لَوْ وَزِنَ خُوْفُهُ وَرَجَاؤهُ لاَعْتَدَلاَ» وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق.
وثالثها: أن يظهر بوعده كمال رحمته وبوعيده كما حِكْمته، فيصير ذلك سبباً [للعرفان].
فإن قيل: دلّت الآية على أنْ العمل الصالح خارج عن الإيمان؛ لأنه لو دلّ الإيمان على العمل الصالح لعد الإيمان تكريراً.
أجاب القاضي: بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة إلاّ أن
225
قوله: «آمن» لا يفيد إلا أنه فعل فعلاً واحداً من أفعال الإيمان، فلهذا حسن أن يقول: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
والجواب: أن فعل الماضي يدلّ على حصول المصدر في زمان معين والإيمان هو المصدر فلو دلّ ذلك على جميع الأعمال الصالحة لكان قوله:»
آمَنَ «دليلاً على صدور تلك الأعمال منه.

فصل في مرتكب الكبيرة


هذه الآية تدلّ على أن صاحب الكبيرة قد يدخل الجنة؛ لأنه أتى بالإيمان والأعمال الصالحات، ثم أتى بعد ذلك بالكبيرة، ولم يَتُبْ عنها، فهذا الشَّخص قبل إتيانه بالكبيرة كان قد صدق عليه أنه آمن، وعلم الصالحات [في ذلك الوقت، ومن صدق عليه ذلك قوله:»
أُولَئِكَ أًصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ «.
فإن قيل قوله تعالى:»
وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ «لا يصدق عليه إلا إذا أتى بجميع [الأعمال]، ومن جملة الصَّالحات التوبة، فإذا لم يأت بها لم يكن آتياً بالصالحات، فلا يندرج تحت [الآية].
قلنا: [لو سلمنا أنه قبل] الإتْيَان بالكبيرة [صدق] عليه أنه آمن وعمل الصالحات [لأنه متى صدق المركب يجب صدق المفرد، بل إنه إذا أتى بالكبيرة لم يصدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات] في كل الأوقات، لكن قولنا: آمن وعمل الصالحات أعم من قولنا: إنه كذلك في كل الأوقات، أو في بعض الأوقات، والمعتبر في الآية هو القَدْرُ المشترك، فثبت أنه مندرج تحت حكم الوَعْدِ.
226
«إذْ» معطوف على الظرف قبله، وقد تقدم ما فيه من كونه متصرفاً أو لا.
و «أّخَذْنَا» في محلّ خفض، أي: واذكر وَقْت أَخْذنا ميثاقهم، أو نحو ذلك.
«لا تَعْبُدُونَ» قرأ ابن كثير وغيره والكِسائي بالياء، والباقون بالتاء.
226
فمن قرأ فلأن الأسماء الظَّاهرة حكمها الغيبة، ومن قرأ بالخطاب هو الْتِفَات، وحكمته أنه أدعى لِقَبُول المخاطب الأمر والنهي الواردين عليه.
وجعل أبو البقاء قراءة الخِطَاب على إضمار القول.
قال: يقرأ بالتاء على تقدير: قلنا لهم: لا تعبدون إلا الله وكونه التفاتاً أحسن.
وفي هذه الجملة المنفيّة من الإعراب ثمانية أوجه:
أظهرها: أنها مفسرة لأخذ الميثاق، وذلك لأنه تعالى لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل كان ذلك في إبْهَام للميثاق ما هو؟ فأتى بهذه الجُمْلة مفسرة له، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب.
الثاني: أنها في محلّ نصب على الحال من «بَنِي إِسْرَائِيْلَ» وفيها حينئذ وجهان:
أحدهما: أنها حال مقدّرة بمعنى: أخذنا ميثاقهم مقدّرين التوحيد أبداً ما عاشوا.
والثَّاني: أنَّها حال مقارنة بمعنى: أخذنا مِيْثَاقهم ملتزمين الإقامة على التوحيد، قاله أبو البقاء [وسبقه إلى ذلك قطرب والمبرد].
وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذلك على الصحيح، خلافاً لمن أجاز مجيئها من المُضَاف إليه مطلقاً، لا يقال: المضاف إليه معمول له في المعنى ل «ميثاق» ؛ لأن ميثاقاً إما مصدر أو في حكمه، فيكون ما بعده إما فاعلاً أو مفعولاً، وهو غير جائز «لأن من شرط عمل المصدر غير الواقع موقع الفعل أن ينحل إلى حرف مصدري، وفعل هذا لا ينحل لهما، لو قدرت: وإذ أخذنا أن نواثق بني إسرائيل، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل، لم يصح ألا ترى أنك لو قلت: أخذت علم زيد لم يتقدر بقول: أخذت أن يعلم زيد، ولذلك منع ابن الطَّراوة في ترجمة سيبويه:» هذا باب علم ما الكلم من العربية «أن يقدر المصدر بحرف مصدري والفعل، ورده وأنكر على من أجازه.
227
الثالث: أن يكون جواباً لقسم محذوف دلّ عليه لفظ المِيْثَاق، أي: استحلفناهم، أو قلنا لهم: بالله لا تعبدون، ونسب هذا الوجه لسيبويه، ووافقه الكسائي والفَرّاء والمبرد.
الرابع: أن يكون على تقدير حذف حرف الجر، وحذف» أن «، والتقدير: أخذنا ميثاقهم على ألاَّ تعبدوا، فَحُذِف حرف الجر؛ لأن حذفه مطرد مع» أنَّ وأنْ «كما تقدم، ثم حذفت» أن «الناصبة، فارتفع الفعل بعدها؛ كقول طرفة: [الطويل]
٦١٣ - أَلاّ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ، هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي
وحكي عن العرب: «مُرْهُ يَحْفِرَهَا»
أي: بأن يحفرها، والتقدير: عن أن يحضر، أو بأن يحفرها، وفيه نظر، فإن [إضمار] «أن» لا ينقاس، إنما يجوز في مواضع عدها النحويون، وجعلوا ما سواها شاذّاً قليلاً، وهو الصحيح خلافاً للكوفيين، وإذا حذفت «أن»، فالصحيح جواز [النصب والرفع]، وروي «مُرْهُ يَحْفِرهَا» و «أحضر الوَغَى» بالوجهين، وهذا رأي المبرد والكوفيين خلافاً لأبي الحسن، حيث التزم رفعه.
وأيد الزمخشري هذا الوجه الرابع بقراءة عبد الله: «لاَ تَعْبُدُوا» على النهي، قال: إلاَّ أنه جاء على لفظ الخبر لقوله تعالى: ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ [البقرة: ٢٣٣]، قال: والذي يؤكد كونه نهياً [قوله: «وأقيموا الصلاة» ] فإنه تنصره قراءة عبد الله وأُبي: «لا تعبدوا».
الخامس: أن يكون في محلّ نصب بالقول المحذوف، وذلك القول حال تقديره: قائلين لهم: لا تعبدون إلا الله، ويكون خبراً في معنى النهي، ويؤيده قراءة أُبَي المتقدمة، ولهذا يصح عطف «قُولُوا» عليه، وبه قال الفَرّاء.
السادس: أَنَّ «أنْ» الناصبة مضمرة كما تقدم، ولكنها هي وما في حَيّزها في محلّ نصب على أنها بدل من «مِيْثَاق: ، وهذا قريب من القول الأول من حيث إن هذه الجملة مفسرة للميثاق، وفيه النظر المتقدم أعني حذف أن في غير المواضع المقيسة.
السابع: أن يكون منصوباً بقول محذوف، وذلك القول ليس حالاً، بل مجرد أخبار، والتقدير: وقلنا لهم ذلك، ويكون خبراً في معنى النهي.
قال الزمخشري: كما تقول: تذهب إلى فلان تقول له: كذا تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي؛ لأنه كأنه سُورعَ إلى الامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه، وتَنْصره قراءى عبد الله وأُبَيّ:»
لاَ تَعْبُدُوا «ولا بد من إرادة القول بهذا.
الثامن: أن يكون التقدير:»
ألاَّ تَعْبُدُونَ «وهي» أن «المفسرة؛ لأن في قوله: أخَذْنَا
228
مِيْثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ» إيهاماً كما تقدم، وفيه معنى القول، ثم حذف «أن» المفسرة، ذكره الزَّمخشري.
وفي ادعاء حذف حرف التفسير نظر لا يخفى.
قوله: «إِلاَّ اللهَ» استثناء مفرغ؛ لأن ما قبله مفتقر إليه وقد تقدم تحقيقه أولاً.
وفيه التفات من التكلّم إلى الغيبة، إذ لو جرى الكَلاَم على نسقه لقيل: لا تعبدون إلاَّ إيانا، لقوله: «أَخّذْنَا».
وفي هذا الالتفات من الدّلالة على عظم هذا الاسم والتفرد به ما ليس في المضمر، وأيضاً الأسماء الواقعة ظاهرة، فناسب أن يجاوز الظاهرُ الظاهرَ.

فصل في مدلول «الميثاق»


هذا الميثاق يدلّ على تمام ما لا بد منه في الدينن لأنه تعالى لما أمر بعبادته، ونهى عن عبادة غيره، وذلك مسبوق بالعِلْمِ بذاته سبحانه، وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه، وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد، ومسبوق أيضاً بالعلم بكيفية تلك العبادة الَّتِي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوَحْي والرسالة، فقوله: «لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ» يتضمّن كلّ ما اشتمل عليه الكلام والفقه والأحكام.
وقال مكّي: «هذه الميثاق هو الذي أخذه عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم كالذَّر» و «بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً» فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن تتعلق الباء ب «إحساناً» على أنه مصدر واقع [موقع} فعل الأمر، والتقدير وأحسنوا وبالوالدين، والباء ترادف «إلى» في هذا المعنى، تقول: أحسنت به وإليه، بمعنى أن يكون على هذا الوجه ثَمَّ مضافٌ محذوف، وأحسنوا بر الوالدين بمعنى: أحسنوا إليهما برّهما.
قال ابن عطية: يعترض على هذا القول، أن يتقدّم على المصدر معمولُهُ، وهذا الاعتراض لا يتم على مَذْهَب الجمهور، فإن مذهبهم جواز تقديم معمول المَصْدر النَّائب عن فعل الأمر عليه، تقول: «ضرباً زيداً» وإن شئتك «زيداً ضرباً» وسواء عندهم إن جعلنا العمل للفعل المقدر، أم للمصدر النائب عن فعله، فإن التقديم عندهم جائز، وإنما بمتنع تقدم معمول المَصْدر المنحل لحرف مصدري والفعل كما تقدم وإنما يتم على مذهب أبي الحسن، فإنه منع تقديم معمول المصدر النائب عن الفعل، ويخالف الجمهور في ذلك.
الثاني: أنها متعلّقة بمحذوف وذلك المحذوف يجوز أن يقدر فعل أمر مُرَاعاة
229
لقوله: «لاَ تَعْبُدُونَ» فإنه في معنى النهي كما تقدم، كأنه قال: لا تبعدوا إلا الله وأحسنوا بالوالدين، ويجوز أن يقدر خبراً مراعاة لِلَفْظِ «لاَ تَعْبُدُونَ» والتقدير: وتحسنون [وإن كان معناه الأمر، وبهذين] الاحتمالين قدره الزمخشري، وينتصب «إحساناً» حينئذ على المصدر المؤكّد لذلك الفعل المحذوف.
وفيه نظر من حيث إن حذف عامل المؤكّد منصوصٌ على عدم جوازه، وفيه بحث ليس هذا موضعه.
الثالث: أن يكون التقدير: واستوصوا بالوالدين، ف «البَاء» متعلّقة [بهذا الفعل المقدر] أيضاً، وينتصب «إحساناً» حينئذ على أنه مفعول به.
الرابع: تقديره: وَوَصَّيْنَاهُمْ بالوالدين، فالباء متعلّقة بالمحذوف أيضاً، وينتصب «إحساناً» [حينئذ] على أنه مفعول لأجله، أي: لأجل إحساننا إلى الموصى بهم من حيث إنّ الإحسان متسبّب عن وصيتنا بهم، أو الموصى لما يترتب الثواب منّا لهم إذا أحسنوا إليهم.
الخامس: أن تكون الباء وما عملت فيه عطفاً على قوله: «لاَ تَعْبُدُونَ» إذا قيل بأن «أن» المصدرية مقدرة فينسبك منها ومما بعدها مصدر يعطف عليه هذا المجرور، والتقدير: أخذنا ميثاقهم بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين، أي: وببرّ الوالدين، أو: بإحسان إلى الوالدين، فتتعلّق «الباء» حينئذ ب «الميثاق» لما فيه من مَعْنَى الفعل، فإن الظرف وشبهه تعمل فيه رَوَائح الأفعال، وينتصب «إحساناً» حينئذ على المصدر من ذلك المضاف المحذوف، وهو «البر» لأنه بمعناه، أو الإحسان الذي قدرناه.
والظّاهر من هذه الأوجه هو الثَّاني، لعدم الإضمار اللازم في غيره، أو لأن ورود المصدر نائباً عن فعل الأمر مطّرد شانع.
وإنما تقدّم المعمول اهتماماً به وتنبيهاً على أنه أولى بالإحسان إليه ممن ذُكِرَ معه.
و «الَوالِدَان» الأب والأم، يقال لكل واحدٍ منهما: والد؛ قال: [الطويل]
230
وقيل: لا يقال في الأم: والدة بالتاء، وإنما قيل فيها وفي الأب: والدان تغليباً للذكر.
و «الإحسان» : الإنعام على الغير.
وقيل: بل هو أعم من الإنعام.
وقيل: هو النَّافع لكل شيء.

فصل في وجوه ذكر البر بالوالدين مع عبادة الله


قال ابن الخَطِيْبِ: إنما أراد عبادة الله بالإحْسَان إلى الوالدين لوجوه:
أحدها: أن نعمة الله على العَبْدِ أعظم النعم، فلا بد من تقديم شكره على شُكْرِ غيره، ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعظم النّعم؛ لأن الوالدين هما الأصل في وجود الولد، ومنعمان عليه بالتربية، فإنعامهما أعظم والإنْعَام بعد إنعام الله تعالى.
وثانيها: أن الله سبحانه وتعالى المؤثر في وجود الإنْسَان في الحقيقة، والوالدان مؤثران في وجوده بحسب العُرْفِ الظاهر، فلأنه المؤثر الحقيقي أردفه بذكر المؤثر بحسب العرف الظَّاهر.
وثالثها: أن الله سبحانه وتعالى لا يطلب على إنعامه على العبد عوضاً ألبتَّة، وإنعام الوالدين كذلك، فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضاً.
ورابعها: أن الله لا يملّ من الإنعام على العبد، ولو أتى العبد بأعظم الجرائم، فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه، وكذلك الوالدان لا يملاَّن الولد ولا يقعطان عنه موادتهما وإن كان الولد مسيئاً إلى الوالدين.
وخامسها: كما أن الوالد المشفق يتصرّف في مال ولده بالاسْتِرْبَاح، وطلب الزيادة ويصونه عن البخس والنقصان، فكذلك الحقّ سبحانه وتعالى يتصرف في طاعة العبد، فيصونها عن الضياع ويضاعفها كما قال: ﴿مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ﴾ [البقرة: ٢٦١].
فلما تشابها من هذه الحيثيات كانت نعم الوالدين قليلة بالنسبة إلى نِعَمِ الله تعالى، [بل النعم كلها من الله تعالى فلا] جَرَمَ ذكر الإحسان إلى الوالدين عقب ذكر عبادة الله تعالى.

فصل في وجوب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين


اتفق أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين لقوله في هذه الآية: «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً» بغير تقييد بكونهما مؤمنين أم لا، وقد ثبت في أصول الفقه أن
231
الحكم المرتب على الوصف يشعر بغلبة الوصف فالأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما وَالدَيْن، وذلك يقتضي العموم، وهكذا الاستدلال بقوله تعالى:
﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾ [الإسراء: ٢٣] وهذا نهاية المبالغة في المنع من إيذائهما إلى أن قال: ﴿وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾ [الإسراء: ٢٤] فصرّح ببيان السّبب في وجوب هذا التعظيم، وكذلك قوله: ﴿وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ [الإسراء: ٢٣] وقوله تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً﴾ [لقمان: ١٥] صريح في الدّلالة.
و «ذِي الْقُرْبى» وما بعده عطف على المجرور بالباء، وعلامة الجر فيها الياء؛ لأنها من الأسماء الستة التي ترفع بالواو، وتنصب بالألف، وتجر بالياء بشروط مذكورة، وهل إعرابها بالحروف أو بغيرها؟ عشرة مذاهب للنَّحويين فيها.
وهي من الأسماء اللاَّزمة للإضافة لفظاً ومعنى إلى أسماء الأجناس الظاهرة؛ ليتوصّل بذلك إلى وصف النكرة باسم الجنس؛ نحو: «مَرَرْتُ بِرَجُلٍ ذِي مَالٍ» وإضافته إلى المضمر ممنوعةٌ إلا في ضرورة أو نادر كلام؛ كقوله: [الوافر]
٦١٤ - عَجِبْتُ لمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ وَدْي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أِبَوَانِ
٦١٥ - صَبَحْنَا الْخزرَجِيَّةَ مُرْهَفَاتٍ أَبَانَ ذَوِي أَرُومَتِهَا ذَوُوهَا
وأنشد الكسائِيُّ: [الرمل]
٦١٦ - إِنَّما يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ في النَّاسِ ذَوُوهُ
وعلى هذا قولهم: «اللهم صَلِّ على محمد وذويه».
وإضافته إلى العلم قليلة جدًّا، وهي على ضربين:
واجبة: وذلك إذا اقترنا وضعاً، نحو: «ذي يزن» و «ذي رعين».
وجائزة وذلك إذا لم يقترنا وضعاً، نحو: «ذي قطري» و «ذي عمرو» أي: صاحب هذا الاسم.
وأقل من ذلك إضافتها إلى ضمير المخاطب؛ كقوله: [الطويل]
232
وتجيء «ذو» موصولة بمعنى «الَّذِي» وفروعه، والمشهورُ حينئذ بِنَاؤها وتذكيرها، ولها أحكام كثيرة.
و «القربى» مضاف إليه، وألفه للتَّأنيث، وهو مصدر ك «الرُّجْعَى والعُقْبَى»، ويطلق على قرابة الصُّلْب والرَّحِم؛ قال طَرَفَةُ: [الطويل]
٦١٧ - وَإِنَّا لَنَرْجُو عَجِلاً مِنْكَ مِثْلَ مَا رَجَوْنَاهُ قِدْماً مِنْ ذَوِيكَ الأَفَاضِلِ
٦١٨ - وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً عَلَى الْحُرِّ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ
وقال أيضاً: [الطويل]
٦١٩ - وَقَرَّبْتُ بالْقُرْبَى وَجَدِّكَ إِنَّهُ مَتَى يَكُ أَمْرٌ لِلنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ
والمادة تدلّ على الدّنو عند البعد.

فصل


اعلم أن حقّ ذوي القُرْبى كالتَّابع لحق الوالدين؛ لأن اتصال الأقارب بواسطة اتِّصَال الوالدين، فلذلك أَخَّر الله تَعَالى ذكرهم بعد ذكر الوالدين، والسبب في تأكيد رعاية هذا الحق إلى القرابة؛ لأن القرابة مظنّة الاتِّحَاد والأُلْفَة والرعاية والنصرة، فهذا وجبت رعاية حُقُوق الأَقَارب.

فصل في أحكام تؤخذ من الآية


قال الشَّافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث المَحرم، وغير المَحرَم، ولا يدخل الأب والابن؛ لأنها لا يعرفان بالقَرابَة، ويدخل الأحفاد والأجداد.
وقيل: لا يدخل الأصول والفروع.
وقيل: يدخل الكلّ.
قال الشافعي: يرتقي إلى أقرب جدّ ينسب هو إليه ويعرف به، وإن كان كافراً.
وذكر أصحابه في مثاله: لو أنه أوصى لأقارب الشافعي، فإنا نصرفه إلى بني شَافعٍ دون بني المطّلب، وبني عبد مناف، وإن كانوا أقارب؛ لأنّ الشّافعي ينتسب في المشهور إلى بني شافع دون عبد مَنَاف.
قال الغَزَالي: وهذا في زمان الشَّافعي، أما في زماننا فلا ينصرف إلاَّ إلى أولاد الشافعي ولا يرتقي إلى بني شافع؛ لأنّه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا، أما قرابة الأم، فإنها تدخل في وصيّة العجم، ولا تدخل في وصيّة العرب الأَظْهر؛ لأنهم لا يعدون ذلك قَرَابةً أما لو قال: لأرحام فلان دخل قَرَابَة الأب والأم.
233
قوله: «وَاليَتَامَى» وزنه «فَعَالى»، وألفه للتأنيث، وهو جمع «يتيم» ك «نديم ونَدَامى» ولا ينقاس هذا الجمع.
وقال ابن الخطيب: جمعه «أَيْتَام ويتامى» واليُتْم: الانفراد، ومنه اليتيم؛ لانفراده عن أبويه أو أحدهما، ودرة يتيمة: إذا لم يكن لها نظير.
وقيل: اليَتَيم: الإبطاء، ومنه: صبي يتيم؛ لأنه يبطىء عنه البرّ وقيل: هو التغافل، لأن الصبيّ يتغافل عما يصلحه.
قال الأَصْمَعيّ: «اليتيم في الآدميين من فَقَدَ الآباء، وفي غيرهم من فقد الأمّهات».
وقال المَاوَرْدِي: إن اليتم أيضاً في الناس من قبل فقد الأمهات.
والأول هو المعروف عند أهل اللغة، ويسمى يتيماً إلى أن يبلغ، يقال: يَتِمَ يَيْتَم يَتْماً مثل: سَمِعَ يَسْمعُ سَمْعاً ويَتُمَ يَيْتُم يُتْماً مثل: عَظُمَ يَعْظُم عُظْماً، فهاتان لُغَتان مشهورتان حكاهما الفرَّاء، ويقال: أيتمه الله إيتاماً، أي: فعل به ذلك.
وعلامة الجَرّ في «القربى» و «اليَتَامى» كسرة مقدرة على الألف، وإن كانت للتأنيث؛ لأنَّ ما لا ينصرف إذا أضيف أو دخلته «أل» انجزّ بالكسرة، وهل يسمّى حينئذ منجرّاً أو منصرفاً.
ثلاثة أقوال، يفصل في الثالث بين أن يكون أحدَ سببيه العلمية، فيسمى منصرفاً نحو: «يَعْمُرُكُمْ» أو لا يسمى منجراً نحو: «بالأحمر»، و «القربى واليتامى» من هذا الأخير.

فصل في رعاية اليتيم


[اليتيم كالتالي] لرعاية حقوق الأقارب؛ لأنه لصغره لا ينتفع به وليتمه وخلوه عمن يقوم به يحتاج إلى من ينفعه، والإنسان قلّما يرغب في صُحبة مثل هذا، وإن كان هذا التكليف شاقّاً على الأنفس لا جَرَمَ كانت درجته عظيمةً في الدين.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيْمِ كَهَاتَيْنِ فِي الجَنَّةِ» وأشار بالسَّبَّابة والوسطى. وقال عله الصلاة والسلام: [ «مَا قَعَدَ يَتِيْم مع قَوْم عَلَى قَصْعَتِهِمْ فَيقرب
234
قَصْعَتَهُمُ الشَّيْطَانُ» وقال عليه السلام] :«مَنْ ضَمَّ يَتِيْماً مِنْ بَيْنِ المُسْلِميْنَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يُغْنِيَهُ اللهًُ عَزَّ وَجَلَّ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلاً لاَ يُغْفَرُ».
قوله: «والمساكين» جمع «مسكين»، ويسمونه جمعاً لا نظير له من الآحاد، وجمعاً على صيغة منتهى الجُمُوع، وهو من العِلَلِ القائمة مقام علّتين، وسيأتي تحقيقه قريباً إن شاء الله تعالى.
وتقدم القول في اشتقاقه عند ذكر المسكنة.
واختلف فيه: هل هو بمعنى الفقير أو أسوأ حالاً منه كقوله: ﴿أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ [البلد: ١٦] أي: لصق جلده بالتراب، وهو قول أبي حنيفة وغيره بخلاف القير؛ فإن له شيئاً ما.
قال: [البسيط]
٦٢٠ - أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَم يُتْرَكْ لَهُ سَبدُ
أو أكمل حالاً؛ لأن الله جعل لهم ملكاً ما، قال: ﴿أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ﴾ [الكهف: ٧٩] وهو قول الشافعي وغيره.

فصل


إنما تأخّرت درجتهم عن اليتامى؛ لأن المِسْكين قد ينتفع به في الاستخدامن فكان الميل إلى مُخَالطته أكثر من المَيْل إلى مُخَالطة اليتامى، وأيضاً المسكين يمكنه الاشتغال بتعهّد نفسه، ومصالح معيشته، واليتيم ليس كذلك، فلا جَرَمَ قدم الله ذكر اليتيم على المسكين.
قال: عليه الصَّلاة والسلام: «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ والمِسْكِينَ كَالمُجَاهِدِ فِي سَبِيْلِ اللهِ وأحسبه قال وَكَالقَائِمِ لاَ يَفْتُرُ مِنْ صَلاَةٍ وَكَالصَّائم لاَ يُفْطِرُ».
235
قال ابن المنذر: كان طاوس يرى السَّعي على الأخواب أفضل من الجهاد في سبيل الله.
قوله: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» هذه الجملة عَطْفٌ على قوله: «لاَ تْعُبُدُونَ» في المعنى، كأنه قال: لا تعبدوا إلا الله، وأحسنوا بالوالدين وقولوا، أو على «أحسنوا» المقدر، كما تقدم تقريره في قوله تعالى: «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً».
وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً لقول محذوف تقديره: وقلنا لهم: قولُوا.
وقرأ حمزة والكسائي: «حَسَناً» بفتحتين، و «حُسُناً» بضمتين، و «حُسْنَى» من غير تنوين ك «حُبْلى» و «إِحْسَاناً» من الرباعي.
فأما من قرأ: «حُسْناً» بالضم والإسكان، فيحتمل أوجهاً:
أحدها وهو الظَّاهر أنه مصدر وقع صفةً لمحذوف تقديره: وقولوا للناس حُسناً أي: ذا حسن.
الثاني: أن يكون وصف به مُبَالغة كأنه جعل القول نفسه حسناً.
الثالث: أنه صفة على وزن «فُعْل»، وليس أصله المصدر، بل هو كالحلو والمر، فيكون بمعنى «حَسَنٍ» بفتحتين، فيكون فيه لغتان: حُسْن وحَسَن ك «البُخْل والبَخَل، والحُزْن والحَزَن، والعُرْب والْعَرب».
الرابع: أنه منصوب على المَصْدر من المعنى، فإن المعنى: وَلْيَحْسُنْ قَوْلُكم حُسْناً.
وأما قراءة: «حَسَناً» بفتحتين فصفة لمصدر محذوف تقديره: قولاً حسناً، كما تقدم في أحد أوجه «حُسْناً».
وأما «حُسْناً» بضمتين، فضمة السين لإتباع الحاء، فهو بمعنى «حُسْناً» بالسكون، وفيه الأوجه المتقدمة.
236
وأما «حُسْنَى» بغير تنوين فمصدر ك «البُشْرَى والرُّجْعَى».
وقال النحاس في هذه القراءة: ولا يجوز هذا في العربية، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام، نحو: الكُبْرَى والفُضْلى. هذا قول سيبويه، وتابعه ابن عطية على هذا، فإنه قال: ورده سيبويه؛ لأن «أفعل» و «فعلى» لا يجيء إلا معرفة إلاَّ أن يزال عنها معنى التَّفضيل، ويبقى مصدراً ك «العُقْبى»، فذلك جائز، وهو وجه القراءة بها. انتهى وناقشه أبو حيان وقال: في كلامه ارْتباك؛ لأنه قال: لأن «أفعل» و «فعلى» لا يجيء إلا معرفة، وهذا ليس بصحيح.
أما «أَفْعل» فله ثلاثة استعمالات.
أحدها: أن يكون معها «مِنْ» ظاهرة أو مقدرة، أو مضافاً إلى نكرة، ولا يتعرف في هذين بحال.
الثاني: أن تدخل عليه «أل» فيتعرف بها.
الثالث: أن يضاف إلى معرفة فيتعرف على الصحيح.
وأما «فُعْلى» فلها استعمالان:
أحدهما: بالألف واللام.
والثاني: الإضافة لمعرفة، وفيها الخلاف السابق.
وقوله: «إلا أن يزال عنها معنى التفضيل، وتبقى مصدراً» ظاهر هذا أن «فُعْلى» أنثى «أفعل» إذا زال عنها معنى التفضيل تبقى مصدراً وليس كذلك، بل إذا زال عن «فعلى» أنثى «أفعل» معنى التفضيل صارت بمنزلة الصفة التي لا تفضيل فيها؛ ألا ترى إلى تأويلهم «كُبْرى» بمعنى كبيرة، «وصُغْرى» بمعنى صغيرة، وأيضاً فإن «فعلى» مصدر لا يَنْقَاسُ، إنما جاءت منها الألفاظ ك «العُقْبَى والبُشْرَى» ثم أجاب الشيخ عن هذا الثاني بما معناه أن الضمير في قوله: «عنها» عائد إلى «حسنى» لا إلى «فعلى» أنثى «أفعل»، ويكون استثناء منقطعاً كأنه قال: إلا أن يزال عن «حسنى» التي قرأ بها أُبَيّ معنى التفضيل، ويصير المعنى: إلا أن يُعْتقد أن «حسنى» مصدر لا أنثى «أفعل».
وقوله: «وهو وجه القراءة بها» أي والمصدر وجه القراءة بها. وتخريج هذه القراءة على وجهين:
أحدهما: المصدر ك «البُشْرى» وفيه الأوجه المتقدمة في «حسناً» مصدراً، إلا أنه يحتاج إلى إثبات «حُسْنى» مصدراً من قول العرب: حَسُن حُسْنَى، كقولهم: رَجَع
237
رُجْعَى، إذا مجيء «فُعْلى» مصدراً لا يَنْقَاسُ.
والوجه الثاني: أن تكون صفةً لموصوف محذوف، أي: وقولوا للناس كلمةً حُسْنَى، أو مقالةً حسنى، وفي الوصف بها حينئذ وجهان:
أحدهما: أن تكون للتفضيل، ويكون قد شَذَّ استعمالها غير معرفة ب «ألْ»، ولا مضافة إلى معرفة، كما شذَّ قوله: [البسيط]
٦٢١ - وَإِنْ دَعَوتِ إِلَى جُلَّى وَمَكْرُمَةٍ يَوْماً سَرَاةَ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا
وقوله: [الرجز]
٦٢٢ - في سَعْي دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مَدَّتِ... والوجه الثاني: أن تكون لغير التفضيل، فيكون معنى حُسْنى: حَسَنة ك «كبرى» في معنى كبيرة، أي: وقولوا للناس مَقَالة حَسَنة، كما قال: يوسف أحسن إخوته في معنى حسن إخوته انتهى.
وبهذا يعلم فساد قول النحاس.
وأما من قرأ: «إحساناً» فهو مصدر وقع صفةً لمصدر محذوف، أي: قولاً إحساناً [وفيه تأويل مشهور]، ف «أحساناً» مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة، أي: قولاً ذا حُسْن، كما تقول: أعشبت الأرض، أي: صارت ذا عُشْب.
فإن قيل: لم خوطبوا ب «قُولوا» بعد الإخبار؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه على طريقة اللْتِفَاتِ، كقوله تعالى: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢].
الثاني: فيه حذف، أي: قلنا لهم: قولوا.
الثالث: الميثاق لا يكون إلا كلاماً كأنه قيل: قلت: لا تعبدوا وقولوا.
238

فصل في بيان هل الكفار داخلون في المخاطبة بالحسنى


قال بعضهم: إنما يجب القول الحسن مع المؤمنين، أما مع الكُفّار والفُسَّاق فلا، بدليل أنه يجب لعنهم وذمّهم ومحاربتهم، فكيف يمكن أن يكون القول معهم حسناً، وأيضاً قوله تعالى: ﴿لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ [النساء: ١٤٨]
والقائلون بهذا القول منهم من زعم أن هذا الأمر صار منسوخاً بآية القِتَالِ.
ومنهم من قال: إنه دخله التَّخصيص.
وزعم أبو جعفر محمد بن علي البَاقِر أن هذا العموم باقٍ على ظاهره، ولا حاجة إلى التخصيص، ويدلّ عليه أن موسى وهارون مع عُلوّ منصبهما أُمِرَا بالرِّفْق واللِّين مع فرعون، وكذا محمد صلى لله عليه وسلم أمر بالرفق وترك الغِلْظَة بقوله: ﴿ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة﴾ [النحل: ١٢٥].
وال: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: ١٠٨].
وقوله: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً﴾ [الفرقان: ٧٢].
وقوله: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين﴾ [الأعراف: ١٩٩].
وأما ما تمسكوا به من أنه يجب لعنهم وذمهم.
قلنا: لا نسلّم أنه يجب لعنهم، وإن سلّمنا لكن لا نسلّم أن اللّعن ليس قَوْلاً حسناً.
بيانه: أنّ القول الحسن ليس عبارة عن القول الذي يستهوونه، بل القول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به، ونحن إذا لعنَّاهم وذَمَمْنَاهم ليرتدعوا به عن الفعل القبيح كان ذلك نافعاً في حقهم، فكان قولاً حسناً، كما أن تغليظ الوالد لولده في القول يكون حسناً ونافعاً من حيث يَرْتَدِعُ به عن الفعل القبيح.
سلمنا أنّ لعنهم ليس قولاً حسناً، ولكن لا نسلّم أن وجوبه ينافي وجوب القول الحسن.
بيانه: أنه لا مُنَافَاةَ بين كون الشخص مستحقًّا للتعظيم بسبب إحسانه إلينا، ومستحقًّا للتحقير بسبب كفره، وإذا كان كذلك، فلم لا يجوز أن يقال بوجوب القول الحَسَنِ معهم، وأما تمسّكهم بقوله تعالى:
﴿لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ [النساء: ١٤٨]
فجوابه: لِمَ يجوز أن يكون المراد منه كشف حال الظالم ليحترز الناس عنه [وهو المراد بقوله عليه السلام «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس»
].
239

فصل في أن الإحسان كان واجباً عليهم


ظاهر الآية يدلّ على أن الإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين كان واجباً علهيم في دينهم، وكذا القول الحسن للناس كان واجباً عليهم؛ لأن أخذ الميثاق يدلّ على الوجوب، وذلك لأن ظاهر الأمر للوجوب، والأمر في شرعنا أيضاً كذلك من بعض الوجوه، وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه: أن الزّكاة نسخت كلّ حق، وهذا ضعيف؛ لأنه لا خلاف أن من اشتدت به الحاجة، وشاهدناه بهذه الصفة، فإنه يلزمنا التصدق عليه، وإن لم يجب علينا الزكاة حتى أنه إن لم تندفع حاجتهم بالزَّكَاةِ كان هذا التصدّق واجباً، ولا شك في وجوب مُكَالمة الناس بطريق لا يتضررون منه.
قال ابن عَبَّاس معنى الآية: «قولوا لهم لا إله إلا الله».
وفسّره ابن جريج: «قولوا للناس حسناً صدقاً في أمر محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يتغيّروا صفته».
وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وأنْهوهم عن المنكر.
وقال أبو العالية: «قولوا لهم الطّيب من القول، وجاوزهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به»، وهذا كلّه حضٌّ على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لَيْناً حسناً، كما قال تعالى لموسى وهارون: ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً﴾ [طه: ٤٤].
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لعائشة: «لاَ تَكُوني فَحَّاشَةً فَإِنَّ الفُحْشَ لَوْ كَانَ رَجُلاً لَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ»، ويدخل في هذه الآية المؤمن والكافر.
قوله: «وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وآتُوا الزَّكَاةَ» تقدم نظيره.
وقال ابن عطية: «زكاتهم هي التي كانوا يضعونها، وتنزل النَّار على ما تقبل منه، ولم تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاتنا.
قال القرطبي:: وهذا يحتاج إلى نَقْل... »
.
قوله: «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ».
قال الزمخشري: «وهذا على طريقة الالتفات» وهذا الذي قاله إنما يجيء على قراءة: «لاَ يَعْبُدُونَ» بالغيبة، وأما على قراءة الخطاب فلا التفات ألبتَّة، ويجوز أن يكون
240
أراد بالالتفات الخروج من خطاب بني إسرائيل القدماء إلى خطاء الحاضرين في زمن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [وقد قيل ذلك] ويؤيده قوله تعالى: «إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ».
قيل: يعني بهم الذين أسلموا في زمانه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كعبد الله بن سَلام وأضرابه، فيكون التفاتاً على القِرَاءتين.
ثم قال ابن الخطيب: الآية تحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون المُرَاد من تقدم من بني إسرائيل، لأنه تعالى قد سَاقَ الكلام الأول في إظهار النعم بإقامة الحجج ثم بيّن بعد أنهم تولوا إلا قليلاً، فإنهم بقوا على ما دخلوا فيه، فإنّ أول الكلام في المتقدمين، فالظاهر يقتضي أن آخره فيهم، إلا بدليل يوجب الانصراف عن الظاهر.
وثانيها: أنه خطاب للحاضرين في عصر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يعني: أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أَسْلاَفكم؛ لأنه خطاب مشافهة، وهو بالحاضرين أليق.
وثالثها: أن يكون المراد بقوله: «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ» من تقدم؛ لأنه تعالى لما بين أنه تعالى أنعم عليهم بتلك النّعم ثم تولّوا عنها بعد ذلك كان ذلك دالاًّ على نهاية قبح أفعالهم، ويكون قوله: وأنتم معرضون مختصاً بمن كان في زمان النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: انكم بمنزلة المتقدّمين الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق، فإنكم بعد إطّلاعكم على صدق دلائل النّبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعرضتم عنه، فكنتم بهذا الإعراض بمثابة أولئك المتقدمين [الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق بذلك الشِّرك] في ذلك التولي والله أعلم.
و «قليلاً» منصوب على الاستثناء؛ لأنه من موجب.
وقال القرطبي: المستثنى عند سيبويه منصوب؛ لأنه مشبه بالمَفْعُول.
وقال محمد بن يزيد: هو المفعول حقيقة؛ لأن معناه: استثنيت قليلاً.
وروي عن أبي عمرو وغيره: «إلاَّ قَلِيلٌ» بالرفع، وفيه ستّة أقوال:
أصحها: أن رفعه على الصفة بتأويل «إلاّ» وما بعدها بمعنى «غَيْر»، وقد عقد سيبويه رَحِمَهُ اللهُ في كتابه لذلك باباً فقال: «هذا باب ما يكن فيه» إلاَّ «ما بعدها وصفاً بمنزلة غَيْر ومثل» وذكر من أمثلة هذا الباب: «لو كان معنا رجلٌ إلا زيدٌ لغُلِبْنَا» و ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢].
قال الطويل:
٦٢٣ -.....................
241
قَلِيلٌ بِهَا الأَصْوَاتُ إِلاَّ بُغَامُهَا
وسَوَّى بين هذا وبين قراءة: ﴿لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر﴾ [النساء: ٩٥] برفع «غير» وجوز في نحو: «ما قام القومُ إلا زيدٌ» بالرفع البدل والصِّفةن وخرج على ذلك قوله: [الوافر]
٦٢٤ - وَكُلّ أخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ لَعَمْرُ أبِيكَ إلاَّ الفَرْقَدَانِ
كأنه قيل: «وكلُّ أخٍ غيرُ الفَرْقَدَين مُفَارِقُهُ أخُوهُ» ؛ كما قال الشَّمَّاخ: [الطويل]
٦٢٥ - وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ لِوَصلِ خَلِيلٍ صَارٍمٌ أَو مُعَارِزُ
وأنشد غيره: [الرمل]
٦٢٦ - لِدَمٍ ضَائِعٍ تَغَيَّبَ عَنْهُ أَقْرَبُوهُ إلاَّ الصَّبَا والجَنُوبُ
وقوله: [البسيط]
٦٢٧ - وَبِالصَّرِمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ عَافٍ تَغَيَّرَ إلاَّ النُّؤْيُ والوَتِدُ
والفرق بين الوصف «إلاَّ» والوصْفِ بغيرها أنَّ «إلاَّ» توصف بها المعارفُ والنكرات، والظاهرُ والمضمرُ.
242
وقال بعضهم: «لا توصف بها إلا النكرة أو المعرفة بلام الجنس، فإنه في قوة النكرة».
وقال المبرِّد: «شرطه صلاحية البدلِ في موضعه».
الثاني: أنه عطف بيان، قاله ابن عصفور.
وقال: «إنما يعني النحويون بالوصف» إلاَّ «عطف البيان»، [وفيه نظرٌ].
الثالث: أنه مرفوع بفعل مَحْذُوف، كأنه قال: امتنع قليل.
الرابع: أن يكون مبتدأ وخبره محذوف، أي إلاَّ قليل منكم لم يتولّوا، كما قالوا «مامررت بأحد إلاّ رجلٌ من بني تميم خيرٌ منه».
الخامس: أنه توكيد للضمير المرفوع، ذكر هذه الأوجه أبو البقاء.
وقال: سيبويه وأصحابه يسمونه نعتاً ووصفاً يعني التوكيد، وفي هذه الأوجه التي ذكرها ما لا يخفى، ولكنها قد قيلت.
السادس: أنه بدلٌ من الضمير «تولّيتم».
قال ابن عطية: وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي؛ لأنَّ «توليتم» معناه النفي كأنه قال: لم تَفُوا بالميثاق إلا قليل، وهذا الذي ذكره مِنْ جَوَاز البدل منعه النحويون، فلا يجيزون «قام القوم إلا زيد» على البدل.
قالوا: لأن البدل يَحُلّ محلّ المبدل منه فيؤول إلى قولك: «قام إلا زيد»، وهو ممتنع.
وأما قوله: إنه في تأويل النفي، فما من موجب إلاَّ يمكن فيه ذلك، ألا ترى أن قولك: «قام القوم إلا زيد» في حكم قوله: «لم يجلسوا إلاَّ زيد»، فكل موجب إذا أخذت نفي نقيضه أو ضده كان كذلك، ولم تعتبر العرب هذا في كلامها، وإنما أجاز النحويون:
«قام القوم إلا زيد» بالرفع على الصيغة كما تقدم تقديره.
و «منكم» صفة ل «قَلِيلاً» فيه في محل نصب، أو رفع على حسب القراءتين، والظاهر أن القليل مراد بهم الأشخاصُ لوصفه بقوله: «مِنْكُمْ».
وقال ابن عطية: «ويُحْتَمَل أن تكون القلة في الإيمان، أي: لم يبق حينَ عَصَو وكمفروا آخرهم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى» انتهى.
وهذا قول بعيد جدّاً أو ممتنع.
«وأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ» جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال من فاعل «تَوَلَّيْتُمْ» وفيها قولان:
243
أحدهما: أنها حال مؤكِّدة؛ لأن التولّي والإعراَ مُتَرَادفان، وقيل مبيِّنة، فإن التولي باليدين والإعراض بالقلب، قاله أبو البقاء.
وقال بعده: وقيل: «تَوَلَّيْتُمْ» يعني آباءهم، و «وأنتم معرضون» يعني أنفسهم، كما قال: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة: ٤٩] أي آباءهم انتهى.
وهذا يؤدّي إلى أن جلمة قوله: «وأنْتُمْ معْرِضُونَ» لا تكون حالاً؛ لأن فاعل التولّي في الحقيقة ليس هو صَاحِبَ الحال والله أعلم.
وكذلك تكون «مبيّنة» إذا اختلف متعلّق التولي والإراض كما قال بعضهم: ثم توليتم عن أخذ ميثاقكم، وأنتم معرضون عن هذا النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: التولّي والإعراض مأخوذان من سلوك الطريق، وذلك أنه إذا سلك طريقاً ورجع عَوْدَه على بَدْئه سمي ذلك تولياً، وإن سلك في عُرْض الطريق سمي إعراضاً.
وجاءت الحال جملة اسمية مصدرة ب «أنتم» ؛ لأنه أكد.
وجيء بخبر المبتدأ اسماً، لأنه أولّ على الثبوت فكأنه قيل: وأنتم عادتكم التولي والإعراض عن الحق.
244
هذا الخطاب كله كالذي قبله: وقوله: «لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ» كقوله: «لاَ تَعْبُدُونَ إَلاَّ اللهَ» في الإعراب سواء.
و «تُسْفِكُونَ» من «أَسْفَك» الرّباعي.
وقرأ طلحة بن مصرف، وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء وهي لغةن وأبو نهيك «تُسَفْكْونَ» بضم التاء، وفتح السين وتشديد الفاء.
و «وَلاَ تْخْرِجُونَ» معطوف.
فإن قيل: الإنسان ملجاً إلى ألاَّ يقتل نفسه فأي فائدة في النهي عنه؟
فالجواب من أوجه:
أحدها: أن هذا الإلجاء قد تغير كما ثبت في أهل «الهِنْدِ» أنهم يقدرون في قتل النفس التَّخلُّص من عالم الفساد، واللحوق بعالم النور والصلاح، أو كثير ممن صعب
244
عليه الزمان، وثقل عليه أمر من الأمور، فيقتل نفسه، فإذا انتفى كون الإنسان ملجاً إلى ترك قتله نفسه صحّ كونه مكلفاً به.
وثانيها: المراد لا يقتل بعضكم بعضاً، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتّصل به نَسَباً وديناً كقوله تعالى: ﴿فاقتلوا أَنفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] وثالثها أنه إذا قتل غيره، فكأنما قتل نفسه؛ لأنه يقتصُّ منه بإقامة المسبّب مقام السَّبب، وهو قريب من قولهم: «القَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ» ؛ وقال: [الطويل]
٦٢٨ - سَقَيْنَاهُمُ كَأْساً سَقَوْنَا بِمِثِلْهَا وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى المَوْتِ أَصْبَرَا
وقيل: لا تفسكوا بارتكاب أنفسكم ما يوجب سفكها كالارْتِدَاد نحوه وهو قريب مما قبله.
ورابعها: لا تتعرضوا لمُقَاتلة من يقتلكم، فتكونوا قد قتلتم أنفسكم.
وخامسها: لا تسفكوا دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا، فتكونوا مهلكين لأنفكسم.
قوله: «وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ» فيه وجهان.
الأول: لا تفعلون ما تستحقّون بسببه أن تخرجوا من دياركم.
الثاني: المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم؛ لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة.
«مِنْ دِيَارِكُمْ» متعلّق ب «تخرجون»، و «من» لابتداء الغاية، و «ديار» جمع دار الاصل: دَوَرَ؛ لأنه من دَارَ يَدُورُ دَوَرَاناً، فأصل دِيَار: دِوَار، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، واعتلالها في الواحد.
وهذه قاعدة مطّردة [في كل جمع على «فِعَالٍ» صحيح اللام قد اعتلت عين مفردة، أو سكنت حرف علة نحو:] ديار وثياب، ولذلك صحّ «رِوَاء» لاعتلال لامه، و «طِوَال» لتحرك عين مفردة، وهو «طويل».
فأما «طيال» في «طوال» فَشَاذّ، وحكم المصدر حكم هذا نحوك قام قياماً، وصام صياماً، ولذلك صح «لِوَاذ» لصحة فعله في قولهم: «لاوذ».
وأما دَيَّار فهو من لفظه الدار، وأصله: ديوان، فاجتمع الياء والواو فأعلاً على القاعدة المعروفة فوزنه: «فَيْعَال» لا «فَعَّال»، إذ لو كان «فَعَّالاً» لقيل: دَوَّار ك «صَوَّام وقَوَّام» والدَّار: مجتمع القوم من الأَبنية.
245
وقال الخَلِيلُ: كل موضع حَلَّه الناس، وإن لم يكن أبنية.
[وقيل: سميت داراً لدورها على سكانها، كمى سمي الحائط حائطاً لإحاطته على ما يحويه].
و «النفس» مأخوذ من النّفَاسة، فنفس الإنسان أشرف ما فيه.
وقوله: «ثم أقررتم».
قال أبو البقاء: فيه وجهان:
أحدهما: أن «ثُمّ» على بابها في إفادة العطف والتراخي، والمعطوف عليه محذوف تقديره: فَقَبِلْتُمْ، ثم أقررتم.
والثاني: أن تكون «ثم» جاءت لترتيب الخبر لا لترتيب المخبر عنه، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ الله شَهِيدٌ﴾ [يونس: ٤٦].
قوله: «وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» كقوله: ﴿وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ [البقرة: ٨٣] وفيها وجوه: أحدها: أقررتم بالمِيثَاق، ثم اعترفتم على أنفسكم بلزومه، وأنتم تشهدون عليها، كقولك: فلان مقرّ على نفسه بكذا، شاهد عليها.
وثانيها: اعترفتم بقَبُوله، وشهد بعضكم على بعض بذلك؛ لأنه كان شائعاً بينكم مشهوراً.
وثالثها: وأنتم تشهدون اليوم ما مَعْشَرَ اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق.
ورابعها: أن المراد بهذا الإقرار الذي هو الرِّضا بالأمر والصبر عليه، كما يقال فلان لا يقر على الضَّيم، فيكون المعنى أنه تعالى أمركم بذلك، ورضيتم به، وأقمتم عليه، وشهدتم على وجوبه وصحته.
فإن قيل: لم قال «أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» والمعنى واحد؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أقررتم يعني أسْلافكم، وأنتم تشهدون الآن على إقرارهم.
الثاني: أقررتم في وقت المِيثَاقِ الذي مضى، وأنتم بعد ذلك تشهدون [بقلوبكم].
الثالث: أنه للتأكيد.
قوله: «ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ» فيه سبعة أقوال:
أحدها: وهو الظاهر أن «أنتم» في محل رفع بالابتداء، وهؤلاء خبره و «تقتلون» «
246
حال، والعامل فيها اسم الإشارة لما فيه من معنى الفِعْل، وهي حال منه ليتّحد ذُوا الحال وعاملها.
وقد قالت العرب:» ها أنت ذا قائماً «و» ها أنا ذا قائماً «و» ها هوذَا قائماً «فأخبروا باسم الإشارة عن الضَّمير في اللَّفظ والمعنى على الإخبار بالحال، فكأنه قال:» أنت الحاضر «، وأنا الحاضر»، وهو الحاضر «في هذه الحالة.
ويدل على أن الجملة من قوله:»
تَقْتُلُونَ «حال وقوع الحال الصريحة موقعها كما تقدم في:» ها أنا ذا قائماً «ونحوه إلى هذا المعنى نَحَا الزمخشري فقال:» ثُمّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ «استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارِهم وشَهَادتِهم، والمعنى: ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون: يعني أنكم قوم آخرون غيرُ أولئك المقربين، تنزيلاً لتغير الصّفة منزلة تغير الذَّات كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به.
وقوله: «تَقْتُلُونَ»
بيان لقوله: «ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ».
واعترضه أبو حَيَّان فقال: الظاهر أن المشار إليهم بقوله: «ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ» هم المخاطبون أولاً، فليسوا قوماً آخرين، ألا ترى أن التقدير الذي قَدَّره الزمخشري من تقدير [تغير الصّفة منزلة] تغيّر الذات لا يتأتى في نحو: ها أنا ذا قائماً، ولا في نحو: ها أنتم هؤلاء، بل المُخَاطب هو المشار إليه من غير تَغَيُّرٍ.
وأجيب بأن هذا الإيراد بعيد غير واضح.
والثاني: أن «أنتم» أيضاً مبتدأ، و «هؤلاء» خبره، ولكن بتأويل حذف مضاف تقديره: ثم أنتم مِثْلُ هؤلاء، و «تقتلون» حال ايضاً، العامل فيها معنى التشبيه، إلا أنه يلزم منه الإشَارة إلى غائبين؛ لأن المراد بهم أَسْلاَفهم علىهذا، وقد يقال: إنه نزل الغائب منزلة الحاضر.
الثالث: ونقله «ابن عطية» عن شيخه «ابن الباذش» أن «أنتم» خبر متقدم، و «هؤلاء» مبتدأ مؤخر. وهذا فاسد؛ لأن المبتدأ أو الخبر متى استويا تعريضاً وتنكيراً لم يَجُزْ تقدم الخبر، وإن ورد منه ما يوهم فمتأول.
الرابع: أن «أنتم» مبتدأ و «هؤلاء» مُنَادى حذف منه حرف النِّدَاء، وتقلتون خبر المبتدأ، وفصل بالنداء بين المبتدأ وخبره.
وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به «الفراء» وجماعة؛ أنشدوا: [البسيط]
247
٦٢٩ - إِنَّ الأُولى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولاَ
أي: يا هذا، وهذا لا يجوز عند البصريين، ولذلك لُحِّنَ المتنبي في قوله: [الكامل]
٦٣٠ - هَذِي بَرَزْتِ لَنَا فَهِجْتِ رَسِيَا.......................
وفي البيت كلام طويل.
الخامس: أن «هؤلاء» موصول بمعنى «الذي»، و «تقتلون» صلته، وهو خبر عن «أنتم» أي: أنتم الذين تقتلون. وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به «الفراء» وجماعة؛ أنشدوا: [البسيط]
٦٣١ -...................... نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
أي: والذي تحملين، ومثله: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ﴾ [طه: ١٧] يعني: وما التي؟
السادس: أنَّ «هؤلاء» منصوب على الاختصاص، بإضمار «أعني» و «أنتم» مبتدأ، و «يقتلون» خبره، اعترض بينهما بجملة الاختصاص، وإليه ذهب ابن كَيْسَان. وهذا لا يجوز، لأن النحويين قد نصّوا على أن الاختصاص لا يَكُون بالنكرات، ولا أسماء الإشارة، والمستقرأ من لسان العرب أن المنصوب على الاختصاص: إما «أي» نحو: «اللهم اغفر لنا أيتها العِصَابة» أو معرف ب «أل» نحو: نحن العَرَبَ أَقْرَى النَّاس للضيف، أو بالإضافة نحو: نحن مَعَاشِرَ الأنبياء لا نورّث، وقد يجيء كقوله: [الرجز]
٦٣٢ - بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ...
248
وأكثر ما يجيء بعد ضمير تكلُّم كما تقدم، وقد يجيء مخاطب كقولهم: «بك الله نرجو الفضل».
السابع: أن يكون «أَنْتُمْ هَؤُلاَء» على ما تقدّم من كونهما مبتدأ أو خبر، والجُمْلة من «تقتلون» مستأنفة مبينة للجملة قبلها، يعني: أنتم هؤلاء الأشخاص الحَمْقَى، وبيان حَمَاقتكم وقلّة عقلوكم أنكم تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقاً منكم من دِيَارِهِمْ، وهذا ذكره الزَّمخشري في آل عمران في قوله: ﴿هاأنتم هؤلااء حَاجَجْتُمْ﴾ [آل عمران: ٦٦] ولم يذكر هنا، وسيأتي بنصه إن شاء الله تعالى.
قوله: «تَظَاهَرُونَ» هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل «تُخْرجون» وفيها خمس قراءات: «تَظَّاهرُون» بتشديد الظَّاء، والأصل: تتظاهرون فأُدغم لقرب الظاء من التاء.
و «تَظَاهَرُون» مخففاً، والأصل كما تقدم، إلا أنه خفّفه بالحذف، وهل المحذوف الثانية وهو الأَوْلَى؛ لحصول الثقل بها، ولعدم دلالتها على معنى المُضَارعة، أو الأُولَى كما زعم هشام؛ قال الشاعر: [البسيط]
٦٣٣ - تَعَاطَسُونَ جَمِيعاً حَوْلَ دَارِكُمُ فَكُلُّكُمْ يَابَنِي حَمْدَانِ مَزكُومُ
أراد: تتعاطسون فحذف.
و «تَظَّهَّرُون» بتشديد الظاء والهاء.
و «تَظَاهَرُون» من «تَظَاهر» و «تَتَظَاهَرُونَ» على الأصل من غير حذف، ولا إدْغَام وكلهم يرجع إلى معنى المعاونة والتَّنَاصُر من المظاهرة، كأن كل واحد منهم يسند ظَهْرَهُ للآخر ليتقوّى به، فيكون له كالظَّهر؛ قال: [الطويل]
٦٣٤ - تَظَاهَرْتُمُ أَسْتَاهَ بَيْتٍ تَجَمَّعَتْ عَلَى وَاحِدٍ لاَ زِلْتُمُ قِرْنَ وَاحِدِ
قال ابن الخطيب: الآية تدلّ على أن الظُّلم كما هو محرم، فإعانة الظالم على ظلمه محرمة.
فإن قيل: أليس أن الله تعالى لما أقدر الظَّالم على الظّلم، وأزال العوائق والموانع، وسلط عليه الشهوة الدّاعية إلى الظلم كمان قد أعانه على الظلم، فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحةً لوجب ألاَّ يوجد ذلك من الله تعالى؟
والجواب: أنه تعالى وإن مكّن الظَّالم من ذلك فقد زَجَرَهُ عن الظلم بالتَّهْديد
249
والزجر، بخلاف المعني للظالم على ظلمه، فإنه يرغبه فيه، ويحسنه له ويدعوه إليه فظهر الفرق.
و «الإثم» في الأصل: الذنب، وجمعه «آثام»، ويطلق على الفعل الذي يستحقّ به صاحبه الذّم واللوم.
وقيلك هو ما تَنْفِرُ منه النفس، ولا يطمئنّ إليه القَلْب، فالإثْمُ في الآية يحتمل إن يكون مراداً به [أحد] هذه المعاني ويحتمل أن يتجوّز به عما يوجب الإثم من إقامة السَّبب مقام السَّبب مقام المسببح كقوله: [الوافر]
٦٣٥ - شَرِبءتُ الإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بِالعُقُولِ
فعبر عن الخمر بالإثم، لما كان مسبَّباً عنها.

فصل في معنى العدوان واشتقاقه


و «العُدْوَان» : التجاوز في الظلم، وقد تقدم في ﴿يَعْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٦١] وهو مصدر ك «الكُفْرَان والغُفْرَان» والمشهور ضمّ فائه، وفيه لغة بالكَسْر.
قوله: «وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ» «إن» شرطية، و «يأتوكم» مجزوم بها بحذف النون والمخاطب مفعول.
و «أسارى» حال من الفاعل في «يأتوكم».
وقرأ الجماعة غير حمزة «أُسارى» وقرأ هو: «أَسْرَى» وقرء:: أَسَارَى «بتفح الهمزة، فقراءة الجماعة تحتمل أربعة أوجه:
أحدها: أنه جُمِعَ جَمْع»
كَسْلاَن «لما جمعهما من عدم النَّشَاط والتصرف، فقالوا:» أسير وأسارى «بضم الهمزة ك» كَسْلاَن وكُسَالَى «و» سَكْرَان وسُكَارى «، كما أنه قد شبه كَسْلان وسَكْران به فجمعا جمعه الأصلي الذي هو على» فعلى «فقالوا: كسلان وكَسْلى، وسكران وسَكْرى لقولهم: أسير وأسرى.
قال سيبويه: فقالوا: في جمع كَسْلان كَسْلَى شبّهوه ب»
أَسْرَى «. كما قالوا: أُسارى شبَّهوه ب» كَسَالى «، ووجه الشبه أنَّ الأسْر يدخل على المرء كرهاً كما يدخل الكَسَل.
250
قال بعضهم: والدَّليل على اعتبار هذا المعنى أنهم جمعوا» مريضاً وميتاً وهالكاً «على» فَعْلَى «فقالوا:» مرضى وموتى وهَلْكَى «لما جمعها المَعْنَى الذي في» قَتْلَى وجَرْحَى «.
الثَّاني: أنَّ»
أُسَارى «جمع» أسير «، وقد وجدنا» فَعِيلاً «يجمع على» فُعَالى «قالوا: شيخ قديم، وشيوخ قُدَامى. وفيه نظر، فإن هذا شاذ لا يقاس عليه.
الثالث: أنه جمع»
أسير «أيضاً، وإنما ضموا الهمزة من» أُسَارى «وكان أصلها الفَتْح ك» نديم ونُدَامى «كما ضمت الكاف والسين من» كُسَالى «و» سُكَارى «وكان الأصل فيهما الفتح نحوك» عَطْشَان وعَطَاشى «.
الرابع: أنه جمع»
أسرى «الذي هو جمع» أسير «فيكون جمع الجمع.
وأما قراءة حمزة فواضحة؛ لأن»
فَعْلَى «ينقاس في» فعيل «نحو:» جريح وجرحى «و» قتيل وقَتْلَى «و» مريض ومرضى «.
وأما»
أَسَارَى «بالفتح فقد تقدم أنها أصل أُسَارَى بالضم عند بعضهم، ولم يَعْرِفْ أهل اللُّغَة فرقاً بين» أُسَارَى «و» أَسْرَى «إلاَّ ما حكاه أبو عُبَيْدَة عن أبي عمرو بن العلاء، فإنه قال:» ما كان في الوَثَاقِ «فهم الأُسَارَى، وما كان في اليد، فهم الأَسْرَى» ونقل بعضهم عنه الفرقَ بمعنًى آخر، فقال: «ما جاء مستأسراً فهم الأسْرَى، وما صار في أيديهم، فهم الأُسَارَى»، وحكى النقَّاشُ من ثَعْلَبِ؛ أنه لما سمع هذا الفَرْق قال: «هذا كلامُ المَجَانِينِ»، وهي جُرْآة منه على أبي عمرو، وحكى عن المبرِّد أنه يقال: «أسِير وأُسَرَاء» ك «شَهِيدٍ وشُهَدَاء» و «الأَسير» : مشتقٌّ من «الإسَارِ» وهو القَيْدُ الذي يُرْبَطُ به من المحمل، فسمي الأسير أسيراً، وإن لم يُرْبَط، والأَسْر: الخلْقُ في قوله:
﴿وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ﴾ [الإنسان: ٢٩] وأُسْرَة الرَّجْل: من يتقوَّى بهم، والأُسْر: احتباس البَوْل، ورجل مَأْسُوةر: أصابه ذلك؛ وقالت العربُ: أسَرَ قَتَبَهُ: أي: شَدَّه؛ قال الأعشىك [المتقارب]
٦٣٦ - وَقَيَّدَنِي الشِّعْرُ في بَيْتِهِ كَمَا قَيَّدَ الآسِرَاتُ الحَمَارَا
يريد: أنه بلغ في الشعر النّهاية؛ حتى صار له كالبيت الذي لا يَبْرَحُ عنه.
قوله: «تُفَادُوهُمْ» قرأ نافع وعاصم والكسائيك «تُفَادُوهُمْ»، وهو جواب الشرط، فلذلك حذف نون الرفع، وقرأ الباقون: «تَفْدُوهُمْ»، وهل القراءتان بمعنى واحد، ويكون معنى «فَاعَل» مثل معنى «فَعَل» المجرد مثل: «عاقبت وسَافرت» أو بينهما فرق؟ خلاف مشهور، ثم اختلف الناس في ذلك الفرق ما هو؟
251
فقيل: معنى «فَدَاه» أعطى فيه فِدَاء من مال، و «فَادَاهُ» : أعطى فيه أسيراً مثله؛ وأنشد: [الطويل]
٦٣٧ - وَلَكِنَّنِي فَادَيْتُ أُمِّيَ بَعْدَمَا عَلاَ الرَّأْسَ مِنْهَا كَبْرَةٌ وَمَشِيبُ
وهذا القول يرده قوله العباس رَضِيَ اللهُ عَنْه: فَادَيْتُ نفسي وفاديت عقيلاً، ومعلوم أن لم يُعْط أسيره في مقابلة نفسه ولا وَلَدِهِ.
وقيل: تفدوهم بالصّلح، وتفادوهم بالعنف.
وقيل: تفدوهم تعطوا فديتهم، وتفادوهم تطلبون من أعدائكم فِدْيَةَ الأسير الذي في أيديكم؛ ومنه: [الوافر]
٦٣٨ - قِفِي فَادِي أَسِيرَكِ إنَّ قَوْمِي وَقَوْمَكِ مَا أَرَى لَهُمُ اجْتِمَاعَا
والظاهر أن «تفادوهم» على أصله من أثنين، وذلك أن الأسير يعطى المال والأسير يعطى الإطلاق، وتفدوهم على بابه من غير مُشَاركة، وذلك أن الفريقين يَفدي صاحبه من الآخر بمال أو غيره، فالفعل على الحقيقة من واحد.
و «الفِدَاء» ما يفتدى به، فإذا كسروا فاءه، جاز فيه وجهان:
المدُّ والقَصْر، فمن المَدِّ قول النابغةك [البسيط]
٦٣٩ - مَهْلاً فِدَاءَ لَكَ الأَقْوَامُ كُلُّهُمُ وَمَا أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ
ومن القصر قوله: [الطويل]
٦٤٠ -........................ فِدَى لَكَ مِنْ رَبٍّ طَرِيفِي وتَالِدِي
ومن العرب من يكسر: «فدى» مع لام الجر خاصّة، نحو: فِدّى لَكَ أَبي وأمي «يريدون الدعاء له بذلك، وفدى يتعدّيان لاثنين أحدهما بنفسه، والآخر بحرف جر، تقول:» فديت أو فاديت الأسير بمال «، وهومحذوف في الآية الكريمة.
252
قال ابن عطية: وحَسُنَ لفظ الإتْيَان من حيث هو في مُقابلة الإخراج، فيظهر التَّضادّ المقبح لفعلهم في الإخراج.
يعني: أنه لايناسب من أسأتم إليه بالإخراج من داره أن تحسنوا إليه بالفداء.

فصل فيما أخذ الله على بني إسرائيل


قال السّدي: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ألاَّ يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأيّما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه، وكانت» قريظة «حلفاء» الأوس «،» والنضير «حلفاء» الخزرج «، وكانوا يقتلون في حرب سِنِيْنَ، فيقاتل» بنو قريظة «مع حلفائهم،» وبنو النضير «مع حلفائهم، وإذا غلبوا خربوا ديارهم، وأخرجوهم منها، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه، وإن كان الأسير من عدّوهم، فتعيّرهم العرب، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، فيقولون: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن تذلّ حلفاؤنا، فعيّرهم الله تعالى، فقال:» ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ «.
وفي الآية تقديم وتأخير، ونظمها: وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان، وهو محرم عليكم إخراجهم، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم فكان الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتال، وترك الإخراج، وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم، وفداء أسرائهم، فأعرضوا عن الكل إلا الفداء، فقال عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٨٥].
وقال مجاهد: يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك.
قوله: «وَهُوَ مُحَرَّمٌ»
فيه وجوه.
والظاهر منها: أن يكون «هو» ضمير الشأن والقصّة، فيكون في محلّ رفع بالابتداء، و «محارم» خبر مقدم، وفيه ضمير قائم مقام الفاعل، و «إخراجهم» مبتدأ مؤخر، والجملة من هذه المبتدأ والخبر في محل رفع خبراً لضمير الشأن، ولم تحْتَجْ هنا إلى عائد على المبتدأ؛ لأن الخبر نفس المبتدأ أو عينه.
وهذه الجملة مفسرة لهذا الضمير، وهو أحد المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده وقد تقدّمت، ولسي لنا من الضَّمائر ما يفسَّر بجلمة غيرُ هذا الضمير، ومن شرطه أن يؤتى به في مَوَاضع التَّعْظيم، وأن يكون معمولاً للابتداء أو نواسخه فقط، وأن يفسر بجملة مصرح بجزيئها، ولا يُتبع بتابع من التَّوَابع الخمسة، ويجوز تذكيره وتأنيثه مطلقاً خلافاً لما فصل، فتذكيره باعتبار الأمر والشأن، وتأنيثه باعتبار القصّة فتقول:
253
«هو زيد قائم»، ولا يثنى ولا يجمع، ولا يحذف إلا في مواضع تذكر إن شاء الله تعالى، والكوفيُّون يسمونه ضمير المَجْهُول، وله أحكام كثيرة.
الوجه الثاني: أن يكون «هو» ضمير الشأن أيضاً، و «محرم» خبره، و «أخراجهم» مرفوع على أنه مفعول لَمْ يسمّ فاعله. وهذا مذهب الكوفيين، وإنما فَرُّوا من الوجه الأول؛ لأن عندهم أن الخبر المحتمل ضميراً مرفوعاً لا يجوز تقديمه على المبتدأ، فلا يقال: قائم زيد على أن يكون «قائم» خبراً مقدماً، وهذا عند البصريين ممنوع لما عرفته أن ضمير الشأن لا يفسّر إلا بجملة، والاسلا المشتق الرافع لما بعده من قبيل المُفْرَدَات لا الجمل، فلا يفسر به ضمير الشَّأن.
الثَّالث: أن يكون «هو» كناية عن الإخْرَاج، وهو مبتدأ، و «محرم» خبره، و «إخراجهم» بدل منه، وهذا على أحد القولين.
وهو جواز إبدال الظَّاهر من المضمر قبله ليفسره، واستدلّ من أجاز ذلك بقوله: [الطويل]
٦٤١ - عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ في الْقَوْمِ حَاتِماً
عَلَى جُودِهِ لَضَنَّّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ ف «حَاتم» بَدلٌ عن الضمير في «جُودِهِ».
الرابع: أن يكون «هو» ضمير الإخراج المَدْلُولَ عليه بقوله: «وَتُخْرِجُونَ» و «مُحَرَّمٌ» خبره، و «إخْرَاجُهُمْ» بدل من الضمير المستتر في «محرم».
الخامس: كذلك، إلا أن «أخراجهم» بدلٌ من «هو». نقل هذين الوجيهن أبو البقاء، وفي هذا الأخير نظر، وذلك أنك إذا جعلت «هو» ضمير الإخراج المدلول عليه بالفعل كان الضمير مفسراً به نحو: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى﴾ [المائدة: ٨] فإذا أبدلت منه «أخراجهم المَلْفُوظَ به كان مَفسّراً به أيضاً، فيلزم تفسيره بشيئين، إِلاَّ أن يقال: هذان الشيئان في الحقيقة شيء واحد فيُحتمل ذلك.
السادس: أجاز الكوفيون أن يكن»
هو «عماداً، وهو الذي يسميه البصريون ضمير الفَصْل قُدّم مع الخبر، والأصل: وإخراجهم هو محرم عليكم، و» إخراجهم «مبتدأ، و» محرم «خبره، و» هو «عِمَاد، فلما قدم الخبر قدم معه.
قال الفراء: لأن الواو هنا تطلب الاسم، وكل موضع نطلب فيه الاسم فالعماد جائز وهذا عند البصريين ممنوع من وجهين:
أحدهما: أنَّ الفصل عندهم من شرطه أن يقع بين معرفتين أو بين معرفة ونكرة
254
قريبة من المعرفة في امتناع دخول ألأ ك» أفعل من «ومثل وأخواتها.
والثاني: أن الفَصْل عندهم لا يجوز تقديمه مع ما اتصل به.
والسابع: قال ابن عطية: وقيل في»
هو «: إنه ضمير الأمر، والتقدير: والأمر محرم عليكم، وإخراجهم في هذا القول بدل من» هو «.
وقال أبو حَيَّان: وهذا خطأ من وجهين:
أحدهما: تفسير ضمير الأمر بمفرده، وذلك لا يجيزه بَصْري ولا كُوفي، أما البصري فلا شتراطه جملة، وأما الكوفي فلا بد أن يكون المفرد قد انتظم منه [نحو»
ظننته قائماً الزيدان «.
والثاني: أنه جعل»
إخراجهم «] بدلاً من ضمير الأمر، وقد تقدم» أَلاَّ يُتْبَع بِتَابعٍ «.
الثامن: قال ابن عطيّة أيضاً: وقيل: هو فاصلة، وهذا مذهب الكوفيين، وليست هنا بالتي هي عماد، و»
مُحَرّم «على هذا ابتداء، و» إخراجهم «خبر.
قال: أبو حيان والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب، أي: يكون «إخراجهم»
متبدأ مؤخراً، «محرم» خبر مقدم قّدِّم مع الفَصْل كما تقدم، وهو الموافق للقواعد، ولا يلزم منه الإخبار بمعرفة عن نكرة من غير ضرورة تدعو إلى ذلك.
التاسع: نقله ابن عطيّة أيضاً عن بعضهم أن «هو» الضمير المقدر في «محرم» قدم وأَظْهِر.
قال الشيخ: وهذا ضعيف جدّاً؛ إذ لا ضرورة تدعو إلى انفصال هذا الضمير بعد اسْتِتَارِهِ وتقديره، وأيضاً فإنه يلزم خلوّ اسم المفعول من ضمير؛ إذ على هذا القول يكون «محرم» خبراً مقدماً، و «إخراجهم» متبدأ مؤخراً ولا يوجد اسم فاعل، ولا مفعول خالياً من الضمير إلاَّ إذا رفع الظَّاهر، ثم يبقى هذا الضمير لا ندري ما إعرابه، إذ لا يجوز مبتدأ، ولا فاعلاً مقدماً وفي قول الشيخ: «يلزم خُلُّوه من ضمير» نظر؛ إذ هو ضمير مرفوع به، فلم يخل منه غاية ما في الباب أنه انفصل للتقديم.
وقوله: «لا ندري ما إعرابه» ؟ قد دري، وهو الرفع بالفاعلية.
وقوله: والفاعل لا يقدم «ممنوع» فإن الكوفي يجيز تقديم الفَاعِلِ، فيحتمل أن يكون هذا القاتل يرى ذلك، ولا شكّ أن هذا قول رديء منكر لا ينبغي أن يجوز مثله في الكلام، فكيف في القرآن! فالشيخ معذور، والعجب من ابن عطية كيف يورد هذه الأشياء حاكياً لها ولم يُعَقِّبْها بنكير؟
255
وهذه الجملة يجوز أن تكون محذوفةً من الجمل المذكورة قبلها، وذلك أنه قد تقدم ذكر أربعة أشياء كلها محرمة وهي قوله: تقتلون أنفسكم وتخرجون [فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ]، وتظاهرون، وتفادون فيكون التقدير: تقتلون أنفسكم وهو محرّم عليكم قتلها وكذلك مع البواقي.
ويجوز أن يكون خصّ الإخراج بذكر التحريم، وإن كانت كلها حراماً، لما فيه من معرَّة الجلاء والنّفي الذي لا ينقطع شرّه إلا بالموت والقَتْل، وإن كان أعظمَ منه إلاَّ أن فيه قطعاً للشر، فالإخراج من الدِّيَار أصعب الأربعة بهذا الاعتبار.
و «المحرم» : الممنوع، فإن التَّحريم هو المَنْع من كذا، والحَرَام: الشَّيء الممنوع منه يقال: حَرَامٌ عليك وسيأتي تحقيقه في «الأنبياء» إن شاء الله تعالى.

فصل في المراد بالكفر والإيمان في الآية


اختلف العلماء في قوله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ قال ابن عباس وقتادة وابن جريج: «أخراجهم كفر، وفداؤهم إيْمَان؛ لأنه ذمهم على المُنَاقضة، إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض».
فإن قيل: هَبْ أن ذلك الأخراج كان معصيةً، فَلِمَ سماها كفراً؟ مع أنه ثبت أن العاصي لا يكفر.
فالجواب: لعلّهم صرحوا بأن ذلك الإخراج غير واجب مع أنّ صريح التوراة كان دالاً على وجوبه.
الثاني: أن المراد تمسّكهم بنبوة موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع التكذيب بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أن الحُجّة في أمرها سواء.
قوله: ﴿فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ﴾ «ما» يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون نافية، و «جزاء» متبدأ، و «إلاَّ خِزْيٌ» خبره وهو استثناء مفرّغ وبَطَلَ علمها عند الحِجَازيين لانتقاض النفي ب «إلاّ»، وفي ذلك خلاف وتفصيل وتلخيصه: أن خبرها الواقع بعد «إلا» جمهور البصريين على وجوب رفعه مطلقاً سواءً كان هو الأول، أمر منزلاً منزلته، أو صفة أو لم يكن، ويأولون قوله: [الطويل]
256
على أن الناصب ل «منجنوناً» و «معذباً» محذوف، أي: يدور دَوَرَان منجنون، ويعذب مُعَذَّباً تّعْذِيباً.
وأجاز يونس النصب مطلقاً، وإن كان النَّحَّاس نقل عدم الخلاف في رفع ما زيد إِلاَّ أخوك فإن كان الثَّاني منزلاً منزلة الأوّل نحو: «ما أنت إِلاَّ عمامتك تحسيناً وإلاَّ رداءك تزييناً».
فأجاز الكوفيون نصبه، وإنْ كان صفة نحو «ما زيد إلا قائم» فأجاز الفراء أيضاً.
والثانيك أن تكون استفهاميةً في محلّ رفع بالابتداء، و «جزاء» خبره، و «إِلاَّ خِزْي» بدل من «جزاء» نقله أبو البَقَاءِ.
و «الجزاء» : المقابلة خَيْراً كان أو شَرَّا.
و «مَنْ» موصولة، أو نكرة موصوفة، و «يفعل» لا محلّ لها على الأول، ومحلها الجر على الثاني.
«مِنْكُم» في محلّ نصب على الحال من فاعل «يفعل»، فيتعلّق بمحذوف، أي: يفعل ذلك حال كونه منكم.
و «الخِزْي» : الهَوَان والذّل والمَقْت، يقال: أخزاه الله إذا مَقَتَهُ وأبعده، ويقال: خَزِيَ بالكسر يَخْزى خِزْياً فهو خَزْيَان، وامرأة خَزْيَا، والجمع خَزَايَا. وقال ابن السِّكِّيت: الخزي الوقوع في بَليَّةٍ، وخَزِيَ الرجل في نفسه يخزى خزايةً إذا استحيا.
وإذا قيل: أخْزَاه الله، كأنه قيل: أوقعه موقعاً يُستحيى منه، فأصله على هذا الاستحياء.
قوله: «فِي الْحَيَاةِ» يجوز فيه وَجْهَان:
أحدهما: أن يكون محلّه النصب على أنه ظرف ل «خِزْي»، فهو منصوب به تقديراً.
و «الدُّنْيَا» «فُعْلَى» تأنيث الأدنى من الدَّنو، وهو القُرْب، وألفها للتأنيث، ولا تحذف منها «أل» إلا لضرورة كقوله: [الرجز]
٦٤٢ - وَمَا الدَّهْرُ إِلاَّ مَنْجَنُوناً بِأَهْلِهِ وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إِلاَّ مُعَذَّبَا
٦٤٣ - يَوْمَ تَرَى النُّفُوسُ مَا أَعَدَّتِ في سَعْيِ دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مُدَّتِ
وياؤها عن واو، وهذه قاعدة مطردة، وهي: كل «فُعْلَى» صفة لامها واو تبدل ياء. نحو «الدنيا والعُلْيَا».
257
فأما قولهم: «القُصْوَى» عند غير «تميم»، و «الحُلْوَى» عند الجميع فَشَاذٌّ.
فلو كانت «فُعْلَى» اسماً صحّت الواو؛ كقوله: [الطويل]
٦٤٤ - أَدَارًا بِحُزْوَى هِجْتِ لِلْعَيْنِ عَبْرَةً فَمَا الْهَوَى يَرْفَضُّ أَوْ يَتَرَقْرقُ
وقد استعملت استعمال الأسماء، فلم يذكر [موصوفها، قال تعالى: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا﴾ [الأنفال: ٦٧] وقال ابن السّراج في «المقصور والممدود» : و «الدنيا» ] مؤنّثة مقصورة، تكتب بالألف، هذه لغة «نجد» و «تميم»، إلاَّ أن «الحجاز»، «وبني اسد» يلحقونها ونظائرَهَا بالمَصَادر ذوات الواو، فيقولون: دَنْوَى مثل شَرْوَى وكذلك يفعلون بكل «فُعْلَى» موضع لامها واو، ويفتحون أولها، ويقلبون باءها واواً، وأما أهل اللغة الأولى، فيضمون الدال، ويقلبون من الواو ياء لاستثقالهم الواو مع الضمة.

فصل في المراد بالخِزْي في الآية


اختلفوا في هذا الخِزْي على جوه:
أحدها: قال الحَسَن: وهو الجزية والصَّغَار، وهو ضعيف؛ لأن الجِزْيَةَ لم تكن ثابتةً، في شريعتهم، بل إن حملنا الآية على خطاب الذين كانوا في زمن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيصحّ.
الثاني: خِزْي «بني قريظة» بالقَتْل والسَّبي، وخزي بني النَّضير بالجَلاَء والنفي عن منازلنهم إلى «أَذْرعات» و «أريحا» من «الشام»، وهذا أيضاً إنما يصحّ إذا حملنا الآية على الحاضرين في زمان صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الثالث: قال ابن الخَطِيْبِ وهو الأولى: إنّ المراد منه الذَّمّ العظيم ولتحقير البالغ من غير تخصيص ذلك ببعض الوجوه دون بعض، والتنكير في قوله: «خزي» يدلّ على أن الذّم واقع في النهاية العظمى.
[وقوله] يُرَدُّونَ [قرىء] بالغيبة على المشهور وفيه وجهان.
أحدها: أن يكون التفاتاً، فيكون راجعاً إلى قوله «أَفَتُؤْمِنُونَ» فخرج من ضمير الخطاب إلى الغيبة.
258
والثَّاني: أنه لا التفات فيه، بل هو راجع إلى قوله: «مَنْ يَفْعَلْ».
وقرأ الحسنك «تُرَدُّون» بالخطاب وفيه الوجهان المتقدمان:
فالالتفات نظراً لقوله: «مَنْ يَفْعَلْ»، وعدم الالتفات نظراً لقوله: «أَفَتُؤْمِنُونَ».
وكذلك: ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ قرىء في المشهور بالغيبة والخطاب والكلام فيهما كما تقدم.
فإن قيل: عذاب الدّهري الذي ينكر الصَّانع يجب أن يكون أَشدَّ من عذاب اليهود، فكيف يكون في حقّ اليهود ﴿يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب﴾ ؟
فالجواب: المراد منه أشد من الخِزْي الحاصل في الدنيا، فلفظ الأشد وإن كان مطلقاً إلاّ أن المراد أشد من هذه الجهة.
259
قوله :﴿ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ ﴾ فيه سبعة أقوال :
أحدها : وهو الظاهر أن " أنتم " في محل رفع بالابتداء، وهؤلاء خبره و " تقتلون " حال، والعامل فيها اسم الإشارة لما فيه من معنى الفِعْل، وهي حال منه ليتّحد ذُو الحال وعاملها.
وقد قالت العرب :" ها أنت ذا قائماً " و " ها أنا ذا قائماً " و " ها هوذَا قائماً " فأخبروا باسم الإشارة عن الضَّمير في اللَّفظ والمعنى على الإخبار بالحال، فكأنه قال :" أنت الحاضر "، " وأنا الحاضر "، " وهو الحاضر " في هذه الحالة.
ويدل على أن الجملة من قوله :" تَقْتُلُونَ " حال وقوع الحال الصريحة موقعها كما تقدم في :" ها أنا ذا قائماً " ونحوه، وإلى هذا المعنى نَحَا الزمخشري فقال :﴿ ثُمّ أَنتُمْ هَؤُلاَءِ ﴾ استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارِهم وشَهَادتِهم، والمعنى : ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون : يعني أنكم قوم آخرون غيرُ أولئك المقربين، تنزيلاً لتغير الصّفة منزلة تغير الذَّات كما تقول : رجعت بغير الوجه الذي خرجت به.
وقوله :" تَقْتُلُونَ " بيان لقوله :﴿ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاَءِ ﴾.
واعترضه أبو حَيّان فقال : الظاهر أن المشار إليهم بقوله :﴿ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاَءِ ﴾ هم المخاطبون أولاً، فليسوا قوماً آخرين، ألا ترى أن التقدير الذي قَدَّره الزمخشري من تقدير [ تغير الصّفة منزلة ] تغيّر الذات لا يتأتى في نحو : ها أنا ذا قائماً، ولا في نحو : ها أنتم هؤلاء، بل المُخَاطب هو المشار إليه من غير تَغَيُّرٍ.
وأجيب بأن هذا الإيراد بعيد غير واضح.
والثاني : أن " أنتم " أيضاً مبتدأ، و " هؤلاء " خبره، ولكن بتأويل حذف مضاف تقديره : ثم أنتم مِثْلُ هؤلاء، و " تقتلون " حال أيضاً، العامل فيها معنى التشبيه، إلا أنه يلزم منه الإشَارة إلى غائبين ؛ لأن المراد بهم أَسْلاَفهم على هذا، وقد يقال : إنه نزل الغائب منزلة الحاضر.
الثالث : ونقله " ابن عطية " عن شيخه " ابن الباذش١ " أن " أنتم " خبر مقدم، و " هؤلاء " مبتدأ مؤخر. وهذا فاسد ؛ لأن المبتدأ أو الخبر متى استويا تعريضاً وتنكيراً لم يَجُزْ تقدم الخبر، وإن ورد منه ما يوهم فمتأول.
الرابع : أن " أنتم " مبتدأ و " هؤلاء " مُنَادى حذف منه حرف النِّدَاء، وتقتلون خبر المبتدأ، وفصل بالنداء بين المبتدأ وخبره.
وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به " الفراء " وجماعة ؛ أنشدوا :[ البسيط ]
٦٢٩- إِنَّ الأُلَى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ *** هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولاَ
أي : يا هذا، وهذا لا يجوز عند البصريين، ولذلك لُحِّنَ المتنبي في قوله :[ الكامل ]
٦٣٠- هَذِي بَرَزْتِ لَنَا فَهِجْتِ رَسِيسَا ***. . . 
وفي البيت كلام طويل.
الخامس : أن " هؤلاء " موصول بمعنى " الذي "، و " تقتلون " صلته، وهو خبر عن " أنتم " أي : أنتم الذين تقتلون. وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به " الفراء " وجماعة ؛ أنشدوا :[ البسيط ]
٦٣١-. . . *** نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
أي : والذي تحملين، ومثله :﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ﴾ [ طه : ١٧ ] يعني : وما التي ؟
السادس : أنَّ " هؤلاء " منصوب على الاختصاص، بإضمار " أعني " و " أنتم " مبتدأ، و " يقتلون " خبره، اعترض بينهما بجملة الاختصاص، وإليه ذهب ابن كَيْسَان. وهذا لا يجوز، لأن النحويين قد نصّوا على أن الاختصاص لا يَكُون بالنكرات، ولا أسماء الإشارة، والمستقرأ من لسان العرب أن المنصوب على الاختصاص : إما " أي " نحو :" اللهم اغفر لنا أيتها العِصَابة " أو معرف ب " أل " نحو : نحن العَرَبَ أَقْرَى النَّاس للضيف، أو بالإضافة نحو : نحن مَعَاشِرَ الأنبياء لا نورّث، وقد يجيء كقوله :[ الرجز ]
٦٣٢- بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ ***. . .
وأكثر ما يجيء بعد ضمير تكلُّم كما تقدم، وقد يجيء مخاطب كقولهم :" بك الله نرجو الفضل ".
السابع : أن يكون " أَنْتُمْ هَؤُلاَء " على ما تقدّم من كونهما مبتدأ أو خبر، والجُمْلة من " تقتلون " مستأنفة مبينة للجملة قبلها، يعني : أنتم هؤلاء الأشخاص الحَمْقَى، وبيان حَمَاقتكم وقلّة عقولكم أنكم تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقاً منكم من دِيَارِهِمْ، وهذا ذكره الزَّمخشري في سورة آل عمران في قوله :﴿ هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ ﴾ [ آل عمران : ٦٦ ] ولم يذكر هنا، وسيأتي بنصه إن شاء الله تعالى.
قوله :" تَظَاهَرُونَ " هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل " تُخْرجون " وفيها خمس قراءات :" تَظَّاهرُون " بتشديد الظَّاء، والأصل : تتظاهرون فأُدغم لقرب الظاء من التاء.
و " تَظَاهَرُون " مخففاً، والأصل كما تقدم، إلا أنه خفّفه بالحذف، وهل المحذوف الثانية وهو الأَوْلَى ؛ لحصول الثقل بها، ولعدم دلالتها على معنى المُضَارعة، أو الأُولَى ؛ كما زعم هشام ؛ قال الشاعر :[ البسيط ]
٦٣٣- تَعَاطَسُونَ جَمِيعاً حَوْلَ دَارِكُمُ *** فَكُلُّكُمْ يَا بَنِي حَمْدَانَ مَزكُومُ
أراد : تتعاطسون فحذف.
و " تَظَّهَّرُون " بتشديد الظاء والهاء.
و " تَظَاهَرُون " من " تَظَاهر " و " تَتَظَاهَرُونَ " على الأصل من غير حذف، ولا إدْغَام وكلهم يرجع إلى معنى المعاونة والتَّنَاصُر من المظاهرة، كأن كل واحد منهم يسند ظَهْرَهُ للآخر ليتقوّى به، فيكون له كالظَّهر ؛ قال :[ الطويل ]
٦٣٤- تَظَاهَرْتُمُ أَسْتَاهَ بَيْتٍ تَجَمَّعَتْ *** عَلَى وَاحِدٍ لاَ زِلْتُمُ قِرْنَ وَاحِدِ
قال ابن الخطيب : الآية تدلّ على أن الظُّلم كما هو محرم، فإعانة الظالم على ظلمه محرمة.
فإن قيل : أليس أن الله تعالى لما أقدر الظَّالم على الظّلم، وأزال العوائق والموانع، وسلط عليه الشهوة الدّاعية إلى الظلم كان قد أعانه على الظلم، فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحةً لوجب ألاَّ يوجد ذلك من الله تعالى ؟
والجواب : أنه تعالى وإن مكّن الظَّالم من ذلك فقد زَجَرَهُ عن الظلم بالتَّهْديد والزجر، بخلاف المعين للظالم على ظلمه، فإنه يرغبه فيه، ويحسنه له ويدعوه إليه فظهر الفرق.
و " الإثم " في الأصل : الذنب، وجمعه " آثام "، ويطلق على الفعل الذي يستحقّ به صاحبه الذّم واللوم.
وقيل : هو ما تَنْفِرُ منه النفس، ولا يطمئنّ إليه القَلْب، فالإثْمُ في الآية يحتمل أن يكون مراداً به [ أحد ] هذه المعاني ويحتمل أن يتجوّز به عما يوجب الإثم من إقامة السَّبب مقام السَّبب مقام المسبب ؛ كقوله :[ الوافر ]
٦٣٥- شَرِبْتُ الإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي *** كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بِالعُقُولِ
فعبر عن الخمر بالإثم، لما كان مسبَّباً عنها.

فصل في معنى العدوان واشتقاقه


و " العُدْوَان " : التجاوز في الظلم، وقد تقدم في ﴿ يَعْتَدُونَ ﴾ [ البقرة : ٦١ ] وهو مصدر ك " الكُفْرَان والغُفْرَان " والمشهور ضمّ فائه، وفيه لغة بالكَسْر.
قوله :﴿ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ ﴾ " إن " شرطية، و " يأتوكم " مجزوم بها بحذف النون، والمخاطب مفعول.
و " أسارى " حال من الفاعل في " يأتوكم ".
وقرأ الجماعة غير حمزة " أُسارى " وقرأ هو :" أَسْرَى " وقرئ :" أَسَارَى " بفتح الهمزة، فقراءة الجماعة تحتمل أربعة أوجه :
أحدها : أنه جُمِعَ جَمْع " كَسْلاَن " لما جمعهما من عدم النَّشَاط والتصرف، فقالوا :" أسير وأسارى " بضم الهمزة ك " كَسْلاَن وكُسَالَى " و " سَكْرَان وسُكَارى "، كما أنه قد شبه كَسْلان وسَكْران به فجمعا جمعه الأصلي الذي هو على " فعلى " فقالوا : كسلان وكَسْلى، وسكران وسَكْرى لقولهم : أسير وأسرى.
قال سيبويه : فقالوا : في جمع كَسْلان كَسْلَى شبّهوه ب " أَسْرَى ". كما قالوا : أُسارى شبَّهوه ب " كَسَالى "، ووجه الشبه أنَّ الأسْر يدخل على المرء كرهاً كما يدخل الكَسَل.
قال بعضهم : والدَّليل على اعتبار هذا المعنى أنهم جمعوا " مريضاً وميتاً وهالكاً " على " فَعْلَى " فقالوا :" مرضى وموتى وهَلْكَى " لما جمعها المَعْنَى الذي في " قَتْلَى وجَرْحَى ".
الثَّاني : أنَّ " أُسَارى " جمع " أسير "، وقد وجدنا " فَعِيلاً " يجمع على " فُعَالى " قالوا : شيخ قديم، وشيوخ قُدَامى. وفيه نظر، فإن هذا شاذّ لا يقاس عليه.
الثالث : أنه جمع " أسير " أيضاً، وإنما ضموا الهمزة من " أُسَارى " وكان أصلها الفَتْح ك " نديم ونُدَامى " كما ضمت الكاف والسين من " كُسَالى " و " سُكَارى " وكان الأصل فيهما الفتح نحو :" عَطْشَان وعَطَاشى ".
الرابع : أنه جمع " أسرى " الذي هو جمع " أسير " فيكون جمع الجمع.
وأما قراءة حمزة فواضحة ؛ لأن " فَعْلَى " ينقاس في " فعيل " نحو :" جريح وجرحى " و " قتيل وقَتْلَى " و " مريض ومرضى ".
وأما " أَسَارَى " بالفتح فقد تقدم أنها أصل أُسَارَى بالضم عند بعضهم، ولم يَعْرِفْ أهل اللُّغَة فرقاً بين " أُسَارَى " و " أَسْرَى " إلاَّ ما حكاه أبو عُبَيْدَة عن أبي عمرو بن العلاء، فإنه قال :" ما كان في الوَثَاقِ فهم الأُسَارَى، وما كان في اليد، فهم الأَسْرَى " ونقل بعضهم عنه الفرقَ بمعنًى آخر، فقال :" ما جاء مستأسراً فهم الأسْرَى، وما صار في أيديهم، فهم الأُسَارَى "، وحكى النقَّاشُ عن ثَعْلَبٍ ؛ أنه لما سمع هذا الفَرْق قال :" هذا كلامُ المَجَانِينِ "، وهي جُرْأة منه على أبي عمرو، وحكي عن المبرِّد أنه يقال :" أسِير وأُسَرَاء " ك " شَهِيدٍ وشُهَدَاء " و " الأَسِير " : مشتقٌّ من " الإسَارِ " وهو القَيْدُ الذي يُرْبَطُ به من المحمل، فسمي الأسير أسيراً، وإن لم يُرْبَط، والأَسْر : الخلْقُ في قوله :﴿ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ ﴾ [ الإنسان : ٢٩ ] وأُسْرَة الرَّجْل : من يتقوَّى بهم، والأُسْر : احتباس البَوْل، ورجل مَأْسُور : أصابه ذلك ؛ وقالت العربُ : أسَرَ قَتَبَهُ : أي : شَدَّه ؛ قال الأعشى :[ المتقارب ]
٦٣٦- وَقَيَّدَنِي الشِّعْرُ في بَيْتِهِ *** كَمَا قَيَّدَ الآسِرَاتُ الحَمَارَا
يريد : أنه بلغ في الشعر النّهاية ؛ حتى صار له كالبيت الذي لا يَبْرَحُ عنه.
قوله :" تُفَادُوهُمْ " قرأ نافع وعاصم والكسائي :" تُفَادُوهُمْ "، وهو جواب الشرط، فلذلك حذفت نون الرفع، وقرأ الباقون :" تَفْدُوهُمْ "، وهل القراءتان بمعنى واحد، ويكون معنى " فَاعَل " مثل معنى " فَعَل " المجرد مثل :" عاقبت وسَافرت " أو بينهما فرق ؟ خلاف مشهور، ثم اختلف الناس في ذلك الفرق ما هو ؟
فقيل : معنى " فَدَاه " أعطى فيه فِدَاء من مال، و " فَادَاهُ " : أعطى فيه أسيراً مثله ؛ وأنشد :[ الطويل ]
٦٣٧- وَلَكِنَّنِي فَادَيْتُ أُمِّيَ بَعْدَمَا *** عَلاَ الرَّأْسَ مِنْهَا كَبْرَةٌ وَمَشِيبُ
وهذا القول يرده قول العباس رضي الله عنه : فَادَيْتُ نفسي وفاديت عقيلاً، ومعلوم أن لم يُعْط أسيره في مقابلة نفسه ولا وَلَدِهِ.
وقيل : تفدوهم بالصّلح، وتفادوهم بالعنف.
وقيل : تفدوهم تعطوا فديتهم، وتفادوهم تطلبون من أعدائكم فِدْيَةَ الأسير الذي في أيديكم ؛ ومنه :[ الوافر ]
٦٣٨- قِفِي فَادِي أَسِيرَكِ إنَّ قَوْمِي *** وَقَوْمَكِ
قد تقدم إعراب نظائرها إلا أنّ بعضهم ذكر وجوهاً مردودة لا بُدّ من التنبيه عليها، فأجاز أن يكون «أولئك» مبتدأ، و «الذين اشتروا» خبره، «فلا يُخَفَّف عنهم العَذَاب» خبراً ثانياً ل «أولئك».
قال: ودخلت الفاء في جواب الخبر لأجل الموصول المشبه بالشرط وهذا خطأ فإن قوله: «فَلا يُخَفَّفُ» لم يجعله خبراً للموصول حتى تدخل «الفاء» في خبره، وإنما جعله خبراً عن «أولئك» وأين هذا من ذاك؟
وأجاز أيضاً أن يكون الذين مبتدأ ثانياًن و «فلا يخفف» خبَره، دخلت لكونه خبراً للموصول، والجملة خبراً عن «أولئك».
قال: ولم يَحْتَج هذا إلى عائد؛ لأن «الذين» هم «أولئك» كما تقول: «هذا زيد منطلق»، وهذا أيضاً خطأ لثلاثة أوجه:
أحدها: خلوّ الجملة من رابط، وقوله: «لأن الذين» هم «أولئك» لا يفيد، فإن الجملة المستغنية لا بُدّ وأن تكون نفس المبتدأ.
وأما تنظيره ب «هذا زيد منطلق» فليس بصحيح، فإن «هذا» مبتدأ و «زيد» خبره، و «منطلق» خبر ثانٍ، ولا يجوز أن يكون «زيد» مبتدأ ثانياً، و «منطلق» خبره، والجملة خبر عن الأول، للخلو من الرابط.
259
الثاني: أن الموصول هنا لقوم معيّنين وليس عامّاً، فلم يُشبه الشرط، فلم تدخل «الفاء» في خبره.
الثالث: أن صلته ماضية لفظاً ومعنى، فلم تشبه فعل الشرط في الاستقبالن فلا يجوز دخول الفاء في الخبر.
فتعيّن أن يكون «أولئك» مبتدأ والموصول بصلته خبَره، و «فلا يخفف» معطوف على الصِّلَةِ، ولا يضر تَحَالُف الفعلين في الزمان، فإنّ الصِّلاتِ من قبيل الجُمَل، وعطف الجمل لا يشترط فيه اتحاد الزمان، فيجوز أن تقول: جاء الذي قتل زيداً أمس، وسيقتل عَمْراً غداً، وإنما الذي يشترط فيه ذلك حيث كانت الأفعال منزلة منزلة المفردات.
وقيل: دخلت «الفاء» بمعنى جواب الأمر كقوله: أولئك الضّلال انتبه فلا خير فيهم.

فصل في تفسير تخفيف العذاب


حمل بعضهم عدم التخفيف على عدم الانقطاع؛ لأنه لو انقطع لكان قد خفف، وحمله آخرون على الشدّة لا على الدوام، أو في كلّ الأوقات، فإذا عذابهم بأنه لا يخفّف عنهم اقتضى ذلك نَفْيَ جميع ما ذكرناه.
قوله: «وَلاَ هُمْ يَنْصَرُونَ» يجوز في «هو» وجهان:
أحدهما: أن يكون محلّ رفع بالابتداء، وما بعده خبره، ويكون قد عطف جملة اسمية على جملة فعلية وهي: «فلا يخفف».
والثاني: أن يكون مرفوعاً بفعل محذوف يفسره هذا الظاهر، وتكون المساألةُ مِنْ باب الاشتغال، فما حذف الفعل انفصل الضَّمير؛ ويكون كقوله: [الطويل]
٦٤٥ - فإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيلُ
وله مرجّح على الأول بكونه قد عطف جملة على مثلها، وهو من المواضع المرجح فيها الحمل على الفعل في باب الاشْتِغَال. وليس المرجوح كونه تقدمه «لا» النافية، فإنها ليست من الأدوات المختصة بالفعل ولا الاولى به، خلافاً لابن السيد حيث زعم أَنَّ «لا» النافية من المرجّحات لإضمار الفِعْل، وهو قول [مرغوب عنه] ولكنه قَوِيَ من حيث البحث. فقوله: «ينصرون» لا محلّ له على هذا؛ لأنه مُفَسِّرٌ، ومحلّه الرفع على الأولى لوقوعه موقع الخبر.
260

فصل


حمله بعضهم على نفس النُّصْرة في الآخرة، والأكثرون حلموه على نفي النُّصْرة في الدنيا.
قال ابن الخطيب: والأول أولى، لأنه تعالى جاء على صنعهم ولذلك قال: ﴿فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب﴾ وهذه الصّفة لا تليق إلا بالآخرة؛ لأنَّ عذاب الدنيا وإن حصل، فيصير كالحدود؛ لأن الكُفَّار قد يصيرون غالبين للمؤمنين في بعض الأوقات.
261
روي عن ابن عباس أن التَّوراة لما نزلت أمر الله موسى بِحَمْلِهَا فلم يطق ذلك، فبعث لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حلمها، فخفّفها الله على موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فحملها.
[قوله] :﴿وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل﴾ التضعيف في «قَفَّيْنَا» ليس للتَّعدية؛ إِذْ لو كان كذلك لتعدّى إلى اثنين؛ لأنه قيل: التضعيف يتعدّى لواحد، نحو: «قَفَوْتُ زَيْداً»، ولكنه ضُمِّن معنى «جئنا» كأنه قيلك وجئنا من بعده الرُّسل.
فإن قيل: يجوز أن يكون متعدياً لاثنين على معنى أنَّ الأول محذوف، والثاني «بالرسل» والباء فيه زائدة تقديره: «وَقَفَّيْنَا من بعده الرسل».
فالجَوَاب: أن كثرة مجيئه في القرآن كذلك يبعد هذا التَّقْدِير، وسيأتي لذلك مزيد بيان في «المائدة» [الآية: ٤٦] إن شاء الله تعالى.
و «قَفَّيْنَا» أصله: قَفَّوْنَا/ ولكن لما وقعت «الواو» رابعة قلبت «ياء»، واشتقاقه من «قَفَوْتَ»، وقَفَوْتُه إذا اتَّبَعْتُ قَفَاه، ثم اتُّسِع فيه، فأطلف على تابع، وإن بَعُدَ زمان التابع عن زمان المتبوع.
قال أميَّةُ: [البسيط]
٦٤٦ - قَالَتْ لأخْتٍ لَهُ قُصِّيهِ عَنْ جُنُبٍ وَكَيْفَ تَقْفُو وَلاَ سَهْلٌ وَلاَ جَبَلُ
و «القَفَا» : مؤخّر العُنُق، ويقال له: القافية أيضاً، ومنه الحديث: «يعقد الشيطان على قَافِيَة رَأْس أَحَدِكُمْ»
261
والقَفَاوَة: ما يدّخر من اللّبن وغيره لمن تريد إكرامه، وقفوت الرجل: قذفته بِفُجُور، «وفلان قِفْوتِي» : أي تُهْمتي، وقِفْوتي أي خيرتي.
قال ابن دريد: كأنه من الأضداد.
ومنه قافية الشعر؛ لأنها يتلو بعضها بعضاً، ومعنى قفّينا: أي أتبعنا، كقوله: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾ [المؤمنون: ٤٤].
و «مِنْ بَعْدِهِ» متعلق به، وكذلك: «بالرُّسُل» وهو جمع رسول بمعنى مُرْسَل، وفُعُل غير مقيس في «فعيل» بمعنى «مفعول» وسكون العين لغة «الحجاز» وبها قرأ الحسن، والضم لغة «تميم» وبها قرأ السَّبعة إلاَّ أبا عمر، وفيما أضيف إلى «ن» أو «كم» أو «هم»، فإنه قرأ بالسكون لتوالي الحركات.

فصل في تعيين الرسل المقفى بهم


هؤلاء الرُّسل: يوشع، وشمويل، وداود، وسليمان، وشعياء، وأرمياء، وعزير، وحزقيل، وإلياس، ويونس، وزكريا، ويحيى، وغيرهم.
وروي أن بعد موسى إلى أيام عيسى كانت الرسل متواترةً، ويظهر بعضهم في أثر البعض.
والشريعة واحدة في أيام عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت فإنه جاء بشريعة مجدّدة، والدليل على ذلك قوله: ﴿وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل﴾ ؛ لأنه يقتضي أنهم على حدٍّ واحدٍ في الشريعة يتبع بعضهم بعضاً فيها.
وقال القاضي: إنَّ الرسول الثاني لا يجوز أن يكون على شِرْعَةِ الأوّل بحيث لا يؤدي إلا تلك بعينها من غير زيادة ولا نُقْصَان، مع أنّ تلك الشريعة محفوظةٌ يمكن معرفتها بالتَّواتر عن الأول؛ لأن الرَّسُول إذا كان هذا حاله لم يممكن أن يعلم من جنهة إلاَّ منا كان قد علم من قبل، أو يمكن أن يعلم من قبل، فكما لا يجوز أن يبعث الله رسولاً لا شريعة معه أصلاً، فكذا هاهنا، فثبت أنه لا بد وأن يكونوا قد بعثوا
262
بشريعة جديدة إن كانت الأولى محفوظةً، أو محيية لبعض ما اندرس من الشَّريعة الأولى.
والجواب: لم لا يجوز أن يكون المقصود من بعثة هؤلاء الرسل التعبُّد بتلك الشريعة السَّابعة بنوع آخر من الأَلْطَاف لا يعلمه إلا الله؟

فصل في لفظ عيسى


[قوله] :«عيسى» : علم أعجمي فلذلك لم ينصرف، وقد تكلم النحويون في وَزْنِهِ، واستقاقه على تقدير كونه عَرَبيَّ الوضع فقال سيبويه: وزنه «فِعْلَى» والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة كياء «مِعْزى» بالياء لا الألف، سمّاها ياء لكتابتها بالياء.
وقال الفارسي: ألفه ليست للتأنيث ك «ذِكْرَى»، بدلالة صرفهم له في النكرة.
وقال عثمان بن سعيد الصيرفي: وزنه «فِعْللَ» فالألف عنده أصيلة بمعنى أنها مُنْقلبة عن أصل. ورد عليه ذلك ابن البَاذش بأن الياء والواو لا يكونان أصليين في بنات الأربعة، فمن قال: إن «عيسى» مشتق من «الْعَيْس» : وهو بياض تُخالطه شُقْرة ليس بمصيب، لأن الأعجمي لا يدخله اشتقاق ولا تصريف.
وقل الزمخشري: «وقيل: عيسى بالسُّريانية يشوع».
قوله: «ابن مريم» عطف بيان له أو بدل، ويجوز أن يكون صفة إلا أن الأول أولى؛ لأن «ابن مريم» جرى مجرى العلم له، وللوصف ب «ابن» أحكام تخصّه، ستأتي إن شاء الله تعالى مبينة، وقد تقدم اشتقاق «ابن» وأصله.
و «مريم» أصله بالسّريانية صفة بمعنى الخَادِمِ، ثم سُمِّيَ به؛ فلذلك لم ينصرف، وفي لغة العرب: هي المرأة التي تُكْثر مخالطة الرجَال ك «الزِّير» من الرجال، وهو الذي يكثر مُخالطتَهُن.
قال رؤبة: [الرجز]
٦٤٧ - قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ... و «ياء» الزّير عن واو؛ لأنه من «زار يزور» فقلبت للكسرة قبلها ك «الريح»، فصار لفظ «مريم» مشتركاً بين اللِّسَانين، ووزنه عند النحويين «مَفْعَل» لا «فَعْيَل»، قال
263
الزمخشري: لأن «فَعْيلاً»، بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو: «عثير وعِلَيْب» وقد أثبت بعضهم «فَعْيلاً»، وجعل منه نحو: «ضهيد» : اسم مكان و «مَدْين» على القول بأصالة ميمه و «ضهيأ» بالقَصْر ت وهي المرأة التي لا تحيض، أو لا ثَدْيَ لها، مشتقّة من «ضَاهَأَت» أي: «شابهت» ؛ لأنها شابهت الرجال في ذلك، ويجوز مدّها قاله الزَّجَّاج.
وقال ابن جني: وأما «ضهيد وعثير» فمصنوعان فلا دلالة فيهما على ثبوت «فَعْيَل»، وصحة الياء في «مريم» على خلاف القياس، إذْ كان من حقّها الإعلال بنقل حركة الياء إلى الراء، ثم قَلْب الياء ألفاً نحوك «مُبَاع» من البيع، ولكنه شذّ كما شذ «مَزْيَد ومدين».
وقال ابو البقاء: ومريم على أعجمي، ولو كان مشتقّاً من «رام يَرِيم» لكان مَرِيْماً بسكن الياء. وقد جاء في الأعلام فتح الياء نحو: [مزيد] وهو على خلاف القياس.
و «البَيِّنَات» قيل: هي المُعْجِزَات المذكورة في سورة «آل عمران» و «المائدة».
وقيل: الإنجيل.
وقيل: أعم ذلك.
قوله: «وَأَيَّدْنَاهُ» معطوف على قوله: «وَآتيْنَا عِيسَى».
وقرأ الجمهور: «وَأَيَّدْنَاهُ» على «فَعَّلْنَاهُ»، وقرأ مجاهد وابن محيصن ويروى عن أبي عمرو: «وَآيَدْنَاهُ» على «أَفْعَلْنَاهُ»، والأصل فيه: «أَأْيد» بهمزتين ثانيتهما ساكنة، فوجب إبدال الثانية ألفاً نحو: «أأمن» وبابِه، وصححت العين كما صحّت في «أغليت وأغميت» وهو تصحيح شاذّ إلا في فعل العجّب نحو: ما أبين أطول.
وحكي عن أبي زيد أن تصحيح «أغليت» مقيس.
فإن قيل: لم لا أعلّ «أَيَّدْنَاه» كما أعلّ نحو: أَبَعْنَاهُ حتى لا يلزم حلمه على الشَّاذ؟.
فالجواب: أنه لو أعلّ بأن ألقيت حركة العَيْن على الفاء، فيلتقي ساكنان العين واللام، فتحذف العين لالتقاء السكانين، فتجتمع همزتان مَفْتُوحتان، فيجب قلب الثانية واواً نحو: «أوادم» فتتحرك الواو بعد فتحة، فتقلب ألفاً فيصير اللفظ: أَأَدْنَاهُ؛ لأدّى إلى إعلال الفاء والعين، فالأجل ذلك رُفِضَ بخلاف أَبَعْنَاه وأقمناه، فإنه ليس فيه إلاَّ إعلال العَيْن فقط، قال أبو البقاء: فإن قلت: فلم لم تحذف الياء التي هي عَيْن كما حذفت من نحو: «أسلناه» من «سال يسيل» ؟.
264
قيل: لو فعلوا ذلك لتوالى إِعْلاَلاَن:
أحدهما: قلب الهمزة الثانية ألفاً، ثم حَذْفُ الألف المبدلة من الياء لسكونها، وسكون الألف قبلها، فكان يصير اللَّفظ أدْنَاه، فتحذف الفاء والعين، وليس «أَسَلْنَاه» كذلك؛ لأن هناك حذفت العين فقط.
وقال الزمخشري في «المائدة» :«أَيَّدْتُك على أَفْعَلْتُكَ».
وقال ابن عطية: «على فاعَلْتُكَ»، ثم قال: «ويظهر أنَّ الأصل في القراءتين: أفعلتك، ثم اختلف الإعلال، والذي يظهر أن» أَيَّدَ «» فَعَّلَ لمجيء مضارعه على يُؤَيِّد بالتشديد، ولو كان أَيَّدّ بالتشديد بزنة «أَفْعَل» لكان مضارعه «يُؤْيِدُ» ك «يُؤْمِنُ» من «آمن» وأما آيَدَ بالمدّ فَيحْتَاج في نقل مُضَارعة إلى سماع، فإن سُمِع «يُؤايِد» ك «يُقَاتل» فهو «فَاعَلَ» فإن سمع «يُؤْيِد» ك «يكرم» و «آيَد» فهو أَفْعَلَ، ذكر جميع ذلك أبو حَيّان في «المائدة»، ثم قال: إنه لم يظهر كلام ابن عطيّة في قوله: اختلف الإعلال «، وهو صحيح، إلاَّ أن قوله: والذي يظهر أن» أَيَّد «في قراءة الجمهور» فَعَّل «لا» أَفْعَل «إلى آخره فيه نظر؛ لأنه يُشْعِرُ بجواز شيء آخر متعذّر.
كيف يتوهّم أن «أَيَّدَ»
بالتشديد في قراءة الجمهور بزنة «أَفَعْلَ»، هذا ما لا يقع.
و «الأَيْد» : القوة.
قال عبد المطّلب: [الرجز]
٦٤٨ - أَلْحَمْدُ لِلَّهِ الأعَزِّ الأَكْرَمِ أَيَّدَنَا يَوْمَ زُحُوفٍ الأَشْرَمِ
والصحيح أن «فَعَّلَ» و «أفْعَل» هنا بمعنى واحد وهو «قَوَّيْنَاهُ»، وقد فرق بعضهم بينهما، فقال: «أما المَدُّ فمعناه: القوة، وأما القَصْر فمعناه: التأييد والنصر» وهذا في الحقيقة ليس بفرق، وقد أبدلت بعض العرب في آيَدَ على أَفْعَلَ الياء جميعاً فقالت: آجَدَهُ أي قواه.
قال الزمخشري: «يقال: الحمد لله الذي آجَدَني بعد ضَعْف، وأوجدني بعد فَقْر». وهذا كما أبدلوا من يائه جيماً فقالوا: لا أفعل ذلك جَدَ الدَّهْرِ أو مد الدهر، وهو إبدال لا يطّرد.
ومن إبدال الياء جميعاً قول الراجز: [الرجز]
٦٤٩ - خَالِي عُوَيْفٌ وَأَبُو عَلِجِّ أَلْمُطْعِمَانِ اللَّحْمَ بِالْعَشِجِّ
يريد: «وأبو علي» و «بالعشي».
قوله: «بِرُوحِ القُدُسِ» متعلق ب «أيدناه».
265
وقرأ ابن كثير: «القُدْس» بإسكان الدال، والباقون بضمها، وهما لغتان: الضم ل «الحجاز» والإسكان ل «تميم»، وقد تقدم ذلك، وقرأ أبو حيوة: «القُدُّوس» بواو، فيه لغة فتح القاف والدال معناه: الطَّهارة أو البركة كما [تقدم عند قوله: ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠]] و «الروح» في الأصل: اسم للجزء الذي تحصل به الحياة في الحيوان، قاله الرَّاغب.

فصل في المارد ب، «روح القدس»


اختلفوا في «روح القُدُس» هنا على وجوه:
أحدها: أنه جبريل عليه السلام؛ لقول حسّان: [الوافر]
٦٥٠ - وجبْرِيلٌ رَسولُ اللهِ فِينَا ورُوحُ القُدْسِ لَيْسَ بِهِ كِفَاءُ
قال الحسن: القُدُوس هو الله عزّ وجلّ، وروحه: جبريل، قال تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس﴾ [النحل: ١٠٢] وقيل: سمي جبريل روحاً لِلَطَافته ولمكانته من الوَح] ي الذي هو سبب حياة القلوب.
قال النحاس: وسمي جبريل روحاً أو أضيف إلى القدس؛ لأنه كان بتكوين الله عزّ وجلّ له روحاً من غير ولادة والد والده [وقيل: المارد بروح القدس الإنجيل كما قال في القرآن «روحاً من أمرنا» لأنه الذي يوحى به]، وكذلك سمي عيسى روحاً لهذا.
وقال ابن عَبَّاس وسعيد بن جُبَيْرٍ: «هو الاسم الأعظم الذي كان يحيي به عيسى الموتى».
وقيل: هو الروح الذي نفخ فيه.
والقُدُس والقُدُّوس هو الله، فنسب روح عيسى إلى نفسه تعظيماً وتشريفاً، كما يقال: بَيْت الله، ونَاقَة الله؛ قاله الربيع وغيره، كقوله: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ [التحريم: ١٢] وعلى هذا المراد به الروح الذي يحيى به الإنسان.
[واعلم أن إطلاق الروح على «جبريل» وعلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز].
266
قوله: ﴿أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ﴾ الهمزة هنا للتوبيخ والتَّقريع، والفاء للعطف عَطَفَتْ هذه الجملة على ماقَبْلَها، واعْتُنِيَ بحرف الاستفهام فَقَدِّم، وتقدم تحقيق ذلك، وأن الزمخشري يقدر بين الهمزة حرف العطف جملةً ليعطف عليها، وهذه الجملة يجوز أن تكون معطوفة على ما قبلها من غير حذف شيء كأنه قال: ولقد آتينا يا بني إسرائيل أنبيائكم ما آتيناهم فكلما جاءكم رسول.
ويجوز أن يُقَدَّر قبله محذوف أي: ففعلتم ما فعلتم فكلما جاءكم رسول، وقد تقدّم الكلام في «كلما» عند قوله «كُلَّمَا أَضَاءَ»، والناصب لها هنا استكبرتم.
و «جاء» يتعدّى بنفسه تارة كهذه الآية، وبحرف الجر أخرى، نحو: «جئت إليه» و «رسول» «فَعُول» بمعنى «مفعول» أي: مُرْسَل، وكون «فَعُول» بمعنى «المفعول» قليل، جاء منه: «الرُّكُوب والحَلُوب»، ويكون مصدراً بمعنى: الرِّسالة قاله الزمخشري؛ وأنشد: [الطويل]
٦٥١ - لَقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ ما فُهْتُ عِنْدَهُمْ بِسِرٍّ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
أي: برسالة، ومن عنده: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: ١٦].
قوله: ﴿بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ﴾ متعلّق بقوله: «جاءكم» و «ما» موصولة بمعنى الَّذِي، والعائد محذوف لاستكمال الشّروط والتقدير: بما لا تَهْوَاه، و «تهوى» مضارع «هَوِي» بكسر العين ولامه من ياء؛ لأن عينه واو، وباب «طويت وشويت» أكثر من باب «قُوَّةٌ وحُوةٌ» ولا دليل في «هَوِي» لانكسار العين، وهو مثل «شَقِي» من الشّقاوة، وقولهم في تثنية مصدر هوي: هَوَيان أدلُّ على ذلك.
ومعنى تهوى: تحبّ وتختار، وأصل الهَوَى: الميل، سمي بذلك؛ لأنه يَهْوي بصاحبه في النار، ولذلك لا يستعمل غالباً إلاّ فيما لا خير فيه، وقد يستعمل فيما هو خير، ففي الحديث الصحيح قول عمر في أسارى «بدر» : فهوي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قال أبو بكر، ولم يَهْو ما قلت «.
وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها: «والله ما أرى رَبَّك إلا يُسَارع في هواك»
. وجمعه «أهواء».
267
قال تعالى: ﴿بِأَهْوَائِهِم﴾ [الأنعام: ١١٩] ولا يجمع على «أَهْوِية»، وإن كان قد جاء «نَدَى» و «أنْدِية» ؛ قال الشاعر: [البسيط]
٦٥٢ - فِي لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أَنْدِيَةٍ لاَ يُبْصِرُ الكَلْبُ مِن ظَلْمَائِهَا الطُّنُبَا
وأما «هَوَى يَهْوِي» بفتحها في الماضي وكسرها في المضارع فمعناه السُّقوط، و «الهَوِيُّ» بفتح الهاء، ذهاب في انْحِدَار.
و «الهُوِيُّ» : ذهاب في صعود وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.
وأسند الفعل إلى «الأنفس» دون المُخَاطب فلم يقل: «بما لا تَهْوُون» تنبيهاً على أنّ النفس يُسْند إليها الفعل السيّىء غالباً نحو: ﴿إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء﴾ [يوسف: ٥٣] ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ﴾ [يوسف: ١٨] و «استكبر» بمعنى: «تكبر».
قوله: «فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ» «الفاء» عاطفة جملة «كذبتم» على «استكبرتم»، و «فريقاً» مفعول مقدم، قدم لتتفق رؤوس الآي، وكذا: «فَرِيقاً تَقْتُلُونَ»، ولا بُدّ من محذوف، أي: فريقاً منهم، والمعنى أنه نشأ عن اسْتِكْبَارهم مُبَادرة فريق من الرسل بالتكذيب، ومبادرةُ آخرين بالقتل. وقدم التكذيب؛ لأنه أول ما يفعلونه من الشَّر؛ ولأنه مشترك بين المقتول وغيره، فإنَّ المقتولين قد كذبوهم أيضاً، وإنما لما يُصَرِّح به؛ لأنه ذكر أقبح منه في الفِعل. وجيء ب «يقتلون» مضارعاً، إما لكونه مستقبلاً؛ لأنهم كانوا يَرُومُونَ قتل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولذلك سحروه، وسَمُّوا له الشاة، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عند موته: «مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي، فَهَذَا أوان انْقِطَاع أَبْهَرِ» ولما فيه من مُنَاسبة رؤوس الآي والفَوَاصل، وإما أن يراد به الحال الماضية؛ لأن الأمر فظيع، فأريد استحضاره في النُّفوس، وتصويره في القلوب.
268
وأجاز الرَّاغب أنْ يكون «ففريقاً كَذّبتم» معطوفاً على قوله: «وآتيناه»، ويكون «أفكلّما» مع ما بعده فصلاً بينهما على سبيل الإنْكَارِ. والأظهر الأول وإن كان ما قاله محتملاً.

فصل في بيان الذي استحق به بنو إسرائيل نهاية الذم


هذا نهاية الذَّم؛ لأن اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما يهوون كذبوه، وإن تهيأ لهم قتله قتلوه، لإرادتهم الرّفعة في الدنيا، وطلب لذاتها، والتَّرؤس على عامتهم، وأخذ أموالهم بغير حَقّ، وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك، فيكذبونهم ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين، ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل، وبعضهم كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم عليه الصلاة والسَّلام، فلما سمعت اليهود ذكر عيسى عليه الصَّلاة السلام قالوا: يا محمد لا مثل عيسى فعلت كما تزعم ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت فائننا بما أتى به عيسى عليه الصلاة والسَّلام إن كنت صادقاً، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ: أفكلّما جَاءَكم يا معشر اليهود رسول بما لا تهوي أنفسكم استكبرتم، وتعظّمتم عن الإيمان به، فطائفة كذبتم مثل عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وطائفة تقتلون أي: قتلتم مثل: زكريا ويحيى وشعيب، وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
269
«قُلُوبُنَا غُلْفٌ» متبدأ وخبر، والجملة في محلّ نصب بالقول قبله، وقرأ الجمهور: «غُلْف» بسكون اللام، وفيها وجهان: أحدهما: وهوالأظهر أن يكن جمع «أَغْلَف» ك «أحمَر وحُمْر» و «أصفر وصُفْر»، والمعنى على هذا: أنها خلقت وجعلت مغشَّاة لا يصل إليها الحَقّ، فلا تفهمه ونظيره: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ﴾ [فصلت: ٥] قال مجاهد وقتادة استعارة من الأَغْلَف الذي لم يَخْتَتِنْ. والثاني: أن يكون جمع «غلاف»، ويكون أصل اللام الضم، فتخفف نحو: «حمار وحمر»، و «كتاب وكتب»، إلاّ أن تخفيف «فُعُل» إنما يكون في المفرد غالباً نحو: «عُنُق» في «عُنْق» وأما «فُعْل» الجمع فقال ابن عطية: «لا يجوز تخفيفه إلاَّ في ضرورة»، وليس كذلكن بل هو قليل، وقرأ ابن عَبَّاس والأعرج ويروى عن أبي عمرو بضمّ اللام، وهو جمع «غلاف»، ولا يجوز أن يكون «فُعُل» في هذه القراءة جمع أَغْلَف؛ لأن تثقيل «
269
فعل» الصحيح العين، لا يجوز إلاَّ في شعر، والمعنى على هذه القراءة: أن قلوبنا أوعية فهي غير محتاجة إلى علم آخر، وهو قول ابن عباس وعَطَاء.
وقال الكلبي: «معناه» أوعية لكلّ علم فهي لا تسمع حديثاً إلا وَعَتْهُ إلاَّ حديثك لا تعلقه ولا تعيه، ولو كان فيه خبر لفهمته ووعته «.
وقيل: غلف كالغلاف الذي لا شيء فيه مما يدلّ على صحة قولك: التغليف كالتعمية في المعنى.

فصل في كلام المعتزلة


قالت المعتزلة: هذه الآية تدلّ على أنه ليس في قلوب الكُفَّار مَا لاً يمكنهم معه الإيمان، لا غلاَف ولا كِنّ ولا سدّ على ما يقوله المجبرة، لأنه لو كان كذلك لكان هؤلاء اليهود صَاديقين في هذا القول، فلا يكذبهم الله في قوله: ﴿بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ﴾ وإنما يذمّ الكاذب المبطل لا الصَّادق المحق، وقالوا: هذا يدل على أن معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ﴾ [الكهف: ٥٧] و ﴿إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً﴾ [يس: ٨] ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً﴾ [يس: ٩] ليس المراد كونهم ممنوعين عن الإيمان، بل المراد: إما منع الألْطَاف، أو تشبيه حالهم في إصْرَارهم على الكُفُرِ بمنزلة المجبور على الكفر.
قالوا: ونظير ذم الله تعالى اليهود على هذه المَقَالَةِ ذمه الكافرين على مثل هذه المَقَالة، وهو قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ [فصلت: ٥] ولو كان الأمر على مايقوله المجبرة لكان هؤلاء القوم صادقين، وإذا كان الأمر كذلك لم يذمّوا.
قال ابن الخطيبك واعلم أنا بَيْنا في تفسير «الغلف»
ثلاثة أوجه، فلا يجب الجزم بواحد منها من غير دليل.
سلمنا أن المراد منه ذلك الوجه لكن لم قلتم: إن الآية تدل على أن ذلك القول مذموم؟
فإن قيل: إنما لعنهم الله بسبب هذه المقالة.
فالجواب من وجوه:
أحدها: لا نسلم، بل لعلّه تعالى حكى عن حالهم، أو عنهم قولاً، ثم بين أن من حالهم أنهم ملعونون بسبب كفرهم.
وثانيها: لعلّ المراد من قوله تعالى: «قُلُوبُنَا غُلْفٌ» أنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار، يعني: ليس قلوبنا في غلاف ولا في غطاء، بل أفهامنا قويّة، وخواطرنا منيرة، ثم إنا تأملنا في دلائلك فلم نجد شيئاً قويًّا فلما ذكروا هذه الوصف
270
الكاذب لا جَرَمَ لعنهم الله على كفرهم الحاصل بهذا القول.
وثالثها: أن قلوبهم لم تكن في أغْطية، بل كانوا عالمين بصحة نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما قال تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: ١٤٦] إلاّ أنهم أنكروا تلك المعرفة وادّعوا أن قلوبهم غُلف، فكان كفرهم عناداً.
قوله: «بَلْ لَعَنَهُمْ اللهُ» «بل» : حرف إضراب، والإضراب راجع إلى ما تضمَّنه قولهم من أن قلوبهم غُلْف، فردّ الله عليهم ذلك بأن سببه لعنهم بكفرهم السّابق، والإضراب على قسمين: إبطال، وانتقال.
فالأول، نحو: «ما قام زيد بل عمرو»، والانتقال كهذه الآية، ولا تعطف «بل» إلا المفردات، وتكون في الإيجاب والنفي والنهي، ويزاد قبلها «لا» تأكيداً.
واللَّعن: الطَّرد والبُعْد، ومنه: شأو لَعِينٌ، أي: بعيد؛ قال الشَّمَّاخ: [الوافر]
٦٥٣ - ذَعَرْتُ بِهِ القَطَا وَنفَيْتُ عَنْهُ مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعينِ
أي: الرجل البعيد، وكان وجه الكلام أن يقول: «مقام الذّئب اللّعين كالرجل» والباء في «بكفرهم» للسبب، وهي متعلّقة ب «لَعَنَهُم».
وقال الفارسي: النية به التقدم أي: وقالوا: قلوبنا غلف بسبب كفرهم، فتكون الباء متعلقة ب «قالوا»، وتكون «بل لعنهم» جحملة معترضة، وفيه بُعْد، ويجوز أن تكون حالاً من المفعول في «لعنهم» أي: لعنهم كافرين، أي: ملتبسين بالكُفْرِ كقوله ﴿وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر﴾ [المائدة: ٦١].
قوله: «فَقَلِيلاً مَا يؤْمِنُونَ» في نصب «قليلاً» ستة أوجه:
أحدها: أنه نَعْت لمصدر محذوف، أي: فإيماناً قليلاً يؤمنون؛ لأنهم كانوا يؤمنون بالله، ويكفرون بالرسل.
الثاني: أنه حال من ضمير ذلك [المصدر] المحذوف، أي: فيؤمنونه أي: الإيمان في حال قلّته، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه، وتقدّم تقريره.
الثالث: أنه صفة لزمان محذوف، أي: فزماناً قليلاً يؤمنون، وهو كقوله: ﴿آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ﴾
[آل عمران: ٧٢].
الرابع: أنه على إسقاط الخافض، والأصل: فبقليل يؤمنون، فلما حذف حرف الجرّ انتصب، ويعزى لأبي عبيدة.
271
الخامس: أن يكون حالاً من فاعل «يؤمنون» أي: فَجَمْعاً قليلاً يؤمنون، أي: المؤمن فيهم قليلٌ، قال معناه ابن عباس وقتادة والأصم وأبو مسلم.
قال ابن الخطيب: «وهو الأولى؛ لأن نظيره قوله: ﴿بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: ١٥٥]، ولأن الجملة الأولى إذا كان المصرح فيها [ذكر] الكقوم فيجب أن يتناول الاستثناء بعض هؤلاء القوم».
وقال المهدوي: ذهب قتادة إلى أن المعنى: فقليل منهم يؤمن، وأنكره النحويون، وقالوا: لو كان كذلك للزم رفع «قليل».
وأجيب: بأنه لا يلزم الرَّفْع مع القول بالمعنى الذي ذهب إليه قَتَادَةٌ لما تقدم من أنَّ نصبه على الحال وافٍ بهذا المعنى. و «ما» على هذه الأقوال كلها مزيدة للتأكيد.
السادس: أن تكون «ما» نافية، أي فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً، ومثله: ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: ١٠] ﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٣]، كما يقال: قليلاً ما يغفل أي: لا يعقل ألبتة.
قال الكِسَائي: «تقول العرب: مررنا بأرض قليلاً ما تنبت»، يريدون: لا تنبت شيئاً، وهذا قول الوَاقِدِيّ. وهو قوي من جهة المعنى، وإنما يضعف من جهة تقديم ما في حَيّزها عليها قاله أبو البقاء [وإليه ذهب ابن الأنباري]، إلا أن تقديم ما في حيّزها عليها لم يُجِزْه البصريون، وأجازه الكوفيون.
قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن تكون» ما «مصدرية؛ لأن» قليلاً «يبقى بلا ناصب»، يعني: أنك إذا جعلتها مصدرية كان ما بعدها صلتها، ويكون المصدر مرفوعاً ب «قليلاً» على أنه فاعل به فأين الناصب له؟ وهذا بخلاف قوله تعالى: ﴿كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات: ١٧] فإن «ما» هاهنا يجوز أن تكون مصدرية؛ لأن «قليلاً» منصوب ب «كان» وقال الزمخشري: «يجوز أن تكون القلّة بمعنى العدم».
وقال أبو حَيَّان: وما ذهب إليه من أن «قليلاً» يراد به النَّفي فصحيح، لكن في غير هذا التركيب، أعني قوله تعالى: «فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ» لأن «قليلاً» انتصب بالفعل المثبت، فصار نظير: «قمت قليلاً» أي: قمت قياماً قليلاً، ولا يَذْهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت، وجعلت «قليلاً» منصوباً نعتاً لمصدر ذلك الفِعْل يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة، أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأساً وعدم وقوعه بالكلية، وإنما الذي نقل النحويون: أنه قد يراد بالقلّة النفي المحض في قولهم: «أقل رجل يقول ذلك وقلّما يقوم زيد»، وإذا تقرر هذا فحمل القلّة على النفي المحض هنا ليس بصحيح «انتهى.
272
وأجيب [بأن ما] قاله الزمخشري من أن معنى التقليل هنا النَّفي قد قال به الوَاقِدِيّ قبله، كما تقدم فإنه قال:» أي: لا قليلاً ولا كثيراً «، كما تقول: قلّما يفعل كذا، أي: ما يفعله أصلاً.
273
اتفقوا على أنّ هذا الكتاب غير ما هو معهم، وما ذاك إلاَّ القرآن.
قوله: «مِنْ عِنْدِ اللهِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه في محلّ رفع صفة ل «كتاب»، فيتعلّق بمحذوف، أي كتاب كائن من عند الله.
والثاني: أن يكون في محلّ نصب لابتداء غاية المجيء قاله أبو البقاء.
وقد رد أبو حيان هذا الوجه فقال لا يقال: إنه يحتمل أن يكون «من عند الله» متعلقاً ب «جَاءَهُمْ»، فلا يكون صفةً، للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما يعني أنه ليس معمولاً للموصوف ولا للصفة، فلا يفتقر الفصل به بينهما.
والجمهور على رفع «مصدق» على أنه صفة ثانية، وعلى هذا يقال: قد وجد صفتان إحداهما صريحة، والأخرى مؤولة، وقد قدّمت المؤولة.
وقد تقدم أن ذلك ممتنع، وإن زعم بعضهم أنه لا يجوز إلا ضَرُورَةً.
والذي حسن تقديم غير الصريحة أن الوصف بيكنونته من عند الله آكد، وأن وصفه بالتصديق ناشىء عن كونه من عند الله.
وقرأ ابن أبي عبلة: «مصدقاً» نصباً، وكذلك هو في مصحف أُبَيّ، ونصبه على الحال، وفي صاحبها قولان:
أحدهما: أنه «كتاب».
فإن قيل: كيف جاءت الحال من النكرة؟
فالجواب: أنها قربت من المعرفة لتخصيصها بالصفة وهو «مِنْ عِنْد اللهِ» كما تقدم.
على أن سيبويه أجاز مجيئها منها بلا شَرْطٍ، وإلى هذا الوجه أشار الزمخشري.
والثاني: أنه الضَّمير الذي تحمله الجار والمجرور لوقوعه صفةً، والعامل فيها إما
273
الظرف، أو ما يتعلق به، ولهذا اعترض بعضهم على سيبويه في قوله: ﴿مجزوء الوافر]
٦٥٤ - لِمَيَّةَ مَوحِشاً طَلَلُ يَلَوحُ كَأَنَّه خِلَلُ
إن «موحشاً» حال من «طَلَل»، وساغ ذلك لتقدمه، فقال: لا حاجة إلى ذلك، إذ يمكن أن يكون حالاً من الضمير المستكنّ في قوله: «لِمَيَّةَ» الواقع خبراً ل «طَلَل»، وجوابه في موضع غير هذا. واللام في «لما معهم» وقعت لتعدية «مصدق» لكونه فرعاً. و «ما» موصولة، والظَّرف صلتها، ومعنى كون مصدقاً، أي: موافقاً لما معهم من التوراة في أمر يتعلّق بتكاليفهم بتصديق محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في النبوة، وما يدلّ عليها من العلامات والنعوت، فإنهم عرفوا أنه ليس بموافق لما مَعَهُمْ في سائر الشَّرائع، وعلمنا أنه لم ترد الموافقة في أدلّة القرآن؛ لأن جميع كتب الله كذلك، فلم تبق إلاَّ الموافقة فيما ذكرناه.
قوله: «وَكَانُوا» يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون معطوفاً على «جاءهم» فيكون جوابا «لما» مرتباً على المجيء والكون.
والثاني: أن يكون حالاً، أي: وقد كانوا، فيكون جواب «لما» مرتباً على المجيء بقيد في مفعوله، وهم كونهم يستفتحون.
قال أبو حيان: وظاهر كلام الزمخشري أن «وكانوا» ليست معطوفة على الفعل بعد «لما، ولا حالاً لأنه قدر جواب» لما «محذوفاً قبل قبل تفسيره يستفتحون، فدلَّ على أن قوله:» وكانوا «جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله:» ولما «. وهذا هو الثالث.
و»
مِنْ قَبْلُ «متعلق ب» يستفتحون «، والأصل: من قبل ذلك، فلما قطع بني على الضم.
و»
يَسْتَفْتِحُونَ «في محل نصب على أنه خبر» كان «.
واختلف النحويون في جواب»
لما «الأولى الثانية.
فذهب الأخفش والزَّجاج إلى أن جواب الأولى محذوف تقديره: ولما جاءهم كتاب كفروا به، وقدّره الزمخشري:»
كذبوا به واستهانوا بمجيئه «. وهو حسن، ونظيره قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال﴾
[الرعد: ٣١] أي: لكان هذا القرآن.
274
وذهب الفَرّاء إلى أن جوابها الفاء الداخلة على» لما «، وهو عنده نظير قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ﴾ [البقرة: ٣٨] قال: لا يجوز أن تكون الفاء ناسقة، إذ لا يصلح موضعها» الواو «.
و»
كَفَرُوا «جواب» لما «الثانية على القولين.
وقال أبو البَقَاءِ: في جواب»
لما «الأولى وجهان:
أحدهما: جوابها»
لما «الثانية وجوابها، وهذا ضعيف؛ لأن» الفاء «مع» لما «الثانية، و» لما «لا تجاب بالفاء إلاَّ أن يعتقد زيادة» الفاء «على مايجيزه الأخفش.
قال شهاب الدين: ولو قيل برأي الأخفش في زيادة»
الفاء «من حيث الجملة، فإنه لا يمكن هاهنا لأن» لما «لا يجاب بمثلها، لا يقال:» لما جاء زيد لما قعد أكرمتك «
على أن يكون»
لما قعد «جواب» لما جاء «والله أعلم.
وذهب المبرد إلى أن»
كفروا «جواب» لما «الأولى، وكررت الثَّانية لطول الكلام، ويفيد ذلك تقرير الذنب وتأكيده كقوله تعالى: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ﴾ [المؤمنون: ٣٥] إلى قوله: ﴿أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٥]، وهو حسن لولا أن» الفاء «تمنع من ذلك.
وقال ابو البقاء بعد أن حكى وجهاً أول: والثاني: أن»
كفروا «جواب الأولى والثانية؛ لأن مقتضاها واحد.
وقيل: الثانية تكرير، فلم تحتج إلى جواب.
فقوله: وقيل: الثانية تكرير، هو قول المبرّد، وهو في الحقيقة ليس مغايرةً للوجه الذي ذكره قبله من كون»
كفروا «جواباً لهما بل هو هو.

فصل في الاستفتاح


اختلفوا في هذا الاستفتاح، فقال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه وقتادة والسّدي: نزلت في بني «قريظة»
و «النضير» كانوا يستفتحون على «الأوس» و «الخزرج» برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل المبعث.
وقال أبو مسلم: كانوا يقولون لمخالفيهم: غداً القتال هذا نبي قد أظلّ زمان مولده، ويصفونه بأنه نبي، ومن صفته كذا، ويتفحّصون عنه على الذين كفروا، أي: على مشركي العرب.
وقيل: إن اليهود وقبل مبعث النبي محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا يستفتحون أي: يسألون الفَتْح
275
والنصر، وكانوا يقولون: اللهم افتح علينا، وانصرنا بالنبي الأمّيّ [المبعوث] في آخر الزمان الذي نجد صِفَتَهُ في التوراة، وكانوا يستنصرون، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظلّ زماننا نبيٌّ يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قَتْلَ عَادٍ وإرَم، فلما جاءهم ما عرفوا يعني محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من غير بني إسرائيل، وعرفوا نَعْتَهُ وصدقه كفروا به بَغْياً.
[وقيل:] نزلت في أَحْبَار اليهود كانوا إذا قرأوا وذكروا محمداً في التوراة، وأنه مبعوث من العرب سألوا مشركي العرب عن تلك الصِّفات ليعلموا أنه هل ولد فيهم من يوافق حاله حال هذا المبعوث وهذه الآية دلّت على أنهم كانوا عارفين بنبوته.
فإن قيل: التوراة نقلت نقلاً متواتراً، فإما أن يقال: إنه حصل فيها نعت محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على سبيل التَّفصيل أعني بيان أن الشَّخص الموصوف بالصُّورة الفلانية، والسيرة الفلانية سيظهر في السَّنة الفلانية في المكان الفُلاني، أو لم يوجد هذا الوصف على هذا الوجه، فإن كان الأول كان القوم مضطرين إلى معرفة شَهَادَةِ التوراة على صدق محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فكيف يجوز على أهل التواتر إطباقهم على الكذب؟ وإن لم يكن الوصف على هذه الصفة لم يلزم من الأوصاف المذكورة في التوراة [كون محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً فكيف قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ والجواب: أن الوصف المذكور في التوراة] كان وصفاً إجمالياً، وأن محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يعرفوا نبوته بمجرد تلك الأوصاف، بل كانت كالمؤكدة، فلهذا ذمهم الله تعالى على الإنكار.
قال ابن الخطيب: وأما كُفْرهم فيحتمل أنهم كانوا يظنّون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة من جاء من الأنبياء من بني إسرائيل، وكانوا يرغبون النَّاس في دينه، ويدعونهم إليه، فلما بعث الله محمداً من العرب من نسل إسماعيل عَظُمَ ذلك عليهم، فأظهروا التكذيبن وخالفوا طريقهم الأول. وهذا فيه نظر؛ لأنهم كانوا عالمين أنه من العرب.
ويحتمل أنهم لأجل اعترافهم بنوّته كان يوجب عليهم زوال رِيَاسَتِهِمْ وأموالهم، فَأَبَوْا وأصرُّوا على الإنكار.
ويحتمل أنهم ظنوا أنه مبعوث إلى العرب خاصّة، فلا جرم كفروا به.
قوله: ﴿فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين﴾ جحملة من مبتدأ أو خبر متسببة عمّا تقدم، والمصدر هنا مضاف للفاعل، وأتى ب «على» تنبيهاً على أن اللَّعْنة قد استعلت عليهم
276
وشملتهم. وقال: «على الكافرين» ولم يقل: «عليهم» إقامة للظَّاهر مقام المضمر، لينبّه على السبب المقتضي لذلك وهو الكفر.
277
«بِئْس» فعل ماض غير متصرِّف، معناه الذَّمُّ، فلا يعمل إلاَّ في معرَّف ب «أل» أو فيما أضيف إلى ما هُمَا فيه، أو في مضمر مفسَّر بنكرة، أو في «مَا» على قول سيبويه.
وفيه لغات: بَئِسَ بكسر العين وتخفيف هذا الأصل، وبِئِسَ بكسر الفاء إتباعاً للعين، وتخفيف هذا الإتباع، وهو أشهر الاستعمالات ومثلها «نِعْمَ» في جميع ما تقدم من الأحكام واللغات.
قال ابن الخطيب: ما كان ثانية حرفَ حَلْق وهو مكسورٌ يجوز فيه أربع لغات:
الأول: على الأصل أعني: بفتح الأول وكسر الثاني.
والثاني: إتباع الاول للثاني، وهو أن يكون بكسر النون والعين، كما يقال: «فِخِذٌ» بكسر الفاء والخاء، وهم وإن كانوا يفرُّون من الجمع بين الكَسْرتين إلاَّ أنهم جَوّزوه ها هنا؛ لكون الحرف الحَلْقيٍّ مستتبعاً لما يجاوره.
الثالث: إسكان الحرف الحَلْقيِّ المكسور، وترك ما قبله ما كان، فيقال: نَعْمَ وَبَأْسَ بفتح الأول وإسكان الثاني؛ كما يقال: «فَخْذٌ».
الرابع: أن يسكن الحرف الحَلْقِيُّ، وتنقل كسرته إلى ما قبله فيقال: «نِعْم» بكسر النون وإسكان العين؛ كما يقال: «فِخْذٌ» بكسر الفاء وإسكان الخاء.
واعلم أن هذا التغيير الأخير، وإن كان في حّدِّ الجواز عند إطلاق هاتين الكلمتين، إلاّ أنهم جعلوه لازماً لهما؛ لخروجهما عمًّا وضعت له الأفعالُ الماضية من الإخبار عن وجود المصدر في الزمان والماضي، وصيرورتهما كلمتي مَدْحِ وذَمٍّ، ويراد بهما المُبَالغة في المدح والذم؛ ليدلّ هذا التَّغيير اللازم في اللَّفظ على التغيير عن الأصل، وفي المعنى؛ فيقولون: «نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ» ولا يذكرونه على الأصل إلا في ضرورة الشِّعْر؛ كما أنشد المبرِّد: [الرمل]
277
وهما فعلان من نَعِمَ يَنْعَمُ وَبئِسَ يَبْأَسُ.
والدليل عليه دخول التاء التي هي علامة التأنيث فيهما، فيقال: نعمتْ وبئستْ.
وزعم الكوفيون أنهما اسمان؛ مستدلين بدخول حرف الجر عليهما في قول حسان: [الطويل]
٦٥٥ - فَفِدَاءَ لِبَنِي قَيْسٍ عَلَى مَا أَصَابَ النَّاسَ مِنْ شَرَّ وَضُرْ
مَا أَقَلَّتْ قَدَمَايَ إِنَّهُمْ نَعِمَ السَّاعُونَ في الأَمْرِ المُبِرْ
٦٥٦ - أَلَسْتُ بِنِعْمَ الجَارُ يُؤْلِفُ بَيْتَهُ مِنَ النَّاسِ ذّا مَالٍ كَثِيرٍ وَمُعْدِمَا
وبما روي أن أعرابيًّا بشر بمولوده فقيل له: نعم المولودة مولودتك! فقال: «والله ما هي نيعم المولودة: نُصْرتها بكاء، وبرّها سرقة» و «نِعْمَ السَّيْر على بِئْسَ العِيرِ». وقوله: [الرجز]
٦٥٧ - صَبَّحَكَ اللهُ بِخَيْرٍ بَاكِرِ بِنِعْمَ طَيْرٍ وَشَبَابٍ فَاخِرِ
وخرجه البصريون على حذف موصوف، قامت صفته مقامه، تقديره: والله ما هي بمولدة مَقُول فيها: نعم المولودة.

فصل في نعم وبئس


اعلم أنَّ «نعم وبئس» أصلان للصّلاح والرَّدَاءة، ويكون فالعها اسماً يستغرق الجنس إما مظهراً وإما مضمراً، فالمظهر على وجهين:
الأول: كقولك: «نعم الرجل زيد» لا تريد رجلاً دون رجل، وإنما تقدص الرَّدل على الإطلاق.
والثاني: نحو قولك: «نعم غلام الرَّجل زيد».
وأما قوله: [البسيط]
٦٥٨ - فَنِعْمَ صَاحِبُ قَوْمٍ لاَ سِلاَحَ لَهُمْ وَصَاحِبُ الرَّكْبِ عُثْمَانُ بْنُ عَفانا
فنادر.
وقيل: كان ذلك لأجل أن قوله: «وَصَاحِبُ الرَّكْبِ» قد دل على المقصود؛ إذ المراد واحد، فإذا أتى بالمركّب بالألف واللام، فكأنه قد أتى به في القوم، وأما المضمر فكقولك: «نعم رجلاً زيد» الأصل: نعم الرجل رَجُلاً زيد الأصل ثم ترك ذكر الأول؛ لأن النكرة المنصوبة تدل عليه.
278
ف «رجلاً نصب على التمييز، مثله في قولكك عشرون رَجُلاً والمميّز لا يكون إلا نكرة، ألا ترى أن أحداً لا يقول:» عشرون الدّرهم «ولو أدخلوا الألف واللام على هذا فقالوا:» نعم الرجلُ «بالنصب لكان نقضاً لِلْغَرَضِ، وإذ لو كانوا يريدون الإتيان بالألف واللام لرفعوا، وقالوا::» نعم الرجلُ «وكَفَوْا أنفسهم مؤنة الإضمار، وإنما أضمروا الفاعل قصداً للاختصار، إذ كان» نعم رجلاً «يدل على الجنس الذي فضل عليه.

فصل في إعراب المخصوص بالمدح في أسلوب» نِعْمَ «


إذا قلت:»
نعم الرجل زيد «فهو على [وجهين] :
أحدهما: أن يكون متبدأ مؤخراً، كأنه قيل:»
زيد نعم الرجل «أخرت» زيداً «والنية به التقديم كما تقول: مررت به المسكين تريدك المسكين ممرت به، فأما الراجع إلى المبتدأ، فإن الرجل لما كان شائعاً ينتظر فيه الجِنْس كان» زيد «داخلاً تحته، فصار بمنزلة الذكر الذي يعود إليه.
والوجه الآخر: أن يكون»
زيد «في قولك:» نعم الرجل زيد «خبرا مبتدأ محذوف، كأنه لما قبلك نعم الرجل قيل: من هذا الذي أثنى عليه؟ فقيل: زيد، أي: هو زيد.

فصل في شرط نعم وبئس


ولا بد بعد هذين الفعلين من خصوصين من المَدْح أو الذم، وقد يحذف لقرينة وأما»
ما «الواقعة بعد» بئس «كهذه الآية، فاختلف فيها النحاة، هل لها محلّ من الإعراب أم لا؟
فذهب الفراء: إلى أنها مع»
بئس «شيء واحد ركّب تركيب» حَبَّذا «، نقله ابن عطية عنه نقل عنه المَهْدوي أنه يجوز أن تكون» ما «مع» بئس «بمنزلة» كلما «، فظاهر هذين النقلين أنها لا محل لها.
وذهب الجمهور أن لها محلاًّ، ثم اختلفوا في محلّها هل هو رفع أو نصب؟.
فذهب الأخفش إلى أنها في محلّ نصب على التمييز، والجملة بعدها في محل نصب صفة لها، وفاعل»
بئس «مضمر تفسره» ما «، والمخصوص بالذم هو قوله:» أَنُ يَكْفُرُوا «لأنه في تأويل مصدر، والتقدير: بئس هو شيئاً اشتروا به أنفسهم كُفْرهم، وبه قال الفارسي [في أحد قوليه]، واختاره الزَّمخشري، ويجوز على هذا أن يكون المخصوص بالذَّم محذوفاً و» اشتروا «صفة له في محلّ رفع تقديره: بئس شيئاً شيء أو كفر اشتروا به، كقوله: [الطويل]
279
٦٥٩ - لَنِعْمَ الْفَتَى أَضْحَى بَأكْنَافِ حَائِلٍ......................
أي: فَتًى أَضْحَى.
و «أَنْ يَكْفُرُوا» بدل من ذلك المحذوف أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أن يكفروا. وذهب الكسائي إلى أ، «ما» منصوبة المحلً أيضاً، [لكنه] قدر بعدها «ما» موصولة أخرى بمعنى «الذي»، وجعل الجملة من قوله: «اشْتَرَوا» صلتها، و «ما» هذه الموصولة هي المخصوص بالذم، والتقدير: بئس شيئاً الذي اشتروا به أنفسهم، فلا محلّ ل «اشتروا» على هذا، أو يكون «أن يكفروا» على هذا القول خبراً لمبتدأ محذوف كما تقدم.
فتلخّص في الجملة الواقعة بعد «ما» على القول بنصبها ثلاثة أقوال:
الأول: أنها صفة لها، فتكون في محلّ نصب، أو صلة ل «ما» المحذوفة، فلا محلّ لها، أو صفة للمخصوص بالذم فتكون في محل رفع.
وذهب سيبويه: إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل «بئس»، فقال سيبويه: هي معرفة تامّة، التقدير: بئس الشيء، والمخصوص بالذم على هذا محذوف، أي: شيء اشتروا به أنفسهم وعزي هذا القول أيضاً للكسائي.
وذهب الفراء والكسائي أيضاً إلى أن «ما» موصولة بمعنى «الذي»، والجملة اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، ف «أن يكفروا» هو المخصوص بالذم.
قال أبو حَيَّان: وما نقله ابن عطية عن سيبويه هم عليه ونقل المَهْدوي وابن عطيّة عن الكسائي أيضاً أن «ما» يجوز أن تكون مصدرية، والتقدير: بئس اشتراؤهم، فتكون «ما» وما في حيّزها في محل رفع.
قال ابن عطيية: وهذا معترض؛ لأن «بئس» لا تدخل على اسم معيّن يتعرف بالإضافة إلى الضمير.
قال أبو حَيَّان: وهذا لا يلزم، إلاَّ إذا نصّ أنه مرفوع «بئس» ؛ أما إذا جعله المخصوص بالذم، وجعل فاعل «بئس» مضمراً، والتمييز محذوفاً لفهم المعنى، والتقدير: بئس اشتراء اشتراؤهم، فلا يلزم الاعتراض.
قال شهاب الدين: وبهذا أعني: بجعل فاعل «بئس» مضمراً فيها جوز أبو البقاء
280
في «ما» أن تكون مصدرية، فإنه قال والرابع: أن تكون مصدرية، أي بئس شراؤهم، وفاعل «بئس» على هذا مضمر؛ لأن المصدر هنا مخصوص ليس بجنس يعني فلا يكون فاعلاً، لكن يبطل هذا القول عود الضمير في «به» على «ما» والمصدرية لا يعود عليها؛ لأنه حذف عند الجمهور.

فصل في المراد بالشراء في الآية


في الشراء هنا قولان:
أحدهما: أنه بمعنى البيع، بيانه أنه تعالى لما مكن المكلّف من الإيمان الذي يفضي به إلى الجنة، والكفر الذي يؤدّي به إلى النَّار صار اختياره لأحدهما على الآخر بمنزلة اختيار مالك السِّلعة ثمنها على سلعته، فإذا اختار الإيمان مِلْك بملك صلح أن يوصف كلّ واحد منهما بأنه بائع ومشترٍ لوقوع هذا المعنى من كل واحد منهما.
الوجه الثاني: أن المكلّف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله تعالى يأتي بأعمال ينظن أنها تخلصه من العقاب، فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال، فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخصلهم من العقاب، ويوصّلهم إلى الثواب، فقد ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم به، فذمّهم الله تعالى وقال: ﴿بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾.
قوله: «أو يكفروا» قد تقدم فيه أنه يجوز أن يكون هو المخصوص بالذم، ففيه الأوجه الثلاثة إما متبدأ أو خبره الجملة قبله، ولا حاجة إلى الرابط؛ لأن العموم قائم مقامه، إذ الألف واللام في فاعل «نعم وبئس» للجنس، أو لأن الجملة نفس المبتدأ، وإما خبر لمبتدأ محذوف وإما مبتدأ أو خبره محذوف، وتقدم أنه يجوز أن يكون بدلاً أو خبراً لمبتدأ حسبما تقرّر وتحرر.
وأجاز الفراء أن يكون في محلّ جر بدلاً من الضمير في «به» إذا جعلت «ما» تامة.
قوله: «بَمَا أَنْزَلَ اللهُ» متعلّق ب «كفروا»، وتقدّم أن «كفر» يتعدّى بنفسه تارة، وبحرف الجر أخرى، و «ما» موصولة بمعنى «الذي»، والعائد محذوف تقديره: أنزله، ويضعف جعلها نكرة موصوفة، وكذلك جعلها مصدريّة، والمصدر قائم مقام المفعول، أي: بإنزاله يعني: بالمنزل.
قوله: «بَغْياً» فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه مفعول من أجله وهومستوفٍ لشروط النصب، وفي الناصب له قولان:
أحدهما وهو الظاهر أنه يكفروا، أي علة كفرهم البَغْي، وهذا تنبيه على أن كفرهم [بَغْي وحَسَد]، ولولا هذا القول لجوزنا أن يكون كفرهم جهلاً، والمراد بذلك:
281
كفرهم بالقرآن، لأن الخطاب لليهود، وكانوا مؤمنين بغيره فبيّن تعالى غرضهم من هذا البَغْي بقوله: ﴿أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [البقرة: ٩٠] وهذا لا يليق إلا باليهود؛ لأنهم ظنوا أن ذلك الفضل العظيم بالنبوّة المنتظرة تحصل في قومهم، فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على الحَسَد والبَغْي.
والقول الثاني: أن الناصب لقوله «بَغْياً» «اشْتَروا»، وإليه ينحو كلام الزمشخري، فإنه قال: «وهو علّة» اشتروا.
الوجه الثاني: أنه منصوب على المصدر بفعل مَحْذوف يدل عليه ما تقدم، أي: بَغَوا بغياً.
والثالث: أنه في موضع حالٍ، وفي صاحبها القَوْلاَن المتقدّمان: إما فاعل «اشتروا»، وإما فاعل «يكفروا»، تقديره: اشتروا باغين، أو يكفروا باغين.
والبَغْي: أصله الفَسَاد، من قولهم: بغي الجرح أي: فسد، قاله الأَصْمعي.
وقيل: هو شدة الطلب، ومنه قوله تعالى: ﴿مَا نَبْغِي﴾ [يوسف: ٦٥] ومنه البّغِيّ للزانية، لشدة طلبها له وقال القُرْطبي: البغي معناه: الحَسَد، قاله قتادة والسُّدي، وهو مفعول من أجله، وهو في الحقيقة مصدر.
[وقال الراجز: [السريع او الرجز]
٦٦٠ - أنْشُدُوا الْبَاغِي يُحِبُّ الْوِجْدَانْ قَلاًئِصاً مُخْتَلِفَاتِ الأَلوَانْ]
قوله: «أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول من أجله، والناصب له «بغياً» أي: علّة البغي إنزال الله فَضْله على محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
والثاني: أنه على إسقاط الخافض، والتقدير: بغياً على أن ينزل، اي: حسداً على أن ينزل، فجيء فيه الخلاف المَشْهُور، أهو في موضع نصب أو جر؟
والثالث: أنه في م حل جر بدلاً من «ما» في قوله تعالى: «بِمَا أَنْزَلَ اللهُ» [بدل اشتمال أي بإنزال الله] فيكون كقول امرىء القيس: [الطويل]
٦٦١ - أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ فَتَصُرُ عَنْهَا خُطْوَةً أَوْ تُبُوصُ
وقرأ أبو عمرو وابن كثير جميع المضارع مُخَففاً من «أنزل» إلا ما وقع الإجماع
282
على تشديده في «الحجر» ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ﴾ [الحجر: ٢١] وقد خالفا هذا الأصل.
أما أبو عمرو فإنه شدد ﴿على أَن يُنَزِّلٍ آيَةً﴾ [الأنعام: ٣٧] في «الأنعام».
وأما أبن كثير فإنه شدّد في الإسراء ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن﴾ [الإسراء: ٨٢] ﴿حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً﴾ [الإسراء: ٩٣]
والباققون بالتشديد في جميع المضارع إلاّ حمزة والكسائي، فإنهما خالفا هذا الأصل مخففاً ﴿وَيُنَزِّلُ الغيث﴾ آخر لقمان [لقمان: ٣٤] ﴿وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث﴾ في الشورى [الآية: ٢٨].
والهمزة والتضعيف للتعدية، وقد تقدم: هل بينهما فَرْق؟ وتحقيق كلّ من القولين، وقد ذكر القراء مناسبات الإجماع على الشديد في تلك المواضع، ومخالفة كلّ واحد أصله؟ لماذا بما يطول ذكره والأظهر من ذلك كله أنه جمع بين اللغات.
قوله: «مِنْ فَضْلِهِ» من لابتداء الغاية، وفيه قولان:
أحدهما: أنه صفة لموصوف محذوف هو مفعول «ينزل» أي: ينزل الله شيئاً كائناً من فَضْله، فيكون في محلّ نصب.
والثاني: أن «من» زائدة، وهو رأي الأخفش، وحينئذ فلا تعلق له، والمجرور بها هو المفعول أي: أن ينزل الله فضله.
قوله: «عَلَى مَنْ يَشَاءُ» متعلّق ب «ينزل» و «من» يجوز أن تكون موصولةً، أو نكرة موصوفة، والعائد على الموصول أو الموصوف محذوف لاستكمال الشُّروط المجوزة للحذف، والتقدير: على الذي يَشَاؤه، أو على رجل يَشَاؤه.
وقدره أبو البقاء مجروراً فإنه قال بعد تجوزه في «من» أن تكون موصوفة أو موصولة «ومفعول يشاء محذوف، أي: يشاء نزوله عليه، ويجوز أن يكونك يشاء يختار ويَصْطفي» انتهى.
وقد عرفت أن العائد المجرور لا يحذف إلاَّ بشروط، وليست موجودة هنان فلا حاجة إلى هذا التقدير.
قوله: «مِنْ عِبَادِهِ» فيه قولان.
أحدهما: أنه حال من الضَّمير المحذوف الذي هو عائد على الموصوف أو الموصول، والإضافة تقتضي التشريف.
والثاني: أن يكون صفةً ل «من» بعد صفة على القول بكونها نكرة، قاله أبو البقاء وهو ضعيف؛ لأن البداية بالجار والمجرور على الجملة في باب النعت عند اجتماعهما أولى لكونه أقرب إلى المفرد فهو في محلّ نصب على الأول وجرّ على الثاني، وفي كلا القولين متعلّق بمحذوف وجوباً لما تقرر.
283
قوله: «فَبَاءُوا بِغَضَبٍ» الباء للحال، أي: رجعوا ملتبسين بغضب، أي مغضوباً عليهم، وقد تقدم ذلك.
قوله: «عَلَى غَضَبٍ» في محلّ جر؛ لأنه صفة لقوله: «بِغَضَبٍ» أي: كائن على غضب أي بغضب مترادف.

فصل في تفسير الغضب


في تفسير الغَضَبِ وجوه:
أحدها: لا بد من إثبات سببين للغضبين:
أحدهما: تكذيبهم عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وما أنزل عليه، والآخر تكذيبهم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قاله الحسن والشَّعبي وعكرمة وأبو العالية وقتادة.
وقال ابن عباس ومجاهد: الغضب الأول تضييعهم التَّوراة وتبديلهم.
والثاني: كفرهم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال عطاء، وأبو عبيد: ليس المراد إثبات الغضبين فقط، بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور مترادفة صدرت عنهم نحو قولهم: ﴿عُزَيْرٌ ابن الله﴾ [التوبة: ٣٠] ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] ﴿إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ﴾ [آل عمران: ١٨١] وغير ذلك من أنواع كفرهم.
وقال أبو مسلم: المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل الكفر، وإن كان واحداً إلا أنه عظيم.
وقال السدي: الغَضَبُ الأول بعبادتهم العِجْل والثاني بكتمانهم صفة محمد وجَحْدهم نبوّته.
قولهك «مهين» صفة ل «عذاب». واصله: «مُهْوِن» ؛ لأنه من الهوان، وهو اسم فاعل من أهان يُهِين إهانة مثل: أقام يقيم إقامة، فنقلت كسرة «الواو» على الساكن قبلها، فسكنت «الواو» بعد كسرة، فقلبت ياء.
والإهانةك الإِذْلالَ والخِزْي. وقال «وَلِلْكَافِرِيْنَ» ولم يقل: «ولهم» تنبيهاً على العلّة المقتضية للعذاب المُهين، فيدخل فيها أولئك الكفّار وغيرهم.
284
«وإذ قيل لهم» : يعني اليهود.
«آمنوا بما أنزل الله» : أي بكل ما أنزل الله، والقائلون بالعموم احتجّوا بهذه الآية على أن لفظه «ما» بمعنى «الذي» تفيد العموم، قالوا: لأن الله تعالى أمرهم أن يؤمنوا بما أنزل الله، فلما آمنوا بالبعض دون البعض ذمهم على ذلك، ولولا أنَّ لفظة «ما» تفيد العموم لما حسن هذا الذم، ثم إنه تعالى أمره بذلك ﴿قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ يعني: التوراة وكتب سائر الأنبياء الذي أتوا بتقدير شَرْع موسى عليه السلام ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم يكفرون بما وراءه، هو الإنجيل والقرآن، وأورد هذه الحكاية عنهم على سبيل الذَّملهم، وذلك أنه لا يجوز أن يقال لهم: آمنوا بما أنزل الله إلاَّ ولهم طريق إلى أن يعرفوا كونه منزلاً من عند الله، وإلاَّ كان ذلك تكليف ما لا يُطَاق، وإذ أول الدليل على كونه منزلاً من عند الله وجب الإيمان به، فإيمانهم بالبَعْضِ دون البَعْضِ تناقض، ويجاب بوجيهن:
أحدهما: أن العموم إنما استفيد من عموم العلّة، وهو كونه من عند الله؛ لأن كلّ ما أنزله الله يجب الإيمان بكونه منزلاً من عند الله لا لكون «ما» يقتضي العموم.
الثاني: أنا لا نمنع أن «ما» استعمل للعموم؛ لأن ذلك مجال لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في كونها هل هي موضوعة للعموم أو لا؟
فالقائل بأنها ليست موضوعةً للعموم أنها إنما استعملت للعموم مجازاً هاهنا.
فإن قيل: الأصل في الاستعمال الحقيقة.
فالجواب: أنها لو كانت للعموم حقيقةً لما جاز إدخال لفظة «كل» عليها.
فإن قيل: إنما دخلت «كلّ» للتوكيد.
فالجواب: أن أصل المؤكّد يأتي بعد ما يؤكده لا قبله.
قوله: «وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ» يجوز في هذه الجملة وَجْهَان:
أحدهما: أن تكون: استئنافية استؤنفت] للإخبار بأنهم يكفرون بما عدا التَّوْراة، فلا محل لها من الإعراب.
والثاني: أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف، أي: وهم يكفرون، والجملة في محلّ نصب على الحال، والعامل فيها «قالوا»، أي قالوا: نؤمن حال كونهم كافرين بكذا، ولا يجوز أن يكون العامل فيها «نؤمن».
285
قال أبو البقاء: إذا لو كان كذلك لكان لفظ الحال نكفر، أي ونحن نكفر. يعني: فكان يجب المُطَابقة.
ولا بد من إضمار هذا المبتدأ لما تقدم من أن المضارع المثبت لا يقترن بالواو، وهو نظير قوله: [المتقارب]
٦٦٢ -................... نَجَوْتُ وَأَرْهَنُنُمْ مَالِكَا
وحُذِفَ الفاعل من قوله تعالى: «بِمَا أُنْزِلَ» وأقيم المفعولُ مقامه للعلم به، إذ لا يُنَزِّل الكتب السماوية إلا الله، أو لتقدم ذكره في قوله: «بِمَا أَنْزَل الله».
قوله: «بِمَا وَرَاءَهُ» متعلّق ب «يكفرون» و «ما» موصولة، والظروف صلتها، فمتعلّقةُ فعل ليس إلا و «الهاء» في «وراءه» تعود على «ما» في قوله: «نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِل».
و «وَرَاء» من الظروف المتوسّطة التصرف، وهو ظرف مكان، والمشهور أنه بمعنى «خلف» وقد يكون بمعنى «أمام» قال تعالى: ﴿وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾ [الكهف: ٧٩].
وقال: ﴿وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾ [الإنسان: ٢٧] فهو من الأضداد، وفسره الفراء هُنَا بمعنى «سوى» التي بمعنى «غير».
وفسره أبو عبيدة وقتادة بمعنى «بعد».
وفي همزة قولان:
أحدهما: أنه أصل بنفسه [وإليه ذهب ابن جني مستدلاً] بثبوتها في التصغير في قولهم: «وريئة».
الثاني: أنها مبدلة من ياء، لقولهم: تواريت.
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكومن الهمز بدلاً من واو؛ لأن ما فاؤه واو، لا تكون لامه واواً إلاّ ندوراً نحو: «واو» اسم حرف هجاء، وحكم «وَرَاء» حكم «قَبْلُ» و «بَعْدُ» في كونه إذا أضيف أعرب، وإذا قطع بني على الضم.
وأنشد الأخفش على ذلك قول الشاعر: [الطويل]
286
وفي الحديث عن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «كُنْتُ خَلِيْلاً مِنْ وَرَاءُ وَرَاءُ».
وثبوت الهاء في تصغيرها شاذّ؛ لأن ما زاد من المؤنث على ثلاثة لا تثبت الهاء في مصغره إلا في لفظتين شذتا وهما: «ورئية» و «قديديمة» : تصغير «وراء» و «قدام».
وقال ابن عصفور: لأنهما لم يتصرفا فلو لم يُؤنَّثَا في التصغير لتُوُهِّمَ تذكيرهما.
والوراء: ولد الولد أيضاً.
قوله: «وَهُوَ الْحَقُّ» مبتدأ أو خبر، والجملة في محلّ نصب على الحالن والعامل فيها قوله «يكفرون» [وصاحبها فاعل يكفرون] وأجاز أبو البقاء أن يكون العامل الاستقرار الذي في قوله: «بما وراءه» أي بالذي استقرّ وراءه، وهو الحق.
وهذا إشارة إلى وجوب الإيمان بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه لما ثبت نبوّته بالمعجزات التي ظهرت عليه، ثم إنه عليه الصَّلاة والسَّلام أخر أن هذا القرآن منزّل من عند الله، وأن فيه أمر المكلفين به، فكان الإيمان به محقّق لا مَحَالة.
قوله: «مُصَدِّقاً» حال مؤكدة، لأن قوله: «وَهُوَ الْحَقُّ» قد تضمّن معناها، والحال المؤكدة: إما أن تؤكد عاملها، نحو:
﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: ٦٠] وإما أن تؤكد مضمون جملة، فإن كان الثاني التزم بإضمار عاملها، وتأخيرها عن الجملة، ومثله أنشد سيبويه: [البسيط]
٦٦٣ - إِذَا أَنَا لَمْ أُومَنْ عَلَيْكَ وَلَمْ يَكْنُ لِقَاؤُكَ إِلاَّ مِنْ وَرَاءُ وَرَاءُ
٦٦٤ - أَنا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفاً بِهَا نَسَبِي وَهَلْ بِدَارَةَ يَا لَلنَّاسِ مِنّ عَارِ
والتقدير: وهو الحق أحُقّه مصدقاً وابنَ دَارَةَ أعْرَف معروفاً، هذا تقرير كلام النحويين، وأما أبو البقاء، فإنه قال: مصدقاً حال مؤكِّدة، والعامل فيها ما في «الحق» من معنى الفعل، إذ المعنى: وهو ثابت مصدقاً، وصاحب الحال الضمير المستتر في «الحَقّ» عند قوم، وعند آخرين صاحب الحال ضمير دلّ عليه الكلام، و «الحق» : مصدر لا يتحّمل الضمير على حسب تحمّل اسم الفاعل له عندهمم.
فقوله: «وعند آخرين» هو القول الذي قدّمناه وهو الصواب، و «ما» في قوله: «لِمَا
287
مَعَهُمْ» في موضع خفض باللام، و «معهم» صلتها، و «معهم» نصب بالاستقرار.

فصل في بيان ما تشير إليه الآية


وهذا أيضاً إشارة إلى وجوب الإيمان بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من وَجْهَيْنِ:
الأول: أن محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يتعلم [علماً]، ولا استفاد من أُسْتاذ، فلما أخبر بالحكايات والقصص موافقاً لما في التوراة من غير تفاوت أصلاً علمنا أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إنما استفادها من الوَحْي والتنزيل.
والثاني: أن القرآن يدلّ على نبوته عليه الصَّلاة والسَّلام فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق للتوراة، وجب اشتمال التَّوْراة على الإخبار عن نبوته، وإلاَّ لم يكن القرآن مصدقاً للتوراة، بل مكذباً لها، وإذا كانت التوراة مشتملةً على نبوته عليه الصَّلاة والسَّلام، وهم قد اعترفوا بموجوب الإيمان بالتوراة لزمهم من هذه الجهة وجوب الإيمان بالقرآن.
قوله: «فلم تقتلون» الفاء جواب شرط مقدر وتقديره: إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم قتلتم الأنبياء؟ وهذا تكذيب لهم؛ [لأن الإيمان بالتوراة مناف لتقل أشرف خلقه وذلك] لأن التوراة دلّت على أن المعجزات تدلّ على الصدق، وتدل على أنّ من كان صادقاً في ادعاء النبوة كان قتله كفراً، وإذا كان الأمر كذلك كان السعي في قَتْل يحيى وزكريا وعيسى عليهم السلام كفراً فلم سعيتم في ذلك إن صدقتم في ادّعائكم كونكم مؤمنين بالتوراة؟
و «لم» جار ومجرور، واللام حرف، و «ما» استفهامية في محلّ جرن أي: لأي شيء؟ ولكن حذف ألفها فرقاً بينها وبين «ما» الخبرية.
وقد تحمل الاستفهامية على الخبرية فتثبت ألفها؛ قال الشاعر: [الوافر]
٦٦٥ - عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ
وهذا ينبغي أن يُخَصّ بالضرورة، كما نص عليه بعضهم، والزمخشري يجيز ذلك، ويخرج عليه بعض أي القرآن، كما قد تحمل الخبرية على الاستفهامية في الحَذْف في قولهم: اصنع بم شئت وهذا لمجرد التشبيه اللفظي.
وإذا وُقِفَ على «ما» الاستفهامية المجرورة، فإن كانت مجرورة باسم وَجَبَ لَحاقُ
288
هاء السَّكْت نحو مجيء «مه»، وإن كانت مجرورة بحرف فالاختيار اللحاق، والفرق أن الحرف يمتزج بما يدخل عليه فتقوى به الاستفهامية، بخلاف الاسم المضاف إليها، فإنه في نيّة الانفصال، وهذا الوَقْف إنما يجوز ابتداء، أو بقطع نفس، ولا جَرَمَ أن بعضهم منع الوَقْف على هذا النحو قال: «إنه إن وقف بغير هاء كان خطأ؛ لنقصان الحرف، وإن وقف بها خالف السَّواد».
لكن البزي قد وقف بالهاء، ومثل ذلك لا يُعد مخالفة للسَّواد، ألا ترى إلى إثباتهم بعضَ ياءات الزوائد.
والجار متعلق بقوله: «تقتلون»، ولكنه قُدِّم عليه وجوباً، لأن مجروره له صدر الكلام، والفاء وما بعدها من «تقتلون» في محلّ جزم، وتقتلون وإن كان بصيغة المضارع، فهو في معنى الماضي [لفهم المعنى]، وأيضاً فمعه قوله «مِنْ قَبْل» [وأيضاً فإن الأنبياء عليهم السلام إنما كانوا في ذلك الزمان، وأيضاً فالحاضرون لم يفعلوا ذلك ولا يتأتى لهم قتل الماضيين]، وجاز إسناد القتل إليهم وإن لم يَتَعَاطَوه؛ لأنهم لما كانوا راضين بفعل أَسْلاَفهم جعلوا كأنهم فعلوا هم أنفسهم.
فإن قيل: كيف جاز قوله: «فَلِمَ تَقْتُلُونَ» من قبل، ولا يجوز أن يقال: أنا أضربك أمس؟
فالجواب من وَجْهَيْن:
الأول: أن ذلك جائز فيما كان بمنزلة الصّفة اللازمة كقولك لمن تعرفه بما سلف من قبح فعله: ويحك لم تكذب؟ كأنك قلت: لم يكن هذا من شأنك.
قال الله تعالى: ﴿واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين﴾ [البقرة: ١٠٢] ولم يقل: ماتلت الشياطين؛ لأنه أراد من شأنها التلاوة.
والثاني: كأنه قال: لم ترضون بقتل الأنبياء من قبل إن كنتم مؤمنين بالتوراة؟
قال بعضهم: جاء «تقتلون» بلفظ الاستقبال، وهو بمعنى المُضِيّ لما ارتفع الإشكال بقوله: «من قبل» وإذا لم يشكل فجائز أن يأتي الماضي بمعنى المستقبل وبالعكس.
قال الحطيئة: [الكامل]
٦٦٦ - شَهِدَ الْحُطَيْئَةُ يَوْمَ يَلْقَى رَبَّهُ أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ
شهد بمعنى يشهد.
289
قوله: «إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».
في: «إنْ» قولان:
أحدهما: أنها شرطية، وجوابه محذوف تقديره: إن كنتم مؤمنين فلم فعلتم ذلك؟
ويكون الشرط وجوابه قد ذكر مرتين فَحُذِفَ الشَّرْط من الجملة الأولى، وبقي جوابه وهو: فلم تقتلون، وحذف الجواب من الثَّانية، وبقي شرطه، فقد حذف من كلّ واحدة ما أثبت في الأخرى.
قال ابن عطية رَحِمَهُ اللهُ: جوابها متقدم، وهوقوله «فلم» وهذا إنما يتأتى على قول الكُوفيين، وإبي زيد.
والثاني: أن «إن» نافية بمعنى «ما» أي: ما كنتم مؤمنين لمُنَافَاةِ ما صدر منكم الإيمان.
290
«بِالبَيِّنَاتِ» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون حالاً من «موسى» أي: جاءكم ذا بيِّنات وحُجَج، أو ومعه البينات.
وثانيهما: أن يكون مفعولاً، أي: بسبب إقامة البَيّنات، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [الإسراء: ١٠١] وهي: العصا والسّنون واليد والدم والطّوفان والجراد والقمل والضفادع وفلق البحر.
وقيل: البينات التوراة وما فيها من الدّلالات.
واللام في «لقد» لام القسم.
«ثم أتَّخَذْتُمُ العِجْل» توبيخ، وهو أبلغ من «الواو» في التَّقريع بها والنظر في الآيات، أي بعد النظر في الآيات والإتيان به اتّخذتم، [وهذا يدّل على أنهم إنما فلعوا ذلك بعد مُهْلة من النظر في الآيات، وذلك أعظم لجُرْمهم]. وما بعده من الجمل قد تقدم مثله، والسبب في تكريرها أنه تعالى لما حركى طريقة اليَهُودِ في زمان محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، وصفهم بالعِنَادِ والتكذيب، ومثلهم بسلفهم في [قتلهم] الأنبياء الذي يناسب التكذيب؛ بل يزيد عليه إعادة ذكر موسى عليه السلام وما جاء به من البيّنات، وأنهم مع وضوح ذلك أجازوا أن يتخذو العجل إلهاً وهو مع ذلك صابر ثابت على الدعاء إلى ربه، والتمسّك بدينه، فكذلك القول في حالي معكم وإن بالغتم في التَّكذيب والإنكار.
قوله: «واسمعوا» أي أطيعوا وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه، ومنه قولهم: سمع الله لمن حمده، أي قبل وأجاب؛ قال [الوافر]
٦٦٧ - دَعَوْتُ اللهَ حَتَّى خِفْتُ أَلاَّ يَكُونَ اللهُ يَسْمَعُ ما أَقُولُ
أي يقبل.
وقال الرَّاجز: [الرجز]
٦٦٨ - وَالسَّمْعُ والطَّاعة والتَّسْلِيمْ خَيْرٌ وَأَعْفَى لِبَنِي تَمِيمْ

فصل في التكرار


وفي هذا التكرير وجها:
أحدهما: أنه للتأكيد، وإيجاب الحُجَّة على الخصم.
الثاني: كرره لزيادته على دلالة وهي قولهم: «سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا» [فرفع الجبل لا شك أنه من أعظم المعجزات، مع ذلك أصرُّوا على كفرهم، وصرحوا بقولهم: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ [النساء: ٤٦]].
وأكثر المفسرين ذكروا أنهم قالوا هذا القول.
وقال أبو مسلم: يجوز أن يكون المعهنى سمعوه فقتلوه بالعصيان، فعبر عن ذلك بالقول، وإن لم يقولوه كقوله تعالى: ﴿أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢] وكقوله: ﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت: ١١] والأول أولى، لأن هذا صَرْف للكلام عن ظاهره بغير حاجة.
قوله: «وأُشْربوا» يجوز أن يكون معطوفاً على قوله. «قَالُوا: سَمِعْنَا»، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل «قالوا» أي: قالوا ذلك، وقد أشربوا. ولا بد من إضمار «قد» ليَقْرُبَ الماضي إلى الحال خلافاً للكوفيين، حيث قالوا: لا يحتاج إليها، ويجوز أن يكون مستأنفاً لمجرد الإخبار بذلك.
291
واستضعفه أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى قال: لأنه قال بعد ذلك: «قل بِئْسَمَا يأمركم» فهو جواب قولهم: «سمعنا وعصينا» فالأولى ألا يكون بينهما أجنبي.
و «الواو» في «أشربوا» وهي المفعول الأول قامت مقام الفاعل، والثاني هو «العِجْل» ؛ لأن «شرب» يتعدّى بنفسه، فأكسبته الهمزة مفعولاً آخر، ولا بد من حذف مُضَافين قبل «العِجْل» والتقدير: وأشربوا حُبَّ العِجْل.
وحسن حَذْفُ هذين المضافين للمبالغة في ذلك حتى كأنه تُصُوِّر إشراب ذات العِجْل، والإشراب مُخَالطة المائع بالجامد، ثم اتّسع فيه حتى قيل في الألوان نحو: أشرب بياضُه حُمْرةً، والمعنى: أنهم دَاخَلَهم حُبُّ عبادته، كما داخلَ الصّبغُ الثوبَ.
ومنه قول الشاعر: [الوافر]
٦٦٩ - إذّا ما القَلْبُ أُشْرِبَ حُبَّ شَيْءٍ فَلاَ تَأْمَلْ لَهُ الدَّهْرَ انْصِرَافا
وعبر بالشرب دون الأكل؛ لأ، الشرب يَتَغَلْغَلُ في باطن الشيء، بخلاف الأكل فإنه مُجَاور؛ ومنه في المعنى: [الطويل]
٦٧٠ - جَرَى حُبُّهَا مَجْرَى دَمِي في مَفَاصِلِي..........................
وقال بعضهم: [الوافر]
٦٧١ - تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فُؤَادِي فَبَادِيهِ مَعَ الخافِي يَسِيرُ
تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ وَحُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرورُ
أَكَادُ إِذَا ذكَرْتُ العَهْدَ مِنْهَا أَطِيرُ لَوَ أنَّ إِنْسَاناً يَطِيرُ
فهذا وجه الاستعارة.
وقيل: الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض، فكذلك كانت تلك المحبة مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال.
وقيل: الإشراب هنا حقيقة؛ لأنه يروى أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ برد العجل بِالمبْرد، ثم جعل تلك البُرَادة في الماء، وأمرهم بشربه، فمن كان يحب العجل ظهرت البُرَادة على شَفَتَيْهِ.
292
روي القَشَيْري رَحِمَهُ اللهُ أنه ما شربه أحد إلا جُنَّ.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: أما تَذْرِيَتُهُ في الماء فقد دلّ عليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً﴾ [طه: ٩٧]، وأما شرب الماء وظهور البُرَادة على الشِّفاه وهذا وإن كان قال به السّدي وابن جريج وغيرهما فردّه قوله: «في قُلُوبِهِمْ».

فصل في فاعل الإشراب


قوله: «وأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِم» يدلّ على أن فاعلاً غيرهم بهم ذلك، ومعلوم أنه لا يقدر عليه سوى الله تعالى.
أجاب المعتزلة بوجهين:
الأول: ما أراد الله تعالى أن غيرهم فعل بهم ذلك، لكنهم لِفَرْطِ ولوعهم وَإِلْفِهِمْ بعبادته أشربوا قلوبهم حُبّه، فذكر ذلك على ما لم يسمّ فاعله كما يقال: فلان معجب بنفسه.
والثاني: أن المراد من «أشرب» أي: زيّنه لهم، ودعاهم إليه كالسَّامري، وإبليس، وشياطين الإنس والجن.
وأجابوا: بأن هذا صرف اللَّفظ عن عن ظاهره، وذلك لا يجوز المصير إليه إلاّ بدليل منفصل، وقد أقيمت الدلائل العقلية القَطْعية على أن محدث الأشياء هو الله تعالى فلا حاجة لنا إلى ترك هذا الظاهر.
قوله: «بِكُفْرِهِم» فيه وجهان:
أظهرهما: أن «الباء» سببية متعلّقة ب «أُشْرِبُوا» أي: أشربوا بسبب كفرهم السَّابق.
والثاني: أنها بمعنى «على» يعنون بذلك أنها للحال، وصاحبها في الحقيقة ذلك للفاعل المحذوف أي: أشربوا حبّ عبادة العِجْل مختلطاً بكفرهم، والمصدر مضاف للفاعل، أي: بأن يكفروا.
قوله: «قُلْ» بِئْسَمَا يَأمُرُكُمْ «كقوله:» بِئْسَمَا اشْتَرَوْا «.
والمعنى: فبئسما يأمركم به إيمانكم الذي زعمتم في قولكم: ﴿نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ﴾ [البقرة: ٩١].
وقيل: إن هذا خطاب للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمر له بأن يوبّخهم أي: قل لهم يا محمد: بئس هذه الأشياء التي فعلتم، وأمركم بها [إيمانكم] أي: بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العِجْل وإضافة الأمر إلى إيمانهم كما قالوا لشعيب صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ﴾ [هود: ٨٧].
293
قوله:» إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «يجوز فيها الوجهان السابقين من كونها نافيةً وشرطيً، وجوابه محذوف تقديره: فبئسما يأمركم.
وقيل: تقديره: فلا تقتلوا أنبياء الله، وَلاَ تُكَذِّبُوا الرّسل ولا تكتموا الحق؛ وأسند الإيمان إليهم تهكُّماً بهم، ولا حاجة إلى حذف صفة، أي إيمانكم الباطل، أو حذف مُضَاف، أي: صاحب إيمانكم.
وقرأ الحسن:»
بِهُو إيمَانُكُمْ «بضم الهاء مع الواو.
فإن قيل: الإيمان عرض، ولا يصح الأمر والنهي.
فالجواب: أن الدَّاعي إلى الفعل قد يشبه بالأمر كقوله: ﴿إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر﴾ [العنكبوت: ٤٥].
294
وهذا نوع آخر من قبائح أفعالهم، وهو زعمهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون النَّاس، ويدلّ عليه أنه لايجوز أن يقال للخصمك إن كان كذا أو كذا فافعل كذا، والأول مذهبه، ليصحّ إلزام الثاني عليه.
ويدلّ على ذلك أيضاً قولهم: ﴿يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١١١] وقولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] وقولهم: ﴿لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠].
وأيضاً اعتقادهم في أنفسهم أنهم همم المحقّون؛ لأن النسخ غير جائز في شرعهم، وأن سائر الفرق مبطلون، وأيضاً اعقادهم أن أنتِسَابَهُمْ إلى أكابر الأنبياء علهيم الصلاة والسلام، أعني: يعقوب وإسماعيل وإسحاق وإبراهيم عليه السلام يخصلهم من [عقاب] الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه، فكذّبهم الله تعالى وألزمهم الحُجّة، فقال: قل لهم يا محمد: إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الجَنّة خالصة من دون النَّاس، فتمنوا الموت: فأريدوه وأسألوه؛ لأن من علم أنا لجنة مَأْواه حنّ إليها؛ لأن نعم الدنياعلى قلّتها كانت منغصةً عليهم بسبب ظهور محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ومنازعته لهم بالجِدَالِ والقتال، ومن كان في النّعم القليلة المنغصة، وهو يتيقّن بعد الموت أنه ينتقل إلى تلك النعم العظيمة، فإنه لا بد وأن يرغب في الموت.
وقيل: إن الله تعالى صرفهم عن إظْهَار التمنِّي، وقصرهم على الإمساك ليجعل ذلك آية لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
294
وقيل: فمتنّوا الموت: ادعوا بالموت على الفِرْقَةِ الكاذبة. روى ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لو تمنوا الموت لشرق كلّ إنسان بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلاَّ مات».
قوله: ﴿إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً﴾ شرط جوابه «فَتَمَنّوا».
و «الدار» اسم «كان» وهي الجنة، والأولى أن يقدّر حذف مضاف، أي: نعيم الدار الآخرة؛ لأن الدَّار الآخرة في الحقيقة هي انقضاء الدُّنيا، وهي للفريقين. واختلفوا في خير «كان» على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه «خالصة»، فيكون «عند» ظرف ل «خالصة»، أو للاستقرار الذي «لكم» ويجوز أن تكون حالاً من «الدار»، والعامل فيه «كان»، أو الاستقرار.
وأما «لكم» فيتعلق ب «كان» ؛ لأنها تعمل في الظرف وشبيهه.
قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى: ويجوز أن تكون للتبيين، فيكون موضعها بعد «خالصة» أي: خالصة لكم فتتعلّق بنفس «خالصة»، وهذا فيه نظر؛ لأنه متى كانت للبيان تعلّقت بمحذوف تقديره: أعني لكم، نحو: سُقْياً لك، تقديره: أعني بهذا الدعاء لك، وقد صرح غيره في هذا الموضع بأنها للبيان، وأنها متعلّقة حينئذ بمحذوف كما تقدم، ويجوز أن يكون صفة ل «خالصة» في الأصل قُدْمَ عليها فصار حالاً منها، فيتعلّق بمحذوف.
الثاني: أن الخبر «لكم» فيتعلّق بمحذوف وينصب خالصة حينئذ على الحال، والعامل فيها إما «كان»، أو الاستقرار في «لكم»، و «عند» منصوب بالاستقرار أيضاً.
الثالث: أن الخبر هو الظَّرف، و «خالصة» حال أيضاً، والعامل فيها إما «كان» أو الاستقرار، وكذلك «لكم»، وقد منع من هذا الوجه قَوْمٌ فقالوا: لا يجوز أن يكون الظرف خبراً؛ لأن هذا الكلام لا يستقل.
وجوز ذلك المهدوي، وابن عطية، وابو البقاء، واستشعر أبو البقاء هذا الإشكال، وأجاب عنه بأن قال: وسوغ أن يكون «عند» خبر «كان لكم» يعني لفظ «لكم» سوغ وقوع «عند» خبراً إذ كان فيه تخصيص وَتَبْيِينٌ، ونظيره قوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤]، لولا «له» لم يصحّ أن يكون «كفواً» خبراً.
و «مِنْ دُونِ النَّاسِ» في محلّ نصب ب «خالصة» ؛ لأنك تقول: خَلُصَ كذا من كذا، والمراد به سوى لا معنى المكان، كما يقول القائل لمن وهب منه ملكاً: هذا لك دون النّاس.
295
وقرأ الجمهور: «فتَمَنَّوُا المَوْتَ» بضم الواون ويروى عن أبي عمرو فتحها تخفيفاً واختلاس الضمة، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها على التقاء السَّاكنين تشبيهاً بواو ﴿لَوِ استطعنا﴾ [التوبة: ٤٢] المراد بها عندية المنزلة.
قال ابن الخطيب: «ولا بعد أيضاً في حمله على [المكان] فلعل اليهود كانوا مشبّهة، فاعقدوا العِنْدِيَة المكانية».
وقوله تعالى: «فتمنوا الموت» هذا أمر متعلّق على أمر مفقود، وهو كونهم صادفين، فلا يكون الأمر موجوداًن أو الغرض إظهار كذبهم في دعواهم، وفي هذا التمني قولان:
أحدهما: قول ابن عباس: إنهم أمروا بأن يَدْعُوَ الفريقان بالموت على الفرقة الكاذبة.
والثاني: أن يقولوا: ليتنا نموت وهذا أولى؛ لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَوْ تَمَنَّوا المَوْتَ لَغَصَّ كُلُّ إنْسَانٍ بِرِيقِهِ وَمَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الأَرضِ يَهُودِيٌّ إلاَّ مَاتَ» وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَوْ أنَّ اليَهُودَ تَمَنَّوا المَوْتَ لماتُوا ورَأوا مَقَاعِدَهُمْ من النَّارِ وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ [رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ]، لَرَجَعُوا إلاَ يَجِدُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً».
قوله تعالى: ﴿إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ كقوله: ﴿إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩١].

فصل في سؤالات واردة


السؤال الأول: لعلّهم كانوا يعلمون أن نعم الآخرة عظيمة لا سبيل إليها إلاَّ بالموت، والذي يتوقف عليه المطلوب يجب أن يكون مطلوباً لكونه وسيلةً إلى ذلك المطلوب، إلاَّ أنه يكون مكروهاً نظراً إلى ذاته، والموت مما لا يحصل إلا بالآلام العظيمة، وما كانوا يطيقونها، فلا جرم ما تمنوا الموت.
السؤال الثاني: أنه كان لهم أن يقلبوا هذا السؤال على محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقولون إنّك تدَّعي الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر، فإنْ كان الأمر
296
كذلك فارْض بأن نقتلك ونقتل أمتك، فإنَّا نراك ونرى أمتك في الضّر الشديد، والبلاء العظيم بسبب الجدال والقتال، وبعد الموت فإنكم تتخلّصون إلى نعيم الجنّة، فوجب أن ترضوا بقتلكم.
السؤال الثالث: لعلّهم كانوا يقولون: الدار الآخرة خالصة لمن كان على دينهم، لكن بشرط الاحتراز عن الكَبَائر، فأما صاحب الكبيرة فإنه يبقى مخلداً في النار أبداً؛ لأنهم كانوا وعدوا به، أو لأنهم جوّزوا في صاحب الكبيرة أن يصير معذباً، فلأجل هذا ما تمنّوا الموت، وليس لأحد أن يدفع هذا السُّؤال بأن مذهبهم أنه لا تمسُّهم النار إلاَّ أياماً معدودة؛ لأن كلّ يوم من أيام القيامة كألف سنة، فكانت هذه الأيام، وإن كانت قليلة بحسب العدد، لكنها طويلة بحسب المدة، فلا جَرَمَ ما تمنّوا الموت بسب الخوف.
السؤال: الرابع: أنه عليه الصلاة والسَّلام نهي عن تمنّي الموت فقال: «لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُم المَوْت لِضُرِّ نَزَلَ بِهِ وَلَكِنْ لِيَقْلْ: اللهُمَّ أَحْيِنِي إِنْ كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْراً لِي وتَوَفَّنِي إِنْ كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْراً لِي» وأيضاً قال تعالى: في كتابه: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾ [الشورى: ١٨] فكيف يجوز أن ينهى عن الاستعجال، ثم إنه يتحدّى القوم بذلك؟
السؤال الخامس: أنَّ لفظ التمني بين التمنّي الذي هو المعنى القائم بالقلب، وبين اللفظ الدَّال على ذلك المعنى، وهو قول القائل: ليتني متّ، فلليهود أن يقولوا: إنك طلبت منا التمني، والتمنّي لفظ مشترك، فإن ذكرناه باللِّسان، فله أن يقول: ما أردت به هذا اللَّفظ، وإنما أردت به المعنى الذي في القَلْب، وإن فعلنا ذلك المعنى القائم بالقَلْب، فله أن يقول: كذبتم ما أتيتم بذلك في قلوبكم، ولما علم اليهود أنه أتى بلفظة مشتركة لا يمكن الاعتراض عليها لا جرم لم يلتفتوا إليه.
السؤال السادس: هَبْ أن الدار الآخرة لو كانت لهم لوجب أن يتمنّوا الموت، فلم قلت: إنهم لم يتمنوا الموت؟ والاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً﴾ ضعيف؛ لأن
297
الاستدلال بهذا إنما يصحّ لو ثبت كون القرآن حقًّا، والنزاع ليس إلا فيه.
والجواب كون الموت متضمناً للآلام يكون كالصارف عنه تمنّيه.
قلنا: كما أن الألم الحاصل عند الحجَامَةِ لا يصرف عن الحِجَامَةِ للعلم الحاصل؛ لأن المنفعة الحاصلة عن الحِجَامة عظيمة وجب أن يكون الأمر هاهنا كذلك.
وقوله: لو قلبوا الكلام على محمد لزمه أن يرضى بالقتل.
قلنا: الفرق بين محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وبينهم أن محمداً كان يقول: إني [مبعوث] لتبليغ الشَّرَائع إلى أهل التَّوَاتر، وهذا المقصود لم يحصل بعد فالأجل هذا لا أرضى بالقَتْل، وأما أنتم فلستم كذلك فظهر الفرق.
وقوله ثالثاً: كانوا خائفين من العقاب.
قلنا: القوم ادعوا أن الآخرة خالصة لهم، وذلك يؤمنهم من الامتزاج.
وقوله رابعاً: نهي عن تمني الموت.
قلنا: هذا النهي طريقه الشرع، فيجوز أن يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأوقات.

فصل في بيان متى يُتمنى الموت


روي أن عليًّا رَضِيَ اللهُ عَنْه كان يطوف بين الصَّفَّيْن في [غِلالَة]، فقال له ابنه الحسن رَضِيَ اللهُ عَنْه ما هذا بِزِيِّ المحاربين، فقال: بابنيَّ، لا يبالي أبوك أعلى المَوْتِ سقط أم عليه [بسقط].
وقال عمار رَضِيَ اللهُ عَنْه ب «صفين: [الرجز]
٦٧٢ - الآن أُلاَقِي الأَحِبَّة مُحَمداً وَحِزْبَهُ
وقد ظهر عن الأنبياء في كثر من الحالات تمنّي الموت على أن هذا النهي مختصّ بسبب مخصوص، فإنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حَرّم أن يتمنّى الإنسان الموت عند الشَّدائد؛ لأن ذلك كالجزع والخروج عن الرضا بما قسم الله تعالى فإين هذا مما نحن فيه؟
وقوله خامساً:»
إنهم ما عرفوا المراد التمنّي باللسان أم بالقلب؟ «.
قلنا: التمني في لغة العرب لا يعرف إلا بما يظهر بالقول، كما أن الخبر لا يعرف إلاَّ بما يظهر بالقول، ومن المحال أن يقول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:»
تَمَنَّوا المَوْتَ «، ويريد بذلك [ما لا يمكن الوقوف عليه]، مع أن الغرض بذلك لا يتمّ إلاَّ بظهوره.
298
وقوله سادساً: ما الدليل على أنه ما وجد التمنّي؟ قلنا من وجوه:
أحدها: لو حصل ذلك لنقل نقلاً متواتراً؛ لأنه أمر عظيم، فإنه بتقدير عدمه يثبت القول بصحّة نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبتقدير حصول هذا التمنّي يبطل القول بنبوّته، وما كان كذلك من الوقائع العظيمة، فوجب أن ينقل نقلاً متواتراً، ولما لم ينقل علمنا أنه لم يوجد.
وثانيها: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع تقدّمه في الرأي والحزم، وحسن النَّظر في العاقبة، والوصول إلى الرياصة العظيمة التي انْقَادَ لها المخالف قَهْراً والموافق طوْعاً، لا يجوز وهو غير واثقِ من جهة رَبّه بالوحي النازل عليه أن يتحدَّاهم بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه، ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجّة؛ لأن العاقل الذي لم [يعرف] الأمور لم يرض بذلك، فكيف الحال في أعقل العقلاء؟ فثبت أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما أَقْدَمَ على هذه الأدلة إلا بوحي من الله تعالى إليه بأنهم لا يتمنونه.
وثالثها: ماروى ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: «لَوْ تَمَنَّوا المَوْتَ لَشَرِقُوا بهِ وَلَمَاتُوا» وقد نطق القرآن بذلك في قوله: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً﴾ أي: ولو تمنّوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم ردًّا على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإبطالاً لحجّته. والحديثان المتقدّمان، وبالجملة الأخبار الواردة في أنهم ما تمنوا الموت بلغت مبلغ التواتر.
قوله: «وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ» خبر قاطع عن أنّ ذلك لايقع في المستقبل، وهذا إخبار عن الغيب؛ لأن من توفّر الدواعي على تكذيب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسهولة الإتيان بهذه الكلمة أخبر أنهم لا يأتون بذلك، فهذا إخبار جازم عن أمر قامت الأمارات على ضدّه، فلا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي.
قوله: «أبداً» منصوب ب «يتمنّوه»، وهو ظرف زمان يقع للقليل والكثير، ماضياً كان أو مستقبلاً.
قال القرطبي: كالحين والوقت، وهو هاهنا من أول العمر إلى الموت تقول: ما فعلته أبداً.
وقال الراغب هو عبارة عن مدّة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان، وذلك أنه يقال: زمان كذا، ولا يقالك أبدُ كذا، وكان من حقّه على هذا ألاَّ يثنى ولا يجمع، وقد قالوا: آباد، فجمعوه لاختلاف أنواعه.
وقيل: آباد لغة مولّدة، ومجيئه بعد «لن» يدلّ على أن نفيها لا يقتضي التأبيد، وقد تقدم غير ذلك، ودعوى التأكيد فيه بعيدة.
299

فصل في بيان أن بالآية غيبين


واعلم أن هذا أخبار عن غيب آخر، لأنه أخبر أن ذلك لا يوجد في شيء من الأزمنة، ولاشك أن الإخبار عن عدمه بالنسبة إلى عموم الأوقات فهما غَيْبان، وقال هنا: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ﴾ [البقرة: ٩٥] فنفى ل «لن»، وفي الجمعة ب «لا» [قال صاحب «المنتخب» :] وذلك لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك؟ لأن السعادة القُصْوَى فوق مرتبة الولاية؛ لأن الثانية تراد لحصول الأولى، فإنهم ادعوا هنا أنَّ الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، وادعوا في سورة «الجمعة» أنهم أولياء لله من دون النَّاس، والسعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب؛ ومرتبة الولاية وإن كانت شريفة إلا أنها لا تراد ليتوسّل بها إلى الجنة، فلما كانت الأولى أعظم لا جَرَمَ ورد النفي ب «لن» ؛ لأنه أبلغ من النفي ب «لا».
قوله: «بما قَدَّمَتْ أيديهم» بيان للعلّة التي لها لا يتمنّون؛ لأنه إذا علموا سوء طرقهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى عدم تمنّي الموت، وهذه الجملة متعلّقة ب «يتمنّوه»، والباء للسببية، أي: بسبب اجْتِرَاجِهِم العظائم، و «أيديهم» في محلّ رفع حذفت الضمة من الباء لثقلها مع الكسرة.
و «ما» يجو فيها ثلاثة أوجه:
أظهرها: كونها موصولةً بمعنى «الذي».
والثاني: نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف، أي: بما قدّمته، فالجملة لا محلّ لها على الأولى، ومحلّها الجر على الثاني.
والثالث: أنها مصدرية أي: بِتَقْدِمَةِ أيديهم.
ومفعول «قدمت» محذوف أي: بما قدمت أيديهم الشَّر، أو التبديل ونحوه.
قوله: «واللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» ابتداء وخبر، وهذا كالزَّجْر والتهديد؛ لأنه إذا كان عالماً بالسر والنجوى لا يخفى عليه شيء صار ذلك من أعظم الصَّوَارف للمكلّف عن المعاصي، وإنما ذكر الظالمين؛ لأن كلّ كافر ظالم، وليس كلّ ظالم كافراً، فذكر الأعم؛ لأنه أولى بالذكر.
300
قوله :" وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ " خبر قاطع عن أنّ ذلك لا يقع في المستقبل، وهذا إخبار عن الغيب ؛ لأن من توفّر الدواعي على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وسهولة الإتيان بهذه الكلمة أخبر أنهم لا يأتون بذلك، فهذا إخبار جازم عن أمر قامت الأمارات على ضدّه، فلا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي.
قوله :" أبداً " منصوب ب " يتمنّوه "، وهو ظرف زمان يقع للقليل والكثير، ماضياً كان أو مستقبلاً.
قال القرطبي : كالحين والوقت، وهو هاهنا من أول العمر إلى الموت تقول : ما فعلته أبداً.
وقال الراغب هو عبارة عن مدّة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان، وذلك أنه يقال : زمان كذا، ولا يقال : أبدُ كذا، وكان من حقّه على هذا أَلاَّ يثنى ولا يجمع، وقد قالوا : آباد، فجمعوه لاختلاف أنواعه.
وقيل : آباد لغة مولّدة، ومجيئه بعد " لن " يدلّ على أن نفيها لا يقتضي التأبيد، وقد تقدم غير ذلك، ودعوى التأكيد فيه بعيدة.

فصل في بيان أن بالآية غيبين


واعلم أن هذا إخبار عن غيب آخر، لأنه أخبر أن ذلك لا يوجد في شيء من الأزمنة، ولا شك أن الإخبار عن عدمه بالنسبة إلى عموم الأوقات٨ فهما غَيْبان، وقال هنا :﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ ﴾ [ البقرة : ٩٥ ] فنفى ب " لن "، وفي الجمعة ب " لا " [ قال صاحب " المنتخب " :] وذلك لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك ؟ لأن السعادة القُصْوَى فوق مرتبة الولاية ؛ لأن الثانية تراد لحصول الأولى، فإنهم ادعوا هنا أنَّ الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، وادعوا في سورة " الجمعة " أنهم أولياء لله من دون النَّاس، والسعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب ؛ ومرتبة الولاية وإن كانت شريفةً إلا أنها لا تراد ليتوسّل بها إلى الجنة، فلما كانت الأولى أعظم لا جَرَمَ ورد النفي ب " لن " ؛ لأنه أبلغ من النفي ب " لا ".
قوله :﴿ بما قَدَّمَتْ أيديهم ﴾ بيان للعلّة التي لها لا يتمنّون ؛ لأنهم إذا علموا سوء طرقهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى عدم تمنّي الموت، وهذه الجملة متعلّقة ب " يتمنّوه "، والباء للسببية، أي : بسبب اجْتِرَاحِهِم العظائم، و " أيديهم " في محلّ رفع حذفت الضمة من الباء لثقلها مع الكسرة.
و " ما " يجوز فيها ثلاثة أوجه :
أظهرها : كونها موصولةً بمعنى " الذي ".
والثاني : نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف، أي : بما قدّمته، فالجملة لا محلّ لها على الأولى، ومحلّها الجر على الثاني.
والثالث : أنها مصدرية أي : بِتَقْدِمَةِ أيديهم.
ومفعول " قدمت " محذوف أي : بما قدمت أيديهم الشَّر، أو التبديل ونحوه.
قوله :﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ﴾ ابتداء وخبر، وهذا كالزَّجْر والتهديد ؛ لأنه إذا كان عالماً بالسر والنجوى لا يخفى عليه شيء صار ذلك من أعظم الصَّوَارف للمكلّف عن المعاصي، وإنما ذكر الظالمين ؛ لأن كلّ كافر ظالم، وليس كلّ ظالم كافراً، فذكر الأعم ؛ لأنه أولى بالذكر.
فأخبر تعالى أولاً بأنهم لا يتمنّون الموت، ثم أخبر عنهم هنا بأنهم في غاية الحِرْصِ؛ لأن ثم قسماً آخر، وهو أن يكون الإنسان بحيث لا يتمنّى الموت، ولا يتمنّى الحياة.
300
وهذه «اللام» جواب قسم محذوف، والنون للتوكيد تقديره: والله لتجدنّهم.
و «وجد» هنا متعدية لمفعولين أولهما لضمير، والثاني «أحرص»، وإذا تعدّت لاثنين كانت: ك «علم» في المعنى، نحو: ﴿وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾ [الأعراف: ١٠٢].
ويجز أن تكون متعدية لواحد، ومعناها معنى «لقي وأصاب»، وينتصب «أحرص» على الحال، إما على رأي مَنْ لا يشترط التنكير في الحال، وإما على رأي من يرى أنَّ إضافة «أفعل» إلى معرفة غير مَحْضَةٍ، و «أحرص» أفعل تفضيل، ف «مِنْ» مُرادَةٌ معها، وقد أضيفت لمعرفة، فجاءت على أحد الجائزين، أعني عدم المُطَابقة، وذلك أنها إذا أضيفت معرفة على نيّة من أجاز فيها وجهي المطابقة لما قبلها نحوك «الزَّيدان أفضلا الرجال»، و «الزيدون أفاضل الرجال»، و «هند فُضْلى» و «الهنود فُضْليات النِّسَاء» ومن قوله تعالى: ﴿أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا﴾ [الأنعام: ١٢٣] وعدمها، نحو: «الزيدون أفضل الرجال»، وعليه هذه الآية، وكلا الوجهين فصيح خلافاً لابن السّراج. وإذا أضيفت لمعرفة لزم أن تكون بعضها، ولذلك منع النحويون «يُوسُفُ أحسن إخوته» على معنى التفضيل، وتأولوا ما يوهم غيره نحو: «النَّاقِصُ والأَشَجُّ أَعْدَ لاَبَنِي مَرْوَانَ» بمعنى العَادِلاَنِ فيهم؛ وأما قوله [الرجز]
٦٧٣ - يَارَبَّ مُوسَى أَظْلَمِي وَأَظْلَمُهْ فَاصْبُبْ عَلَيْهِ مَلكاً لاَ يَرْحَمُهْ
فشاذٌّ، وسوغ ذلك كون «أظلم» الثاني مقتحماً كأنه قال: «أَظْلَمُنَا».
وأما إذا أضيف إلى نكرة فقد تقدّم حكمها عند قوله: ﴿أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ [البقرة: ٤١].
قوله تعالى: ﴿على حَيَاةٍ﴾ متعلّق بت «أَحْرَصَ» ح لأنّ هذا الفعل يتعدّى ب «على» تقول: حرصت عليه.
والتنكير في حياة تنبيه على أنه أراد حياةً مخصوصةً، وهي الحياة المتطاولة، ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قرأءة أبيّ «على الحياة» بالتعريف.
وقيل:: إن ذلك على حذف مضاف تقديره: على طول الحياة، والظّاهر أنه لا يحتاج إلى تقدير صفة ولا مضاف، بل يكون المعنى: أنهم أحرص النَّاس على مطلق الحياة.
وإن قلت: فيكف وإن كثرت، فيكون أبلغ من وصفهم بذلك، وأصل حياةك «حَيَيَة» تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً.
قوله: «ومِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا» يجوز أن يكون متصلاً داخلاً تحت «أفعل» التفضيل ويجوز أن يكون منقطعاً عنه وعلى القول باتّصاله به فيه ثلاثة أقوال:
301
أحدها: أنه حمل علكى المعنى، فإن معنى أحرص الناس: أحرص من الناس، فكأنه قيل: أحرص من النّاس، ومن الذين أشركوا.
الثاني: أن يكون حذف من الثَّاني لدلالة الأولى عليه، والتقدير: وأحرص من الذين أشركوا، وعلى ما تقرر من كون «مِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوا» متّصلاً ب «أفعل» التفضيل، فلا بد من ذكر «من؛ لأن» أحرص «جرى على اليهود، فلو عطف بغير» من «لكان معطوفاً على النَّاس، فيكون المعنى: ولتجدنَّهم أحرص الذين أشركوا، فيلزم إضافة» أفعل «إلى غير من درج تحته؛ لأن اليهود ليسوا من هؤلاء المشركين الخاصّين؛ لأنهم قالوا في تفسيرهم: إنهم المجوس، أو عرب يعبدون الأصنام، اللهم إلا أن يقال: إنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل، فحينئذ لو لم يؤت ب» من «لكان جائزاً.
الثالث: أن في الكلام حذفاً وتقديماً وتأخيراً، والتقدير: ولتجدنّهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس، فيكون من»
مِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوا «صفة لمحذوف، ذلك المحذوف معطوف على الضمير في» لتجدّنهم «وهذا وإن كان صحيحاً من حيث المعنى، ولكنه يَنْبُو عنه التركيب لا سيّما على قول من يَخُصُّ التقديم والتأخير بالضرورة.
وعلى القول بانقطاعه من»
أفعل «يكون» من الذين أشركوا «خبراً مقدماً، و» يودّ أحدهم «صفة لمبتدأ محذوف تقديره: ومن الذين أشركوا قوم أو فريق يودّ أحدهم، وهو من الأماكن المطّرد فيها حذف الموصوف بجملته كقوله: ﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الصافات: ١٦٤]، وقوله:» منَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أقَامَ «.
والظاهر أن الذين أشركوا غير اليهود كما تقدم وأجاز الزَّمخشري أن يكون من اليهود؛ لأنهم قالوا: عزيزٌ ابن الله، فيكون أخباراً بأن من هذه الطائفة التي اشتدّ حرصها على الحياة من يودّ لو يعمر ألف سنة، ويكون من وقوع الظَّاهر المشعر بالغَلَبَةِ موقع المضمر، إذ التقديرك ومنه قوم يودّ أحدهم.
وقد ظهر مما تقدم أن الكلام من باب عطف المفردات على القول بدخول»
من الَّذِين أَشْرَكُوا «تحت» أفعل «ومن باب عطف الجمل على القول بالانقطاع.

فصل في المراد بالذين أشركوا


قيل: االمراد بالذين أشركوا المجوس، لأنهم كانوا يقولون لملكهم: عش ألف نَيْرُوز وأللإ مِهْرَجَان، قاله أبو العالية والربيع: وسموا مشركين لأنهم يقولون بالنور والظلمة، وهذه تحية المجوس فيما بينهم: عِشْ ألف سنة، ولك ألف نَيْرُوز ومِهْرَجان.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هو قول الأعاجم: زِهً هَزَارْسال.
وقيل: المراد مشركو العرب.
وقيل: كل مشرك لا يؤمن بالمعاد لما تقدم؛ لأن حرص هؤلاء على الدنيا ينبغي أن
302
يكون أكثر، وليس المراد ذكر ألف سنة قول الأعاجم [عش ألف سنة] بل [خرج مخرج] التكثير، وهو معروف في كلام العرب.
قوله: «يودّ أحدهم» هذا مبني على ما تقدّم، فإن قيل بأن «من الذين أشركوا» داخل تحت «أفعل» كان في «يود» خمسة أوجه:
أحدها: أنه حال من الضمير في «لتجدنّهم» أي: لتجدنهم وَادًّا أحدهم.
الثاني: أنه حال من الذين أشركوا، فيكون العامل فيه «أحرص» المحذوف.
الثالث: أنه حال من فاعل «أشركوا».
الرابع: أنه مستأنف استؤنف للإخبار بتبيين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة.
الخامس: وهو قول الكوفيين: أنه صلة لموصول محذوف، ذلك الموصول صفة للذين أشركوا، والتقدير: ومن الذين أشركوا الذين يودّ أحدهم.
وإن قيل بالانقطاع، فيكون في محلّ رفع؛ لأنه صفة لمبتدأ محذوف كما تقدّم.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالىك أصل «يَوَدُّ» يَوْدَدُ «، أدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحركين ونقلت حركة الدال إلى الواو، ليدل ذلك على أنه يفعل.
وحكى الكسائي: وَدَدْتُ، فيجوز على هذا يَوِدُّ بكسر الواو و»
أحد «هنا بمعنى واحد، وهمزته بدل من واو، وليس هو» أحد «المستعمل في النفي، فإن ذاك همزته أصل بنفسها، ولا يستعمل في الإيجاب المحض. و» يود «مضارع وَدِدْت بكسر العين في الماضي، فلذلك لم تحذف الواو في المضارع؛ لأنها لم تقع بين ياء وكسرة، بخلاف» يعد «وبابه.
وحكى الكسائي فيه»
وَدَدْتُ «بالفتح.
قال بعضهم: فعلى هذا يقال:»
يودّ «بكسر الواو.
و»
الوِدَادُ «: التمني.
قوله:»
لو يعمّر «في» لو «هذه ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو الجاري على قواعد نحاة»
البصرة «أنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابها محذوف لدلالة» يَوَدُّ «عليه، وحذف مفعول» يَوَدُّ «لدلالة» لو يعمّر «عليه والتقدير: يود أحدهم طول العمر، لو يعمر ألف سنة لَسُرَّ بذلك، فحذف من كلّ واحد ما دلّ عليه الآخر، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب.
303
والثاني: وبه قال الكوفيون وأبو علي الفارسي وأبو البقاء، أنها مصدرية بمنزلة» أن «الناصبة، فلا يكون لها جوابن [وينسبك] منها وما بعدها مصدر يكون مفعولاً ل» يودّ «، والتقدير: يود أحدهم تعميره ألف سنة.
واستدل أبو البقاء بأن الامتناعية معناها في الماضي، وهذه يلزمها المستقل ك»
أنْ «وبأنّ» يَودّ «يتعدى لمفعول، وليس مما يُعَلق، وبأن» أنْ «قد وقعت يعد» يود «في قوله ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ﴾
[البقرة: ٢٦٦] وهو كثير، [وجوابه في غير هذا الكتاب].
الثالث: وإليه نحا الزمخشري: أن يكون معناها التمني، فلا تحتاج إلى جواب؛ لأنها في قوة: «يا ليتني أُعَمَّرُ»
، وتكون الجملة من «لو» وما حيّزها في محلّ نصب مفعول به على طريق الحكاية ب «يود» إجراء له مجرى القول.
قال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى: فإن قلت: كيف اتّصل «لو يعمر» ب «يود أحدهم» ؟
قلت: هي حكاية لودادتهم و «لو» في معنى التمنّي، وكان القياسك «لو أُعَمَّر» إلا أنه جرى على لفط العينية لقوله: «يود أحدهم»، كقولك: «حلف بالله تعالى ليفعلن» انتهى وقد تقدّم شرحه، إلاّ قوله وكان القياس لو أعمر، يعني بذلك أنه كان من حقّه أن يأتي بالفعل مسنداً للمتكلم وحده، وإنما أجرى «يود» مجرى القول؛ لأن «يود» فعل قَلْبي، والقول ينشأ عن الأمور القلبية
و «الف سنة» منصوب على الظرف ب «يعمر»، وهو متعد لمفعول واحد قد أقيم مقام الفاعل، وفي «سنة» قولان:
أحدهما: أن أصلها: سنوة لقولهمك سنوات وسُنَيَّة وسَانَيْت.
والثاني: أنها من «سَنَهَة» لقولهم: سَنَهَاتٌ وسُنَيْهَةٌ وسَانَهْتُ، واللّغتان ثابتتان عن العرب كما ذكرت لك.
قوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب﴾ في هذا الضمير خمسة أقوال:
أحدها: أنه عائد على «أحد» وفيه حينئذ وجهان:
أحدهما: أنه اسم «ما» الحجازية، و «بمزحزحه» خبر «ما» ن فهو محل نصب والباء زائدة.
و «أن يعمر» فاعل بقوله: «بمزحزحه» والتقدير: وما أحدهم مزحزحهُ تَعْمِيرُه.
الثاني: من الوجهين في «هو» : أن يكون مبتدأ، و «بمزحزحه» خبره، و «أن يعمر»
304
فاعل به كما تقدمن وهذا على كون «ما» تميمية، الوجه الأول أحسن لنزول القرآن بلغة الحجاز، وظهور النصب في قوله: ﴿مَا هذا بَشَراً﴾ [يوسف: ٣١]، ﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ﴾ [المجادلة: ٢].
الثاني: من الأقوال: أن يعود على المصدر المفهوم من «يُعَمَّر»، أيك وما تعميره، ويكون قوله: «أن يعمر» بدلاً منه، ويكون ارتفاع «هو» على الوجهين المتقدمين أي قوله: اسم «ما» أو متبدأ.
الثالث: أن يكون كناية عن التعمير، ولا يعود على شيء قبله، ويكون «أن يعمّر» بدلاً منه مفسراً له، والفرق بين هذا وبين القول الثاني أن ذاك تفسيره شيء متقدم مفهوم من الفعل، وهذا مُفَسَّرٌ بالبدل بعده، وقد تقدم أن في ذلك خلافاً، وهذا ما عنى الزمخشري بقوله: ويجوز أن كيون «هو» مبهماً، و «أن يعمر» موضحه.
الرابعك أنه ضمير الأمر والشأن وإليه نحا الفارسي في «الحلبيَّات» موافقة للكوفيين، فإنّهم يفسرون ضمير الأمر بغير جملة إذا انتظم من ذلك إسناد مَعْنوي، نحو: ظننته قائماً الزيدان، وما هو بقائم زيد؛ لأنه في قوة: ظننته يقوم الزيدان، وما هو يقوم زيد، والبصريون يأبون تفسيره إلاَّ بجماعة مصرح بجزئيها سالمة من حرف جر، وقد تقدم تحقيق القولين.
الخامس: أنه عماد، نعني به الفصل عن البصريين، نقله ابن عطيّة عن الطَّبري عن طائفة، وهذا يحتاج إلى إيْضَاحن وذلك أن بعض الكوفيين يجيزون تقديم العِمَاِ مع الخبر المقدم، يقولون في زيد هو القائم: هو القائم زيد، وكذلك هنا، فإن الأصل عند هؤلاء أن يكون «بمزحزحه» خبراً مقدماً و «أن يعمر» مبتدأ مؤخراً، و «هو» عماد، والتقدير: وما تعميره وهو بمزحزحه، فلما قدم الخبر قدم معه العماد.
والبصريون لا يجيزون شيئاً من ذلك.
و «من العذاب» متعلّق بقوله: «بمزحزحه» و «من» لابتداء الغاية والزحزحة: التَّنحية، تقول: زحزحته فَزَحْزَح، فيكون قاصراً ومتعدياً فمن مجيئه متعدياً قوله: [البسيط]
٦٧٤ - يَا قَابِضَ الرُّوحِ مِنْ نَفْسِي إِذَا احْتَضَرَتْ وَغَافِرَ الذَّنْبِ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ
وأنشده ذو الرُّمَّة: [البسيط]
٦٧٥ - يَا قَابِضَ الرُّوح مِن جِسْمٍ عَصَى زَمَناً.................................
ومن مجيئه قاصراً قول الآخر: [الطويل]
305
٦٧٦ - خَلِيلَيَّ مَا بَالُ الدُّجَى لاَ يُزَحْزَحُ وَمَا بَالُ ضَوْءِ الصُّبْحِ لاَ يَتَوَضَّحُ
قوله: «أَنْ يُعَمَّرَ» : إما أن يكون فاعلاً أو بدلاً من «هو»، أو مبتدأ حسب ما تقدم من الإعراب في «هو».
﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ مبتدأ وخبر، و «بما» يتعلّق ببصير.
و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف أي: يعملونه، ويجوز أن تكون مصدرية أي: بعملهم.
والجمهور «يعملون» بالياء، نسقاً على ما تقدم، والحسن وغيره «تعملون» بالتاء، وللخطاب على الالتفات، وأتى بصيغة المضارع، وإن كان علمه محيطاً بأعمالهم السَّالفة مراعاة لرءوس الآي، وختم الفواصل.
قال ابن الخطيب: «والبصير قد يراد به العليم، وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها، وكلا الوصفين يصحّان عليه سبحانه إلاَّ أن من قال: إن في الأعمال ما لا يصحّ أن يرى حمل هذا البصر على العلم لا محالة» [قال العلماء رحمهم الله تعالى: وصف الله تعالى نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيَّات الأمور، والبصير في كلام العرب العالم بالشيء الخبير به.
ومنه قولهم: فلان خبير بالطب، وبصير بالفقه، وبصير بُمَلاَقاةِ الرجال.
وقيل: وصف تعالى نفسه بأنه بصير على معنى أنه جاعل الأشياء المبصرة ذوات أبصار أي: مدركة للمبصرات بما خلق لها من الآلة المدركة].
306
هذا نوع آخر من قَبَائح اليهود، ومنكرات أقوالهم، فلا بد من أمر قد ظهر من اليهود حتى أمره تعالى بمخاطبتهم بذلك؛ لأنه يجري مجرى المُحَاجّة، والمفسرون ذكروا أموراً:
أحدها: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما قدم «المدينة» أتاه عبد الله بن صوريا فقال يا محمد: كيف نومك، فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يجيء في آخر الزمان؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «تَنَامُ عَيْنَايَ وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي» قال: صدقت يا محمد، فأخبرني عن
306
الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة؟ فقال: «أَمَّا العِظَامُ وَالعَصَبُ وَالعُرُوقُ فَمِنَ الرَّجُل، وأَمَّا اللَّحْمُ واَلدَّمُ وَالظِّفْرُ وَالشَّعْرُ فِمنَ المَرْأَةٍ» فقال: صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه دون أخواله أو يشبه أخواله دون أعمامه؟ فقال: «أَيُّهُمَا غَلَبَ مَاؤُهُ صَاحِبَهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ»، قال: صدقت فقال: أخبرني أي الطعام حَرَّمَ إسرائيل على نفسه، وفي التوراة أن النبي الأمي بخبر عنه؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَنْشُدُكُمْ بَاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيْلَ مَرِضَ مَرضاً شَدِيْداً فطَالَ سَقَمُهُ فَنَذَرَ الله نَذْراً لَئِنْ عَافَاهُ اللهُ مِنْ سَقَمِهِ لُيُحَرِّمَنَّ عَلَى نَفْسِهِ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَهُوَ لُحْمَانُ الإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا» فقالوا: اللهم نعم.
فقال له: بقيت خصلة واحدة إن قلتها آمنت بكل أي ملك يأتيك بما تقول عن الله عَزَّ وَجَلَّ؟ قال: «جِبْريلُ عليه السلام».
قال: إن ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدّة، ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرَّخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك فقال عمر رضي الله تعالى عنه: وما مبدأ هذه العداوة؟ فقال ابن صوريا أول هذه العداوة أن الله تعالى أنزل على نبينا أن «بيت المقدس» سيخرب في زمان رجل يقال له: بخت نصرّ ووصفه لنا [وأخبرنا بالجنّ الذي يخرب فيه، فلما كان وقته بعثنا رَجُلاً من قوم بني إسرائيل في طلبه ليقتله، فانطلق حتى لقي ب «بابل» غلاماً مسكيناً فأخذه ليقتله]. [فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالاً] فدفع عنه جبريل وقال: إن سلطكم الله تعالى على قتله فهذا ليس هو ذاك الذي أخبر الله عنه أنه سيخرب «بيت المقدس» فلا فائدة من قتله، ثم إنه كبر وقوي وملك، وغزانا وخرّب «بيت المقدس»، فلذلك نتّخذه عدوّاً [فأنزل الله تعالى هذه الآية قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي هذا القول نظر؛ لأنهم قالوا في هذه الرواية: إن رسولهم ميكائيل، وهو الذي يأتي بالبِشْر والرخاءن وأنهم يحبونه، ثم إنه تعالى أثبت عداوتهم لميكائيل أيضاً في الآية التي تليها فقال: ﴿مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٩٨] وهذا مناقض لهذه الآية المذكورة هاهنا].
وثانيها: قال قتادة وعكرمة والسّديكم كان لعمر بن الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْه أرض بأعلى «المدينة» وممرها على مِدْرَاس اليهود، وكان إذا أتى على أرضه يأتيهم، وسمع
307
منهم، فقالوا له ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك، فإنهم يمرّون علينا فيؤذوننا وأنت لا تؤذينا، وإنا لنطمع فيك فقال عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهك والله ما آتيكم لحيّكم ولا أسألكم لأني شاكّ في ديني، وإني أدخل علكيم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى لله عليه وسلم وأرى أثاره في كتابكم فقالوا: مَنْ صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة فقال: جبريل فقالوا: ذلك عدونا يُطْلع محمداً على أَسْرَارنا، وهو صاحب كل عذاب وخَسْف شدّة، وإن ميكائيل يأتي بالخِصْبِ السّلامة، فقال لهم عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه: تعرفون جبريل، وتنكرون محمداً عليه الصَّلاة السَّلام فقالوا: نعم قال: فأخبروني عن منزلة جبريل وميكائيل من الله عَزَّ وَجَلَّ قالوا: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره وميكائيل عدوّ لجبريل، قال فإن كان كما تقولون فماهما بعدوين، ولأنتم أكفر [من الحمير، وإني أشهد أنّ من كان عدوّاً لجبريل فهو عدو لميكائيل، ومن كان عدواً لميكائيل فهو عدو لجبريل، ومن كان عدواً لهما فإن الله تعالى عدوّ له، ثم رجع عمر فوجد جبريل عليه السلام قد سبقه بالوَحْي، فقرأ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآيات وقال: «لقد وافقك ربك يا عمر»، فقال عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه فقد رأيتني بعد ذلك في دين الله تعالى أَصْلَبَ من الحجر].
وثالثها: قال مقاتل: زعمت اليهود أن جبريل عليه السلام عدّونا، أمر أن يجعل النبوة فينا، فجعلها في غيرنا فأنزل الله تعالى هذه الآيات.
قال ابن الخطيب: والأقرب أن يكون سبب عداوتهم لا أنه كان ينزل القرآن على محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله﴾ [البقرة: ٩٧] مشعر بأن هذا التنزيل [لا ينبغي أن يكون سبباً للعداوة؛ لأن إنما فعل ذلك بأمر الله، فلا ينبغي أن يكون سبباً للعداوة، وتقرير هذا من وجوه:
أولها: أن الذينزل جبريل من] القرآن {الذي نزل به فيه] بشارة المطيعين بالثواب، وإنذار العصاة بالعقاب، والأمر بالمُحَاربة والمقاتلة لم يكن ذلك باختياره، بل بأم رالله تعالى الذي يعترفون أنه لا محيص عن أمره، ولا سبيل إلى مُخَالفته فعداوة مَنْ هذا سبيله توجب عداوة الله تعالى وعداوة الله تعالى كفر، فيلزم أن معاداة مَنْ هذا سبيله كفر.
ثانيها: أن الله تعالى لو أمر ميكائيل بإنزال مثل هذا الكتاب، فإما أن يقال: إنه كان [يتمرد أو يأبى] عن قبول أمر الله، وذلك غير لائق بالملائكة المعصومين، أو كان يقبله وينزل به على وفق أمر الله، فحئنئذ يتوجه على ميكائيل ما ذكروه على جبريل عليهما السلام فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة؟
وثالثها: أن إنزاال القرآن على محمد عليه السلام كما شق على اليهود، فإنزال
308
التوراة على موسى عليه السلام شق على قوم آخرين، فإن اقتضت نَفْرة هؤلاء لإنزال القرآن قُبْحه فلتقتض نَفْرة أولئك المتقدمين قبح إنزال التوراة على موسى عليه السلام قبحه، ومعلوم أن كل ذلك باطل، فثبت بهذه الوجوه فساد ما قالوه.
فإن قيل: إنا نرى اليهود في زماننا مُطبقين على إنكار ذلك مصرّين على أن احداً مِنْ سَلَفهم لم يقل بذلك.
فالجواب: أن هذا باطل، لأن كلام الله أصدق، ولأن جهلهم كان شديداً، وهم الذين قالوا: ﴿اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: ١٣٨].
قوله تعالى: «مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ} » مَنْ «شرطية في محلّ رفع بالابتداء، و» كان «خبره على ما هو الصحيح كما تقدم، وجوابه محذوف تقديره: من كان عدوّاً لجبريل فلا وجه لعداوته، أو فليمت غيظاً ونحوه.
ولا جائز أن يكون»
فَإِنَّهُ نَزَّلهُ «جواباً للشرط لوجهين:
أحدهما: من جهة المعنى.
والثاني: من جهة الصناعة.
أما الأول: فلأن فعل التنزيل متحقّق المضي؛ والجزاء لا يكون إلا مستقبلاً.
ولقاتل أن يقول: هذا محمول على التَّبين، والمعنى: فقد تبين أنه نزله، كما قالوا في قوله: ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ﴾ [يوسف: ٢٧] ونحوه.
وأما الثاني: فلأنه لا بد من جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط فلا يجوز: مَنْ يقم فزيد منطلق، ولا ضمير شفي قوله:»
فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ «يعود على» مَنْ «فلا يكون جواباً للشرط، وقد جاءت ماضع كثيرة من ذلك، ولكنهم أَوَّلُوهَا على حذف العائدن فمن ذلك قوله: [الوافر]
٦٧٧ - فَمَنْ تكُنِ الْحَضَارَةُ أَعْجَبَتْهُ فَأَيَّ رِجَالِ بَادِيَةٍ تَرَانَا
وقوله: [الطويل]
٦٧٨ - فَمَن يِكُ أَمْسَى بِالْمَدينَةِ رَحْلُهُ فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بَهَا لَغَرِيبُ
وينبغي أن بينى ذلك على الخلاف ف يخبر اسم الشَّرْط.
فإن قيل: إنَّ الخبر هو الجزاء وحده أو هو الشَّرْط فلا بدّ من الضمير، وإن قيل بإنه فعل الشَّرْط، فلا حاجة إلى الضمير، وقد تقدم قول أبي البقاء وغيره في ذلك عند
309
قوله تعالى:» فَمَنْ تَبعَ هُدَايَ «، وقد صّرح الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ بأنه جواب الشَّرْط، وفيه النَّظر المذكور، وجوابه ما تقدم.
و «عَدُوّاً»
خبر «كان»، ويستوي فيه الواجد غيره، قال: «هُمُ العَدُوُّ» والعَدَاوَةُ: التجاو قال الرَّاغب: فبالبقلب يقال: العداوة وبالمشي يقال: العدو، وبالإخلال في العدل يقال: العدوان وبالمكان أو النسب يقال: قوم عِدَي أي غرباء.
و «لِجْبِريلَ» يجوز أن يكون صفة ل «عَدُوّاً» فيتعلّق بمحذوف، أو تكون اللام مقوية لتعدية «عَدُوّاً» إليه.
و «جبريل» اسم ملك وهو أعجمي، فلذلك لم ينصرف، وقول من قال: إنّه مشتقّ من جبروت الله: بعيد؛ لأن الاشتقاق لا يكون في الاسماء الأعجمية، وكذا قول من قال: إنه مركّب تركيب الإضافة، وأن «جبر» معناه: عبد، و «إيل» اسم من أسماء الله تعالى فهو بمنزلة عبد الله؛ لأنه كان ينبغي أن يجرى الأول بوجوه الإعراب وأن ينصرب الثاني [وهذا القول مَرْوِيّ عن ابن عَبَّاس، وجماعة من أهل العلم، فقال أبو علي السّنوي: وهذا لايصحّ لوجهين:
أحدهما: أنه لايعرف من أسماء الله «إيل».
والثاني: أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجروراً]. وقال المهدوي: إنه مركّب تركيب مرج نحو: حضرموت وهذا بعيد أيضاً؛ لأنه كان ينبغي أن يبنى الأول على الفتح ليس إلاّ.
وَرَدَّ عليه أبو حَيَّان بأنه لو كان مركباً تركيب مزج لجاز فيه أن يعرب إعراب المُتَضَايفين، أو يبنى على الفَتْح كأحد عشر، فإن كلّ ما ركب تركيب المزج [يجوز فيه هذه الأوجه، وكونه لم يسمع فيه البناء، ولا جريانه مجرى المتضايفين دليل على عدم تركيبه تركيب المزج] وهذا الرد لا يحسن ردَّا؛ لأنه جاء على أحد الجائزين، واتفق أنه لم يستعمل إلا كذلك.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والصَّحيح في هذه الألفاظ أنها عربية نزل بها جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام بلسان عربي مبين.
قال النحاس: ويجمع جبريل على التكسير جباريل، وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في الاسماء الأعجمية، فجاءت فيه بثلاث عشر لغة.
أشهرها وأفصحها: «جبريل» بزنة قِنْديل، وهي قراءة أبي عمرو، ونافع وابنِ
310
عامرِ ومحفْصِ عن عاصم، وهي لغة «الحجاز» ؛ قال ورقةُ بنُ نَوْفَلِ: [الطويل]
٦٧٩ - وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعْهُمَا مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ
وقال حَسَّان: [الوافر]
٦٨٠ - وَجِبْرِيلٌ رَسُولُ اللهِ فِينَا وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَه كِفَاءُ
وقال عمران بن حِطَّان: [البسيط]
٦٨١ - وَالرُّوحُ جِبْرِيلُ مِنْهُمْ لاَ كِفَاءَ لَهُ وَكَانَ جِبْرِيلُ عِنْدَ اللهِ ماأْمُونَا
الثانية «كذلك إلا أنه فتح الجيم، وهي قراءة ابن كثير والحسن، وقال الفَرَّاء:» لا أحبها؛ لأنه ليس في كلامهم فَعْلِيلُ «وما قاله ليس بشيء؛ لأن ما أدخلته العرب في لسانها على قسمين قسم ألحقوه بأبنيتهم ك» لِجَامٍ «، وقسم يلحقوه ك» إِبْرَيْسَمٍ «، على أنه قيل: إنه نظير شَمويل اسْمَ طائر.
وعن ابن كثير أنه رأى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يقرأ «جَبْرِيلَ ومِيكَائيلَ»
، قال: فلا أزال أقرؤها كذلك.
الثالثة: جَبْرَئِيل كَعْنتَريس، وهي لغة قيس وتميم، وبها قرأ حمزة والكسائيُّ؛ وقال حسَّان: [الطويل]
311
وقال جريرٌ: [الكامل]
٦٨٢ - شَهِدْنَا فَمَا تَلْقَى لَنَا مِنْ كَتِيبَةٍ يَدَ الدَّهْرِ إِلاَّ جَبْرَئِيلُ أمَامَهَا
٦٨٣ - عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بِمُحَمَّدٍ وَبِجَبْرئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيكَالاَ
الرابعة: كذلك إلاَّ أنه لا ياء بعد الهمزة، وتروى عن عاصم ويحيى بن يعمر
الخامسة: كذلك إلاّ أن اللام مشددة، وتروى أيضاَ عن صام ويحيى بن يعمر أيضاً قالوا: و «إِلٌّ» بالتشديد اسم الله تعالى.
وفي بعض التفاسير: ﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ [التوبة: ١٠] قيل: معناه: الله وروي عن أبي بكر لما سمع بِسَجْع مسيلمة: هذا كلام لم يخرج من إِلَّ.
السادسة: جَبْرَائِل بألف بعد الرَّاء، وهمزة مكسورة بعد الألف، وبها قرأ عكرمة.
السابعة: مثلها إلا أنها بياء الهمزة.
الثامنة: جِبْرَائيل بياءين بعد الألف من غير همزة، وبها قرأ الأعمش ويحيى أيضاً.
التاسعة: جِبْرَال.
العاشرة: جِبْرَايل بالياء والقصر، وهي قراءة طلحة بن مُصَرِّف.
الحادية عشرة: جَبْرِينَ بفتح الجيم والنون.
والثانية عشرة: كذلك إلا أنه بكسر الجيم.
والثالثة عشرة: جَبْرايين.
والجملة من قوله: «مَنْ كَانَ» في محلّ نصب بالقول، والضمير في قوله «فإنّه» يعود على جبريل وفي قوله: «نزله» بعود على القرآن، وهذا موافق لقوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين﴾ [الشعراء: ١٩٣] في قراءة من رفع «الروح» ولقوله: «مصدقاً».
وقيل: الأول يعود على الله، والثاني يعود على جبريل، وهو موافق لقراءة من قرأ «نَزَّ بهِ الرُّوح» بالتشديد والنصب، وأتى ب «التي تقتضي الاستعلاء دون» إلى «التي تقتضي الانتهاء، وخصّ القلب بالذكر؛ لأنه خزانة الحِفْظ، بيت الربّ عَزَّ وَجَلَّ [وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه، لا على قلبه، إلاَّ أنه خصّ القلب بالذكر؛ لأن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظاً حتى أدَّاه إلى أمّته، فلمّا كان سبب تمكّنه من الأداء
312
ثبات حفظه قي قلبه جاز أن يقال: نزله على قلبك، وإن كان في الحقيقة نزل عليه لا على قلبه، ولأنه أشرف الأعضاء.
قال عليه الصَّلاة السَّلام:» أَلاَ إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ «] وأضافه ضمير المخاطب دون ياء المتكلم، وإن كان ظاهر الكلام يقتضي أن يكون» على قلبي «لأحد الأمرين:
‘إما مراعاة لحال الأمر بالقول فَتَسْرُد لفظة بالخطاب كما هو نحو قولك: قل لقومك: لا يهينوك، ولو قلت: لا تهينوني لجاز، ومنه قول الفرزدق: [الطويل]
٦٨٤ - أَلَمْ تَرَ أَنِّي يَوْمَ جوِّ سُوَيْقَةٍ... دَعَوْتُ فَنَادَتْنِي هُنَيْدَةُ: مَاليَا
فأحرز المعنى ونَكَّبَ عن نداء هندية «ما لك»
؟، وإما لأن ثَمَّ قولاً آخر مضمراً بعد «قل» والتقدير، قل يا محمد: قال الله «من كان عدوًّا لجبريل فإنه نزله على قلبك»، [وإليه نحا الزمخشري بقوله: جاءت على حكاية كلام الله، قل: ما تكلمت به من قولي: من كان عدوًّا لجبريل، فإنه نزله على قلبك] فعلى هذا الجملة الشرطية معمولة لذلك القول المضمر، والقول المضمر معمول للفظ «قل»، والظاهر ما تقدم من كون الجملة معمولة للفظ «قل» بالتأويل المذكور أولاً، ولا ينافيه قول الزمخشري، فإنه قصد تفسير المعنى لا تفسير الإعراب. والضمير في «أنه» يحتمل معنيين:
الأول: فإن الله نزل جبريل على قلبك.
الثاني: فإن جبريل نزل القرآن على قلبك، ودلت الآية على شرف جبريل عليه السلام وذمّ معادية قاله القُرْطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
قوله تعالى: «بإِذْن اللهِ» في محلّ نصب على الحال من فاعل: «نزله» إن قيل: إنهُ ضمير جبريل، أو من مفعوله إن قيل: إن الضمير المرفوع في «نزل» يعود على الله، والتقدير: فإنه نزل مأذوناً له أو معه إذن الله، والإذن في الأصل العلم بالشَّيء، والإيذان، كالإعلام، آذن به: علم به، وآذنته بكذا: أعلمته به، ثم يطلق على التمكين، أذن في
313
كذا: أمكنني منه، وعلى الاختبار، فعلته بإذنك: أي باختيارك، وقول من قال بإذنه أي بتيسّره راجع إلى ذلك.
قال ابن الخطيب: تفسير الإذن هُنا بالأمر أي بأمر الله، وهو أولى من تفسيره بالعلم لوجوه:
أولها: أنَّ الإذن حقيقة في الأمر، ومجاز في العلم، واللَّفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن.
وثانيها: أن إنزاله كان من الواجبات، والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم.
وثالثها: أن ذلك الإنزال إذا كان من أمر لازم كان أوكد في الحجة.
قوله تعالى: «مُصَدِّقًا» حال من الهاء في «نزّله» إن كان يعود الضمير على القرآن، وإن عاد على جبريل ففيه احتمالان:
أحدهما: أن يكون من المجرور المحذوف لفهم المعنى، والتقدير: فإن الله نزّل جبريل بالقرآن مصدقاً.
الثاني: أن يكون من جبريل بمعنى مصدقاً لما بين يديه من الرسل، وهي حال مؤكدة، والهاء في «بين يديه» يجوز أن تعود على «القرآن» أو على «جبريل».
وأكثر المفسرين على أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام لا يخصّ كتاباً دون كتاب، ومنهم من خصَّه بالتوراة، وزعم أنه إشارة إلى أن القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فإن قيل: أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكُتب فلم صار مصدقاً لها؟
فالجواب: أنها كلها متوافقة في الدلالة على التوحيد واصول الدين.
قوله تعالى: «هُدًى وَبُشْرى» حالان معطوفان على الحال قبلهما، فهما مصدران موضوعان موضع اسم الفاعل، أو على المبالغة أو على حَذْف مضاف أيك ذا هدى و «بشرى» ألفها للتأنيث، وجاء هذا التَّرتيب اللفظي في هذه الأحوال مطابقاً للترتيب الوجودي، وذلك أنه نزل مصدّقاً للكتب؛ لأنها من ينبوع واحد، وحصلت به الهداية بعد نزوله، وهو بشرى لمن حصلت له به الهداية، وخصّ المؤمنين، لأنهم المنتفعون به دون غيرهم، كقوله: بشرى للمتقين، أو لأن البشرى لا تكن إلاَّ للمؤمنين؛ لأن البُشْرَى هي الخبر الدَّال على الخير العظيم، وهذا لا يحصل إلا للمؤمنين.
قوله تعالى: «مَنْ كَانَ عَدُوًّا» : الكلام في «مَنْ» كما تقدم، إلاَّ أن الجواب هنا يجوز أن يكون ﴿فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾.
فإن قيل: وأين الرَّابط؟ فالجواب من وجهين:
314
أحدهما: أن الاسم الظاهر قام مقام المضمر، وكان الأصل: فإن الله عَدُوّ لهم، فأتى بالظَّاهر تنبيهاً على العلة.
والثاني: أن يراد بالكافرين العموم، والعموم من الرَّوَابط، لاندراج الأول تحته، ويجوز أن يكون محذوفاً تقديره: من كان عدوّاً لله فقد كفر ونحوه.
وقال بعضهم: اواو في قوله: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ بمعنى «أو»، قال: لأن نم عادى واحداً من هؤلاء المذكورين، فالحكم فيه كذلك.
وقال بعضهم: هي للتفضيل، ولا حاجة إلى ذلك، فإن هذا الحكم معلوم، وذكر جبريل ميكال بعد اندراجهما أولاً تنبيهٌ على فضلهما على غيرهما من الملائكة، وهكذا كُلْ ما ذكر خاص بعد عام، ويحتمل أن يكون أعاد ذكرهما بعد اندراجهما؛ لأن الذي جرى بين الرَّسول وبين اليهود هو ذكرهما، والآية إنما نزلت بسببهما، فلا جَرَمَ نصّ على اسميهما، واعلم أنَّ هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة، وبعضهم يسمى هذا النوع بالتجريد، كأنه يعني به أنه جرد من العموم الأول بعض أفراده اختصاصاً له بمزية، وهذا الحكم أعني ذكر الخاصّ بعد العام مختصّ بالواو ولايجوز في غيرها من حروف العطف.
وجعل بعضهم مثل هذه الآية أعني: في ذكر الخاصّ بعد العام تشريفاً له قوله: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ [الرحمن: ٦٨] وهذا فيه نظر، فإن «فاكهة» من باب المطلق؛ لأنها نكرة في سياق الإثبات، وليست من العموم في شيء، فإن عنى أن اسم الفاكهة يطلق عليهما من باب صِدْق اللَّفظ على ما يحتمله، ثم نص عليه فصحيح، وأتى باسم الله ظاهراً في قوله: «فإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ» ؛ لأنه لو أُضمر فقيل: «فإنه» لأوهم عوده على اسم الشرط، فينعكس المعنى، أو عوده على ميكال؛ لأنه أقرب مذكور.
وميكائيل اسم أعجمي، والكلام فيه كالكلام في «جبريل» من كونه مشتقّاً من ملكوت الله عَزَّ وَجَلَّ، أو أن «ميك» بمعنى عبدن و «إيل» اسم الله، وأن تركيبه تركيب إضافة أو تركيب مزج، وقد عرف الصحيح من ذلك.
وفيه سبع لغات: «مِيكَال» بزنة «مِفْعَال» وهي لغة «الحجاز»، وبها قرأ أبو عمر وحفص عن عصام، وأهل «البصرة» ؛ قالوا: [البسيط]
315
٦٨٥ - وَيَوْمَ بَدْرٍ لَقِينَاكُمْ لَنَا عُدَدٌ فِيهِ مَعَ النَّصْرِ مِيكَالٌ وَجِبْرِيلُ
وقال جرير: [الكامل]
٦٨٦ - عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَبُوا بمُحَمَّد وَبِجَبْرَئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيْكَالاَ
الثانية: كذلك، إلاَّ أن بعد الألف همزة، وبها قرأ نافع وأهل «المَدينة» بمهزة واختلاص ميكائيل.
الثالثة: كذلك، إلا أنه بزيادة ياء بعد الهمزة بوزن «ميكائيل»، وهي قراءة الباقين.
الرابعة: ميكئيل مثل ميكعيل، وبها قرأ ابن محيصن.
الخامسة: كذلك، إلاَّ أنه لا ياء بعد الهمزة، فهو مثل: مِيكَعِل، وقرىء بها.
السادسة: ميكاييل بياءين بعد الألف، وبها قرأ الأعمش.
السابعة: ميكاءَل بهمزة مفتوحة بعد الألف كما يقال: «إسراءَل»، وحكى المَاوَرْدِيّ عن بان عباس رضي الله تعالى عنهما أن «جَبْر» بمعنى عَبْد بالتكبير، و «ميكا» بمعنى عُبَيْد بالتصغير، فمعنى جبريل: عبد الله، ومعنى ميكائيل: عبيد الله قال: ولا يعلم لابن عباس في هذا مخالف.
وقال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وزاد بعض المفسّرين: وإسرافيل عبد الرحمن.
قال النحاس: ومن قال: «جبر» عبد، و «إل» الله وجب عليه أن يقول: هذا جَبْرُئِل، ورأيت جَبْرَئِل، ومررت بِجَبْرِئِل، وهذا لا يقال، فوجب أن يكون مسمى بهذا.
وقال غيره: ولو كان كما قالوا لكان مصروفاً، فترك الصرف يدلّ على أنه اسم واحد مفرد ليس بمضاف.
قال ابن الخطيب: يجب أن يكون جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام أفضل من ميكائيل لوجوه:
أحدها: أنه قدمه في الذّكر، وتقديرم المَفْضُول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفاً.
وثانيها: أن جبريل ينزل بالقرآن والوحي والعلم، وهو مادة بقاء الأرواح، وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار، وهي مادة بقاء الأبدان، ولما كان العلم أشرفل من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل.
316
وثالثها: قوله تعالى في صفة جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ [التكوير: ٢١] ذكره بوصف المطاع على الإطلاق، وظاهره يقتضي كونه مطاعاً بالنسبة إلى ميكائيل عليه الصَّلاة والسَّلام فوجب أن يكون أفضل منه.
فإن قيل: حقّ العَدَاوة الإضرار بالعدون وذلك مُحَال على الله تعالى، فكيف يجوز أن يكونوا أعداء الله؟
فالجواب: أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلاّ فينا؛ لأن العدو للغير هو لذي يريد إنزال المَضَارِّ به، وذلك مُحَال على الله تَعَالى بل المراد أحد وجهين: إما أن يعادوا أولياء الله، فيكون ذلك عداوة الله، كقوله: ﴿إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ [المائدة: ٣٣]، وكقوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ [الأحزاب: ٥٧] ؛ لأن المراد بأولياء الله دونه لاستحالة المحابة والأذيَة عليه، وإما أن يراد بذلك كراهيتهم القيام بطاعته وعبادته، وبعدهم عن الطريقةن فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة.
317
قوله تعالى :﴿ مَنْ كَانَ عَدُوًّا ﴾ : الكلام في " مَنْ " كما تقدم، إلاَّ أن الجواب هنا يجوز أن يكون ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴾.
فإن قيل : وأين الرَّابط ؟ فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن الاسم الظاهر قام مقام المضمر، وكان الأصل : فإن الله عَدُوّ لهم، فأتى بالظَّاهر تنبيهاً على العلة.
والثاني : أن يراد بالكافرين العموم، والعموم من الرَّوَابط، لاندراج الأول تحته، ويجوز أن يكون محذوفاً تقديره : من كان عدوّاً لله فقد كفر ونحوه.
وقال بعضهم : الواو في قوله :﴿ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ بمعنى " أو "، قال : لأن من عادى واحداً من هؤلاء المذكورين، فالحكم فيه كذلك.
وقال بعضهم : هي للتفصيل، ولا حاجة إلى ذلك، فإن هذا الحكم معلوم، وذكر جبريل وميكال بعد اندراجهما أولاً تنبيهٌ على فضلهما على غيرهما من الملائكة، وهكذا كُلّ ما ذكر خاص بعد عام، ويحتمل أن يكون أعاد ذكرهما بعد اندراجهما ؛ لأن الذي جرى بين الرَّسول وبين اليهود هو ذكرهما، والآية إنما نزلت بسببهما، فلا جَرَمَ نصّ على اسميهما، واعلم أنَّ هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة، وبعضهم يسمي هذا النوع بالتجريد، كأنه يعني به أنه جرد من العموم الأول بعض أفراده اختصاصاً له بمزية، وهذا الحكم أعني ذكر الخاصّ بعد العام مختصّ بالواو ولا يجوز في غيرها من حروف العطف.
وجعل بعضهم مثل هذه الآية أعني : في ذكر الخاصّ بعد العام تشريفاً له قوله :﴿ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴾ [ الرحمن : ٦٨ ] وهذا فيه نظر، فإن " فاكهة " من باب المطلق ؛ لأنها نكرة في سياق الإثبات، وليست من العموم في شيء، فإن عنى أن اسم الفاكهة يطلق عليهما من باب صِدْق اللَّفظ على ما يحتمله، ثم نص عليه فصحيح، وأتى باسم الله ظاهراً في قوله :﴿ فإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ ﴾ ؛ لأنه لو أُضمر فقيل :" فإنه " لأوهم عوده على اسم الشرط، فينعكس المعنى، أو عوده على ميكال ؛ لأنه أقرب مذكور.
وميكائيل اسم أعجمي، والكلام فيه كالكلام في " جبريل " من كونه مشتقّاً من ملكوت الله عز وجل، أو أن " ميك " بمعنى عبد، و " إيل " اسم الله، وأن تركيبه تركيب إضافة أو تركيب مزج، وقد عرف الصحيح من ذلك.
وفيه سبع لغات :" مِيكَال " بزنة " مِفْعَال " وهي لغة " الحجاز "، وبها قرأ أبو عمر٢٧ وحفص عن عاصم، وأهل " البصرة " ؛ قالوا :[ البسيط ]
٦٨٥- وَيَوْمَ بَدْرٍ لَقِينَاكُمْ لَنَا عُدَدٌ فِيهِ مَعَ النَّصْرِ مِيكَالٌ وَجِبْرِيلُ٢٨
وقال جرير :[ الكامل ]
٦٨٦- عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بمُحَمَّد وَبِجَبْرَئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيْكَالاَ٢٩
الثانية : كذلك، إلاَّ أن بعد الألف همزة، وبها قرأ نافع وأهل " المَدينة " بهمزة واختلاس ميكائيل.
الثالثة : كذلك، إلا أنه بزيادة ياء بعد الهمزة بوزن " ميكائيل "، وهي قراءة الباقين.
الرابعة : ميكئيل مثل ميكعيل، وبها قرأ ابن محيصن.
الخامسة : كذلك، إلاَّ أنه لا ياء بعد الهمزة، فهو مثل : مِيكَعِل، وقرئ بها.
السادسة : ميكاييل بياءين بعد الألف، وبها قرأ الأعمش.
السابعة : ميكاءَل بهمزة مفتوحة بعد الألف كما يقال :" إسراءَل "، وحكى المَاوَرْدِيّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن " جَبْر " بمعنى عَبْد بالتكبير، و " ميكا " بمعنى عُبَيْد بالتصغير، فمعنى جبريل : عبد الله، ومعنى ميكائيل : عبيد الله قال : ولا يعلم لابن عباس في هذا مخالف.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى : وزاد بعض المفسّرين : وإسرافيل عبد الرحمن.
قال النحاس : ومن قال :" جبر " عبد، و " إل " الله وجب عليه أن يقول : هذا جَبْرُئِل، ورأيت جَبْرَئِل، ومررت بِجَبْرِئِل، وهذا لا يقال، فوجب أن يكون مسمى بهذا.
وقال غيره : ولو كان كما قالوا لكان مصروفاً، فترك الصرف يدلّ على أنه اسم واحد مفرد ليس بمضاف.
قال ابن الخطيب٣٠ : يجب أن يكون جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام أفضل من ميكائيل لوجوه :
أحدها : أنه قدمه في الذّكر، وتقديم المَفْضُول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفاً.
وثانيها : أن جبريل ينزل بالقرآن والوحي والعلم، وهو مادة بقاء الأرواح، وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار، وهي مادة بقاء الأبدان، ولما كان العلم أشرف من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل.
وثالثها : قوله تعالى في صفة جبريل عليه الصلاة والسلام :﴿ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ [ التكوير : ٢١ ] ذكره بوصف المطاع على الإطلاق، وظاهره يقتضي كونه مطاعاً بالنسبة إلى ميكائيل عليه الصَّلاة والسَّلام فوجب أن يكون أفضل منه.
فإن قيل : حقّ العَدَاوة الإضرار بالعدو، وذلك مُحَال على الله تعالى، فكيف يجوز أن يكونوا أعداء الله ؟
فالجواب : أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلاّ فينا ؛ لأن العدو للغير هو الذي يريد إنزال المَضَارِّ به، وذلك مُحَال على الله تَعَالى بل المراد أحد وجهين : إما أن يعادوا أولياء الله، فيكون ذلك عداوة لله، كقوله :﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [ المائدة : ٣٣ ]، وكقوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [ الأحزاب : ٥٧ ] ؛ لأن المراد بأولياء الله دونه لاستحالة المحاربة والأذيّة عليه، وإما أن يراد بذلك كراهيتهم القيام بطاعته وعبادته، وبعدهم عن الطريقة، فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما:: إن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل مبعثه، فلما بعث من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل: يا معشر اليهود اتَّقوا الله وأسلموا فقد كتنم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل الشرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفون لنا صفته.
فقال ابن صوريا: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه من الأيات، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، والمرادة بالآيات البينات: آيات القرآن مع سائر الدَّلائل من المُبَاهلة، ومن تمني الموت وسائر المعجزات نحو: إشباع الخَلْق الكثير من الطعام القليل [ونبع] الماء من بين أصابعه وانشقاق القمر.
وقال بعضهم: الأولى تخصيص ذلك بالقرآن، لأن الآيات إذا قرنت بالتنزيل كانت أخصّ بالقرآن.
فإن قيل: الإنزال عبارة عن تحريك الشَّيْ من أعلى إلى أسفل، وذلك محقّق في الأجسام، ومحال في الكلام.
فجوابه: أن جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما نزل من الأعلى إلى الأسفل وأخبر به سمي ذلك إنزالاً.
317
قوله تعالى: ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون﴾ هذا استثناء مفرّغ، وقد تقدم أن الفراء يجيز فيه النصب.
والكفر بها من وجهين:
الأول: جحودها مع العلم بصحتها.
والثاني: جحودها مع الجهل، وترك النظر فيها، والإعراض عن دلائلها، وليس في الظَّاهر تخصيص، فيدخل الكل فيه.
قال ابن الخطيب: والفِسْقُ في اللّغة: خروج الإنسان عما حدّ له قال الله تعالى: ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: ٥٠].
وتقول العرب للنواة إذا خرجت من الرّطبة عند سقوطها: فسقت النواة، وقد يقرب من معناه الفُجُور؛ لأنه مأخوذ من فجور السّد الذي يمنع الماء من أن يسير من الموضع الذي يفسد، فشبه تعدّي الإنسان ما حدّ له إلى الفساد بالذي فجر السَّد حتى صار إلى حيث يفسد.
فإن قيل: أليس صاحب الصغيرة تجاوز أم رالله، ولا يوصف بالفسق والفجور؟
قلنا: إنه إنما يسمى بهما كل أمر يعظم من الباب الذي ذكرنا؛ لأن من فتح من النهر نقباً يسيراً لا يوصف بأنه فجر ذلك النهر، وكذلك الفِسْق إنما يقال إذا عظم التعدّي، إذا ثبت هذا فنقول: في قوله: «إِلاَّ الْفَاسِقُونَ» وجهان:
أحدهما: أن كل كافر فاسق، ولا ينعكس، فكأن ذكر الفاسق يأتي على الكافر وغيره، فكان أولى.
الثاني: أن يكون المراد ما يكفر بها إلاَّ الكافر المتجاوز على كلّ حدّ في كفره، والمعنى: أن هذه الآيات لما كانت بيّنة ظاهرة لم يكفر بها إلاَّ الكافر الذي يبلغ في الكفر إلى النهاية القصوى، والأحسن في الجواب أن يقال: إنه تعالى لما قال: «وَمَا يَكْفُرُ بِهَا» أفهم أن مراده بالفاسق هو الكافر لا عموم الفاسق فزال الإشكال.
318
الجمهور على تحريك واو «أَوَكلما»، واختلف النحويون في ذلك على ثلاثة أقوال: فقال الأخفش: إن الهمزة للاستفهام، والوو زائدة وهذا على رأيه في جواز زيادتها.
وقال الكسائي هي «أو» العاطفة التي بمعنى «بل» و‘نما حركت الواو.
ويؤيده قراءة من قرأها ساكنة.
وقال البصريون: هي واو العطف قدمت عليها همزة الاستفهام على ما عرف.
318
قال القرطبي: كما دخلت همزة الاستفهام على «الفاء» في قوله: ﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية﴾ [المائدة: ٥٠]، ﴿أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم﴾ [يونس: ٤٢]، ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ﴾ [الكهف: ٥٠].
وعلى «ثم» كقوله: «أَثُمَّ إِذَا مَا».
وقد تقدم أن الزمخشري يقدر بين الهمزة وحرف العطف شيئاً يعطف عليه ما بعده، لذلك قدره هُنَا: أكفروا بالآيات البينات، وكلما عاهدوا.
وقرأ أبو السّمَال العدوي: «أوْ كلما» ساكنة الواو، وفيها ثلاثة أقوال: فقال الزمخشري: إنها عاطفة على «الفاسقين»، وقدره بمعنى إلا الذين فسقوا أو نقضوا، يعني به: أنه عطف الفعل على الاسم؛ لأنه في تأويله كقوله: ﴿إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ﴾ [الحديد: ١٨] أي: اصَّدَّقُوا وأقرضوا.
وفي هذا كلام يأتي في سورته إن شاء الله تعالى.
وقال المهدوي: «أو» لانقطاع الكلام بمنزلة «أم» المنقطعةن يعني أنها بمعنى «بل»، وهذا رأى الكوفيين، وقد تقدم تحريره وما استدلّوا به من قوله: [الطويل]
٦٨٧ -........................ أَوْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ
في أول السورة.
وقال بعضهم: هي بمعنى «الواو» فتتفق القراءاتان، وقد وردت «أو» بمنزلة «الواو»
كقوله: [الكامل]
٦٨٨ -........................... مَا بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ
﴿خطيائة أَوْ إِثْماً﴾ [النساء: ١١٢] ﴿آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾ [الإنسان: ٢٤] فلتكن [هنا] كذلكن وهذا أيضاَ رأي الكوفيين.
والناصب ل «كلّما» بعده، وقد تقدم تحقيق القول فيها، وانتصاب «عَهْداً» على أحد وجهين: إما على المصدر الجاري على غير المصدر وكان الأصل: «مُعَاهَدَة» أو على المفعول به على أن يضمن عاهدوا معنى «أَعْطوْا» ويكون المفعول الأول محذوفاً، والتقدير: عاهدوا الله عَهْداً.
319
وقرىء: «عَهِدُوا» فيكون «عَهْداً» مصدراً جارياً على صدره.
وقرىء أيضاً: «عُوهِدُوا» مبيناً للمفعول.
قال ابن الخطيب: المقصود من هذه الاستفهام، الإنكار، وإعظام ما يقدمون عليه، ودلّ قوله: «أو كلما عاهدوا» على عهد بعد عهد نقضوه، ونبذوه، ويدل على أن ذلك كالعادة فيهم، فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن كفرهم بما أنزل عليه من الآيات بأن ذلك ليس ببدع منهم، بل هو سجيّتهم وعادتهم، وعادة سَلَفهم على ما بيّنه فيما تقدم من نَقْضهم العهود والمواثيق حالاً بعد حال؛ لأن من يعتاد منه هذه الطريقة، فلا يصعب على النفس مُخَالفته كصعوفة مَنْ لم تَجْرِ عادته بذلك.
وفي العهد وجوه:
أحدها: أن الله تعالى لما أظهر الدَّلائل الدَّالة على نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى صحّة شرعه كان ذلك كالعهد منه سبحانه وتعالى وقبولهم لتلك الدلائل كالمعاهدة منهم لله سبحانه وتعالى.
وثانيها: قولهم قبل مبعثه: لئن خرج النبي لنؤمنن به، ولنخرجن المشركين من ديارهم [قال ابن عباس: لما ذكرهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما أخذ الله تعالى عليهم، وعهد إليهم في مُحَمّد أن يؤمنوا به قال مالك بن الصيف: والله ما عهد إلينا من محمد عهد فنزلت هذه.
قال القرطبي: ويقال فيه: «ابن الصّيف» ويقال: «ابن الضَّيْف» ].
وثالثها: أنهم كانوا يعاهدون الله كثيراً وينقضونه.
ورابعها: قال عطاء: إن اليهود كَانُوا قد عاهدوا على ألاَّ يعينوا عليه أحداً من الكافرين، فنقضوا ذلك، وأعانوا عليه قريشاً يوم «الخندق» [ودليله قوله تعالى: ﴿الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٦] «] إنما قال:» نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ «لأن في جملة من عاهد من آمن، أو يجوز أن يؤمن، فلما لم يكن ذلك صفة جميعهم خص الفريق بالذكر، ثم لما كان يجوز أن يظن أن ذلك الفريق هم الأقلّون بين أنهم الأكثر فقال:» بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ «وفيه قولان:
320
الأول: أن أكثر أولئك الفسّاق لا يصدقون بك أبداً لحسدهم وبغيهم.
[والثاني: لا يؤمنون] أي: لا يصدقون بكتابهم، لأنهم في قومهم كالمُنَافقين مع الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يظهرون لهم الإيمان بكتابهم ورسوله، ثم لا يعلمون بموجبه ومقتضاه.
قوله تعالى:» بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ «فيه قولان:
أحدهما: أنه من باب عَطْف الجمل، وتكون»
بل «لإضراب الانتقال لا الإبطال، وقد [علم] أن» بل «لا تسمَّى عاطفة حقيقية إلا في المفردات.
الثاني: أنه يكون من عطف المفردات، ويكون»
أكثرهم «معطوفاً على» فريق «، و» لاَ يُؤْمِنُونَ «جملة في محلّ نصب على الحال من» أكثرهم «.
وقال ابن عطيَّة: من الضمير في»
أكثرهم «، وهذا الذي قاله جائز، لا يقال: إنها حال من المضاف إليه؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه، وذلك جائز.
وفائدة هذا الإضراب ما تقدم ذكره آنفاً.
والنَّبْذُ: الطرح ومنه النَّبِيذ والمَنْبُوذ، وهو حقيقة في الأجْرَام وإسناده إلى العَهْد مَجَاز.
وقال بعضهم: النَّبذ والطَّرْح الإلقاء متقاربة، إلاّ أن النبذ أكثر ما يقال فيما يبس والطَّرح أكثر ما يُقال في المبسوط والجاري مجراه، والإلقاء فيما يعتبر فيه مُلاَقاة بين شيئين؛ ومن مجيء النبذ بمعنى الطَّرْح قوله: [الكامل]
٦٨٩ - إِنَّ الَّذِينَ أَمَرتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا نَبَذُوا كِتَابَكَ وَاسْتَحَلُّوا الْمَحْرَما
وقال أبو الأسود: [الطويل]
321
قال القرطبي: «مصدّق لما معهم» نعت للرَّسول، ويجوز نصبه على الحال.
والعم أن معنى كون الرسول مصدقاً لما معهم هو أنه كان معترفاً بنبوّة موسى
321
عليه الصَّلاة والسَّلام وبصحة التوراة، أو مصدقاً لما معهم من حيث إنّ التوراة بشرت بمقدم محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فإذا جاء محمد كان مجرد مجيئه مصدقاً للتوراة.
وقوله: ﴿مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن المراد ممن أوتي علم الكتاب من يدرسه ويحفظه بدليل قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
والثاني: المراد من يدعي التمسّك بالكتاب، سواء علمه أم لم يعلمه، وهذا كوصف المسلمين بأنهم من أهل [القرآن] لا يختص بذلك من يعرف علومه، بل المراد من يؤمن به.
قوله تعالى: «الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ» :«الكتاب» مفعول ثان ل «أوتوا» ؛ لأنه يتعدى في الأصل إلى اثنين، فأقيم الأول مقام الفاعل، وهو «الواو»، وبقي الثاني منصوباً، [وقد تقدم أنه عند السهيلي مفعول أول] و «كتاب الله» مفعول نبذ، و «وراء» منصوب على الظرف وناصبه «نَبَذ»، وهذا مثل لإهمالهم التوراة؛ تقول العرب: «جعل هذا الأمر وَرَاءَ ظَهْرهن ودَبْرَ أُذُنِه» أي: أهمله؛ قال الرزدَقُ: [الطويل]
٦٩٠ - وَخَبَّرَنِي مَنْ كُنْتُ أَرْسَلْتُ أَنَّما أَخَذْتَ كِتَابِي مُعْرضاً بشِمَالِكا
نَظَرْتَ إِلَى عُنْوَانِهِ فَنبَذْتَهُ كَنَبْذِكَ نَعْلاً أَخْلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا
٦٩١ - تَمِيمُ بَْ مُرِّ لاَ تَكُونَنَّ حَاجَتِي بِظَهْرٍ فَلا يَعْيَا عَلَيَّ جَوَابُهَا
والمراد بكتاب الله: القرآن.
وقيل: إنه التوراة لوجهين:
الأول: أن النبذ لا يعقل إلا فيما تمسكوا به أولاً، وأما إذا لم يلتفتوا إليه فلا يقال: إنهم نبذوه.
والثاني: أنه قال تعالى: ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ ولو كان المراد به: القرآن لم يكن لتخصيص الفريق معنى؛ لأنَّ جميعهم لا يصدقون بالقرآن.
فإن قيل: كيف يصحّ نَبْذهم التوراة، وهم متمّسكون بها؟
قلنا: إنها لما كانت تدلّ على نبوة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بنعته، ووجوب الإيمان به، ثم عدلوا عنه كانوا نابذين للتَّوْرَاة.
قال السّدي رَحِمَهُ اللهُ تعالى نبذوا التوراة، وأخذوا بكمتاب «آصف»، وسحر «هاروت وماروت».
قوله: «كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» جلمة في محلّ نصب على الحال، وصاحبها: فريق،
322
وإن نكرة لتخصيصه بالوصف، والعامل فيها «نبذ»، والتقدير: مُشْبِهِيْنَ للجُهَّال، ومتعلق العلم محذوف تقديره: أنه كتاب الله لا يُدَاخلهم فيه شكّ، والمعنى: أنهم كفروا عناداً؛ لأنهم نبذوه عن علم ومعرفة؛ لأنه لا يقال ذلك إلاَّ فيمن يعلم.
قال ابن الخطيب: ودلّت الآية من هذه الجِهَةِ على أن هذا الفريق كانوا عالمين بصحة نبوته إلا أنهم جحدوا ما يعلمون وقد ثبت أن الجمع العظيم لا يصح الجحد عليهم، فوجب القطع بأن أولئك الجاحدين كانوا في القلّة بحيث تجوز المُكَابرة عليهم.
قوله
323
: ﴿واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين﴾ : هذه الجملة معطوفة على مجموع الجملة السابقة من قوله: «ولما جاءهم» إلى آخرها.
وقال أبو البقاء: إنها معطوفة على «أشربوا» أوع لى «نبذ فريق»، وهذا ليس بظاهر؛ لأن عطفها على «نبذ» يقتضي كونها جواباً لقوله تعالى: ﴿وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ﴾.
واتِّباعُهُم لما تتلو الشياطين ليس مترتباً على مجيء الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام بل كان اتباعهم لذلك قبله، فالأولى أن تكون معطوفة على جملة «لما» كما تقدم، و «ما» موصولة، وعائدها محذوف، والتقدير: تتلوه.
وقيل: «ما» نافية، وهو غلط فاحش لا يقتضيه نظم الكلام، [ذكره] ابن العربي.
و «يتلو» في معنى «تلت» فهو مضارع وقاع موقع الماضي؛ كقوله: [الكامل]
٦٩٢ - وَإِذَا مَرَرْتَ بِقَبْرِهِ فَاعْقِرْ بِهِ كُومَ الهِجَانِ وَكُلَّ طَرْفٍ سَابِحِ
واتْضَحْ جَوَانِبَ قَبْرِ بِدِمَائِهَا فَلَقَدْ يَكُونُ أَخَا دَمٍ وَذَبَائِحِ
أي: فلقد كان.
وقال الكوفيون: الأصل: وما كانت تتلو الشياطين، ولا يريدون بذلك أن صلة «ما» محذوفة، وهي «كانت» و «تتلو» في موضع الخبر، وإنما قصدوا تفسير المعنى، وهو
323
نظير: «كان زيد يقوم» المعنى على الإخبار، وبقيامه في الزمن الماضي، وقرأ الحسن والضحاك «الشياطون» إجراء له مجرى جمع السَّلامة، قالوا: وهو غلط. وقال بعضهم: لحن فاحش.
وحكى الأصمعي «بُسْتَانُ فُلاَنٍ حَوْلَهُ بساتون» وهو يقوي قراءة الحسن.
قوله تعالى: ﴿على مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ فيه قولان:
أحدهما: أنه على معنى «في»، أي: في زمن ملكه، والمُلْكُ هنا شَرْعه.
والثاني: أن يضمن تتلوا معنى تَتقوَّل أي: تقول على ملك سليمانن وتَقَوَّل يتعدى بعلى، قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل﴾ [الحاقة: ٤٤].
وهذا الثاني أولى، فإن التجوّز في الأفعال أولى من التجوّز في الحروف، وهو مذهب البصْريين كما تقدم وإنما أحْوَجَ إلى هذين التأويلين؛ لأن تلا إذا تعدَّى ب «على» كان المجرور ب «على» شيئاً يصحّ أن يتلى عليه نحو: تلوت على زيد القرآن، والملك ليس كذلك.
قال أبو مسلم: «تتلو» أي: تكذب على ملك سليمان يقال: تلا عليه: إذا كذب وتلا عنه إذا صدق. وإذا أبهم جاز الأمران.
قال ابن الخطيب: أي يكون الذي كانوا يخبرون به عن سليمان مما يتلى ويقرأ فيجتمع فيه كل الأوصاف، والتلاوة: الاتباع أو القراءة وهو قريب منه.
قال أبو العباس المقرىء: و «على» ترد على ثلاثة أوجه:
الأول: بمعنى «في» كهذه الآية.
وبمعنى «اللام»، قال تعالى
﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ﴾ [الأنعام: ١٥٤] أي: للذي.
وبمعنى «» من «، قال تعالى: ﴿الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ﴾ [المطفيين: ٢] أي: من الناس يستوفون.
و»
سليمان «علم أعجمي، فلذلك لم ينصرف.
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى:»
وفيه ثلاثة أسباب: العُجْمة والتَّعريف والألف والنون «، وهذا إنما يثبت بعد دخول الاشتقاق فيه، والتصريف حتى تعرف زيادتها، وقد تقدَّم أنهما لا يَدْخُلان في الأسماء الأعجميّة، وكرر قوله:» وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ «بذكره ظاهراً؛ تفخيماً له، وتعظيماً؛ كقوله: [الخفيف]
324
٦٩٣ - لا أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ.......................
وقد تقدم تحقيق ذلك.

فصل في المراد بقوله تعالى: واتبعوا» المراد بقوله: «وَاتَّبَعُوا» هم اليهود.


فقيل: هم الذين كانوا في زمن محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقيل: هم الذين كانوا في زمن سليمان صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من السَّحَرة؛ لأن أكثر اليهود ينكرون نبوّة سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ويعدونه من جُمْلة الملوك في الدنيا، وهؤلاء ربما اعتقدوا فيه أنه إنما وجد الملك العظيم بسبب السحر.
وقيل: إنه يتناول الكل وهو أولى.
قال السّدي: لما جاءهم محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عارضوه بالتوراة فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والفرقان، فنبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب «آصف» وسِحْر «هاروت وماروت» فلم يوافق القرآن، فهذا هو قوله تعالى: ﴿وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ. واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أخبر عنهم بأنهم كتب السّحر.
واختلفوا في المراد من الشياطين.
فقال المتكلمون من المعتزلة: هم شياطينُ الإنس، وهم المتمرِّدون في الضلال؛ كقول جرير: [البسيط]
٦٩٤ - أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانُ مِنْ غَزَلِي وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانَا
وقيل: هم شياطين الإنس والجن.
قال السدي: إن الشياطين كانوا يسترقون السَّمع، ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلقونها إلى الكَهَنَةِ، وقد دوّنها في كتب يقرءونها ويعلمونها الناس، وفشا ذلك في زمن سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقالوا: إن الجنّ تعلم الغيب، وكانوا يقولون: هذا علم سليمان، وما تم له ملكه إلاَّ بهذا العلم، سخّر الجن والإنس [والطير] والريح التي تجري بأمره.
وأما القائلون بأنهم شياطين الإنس فقالواك روي أن سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان قد دفن كثيراً من العلوم التي خصّه الله تعالى بها تحت سرير ملكه حرصاً على أنه
325
إن هلك الظَّاهر منها يبقى ذلك المدفون، فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السِّحْر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه، ثم بعد موته واطّلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان، وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه إلاّ بسبب هذه الأشياء.

فصل في الباعث على نسبتهم السحر لسليمان


إنما أضافوا السِّحْر إلى سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لوجوه:
أحدها: أضافوه تفخيماً لشأنه، وتعظيماً لأمره، وترغيباً للقوم في قبول ذلك منهم.
وثانيها: أن اليهود كانوا يقولون: إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب السّحر.
وثالثها: أنه تعالى لما سخر الجن لسليمان، فكان يخاطلهم، ويستفيد منهم أسراراً عجيبة غلب على الظنون أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ استفاد السحر منه فقوله تعالى: «وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ» تنزيه له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن الكفر، وذلك بدلّ على أن القوم نسبوه إلى الكُفْرِ السحر، فروي عن بعض أَحْبَار اليهود أنهم قالوا: ألا تعجبون من محمد عليه الصَّلاة والسَّلام يزعم أن سليمان كان نبياً وما كان إلا ساحراً، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي أن السَّحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان، فبرأه الله تعالى من ذلك، وبين أن الذي برأه الله منه لاصق بغيره، وهو قوله تعالى: «وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ».
هذه الواو عاطفة جملة الاستدراك على ماقبلها.
وقرأ ابن عامر، والكسائي وحمزة بتخفيف «لكن» ورفع ما بعدها، والباقون بالتشديد، والنصب وهو واضح.
وأما القراءة الأولى، فتكون «لكن» مخففة من الثقيلة جيء بها لمجرّد الاستدراك، وإذا خففت لم تعمل عند الجمهور ونٌقِل جواز ذلك عن يونس [والأخفش. وهل تكون عاطفة؟ الجمهور على أنها تكون عاطفة إذا لم يكن معها «الواو»، وكان ما بعدها مفرداً وذه يونس] إلاَّ أنها لا تكون عاطفةً وهو قوي، فإنه لم يسمع في لسانهم: ما قام زيد لكن عمرو، وإن وجد ذلك في كتب النحاة فمن تمثيلاتهم، ولذلك لم يمثل بها سيبويه رَحِمَهُ اللهُ إلا مع الواو وهذا يدل على نفيه.
وأما إذا وقعت بعدها الجمل فتارة تقترن بالواو، وتارة لا تقترن.
326
قال زهير: [البسيط]
٦٩٥ - إنَّ ابْنَ وَرْقَاءَ لاَ تُخْشَى بَوَادِرُهُ لَكِنْ وَقَائِعُهُ في الحَرْبِ تُنتَظَرُ
وقال الكسائي والفراء: الاختبار تشديدها إذا كان قبلها «واو» وتخفيفها إذا لم يكن، وهذا جنوح منهما إلى القول بكونها حرف عَطْف، وأبعد من زعم أنها مركّبة من ثلاثة كلمات: لا النافية، وكاف الخطابن وإن التي للإثبات، وإنما حذفت الهمزة تخفيفاً.
قوله: «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» «الناس» مفعول أول، و «السِّحْر» مفعول ثان، واختلفوا في هذه الجملة على خمسة أقوال:
أحدها: أنها حال من فاعل «كفروا» أي مُعَلِّمين.
الثاني: أنها حال من الشياطين، وردّه أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى بأن «لكن» لا تعمل في الحال، وليس بشيء فإن «لكن» فيها رائحة الفعل.
الثالث: أنها في محلّ رفع على أنها خبر ثان للشياطين.
الرابع: أنها بَدَلٌ من «كفروا» أبدل الفعل من الفعل.
الخامس: أنها استئنافية، أَخْبر عنهم بذلك، وهذا إذا أعدنا الضمير من «يعملون» على الشَّيَاطين.
أما إذا أعدناه على «الذين اتَّبَعُوا ما تتلو الشَّياطين» فتكون حالاص من فاعل «اتبعوا».
أو استئنافية فقط.
والسِّحْر: كلّ ما لَطف ودَقَّ سِحْرُهُ، إذا أَبْدَى له أمرأ يدقُّ عليه ويخفى.
قال: [الطويل]
٦٩٦ -................... أَدَاءُ عَرَانِي مِنْ حُبَابِكِ أمْ سِحْرُ
ويقال: سَحَرَهُ: أي خَدَعَهُ وعلَّله؛ قال امرؤ القيس: [الوافر]
327
أي: نُعَلَّلُ، وهو في الأصل: مصدر يقال: سَحَرَهُ سِحْراً، ولم يجىء مصدر ل «فَعَلَ» يَفْعَلُ على فِعْلٍ إلا سِحْراً وَفِعْلاً.
والسَّحر بالنصب هو الغذاء لخائه ولطف مَجَاريه، والسّحر هو الرئة وما تعلق بالحُلْقُوم [ومنه قول عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها توفي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين سحري ونحري] وهذا أيضاً يرجع إلى معنى الخفاء.
ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين﴾ [الشعراء: ١٥٣] ﴿مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ [الشعراء: ١٥٤]، ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا.
وقال تعالى: ﴿فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم﴾ [الأعراف: ١١٦].
وقال تعالى: ﴿وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى﴾ [طه: ٦٩]، والسّحر في عرف الشرع مختصّ بكل أمر يخفى سببه، ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التَّمويه والخداع، وهو عند الإطلاق يذم فاعله، ويستعمل مقيداً فيما يمدح وينفع، فقال رسول الله صلى الله عليه «إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً».
فسمى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعض البيان سحراً؛ لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه، ويبلغ عبارته، فعلى [هذا] يكون قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً» خرج مخرج المدح.
وقال جماعة من أهل العلم: خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة، إذ شبهها بالسّحر يدلّ عليه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ بَعْضٍ».
328
وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ الثَّرْثَارُونَ المُتَفَيْهِقُونَ».
[الثرثرة: كثرة الكلام وتردده، يقال: ثرثر الرجل فهو ثَرْثار مِهْذَار والمتفيهق نحوه] قال ابن دريد: فلان يتفيهق في كلامه إذا توسّعوتنطَع، قال: «وأصله الفَهْقُ، وهو الامتلاء كأنه ملأ به فمه».
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان، فقالا: أما قوله صلى لله عليه وسلم: «إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً»، فالرجل عليه الحق وهو ألحن بالحُجَج من صاحب الحقّ [فيسحر] القوم ببيانهن فيذهب بالحق، وهو عليه، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسان ما لم تخرج إلى جدّ الإسهاب والإطناب، وتصوير الباطل في صورة الحق.
فإن قيل: كيف يجوز أن يسمى ما يوضح إظهار الحقّ سِحْراً، وهو إنما قصد إظهار الخفي لا إخفاء الظاهر، ولفظ السحر إنما يفيد الظاهر؟
فالجواب: إنما سمي السَحر سحراً لوجهين:
الأول: أن ذلك القَدْر لِلُطْفه وحسنه استمال القلوب، فأشبه السّحر الذي يستميل القلوب من هذا الوجه.
الثاني: أنَّ القادر على البيان يكون قادراً على تحسين ما يكون قبيحاً، وتقبيح ما يكون حسناً فأشبه السحر من هذا الوجه.

فصل في ماهية السحر


قال بعض العلماء: إن السِّحر تخيُّل لا حقيقة له، لقوله تعالى: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى﴾ [طه: ٦٦].
وقيل: إنه حقيقة؛ لأنَّ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سحره لبيد بن الأعصم فإن السحر أخرج من بئر، وحلت عقوده، وكلما انحلت عقدة خفَّ عنه عليه السلام إلى أن سار كما نشط من عقال.
329
وذهب ابن عمر إلى «خيبر» ليخرص ثمرها فسحره بعض اليهود فانكشفت يده، فأجلاهم عمر رضي الله تعالى عنه وجاءت امرأة لعائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها فقالت: يا أم المؤمنين ما على المرأة إذا عقلت بيرها، فقالت عاشئة: ليس عليها شيء، فقالت: إني عقلت زوجي عن النساء، فقالت عائشة: أخرجوا عني هذه الساحرة.
وأجابوا عن الآية بأنها لا تمنع بأنَّ من السحر ما هو تخيّل، وغير تخيل.
فإن قيل: إن الله تعالى قال في حقَّه عليه السَّلام: «واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» فكيف أثر فيه السحرُ؟
فالجواب أن قوله تعالى: ﴿والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾ [المائدة: ٦٧] المراد به عصمة القلب والإيمان لا عصمة الجسد عما يرد عليه من الأمور الحادثة الدنيوية، فإنه عليه السلام قد سحر وكسرت رباعيته، ورُمي عليه الكرش والثرب، وآذاه جماعة من قريش.
قال ابن الخطيب: السِّحر على أقسام:
الأول: سحر الكلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم، ومنها يصدر الخير والشر والفرح والسرور والسعادة والنحوسة، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مبطلاً لمقالتهم ورادًّا عليهم وهم ثلاث فرق:
الاولى: الذين زعموا أن الأفلاك والكواكب واجبة في ذواتها، وأنه لا حاجة بها إلى موجد ومدبر وخالق، وهي المدبّرة لعالم الكون والفساد، وهم الصَّابئة الدهرية.
والفريق الثاني: القائلون بإلاهية الأفلاك، وقالوا: إنها هي المؤثّرة للحوادث باستدارتها وتحرّكها، فعبدوها وعظّموها، اتخذوا لكل واحد منهما هيكلاً مخصوصاً وصنماً معيناً، واشتغلوا بخدمتها، فهذا دين عبدة الأصنام والأوثان.
والفريق الثالث: الذين أثبتوا لهذه الأفلاك والنُّجوم فاعلاً مختاراً خلقها وأجدها بعد العدم إلاَّ أنهم قالوا: إن الله تعالى عَزَّ وَجَلَّ ّ أعطاهم قوة عالية نافذة في هذا العالم، وفوض تدبير هذا العالم إليها.
النوع الثاني: سحر أصحاب الأَوْهَام، والنفوس القوية.
النوع الثالث: الاستعانة بالأرواح الأرضية.
واعلم أن القول بالجنّ مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة.
أما أكابر الفلاسفة فإنهم لم ينكروا القول به إلا أنهم سمّوها بالأرواح الأرضية،
330
وهي في أنفسها مختلفة منها خيرة، ومنها شريرة، فالخيرة هم مؤمنو الجن، والشريرة هم كفار الجن وشياطينهم.
النوع الرابع: التخيُّلات والأخذ بالعيون، وذلك أن أغلاط البَصَرِ كثيرة، فإن راكب السَّفينة ينظر السفينة واقفة والشَّط متحركاً، وذلك يدلّ على أن السَّاكن متحرك والمتحرك يُرَى ساكناً، والقطرة النازلة ترى خطّاً مستقيماً، والذّبالة التى تدار بسرعة ترى دائرة، والعنبة ترى فى الماء كبيرة كالأجَّاصة، والشخص الصغير يرى فى الضَّباب عظيماً.
النوع الخامس: الأعمال العجيبة التى تظهر من تركيب الآلات على النُّصُب الهندسية مثل صورة فارس على فرس يده بُوق، فإذا مضت ساعة من النهار صوت بالبوق من غير أن يسمه أحد، ومثل تصاوير الروم على اختلاف أحوال الصور من كونها ضاحكة وباكية، حتى ييفرق فيها بين ضحك السرور، وضحك الخَجلِ، وضحك الشَّامت، وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب، ومن هذا الباب تركيب صندوق السَّاعات، ويندرج فى هذا الباب علم جَرَّ الأثقال وهو أن يجر ثقلاً عظيماً بآلة خفيفة سهلة، وهذا فى الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر؛ لأن لها أسباباً معلومة يقينية من اطّلع عليها قدر عليها.
النوع السادس: الاستعانة بخواصّ الأدوية المبلّدة المزيلة للعقل والدّخن المسكرة.
النوع السابع: تعليق القلب وهو أن يدعي السَّاحر أنه يعرف الاسم الأعظم، وأن الجن تطيعه، وينقادون له، فإذا كان السامع ضعيف العَقْل قليل التمييز اعتقد أنه حق، وتعلّق قلبه بذلك، وحصل فى نفسه نوع من الرُّعب والخوف، فحينئذ يُمكّن الساحر من أن يفعل به حينئذ ما شاء.

فصل فى مذهب الشافعي فى السحر


حكي عن الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه أنه قال: الساحر يخيل ويمرض ويقتل وأوجب القصاص على من يقتل به فهو من عمل الشيطان يتلقَّاه الساحر منه بتعليمه إيَّاه، فإذا تلقاه منه استعمله فى غيره.
وقيل: إنه يؤثر فى قَلْبِ الأعيان، والأصح أن ذلك تخييل.
قال: تعالى: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى﴾ [طه: ٦٦]، لكنه يؤثر فى الأبدان بالأمراض والمت والجنون، وللكلام تأثير فى الطِّباع والنفوس، كما إذا سمع الإنسان ما يكره فيحمرّ [وربما يحمّ منه} ويغضب وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العلَل التي تؤثر فى الأبدان.
331

فصل فى خرق الساحر للعادات


قال القرطبى رَحِمَهُ اللهُ تعالى: قال علماؤنا: لا ينكر أن يظهر على يد السّاحر خَرْقُ العادات مما ليس فى مقدور البشر من مرض وتفريق، وزوال عقل وتَعْويج عُضُو، إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد.
قالوا: ولا يعبد فى السِّحر أن يًسْتَدِقّ جسم السَّاحر حتى [يلج} فى الكُوَّات والانتصاب على رأس قَصَبَةٍ، والجري على خيط متسدق، والطيران فى الهواء، والمشي على الماء، وركوب كل وغير ذلك.
ولا يكون السحر علة لذلك، ولا موجباً له، وإنما [يخلق] الله تعالى هذه الاشياء، ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والرِّي عند شرب الماء [روى سفيان عن عمار الدهنى أن ساحراً كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل، ويدخل فى اسْت الحمار، ويخرج من فيه، فاستل جندب السيف فقلته.
332
هذا هو جندب بن كعب الأسدي ويقال: البجلي وهو الذى قال فى حقه النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «يكُونُ فى أُمَّتي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُنْدب يَضْرِبُ ضَرْبَةً بالسَّيْفِ يَفْرُقُ فيها بَيْنَ الحَقّ والبَاطِلِ» فكانوا يرونه جندباً هذا قاتل السّاحر.
قال علي بن المديني: وروى عنه حراثة من مُضَرَّب].

فصل في إمكان السحر


واختلف المسلمون في إمكان السحر، فأما المعتزلة فقد أنكروه أعنى: الأقسام الثلاثة الأولى ولعلهم كَفّروا من قال بها وبوجودها.
أما أهل السّنة فقد جَوّزوا أ، يقدر الساحر على أن يطير فى الهواء، ويقلب الإنسان حماراً، والحمار إنساناً؛ إلاَّ أنهم قالوا: إن الله تعالى هو الخالق لهذه الأشياء عندما يقرأ الساحر كلماتٍ معينة، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ [البقرة: ١٠٢].
وقد روي أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سُحِرَ، وأن السحر عمل فيه حتى قال: «إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إلَيَّ أنِّي أقُولُ الشَّيْءَ وَأَفْعَلُهُ وَلَمْ أَفْعَلْهُ».
وأن امرأة يهودية سحرته، وجعلت ذلك السحر تحت رَاعُونَةِ البئر، فلما استخرج
333
ذلك زال عن النبى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك العارض، ونزلت المُعَوِّذَتَان بسببه.
وروي أن امرأة أتت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها: فقالت لها: إني ساحرة فهل لي من توبة؟ فقالت عائشة: وما سحرك؟ فقالت: صرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ب «بابل» أطلب علم السحر، فقالا لي: يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت، فقالا لي: اذهبي فَبُولِي على ذلك الرماد، فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت لا أفعله وجئت إليهما فقلت قد فعلت، فقالا لي ما رأيت لما فعلت؟ فقلت: ما رأيت شيئاً فقالا لي: أ، ت على رأس أمر، فاتقي الله ولا تفعلي فأبيت فقالا لي: اذهبي فافعلي فذهبت ففعلت، فرأيت كأن فارساً مقنّعاً بالحديد قد خرج من فرجي، فصعد إلى السماء فجئتهما فأخبرتهما فقالا: إيمانك قد خرج عنك، وقد أحسنت السحر.
فقلت: وما هو؟ قالا: ما تريدين شيئاً فَتُصَوّريه فى وَهْمك إلا كان، فصورت في نفسي حباً من حِنْطة فإذا أنا بحبّ فقلت: ازرع فانزرع، فخرج من ساعته سُنْبُلاً فقلت: انطحن من ساعته، فقلت: انخبز فانخبز، وأنا لا أريد شيئاً أصوره فى نفسي إلا حصل، فقالت عائشة: ليس لك توبة.

فصل فى أنّ معجزات الله ليست من قبيل السّحر


قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله عند إنزال الجراد والقمل، والضفادع، وفلق البحر، وقلب العصا، وإحياء الموتى، وإنطاق العَجْمَاء وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام، والفرق بين السحر والمعجزة أن السحر يأتي بن الساحر وغيره، وقد يكون جماعة يعرفونه، ويمكنهم الإتيان به فى وقت واحد، والمعجزة لا يمكن الله أحداً أن يأتي بمثلها.

فصل في أن العلم بالسحر ليس بمحظور


قال ابن الخطيب: اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس قبيحاً ولا بمحظور؛ لأن العلم لذاته شريف وأيضاً لقوله تعالى: «هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ» [الزمر: ٩] ولأن الساحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بين وبين المُعْجزة، والعلم بكون المعجز معجزاً واجب، [وما يتوقّف الواجب عليه فهو واجب، فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً، وما يكون واجباً] كيف يكون حراماً وقبيحاً. [ونقل بعضهم وجوب نقله عن المفتي حتى يعلم ما يقتل فيه وما لا يقتل فيفتي به وجوب القصاص].
334

فصل في أمور لا تكون من السرح ألبتة


قد تقدم عن القرطبي قوله: أجمع المسلمون على أنه ليس فى السحر ما يفعل الله عند إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى [وإنطاق العجاء]، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون، ولا يفعله الله عند إرادة الساحر.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وإنما منعنا ذلك بالإجماع، ولولاه لأجزناه نقله القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى فى تفسيره، وأورد عليه قوله تعالى عن حبال سحرة فرعون وعصيهم: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى﴾ [٦٦]، فأخبر عن إقلاب العِصِيّ والحبال بأنها حيّات.

فصل فى أن الساحر كافر أم لا؟


اختلف العلماء فى الساحر هل يكفر أو لا؟
اعلم أنه لا نزاع في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبّرة لهذا العالم، وهي [الخالقة] لما فيه من الحوادث، فإنه يكون كافراً مطلقاً، وهو النوع الأول من السحر.
وأما النوع الثاني: وهو أن يعتقد [أن الإنسان تبلغ روحه] فى التصفية والقوة إلى حيث يقدر بها على إيجاد الأجسام والحياة والقدرة وتغيير البِنْيَةِ والشكل، [فالظاهر] إجماع الأمة أيضاً على تكفيره.
وإما النوع الثالث: وهو أن يعتقد السَّاحر أنه [بلغ] فى التصفية وقراءة الرّقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل خرق العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل، والمعتزلة كفروه وغيرهم لم يكفروه.
فإن قيل: إن اليهود لما أضافوا السِّحر إلى سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال الله تعالى تنزيهاً له عنهك ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ﴾ [البقرة: ١٠٢] فظاهر الآية يقتضي أنهم كفروا لأجل أنهم كانوا يعلمون السحر؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، وتعليم ما لا يكون كفراً لا يوجب الكفر، وهذا يقتضي أنّ السحر على الإطلاق كفر، وأيضاً قوله: «عَلَى المَلَكَيْنِ» ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ﴾ [البقرة: ١٠٢].
قلنا: حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة، فيحمل على سحر من يعتقد
335
إلاهية النجوم وأيضاً فلا نسلم أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلّية، بل المعنى أنهم كفروا، وهم مع ذلك يعلمون السحر.

فصل فى سؤال الساحر حلّ السحر ع المسحور


قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور؟
اختلفوا: قال سعيد بن المسيّب: يجوز. ذكره «البخاري»، وإليه مال المزني، وكرهه الحسن البصري.
وقال الشعبي: لا بأس بِالنُّشْرَةِ.
قال ابن بَطّال: وفى كتاب وهب بن منبه: أن يأخذ سبع ورقات من سِدْرٍ أخضر ويدقه بين حَجَرين، ثم يضربه بالماء، ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به، فإنه يذهب عنه كلّ ما به إن شاء الله تعالى، وهو جيّد للرجل إذ حُبِسَ عن أهله.

فصل في أن الساحر هل يتقل أم لا؟


هل يجب قتل الساحر أم لا.
أما النوعان الأولان فلا شكّ في [قتل] معتقدهما.
قال ابن الخطيب: يكون كالمرتد يُسْتَتَاب فإن أصر قتل.
وروي عن مالك وأبي حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهما توبته.
لنا أنه إن أسلم فيقبل إسلامه لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ».
وأما النوع الثالث: فإن اعتقد أن إتيانه به مباح كفر؛ لأن حكم على المحظور بكونه مباحاً، وإن اعتقد حرمته، فعند الشَّافعي رضي الله عه حكمه حكم الجِنَاية، إن قال: إني سحرته وسحري يَقْتُلُ غالباً، يجب عليه القَوَدُ.
وإن قال: سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل، فهو شبه عمد.
وإن قال: سحرت غيره فوافق اسمه فهو خطأ يجب عليه الدِّيَةُ مخففة في ماله؛ لأنه ثبت بإقراره إلاّ أن تصدقه العاقلة، فجينئذ يجب عليهم. هذا تفصيل مذهب الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه.
وروى الحسن بن زياد عن أبى حنيفة رَحِمَهُ اللهُ أنه قال يقتل السَّاحر إذا علم أنه ساحر، ولا يستتاب ولا يبقل قوله: إني أترك السحر وأتوب منه، فإذا أقر أنه ساحر فقد حلّ دمه، وإن شهد شاهدان على أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا
336
يُسْتَتَاب، وإن أقر بأني كنت أسحر مرة، وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه، ولم يقتل.
وحكى محمد بن شجاع عن علي الرازي قال: سألت أبا يوسف عن قول أبي حنيفة فى السَّاحر: يقتل ولا يُسْتَتَاب لم يكن ذلك بمنزلة المرتد، فقال الساحر جمع مع كفره السعي فى الأرض بالفساد، ومن كان كذلك إذا قَتَل قُتل. واحتج أصحاب الشافعي بأنه لما ثبت أن هذا النوع ليس بكفر، فهو فسق، فإن لم يكن جناية على حق الغير كان فيه التفضيل المتقدم.
وأيضاً فإن ساحر اليهود لا يقتل؛ لأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سحره رجل من اليهود يقال له: لبيد من أعصم، وامرأة من يهود «خيبر» يقال لها: زينب فلم يقتلهما، فوجب أن يكون المؤمن كذلك لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى المُسْلِمِينَ».
واحتج أبو حنيفة بما روى نافع عن ابن عمر رضى الله عنه أن جارية لحفصة سرحتها، وأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد، فقلتها فبلغ ذلك عثمان، فأنكره فأتاه ابن عمر وأخبره أمرها فكأن عثمان إنما أنكر ذلك، لأنها قتلت بغير إذن، وبما روى عمرو بن دينار أن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: «اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سَوَاحر».
والجواب: لعل السحرة الذين قتلوا كانوا من الكفرة، فإن حكاية الحال تكفي في صدقها صورة واحدة، وأما بقية [أنواع] السحر من الشَّعْوذة، والآلات العجيبة المبينةن على النسب الهندسية، وأنواع التخويف، والتقريع والوهم، فكل ذلك ليس بكفر، ولا يوجب القتل.
قوله: «وَمَا أُنْزِلَ» فيه أربعة أقوال:
أظهرها: أن «ما» موصولة بمعنى «الذي» محلّها النصب عطفاً على «السحر»، والتقدير: يعلّمون الناس السحر، واتلنزل على الملكين.
الثاني: أنها موصولة أيضاً، ومحلها النصب لكن عطفاً على «مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ»، والتقدير: واتبعوا ما تتلو الشياطين، وما أنزل على الملكين. وعلى هذا فما بينهما اعتراض، ولا حاجة إلى القول بأن في الكلام تقديماً وتأخيراً.
الثالث: أن «ما» حرف نفي، والجملة معطوفة على الجملة المفنية قَبْلَها، وهي «وما كفر سُلَيْمَان» والمعنى: وما أنزل على الملكين إباحة السحر.
قال القرطبي: و «ما» نافية، والواو للعطف على قوله: [ «وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ»،
337
وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل، وميكائيل بالسحر، فنفى الله ذلك.
وفي الكلام تقديم وتأخير والتقدير: وما كفر سليمان]، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السِّحر ببابل هَارُوت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشَّيَاطين فى قوله: «وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَُوا» قال: وهذا أولى ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر استخراج الشياطين للطافة جوهرهم، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء، وخاصة فى حالة طَمْثهن؛ قال الله تعالى:
﴿وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد﴾ [الفلق: ٤].
فإن قيل: كيف يكون اثنان بدلاً من الجميع والبدل إنما يكون على حد المبدل منه؟ فالجواب من وجوه ثلاثة:
الاول: أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع؛ كما قال تعالى: ﴿فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ [النساء: ١١].
الثاني: أنهما لما كانا الرأس في التعليم نصّ عليهما دون اتباعهما كقوله تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ [المدثر: ٣٠].
الثالث: إما خُصَّا بالذكر من بينهم لتمرّدهما، كتخصيصه تعالى النخل [والرمان] فى قوله: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ [الرحمن؛٦٨] فقد ينص على بعض أشخاص العموم إما لشرفه؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي﴾ [آل عمران: ٦٨] وإما لطيبه كقوله: ﴿فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ وإما لأكثريته؛ كقوله صلى الله عليه سلم: «جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَتُرَابُهَا طَهُوراً» وإما لتمردهم كهذه الآية.
الرابع: أن محلّها الجر عطفاً على «ملك سليمان»، والتقدير: افتراء على ملك سليمان وافتراء على ما أنزل على الملكين، وهو اختيار أبي مسلم.
وقال أبو البقاء: «تقديره» وعلى عهد الّذي أنزل.
واحتج أبو مسلم: بأن السحر لو كان نازلاً عليهما لكان مُنْزله هو الله تعالى، وذلك غير
338
جائز، كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا السِّحر، كذلك في الملائكة بطريق الأولى.
وأيضاً فإن تعليم السحر كفر بقوله تعالى: ﴿ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر﴾.
وأيضاً فإنما يضاف السحر إلى الكفرة والمردة، فكيف يضاف إلى الله تعالى ما ينهى عنه؟ والمعنى: أن الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان مع أن ملك سليمان كان مبرأ عنه، فكذلك نسبوا ما أنزل على الملكين إلى السحر، مع أن المنزل عليهما كانا مبرّأين عن السحر؛ لأن المنزل عليهما هو الشرع والدين، وكانا يعلمان الناس ذلك مع قولهما: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ﴾ توكيداً لبعثهم على [قبوله] والتمسّك به، فكانت طائفة تتمسّك، وأخرى تخالف.
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والأول أولى؛ لأن عطف «وَمَا أُنْزِلَ» على ما يليه أولى من عطفه على مابعد عنه إلا لدليل، أما قوله: «لو كان منزلاً عليهما لكان مُنَزِّلهُ هو الله تعالى».
قلنا: تعريف صفة الشيء قد يكون لأجل الترغيب فى إدخاله في الوجود، وقد يكون لأجل أن يقع الاحتراز عنه؛ قال: [الهزج]
٦٩٧ - أَرَانَا مُوضِعِينَ لأَمْرٍ غَيْبٍ ونُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وبِالشَّرَابِ
٦٩٨ - عَرَفْتُ الشَّرَّ لا لِلشَّرْرِ لَكِنُ لِتَوَقِّيهِ
وقوله: لا يجوز بعثة الأنبياء [لتعليم السحر، فكذا الملائكة].
قلنا: الغرض من ذلك التعليم التَّنبيه على إبطاله.
وقوله: «تعليم السِّحْر كفر».
قلنا: إنه واقعة حال فيكفي في صدقها سورة واحدة.
وقوله: يضاف السحر للكفرة والمردة.
قلنا: فرق بين العمل والتعليم، فيجوز أن يكون العمل منبهاً عنه، والتعليم لغرض التنبيه على فساده فلا يكون مأموراً به.
والجمهور على فتح لام «المَلَكين» على أنهما من الملائكة.
وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن والضحاك بكسرها على أنهما رجلان من الناس، وسيأتي تقريره.
339
قوله: «بِبَابِلَ» متعلق ب «أنزل»، والباء بمعنى «في» أي: في «بابلط. ويجوز أن يكون فى محلّ نصب على الحال من المَلَكين، أو من الضمير في» أنزل «فيتعلق بمحذوف. ذكر هذين الوجهين أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ.
و»
بابل «لا ينصرف للعُجْمة والعلمية، فإنها اسم أرض، وإن شئت للتأنيث والعلمية وسميت بذلك قيل: لِتَبَلْبُلِ السنة الخلائق بها، وذلك أن الله تعالى أمر ريحاً، فحشرتهم بهذه الأرض، فلم يدر أحد ما يقول الآخر، ثم فرقتهم الريح في البلاد فتكلم كل واحد بلغة، والبَلْبَلَة التفرقة.
وقيل: لما أُهْبِط نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ نزل فبنى قرية، وسماها»
ثمانين «، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة.
وقيل: لتبلبل ألسنة الخلق عند سقوط صرح نمرود.
وهي بابل»
العراق «.
وقال ابن مسعود:»
بابل «أرض» الكوفة «.
وقيل:»
جبل نهاوَند «.
قوله:»
هَارُوتَ وَمَارُوتَ «الجمهور على فتح تائها.
واختلف النحاة في إعرابها، وذلك مبني على القراءتين في»
الملكين «، فمن فتح لام» الملكين «، وهم الجمهور كان في هاروت وماروت أربعة أوجه:
أظهرها: أنها بدل من»
الملكين «، وجُرَّا بالفتحة لأنهما ينصرفان للعجمة والعلمية.
الثاني: أنهما عطف بيان لهما.
الثالث: أنهما بدل من»
الناس «في قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» وهو بدل بعض من كل، أو لأن أقل الجمع اثنان.
الرابعك أنهما بدل من «الشياطين» في قوله: «ولكن الشياطين كفروا» في قراءة من نصب، وتتوجيه البدل كما تقدم.
وقيل: هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجن، فيكون بدل كل من كل، والفتحة على هذين القولين اللنصب.
وأما من قرأ برفع «الشياطين»، فلا يكون «هاروت وماروت» بدلاً منهم، بل يكون منصوباً في هذا القول على الذم أي: أذم هاروت وماروت من بين الشياطين كلها؛ كقوله: [الطويل]
340
٦٩٩ - أقَارعُ عَوْشفٍ لا أُحَاوِلُ غَيْرَهَا وُجُوهَ قُرُودٍ تَبْتَغِي مَنْ تُجَادِعُ
أي: أذم وجود قرود، ومن كسر لامهما، فيكون بدلاً منهما كالقول الأول إلاَّ إذا فسر الملكان بداود وسليمان عليهما الصلاة والسلام كما ذكره بعض المفسرين، فلا يكونان بدلاً منهما، بل يكونان متعلّقين بالشياطين على الوجيهن السَّابقين في رفع الشياطين ونصبه، أو يكونان بدلاً من «الناس» كما تقدم.
وقرأ الحسن «هَارُوتُ وماروتُ» برفعهما، وهما خبر لمبتدأ محذوف أي: هما هاروت وماروت، ويجوز أن يكون بدلاً من «الشياطين» الأولى وهو قوله: «ما تَتْلُو الشياطين»، أو الثاني على قراءة من رفعه.
ويُجْمَعَان على هَوَاريت ومَوَاريت، وهَوَارتة ومَوَارتة، وليس من زعم اشتقاقهما من الهَرْتِ والمَرْتِ وهو الكسر بمصيب لعدم انصرافهما، ولو كانا مشتقّين كما ذكر لانصرفا.

فصل في توجيه قراءة فتح اللام


أما القرءاة بفتح لام «الملكين»، فقيل: هما ملكان من السماء اسمهما هاروت وماروت.
وقيل: هما جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام.
وقيل غيرهما.
وأما من كسر اللام فقيل: إنهما اسم لقبيلتين من الجن.
وقيل: هما داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام.
وقيل: هما رجلان صالحان.
وقيل: كانا رجلين ساحرين.
وقيل: كانا علجين أقنعين ب «بابل» يعلمان الناس السحر.
قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ هذه الجملة عطلف على ما قبلها، والجمهور على «يُعَلِّمَان» مضعفاً.
واختلف فيه على قولين:
أحدهما: أنه على بابه من التعليم.
والثاني: أنه بمعنى يعلمان من «أعلم»، فالتضعيف والهمزة متعاقبان.
قالوا: لأن المَلَكين لا يعلمان الناس السحر، إنما يُعْلِمانِهِمْ به، ويَنْهَيَانِهِم عنه،
341
وإليه ذهب طحلة بن مصرف، وكان يقرأ «يُعْلِمَان» من الأعلام.
ومن حكى أن تَعَلَّمْ بمعنى «اعْلَم» ابنُ الأعرابي، وابن الأنباريِّ؛ وأنشدوا قول زُهَيْر: [البسيط]
٧٠٠ - تَعَلَّمَنْ هما لَعَمْرُ اللهِ ذا قَسَماً فَاقْدِرْ بِذَرْعِكَ وَانْظُرْ أَيْنَ تَنْسَلِكُ؟
وقول القُطَامِيُّ: [الوافر]
٧٠١ - تَعَلَّمْ أَنَّ بَِعْدَ الْغَيِّ رُشْداً وَأَنَّ لِذَلِكَ الغَيِّ انْقِشَاعَا
وقول كعب بن مالك: [الطويل]
٧٠٢ - تَعَلَّمْ رَسُولَ اللهِ أَنَّكَ مُدْرِكِي وَأَنَّ وَعِيداً مِنْكَ كَالأَخْذِ بِالْيَدِ
وقول الآخر: [الوافر]
٧٠٣ - تَعَلَّمْ أَنَّهُ لاَ طَيْرَ إِلاَّ عَلَى مُتَطَيِّرٍ وَهُوَ الثُّبُورُ
والضيمر في «يعلمان» فيه قولان:
أحدهما: أنه يعود على هاروت وماروت.
والثانيى: أنه عائد على [الملكين، ويؤيده قراءة أُبَيّ بإظهار الفاعل: «وَمَا يُعَلِّم الملكان».
والأول هو الأصح؛ لأن الاعتماد إنما هو على البدل] دون المبدل منه، فإنه في حكم المطَّرح، فمراعاته أولى؛ تقول: «هِنْدٌ حُسْنُهَا فَاتِنٌ» ولا تقول: «فَاتِنَةٌ» مراعاة لِهِنْد، إلاّ في قليل من الكلام؛ كقوله: [الكامل]
342
وقال الآخر: [الكامل]
٧٠٤ - إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّهَا ورَواحَهَا تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأَعْضَبِ
٧٠٥ - فَكَأَنَّهُ لَهِقُ السَّراة كَأَنَّهُ مَا حَاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ
فراعى المُبْدَلَ منه في قوله: «تَرَكَتْ»، وفي قوله: «مُعَيَّن»، ولو راعى البَدَل، وهو الكثير، لقال «تَرَكَا» و «مُعَيَّنَان» ؛ كقول الآخر: [الطويل]
٧٠٦ - فَمَا كَانَ قَيْسُ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
ولو لم يراع البدل للزم الإخبار بالمعنى عن الجُثَّة.
وأجاب أبو حيان عن البيتين بأن «رَوَاحها وغدوها» منصوب على الظرف، وأن قوله: «مُعَيَّن» خبر عن «حَاجِبَيْهِ»، وجاز ذلك؛ لأن كل اثنين لا يغني أحدهما عن الآخر، يجوز فيهما ذلك؛ قال: [الهزج]
٧٠٧ -.......................... بِهَا الَيْنَان تَنْهَلُّ
وقال: [الكامل]
٧٠٨ - لَكَأَنَّ فِي الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ أَوْ سُنْبُلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ
ويجوز عكسه؛ قال: [الطويل]
٧٠٩ - إِذَا ذَكَرَتْ عَيْنِي الزَّمَانَ الّّذِي مَضَى بِصَحْرَاءَ فَلْجٍ ظَلَّتَا تِكِفَانِ
و «من» زائدة لتأكيد الاستغراق لا للاستغراق؛ لأن «أحداً» يفيده بخلاف: «ما جاء من رجل» فإنها زائدة للاستغراق.
و «أحد» هنا الظاهر أنه الملازم للنفي، وأنه الذي همزته أصل بنفسها.
343
وأجاز أبو القاء أن يكو بمعنى واحد، فتكون همزته بدلاً من الواو.

فصل فيمن قال بأنهما ليسا من الملائكة


القائلون بأنهما ليسا من الملائكة احتجوا بأن الملائكة عليهم السلام لا يليق بهم تعليم السحر، وقالوا: كيف يجوز إنزال الملكين مع قوله: ﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر﴾ [الأنعام: ٨].
وأيضاً لو أنزل الملكين، فإما أن يجعلهما فى صورة الرجلين، أو لا يجعلهما كذلك، فإن جعلهما في صورة الرجلين مع أنهما ليسا برجلين كان ذلك تجهيلاً وتلبيساً على الناس وهو لا يجوز، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن كل واحد من الناس الذي تشاهدهم أنه لا يكون الحقيقة إنساناً، بل يكون ملكاً ن الملائكةن؟ وإن لم يجعلهما في صورة الرجلين قدح ذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً﴾ [الأنعام: ٩].
وأجاب القائلون بأنهما من الملائكة عن الأول بأنا سنبين وجه الحكمة في إنزال [الملكين] لتعليم السحر وعن الثاني: بأن هذه الآية عامة، [وقراءة المَلَكين بفتح اللام متواتورة وتلك] خاصة والخاص مقدم على العام.
وعن الثالث: أن الله تعالى أنزلهما في صورة رَجُلين، كان الواجب على الملكين في زمان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أن يقطعوا على من صروته صورة الإنسان بكونه إنساناً، كما أنه في زمان الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كانالواجب على من شاهد حية الكَلْبي ألاَّ يقطع بكونه من البشر، بل الواجب التوقف فيه.

فصل في فساد رواية الزهرة


رووا قصة الزُّهَرة وما جرى لها الملكين.
ولهم في الزهرة قولان:
أحدهما: أنها الكوكب المعروف.
والثاني: أنها من بنات آدم ومسخت إلى هذا الكوكب.
وقيل: مسخت بها.
قال ابن الخطيب: وهذه الرواية فاسدة مردودة؛ لأنه ليس في كتاب الله تعالى مايدل عليها، بل فيه ما يبطلها من وجوه:
الأول: الدلائل الدالة على عِصْمَةِ الملائكة عليهم السلام من كل المعاصي.
الثاني: أن قولهم: إنهما خُيِّرا بَيْن عذاب الدنيا، وبين عذاب الآخرة فاسد، بل كان
344
الأولى أن يُخَيَّرا بَيْنَ التوبة والعذاب؛ لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره، فكيف يبخل عليهما بذلك؟
الثالث: أن من أعجب الأمور قوله: أنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين، ويدعوان إليه، وهما يعاقبان [ولما ظهر فساد هذا القول فنقول: السبب] في إنزالهما وجوه:
أحدها: أن السحرة كثرت في ذلك الزمان، واستنبطت أبواباً غريبة من السحر، وكانوا يَدَّعُون النبوة، ويتحَدَّون الناس بها، فبعث الله تعالى هذين الملكين لأَجْلِ أن يعلّما الناس أبواب السِّحر حتى يتمكّنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذباً، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد.
وثانيها: أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسّحر متوقّف على العلم بماهية المعجزة، وبماهية السحر، والناس كانوا جاهلين بماهية السِّحر، فلا جرم تعذّرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة، فبعث الله تعالى هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض.
وثالثها: لا يمتنع أن يقال: السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله، والألفة بين أولياء الله كان مباحاً عندهم، أو مندوباً، فالله تعالى بعث مَلَكين لتعليم السِّحر لهذا الغرض، ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما، واستعملوه في الشر، وإيقاع الفُرْقة بين أولياء الله، والألفة بين أعداء الله.
ورابعها: أن تحصيل العلم بكل شيء حسن، ولما كان السِّحر منهياً عنه وجب أن يكون متصوراً معلوماً؟ لأن الذي لا يكون متصوراً يمتنع النهي عنه.
وخامسها: لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها، فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أموراً يقدرون بها على معارضة الجن.
وسادسها: يجز أن يكون ذلك تشديداً في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصّل به إلى اللَّذات العاجلة، ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقّة، فيستوجب به الثواب الزائد، كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال: ﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني﴾ [البقرة: ٢٤٩] فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السّحر، والله أعلم.

فصل في زمن وقوع هذه القصة.


قال بعضهم: هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس عليه الصَّلاة والسلام.
345
قوله: ﴿حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾.
«حتى» : حرف غاية ونصب، وهي هنا بمعنى «إلى»، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» ولا يجوز إظهارها، وعلامة النصب حذف النوت، والتقدير: إلى أن يقولا وهي متعلقة بقوله: «وَمَا يُعَلِّمَانِ»، والمعنى أنه ينتفي تعليمهما أو إعلامهما على ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية، وهي قولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ﴾.
وأجاز أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ أن تكون «حتى» بمعنى «إلا» قال: والمعنى: وما يعلمان من أحد إلاّ أن يقولا وهذا الذي أجاز لا يعرف عن أكثر المتقدمين، وإنما قاله ابن مالك؛ وأنشد: [الكامل]
٧١٠ - لَيْسَ الْعَطَاءُ مِنَ الْفُضُولِ سَمَاحَةً حَتَّى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ
قال: تقديره: إلا أن تجُودَ.
و «حتى» تكون حرف جر بمعنى «إلى» كهذه الآية، وكقوله: ﴿حتى مَطْلَعِ الفجر﴾ [القدر: ٥]، وتكون حرف عطف، وتكون حرف ابتداء فتقع بعدها الجمل؛ كقوله: [الطويل]
٧١١ - فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا بِدَجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ
والغاية معنى لا يفارقها في هذه الأحوال الثلاثة، فلذلك لا يكون ما بعدها إلا غاية لما قبلها: إما في القوة، أو الضعف، أو غيرهما، ولها أحكام أُخر ستأتي إن شاء الله تعالى.
و «إنما» مكفوفة ب «ما» الزائدة، فلذلك وقع بعدها الجملة، وقد تقدم أن بعضهم يجيز إعمالها، والجملة في محلّ نصب بالقول، وكذلك: «فَلاَ تَكْفُر».

فصل في المراد بالفتننة


المراد هاهنا بالفتنة المحنة التي بها يتيمز المطيع عن العاصي، كقولهم: فتنت الذهب بالنار أذا عرض على النار ليتميز الخاصّ عن المشوب، وقد بَيّنا الحكمة في بعثة الملكين لتعليم السحر.
فالمراد أنهما لا يعلمان أحداً السحر ولا يصفانه عن المشوب، وقد بَيْنا الحكمة في بعثة الملكين لتلعيم السحر.
فالمراد أنهما لا يعلمان أحداً السحر ولا يصفانه لأحد، ولا يكشفان له وجوه
346
الاحتيال حتى يبذلا له النَّصيحة فيقولا له: «إِنَّمَا نَحْنُ فَتْنَةٌ» أي: هذا الذي نصفه لك، وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر عن المعجزة، ولكنه يمكنك أن تتوصّل به إلى المفاسد والمعاصي، فإياك أن تستعمله فيما نهيت عنه، أو تتوصل به إلى شيء من الأعراض العاجلة.
قوله تعالى: «فَيَتَعَلَّمُونَ» في هذه الجملة سبعة أقوال:
أظهرها: أنها معطوفة على قوله تعالى: «وما يعلمان» والضمير في «فيتعلّمون» عائد على «أحد»، وجمع حملاً على المعنى، كقوله تعالى: ﴿فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٧].
فإن قيل: المعطوف عليه منفي، فيلزم أن يكون «فيتعلّمون» منفياً أيضاً لعطفه علبيه، وحينئذ ينعكس المعنى. فالجواب ما قالوه، وهو أن قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ﴾، وإن كان منفياً لفظاً فهو موجب معنى؛ لأن المعنى: يعلمان الناس السحر بعد قولهما: إنما نحن فتنة، وهذا الوجه ذكره الزجاج وغيره.
الثَّاني: أنه معطوف على «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السَّحْر» قاله الفراء.
وقد اعترض الزجاج هذا القول بسبب لفظ الجمع في «يعلمون» مع إتيانه بضمير التثنية في «منهما» يعنى: فكان حقه أن يقال: «منهم» لأجل «يعلمون» وأجازه [أبو علي] وغيره، وقالوا: لا يمتنع عطف «فيتعلمون» على «يعلِّمون»، وإن كان التعليم من الملكين خاصّة، والضمير في «منهما» راجع إليهما، فإن قوله: «منهما» إنما جاء بعدم تقدّم ذكر المَلَكَيْنِ.
وقد اعترض على قول الفراء من وجه آخر: وهو أنه يلزم منه الإضمار قبل الذكر، وذلك أن الضمير في «منهما» عائد على الملكين، وقد فرضتم أن «فيتعلمون منهما» عطف على «يعلمون»، [فيكن التقدير: «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فَيَتَعَلَّمُونَ منهما» ] فيلزم الإضمار في «منهما» قبل ذكر المَلَكيْن، وهو اعتراض وَاهٍ فإنهما متقدمان لفظاً، وتقدير تأخرهما لا يضرّ؛ إذ المحذور عَوْدُ الضمير على غير مذكور في اللفظ.
الثالث: وهو أحد قولي سيبويه أه عطف على «كفروا»، فعل في موضع رفع، فلذلك عطف عليه فعل مرفوع.
قال سيبويه: [وارتفع] «فيتعلمون» ؛ لأنه لم يُخْبِرْ عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر فيتعلموا ليَجْعَلا كفره سبباً لتعلم غيره، ولكنه على: كفروا فيتعلمون، وشَرْحُ ما قاله هو أنه يريد أن ليس «فيتعلمون» جواباً لقوله: فلا تكفر فيتنصب في جواب النهي، كما النصب: ﴿فَيُسْحِتَكُم﴾ [طه: ٦١]، بعد قوله: «لاَ تَفْتَرُوا» لأن كُفْرَ من نهياه أن يكفر ليس
347
سبباً لتعلّم من يتعلم. واعترض على هذا بما تقدّم من لزوم الإضمار قبل الذكر، وتقدم جوابه.
الرابع: وهو القول الثاني ل «سيبويه» أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقديرك «فهم يتعلمون»، فعطف جلمة اسمية على فعلية.
الخامس: قال الزَّجَّاج أيضاً: والأجود أن يكون معطوفاً على «يعلّمان فيتعلّمون» فاستغني عن ذكر «يعلمون» على ما في الكلام من الدليل عليه [واعتراض أبو علي قول الزجاج؛ فقال: «لا وجه لقوله: اسغني عن ذلكر» يعلمان «؛ لأنه موجود في النص». وهذا الاعتراض من أبي علي ت حامل عليه لسبب وقع بينهما؛ فإن الزجاج لم يرد أن «فيتعلمون» عطف على «يعلمان» المنفي ب «ما» في قوله: «وما يعلمان» حتى يكون مذكوراً في النص، وإنما أراد أن ثم فعلاً مضمراً يدل عليه قوة الكلام وهو: «يعلمان فيتعلمون» ].
السَّادس: أنه عطف على معنى ما دلّ عليه أول الكلام، والتقدير: فيأتون فيتعلّمون، ذكره الفراء والزجاج أيضاً.
السَّابع: قال أبو البقاء: وقيل: هو مستأنف، وهذا يحتمل أن يريد أنه خبر مبتدأ مضمر كقول سيبويه رَحِمَهُ اللهُ وأن يكون مستقلاً بنفسه غير محمل على شيء قبله، وهو ظاهر كلامه.
قوله: «مِنْهُمَا» متعلّق ب «يعلمون».
و «من» لابتداء الغاية، وفي الضمير ثلاثة أقوال: أظهرها: عوده إلى المَلَكين، سواء قرىء بكسر اللام أو فتحها.
والثاني: يعود على السّحر وعلى المنزل على الملكين.
والثالث: أنه يعود على الفتنة، وعلى الكفر المفهوم من قوله: «فلا تكفر»، وهو قول أبى مسلم.
قوله: «مَا يُفَرِّقُونَ به» الظَّاهر في «ما» أنها موصولة اسمية.
وأجاز أبو البقاء أن تكن نكرة موصوفة، وليس بواضح، ولا يجوز أن تكن مصدرية لعود الضمير في «به» عليها، والمصدرية حرف عند جمهور النحويين كما تقدم غير مَرّة.
و «بَيْنَ الْمَرْءِ» ظرف ل «يُقَرّقُونَ».
والجمهور على فتح ميم «المَرْءِ» مهموزاً، وهي اللغة العالية.
348
وقرأ أين أبي أسحاق: «المُرْء» بضم الميم مهموزاً.
وقرأ الأشهب العقيلي والحسن: «المِرْءُ» بكسر الميم مهموزاً.
فأما الضم فلغة محكية.
وأما الكسر فيحتمل أن يكون لغة مطلقاً، ويحتمل أن يكون للإتباع، وذلك أن في «المرء» لغة وهي أن «فاءه» تَتْبَعُ «لامه»، فإن ضم ضمت، وإن فتح فتحت، وإن كسر كسرت، تقول: «ما قام المُرْءُ» بضم الميم و «رأيت المَرْءَ» بفتحها، و «مررت بالمِرْءِ» بكسرها، وقد يجمع بالواو والنون، وهو شاذ.
قال الحسن في بعض مواعظه: «أحْسِنُوا مَلأَكُمْ أَيُّهَا المَرْؤون» أي: أخلاقكم.
وقرأ الحسن، والزهري «المَرِ» بفتح الميم وكسر الراء خفيفة، ووجهها أنه نقل حركة الهمزة على «الواو» وحذف الهمزة تخفيفاً وهو قياس مطّرد.
وقرأ الزهري أيضاً: «المَرِّ» بتشديد الرَّاء من غير همز، ووجهها أنه نقل حرة الهمزة إلى الرَّاء، ثم رأى الوقف عليها مشدّداً، كما روي عن عصام ﴿مُّسْتَطَرٌ﴾ [القمر: ٥٣] بتشديد الراء ثم أجرى الوَصْل مجرى الوقف.
فصيل في تفسير التفريق
ذكروا في تفسير التفريق هاهنا وجهين:
الأول: أن هذا التفريق إنما يكون بأن يعتقد بأن ذلك السرح مؤثر في هذا التفريق، فيصير كافراً، وإذا صار كافراً بَانَتْ منه امرأته، فيحصل تفريق بينهما.
الثاني: أنه يفرق بينهما بالتمويه والحِيَل، والتَّضْريب وسائر الوجوه المذكورة. وذكره التفريق دون سائر الصُّور التي يتعلّمونها تنبيهاً على الباقي، فإن ركون الإنسان إلى زوجته معروف زائد على مودّة قريبة، فإذا وصل بالسحر إلى هذا الأمر مع شدّته فغيره أولى، يدلّ عليه قوله تعالى: «وَما هُمْ بِضَارِّينَ بهِ مِنْ أَحَدِ» يجوز في «ماء» وجهان.
أحدهما: أن تكون الحجازية، فيكون «هم» اسمها، و «بِضَارين» خبرها، و «الباء» زائدة، فهو في محل نصب.
والثاني: أن تكون التميمية، فيكون «هم» مبتدأ، و «بِضَارِّينَ» خبره، و «الباء» زائدة أيضاً فهو في محل رفع.
349
والضمير فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه عائد على السَّحرة العائد عليهم ضمير «فَيَتَعَلَّمُونَ».
الثاني: يعود على اليهود العائد عليهم ضمير «واتبعوا».
الثالث: يعود على الشياطين والضمير في «به» يعود على «ما» في قوله: «وَمَا يُفَرِّقُونَ بِهِ».
والجمهور على «بَضَارِّينَ» بإثبات النون و «مِنْ أَحَدٍ» مفعول به، وقرأ الأعمش: «بِضَرِّي» من غير نون، وفي توجيه ذلك قولان:
أظهرهما: أنه أسقط النون تخفيفاً، وإن لم يقع اسم الفاعل صلةً ل «أل» ؛ مثل قوله: [الطويل]
٧١٢ - وَلَسْنَا إِذَا تَأْبَوْنَ سِلْماً بِمُذْعِنِي لَكُمْ غَيْرَ أَنَّا إِنْ نُسَالَمْ نُسَالمِ
أي: بمذعنين ونظيره في التَّثْنية: «قَطَا قَطَا بَيْضُك ثِنْتَا، وَبِيْضِي مِائَتَا» يريدون ثِنْتَانِ وَمِائَتَانِ.
والثاني وبه قال الزَّمخشري، وأبن عطية أن النُّونَ حذفت للإضافة إلى «أحدٍ»، وفصل بين المضاف والضاف إليه بالجار والمجرور، وهو «به» ؛ كما فصل به في قوله الآخر: [الطويل]
٧١٣ - هُمَا أَخَوَا فِي الْحَرْبِ مَنْ لاَ أَخَا لَهُ إِذَا خَافَ يَوْماً نَبْوةً فَدَعَاهُمَا
وفي قوله: [الوافر]
350
ثم استشكل الزمخشري ذلك فقال: فإن [قلت] كيف يضاف إلى «أحد» هو مجرور؟ قلت: جعل الجار جزءاً من المجرور.
قال أبو حيان: وهذا التخريج ليس يجوز؛ لأن الفصل بين المتضايفين بالظَّرف والمجرور من ضَرَائر الشعر، وأقبح من ذلك ألا يكون ثم مضاف إليه؛ لأنه مشغول يعامل جَرّ، فهو المؤثر فيه لا الإضافة.
وأما جعله حرف الجر جزءاً من المجرور فليس بشيء؛ لأن هذا مؤثر فيه، وجزء الشيء لا يؤثر فيه.
وأجيب بأن الفصل من ضرائر الشعر فليس كما قال، لأنه قد فصل بالمفعول به في قراءة ابن عامر، فالباظرف وشبهه أولى، وسيأتي تحقيق ذلك في الأنعام. وأما قوله: «لأن جزء الشيء لا يؤثر فيه.
فإنما ذلك في الجزء الحقيقي، وهذا إنما قال: ننزله منزلة الجزء، ويدلّ على ذلك قول [النجاة] الفعل كالجزء من الفاعل، ولذلك آنّث لتأنيثه، ومع ذلك فهو مؤثِّر فيه.
و»
من «في» من أحد «زائدة لتأكيد الاستغراق كما تقدم في:» وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ «.
وينبغي أن يجيء قول أبي البقاء: إن»
أحداً «يجوز أن يكون بمعنى واحد، والمعهود زيادة» من «في المفعول به المعمول لفعل منفي نحو: ما ضربت من أحد، إلا أنه حملت الجملة الاسمية الدَّاخل عليها حرف النفي على الفعليّة المنفية في ذلك؛ لأن المعنى: وما يضرون من أحد، إلا أنه عدل إلى هذه الجملة المصدرة بالمبتدأ المخبر عه باسم الفاعل الدّال على الثبوت، والاستقرار المزيد فيه باء الجر للتوكيد االمراد الذي لم تفده الجملة الفعلية.
قوله: «إِلاَّ بإِذْنِ اللهِ»
هذا استثناء مفرّغ من الأحوال، فهو في محل نَصْب على الحال، فيتعلّق بمحذوف، وفي صاحب هذه الحال أربعة أوجه:
أحدها: أنه الفاعل المستكن في «بضارين».
الثاني: أنه المفعول هو «أحد» وجاءت الحال من النكرة؛ لاعتمادها على النفي.
والثالث: أن الهاء في «به» أي بالسحر، والتقدير: وما يضرون أحداً بالسحر إلا
351
ومعه علم الله، أو مقروناً بإذن الله ونحو ذلك.
والرابع: أنه المصدر المعروف وهو الضرر، إلا أنه حذف للدلالة عليه.

فصل في تأويل الإذن


قال ابن الخطيب: الإذن حقيقة في الأمر والله لا يأمر بالسحر، لأنه تعالى أراد عيبهم وذمهم عليه، ولو كان قد أمرهم به لما جاز أن يذمهم عليه، فلا بد من التأويل، وفيه وجوه:
أحدها: قال الحسن: المراد منه التَّخْلية يعنى الساحر إذا سحر إنساناً، فإن شاء الله تعالى منعه منه، وإن شاء خَلَّى بينه وبين ضرر السحر.
وثانيها: قال الأصم: المراد: «إِلاَّ يعلم الله»، وإنما سمي الأذان أذاناً، لأنه إعلام للناس بدخول وقت الصلاة، وسمي الإيذان إيذاناً؛ لأن بالحاسة به تدرك الإذن، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج﴾ [التوبة: ٣] أي: إعلام، وقوله تعالى ﴿فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: ٢٧٩] معناه: فاعلموا، وقوله: ﴿آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ﴾ [الأنبياء: ١٠٩] يعنى: أعلمتكم.
وثالثها: أن الضرر الحاصل عند فعل السِّحر إنما يحصل بخلق الله، وإيجاده وإبداعه، وما كان كذلك فإنه يصح أن يضاف إلى الله تعالى كما قال: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠].
ورابعها: أن يكون المراد بالإذن الأمر، وهذا الوجه لا يليق إلاَّ بأن يُفَسّر التفريق بين المرء وزوجه بأن يصير كافراً، والكفر يقتضي التفريق، فإنَّ هذا حكم شرعي، وذلك لا يكون إلا بأمر الله تعالى.
قوله: «وَلاَ يَنْفَعُهُمْ» في هذه الجملة وجهان.
أحدهما: وهو الظاهر أنها عطف على «يضرهم» فتكون صلة ل «ما» أيضاً، فلا محلّ لها من الإعراب.
والثاني، وأجازه أبو البقاء: أن تكون خبراً لمبتدأ مضمر تقديره: وهو لا ينفعهم، وعلى هذا فتكون «الواو» للحال، والحملة من المبتدأ والخبر في محلّ نصب على الحال، وهذه الحال تكون مؤكّدة؛ لأن قوله: «ما يضرهم» يفهم منه عدم النفع.
قال أبو البقاء: ولا يصح عطفه على «ما» ؛ لأن الفعل لا يعطف على الاسم.
وهذا من المواضع المستغنى عن النصّ على منعها لوضوحها، وإنما ينص على منع شيء يتوهم جوازه.
352
وأتى هنا ب «لا» لأنها ينفى بها الحال والاستقبال، وإن كان بعضهم خصّها بالاستقبال، والضُّرُّ والنفع معروفان، يقال ضَرَّهُ يَضُرُّهُ بضم الضاد، وهو قياس المضاعف المتعدِّي، والمصدر: الضَّر والضَّر بالضم والفتح، والضَّرَر بالفك أيضاً، ويقال: ضَارَةُ يَضِيرُهُ بمعناه ضَيراً؛ قال الشاعر: [الطويل]
٧١٤ - كَمَا خُطَّ الْكِتَابُ بِكَفِّ يَوْماً يَهُودِيِّ يُقارِبُ أَوْ يُزِيلُ
٧١٥ - تَثُولُ أُنَاسٌ لاَ يَضِيرُكَ نَأْيُهَا بَلَى كُلُّ ما شَفَّ النُّفُوسَ يَضِيْرُهَا
وليس حرف العلة مبدلاً من التضعيف.
ونقل بعضهم: أنه لا يبنى من نفع اسم مفعول فيقال: منفوع، والقياس لا يأباه.
قوله: «وقد علموا» تقدم أن هذه اللاَّم جواب قسم محذوف.
و «علم» يجوز أن تكون متعدية إلى اثنين أو إلى واحد، وعلى كلا التقديرين فهي مُعَلَّقة عن العمل فيما بعدها لأجل اللام، فالجملة بعدها في محل نصب؛ إما سادّة مسدَّ مفعولين، أو مفعول واحد على حسب ما تقدم، ويظهر أثر ذلك في العطف عليها، فإن اعتقدنا تعديها لاثنين عطفنا على الجملة بعدها مفعولين، وإلا عطفنا واحداً، ونظيره في الكلام: علمت لزيد قائم وعمراً ذاهباً، أو علمت لزيد قائم وذهاب عمرو.
والذي يدل على أن الجملة المعلقة بعد علم في محل نصب وعَطْفَ المنصوب على محلها قولُ الشاعر: [الطويل]
٧١٦ - وَمَا كُنْتُ أَدْرِي قَبْلَ عَزَّةَ مَا الْهَوَى وَلاَ مُوجِعَاتِ القَلْبِ حَتَّى تَوَلَّتِ
روي بنصب «موجعاتِ» على أنه عطف على محل «ما الهَوَى»، وفي البيت كلام إذ يحتمل أن تكون «ما» زائدة، «والهوى» مفعول به، فعطف «موجعاتِ» عليه، ويحتمل أن تكون «لا» نافية للجنس و «موجعاتِ» اسمها، والخبر محذوفٌ كأنه قال: ولا موجعاتِ القلبِ عنْدِي حتى تولَّتِ.
ةوالضمير في «علموا» فيه خمسة أقوال:
أحدها: ضمير الهيود الذين بحضرة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو ضمير من بحضرة سليمان، أو ضمير جميع اليهود، أو ضمير الشياطين أو ضمير الملكين عند من يرى أن الاثنين جمع.
قوله: «لَمَنِ اشْتَرَاهُ» في هذه اللام قولان:
أحدهما: وهو ظاهر قول النحاة أنها لام الابتداء المُعَلَّقة ل «عَلِمَ» عن العمل
353
كما تقدم، و «مَنْ موصولة في محلّ رفع بالابتداء، و» اشتراه «صلتها وعائدها.
و ﴿مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ﴾ جلمة من مبتدأ وخبر، و»
من «زائدة في المبتدأ، والتقدير: ماله خلاق في الآخرة.
وهذه الجملة في محل رفع خبر ل»
من «الموصولة، فالجملة من قوله:» ولقد علموا «مقسم عليها كما تقدم، و» لَمَن اشْتَرَاهُ «غير مقسم عليها، هذا مذهب سيبويه رَحِمَهُ اللهُ تعالى والجمهور.
الثاني: وهو قول الفراء، وبتبعه أبو البقاء: أن تكونه هذه اللام هي الموطّئة للقسم، و «مَنٍ»
شرطية في محل رفع بالابتداء، و ﴿مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ﴾ جواب القسم، ف «اشترااه» على القول الأول صلة، وعلى الثاني خبر لاسم الشرط، ويكون جواب الشرط محذوفاً؛ لأنه إذا اجتمع شرط وقسم، ولم يتقدمهما ذو خبر أجيب سابقهما غالباً، وقد يجاب الشرط مطلقاً كقوله: [الطويل]
٧١٧ - لَئِنْ كَانَ مَا حُدِّثْتُهُ الْيَوْمَ صَادِقاً أَصُمْ فِي نَهَارِ الْقَيْظِ لِلشَّمْسِ بَادِيَا
ولا يحذف جواب الشرط إلا وفعله ماض، وقد يكون مضارعاً كقوله: [الطويل]
٧١٨ - لَئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ لَيَعْلَمُ رَبِّي أَنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ
فعلى قول الفَرَّاء تكون الجملتان من قوله: «وَلَقَدْ عَلِمُوا»، و «لَمَنِ اشْتَرَاهُ» مُقْسَماً عليهما ونقل عن الزجاج منع قول الفراء فإنه قال: هذا ليس موضع شرط ولم يوجه منع ذلك، والذي يظهر في منعه، أن الفعل بعد «مَنْ» وهو «اشْتَرَاهُ» ماض لفظاً ومعنى، فإن الاشتراء قد وقع وانفصل، فجعله شرطاً لا يصح؛ لأن فعل الشرط وإن كان ماضياً لفظاً، فلا بد أن يكون مستقبلاً معنى.

فصل في أوجه استعارة لفظ الشراء


واستعير لفظ الشراء لوجوه:
أحدها: أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظُهُورهم، وأقبلوا على التمسُّك بما تتلو الشَّياطين، فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله تعالى.
354
وثانيها: أن المَلَكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة، فلما استعمل السحر، فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا.
وثالثها: أنهم تحملوا مشقة تعليمه ليستعملوه، فكأنهم أبدلوا الراحة في مقالبة التعليم لأجل الاستعمال. والخَلاَق: النصيب.
قال الزّجاج: أكثر استعماله في الخير.
فأما قول أميّة بن أي الصلت: [البسيط]
٧١٩ - يَدْعُونَ بالْوَيْلِ فِيهَا لاَ خَلاَقَ لَهُمْ إِلاَّ سَرَابِيلُ مِنْ قَطْرٍ وَأَغْلاَلُ
فيحتمل ثلاثة أوجه.
أحدها: أنه على سبيل التهكُّم بهم؛ كقوله: [الوافر]
٧٢٠ -......................... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ َجِيعُ
والثاني: أنه استثناء منقطع، أي: لكن لهم السَّرَابيل من كذا.
الثالث: أنه استعمل في الشر على قلة.
والخلاق: القَدْر؛ قال: [المتقارب]
٧٢١ - فَمَا لَكَ بَيْتٌ لَدَى الشَّامِخَاتِ وَمَا لَكَ فِي غَالِبٍ مِنْ خَلاَقْ
أي: من قَدر ورتبة، وهو قريب من الأول.
قال القَفَّال رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يشبه أن يكون أصل الكلمة من الخلق، ومعناه التقدير، ومنه: خلق الأديم، ومنه يقال: قدر للرجل كذا درهماً رزقاً على عمل كذا. والضمير المنصوب في «اشتراه» فيه أربعة أقوال: يعود على السحر، أو الكفر، أو كَيْلهم الذى باعوا به السحر، أو القرآن لتعويضهم كتب السحر عنه.
وتقدم الكلام على قوله: «وَلَبْئْسَ مَا» وما ذكر الناس فيها، واللام في «لبئسما» جواب قسم محذوف تقديره: والله لبئسما، والمخصوص بالذّّم محذوف أي: السحر أو الكفر.
قوله: «لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» جواب «لو» محذوف تقديره: لو كانوا يعلمون ذم ذلك
355
لما باعوا به أنفسهم، وهذا أحسن من تقدير أبي البقاء: لو كانوا ينتفعون بعلمهم لامتنعوا من شراء السحر؛ لأن المقدر كلما كان مُتصَيَّداً من اللفظ كان أَوْلَى. والضمير في «به» يعود على السحر، أو الكفر، وفي «يعلمون» يعود على اليَهُودِ باتفاق.
قال الزمخشري: فإن قلت كيف أثبت لهم العلم أولاً في: «وَلَقَدْ عَلِمُوا» على سبيل التوكيد القسمي، ثم نفاه عنهم في قوله: «لوْ كانُوا يَعْلَمُونَ».
قلت: معناه: لو كانوا يعملون بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه، وهذا بناء منه على أن الضميرين في «عَلِمُوا» و «يَعْلَمُونَ» لشيء واحد.
وأجاب غيره على هذا التقدير بأن المراد بالعلم الثاني العَقْل؛ لأن العلم من ثمرته، فلما انتفى الأصل انتفى ثمرته، فصار وجود العلم كعدمه حيث لم ينتفعوا به كما سمى الله تعالى، الكفار «صُمّاً وبُكْماً وعُمْياً» إذ لم ينتفعوا [بهذه الحواس] أو يغاير بين متعلّق العلمين أي: علموا ضرره في الآخرة، ولم يعلما نفعه في الدنيا.
وأما إذا أعدت الضمير في «علموا» على الشياطين، أو على مَنْ بحضرة سليمان، أو على الملكين، فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم حينئذ.
356
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ﴾ «لو» هنا فيها قولان:
أحدهما: أنها على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، وسيأتي الكلام في جوابها، وأجاز الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى أن تكون للتمني أي: لَيْتَهُمْ آمنوا على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم، واختيارهم له، فعلى هذا لا يلتزم أن يكون لها جواب، لأنها قد تجاب بالفاء حينئذ، وفي كلامه اعتزال.
و «أنهم آمنوا» مؤول بمصدر، وهو في محل رفع، [وفيه قولان] أحدهما وهو قول سيبوبيه: أنه في محلّ رفع بالابتداء، وخيره محذوف تقديره: ولو كاان إيمانهم ثابت، وشذّ وقوع الاسم بعد «لو»، وإن كانت مختصة بالأفعال، كما شذ نصب «غدوة» بعد «لدن».
وقيل: لا يحتاج هذا المبتدأ إلى خبر لجريان الفظ المسند والمسند إليه في صلة «أنَّ».
وصحح أبو حَيَّان هذا فى سورة «النساء» وهذا يشبه الخلاف في «أن» الواقعة بعد «ظنّ وأخواتها»، وتقدم تحقيقه.
356
والثاني: وهو قول المبرد أنه في محلّ رفع بالفاعلية، رافعه محذوف تقديره: ولو ثبت إيمانهم؛ لأنها لا يليها إلاَّ الفعل ظاهراً أو مضمراً، وقد ردّ بعضهم هذا بأنه لا يضمر بعدها الفعل إلا مفسَّراً بفعل مثله، ودليل كلا القولين مذكور في كتب النحو. والضمير في «أنهم» فيه قولان:
أحدهما: عائد على اليهود،
والثاني: على الذين يعلمون [الناس] السحر.
قال ابن الخطيب: إنَّ الله تعالى لما قال: ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٠١] ثم وصفهم بأنهم ﴿اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾، وأنهم تسّكوا بالسحر قال بعد: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ﴾ يعنى بما بنذوه من كتاب الله.
فإن حملت ذلك على القرآن جاز، وإن حملته على كتابهم المصدق للقرآن جاز، وإن حملته على الأمرين جاز، والمراد بالتقوى الاحتراز عن فعل المنهيات، وترك المأمورات.
قوله تعالى: ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ اللهِ﴾.
في هذه اللام قولان:
أحدهما: أنها لام الابتداء، وأن مابعدها استئناف إخبار بذلك، وليس متعلقاً بإيمانهم وتقواهم، ولا مترتباً عليه، وعلى هذا فجواب «لو» محذوف إذا قيل بأنها ليست للتمني، أو قيل بأنها للتمني، ويكون لها جواب تقديره: لأثيبوا.
والثاني: أنها جواب «لو»، فإن «لو» تجاب بالجملة الاسمية.
قال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب «لو» لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المَثُوبَةِ واستقراراها، كما عَدَلَ عن النصب إلى الرفع في ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ٥٤] لذلك. [وفي] وقوع جواب «لو» جملة إسمية نظر يحتاج إلى دليل غير مَحلّ النزاع.
قال أبو حيان رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لم يعهد في كلام العرب وقوع الجملة الابتدائية جواباً ل «لو»، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه، ولا تَثْبُت القواعد الكلية بالمحتمل.
والمثوبة فيها قولان:
أحدهما: أن وزنها «فعولة»، والأصل مَثْوُوبَة، فَثَقُلَت الضَّمة على «الواو»، فنقلت إلى الساكن قبلها، فالتقى ساكنان فحذف أحدهما مثل: مَقُولة ومجوزة ومصونة ومشوبة
357
وقد جاءت مصادر على مفعول كالمعقول، فهي مصدر نقل ذلك الواحدي.
والثاني: أنها «مَفْعُلَة» من الثواب بضم العين، وإنما نقلت الضّمّة إلى الثاء، ويقال: «مَثْوبَة» بسكون الثاء وفتح الواو، وكان من حَقّها الإعلال فيقال: «مثابة» ك «مقامة»، إلا أنهم صححوها كما صححوا في الإعلال «مَكْرَزَة»، وبذلك قرأ أبو السمال وقتادة كمشورة. ومعنى «المثوبة» أي: ثواب وجزاء من الله.
وقيل: لرجعة إلى الله تعالى خير.
قوله: ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ] في محلّ رفع صفة «لمثوبة»، فيتعلّق بمحذوف، أي: لمثوبة كائنة من عند الله تعالى.
والعندية هنا مجاز تقدم في نظائره.
قال أبو حيان: وهذا الوصف هو المسوغ لجواز الاتبداء بالنكرة.
قلت: ولا حاجة إلى هذا؛ لأن المسوغ هنا شيء آخر، وهو الاعتماد على لام الابتداء، حتى لو قيل في الكلام: {لَمَثُوبَةٌ خَيْرٌ] من غير وصف لصح.
والتنكير في «لمثوبة» يفيد أن شيئاً من الثواب وإن قلّ خير، فذلك لا يقال له قليل، ونظيره: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾
[التوبة: ٧٢].
وقوله: «خَيْرٌ» خبرٌ «لِمَثُوبَة»، وليست هنا بمعنى «أفعل» التفضيل، بل هي لبيان أنها فاضلة، كقوله تعالى: ﴿أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً﴾ [الفرقان: ٢٤] ﴿أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ﴾ [فصلت: ٤٠].
قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ جوابها محذوف تقيدره: لكان تحصيل المثوبة خيراً، أي: تحصيل أسبابها من الإيمان والتقوى، وكذلك قَدّره بعضهم: لآمنوا.
وفي مفعول «يعلمون» وجهان:
أحدهما: أنه محذوف اقتصاراً أي: لو كانا من ذوي العلم.
والثاني: أنه محذوف اختصاراً تقيدره: لو كانوا يعلمون التفضيل في ذلك، أو يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى.
358
اعلم أن الله تعالى لما شرح قبائح أفعالهم قبل مبعث محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة
358
وَالسَّلَام ُ أراد أن يشرح قبائح أفعالهم عند مبعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجدّهم واجتهادهم في القَدْحِ فيه والطعن في دينه.
واعلم أنّ الله تعالى خاطب المؤمنين بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه: «وكان يخاطب في التوراة بقوله: يا أيها المَسَاكين».

فصل في لفظ راعنا


روي أن المسلمين كانوا يقولون: راعنا يا رسول الله من المُرَاعاة، أيك راعنا سمعك أي فَرّغ سمعك لكلامنا، يقال: رعى إلى الشيء وَرَعَاه، أي: أَصْغى إليه وأسمعه، وكانت هذه اللفظة شيئاً قبيحاً بلغة اليهود.
وقيل: معناه عندهم اسمع لا سمعت.
وقيل: هو من الرُّوعنة، وإذا أرادوا أن يحمقوا إنساناً قالوا: راعنا بمعنى يا أحمق، فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين قالوا فيما بينهمك كنا نسبُّ محمداً سرًّا، فأعلنوا به الآن، فكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد، ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن مُعَاذٍ، ففطن لها، وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه سولم لأضربن عُنُقه قالوا: أو لستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى: ﴿يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولوا: رَاعِنَا﴾ لكي لا يتخذ اليهود ذلك سبيلاً إلى شَتْم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَقُولُوا أنْظُرْنَا﴾ ويدلّ على هذا قوله تعالى في سورة «النساء» :﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين﴾ [النساء: ٤٦].
قال قُطْرب: هذه الكليمة وإن كانت صحيحة المعنى، إلاّ أن أهل «الحجاز» ما كنةوا يقولونها إلاّ عند الهَزْل والسخرية، فلا جرم نهى الله عنها.
وقيل: إن اليهود كانوا يقولونك راعنا أيك أنت راعي غنمنا فنهاهم الله عنها.
وقيل: قوله: «راعنا» خطاب مع الاستعلاء كأنه يقول: راعِ كلامي فلا تغفل عنه،
359
ولا تشتغل بغيره، وليس في قوله: «انظرنا» إلا سؤال الانتظار إلى مقدار ما يصل إلى فهم كلامه.
والجمهور على أن «راعنا» أمر من المُرَاعاة، وهيى النظر في مصالح الإنسان، وتدبر أموره، و «راعنا» يقتضي المشاركة؛ لأن معناه: ليكن منك رعاية لنا، وليكن منا رعاية لك، فنهوا عن ذلك؛ لأن فيه مساواتهم به عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وبين أنه لا بد من تعظيم الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المُخَاطبة كما قال تعالى: ﴿لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً﴾ [النور: ٦٣].
وقرأ الحسن وابو حيوة: «رَاعِناً» بالتنوين، ووجهه أنه صفة لمصدر محذوف، أي: قولاً راعناً، وهو على طريق النسب ك «لابنٍ] و» تامِرٍ «، والمعنى: لا تقولوا قولاً ذا رُعونَةٍ.
والرعونة: الجهل والحُمقُ والهَوَج، وأصل الرعونة: التفرُّق، ومنه: «جيشٌ أرْعَنُ»
أي: متفرِّق في كل ناحية، ورجلٌ أَرْعَنُ: أي ليس له عَقْل مجتمع، وامرأة رَعْنَاء.
وقيل للبَصْرَة: الرعْنَاء؛ قال: [البسيط]
٧٢٢ - لَوْلاَ ابْنُ عُتْبَةَ عضْرٌو والرَّجَاءُ لَهُ مَا كَانَتِ البَصْرَةُ الرَّعْنَاءُ لِي وَطَنا
قيل: سميت بذلك لأنها أشبهت «رَعُنَ الجَبَل» وهو النَّاتيىء منه.
وقال ابن فارس: يقال: «رَعُنَ الرجل يَرْعُنَ رَعْناَ».
وقرأ أُبيّ، وزرُّ حُبَيش، والإعمش ذكرها القرطبي «راعونا»، وفي مصحف عبد الله كذلك، خاطبوه بلفظ الجمع تعظيماً، وفي مصحف عبد الله أيضاً «ارعونا» لما تقدم.
والجملة في محل نصب بالقول، وقدم النهي على الأمر؛ لأنه من باب التروك فهو أسهل.
فإن قيل: أفكان النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعجل عليهم حتَّى يوقلوا هذا؟ فالجَوَاب من وجهين:
أحدهماك أن هذه اللفظة قد تقال في خلال الكلام، وإن لم تكن هناك عجلة تحوج إلى ذلك كقول الرجل في خلال حديثة: اسمع أو سمعت.
الثاني: أنهم فسروا قوله تعالى: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ {القيامة: ١٦] أنه عليه السلام كان يعجل قول ما يلقيه إليه جبريل عليه السلام حرصاً على تحصيل الوَحْي، وأخذ القرآ، ، فقيل له: لا تحرّك به لسانك لتعجل به، فلا يبعد أن يجعل فيما
360
يحدث به أصحابه من أمر الدين حرصاً على تعجيل أفهامهم، فكانوا يسألونه في هذه الحالة أن يمهلهم فيما يخاطبهم به إلى أن يفهموا كل ذلك الكلام.
قوله: «انْظُرْنَا» الجملة أيضاً في محلّ نصب بالقول، والجمهور على انظرنا [بالوصل] الهمزة، وضم الظاء أمراً من الثلاثي، وهو نَظَر من النَّظِرَة، وهي التأخير، أي: أخرنا وتأَنَّ عَلْينا؛ قال امرؤ القَيْسِ: [الطويل]
٧٢٣ - فَإنّكُمَا إنْ تَنْظُرَانِيَ سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ يَنْفَعْنِي لَدَي أُمِّ جُنْدَبِ
وقيل: هو من نظر أي: أَبْصَرَ، ثم اتُّسع فيه، فعدّي بنفسه؛ لأنه في الأصل يتعدى ب «إلَى» ؛ ومنه: [الخفيف]
٧٢٤ - ظَاهِرَاتُ الجَمَالِ وَالحُسْنِ يَنْظُرْنَ كَمَا يَنْظُرُ الأَرَاكَ الظِّبَاءُ
أي: إلى الأراك.
وقيل: من نظر أي: تفكر ثم اتسع فيه أيضاًن فإن أصله أن يتعدّى ب «في»، ولا بد من حذف مضاف على هذا أي: انظر في أمرنا، وقرأ أبيّ والأعمش: «أنْظِرْنَا» بفتح الهمزة وكسر الظاء أمراً من الرباعي يمعنى: أَمْهِلْنَا وأَخِّرْنَا؛ قال: [الوافر]
٧٢٥ - أَبَا هِنْدٍ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْنَا وأنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ اليَقِينَا
أي: أمهل علينا، وهذه القراءة تؤيد أن الأول من النَّظِرَةِ بمعنى التأخير، لا من البَصَر، ولا من البَصِيرَة، وهذه الآية نظير [آية] الحديد
﴿انظرونا نَقْتَبِسْ﴾ [الحديد: ١٣] فإنها قرئت بالوجيهن.
قوله: «وَاسْمَعُوا» حصول السماع عند سلامة الحاسّة أمر ضروري خارج عن قدرة البشر، فلا يجوز وقوع الأمر به، فإذن المراد منه أحد أمور ثلاثة:
أحدها: فرغوا أسماعكم لما يقول النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة.
[وثانيها: اسمعوا سماع قبول وطاعة، ولا يكن سماعكم كسماع اليهود حيث قالوا: سمعنا وعصينا].
361
وثالثها: اسمعوا ما أمرتكم به حتى لا ترجعوا إلى مانهيتم عنه تأكيداً عليهم، ثم إنه تعالى بين ما للكافرين من العذاب الأليم إذا لم يسلكوا مع الرسول هذه الطيقة من الإعظام والتبجيل والإصْغَاء إلى ما يقول.
وقتدم الكلام على معنى «العذاب الأليم».
362
لما بين حال اليهود والكفار في العَدَاوة والمعاندة وصفهم بما يوجب الحّذَر منهم فقال: ﴿ما يُوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا «فنفى عن قلوبهم الودّ والمحبة لكلّ ما يظهر به فضل المؤمنين.
قوله: {مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ﴾
: في» من «قولان:
أحدهما: أنها للتعبيض، فتكون هي ومجرورها في محلّ نصب على الحال، وتعلّق بمحذوف أي: ما يودّ الذين كفروا كائنين من أهل الكتاب.
والثاني: أنها لبيان الجنس، وبه قال الزمخشري؛ لأن»
الذين كفروا «جنس تحته نوعان أهل الكتاب والمشركون بدليل قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين﴾ [البينة: ١].
قوله: ﴿وَلاَ المُشْرِكِينَ﴾ عطف على»
أهل «المجرور ب» من «و» لا «زائدة للتوكيد؛ لأن المعنى: ﴿ما يود الذين كفورا من أهل الكتاب والمشركين﴾ كقوله: ﴿لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين﴾ [البينة: ١] بغير زيادة» لا «.
وزعم بعضهم أنه مخفوض على الجوار، وأن الأصل ولا المشركون، عطفاً على الذين، وإنما خفض للمجاورة، نحو ﴿بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] فى قراءة الجر، وليس بواضح.
وقال النحاس: ويجوز: ولا المشركون بعطفه على»
الذين «وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ: وإن كان قد قرىء:» وَلاَ المُشْرِكُونَ «بالرفع فهو عطف على الفاعل، والظاهر أنه لم يقرأ بذلك وهذان القولان يؤيدان ادّعاء الخفش على الجوار.
قوله:»
أنْ يُنَزّلَ «ناصب ومنصوب في تأويل مصدر مفعول ب» يؤدّ «أيى: ما يود إنزاله من خير، وبني الفعل للفعول للعمل بالفاعل؛ وللتصيح به في قوله:» مِنْ ربِّكُمْ «، وأتي ب» ما «في النفي دون غيرها؛ لأنها لنفي الحال، وهم كانوا متلبّسين بذلك.
362
قال القُرْطبي: و» أن «في موضع نصب، أي بأن ينزل.
قوله:»
مِنْ خَيْرٍ «هذا هو القائم مقام الفاعل، و» من «زائدة، أي: أن ينزل خير من ربكم.
وحسن زيادتها هنا، وإن كان»
ينزل «لم يباشره حرف النفي؛ لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى؛ لأنه إذا نفيت الوَدَادَة انتفى متعلّقها، وهذا له نظائر في كلامهم نحو:» ما أظن أحداً يقول ذلك إلاّّ زيد «برفع» زيد «بدلاً من فاعل» يقول «وإن لم يباشر النفي، لكنه قوة:» ما يقول أحد ذلك إلاَّ زيد في ظني «.
وقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ﴾ [الأحقاف: ٣٣] زيدت»
الباء «؛ لأنه في معنى: أو ليس الله بقادر، وهذا على رأي سيبويه وأتباعه.
وأما الكوفيّون والأخفش فلا يحتاجون إلى شيء من هذا.
وقيل «من»
للتبعيض، أي: ما يودون أن يُنَزَّل من الخير قليل ولا كثير، فعلى هذا يكون القائم مقام الفاعل: «عليكم»، والمعنى: أن ينزل عليكم بخير من الخُيُور.
والمراد بالخير هنا الوَحْي.
والمعنى: أنهم يرون أنفسهم أحقّ بأن يوحى إليهم فيحسدونكم، فبيّن سبحانه وتعالى أن حسدهم لا يؤثّر في زوال ذلك بقوله: ﴿اللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾.
قوله: «مِنْ رَبِّكُمْ» في «من» أيضاً قولان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية، فتتعلّق ب «ينزّل».
والثاني: أنها للتبعيض، ولا بد حينئذ من حّذْف مضاف تقديره: من خُيُور ربّكم، وتتعلق حينئذ بمحذوف، لأنها ومجرورها صفة لقولهك «من خير» أي: من خير كائن من خُيُور ربكم، ويكون في محلّها وجهان:
الجر على اللفظ، والرفع على الموضع، لأن «من» زائدة في «خير»، فهو مرفوع تقديراً لقيامه مقام الفاعل كما تقدم.
وتلخص مما تقدم أن في كل واحدة من لفظ «ممن» قولين:
الأول: قيل: إنها للتبعيض، وقيل: أو لبيان الجنس.
وفي الثانية قولان: زائدة أو للتعبيض.
وفي الثالثة: أيضاً قولان: لابتداء الغاية، أو التبعيض.
قوله: ﴿واللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ هذه جملة ابتدائية تضمنت ردّ وَدادَتهم ذلك.
363
و «يختص» يحتمل أن يكون متعدياً، وأن يكون لازماًن فإن كانت متعدياً كان فيه ضمير يعود على الله تعالى، وتكن «من» مفعولاً به أي يختص الله الذي يشاؤه برحْمته، ويكون معنى «افتعل» هنا معنى المجرد نحو: كسب مالاً واكتسبه، وإن كان لازماً لم يكن فيه ضمير، ويكون فاعله «من» أي: والله يختصّ برحمته الشَّخً الذي يشاؤه، ويكون «افتعل» بمعنى الفاعل بنفسه نحو: اضطراب، والاختصاص ضد الاشتراك، وبهذا [يتبين فساد] قول من زعم أنه هنا متعدّ ليس غلاّ.
و «مَنْ» يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة، وعلى كلا التقديرين فلا بد من تقدير عائد، أي: يشاء اختصاصه.
ويجوز أن يمضن «يشاء» معنى يختار، فحينئذ لا حاجة إلى حَذْف مضاف، بل تقدره ضميراً فقط أي: يشاؤه، و «يشاء» على القول الأول لا محلّ له لكونه صلةً، وعلى الثاني محلّه النَّصب، أو الرفع على [حسب] ما ذكر في موصوفه من كونه فاعلاً أو مفعولاً.

فصل في تفسير الرحمة في الآية


قال علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْه: «يختصّ برحمته» أي بنبوّته، خص بها محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: الرحمة القرآن.
وقيل: هنا عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديماً وحديثاُ.
364
اعلم أن المشركين طعنوا في الإسلام قالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمرن ثم ينهاهم عنه، ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً، وغداً يرجع عنه، كما قال تعالى ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ﴾ [النحل: ١٠١] فنزلت هذه الآية.
فى «ما» قولان:
أحدهما وهو الظاهر أنها مفعول مقدم لأ «ننسخ»، وهي شرطية أيضاً جازمة ل «ننسخ» ولكنها واقعة موصع المصدر، و «من آية» هو المفعول به، والتقدير: أي شؤء ننسخ كقوله: ﴿أَيّاً مَّا تَدْعُواْ﴾ [الإسراء: ١١٠]، أو: أيَّ نَسْخ نَنْسَخ من آية، قاله ابو البقاء وغيره، وقالوا: مجيء «ما» مصدراً جائز؛ وأنشدوا: [الكامل]
364
٧٢٦ - نَعَبَ الغُرَابُ فَقُلْتُ بَيْنٌ عَاجِلٌ ما شئْتَ إذْ ظَعَنُوا لِبَيْنٍ فَانْعَبِ
ورد هذا القول بشيئين:
أحدهما: أنه يلزم خلوّ جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط، وهو غير جائز، لما تقدم عند قوله: ﴿مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٧].
والثاني: أن «مِنْ» لا تزاد في الموجب، والشرط موجب، [وهذا فيه خلاف لبعض] البصريين أجاز زيادتها في الشرط؛ لأنه يشبه النفي، ولكنه خلاف ضعيف.
وقرأ ابن عامر: «نُنْسِخْ» بضم النون، وكسر السين من «أنسخ».
قال ابو حاتم: «هو غلط» وهذه جُرْأة منه على عادته.
وقال أبو علي: «ليست لغة» ؛ لأنه لا يقال: نسخ وأنسخ بمعنى، ولا هي للتعدية؛ لأن المعنى يجيْ: ما نكتب من آية، وما ننزل من آية، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً، وليس الأمر كذلك، فلم يبق إلا أن يكون المعنى: ما نَجِده منسوخاً كما يقال: أحمدته وأبخلته، أي: وجدته كذلكن ثم قالك «وليس نجده منسوخاً إلاّ بأن ننسخه، فتتفق القراءتان في المعنى، وإن اختلفتا في اللفظ».
فالهمزة عنده ليست للتعدية. وجعل الزمخشري، وابن عطية الهمزة للتعدية، إلا أنهما اختلفا في تقدير المفعول الأول المحذوف، وفي معنى الإنساخ، فجعل الزمخشري المفعول المحذوف جبريل عليه السّلام، الإنساخ هو الأمر بنسخها، أي: الإعلام به.
وجعل ابن عطية المعفول ضمير النبي عليه السلام، والإنساخ إباحة النَّسْخ لنبيه، كأنه لما نسخها أباح له تركها، فسمى تلك الإباحة إنساخاً.
وخرج ابن عطية القراءة على كون الهمزة للتعدية من وجه آخر، وهو من نسخ الكتاب، وهو نقله من غير إزالة له.
قال: ويكون المعنى: ما نكتب وننزل من اللَّوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه، ونتركه فلا ننزله، أي ذلك فعلنا فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله، فيجيء الضميران في «منها» و «بمثلها» عائدين على الضمير في «نَنسَأْهَا».
قال ابو حيان: وذهل عن القاعدة، هي أنه لابد من ضمير يعود من الجزاء
365
على اسم الشرط، و «ما» في قوله: «ما ننسخ» شرطية، وقوله: «أو ننسأها» عائد على الآية، وإن كان المعنى ليس عائداً عليهها من حيث اللفظ والمعنى، بل إ‘نما يعود عليها من حيث اللفظ فقط نحو: عندي درهم ونصفه، فهو في الحقيقة على إضمار «ما» الشرطية، التقدير: أو ما ننسأ من آية ضرورة أن المنسوخ غير المنسوء، ولكن يبقى قوله: ما ننسخ من آية مفلتاً من الجواب؛ إذ لا رابط يعود منه إليه، فبطل هذا المعنى الذى قاله.
والنسخ في اللغة هو الإزالة من غير بدل يعقبه، يقال: نسخت الكتاب: إذا نقلته، وتناسخ الأرواح، وتناسخت القرون.
وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلاً من الاول.
دليل الاول أنه إذا نسخه الأثر والظّل، فهو إعدامه؛ لأنه قد لا يصحل الظل في مكان آخر حتى يظن أنه انتقل إليه.
وقال تعالى: ﴿فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان﴾ [الحج: ٥٢] أي: فيزيله ويبطله، والأصل في الكلام الحقيقة. وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب ألاَّ يكون حقيقة في النقل دفعاً للاشتراك.
فإن قيل: الريح والشمس ليسا مزيلين للأُر والظل في الحقيقة، وإنما المزيل في الحقيقة هو الله تعالى وإذا كان ذلك مجازاً امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة
366
في مدلوله، ثم نعارض ما ذكرتموه، [ويقال] : النسخ هو النقل والتحويل، [ومنه نسخه الكتاب إلى كتاب آخر، كأنه ينقله إليه، أو ينقل حكياته] كما قلنا في نسخ الكتاب والأرواح والقُرون والمواريث، فإنه تحويل من واحد إلى آخر.
وإذا كان كذلك فيكون حقيقة في النقل مَجَاز في الإبطال دفعاً للشتراك.
[وأجيب] عن الأول من وجهين:
أحدهما: أنه لا يتمنع أن يكون الله تعالى، هو الناسخ لذلك من حيث إنه فعل التشمس والريح والمؤثرتين في تلك الإزالة، ويكونان ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير.
والثانيك أن أ÷ل اللغة إنما أخطئوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح، فَهَبْ أنه لكن تمسكنا بإطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لإسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس.
وعن الثاني: أن النقل أخصّ من الإبطال، لأنه حيث وجد النقل، فقد عدمت صفة، وحصل عقيبها صفة أخرى، فإن مطلق العدم أهم من عدمه يحصل عقيبه شيء آخر، وإذا دار اللَّفظ بين الخاص والعام كان جعله حقيقة في العام أولى. وقال آخر: [والنسخ: الإزالة، وهو في الغة على ضربين:
ضرب فيه إزالة شيء وإقامة غيره مقامه نحه: نسخت الشمس الظل، إذا أزالته وقامت مقامه.
والثاني: أن يزيله كما تزيل الريح الأثر].
قوله: «مِنْ آيةٍ» «من» للتبعيض، فهي متعلقة بمحذوف؛ لأنها صفة لاسم الشرط، ويضعف جعلها حالاً، والمعنى: أي شيء ننسخ من الآيات، ف «آية:» مفرد وقع موقع الجمع، وكذلك تخريج كل ما جاء من هذا التركيب: ﴿مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ﴾ [فاطر: ٢] ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾ [النحل: ٥٣]، هذا المجرور هو المخصص والمبين لاسم الشرط؛ وذلك أن فيه إبْهَاماً من جهة عمومه، ألا ترى أنك لو قلتك «من يكرم أكرم» تناول النساء والرجال. فإذا قلت: «من الرحال» بيّنت وخصّصت ما تناوله اسم الشرط.
وأجاز أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى فيها وجهين آخرين:
أحدهما: أنها في موضع نصب على التمييز، والمُمَيَّز «ما» ولتقدير: أيَّ شيء
367
ننسخ، قال: ولا يحسن أن تقدر: أي آية ننسخ، لأنك لا تجمع بين «آية»، وبين المميز بآية، لا تقول: أي آية ننسخ من آية، يعنى أنك لو قدرت ذلك لا ستغنيت عن التمييز.
والثاني: أنها زائدة و «آية» حال، والمعنى: أي شيء ننسخ قليلاً أو كثيراً، وقد جاءت «آية» حالاً في قوله: ﴿هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً﴾ [الاعراف: ٧٣] أي: «علامة» وهذا فاسد؛ لأن الحال لا تجر ب «من»، وقد تقدم أنه مفعول بها، و «من» زائدة على القول يجعل «ما» واقعة موقع المصدر، فهذه أربعة أوجه.
قوله تعالى: «أوْ نُنْسِهَا» «أو» [هنا للتقسيم]، و «نُنْسِهَا» مجزوم عطفاً على فعل الشرط قبله.
وفيها ثلاث عشرة قراءة: «نَنْسَأَهَا» بفتح حرف المضارعةن وسكون النون، وفتح السين مع الهمزة، وبها قرأ أبو عمرو وابن ك ثير.
الثانية: كذلك إلا أنه بغير همزن ذكرها أبو عبيد البكري عن سعد بن أبي وَقّاص رَضِيَ اللهُ عَنْه.
قال ابن عطية: «وأرواه وهم».
الثالثة: «تَنْسَها» بفتح التاس التي للخطاب، بعدها نون ساكنة وسين مفتوحة من غير همز، وهي قراءة الحسن، وتروى عن ابن أبي وقاص، فقيل لسعد بن أبي وقاص: «إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال: إن القرآن لم ينزل على المسيب، ولا على ابن المسيب» وتلا: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦] ﴿واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ [الكهف: ٢٤] يعني سعد بذلك أن نسبة النسيان إليه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ موجودة في كتاب الله، فهذا مثله.
الرابعة: كذلك إلا أنه بالهمز.
368
الخامسة: كذلك إلا أنه بضم التاء، وهي قراءة أبي حيوة.
السادسة: كذلك إلا أنه بغير همز، وهيى قراءة سعيد ابن المسيب.
السابعة: «نُنْسِهَا» بضم حرف المضارعة وسكون النون وكسر السين من غير همز، وهي قراءة باقي السبعة.
الثامنة: كذلك إلا أنه بالهمزة.
التاسعة: نُنَسِّها بضم احرف المضارعة وفتح النون وكسر السين [مشددة، وهي قراءة الضَّحاك، وأبي رجاء.
العاشرة: «نُنْسِك»، بضمّ حرف المضارعة، وسكون النون، وكسر السين، وكاف بعدها للخطاب.
الحادية عشرة:] كذلك إلا أنه بفتح النون الثانية، وتشديد السين مكسورة، وتروى ع الضحاك، وأبى رجاء أيضاً.
الثانية عشرة: كذلك إلاَّ أنه بزيادة ضمير الآية بعد الكاف «نُنَسِّكَها» وهي قراءة حذيفة، وكذلك هي في مصحف سالم مولاه.
الثالثة عشرة: «ما نُنْسِك من آية أو نَنْسخْها فَجِيءْ بمثلها» وهي قراءة الأعمش، وهكذا ثبت في مصحف عبد الله.
فأما قراءة الهَمْز على اختلاف وجوهها، فمعناها التأخير من قولهم: نَنَسأَ الله، وأنسأ الله في أَجَلك أي: أَخَّرَهُ، وبِعْتُه نَسِيئَةً أي متأخراً.
وتقول العرب: نَسَأْت الإبل عن الحوض أنْسَؤُهَا نَسْئاً، وأنسأ الإبل: إذا أخرها عن ورودها يومين فأكثرن فمعنى الآية على هذا فيه ثلاثة أقوال:
أحدهاك نؤخر نسخها، ونزولها، وهو قول عطاء.
الثاني: نمحها لفظاً وحكماً، وهو قول ابن زيد.
الثالث: نُمضها فلا نَنْسَخْها، وهو قول أبي عبيد، [قال الشاعر: [الطويل]
369
٧٢٧ - أَمُونٍ كَألوَاحِ الإِرَانِ نَسَأْتُهَا عَلَى لاَحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ]
وهو ضعيف لقوله تعالى: ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا﴾ ؛ لأن ما أُمْضِي وأُقِرَّ لا يقال فيه: فَأْت بخير منه.
وأما قراءة غير الهمز على اختلاف وجوهها أيضاً ففيها احتمالان:
أظهرهما: أنها من النِّسْيَان، وحينئذ يحتمل أن يكون المراد به في بعض القراءات ضدّ الذكر، وفي بعضها الترك.
فإن قيل: وقوع هذا النيسيان [يتمنع] عقلاً ونقلاً.
أما العقل فلأن القرآن لا بدّ من انتقاله إلى أهل التواتر، والنيسان على أهل التواةتر بأجمعهم ممتنع.
وأما النقل فلقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
والجواب عن الأول من وجهين:
الأول: أن النسيان يصح بأن يأمر الله تعالى بطرحه من القرآن، وإخراجه من جلمة ما يلتى، ويؤتى به في الصَّلاة ويحتج به، فإذا زال حكم التعبُّد به قال: العهد نسي، وإن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد، فيصير لهذا الوجه منسياً من الدصورن وأيضاً روى: أنهم كانوا يقرءون السور، فيصبحون وقد نسوها. وعن الثاني أنه معارض بقوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ [الأعلى: ٦، ٧] وبقوله: ﴿واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ [الكهف: ٢٤].
والثاني: أن أصله الهمز من النَّسِيء، وهو التأخير، إلا أنه أبدل من الهمز ألف فحينئذ تتحد القراءتان.
ثم من قرأ من القراء: «ننساها» من الثلاثي فواضح.
وأما من قرأ منهم من «أَفْعَل»، وهم نافع وابن عامر والكوفيون، فمعناه عندهم: «نُنْسِكها»، أي: نجعلك ناسياً لها، أو يكون المعنى نأمر بتركهان يقال: أنسيته الشيء، أي: أمرته بتركه، ونَسِيتُهُك تَرَكْتُهُ؛ وأنشدوا: [الرجز]
٧٢٨ - إنَّ عَلَيَّ عُقْبَةً أَقْضِيهَا لَسْتُ بِنَاسِيهَا وَلاَ مُنْسِيهَا
أي: لا تاركها ولا آمراً بتركها.
370
وقال الزجاج: «هذه القراءة لا يتوجّه فيها معنى الترك، لا يقال: أنسى بمعنى ترك».
قال الفارسي وغيره: «ذلك متّجه؛ لأنه بمعنى نجحعلك تتركها»، وضعف الزجاج أيضاً تحمل الآية على معنى النسيان ضد الذكر وقال: إن هذا لم يكن له عليه السلام ولا نسي قرآناً.
[بدليل] قوله تعالى: ﴿وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [الإسراء: ٨٦]، أي: لم نفعل شيئاً من ذلك.
وأجاب الفارسي بأن معناه لم نذهب بالجميع.
قوله تعالى: «نَأتِ» هو جواب الشرط، ودجاء فعل الشرط والجزاء مضارعين، وهذا التركيب أفضح التراكيب، أعن: مجيئها مضارعين.
قوله: «بِخَيْرٍ مِنْهَا» متعلّق ب «نَأْتِ»، وفي «خير» هنا قولان:
الظاهر منهما: أنها على بابها من كونها للتفضيل، وذلك أن الآتي به إن كان أخفّ من المنسوخ، أو المسنوء، فخيريته بالنسبة إلى سقوط أعباء التكليف، وإن كان أثقل فخيرته بالنسبة إلى زيادة الثواب. وقوله تعالى: «أو مثلها» أي: في التكليف والثواب، وهذا واضح.
والثاني: أن «خيراً» هنا مصدراً، وليس من التفضيل في شيء، وإنما هو خير من الخُيُور، كخير في قوله: ﴿أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [البقرة: ١٠٥] و «من» لابتداء الغاية، والجار والمجرور صفة لقوله «خير» أي: خير صادر من جهتها، والمعنى عند هؤلاء: ما ننسخ من آية أو نؤخّرها نَأْت بخير من الخيور من جهة المَنْسوخ أو المنسوء.
وهذا بعد جدّاً لقوله بعد ذلك: «أوْ مِثْلِهَا» فإنه لا يصح عظفه على «بخير» على هذا المعنى، اللهم إلا أن يقصد الخير عد التكليف، فيكون المعنى: نأت بخير من الخُيُور، وهو عدم التكليف، أو نأت بمثل المنسوخ أو المنسوء. وأما عطف «مثلها» على الضمير في «منها»، فلا يجوز إلأَ عند الحكوفيين لعدم أعادة الخافض. وقوله: «مَا نَنْسَخْ» فيه التفات من غَيْبة إلى تكلم، ألا ترى أن قبلة «وَاللهُ يَخْتَصُّ» «واللهُ ذُو الفَضْلِ».

فصل في بيان معنى النسخ


قال ابن الخطيب: الناسخ عبارة عن طريق شرعي يدلّ على إزالة الحكم الذى كان ثابتاً بطريق شرعي.
371
والنسخ جائز عقلاً واقع سمعاً، ومن الهيود من أنكره عقلاً، منهم من جَوّزه عقلاً، ومنع منه سمعاً.
ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ.
واحتد الجمهور من المسلمين على جواز ووقوعه؛ لأن الدلائل دلّت على نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونبوته لا تصحّ غلا م القول بنسخ شرع من قبله، فوجب القط بالنَّسْخِ.
على اليهود إلزامان.
الأول: جاء فى التوراة أن الله تعالى قال لنوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، عند خروجه من الفلك: «إني جعلت كل دابة مأكلاً لك، ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب وما خلا الدّم فلا تأكلوه».
ثم إنه تعالى حرم على موسى، وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان.
الثاني: كان آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يزوج الأخت من الأخ، وقد حرمه بعد ذلك على موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وعلى غيره.
قال منكر النَّسخ: لا نسلم أن نبوة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا تصح إلاَّ مع القول بالنسخ، لأن من الجائز أن يقال: إن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام [أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ثم بعد ذلك أمر النَّاس باتّباع محمد عليه الصلاة السلام، فعند ظهور شرع محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ زل التكليف بشرعهما، وحصل التكليف بشرع محمد عليه الصلاة السلام لكنه] لا يكون ذلك نَسْخاً، بل جارياً مجرى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل﴾ [البقرة: ١٨٧] ومن أنكر وقوع النسخ من المسلمين بنوا مذهبهم على هذا الحرف، وقالوا: قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قد بشرا في التَّوْرَاة والإنجيل بمبعث محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأن عند ظهوره يجب الرُّجُوع إلى شرعه، وإذا كان الأمر كذلك فمع قيام هذا الاحتمال امتنع الجزم بقوع النسخ.

فصل فى حجج منكرى النسخ


احتج مكرو النَّسْخ بأن قالوا: إن الله تعالى لما بيّن شرع عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فاللفظ الدال على تلك الشريعة، إما أن يقال: إنها دالة على دوامها، أو لا يدل على دوامها، أو [لم يكن] فيها دلالة على الدوام، ولا على [عدم الدوام]، فإن بيّن فيها ثبوتها على الدوام، ثم تبين أنها ما دامت كان الخبر الأول كذباً؛ لأنه غير جائز على الشرع، وأيضاً فلو جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق غلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخاً
372
في شرع موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام مع أنهما لم يدوما، زال الوثوق عنه في كل الصور.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: ذرك اللفظ الدَّال على الدوام، ثم قرن به ما يدلّ على أنه سينسخه أو ما قرب به إلا أنه نصّ على ذلك، إلا أنه لم ينقل إلينا في الجملة؟
قلت: هذا ضعيف لوجوه:
أحدها: أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جميع بين كلامين متناقضين.
وثانيها: على هذا التقدير قد بين الله تعالى أن شرعهما سيصير منسوخاً، فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية أيضاًح لأنه لو جاز أن ينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية لجاز مثله في شرعنا أيضاً، وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ؛ لأن ذلك من الوقائع العظيمة التى تتوفّر فيها الدواعي على نقله، وما كان كذلك وجب اشتهاره، وبلوغه إلى حَدّ التواتر، وإلا فلعلّ القرآن عورض، ولم تنقل معارضته، ولعلّ محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غير هذا الشرع من هذا الوضع، ولم ينقلن [وإذا كان ذلك غير جائز وجب] أن تنقل هذه الكيفية على سبيل التواتر، فنقول: لو أن الله تعالى نصّ في زمان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام على أن شرعيهما سيصيران منسوخين لكان ذلك مشهوراً لأهل التواتر، وكان معلوماً لهم بالضرورة، ولو كان كذلك لاستحال مُنَازعة الجمع العظيم فيه، فحيث رأينا اليهود والنصارى مطبقين على إنكار ذلك علمان أنه لم يوجد التنصيص على أن شرعيهما يصيران منسوخيني.
وأما القسم الثاني: وهو أن يقال: [إن الله تعالى نص على شرع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقرن به ما يدل به على أنه منقطع غير دائم].
فهذا باطل لما بت أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذلك معلوماً بالضرورة لأهل التواتر.
وأيضاً فبتقدير صحته لا يكون ذلك نسخاً، بل يكون ذلك انتهاء للغاية.
وأما القسم الثالث: وهو أنه [تعالى نص على شرع موسى عليه الصلاة السلام ولم يبيّن فيه كونه دائماً، أو كونه غير دائم] فنقول: إنه ثبت في أصول الفقة أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار، وإ‘نما يفيد المرة الواحدة، فإذا أتى المكلف بالمرة
373
الواحدة، فقد خرج عن عُهْدة الأمر، فورود أمر آخر بعد ذلك لايكون نَسْخاً للأمر
374
الأول، فثبت بهذا التقيسم أن القول بالنسخ مُحَال.

فصل في تحرير محلّ الاستدلال بالآية


قال ابن الخطيبك والاستدلال بهذه الآية على وقوع النَّسخ ضعيف؛ لأن «ما» هاهنا تفيد الشرط والجزاء، وكما أن قولك: «من جائك فأكرمه» لا يدعل على حصول المجيء، بل على أنه متى جاء وَجَبَ الإكرام، ، فكذا هذه الآية لا تدلّ على حصول النسخ، بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه، فالأقوى أن تعوّل في الإثبات على قوله تعالى ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ﴾ [النحل: ١٠١] وقوله: ﴿يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب﴾ [الرعد: ٣٩].

فصل في فوائد معرفة النسخ


قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: معرفة هذا الباب أكيدةٌ عظيمة، لا يستغنى عن معرفته العلماءن ولا ينكره إلا الجَهَلة؛ لما يترتب عليه من الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام.
روى أبو البختي قالك دخل علي رَضِيَ اللهُ عَنْه المسجد، فإذا رجل يخوف الناس؛ فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يذكر الناس؛ فقال: ليس برجل يذكر الناس ﴿لكنه يقول: أنا فلان ابن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟﴾ فقال: لا؛ قال: فأخرج من مسجدنا ولا تُذكِّر فيه.
وفي رواية أخرى: أَعَلِمْتَ الناسخ والمنسووخ؟ قال: لا؛ قال: قد هلكت وأهلكت!.
ومثله عن ابن عباس رضى الله عنهما.

فصل في أن للناسخ حقيقة هو الله


اعلم أن الناسخ في الحققية هو الله تعالى، وسمي الخطاب الشرعي ناسخاً تجوزاً واحتجوا على وقوع النسخ في القرآن بوجوه:
أحدها: هذه الآية.
وأجاب عنها أبو مسلم بوجوه:
الأول: أن المراد بالآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل، كالسَّبْت، والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله تعالى وتعبّدنا بغيره، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون: لا تأمنوا إلا لمن تبع دينكم، فأبطل الله عليهم ذلك بهذه الآية.
375
الوجه الثاني: المراد من النسخ نَقْلهُ من اللوح المحفوظ، [وتحويله عنه] إلى سائر الكتب اوهو كما يقال: نسخت الكتاب.
الوجه الثالث: أنا بينا أن هذه الآية لا تدلّ على وقوع النسخ، بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خير.
[ومن الناس من أجاب عن الاعتراض] الأول بأن الآية إذا أطلقت، فالمراد بها آيات القرآن؛ لأنه هو المعهود عندنا.
وعن الثاني بأن نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختصّ ببعض القرآن، وهذا النسخ مختص ببعضه.
ولقائل أن يقول على الأول: لا نسلم أن لفظ الآية مختص بالقرآن، بل هو عام في جميع الدلائل.
وعلى الثاني لا نسلم أن النسخ المذكور في الآية مختص ببعض القرآن، بل التقدير والله أعلم: ما ننسخ من اللوح المحفوظ، فإنا نأتي بعده بما هو خير منه.
الحجة الثانيك [للقائلين بوقوع النسخ في القرآن] أن الله تعالى أمر المرأة المتوفى عنها زوجها بالاعتدداد حولاً كاملاً، وذلك في قوله: ﴿والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول﴾ [البقرة: ٢٤٠] ثم نسخ ذلك بأربعة أشره وعشر، كما قال ﴿والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾ [البقرة: ٢٣٤].
قال أبو مسلمك الاعتداد بالحَوْل ما زال بالكلية؛ لأنها لو كانت حاملاً ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولاً كاملاً، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصاً لا ناسخاً.
والجواب أن مدة عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل، سواء حصل وضع الحمل بِسَنَةٍ أو أقل أو أكثر، فجعل السّنة العدة يكون زائلاً بالكلية.
الحجة الثالثةك أمر الله بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾
[المجادلة: ١٢]، ثم نسخ ذلك.
قال أبو مسلم: إنما زال ذلك لزوال سببه؛ لأن سبب التعبّد بها أن يتماز المنافقون من حيث إنهم لا يتصدقون عن المؤمنين، فلما حصل هذا العرض سقط التعبد.
والجواب: لو كان كذلك لكان من لم يتصدق منافقاً وهو باطل؛ لأنه روي أنه لم
376
يتصدق غير علي رَضِيَ اللهُ عَنْه ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: ﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ﴾ [المجادلة: ١٣] ٍ.
الحجة الرابعة: أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٥]، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: ﴿الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٦].
الحجة الخامسة: قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾ [البقرة: ١٤٢] ثم أزالهم عنها بقوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ [البقرة: ١٤٤] قال أبو مسلم: «حكم تلك القبلة مازال بالكلية جواز التوجيه إليها عند الإشكال، أو مع العلم إذا كان هناك عذر».
الجواب: أن على ما ذكرته لا فرق بين «بيت المقدس»، وسائر الجهات، فالخصوصية التي امتاز بها «بيت المقدس» عن سائر الجهات قد زالت بالكلية، فكان نسخاً.
الحجة السادسةك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ﴾ [النحل: ١٠١] والتبديل يشتمل على رفع إثبات، والمرفوع: إما التلاوة، وإما الحكم فكيف كان فهو رفع ونسخ.
واحتجّ أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه ﴿لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت: ٤٢] فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل.
والجواب: أن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله، ولا يأتيه من بعده أيضاً ما يبطله.

فصل في أنواع النسخ


تراة ينسخ الحكم، وتارة التلاوة، وتارة هما معاً، فأما نسخ الحكم دون التلاوة فكهذه الآيات.
377
وأما نسخ التلاوة دو الحكم، فكما يروى عن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: كنا
378
نقرأ «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيا فَارُجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَلااً مِنَ اللهِ واللهُ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ».
وروي: «لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ واديَان مِنْ مالٍ لاَبْتَغَى إِلَيْهمَا ثَالِثاً، وَلاَ يَمْلاًُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ، وَيتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ».
وأما نسخ الحكم والتلاوة معاً، فكما روت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها قالت: «أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنُسِخْن بخمس معلومات»، فالعشر
379
مرفوع التلاوة والحكم جميعاً، والخمس مرفوع التلاوة ثابت الحكم.
ويروى أيضاً أن سورة «الأحزاب» كانت بمنزلة السبع الطوال، أو أزيد، ثم انتقص منها.
[وروى ابن شهاب، قال: حدثني أبو أمامة في مجلس سعيد بن المسيب أن رجلاً قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن، فلم يقدر على شيء منها، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها فغدوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال أحدهم: قمت الليل يا رسول الله لأقرا سورة من القرآن فلم أقدر على شيء، فقام الآخر، فقال: وأنا كذلك يا رسول الله، فقال الآخر: فإنا والله كذلك يا رسول الله فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«إِنَّهَا مِمَّا نَسَخَ اللهُ البَارِحَةً» وسعيد بن المسيّب يسمع ما يحدث به أبو أمامة، فلا ينكره.

فصل في بيان أنه ليس شرطاً البدل في النسخ


قال قومك لا يجوز نسخ الحكم إلاَّ بدل واحتجوا بهذه الآية.
وأجيبوا بأن نفي الحكم، وإسقاط التعبُّد به خير من ثبوته في ذلك الوقت، وقد نُسِخَ تقديم الصدقة بين يدي الرسول لا إلى بدل].

فصل في جواز النسخ بالأثقل


قال قوم: لا يجوز نسخ الشيء إلى ماهو أثقل منه، واحتجوا بأن قوله: ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ ينافي كونه أيقلح لأن الأثقل لا يكون خيراً منه ولا مثله.
وأجيب: بأن المراد بالخير ما يكون أكثر ثواباً في الآخرة، ثم إن الذي يدلّ على وقوعه أن الله سبحانه نسخه في حقّ الزناة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، وكانت الصَّلاة ركعتين عند قوم، فنخست بأربع فى الحضر.
وأما نسخه إلى الأخف، فكنسخ العدّة من حَوْل إلى أربعة أشهر وعشرة، وكنسخ صلاة اللَّيل إلى التخيير فيها.
وأما نسخ الشيء إلى المثل فتحويل القِبْلَة.

فصل: الكتاب لا ينسخ بالسُّنَّة المتواترة


قال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: الكتاب لا ينسخ بالسُّنة المتواترة، واستدل بهذه الآية
380
قال: لأنه قوله تعالى: ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا﴾ يفيد أنه يأتي بما هو من جنسه خير منه، كما إذا قال الإنسان: ما أخذ منك من ثواب آتيك بخير منه، وجنس القرآن قرآن، وأيضاً المنفرد بالإتيان بذلك الخير، وهو القرآ، الذي هو كلام الله تَعَالى.
وأيضاً فإن [السُّنة لا تكون خيراً من القرآن].
وروى الدَّارقطني عن جابر أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «القُرْآنُ يَنْسَخُ حَدِيُثِي وحَديْثِي لا يَنْسَخُ القُرْآنَ».
وأجيب عن قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى﴾ [النجم: ٣ - ٤] وقوله: ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: ٧] وإذا ثبت أن الكل من عند الله، فالناسخ في الحقيقة هو الله تعالى [أقصى ما فيه أنَّ الوحي ينقسم إلى قسمين متلوّ، وغير متلو] وقد نسخت الوصية للأقربين، لقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ وَصِيَّة لِوَارِثِ».
ونسخ حبس الزَّاني في البيوت بخبر الرجم.
والجواب: استدل به الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه من الآية، وأما الوصية فإنها نسخت بأية المواريث قاله عمر وابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما وأشار النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى هذا بقوله:
«إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقًّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّة لِوَارِثٍ».
وأما حبس الزاني، فإنما هو أمر بإمساكهن إلى غاية، وهي إلى ﴿أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ [النساء: ١٥] فبيّن صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما هو وليس بنسخ.
وروي أيضاً أن قوله: «الشَّيخ والشيخة إذا زينا، فارجموهما ألبتة» كان قرآناً، فلعل الناسخ إما وقع به.
381

فصل هل يدخل النسخ في الأخبار؟


اختلفوا في الأخبار هل يدخلها النسخ؟
فالجمهور على أن النسخ لا يدخل الخبر، لاستحالة الكذب على الله تعالى.
وقيل: إن الخخبر إذا تضمّن حكماً شرعيّاً جاز نسخه، كقوله تعالى: ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً﴾ [النحل: ٦٧].

فصل هل يجوز حمل الجنب للقرآن الكريم؟


القرآن المنسوخ التلاوة يجوز للجنب حمله، ولو صلى به لم تصح صلاته.

فصل في استدلال المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن


استدلت المعتزلة بهذه الآية على [خلق القرآن] من وجوه:
أحدها: أن كلام الله تعالى لو كان قديماً لكان الناسخ والمنسوخ قديمين وذلك
382
مُحَال؛ لأن الناسخ يجب أن يكون متأخراً عن المَنْسُوخ، والمتأخر يستحيل قدمه، والمنسوخ يجب زوااله وارتفاعه، ما ثبت زواله استحل قدمه.
وثانيها: أن الآية دلّت على أن بعض الآيات خير من بعض، وما كان كذلك لا يكون قديماً.
وثالثها: قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يدل على أنه القادر على نسخ بعضها، وإتيانه بشيء آخر بدلاً من الأولن وما كان داخلاً تحت القدرة، وكان فعلاً كان محدثاُ.
وأجيب عنه: بأن كونه ناسخاً ومنسوخاً إنما هو من وعوارض الأَلْفَاظ، ولا نزاع في حدوثها، فلما قلتم: إن المعنى الحقيقي الذي هو مدلول العبارات والاصطلاحات محدث بها.
قالت المعتزلة: لا شكّ أن تعلقه الأول قد زال، وحدث له تعلق آخر، فالتعلق الأول محدث؛ لأنه زال، والقديم لا يزول، والتعلق الثاني حادث، لأنه حصل بعد أن لم يكن، والكلام الحقيقي لا ينفك عن هذه التعلقات، وما لا ينفك [عن الحدث] محدث.
والجواب: أن قدرة الله تعالى كانت في الأَزَلِ متعلّقة بإيجاد العالم، فعند دخول العالم في الوجود، هل يبقى ذلك التعلّق أو لم يبق؟
فإن بقي يلزم أن يكون القادر قادراً على إيجاد الموجود وهو محال، وإن لم يبق فقد زال ذلك التعلق، فألزمكم حدوث قدرة الله تعالى على ما ذكرتم، وكذلك علم الله تعالى كان متعلقاً بأن العالم سيوجد، فعند دخول هذا العالم في الوجود إن بقي التعلّق الأول كان جَهْلاً، وإن لم يَبْقَ يلزمكم كون التعلق الأول حادثاً؛ لأنه لو كان قديماً لما زال، ووكون التعلّق الذي حصل بعد ذلك حدثاً فإِذاً عالمية الله تعالى لا تنفكّ عن التعلّقات الحادثة، وما لا ينفك عن المحدث [محدث] فعالمية الله محدثة، فكل ما تجعلونه جواباً عن العالمية والقادرية هو جوابنا عن الكلام.
قوله: «أَلَم تَعْلَمْ» هذا استفهام معناه التقرير، فلذلك لم يحتج إلى معادل يعطف عليه ب «أم»، و «أم» في قوله: «أَمْ تُرِيْدُونَ» منقطعة هذا هو الصحيح في الآية. قال ابن عطية: ظاهره الاستفهام المَحْضُ، فالمعادل هنا على قول جماعة: «أم تريدون»، وقال قوم: «أم» منقطعة، فالمعادل محذوف تقديره: أم علمتم، هذا إذا أريد بالخطاب أمته عليه السلام.
أما إذا أريد هو به، فالمعادل محذوف لا غير، وكلا القولين مروي انتهى.
383
وهذا فيه نظر؛ لما مرَّ أن المراد به التقرير، فهو كقوله: ﴿أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: ٣٦] ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: ١].
والاستفهام بمعنى التقرير كثير جدّاً لا سيما إذا دخل على نفي كما مثلته لك.
وفي قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله﴾ التفاتان.
أحدهما: خروج من خطاب جماعة، وهو «خير من ربكم».
والثاني: خروج من ضمير المتكلّم المعظم نفسه إلى الغيبة بالاسم الظاهر، فلم يقل: ألم تعلموا أننا، وذلك لما لا يخفى من التعظيم والتَّفخْيم. و ﴿أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ «أن» وما في حَيِّزها، إما سادة مسدّ مفعولين كما هو مذهب الجمهور، أو واحد، والثاني محذوف كما هو مذهب الأخفش.
384
قال ابن الخطيب: لما حكم بجواز النسخ عَقّبه ببيان أن ملك السموات والأرض له لا لغيره، وهذا هو التنيه على أنه سبحانه وتعالى إنما حين [منه الأمر والنهي لكونه مالكاً للخلق، وهذا هو مذهب اصحابنا، وأنه] إنما حسن التكليف منه لمحض كونه مالكاً للخلق مستولياً عليهم لا لثواب يحصل، أو لعقاب يندفع.
فقال القفال رَحِمَهُ اللهُ تعالىك ويحتمل أن يكون هذا إشارة إلى أمْمر القِبْلَة، فإنه تعالى أخبرهم بأنه ملك السموات والأرض، وأن الأمكنة والجهات كلها له، وأنه ليس بعض الجهات أكبر حرمة من البعض، إلاَّ من حيث يجعلها هو تعالى له، وإذا كان كذلك وكان الأمر باستدلال القِبْلَة إنما هو مَحْضُ التخصيص بالتشريف، فلا مانع يمنع من تغييره من جهة إلى جهة.
قوله: «أَلَمْ تعْلَمْ» جزم ب «لم»، وحروف الاستفهام لا تغير عمل العامل، وقوله: «أَلَمْ تَعْلَمْ» خطاب للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووالمراد أمته، لقوله: ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾.
وفي قوله: «مُلْك» وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأ، وخبره مقدم عليه، والجملة في محلّ رفع خبر ل «أن».
والثاني: أنه مرفوع بالفاعلية، رَفَعَهُ الجار قبله عند الأخفش، لا يقال: إن الجار هنا قد اعتمد لوقوعه خبراً ل «أن»، فيرفع الفاعل عند الجميع؛ لأن الفائدة لم تتم به، فلا يجعل خبراً.
384
والمُلْك بالضم الشيء المملوك، وكذلك هو بالكسر، إلا أنَّ المضموم لا يستعمل إلا فى مواضع السّعة وبسط السلطان.
وتقدم الكلام في حقيقة الملك في قوله: ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ [الفاتحة: ٤].
قوله: «وَمَا لَكُمْ» يجوز في «ما» وجهان.
أحدهما: أن تكون تميمة، فلا عمل لها، فيكون «لكم» خبراً مقدماً، و «من ولِيّ» مبتدأ مؤخراً زيدت فيه «من» ن فلا تعلّق لها بشيء.
والثاني: أن تكون حجازية، وذلك عند من يجيز تقديم خبرها ظرفاً أةو حرف جر، فيكون «لكم» في محلّ نصب خبراً مقدماً، و «مِنْ وَلِيّ» اسمها مؤخراً، و «من» فيه زائدة أيضاً.
و «من دون الله» يه وجهان:
أحدهما: أنه متعلّق بما تعلق به «لكم» من الاستقرار المقدر، و «من» لا بتداء الغاية.
والثاني: أنه في محلّ نصب على الحال من قوله: «من ولي أو نصير» ؛ لأنه في الأصل صفة للنكرة، فلما قدم عليها انتصب حالاً قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
فعلى هذا يتعلّق بمحذوف غير الذي تعلّق به «لَكُمْ»، ومعنى «مِنْ دُونِ اللهِ» سِوَى الله؛ كما قال أمية بن أبي الصلت [البسيط]
٧٢٩ - يَا نَفْسُ مَالَكِ دُونَ اللهِ مِنْ واقِ [وَمَا عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ مِنْ بَاقِ]
والولي: من وليت أمر فلان، أي قمت به، ومنهك وليّ العهد أيك المقيم بما عهد إليه من أمر المسلمين.
«وَلاَ نَصِيرٍ» عطل على لفظ «وليّ» ولو قرىء برفعه على الموضع لكان جائزاً، وأتى بصيغة «فعيل» في «ولي» و «نصير» ؛ لأنها أبلغ من فاعل، ولأن «ولياً» أكثر استعمالاً من «وَالٍ» ولهذا لم يجىء في القرآن إلا في سورة «الرعد».
وأيضاً لتواخي الفواصل وأواخر الآي.
وفي قوله: «لكم» التفاوتٌ من خطاب الواحد لخطاب الجماعة، وفيه مناسبة، وهو أن المَنْفِيَّ صار نصّاَ في العموم بزيادة «من» فناسب كون المنفي عنه كذلك فَجُمِعَ لذلك.

فصل في أن الملك غير القدرة


استدل بعضهم بهذه الآية على أن الملك غير القدرة.
385
فقال: إنه تعالى قال أولاً: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ١٠٦] ثم قال بعده: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾.
فلو كان المُلْك عبارة عن القدرة لكان هذا تكريراً من غير فائدة، والكلام في حقيقة الملك.
386
ذكروا في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوها:
أحدها: أنه تعالى لما حكم بجواز النسخ في الشرائع، فلعلّهم كانوا يطالبونه بتفاصيل ذلك الحكم، فمنعهم الله تعالى عنها، وبين أنَّهم ليس لهم أن يشتغلوا بهذه الأسئلة الفاسدة [كسؤالات قوم موسى عليه الصلاة ولسلام].
وثانيها: لما تقدم من الاوامر والنواهي قال لهم: إن لم تقبلوا ما أمرتكم به وتمرّدتم عن الطاعة كنتم كمن سأل موسى عليه السلام ما ليس له أن يسأله. عن أبي مسلم.
وثالثها: لما أمر ونهى قال: أتفعلون ما أمرتم أم تفعلون كما فعل من قبلكم من قوم موسى؟ و «أم» هذه يجوز أن تكون متّصلة معادلة [لقوله تعال: «ألم تعلم» وهي مفرقة لما جمعته أي: كما أن «أو» مفرقة لما جمعته تقول: اضرب أيهم شئت زيداً أم عمراً، فإذا قلت: أضرب أحدهم.
قلت: اضرب زيداً أو عمراً.
أو تكون منقطعة، فقتدم ب «بل» والهمز، ولا تكون إِلاَّ بعد كلام تام كقوله: نما الإبل أم شاء؛ كأنه قال: بل هي شاء، ومنه قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾ [هود: ٣٥] أي: يقولون.
قال الأخْطَلُ: [الكامل]
٧٣٠ - كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ غَلَسَ الظَّلاَمِ مِنَ الرَّبابِ خَيَالاً
ويكون إضراباً للالتفات من قصة إلَى قصة].
386
قال أبو البقاء: أم هنا منقطعة، إذ ليس في الكلام همزة تقع موقعها ومع أم أَيّهُما، والهمزة من قوله: «ألم تعلم» ليست من «أم» في شيء، والمعنى: بل أتريدون فخرج من كلام إلى كلام.
وأصل تريدون: «تُرْوِدُون» ؛ لأنه من رَادَ يَرُودُ، وقد تقدّم، فنقلت حركة «الواو» على «الراء»، فسكنت «الواو» بعد كسرة فقلبت ياء.
وقيل: «أم» للاستفهام، وهذه الجملة منقطعة عما قبلها.
وقيل: هي بمعنى «بل» وحدجها، وهذان قولان ضعيفان.
قوله تعالى: «أَنْ تَسْأَلُوا» نصب ومنصوب في محل نصب مفعولاً به بقوله: «تريدون» أي: أتريدون سؤال رسولكم.
قوله: «كَمَا سُئِلَ» متعلق ب «تسألوا» و «الكاف» في محلّ نصب، وفيها التقديران المشهوران: فتقدير سيبويه ورَحِمَهُ اللهُ تعالى أنها حال من ضمير المصدر المحذوف.
أي: إن تسألوه أي: السؤال حال كونه مُشَبَّهاً بسؤال قوم موسى له، وتقيدر جمهور النجاة: أنه نعت لمصدر محذوف، أي: إن تسألوا رسولكم سؤالاً مشبهاً كذا. و «ما» مصدرية، أي: كسؤال موسى. [وأجاز الحوفي كونهنا بمعنى الذي فلا بد من تقدير عائد أي كالسؤال الذي سأله موسى] و «موسى» مفعول لم يسمّ فاعله، حذف الفاعل للعم به، أي كما سأل قوم موسى.
والمشهور: «سئل» بضم السين وكسر الهمزة، وقرأ الحسنك «سِيلَ» بكسر السين وياء بعدها من: سال يسال نحوك خفت أخاف، وهل هذه الألف في «سال» أصلها الهمز أو لا؟ تقدم خلاف فيه، وسيأتي تحقيقه في «سأل» وقرىء بتسهيل الهمزة بَيْنَ بَيْنَ و «من قبل» متعلّق ب «سئل»، و «قبل» مبينة على الضم؛ لأن المضاف إليه معرفة أي: من قبل سؤالكم، وهذا توكيد، وإلا فمعلوم أن سؤال موسى كان متقدماً على سؤالهم.
قوله: «بالإيمان» فيه وجهان:
أحدهما: أنها ياء العِوَضية، وقد تقدم تحقيق ذلك.
والثاني: أنها للسببية.
قال أبو البقاء: يجوز أن يكون مفعولاً يتبدّل، وتكون الباء للسبب، كقولك: اشترتيت الثوب بدرهم، وفي مصاله هذا نظر.
387
وقوله تعالى: ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل﴾ قرىء بإدغام الدَّال في الضاد وإظهارها.
و «سواء» قال أبو البقاء: سواء السبيل ضرف بمعنى وسط السبيل وأعدله، وهذا صحيح فإن «سواء» جاء بمعنى وسط.
قال تعالى: ﴿فِي سَوَآءِ الجحيم﴾ [الصافات: ٥٥].
وقال عيسى بن عمر: ما زلتُ أكتب حتى انقطع سَوَائِي؛ وقال حَسَّان: [الكامل]
٧٣١ - يَا وَيْحَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ورَهْطِهِ بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ المْلْحَدِ
ومن مجيئه بمعنى العدل قول زهير: [الوافر]
٧٣٢ - أَرُنَا خُطَّةً لاَ عَيْبَ فِيهَا يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيْهَا السَّوَاءُ
والغرض من هذه الآية التشبيه دون نفس الحقيقة، ووجه التشبيه في ذلك أن من سلك طريقة الإيمان، فهو جَارٍ على الاستقامة المؤدية إلبى الفوز والظّفر بالطلبة من الثواب والنعيم، فالمُبَدِّل لذلك بالكفر عادل عن الاستقامة فقيل فيه: إنه ضل سواء السبيل.
والسبيل يذكر ويؤنث: ﴿قُلْ هذه سبيلي﴾ [يوسف: ١٠٨].
والجملة من قوله: «فقد ضَلَّ» في محل جزم؛ لأنها جزاء الشرط، والفاء واجبة هنا لعدم صلاحيته شرطاً.

فصل في المخاطب بهذا


في المخاطب بهذا ثلاثة أوجه:
أحدها: [أنهم المسلمون قاله الأصم، والجُبَّائي، وأبو مسلم، ويدل عليه وجوه:
أحدها: أن قوله تعالى] :«أَمْ تُرِيدُونَ» يقتضي معطوفاً عليه وهو قوله: «لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا» فكأنه قال: وقولوا: انظرنا واسمعوا فهل تفعلون ذلك كما أمرتم أم تريدون أن تسألوا رسولكم؟
وثانيها: أن المسلمين كان يسألون محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم وبجل وعظم عن أمور لا خير لهم في البَحْثِ عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مالم يَكُنْ لهم فيه خير عن البحث عنه.
وثالثها: سأل قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أَنْواطٍ كما كان للمشركين ذات
388
أنواط، وهي شجرة كانوا يعبدونهان ويعلقون عليها المأكول والمشروب، كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة.
القول الثاني: أنه خطاب لأهل «مكة»، وهو قول ابن عباس ومجاهد رضي الله تعالى عنهم؛ لأنه يروى أنّ عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في رهط من قريش فقال: يا محمد والله ما أومن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء بأن تصعدن ولن نؤمن لرقيّك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتاباً [من عند الله إلى عبد الله بن أمية أن محمداً رسول الله فأتبعوه. وقال له بقية الرَّهْطك فإن لم تستطع ذلك فائتنا بكتاب من] عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض، كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله فيها كلّ ذلك، فنؤمن لك عند ذلك.
فأنزل الله تعالى: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ﴾ محمداً أن يأتيكم بالآيات من عند الله كما سأل السبعون فقالوا: ﴿نَرَى الله جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥]. وعن مجاهد رَحِمَهُ اللهُ تعالى أنّ قريشاً سألت محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يجعل لهم الصَّشفا ذهباً وفضّة، فقال: نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا.
القول الثالث: المراد بهم اليهود، [وهذا القول أصح، لأن هذه السورة من أول قوله] :﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي﴾ [البقرة: ٤٧] حكاية ومحاجّة معهم؛ ولأن الآية مدنية، ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم.

فصل في سؤالهم


[قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: ليس في الآية أنهم أتوا بالسؤال فضلاً عن كيفيته، وإنما المرجع فيه إلى الروايات المذكورة.
فإن قيل: إن كان ذلك السؤال طلباً للمعجزة فليس بكفر؛ لأن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفراً، وإن كان طلباً لوجه الحكمة في نسخ الأحكام فهذا أيضاً لا يكون كفراًح لأن الملائكة عليهم السلام طلبوا الحكمة في خَلْق البشر، ولم يكن ذلك كفراً. والجواب أن يُحملأ على أنهم طلبوا أن يُجعل لهم إله كما لهم آلهة، أو طلبوا المعجزة على سبيل التعنُّت، أو اللَّحَاج، فهذا كفر، والسبب هذا السؤال، والله أعلم].
389
كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
390
سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر بعد وقعة «أحد» ألم تروا ما أصابكم، ولو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا، فهو خير لكم وأفضل، ونحن أهدى منكم سبيلاً.
فقال عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: شديد، قال: فإني قد عاهدت أني لا أكفر بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم وبجل وعظم ما عشت.
فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ، وقال حذيفة: وأما أنا فقد رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قِبْلَةً، وبالمؤمنين إخواناً، ثم أتيا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأخبراه فقال: أصبتما خيراً وأفلحتما فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿لَوْ يَردُّنَكُمٍ﴾ الكلام في «لو» كالكلام فيها عند قوله: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ﴾ [البقرة: ٩٦]، فمن جعلها مصدرية هناك جعلها كذلك هنا، وقال: هي مفعول «يود» أي: ودّ كثير ردَّكم.
ومن أبي جعل جوابها محذوفاً تقديره: لو يردونكم كفاراً لسُرُّوا أو فرحوا بذلك.
وقال بعضهمك تقديره: لو يردونكم كفاراً لودّوا ذلك، ف «وَدَّ» دَالَّى على الجواب، وليست بجواب؛ لأن «لو» لا يتقدمها جوابها كالشرط.
وهذا التقدير الذي قدره هذا القائل فاسد، وذلك أن «لو» حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، فيلزم من تقديره ذلك أن وَدَادتهم ذلك لم تقع؛ لأن الموجب لظفاً منفي معنى، والغرض من وَدَادَتهم ذلك واقعة باتفاق، فتقدير لسروا ونحوه هو الصحيح.
و «يرد» هنا فيه قولان.
أحدهما وهو الواضح أنها المتعدّية لمفعولين بمعنى «صَيَّر»، فضمير المخاطبين مفعولً أول، و «كفاراً» مفعول ثان؛ ومن مجيء «رَدَّ» بمعنى «صَيَّر» قوله: [الوافر]
390
وجعل أبو البقاء كفاراً حالاً من ضمير المفعول على أنها المتعدية لواحد، وهو ضعيف، فأن الحال يستغنى عنها غالباً، وهذا لابد منه.
و «مِنْ بَعد» متعلق ب «يردُّونكم» و «من» لابتداء الغاية.
قوله تعالى: «حسداً» نصب على المفعول له، وفيه الشروط المجوّزة لنصبه، والعامل فيه «ود» أي: الحامل على ودادتهم رَدُّكم كُفََاراً حَسَدُهُم لكم.
وجوزوا فيه وجهين آخرين:
أحدهما: أنه مصدر في موضع الحال، وإنما لم يجمع لكوه مصدراً، أي: حاسدين، وهذا ضعيف، لأن مجيء المصدر حالاً لا يطّرد.
الثاني: أنه منصوب على المصدرية بفعل من لفظه أي يحسدونكم حسداً [والأول أظهر الثلاثة].
قوله تعالى: ﴿مِنْ عِنَدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ في هذا الجار ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلّق ب «ود» أي: ودوا ذلك من قبل شهواتهم لا من قبل التدين [والميل مع الحق؛ لأنهم ودّوا ذلك من بعد ما تبيّن لهم أنكم على الحق] و «من» لابتداء الغاية.
الثاني: أنه صفة ل «حسداً» فهو في محلّ نصب، ويتعلّق بمحذوف أي: حسداً كائناً من قبلهم وشهوتهم، ومعناه قريب من الأول.
[الثالث: أنه متعلّق ب «يردّونكم»، و «من» للسببية. أي: يكون الردّ من تلقائهم وجهتهم وبإغوائهم].
قوله تعالى: «من بعد ما» متعلّق ب «وَدَّ»، و «من» للابتداء، أي: أنَّ ودادتهم ذلك ابتدأت من حيث وضوح الحق، وتبيّنه لهم، فكفرهم عُنَادٌ، و «ما» مصدرية أي: من بعد تبيين الحَقّ.
والحسد: تمنِّي زوال نعمة الإنسان. والمصدر حَسَدٌ.
فإن قيل: إنّ النَّفْرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه، فكيف يعاقب عليه؟
فالجواب: أن الذي هو في وصعه أمران:
أحدهما: كونه راضياً بتلك النَّفْرَة.
والثاني: إظهار آثار تلك النَّفْرَة من القَدْح فيه، والقَصْد إلى إزالة تلك النعمة عنه
391
وجدّ أسباب المحبة إليه، فهذا هو الداخل تحت التكليف.
والحمد نوعان: مذموم ومحمود، فالمذموم أن يتمنّى زوال نعمة الله عن المسلم، سواء تمينت مع ذلك أتعود إليك أم لا؛ لأنه فيه تسفيه الحق سبحانه وتعالى وأنه أنعم على مَنْ لا يستحقّ.
والمحمود كقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْن: رَجُل آتاهُ اللهُ تعالى القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَار، وَرَجُلٍ آتاهُ اللهُ مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُ آناءَ اللَّيْلَ وَآناء النَّهَارِ». وهذا الحديث معناه «الغِبْطة» كذا ترجم عليه البُخَاري رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
والصَّفْحُ قريب من العفو، مأخوذ من الإعراض بصفحة العُنْق.
وقيل: معناه التجاوز، من تصفّحت الكتاب أي: جَاوَزْتُ وَرَقَهُن والصَّفُوح من أسماء الله، والصَّفُوح أيضاً: المرأة تستر وجْهَها إعراضاً؛ قال الشاعر: [الطويل]
٧٣٣ - رَمَى الْحَدَثانُ نِسْوَةَ آلِ حَرْبٍ بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُودَا
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ البِيضَ سُودَا
٧٣٤ - صَفُوحٌ فَمَا تَلْقَاكَ إلاَّ بِحِيلَةٍ فَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الوَصْلَ مَلَّتِ
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: العفو: ترك المُؤَاخَذَة بالذَّنب.
والصّفح: أزالة أثرِه من النفس. يقال: صَفَحْتُ عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه، وقد ضربت عنه صَفْحاً إذا أعرضت عنه وتركته، ومنه قوله تعالى: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً﴾ [الزخرف: ٥].

فصل في المراد بهذه الآية


[المراد بهذه الآية أنهم كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعد ما تبيّن لهم أن الإيمان صواب وحقّ، والعالم بأن غيره على حقّ لا يجوز أن يريد ردّه عنه إلاَّ
392
بشبهة يلقيها إليه، لأن المحق لا يعدل عن الحق إلاَّ بشبهة، والشبهة ضربان:
أحدها: ما يتّصل بالدنيا، وهو أن يقال لهم: قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم، وضيق الأمر عليكم، واستمرار المخافة بكم، فاتركوا الإيمان الذي ساقكم إلى هذه الأشياء.
والثاني: في باب الدين: بطرح الشبه في المُعْجزات، أو تحريف ما في التوراة.

فصل في المقصود بأمر الله


قوله: ﴿فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ﴾ يحتمل أمرين:
الأول: أن المراد ترك المقابلة والإعراض عن الجوابح لأن ذلك أقرب إلى تَسْكين الثائرة في الوقت، فكأنه تعالى أمر الرسول بالعَفْو والصفح عن اليهود، فكذا أمره بالعفو والصفح عن مشركي العرب بقوله تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله﴾ [الجاثية: ١٤] وقوله: ﴿واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً﴾ [المزمل: ١٠] ولذلك لم يأمر بذلك على الدوام، بل علّقه بغاية فقال ﴿حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ﴾.
وذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: أنه المُجَازاة يوم القيامة عن الحسن.
وثانيه: أنه] قوة الرسول صولات الله وسلامه عليه وكثرة أمته.
وثالثها: وهو قول أكثر الصحابة والتابعين رَضِيَ اللهُ عَنْهم، أنه الأمر بالقتال؛ لأن عنده يتعين أحد أمرين:
إما الإسلام، وإما الخضوع لدفع الجزية، وتحمل الذل والصَّغار، فلهذا قال العلماء: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر﴾ [التوبة: ٢٩].
ورُويَ أنَّه لم يؤمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتال حتى نزل جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقوله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ﴾ [الحج: ٣٩] وقلّده سيفاً فكان أول قتال قاتل أصحاب عبد الله بن جَحْش ب «بطن نخل»، وبعده غزوة «بدر».
فإن قيل: كيف يكون منسوخاً وهو معلق بغاية كقوله: ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل﴾ [البقرة: ١٨٧]. وإن لم يكن ورود الليل ناسخاً، فكذا هاهنا.
فالجواب: أن الغاية التي تعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعاً لم يخرج ذلك الوارد شرعاً عن أن يكون ناسخاً، ويحلّ محل قوله تعالى: «فَاعفُوا واصْفَحُوا» إلى أن أنسخه عنكم.
393
فإن قيل: كيف يعفون ويصفحون، والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة، والصفح لا يكون إلا عن قدرة؟ فالجواب: أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى، فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عداوتهم عن نفسه وأن يستعين بأصحابه، فأمر الله سبحانه تعالى عند ذلك بالعَفوِ والصفح كي لا يهيّجوا شراً وقتالاً.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: [قال أبو عبيدة:] كل آية فيها ترك للقتال فهي مكّية منسوخة بالقتال.
قال ابن عطية: [الحكم] بأن هذه الآية مكّية ضعيف: لأن مُعَاندات اليهود إنما كانت ب «بالمدينة».
قال القرطبي: «وهو الصحيح».
[التفسير الثاني: العفو والصفح] أنه حسن الاستدعاء، واستعمال ما يلزم فيهم من النصح والإشْفَاق والتشدّد فيه، وهذا لا يجوز نسخه.
وقوله: ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تحذير لهم بالوعيد، سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره.
394
لما أمرنا بالعفو والصفح عن اليهود عقبه بقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ تنبيهاً لهما على ما أعد لهما من الواجبات وقوله بعده: ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ﴾ [المزمل: ٢٠]. الأظهر أن المراد به التطوّعات من الصلوات والزكواتن وبيّن تَعَالى أنهم يجدونه، وليس المراد أنهم يجدون عين تلك الأعمال؛ لأنها لا تبقى، ولأن وِجْدَان عين تلك الإشياء، ولا يرغب فيه، فبقي أن المراد وِجْدَان ثوابه وجزائه.
قوله تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ﴾ كقوله: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ [البقرة: ٦٠١].
فيجوز في «ما» أن تكون مفعولاً بها، وأن تكون واقعةً موقع المصدر، ويجوز في «مِنْ خَيْرٍ» الأربعة أوجه التي في «من آيّةٍ» : من كونه مفعولاً به، أو حالاًن أو تمييزاً، أو متعلّقاً بمحذوف.
و «مِنْ» تبعيضية، وقد تقدم تحقيقها، فليراجع ثَمَّة.
و «لأَنْفُسِكُمْ» متعلّق بت «تقدمُّوا»، أي: لحياة أنفسكمن وحذف، و «تجدوه» جواب الشرط، وهي متعدّية لواحد؛ لأنها بمعنى الإصابة، ومصدرها الوِجْدَان يكسر
394
الواو كما تقدم، ولا بد من حذف مضاف أي: تجدوا ثوابه، وقد جعل الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى الهاء عائدة على «ما»، وهو يريد ذلك؛ لأنَّ الخير المتقدم سبب منقض لا يوجد، إما يوجد ثوابه.
[فصل فيما بعد الموت
جاء في الحديث أن العبد إذا مات قال الناس: مَا خَلَّشفَ؟ وقالت الملائكة عليهم السلام: ما قَدَّمَ؟
وجاء عن عُمَرَ رضي الله تعالى عَنْهُ أنه مَرَّ ببقيع «الغَرْقَد» فقال: السلامُ عليكمُ يا أهل القبور، أخبارُنَا عنْدَنا أنَّ نِسَاءكم قد تزوَّجْن، ودُروكُم قد سُكِنَتْ، وأموالكم قد قُسَّمَتْ، فأجابه هاتفٌ: يا بان الخطاب، أخبارُ ما عندنا أنَّ ما قدَّمْنَاه وجَدْنَاه، وما أنفقْنَاه فقد ربِحْنَاه، وما خلَّفناه فقد خَسِرْناه؛ وقد أحسن القائلُ حيثُ قال: [الكامل]
٧٣٥ - قَدِّمْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ صَالِحاً وَاعْمَلْ فَلَيْسَ إلى الخُلُودِ سَبِيلُ
وقال آخر: [الكامل]
٧٣٦ - قَدِّمْ لِنَفْسِكَ تَوْبَةً مَرْجُوَّةً قَبْلَ المَمَاتِ وَقَبْلَ حَبْسِ الأَلْسُنِ
وقال آخر: [السريع]
٧٣٧ - وَقَدِّمِ الخَيْرَ فَكُلُّ امْرِىءٍ عَلَى الَّذِي قَدَّمَهُ يَقْدَمُ]

فصل في إعراب الآية


قوله: «عِنْدَ اللهِ» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلّق ب «تَجِدُوهُ».
395
والثاني: أنه متعلّق بمحذوف على أنه حال من المفعول أي: تجدوا ثوابه مدّخراً معدّاً عند الله تعالى، والظَّرفية هنا مجاز نحو: «لك عند فلان يد».
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي: لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الأعمال فهو ترغيب وتحذير.
396
اعلم أن هذا نوع آخر من تخليط اليهود، وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين.
قوله تعالى: ﴿لاَّ مَن كَانَ هُوداً﴾.
«من» فاعل بقوله: «يَدْخُلَ» وهو استثناء مفرغ، فإن ما قبل «إلاَّ» مفتقر لما بعدها، والتقدير: لن يدخل الجنّة أحد، وعلى مذهب الفرَّاء يجوز في «مَنْ» وجهان آخران، وهما النَّصْب على الاستثناء والرفع على البدل من «أحد» المحذوف، فإن الفراء رَحِمَهُ اللهُ تعالى يراعي المحذوف، وهو لو صرّح به لجاز في المستثنى الوجهان المذكوران، فكذلك جاز مع التقدير عنده، وقد تقدّم تحقيق المذهبين.
والجملة من قوله تعالى: ﴿لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن﴾ في محلّ نصب بالقولنوحمل أولاً على لفظ «من» فأفرد الضمير في قوله: «كان»، وعلى معناها ثانياً فجمع في خبرها وهو «هوداً»، وفي مثل هاتين الجملتين خلاف، أعني أن يكون الخبر غير فعل، بل وصفاً يفصل بين مذكره ومؤنثه تاء التأنيث.
فمذهب جمهور البصريين والكوفيين جوازه، ومذهب غيرهم منعه، منهم أبو العَبَّاس، وهم محجوجون بسماعه من العرب كهذه الآية، فإن هوداً جمع «هائد» على أظهر القولين، نحو: بازل وبُزْل، وعَائد وعُوْد، وحَائِل وحُوْل، وبائِر وبُوْر.
و «هائد» من الأوصاف، الفارقُ بين مذكَّرها ومؤنثها «تاء» التأنيث؛ قال الشاعر: [المتقارب]
٧٣٨ - وَأَيْقَظَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ نِيَامَا و «نايم» جمع نائم، وهو كالأول.
وفي «هود» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه جمع هائد كما تقدم.
396
والثاني: أنه مصدر على «فُعَل» نحو حزن وشرب يوصف به الواحد وغيره نحو: عدل وصوم.
والثالث: وهو قول الفراء أن أصله «يهود»، فحذفت الياء من أوله، وهذا بعيد.
و «أول» هنا للتَّفْصيل والتنويع؛ لأنه لما لَفَّ الضمييرَ في قوله تعالى: «وقالوا» : فَصَّل القائلين، وذلك لفهم المعنى، وأمن الإلباس، والتقدير: [وقال اليَهُودُ: لن يدخل الجَنَّة إلاَّ من كان هوداً.
وقال الأنصاري: لن يدخل إلاَّ من كان نصارى] ؛ لأن من المعلوم أنَّ اليهود لا تقول: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وكذلك النصارى لا تقول: [لا يدخل الجنة إلا من كان نصرانياص].
ونظيره قوله: ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١٣٥] إذ معلوم أن اليهود لا تقول: كونوا نصارى، ولا النَّصارى تقول: كونوا هوداً.
صدرت الجملة بالنفي ب «لن» ؛ لأنها تخلص المضارع للاستقبالن ودخول الجنة مستقبل. وقدمت اليهود على النصارى لَفْظاً لتقدمهم زماناً.
وقرأ أُبيّ بن كعب «إلاَّ مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا».
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهمْ﴾ «تلك» مبتدأ، و «أَمَانِيُّهُمْ» خبره، ولا محلّ لهذه الجملة من الإعراب لكونها وقعت اعتراضاً بين قوله: «وَقَالُوا»، وبين قوله تعالى: ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾، فهي اعتراض بين الدعوى ودليلها.
والمشار إليه ب «تلك» فيه ثلاثة احتمالات:
أحدها: أنه المقالة المفهومة من: «قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجنة»، أي: تلك المقالة أمانيهم.
فإن قيل: كيف أفرد المبتدأ وجمع الخبر؟
فالجواب: أن تلك كناية عن المَقَالة، والمقالة في الأصل مصدر، والمصدر يقع بلفظ الإفراد للمفرد المثنى والمجموع، فالمراد ب «تِلْكَ» الجمع من حيث المعنى.
وأجاب الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ أن «تِلْكَ» يشار بها إلى الأماني المذكورة، وهي أمنيتهم [ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً أي] ألاَّ يدخل الجنة غيرهم.
397
قال أبو حيان رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وهذا ليس بظاهر؛ لأن كل جملة ذكر فيها ودّهم لشيء قد كملت وانفصلت، وانفصلت، واستقلت بالنزول، فيبعد أن يشار إليها.
وأجاب الزمخشري أيضاً أن يكون على حذف مضاف أي: أمثال تلك الأمنية أمانيهم، يريد أن أمانيهم جميعاً في البُطْلاَن مثل أمنيتهم هذه يعني أنه أشير بها إلى واحد.
قال أبو حيان: وفيه قلب الوَضْع، إذ الأصل أن يكون «تِلْك» مبتدأ، و «أَمَانِيُّهُمْ» خبر، فقلب هذا الوضع، إذ قال: إن أمانيهم في البطلان مثل أمنتيهم هذه، وفيه أنه متى كان الخبر مشبهاً به المبتدأ، فلا يتقدم الخبر نحو: زيد زهير، فإن تقدم كان ذلك من عكس التشبيه كقولك: الأسد زيد شجاعة [قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «العَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ تَعَالَى» وقال علي رَضِيَ اللهُ عَنْه: «لا تتكل على المُنَى، فإنها تضيع المتكل» ].
قوله: «هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ» هذه الجملة في محلّ نصب بالقول.
واختلف في «هات» على ثلاثة أقوال:
أصحها: أنه فعل، [وهذا هول صحيح لا تَّصَاله بالضمائر المرفوعة البارزة نحو: هاتوا، هاتي، هاتيا، هاتين.
الثاني: أنه اسم فعل بمعنى أحضر.
الثالث: وبه قال الزمخشري: أنه اسم صوت بمعنى «ها» التي بمعنى: رَامى يُرَامي مُرَامَاة، فوزنه «فاعل» فتقول: هات يا زيد، وهاتي يا هند، وهاتوا وهاتين يا هندات، كما تقول: رَام رَامِي رَامِيا رَامُوا رَامِينَ. وزعم ابن عطية رَحِمَهُ اللهُ أن تصريفه مُهْجُور لا يقال فيه إلاّ الأمر، وليس كذلك.
الثاني: أن «الهاء» بدل من الهمزة، وأن الأصل «آتى» وزنه: أفعل مثل أكرم.
وهذا ليس بجيد لوجهين:
أحدهما: أن «آتى» يتعدى لاثنين، وهاتي يتعدى لواحد فقط.
[وثانيهما] : أنه كان ينبغي أن تعود الألف المبدلة من الهمزة إلى أصلها [الزوال]
398
موجب قلبها، وهو الهمزة الأولى، ولم يسمع ذلك.
الثالث: أن هذه «ها» التي للتنبيه دخلت على «أتى» ولزمتها، وحذفت همزة أتى لزوماً، وهذا مردود، فإن معنى «هات» أحضر كذا، ومعني ائت: احضر أنت، فاختلاف المعنى يدلّ على اختلاف المادة.
فتحصل في «هَاتُوا» سعبة أقوال:
فعل، أو اسم فعل، أو اسم صوت، والفعل هل ينصرف أو لا ينصرف؟ وهل هاؤه أصلية، أو بدل من همزة، أو هي هاء التنبيه زيدت وحذفت همزته؟
وأصل «هاتو» :«هاتيوا»، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى سكنان فحذف أولهما، وضم ما قبله لمُجَانسة «الواو» فصار «هاتوا».
قوله تعالى: «بُرْهَانكُمْ» مفعول به.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: «البرهان» الدَّليل الذي يوقع اليقين، وجمعه بَرَاهين، مثل قُرْبَان وقرابين، وسُلْطَان وسلآطين «.
واختلفوا فيه على قولين:
أحدهما: أنه مشتقّ من»
البُرْهِ «وهو القطع، وذلك أنه دليل يفيد العلم القطعي، ومنه: بُرْهَة الزمان أي: القطعه منه، فوزنه» فُعْلاَن «.
والثاني: أن نونه أصلية لثبوتها في بَرْهَنَ يُبَرْهِنُ بَرْهَنَةً، والبَرْهَنَةُ البَيَانُ، فبرهن فَعْلَلَ لا فَعْلَنَ، لأن فَعْلَنَ غير موجود في أبنيتهمن فوزنه»
فَعْلالَ «؛ [وعلى هذين القولين يترتب الخلاف في صَرْف» بُرْهَان «وعدمه، إذا سُمَّيَ به.
ودلَّت الآية على أن الدَّليلَ على المدَّعِي، سواءٌ ادَّعَى نفياً، أو إثباتاً، ودلَّتْ على بطلان القول بالتقليد؛ قال الشاعر: [السريع]
٧٣٩ - مَنِ ادَّعَى شَيْئاً بِلاَ شَاهِدِهْ لاَ بُدَّ أَنْ تَبْطُلَ دَعْوَاهُ]
وقوله تعالى: ﴿إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ يعنى: في إيمانمم أي في قولكم: إنكم تدخلون الجنة، أي: بينوا ما قلتم ببرهان.
قوله تعالى:» بَلَى «فيه وجوه:

الاول: أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة.
الثاني: أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهناً.
الثالث: كأنه قيل لهم: أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنَّة، بل إن غيّرتم
399
طريقتكم، وأسلمتم وجهكم لله، وأحسنتم فلكم الجنة، فيكون ذلك تَرْغيباً لهم في الإسلام، وبَيَاناً لمُفَارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يُقْلعوا عما هم عليه، ويعدلوا إلى هذه الطريقة.
قوله تعالى: ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ﴾ هو إسلام الفنس لطاعة الله تعالى، وإنما خصّ الوجه بالذكر لوجوه:
أحدها: لأنه أشرف الأعظاء من حيث إنه مَعْدن الحواس والفكر والتخيّل [ولذلك يقال: وَجْهُ الأَمْر، أي معظمه؛ قال الأعشَى: [السريع]
٧٤٠ - أُؤَوِّلُ الحُكْمَ عَلَى وَجْهِهِ لَيْسَ قَضَائِي بِالهَوَى الجَائِرِ]
فإذا تواضع الأشارف كان غير أولى.
وثانيها: أن الوجه قد يكنى به عن النفس، قال الله تعالى
﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]، ﴿إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى﴾ [الليل: ٢٠].
وثالثها: أن أعظم العبادات السجدة، وهي إنما تحصل بالوجه، فلا جرم خصّ الوجه بالذكر. [ومعنى «أسلم» : خضع قال زيد بن عمرو بْن نُفَيْلٍ: [المتقارب]
٧٤١ - أوَأَسْلَمُتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ لَهُ الأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثِثالاً
٧٤١ - ب وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ لَهُ المُزْنُ تَحْمِلُ عَذْباً زُلاَلاً
فيكون المراد هنا نفسه، والأمر بإذلالها، وأراد به نفس الشيء، وذلك لايكون إلاَّ بانقياد الخضوع، وبإذلال النَّفْس في طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ وتجنبها عن معاصيه].
ومعنى «لله» أي: خالصاً لله لا يشوبه شِرْك.
قوله تعالى: «وَهُوَ مُحْسِنٌ» جملة في محلّ نصب على حال [والعامل فيها «أسلم» وهذه الحال حال مؤكدة لأن من «أسلم وجهه لله فهو محسن» ].
وقال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى وهو مُحْسن له في عمله فتكون على رأيه مبيّنة؛ لأن من أسلم وجهه قسمان: محسن في عمله وغير محسن أنتهى.
400
قوله تعالى: «فله أجره» الفاء جواب الشرط إن قيل بأن «مَنْ» شرطية، أو زائدة في الخبر إن قيل بأنها موصولة، وقد تقدم تحقيق القولين عند قوله سبحانه وتعالى: ﴿بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: ٨١] وهذه نظير تلك فليلتفت إليها.
وهنا وجه آخر زائد ذكره الزمخشري، وهو أن تكون «مَنْ» فعله بفعل محذوف أي: بلى يدخلها من أسلم، و «فَلَهُ أَجْرُهُ» كلام معطوف على يدخلها هذا نصه.
و «لَهُ أَجْرُهُ» مبتدأ وخبره، إما في محلّ جزم، أو رفع على حسب ما تقدّم من الخلاف في «مَنْ». وحمل على لفظ «مَنْ» فأفرد الضمير في قوله تعالى: ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ﴾ وعلى معناها، فجمع في قوله: ﴿عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وهذا أحسن التركيبين، أعني البداءة بالحمل على اللفظ ثم الحمل على المعنى والحامل في «عند» ما تعلق به «له» من الاستقرار، ولما أحال أجره عليه أضاف الظرف إلى لفظة «الرّب» لما فيها من الإشعار بالإصلاح والتدبير، ولم يضفه إلى الضمير، ولا إلى الجلالة، فيقول: فله أجره عنده أو عند الله، لما ذكرت لك، وقد تقدم الكلام في قوله تعالى: ﴿فَلاَ خَوْفٌ﴾ [البقرة: ٣٨] بما فيه من القراءات.
401
قوله تعالى :" بَلَى " فيه وجوه :
الأول : أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة.
الثاني : أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهاناً.
الثالث : كأنه قيل لهم : أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنَّة، بل إن غيّرتم طريقتكم، وأسلمتم وجهكم لله، وأحسنتم فلكم الجنة، فيكون ذلك تَرْغيباً لهم في الإسلام، وبَيَاناً لمُفَارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يُقْلعوا عما هم عليه، ويعدلوا إلى هذه الطريقة.
قوله تعالى :﴿ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ﴾ هو إسلام النفس لطاعة الله تعالى، وإنما خصّ الوجه بالذكر لوجوه :
أحدها : لأنه أشرف الأعضاء من حيث إنه مَعْدن الحواس والفكر والتخيّل [ ولذلك يقال : وَجْهُ الأَمْر، أي معظمه ؛ قال الأعشَى :[ السريع ]
٧٤٠- أُؤَوِّلُ الحُكْمَ عَلَى وَجْهِهِ لَيْسَ قَضَائِي بِالهَوَى الجَائِرِ ]
فإذا تواضع الأشارف كان غيره أولى.
وثانيها : أن الوجه قد يكنى به عن النفس، قال الله تعالى :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ]، ﴿ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى ﴾ [ الليل : ٢٠ ].
وثالثها : أن أعظم العبادات السجدة، وهي إنما تحصل بالوجه، فلا جرم خصّ الوجه بالذكر. [ ومعنى " أسلم " : خضع قال زيد بن عمرو بْن نُفَيْلٍ :[ المتقارب ]
٧٤١أ- وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ لَهُ الأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثِقالاَ
٧٤١ب - وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ لَهُ المُزْنُ تَحْمِلُ عَذْباً زُلاَلاَ
فيكون المراد هنا نفسه، والأمر بإذلالها، وأراد به نفس الشيء، وذلك لا يكون إلاَّ بانقياد الخضوع، وبإذلال النَّفْس في طاعة الله عز وجل وتجنبها عن معاصيه ].
ومعنى " لله " أي : خالصاً لله لا يشوبه شِرْك.
قوله تعالى :" وَهُوَ مُحْسِنٌ " جملة في محلّ نصب على حال [ والعامل فيها " أسلم " وهذه الحال حال مؤكدة لأن من " أسلم وجهه لله فهو محسن٨ " ].
وقال الزمخشري رحمه الله تعالى وهو مُحْسن له في عمله فتكون على رأيه مبيّنة ؛ لأن من أسلم وجهه قسمان : محسن في عمله وغير محسن انتهى.
قوله تعالى :" فله أجره " الفاء جواب الشرط إن قيل بأن " مَنْ " شرطية، أو زائدة في الخبر إن قيل بأنها موصولة، وقد تقدم تحقيق القولين عند قوله سبحانه وتعالى :﴿ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ﴾ [ البقرة : ٨١ ] وهذه نظير تلك فليلتفت إليها.
وهنا وجه آخر زائد ذكره الزمخشري، وهو أن تكون " مَنْ " فعله بفعل محذوف أي : بلى يدخلها من أسلم، و " فَلَهُ أَجْرُهُ " كلام معطوف على يدخلها هذا نصه.
و " لَهُ أَجْرُهُ " مبتدأ وخبره، إما في محلّ جزم، أو رفع على حسب ما تقدّم من الخلاف في " مَنْ ". وحمل على لفظ " مَنْ " فأفرد الضمير في قوله تعالى :﴿ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ ﴾ وعلى معناها، فجمع في قوله :﴿ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، وهذا أحسن التركيبين، أعني البداءة بالحمل على اللفظ ثم الحمل على المعنى والحامل في " عند " ما تعلق به " له " من الاستقرار، ولما أحال أجره عليه أضاف الظرف إلى لفظة " الرّب " لما فيها من الإشعار بالإصلاح والتدبير، ولم يضفه إلى الضمير، ولا إلى الجلالة، فيقول : فله أجره عنده أو عند الله، لما ذكرت لك، وقد تقدم الكلام في قوله تعالى :﴿ فَلاَ خَوْفٌ ﴾ [ البقرة : ٣٨ ] بما فيه من القراءات.
اليهودُ ملَّة معروفة، والياء فيه أصلية لثبوتها في التَّصريف، وليست من مادّة «هود» من قوله تعالى: ﴿هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١١١] وقد تقدم أن الفراء رَحِمَهُ اللهُ يدعي أن «هُوداً» أصله: يَهُود، فحذفه ياؤه، وتقدم أيضاً عند قوله تعالى: ﴿والذين هَادُواْ﴾ [البقرة: ٦٢] أن اليهود نسبة ل «يهوذا بن يَعْقُوب».
وقال الشَّلَوبِينُ: يهود فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون جمع يَهُودِيّ، فتكون نكرة مصروفةً.
والثاني: أن تكون عَلَماً لهذه القبيلة، فتكون ممنوعةً من الصرف. انتهى. ، وعلى الأول دخلت الألف واللام، وعلى الثاني قوله: [الطويل]
٧٤٢ - أُولَئِكَ أَوْلَى مِنْ بِمِدْحَةٍ إِذَا أَنْتَ يَوْماً قُلْتَهَا لَمْ تُؤَنَّبِ
وقال آخر: [الكامل]
401
٧٤٣ - فَرّت يَهُودُ وَأَسْلَمَتْ حِيرَانُهَا............................
ولو قيل بأن «يهود» منقول من الفعل المُضَارع نحو: يزيد ويشكر الكان قَوْلاً حسناً. ويؤيده قولهم: سمّوا يهوداً لاشتقاقهم من هَادَ يَهُودُ إذا تحرك.
قوله تعالى: «لَيْسَت النَّصَارَى» «ليس» فعل ناقص أبداً من أخوات «كان» ولا يتصرف، ووزنه على «فَعِل» بكسر الين، كان من حق فائه أن تكسر إذا أسند إلى تاء المتكلم ونحوها على الياء مثل: شئت، إلا أنه لما لم ينصرف بقيت «الفاء» على حالها.
وقال بعضهم: «ليست» بضم الفاء، ووزنه على هذه اللغة: فَعُل بضم العين، ومجيء فَعُل بضمّ العين فيما عينه ياء نادر، لم يجىء منه إلاَّ «هيؤ الرجل»، إذا حسنت هيئته.
وكون «ليس» فعلاً هو الصحيح خلافاً للفارسي في أحد قوليه، ومن تابعه في جعلها حرفاً ك «ما» كما قيل ويدلّ على فعليتها اتصال ضمائر الرَّفْع البارزة بها، ولها أحكام كثيرة، و «النَّصَارى» اسمها، و «عَلَى شَيْءٍ» خبرها، وهذا يحتمل أن يكون مما حذفت فيه الصفة، أي على شيء معتدّ به كقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [هود: ٤٦] أي: أهلك الناجين، وقوله: [الطويل]
٧٤٤ -.......................................... لَقَدْ وَقَعْتِ عَلَى لَحْمِ
أي: لحم عظيم، وأن يكون نفياً على سبيل المُبَالغة، فإذا نفى إطلاق الشيء على ما هم عليه، مع أن الشيء يُطْلق على المعدوم عند بعضهم كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد به، وصار كقوله: «أقل من لا شيء».

فصل في سبب نزول هذه الآية


روي أن وقد نجران لما قدموا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتاهم أحبار اليهودن فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل.
وقالت النصارى لهم نحوه، كفروا بموسى عليه السَّلام والتوراة، فأنزل الله هذه الآية.
402
واختلفوا فيمن هم الذين عناهم الله تعالى أَهُمُ الذين كانوا زمن بعثة عيسى عليه السلام أو في زمن محمد عليه السلام؟
[فإن قيل: كيف قالوا ذلك مع أن الفريقين كانوا يثبتون الصَّانع وصفاته سبحانه، وذلك قوله فيه فائدة؟
والجواب عندهم من وجيهن:
الأول: أنهم لما ضمّوا إلى ذلك القول الحسن قَوْلاً باطلاً يحبط ثواب الأول، فكأنهم لم يأتوا بذلك الحق.
قوله تعالى: «وَهُمْ يَتْلُونَ» جملة حالية، وأصل يتلون: يَتْلُوُونَ فأعلْ بحذف «اللاَّم»، وهو ظاهر.
و «الكتاب» اسم جنس، أي قالوا ذلك حال كونهم من أهل العلوم والتلاوة من كتب، وحَقُّ من حمل التوراة، أو الإنجيل، أو غيرهما من كتب الله، وآمن به ألاَّ يكفر بالباقي؛ لأن كل واحد من الكتابيين مصدق للثاني شاهد لصحته.
قوله: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ في هذه الكاف قولان:
أحدهما: أنها في محلّ نصب، وفيها حينئذ تقديران:
أحدهما: أنها نعت لمصدر محذوف قدم على عالمه، تقديره: قولاً مثل ذلك القول [الذي قال أي قال القول] الذين لا يعلمون.
[الثاني: أنها في محلّ نصب على الحال من المصدر المعرفة المضمر الدال عليه. قال: تقديره: مثل ذلك القول قاله أي: قال القول الذين لا يعلمون] حال كونه مثل ذلك القول، وهذا رأي سيبويه رَحِمَهُ اللهُ، والأول رأي النُّحَاة، كما تقدم غير مرة، وعلى هذين القولين ففي نصب «مِثْلَ قَوْلِهم» وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على البدل من موضع الكاف.
الثاني من الوجهين: أنه مفعول به العامل فيه «يَعْلَمُونَ»، أي: الذين لا يعملون مثل مَقَالة اليهود، والنَّصَارى قالوا مثل مقالتهم، أي: أنهم قالوا ذلك على سبيل الاتِّفاق، وإن كانوا جاهلين بمقالة اليَهُود والنصارى.
الثاني من القولين: أنها في محلّ رفع بالابتداء، والجملة بعدها خبر، والعائد محذوف تقديره: [مثل ذلك قاله الذين لايعملون.
403
وانتصاب «مِثْلَ قَوْلِهِمْ» حينئذ إما على أنه نعت لمصدر محذوف، أو مفعول ب «يعلمون» تقديره] مثل قول اليهود والنصارى قال الذين لا يعملون اعتقاد اليهود والنصارى، ولا يجوز أن ينتصب نصب المفعول يقال لأنه أخذ معفوله، وهو العائد على المبتدأ، ذكر ذلك أبو البقاء، وفيه نظر من وجهين:
أحدهما: أن الجمهور يأبى جعل الكاف اسما.
والثاني: حذف العائد المنصوب، [والنحاة] ينصُّون على منعه، ويجعلون قوله: [السريع]
٧٤٥ - وَخَالِدٌ يَحْمدُ سَادَاتُنا بِالْحَقِّ لاَ يُحْمَدُ بَالْبَاطِلِ
ضرورة.
[وللوكفيين في هذا تفصيلٌ].

فصل في المراد بالذين لا يعلمون


قوله تعالى: ﴿قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ فقال مقاتل رَحِمَهُ اللهُ: إنهم مشركو العرب قالوا في نبيهم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأصحابه: إنهم ليسوا على شيء من الدين، فبيّن تعالى أنه إذا كان قول اليهود والنَّصَارى، وهم يقرؤون الكتاب لا يلتفت إليه فقول كفار العرب أولى ألاَّ يلتفت إليه.
وقال مجاهد: عوام النصارى فَصْلاً بين خواصهم وعوامهم.
وقال عطاء: أسماء كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح، وقوم هود وصالح، ولوط وشعيب، قالوا لنبيهم: إنه ليس على شيء.
وقيل: إن حملنا قوله: ﴿وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ﴾ على الحاضرين في زمن صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حملنا قوله: ﴿قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ على المُعَاندين المتقدمين ويحتمل العكس.
404
قوله: ﴿فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: قال الحسن: يكذبهم جميعاً، ويدخلهم النار.
وثانيها: ينصف المظلوم المكذَّب من الظالم المكذِّب.
وثالثها: يريهم من يدخل الجنة عياناً، ومن يدخل النار عياناً، وهو قول «الزجاج».
قوله: ﴿بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة﴾ منصوبان ب «يحكم»، و «فيه» متعلق ب «يَخْتَلِفُونَ».
405
«مَنْ» استفهام في محلّ رفع بالابتداء، و «أظْلَمُ» أفعل تفضيل خبره، ومعنى الاستفهام هنا النفي، أي: لا أحد أظلم منه، ولما كان المعى على ذلك أورد بعض الناس سؤالاًنوهو أن هذه الصيغة قد تكررت في القرآن ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى﴾ [الأنعام: ٢١] ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾ [السجدة: ٢٢] ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله﴾ [الزمر: ٣٧] كل واحدة منها تقتضي أن المذكور لا يكون أحد أظلم منه، فكيف يوصف غيره بذلك؟ والجواب من وجوه:
أحدها: وهو أن يخصّ كل واحد بمعنى صلته كأنه قالك لا أحد من المنانعين أظلم ممن منع من مساجد الله، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله، ولا أحد من الكَذَابين أظلم ممن كذب على الله، وكذلك ما جاء منه.
الثاني: أن التَّخصيص يكون بالنيِّسْبة إلى السَّبْق، لما لم يسبق أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكاً طريقهم في ذلك، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية والافترائية ونحوها.
الثالث: أن هذا نفي للأظلمية، ولما كان نفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظَّالمية لم يكن مناقضاً؛ لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية، وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ما وصف بذلك يزيد على الآخر؛ لأنهم متساوون في ذلك، وصار المعنى: ولا أحد أظلم ممن منع، وممن افترى وممن ذكر، ، ولا إشكال فى تساوي هؤلاء في الأظلمية، ولا يدلّ ذلك على أن أحد هؤلاء يزيد على الآخر في الظلم، كما أنك إذ قلتك «لا أحد أفقه من زيد وبَكْر وخالط» لا يدلّ على أن أحدهم أَفْقَهُ من الآخر، بل نفيت أن يكون أحد أفقه منهم، لا يقال: إن من منع مساجد الله، وسعى في خَرَابها، ولم يفتر على الله كذباً أقلّ ظلماً ممن جمع بين هذه الأشياء، فلا يكونون متساوين في الأظلمية إذ هذه الآيات كلها في الكُفَّار، وهم متساوون في الأظلمية إذْ كانت طرق الأظلمية مختلفة.
405
و «مَنْ» يجوز أن تكون موصولة، فلا محلّ للجملة بعدها، وأن تكون موصوفةً فتكون الجملة محلّ جار صفة لها.
و «مَسَاجِدَ» مفعول أول بت «منع»، وهي جمع مسجد، وهو اسم مكان السجود، وكان من حقه أن يأتي على «مَفْعَل» بالفتح لانضمام عين مضارعة، ولكن شذّ كسره، [كما شذّت ألفاظ تأتي].
وقد سمع «مَسْجَد» بالتفح على الأصل.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: قال الفَرَّاء: كل ما كان على «فَعَلَ يَفْعُل»، مثل دَخَلَ يَدخُل، فالمَفْعَل منه بالفتح اسماً كان أو مصدراً، ولا يقع فيه الفرق، مثل: دخل يَدْخُل مَدْخَلاً، وهذا مَدْخَلُه، إلاَ أحرفاً من الأسماء ألزموها كسر العين، من ذلك: المَسْجِد، والمَطْلع، المَغْرِب، والمَشْرِقن والمَسْقِط، والمَفْرِق، والمْجزِر، والمَسْكِن، والمَرْفِق، من: رفَقَ يَرْفُق، والمَنْبِت، والمنْسك مَنْك نَسَكَ يَنْسُك، فجعلوا الكَسر علامة للاسم.
والمَسْجَد بالفتح جَبْهَةُ الرجل حيث يصيبه مكان السجود.
قال الجوهري رَحِمَهُ اللهُ تعالى: الأعظاء السَّبعة مَسَاجد، وقد تبدل جيمه ياء، ومنه: المَسْجد لغة «.
قوله تعالى:»
أَنْ يُذْكَرَ «ناصب ومنصوب، وفيه أربع أوجه:
أحدها: أنه ثاني ل»
منع «، تقول: منعته كذا.
وقال أبو حيان: فتعين حذف مضاف أي دخول مساجد الله، ما أشبهه.
والثالث: أنه بدل اشتمال من»
مَسَاجِدَ «أي: منع ذكر اسمه فيها.
والرابع: إنه على إسقاط حرف الجر، والأصل من أن يذكر، وحينئذ يجيء فيها مذهبان مشهوران م كونها في محلّ نصب أو جر، و»
في خرابها «متعلق ب» سعى «.
واختلف في»
خراب «فقال أبو البقاءك» هو اسم مصدر بمعنى التخريب كالسَّلام بمعنى التسليم، وأضيف اسم المصدر لمفعوله؛ لأنه يعمل عمل الفعل «.
وهذا على أحد القولين في أسم المصدر، هل يعمل أو لا؟ وأنشدوا على إعماله: [الوافر]
٧٤٦ - أَكُْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرِّتَاعَا
وقال غيره: هو مصدر: خَرِبَ المكمان يَخْرُبَ خرباًن فالمعنى: سعى في أن تَخْرب
406
هي بنفسها بعدم تَعَاهدها بالعِمَارة، ويقال: منزل خَرَاب وخَرِب؛ كقوله: [البسيط]
٧٤٧ - ما رَبْعُ مَيِّةَ مَعْمُوراً يَطِيفُ بِهِ غَيْلاَنُ أَبْهَى رُباً مِنْ رَبْعِها الخَرِبِ
فهو على الاول مضاف للمفعول وعلى الثاني مضاف للفاعل.

فصل في تعلق الآية بما قبلها


في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه:
فأما من حملها على النصارى، وخراب» بيت المقدس «قال: تتصل بما قبلها من حيث النصارى ادّعوا أنهم من أهل الجنة فقط. فقيل لهم: كيف تكونون كذلك مع أن معاملتكم في تخريب المساجد، والسعي في خراباها هكذا؟ وأما من حمله على المسجد الحرام، وسائر المساجد، قال: جرى مشركي العرب في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ [البقرة: ١١٣].
وقيل: [ذم جميع الكفار]، فمرة وجه الذَّنب إلى اليهود والنصارى، ومرة إلى المشركين.

فصل فيمن خرب» بيت المقدس «


قال بن عباس رضي الله تعالى عنه: [إن ملك النصارى غزا»
بيت المقدس «فخربه، وألقى فيه الجيف، وحاصر أهله، وقلتهم، وسبى البقية، وأحرق التوراة]، ولم يزل» ببيت المقدس «خراباً حتى بناه أهل الإسلام في زمن عمر.
وقال الحسن وقتادة والسديك نزلت في بخت نصر وأصحابه غزو اليهود وخربوا بيت المقدس، وأعانه على ذلك [الرومي وأصحابه النصارى من أهل»
الروم «.
قال السدي: من أجل أنهم قلتوا يحيى بن زكريا عليهما السلام.
قال قتادة: حلمهلم بغض اليهود على معاونة بخث نصر البابلي المجوسي].
قال ابو بكر الرازي رَحِمَهُ اللهُ تعالى في «أحكام القرآن»
: هذان الوَجهان غلطان؛
407
لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد «بختنصّر» كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل، والنصارى كانوا بعد المسيح، فيكف يكونون مع بختنصّر في تخريب «بيت المقدس» ؟
وأيضاً فإن النصارى يعتقدون في تعظيم «بيت المقدس» مثل اعتقاد اليهود وأكثر، فكيف أعانوا على تخريبه.
وقيل: نزلت في مشركي العَرَبِ الذين منعوا الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن الدعاء إلى الله ب «مكة» وألجئوه إلى الهِجْرةن فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام، وقد كان الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْه بنى مسجداً عند دارهن فمنع وكان ممن يؤذيه وِلْدَان قريش ونساؤهم.
وقيل: إن قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا﴾ [الإسراء: ١١٠] نزلت في ذلك، فمنع من الجهر لئر يؤذى، وطرح أبو جهل العذرة على ظهر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقيل: ومن أظلم من هؤلاء المشركين الذين يمنعون المسلمين الذين يوحّدون الله ولا يشركون به شيئاً، ويصلون له تذللاً، وخشوعاًن ويشغلون قلوبهم بالفكر فيه، وألسنتهم بالذكر له، وجميع جسدهم بالتذلُّل لعظمته وسلطانه.
وقال أبو مسلم: المراد منه الذين صّدُّوه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من «المدينة» عام «الحديبية»، واستشهد بقوله تعالى: ﴿هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام﴾ [الفتح: ٢٥] حلم قوله تعالى: «إلاَّ خَائِفِينَ» بما يعلي الله من يده، ويظهر من كلمته، كما قال في المُنَافقين: ﴿ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً﴾ [الأحزاب: ٦٠٦١].
[فإن قيل: كيف يجوز حمل لفظ المساجد علكى مسجد واحد؟
والجواب: أن هذا كمن يقول: من أظلم ممن آذى صالحاً واحداً، ومن أظلم ممّن آذى الصالحين.
أو يقال: إن المسجد موضع السجود، والمسجد الحرام لا يكون في الحقيقة مَسْجداً واحداً].
قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه خامس، وهو أقرب إلى رعاية النظم، وهو أن يقال: إنه لما حولت القِبْلَة إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهودن فكانوا يمنعون النَّاس عن الصَّلاة عند توجّههم إلى الكعبة، ولعلّهم أيضاً سعةوا في تخريب الكعبة بأن حملوا بعض الكفار على تخريبها، وسعوا أيضاً في تخريب مسجد الرَّسُول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لئلا يصلوا فيه متوجّهين إلى القِبْلَةِ، فعابهم الله بذلكن وبيّن سوء طريقتهم فيه.
408
قال: وهذا التأويل أوْلَى مما قبله، وذلك لأن الله تعالى لم يذكر في الآيات السَّابقة على هذه الآية إلاَّ قبائح أفعال اليهود ولنصارى، وذكر أيضاً بعدها قَبَائح أفعالهم، فكيف يليق بهذه الآية الواحدة أن يكون المراد منها قبائح أفعال المشركين في صَدّهم الرسول عن المَسجِدِ الحرام.
وأما حمل الآية على سَعْيِ النَّصَارى في تخريب «بيت المقدس» فضعيف أيضاً على ما شرحه أبو بكر الرَّازي رَحِمَهُ اللهُ تعالى، فلم يبق إلاَّ ما قلناه.
فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي أن هذا الفعل أعظم أنواع الظلم، وفيه إشكال؛ لأن الشرك ظلم على ماقال تعالى: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١١٣] مع أن الشِّرك أعظم من هذا الفعل، كذا الزنا، وقتل النفس أعظم من هذا الفعل.
فالجواب عنه: [مضى ما في الباب] أنه عام دخله التخصيص، فلا يقدح فيه. والله أعلم.

فصل فيما يستدل بالآية عليه


قال القُرْطبي رَحِمَهُ اللهُ: لا يجوز منع المرأة من الحجّ إذا كانت ضرورة، سواء كان لها محرم أم لم يكن، ولا تمنع أيضاً من الصَّالا في المَسَاجد، ما لم يخف عليها الفتنة لقوله عليه الصلاة واسلام: «لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» وكذلك لا يجوز نقض المسجد، ولا بيعه، ولا تعطيله، إن خربت المحلّة، ولا يمنع بناء المساجد إلاَّ أن يقصدوا الشِّقاق والخلاف، بأن يَبْنُوا مسجداً إلى جنب مَسْجد أو قَرْية، يريدون بذلك
409
تفريق أهل المسجد الأول وخرابه، واختلاف الكلمة، فإن المسجد الثَّاني ينقض، ويمنع من بنيانه، وسيأتي بقية الكلام [في سورة «براءة» إن شاء الله تعالى].
قوله تعالى: ﴿أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ﴾.
«أولئك» مبتدأ، «لهم» خبر «كان» مقدّم على اسمها، واسمها «أنْ يَدْخُلُوهَا» لأنه في تأويل المصدر، أي: ما كان لهم الدخول، والجملة المنفية محلّ رفع خبر عن «أولئك».
قوله: إلاَّ خَائِفِينَ «حال من فاعل» يَدْخُلُوهَا «وهذا استثناء مفرّغ من الأحوال؛ لأن التقدير: ما كان لهم الدخول في جميع الأحوال، إلاَّ في حالة الخوف.
وقرأ أبي»
خُيَّفاً «وهو جمع خَائِف، ك» ضارب و «ضُرّب»، والأصل: خُوَّف ك «صُوَّم»، إلا أنه أبدل الواوين ياءين وهو جائز، قالوا: صوم وصيم، وحَمَل أولاً على لفظ «من»، فأفرد في قوله: «منع، وسعى» وعلى معناه ثانياً، فجمع في قوله: «أولئك» وما بعده.

فصل في ظاهر الآية


ظاهر الآية يقتضي أنَّ الذين منعوا وسعوا في تخريب المَسْجد هم الذين يحرم عليهم دخوله إلاَّ خائفين.
وأما من جعله عامَّا في الكل، فذكروا في تفسير هذا الخوف وجوهاً:
أحدها: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مَسَاجد الله إلاَّ خائفين على حال الهيبة؛ وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فَضْلاً أن يستولوا عليها، ويمنعوا المؤمين منها، ولمعنى فما كان الحقّ والواجب إلا ذلك الولاء ظلم الكفرة وعتوّهم.
وثانيها: أن هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظرهم على المسجد الحرام، وعلى سائر المساجد، وأنه يذلّ المشركين لهم حتَّى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلاَّ خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب، أو يقتل إن لم يسلمنوقد أنجز الله تعالى ت صدق هذا الوعد، فمنعهم من دخول المسجد الحرام، ونادى فيه عام حجّ أبو بكر رَضِيَ اللهُ عَنْه: «ألا لا يحجن بعد العام مشرك» ن وأمر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأخراج اليهود من جزيرة العرب، فحجّ من العام الثاني ظارهاً على المساجد لا يجترىء أحد من المشركين أن يحج ويدخل المسجد الحرام، وهذا هو تفسير أبي مسلم.
ثالثها: أن يحمل هذا الخوف على ما يلحقهم من الصَّغّار والذل بالجِزْيَةِ والإذْلال.
ورابعها: أنه يحرم عليهم دخول المسجد الحرام، إلاّ في أمر يتضمن الخوف نحو أن
410
يدخلوا للمُخَاصمة والمُحَاكمة والمُحَاجّة؛ كلّ ذلك يتضمّن الخوف، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٧].
وخامسها: قال قتادة والسُّديك بمعنى أن النصارى لا يدخلون «بيت المقدس» إلا أكثر من مائة سنة في أيدي النَّصَارى بحيث لم يتمكّن أحد من المسلمين من الدُّخول فيه إلا خائفاً، إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين رَحِمَهُ اللهُ في زماننا.
وسادسها: أنه كان لفظه لفظ الخبر، لكن المراد منه النهي عن تمكينهم من الدخول، والتخلية بينهم وبينه كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله﴾ [الأحزاب: ٥٣].
[وسابعها: أنه خبر بمعنى الإنشاء أي أنهضوهم بالجهاد حتى لا يدخلها أحد منهم إلاَّ خائفاً من القتل والسَّبي].
قوله: ﴿لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ﴾ هذه الجملة وما بعدها لا محلّ لها لاستئنافها عما قبلها، ولا يجوز أن تكون حالاً، لأن خزيهم ثابتٌ على كلّ حال لا يتقيّد بحال دخول المساجد خاصّة.
اختلفوا في الخِزْي، فقال بضعهم: ما يلحقهم من الذُّل بمنعهم من المساجد، وقال قتادة القَتْلُ للخزي، والجزية للذمي.
وقال السدي: الخزي لهم في الدنيا قيام المهدين وفتح «عَمورِيّة» و «رُومِيَّة» و «قُسْطَنْطِنيَّة»، وغير ذلك من مُدنهم، والعَذاب العظيم [فقد وصفه الله تعالى ت بما] يجري مجري النهاية في المبالغة؛ لأن الذين قدم ذكرهم وصفهم باعظم الظلمن فبيّن أنهم يستحقون العقاب العظيم.

فصل في دخول الكفار المسجد


اختلفوا في دخول الكافر المسجد، فجوزه أبو حنيفة مطلقاً، وأباه مالك مطلقاً.
وقال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: يمنع دخول الحرم، والمسجد الحرام، واحتج بوجوه منها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾
[التوبة: ٢٨]، قال: قد يكون المراد المسجد الحرام الحرم لقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام﴾ [الإسراء: ١] وإنما أسرى به من بيت خديجة فالآية دالة، إما على المسجد فقط، أو على الحرم كله، وعلى التقديرين، فالمقصود حاصل؛ لأن الخلاف حاصل فيهما جميعاً.
411
فإن قيل: المراد به الحجّ لقوله: ﴿بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ [التوبة: ٢٨] لأن الحجّ إما يفعل في السنة مرة واحدة.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنه ترك للظَّاهر من غير موجب.
الثَّاني: ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علّة لذلك الحكم، وهذا يقتضي أن المانع من قربهم من المسجد الحرام نَجَاستهم، [وذلك يقتضي أنهم ما داموا مشركين كانوا ممنوعين عن المسجد الحرام].
الثالث: أنه تعالى لو أراد الحج لذكر البقاع ما يقع فيه معظم أركان الحج هو «عرفة».
الرابع: الدَّليل على أن المراد دخول الحرم لا الحج فقط قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ [التوبة: ٢٨] فأراد به الدخول للتجارة.
منها قوله تعالى: ﴿أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ﴾ وهذا يقتضي أن يمنعوا من دخول المساجد، وأنهم متى دخلوا كانوا خائفين من الإخراج إلاَّ ما قام عليه الدليل.
فإن قيل: هذه الآية مخصوصة بمن خرب «ببيت المقدس»، أو بمن منع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من العِبَادَةِ في الكعبة.
وأيضاً يحتمل أن يكون خوف الجزية والإخراج.
فالجواب عن الأول: أن الآية ظاهرة في العموم فتخصيصه ببعض الصور خلاف الظاهر، وعن الثاني أن الآية تدل على أن الخوف إنما يحصل من الدخولن وعلى ما يقولونه لا يكون الخوف متولداً من الدخول، بل من شيء آخر.
ومنها [أن الحرم واجب التعظيم والتكريم والتشريف والتفخيم، وأن صونه عمّا يوجب تحقيره واجبٌ، وتميكن الكُفَّار من الدخول فيه تفويض له بالتحقير؛ لأنهم لفسادهم ربما استخفُّوا به، وأقدموا على تلويه وتنجسه.
ومنها أنه تعالى] أمر بتطهير البيت في قوله: ﴿طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] والمشرك نجس لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨].
والتطهير على النجس واجب، فيكون تعبيد الكافر عنه واجباً، وبأنا أجمعنا على أن الجُنب يمنع منه، فالكافر بأن يمنع منه أولى.
واحتج أبو حنيفة رَحِمَهُ اللهُ بأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لماتقدم عليه وفد «
412
يثرب» فأنزلهم المسجد بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الكَعْبَةَ فِهُوَ آمِنٌ».
وهذا يقتضي إباحة الدخول.
وأيضاً فالكافر جاز له دخول سائر المساجد، فكذلك المسجد الحرام كالمسلم.
الجواب عن الحديثين: أنهما كانا في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بالآية، وعن القياس أن المسجد الحرام [أعظم] قدراً من سائر المساجد، فظهر الفرق، والله أعلم.
413
قوله: عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَللَّهِ المشرق والمغرب﴾ جلمة مرتبطة بقوله: «مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ، وسَعَى في خَرَابِهَا».
يعنى: أنه إن سعى في المنع من ذكره تعالى وفي خراب بيوته، فليس في ذلك مانعاً من أداء العبادة في غيرها؛ لأن المشرق والمغرب، وما بينهما له تعالى، والتنصيص على ذكر المشرق والمغرب دون غيرها لوجهين:
أحدهما: لشرفهما حيث جعلا لله تعالى.
والثاني: أن يكون من حذف المعلوم للعلم، أي: لله المشرق والمغرب وما بينهما، كقوله: ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] والبرد؛ وكقول الشاعر: [البسيط]
٧٤٨ - تَنْفِي بَدَاهَا الحَصَى في كُلَّ هاجِرَةٍ نَفْيَ الدَّرَاهِيمِ تَنْقَادُ الصَّيارِيفِ
أي: يداها ورِجْلاَهَا؛ ومثله: [الطويل]
٧٤٩ - كأَنَّ الحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا إَّذَا نَجَلَتْهُ رِجْلُهَا خَذْفُ أَعْسَرَا
أي: رجلُها ويدَاها.
وفي المشرق والمغرب قولان:
413
أحدهما: أنهما اسمان مكان الشروق والغروب.
والثاني: أنهما اسما مصدر، أي: الإشراق والإغراب، والمعنى: لله تعالى تولي إشراق الشمس من مشرقها، وإغرابها من مغْربها، وهذا يبعده قوله تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ﴾، وأفرد المشرق والمغرب إذ المراد ناحيتهما، أو لأنهما مصدران، وجاء المَشَارق والمغارب باعتبار وقوعهما في كل يوم، والمشرقين والمغربين باعتبار مشرق الشتاء والصيف ومغربيهما، وكان من حقهما فتح العين لما تقدم من أنه إذا لم تنكسر عين المضارع، فحق أسم المصدر والزمان والمكان فتح العين، ويجوز ذلك قياساً لا تلاوة.
قوله تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ﴾ «أَيْنَ» هنا اسم شرط بمعنى «إنْ» و «ما» مزيدةٌ عليها، و «تولو» مجزوم بها.
وزيادة «ما» ليست لازمةً لها؛ بدليل قوله: [الخفيف]
٧٥٠ - أَيْنَ تَضْرِبْ بِنَا العُدَاةَ تَجِدْنَا.....................
وهي ظرف مكان، والناصب لها ما بعدها، وتكون اسم استفهام أيضاً، فهي لفظ مشترك بين الشرط والاستفهام ك «مَنْ» و «مَا».
وزعم بعضهم أن أصلها السؤال عن الأمكنة، وهي مبنية على الفتح لتضمنها معنى حرف شرط أو الاستفهام.
وأصل تُولُوا: تُولِّيوا فأعل بالحذفن وقرأ الجمهور: تُوَلُّوا «بضم التاء واللام بمعنى تستقبلوا، فإن» ولى «وإن كان غالب استعمالها أدبر، فإنها تقتضي الإقبال إلى ناحية ما.
تقول: وليت عن كذا إلى كذا، وقرأ الحسن:»
تَوَلَّوا «بفتحهما.
وفيها وجهان:
أن يكون مضارعاً، والأصل: تتولوا من التولية، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، نحو: ﴿تَنَزَّلُ الملائكة﴾ [القدر: ٤].
والثاني: أن يكون ماضياً، والضمير للغائبين ردّاً على قوله:»
لَهُمْ في الدُّّنْيَا ولهم في الآخرة «فتتناسق الضمائر.
414
وقال أبو البقاء: والثاني: أنه ماض والضمير للغائبين، والتقدير: إينما يَتَلّوا، يعنى: أنه وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبل معى ثم قال: وقد يجوز أن يكون ماضياً قد وقع، ولا يكون» أين «شرطاً في اللفظ، بل في المعنى، كما تقول:» ما صنعتَ صنعتُ «إذا أردت الماضي، وهذا ضعيف؛ لأن» أين «إما شرط، أو استفهما، وليس لها معنى ثالث.
انتهى وهو غير واضح.
قوله: ﴿فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ الفاء وما بعدها جواب الشَّرْط، فالجملة في محلّ جزم، و «ثَمَّ»
خبر مقدمن و «وَجْهُ اللهِ» رفع بالابتداء، و «ثَمَّ» اسم إشارة للمكان البعيد خاصة مثل: هنا وهنَّا بتشديد النون، وهو مبني على الفتح لتضمّنه معنى حرف الإشارة أو حرف الخطاب. قال أبو البقاء: لأنك تقول في الحاضر هنا وفي الغائب هناك، وثَمَّ ناب عن هناك [وهذا ليس بشيء].
وقيل: بني لشبهه بالحَرْشفِ في الافتقار، فإنه يفتقر إلى مشار إليه، ولا ينصرف بأكثر من جره ب «من».
ولذلك غَلِظ بعضهم في جعله مفعولاً في قوله: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ﴾ [الإنسان: ٢٠]، بل مفعول «رأيت» محذوف.

فصل في نفي التجسيم


وهذه الآية من أقوى الدلائل على نفي التجسيم وإثبات التنزيه؛ لأنه لو كان الله تعالى جسماً، وله جه جسماني لكان مختصاً بجانب معين وجهةٍ معينة، ولو كان كذلك لكان قوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ كذبان ولأن الةوجه لو كان محاذياً للمشرق لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذياً للمغرب أيضاً، وإذا ثبت هذا، فلا بد فيه من التأويل، ومعنى «وَجْهُ اللهِ» جهته التي ارتضاها قِبْلَةٌ وأمر بالتوجه نحوها، أو ذاته نحو: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٦٨]، أو المراد به الجَاهُ، أي: فَثَمَّ جلال الله وعظمته من قولهم: هو وجه القول، أو يكون صلةً زائداً، وليس بشيء.
وقيل: المراد به العمل قاله الفراء؛ وعليه قوله: [البسيط]
415
[قوله تعالى: «وَاسِعُ عَليم» أي: يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم.
وقيل: واسع المغفرة.

فصل في سبب نزول الآية


في سبب نزول الآية قولان:
أحدهما: أنه أمر يتعلّق بالصلاة. والثاني: في أمر لا يتعلق بالصلاة.
فأما القول الأول فاختلفوا فيه على وجه:
أحدها: أنه تعالى أراد به تحويل المؤمنين عن استقابل «بيت المقدس» إلى الكعبة، فبيّن تعالى أن المشرق والمغرب، وجميع الجهات كلّها مملوكة له سبحانه وتعالى، فإينما أمركم الله عزّ وجلّ باستقباله فهو القبلة؛ لأن القبلة ليست قبلة لذاتها؛ بل لأن الله تعالى جعلها قبلة، فهو يدبر عباده كيف يريد] وكيف يشاء فكأنه تعالى ذكر ذلك بياناً لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب آخر.
وثانيها: قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما لما تحولت القِبْلَة عن «بيت المقدس» أنكرت اليهود ذلك، فنزلت الآية ونظيره قوله تعالى:
﴿قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ١٤٢].
وثالثها: قال أبو مسلم: إن اليهود والنَّصَارى كل واحد منهم قال: إنَّ الجنة له لا لغيره، فردَّ الله عليهم بهذه الآية؛ لأن اليهود إنما استقبلوا «بيت المقدس» ؛ لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى صعد السماء من الصَّخرة والنصارى استقبلوا المشرق؛ لأن مريم انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فولدت عيسى عليهما الصلاة والسلام هناك، فردَّ الله عليهم أقوالهم.
ورابعها: قال قتادة وابن زيد: إن الله تعالى نسخ «بيت المقدس» بالتخيير إلى أي جهة شاء بهذه الآية، فكان للمسلمين أن يتوجّهوا إلى حيث شاءوا في الصلاة، إلاَّ أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يختار التوجّه إلى «بيت المقدس»، مع أنه كان له أن يتوجّه حيث شاء، ثم إنه تعالى نسخه ذلك بتعيين الكعبة.
وخامسها: أن المراد بالآية من هو مشاهد الكعبة، فإنّ له أن يستقبلها من أي جهة شاء وأراد.
[وسادسها: ماروى عبد الله بن عامر بن ربيعة رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: كنا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة، فجعل كل واحد منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه، ثم صلينا فلما أصبحنا، فإذا نحن على غير القِبْلَةِ، فذكرنا ذلك
416
لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فانزل الله تعالى هذه الآية، وهذا الحديث يدلّ على أنهم نقلوا حينئذ إلى الكعبة؛ لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ «بيت المقدس» ].
وسابعها: أن الآية نزلت في المسافر يصلى النوافل حيث تتوجّه به راحتله.
وعن سعيد بن جبر عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهما أنه قال: «إنما نزلت هذه الآية في الرَّجل يصلي إلى حيث توجّهت به راحتله في السفر».
قال ابن الخطيب: فإن قيل: فأي هذه الأقاويل أقرب إلى الصَّواب؟
قلنا: إن قوله تبارك وتعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ مشعر بالتخيير، والتخيير لا يَثْبُت إلا في صورتين:
إحداهما: في التَّطوع على الراحلة.
وثانيهما: في السفر عند تعذُّر الاجتهاد لظلمه أو لغيرها؛ لأن في هذين الوجهين المصّلي مخير.
فأما على غير هذين الوجهين فلا تخيير، والذين حملوا الآية على الوجه الأول، فلهم أن يقولوا: إن القِبْلَةَ لمّا حولت تكلم اليهود في صلاة الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصلاة المؤمنين إلى بيت المقدس، فبين تعالى بهذه الآية أن تلك القبلة كان التوجه إليها صواباً في ذلك الوقت، والتوجه إلى الكعبة صواب في هذا الوقت، وبين أنهم أينما يولوا من هاتين القِبْلَتَين في المأذون فيه، فَثَمَّ وجه الله، قالوا: وحمل الكلام على هذا الوجه أولى؛ لأنه يعم كل مصلِّ، وإذا حمل على الأول لا يعم؛ لأنه يصير محمولاً على التَّطوع دون الفرد، وعلى السفر في حالة مخصوصة دون الحضر، وإذا أمكن إجراء اللفظ العام على عمومه، فهو أولى من التخصيص، وأقصى ما في ال «فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا» باب أن يقال: إنَّ على هذا التأويل لا بد أيضاً من ضرب تقييد وهو أن يقال: من الجهات المأمور بها «فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ» إلاَّ أن هذا الإضمار لا بد منه على كلّ حال؛ لأنه من المحال أن يقول تعالى: «فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا» بحس ميل أنفسكم «فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ»، بل لا بد من الإضمار الذي ذكرناهن وإذا كان كذلك، فقد زالت طريقة التخيير.
417
القول الثاني: أنَّ هذه الآية نزلت في آمر سوى الصَّلاة وفيه وجوه:
أولها: أن المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا بمنع مساجي أن يذكر فيها اسمي، وسعوا في خرابها أولئك لهم كذا وكذا، ثم إنهم أينما ولُّوا هاربين عني وعن سلطاني، فإن سلطانى يلحقهم، [وتدبيري] يسبقهم، فعلى هذا يكون المراد منه [سعة القدرة والسطان] وهو نظير قوله: «وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَمَا كُنْتُمْ: ، وقوله: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً﴾ [غافر: ٧]، وقوله: ﴿وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ [طه: ٩٨].
وثاينها: قال قَتَادة: إن النبي عليه السلام قال:»
إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ «، وقالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم فنزل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: ١٩٩] فقالوا: إنه كان لايصل [إلى القِبْلَة، فأنزل الله تعالى: ﴿وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ ومعناه أن الجهات التي يصلي إليها أهل الملل من شرق وغرب، وما بينهما كلها لي، فمتى وجّه وجهه نحو شيء منها بأمر يريدني، ويبتغي طاعتي وجدني هناك أي وجد ثوابي فكان هذا عذراً للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبالهم المشرق، وهو نحو قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣].
وثالثها: قال الحسن، ومجاهد والضحاك رَضِيَ اللهُ عَنْهم: لما نزل قوله سبحانه وتعالى: ﴿ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠] قالوا: أين ندعوه؟ فنزلت هذه الآية.
ورابعها: قال علي بن عيسى رَحِمَهُ اللهُ: إنه خطاب للمؤمنين ألا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله تعالى عن ذكره حيث كنتم من أرضهم، فللَّه المشرق والمغرب، والجهات كلها.
وخامسها: زعم بعضهم أنها نزلت في المجتهدين الوافدين بشرائط الاجتهاد فهو مصيب].

فصل

418
قرأ الجمهور: «وَقَالُوا» بالواو عطفاً لهذه الجملة الخبرية على ما قبلها، وهو أحسن في الربط.
418
وقيل: هي معطوفة على قوله: «وَسَعَى» فيكون قد عطف على الصّلة مع الفعل بهذه الجمل الكثيرة، وهذا ينبغي أن ينزّه القرآن عن مثله.
وقرأ ابن عامر وكذلك هي في مصاحف «الشام» :«قَالُوا» من غير «واو»، وكذلك يحتمل وجيهن:
أحدهما: الاستئناف.
والثاني: حذف حرف العَطْف وهو مراد، استغناءٌ عنه بربط الضَّمير بما قبل هذه الجملة، و «اتَّخَذَ» يجوز أن يكون بمعنى عمل وصنع، فيتعدّى لمفعول واحد، وأن يكون بمعنى صَيَّر، فيتعدّى لاثنين، ويكون الأول هنا محذوفاً تقديره: وقالوا: اتخذ الله بعض الموجودات ولداً، إلا أنه مع كثرة دور هذا التركيب لم يذكر معها إلا مَفْعُول واحد: ﴿وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً﴾ [الأنبياء: ٢٦]، ﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ﴾ [المؤمنون: ٩١]، ﴿وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً﴾ [مريم: ٩٢]. والوَلد فعل بمعنى مفعول كالقَبْض والنقص وهو غير مقيس والمصدر: الولادة والوليدية وهذا الثاني غ ريب.
وقوله: «سبحانه».
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: «سُبْحَان» منصوب على المصدر، ومعناه التبرئة والتنزيه عما قالوا.
قوله تعالى: ﴿بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض﴾.
«بَلْ» إضراب وانتقال، و «لَهُ» خبر مقدم، و «ما» مبتدأ مؤخر، وأتى هنا ب «مَا» ؛ لأنه إذا اختلط العاقل بغيره كان المتكلّم مخيراً في «مَا» و «مَنْ»، ولذلك لما اعتبر العقلاء غلبهم في قوله «قَانِتُونَ»، فجاء بصيغة السَّلامة المختصّة بالعقلاء.
قال الزمخشري فإن قلت: كيف جاء ب «مَا» التي لغير أولي العلم مع قوله: «قَانِتُونَ».
قلت: هو كقولهك «سبحان ما سخركن لنا» وكأنه جاء ب «ما» دون «من» تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم، وهذا جنوح منه إلى أن «ما» قد قد تقع على أولي العلم، ولكن المشهور خلافه.
وأما قوله: «سُبْحان ما سَخَّرَكُنَّ لَنَا» فسبحان غير مضاف، بل هو كقوله:
٧٥٢ -.................. سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةً..........
419
و «ما» مصدرية ظرفية.
قوله تعالى: ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ مبتدأ وخبر، و «كُلُّ» مضاف إلى محذوف تقديراً، أي: كلّ مَنْ في السموات والأرض.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولداً كذا قال أبو حيان رَحِمَهُ اللهُ تعالى. وهذا بعيد جداً، لأن المجعول ولداً لم يَجْرِ له ذكر، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولداًَ وغيره «.
قوله: «لم يَجْرِ له ذكر»
بل قد جرى ذكره فلا بُعْدَ فيه.
وجمع «قَانِتُونَ» حملاً على المعنى لما تقدم من أن «كُلاَّ» إذا قطعت عن الإضافة جاز فيها مراعاة اللفظ، [ومراعاة المعنى، وهو الاكثر نحوه: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٣] ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ [النمل: ٨٧] ومن مراعاة] اللَّفظ: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ﴾ [الإسراء: ٨٤] ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾ [العنكبوت: ٤٠]، وحسن الجمع هنا لِتَوَاخي رُؤُوس الآي.
والقُنُوت: أصله الدوام، ويستعمل على أربعة أوجه: الطاعة والانقياد، كقوله تعالى: ﴿يامريم اقنتي لِرَبِّكِ﴾ [آل عمران: ٤٣] وطول القيام، كقوله عليه السلام «لما سئل: أي الصَّلاة أفضل؟ قال: طول القُنُوت» وبمعنى السّكوت [كقول زيد بن أرقم رَضِيَ اللهُ عَنْه: كنا نتكلّم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى: ﴿وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٨] فأمسكنا عن الكلام والدعاء، ومنه القنوت.
قال ابن عباس ومجاهد رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «قانتون» أي: أن كل من في السموات والأرض مطيعون.
وأورد على هذا أن الكفار ليسوا مطيعين.
وقال السّدي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يطيعون يوم القيامة، وأوردوا على هذا أيضاً بأن هذا صفة المتّكلين].
420
وقوله تعالى: ﴿لَّهُ مَا فِي السماوات﴾ يتناول مَنْ لا يكون مكلفاً، فعند هذا فسّروا القنوت بوجوه أخر:
الأول: بكونها شاهدةً على وجود الخالق سبحانه بما فيها من آثار الصّنعة، وأمارات الحدوث والدلائل على الربوبية.
الثاني: كون جميعها في ملكه وقهره يتصرّف فيها كيف يشاء، وهو قول أبي مسلم رَحِمَهُ اللهُ تعالى، وعلى هذين الوجيهن الآية عامة.
الثالث: أراد بما في السَّموات الملائكة وما في الأرض عيسى والعزيز؛ أي كل من هؤلاء الذين حكموا عليه بالولدية أنهم قانتون له.

فصل فيمن قال اتخذ الله ولداً


قال ابن الخطيب: اعلم أن الظاهر من قوله: ﴿وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً﴾ أن يكون راجعاً إلى قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله﴾ [البقرة: ١١٤] وقد ذركنا أن منهم من تأوّله على النصارى.
ومنهم من تأوّله على مشركي العرب.
ونحن قد تأولناه على اليهود، وكل هؤلاء أثبوا الولد لله تعالى؛ لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنَّصَارى قالوا: المسيح ابن الله، ومشركوا العرب قالوا: الملائكة بنات الله، فلا جَرَمَ صحت هذه الحكاية على جميع التقديرات.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: إنها نزلت في كعب بن الأشرف، وكعب بن الأسد، ووهب بن يهوذا؛ فإنهم جعلوا عزيراً ابن الله [سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً.
وروى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما] عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: قال الله تعالى: «كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أنِّي لاَ أََقْدِرُ أنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ فَسُبْحَانِي أنْ أَتْخِذَ صَاحِبَةً أوْ وَلَداً».

فصل في تنزيه الله تعالى


قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ: احتج على التنزيه بقوله تعالى: ﴿بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض﴾ ووجه الاستدلال من وجوه:
421
الأول: أن كل ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاتهن وكل ممكن لذاته محدث، وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود، والمخلوق لا يكون ولداً [لأن المخلوق محدث مسبوق بالعدم، ووجوده إنما حصل يخلق الله تعالى وإيجاده وإبداعه، فثبت أن ما سواه فهو عبده، وملكه، فيستحيل أن يكون كل شيء مما سواه ولداً له، كلّ هذا مستفاد من قوله: «بل له ما في السموات والأرض» أي: له كلّ ماسواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع].
والثاني: أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده، إما أن يكون قديماً أزلياً أو محدثاً، فإن كان أزليًّا لم يكن حكمنا بجعل أحدها ولداً والآخر والداً أولى من العكس، فيكون ذلك الحكم حكماً مجرّداً من غير دليل، وإن كان الولد حادثاً كان مخلوقاً لذلك القديم وعبداً له فلا يكون ولداً له.
والثالث: أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد، فلو فرضنا له ولداً لكان مشاركاً له من بعض الوجوه، وممتازاً عنه من وجه آخر، وذلك يقتضي كون كلّ واحد منهما مركباً ومحدثاً وذلك مُحَال، فإذن المجانسة ممتنعةٌ، فالولدية ممتنعة.
الرابع: أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر، ورجاء الانتفاع بمعونته حال عَجْزِ الأب عن أمور نفسه، فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصحّ على من يصح عليه الفَقْر [يحكى أن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْه قال لبعض النصارى: لولا تمرد عيسى عن عبادة الله عَزَّ وَجَلَّ لصرت على دينه فقال النصراني: كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع جده في طاعة الله تعالى؟ فقال علي رَضِيَ اللهُ عَنْه: فإن كان عيسى إلهاً فكيف يعبد غيره، إنما العبد هو الذي تليق به العبادة، فانقطع النصراني].
قوله تعالى: «بَدِيعُ السَّمَوَاتِ» المشهور رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو بديع.
وقرىء بالجر على أنه بدل من الضمير في «لَهُ» [وفيه الخلاف المشهور] وقرىء بالنصب على المدح.
422
و «بديع السموات» من باب الصفة المشبهة أضيفت إلى منصوبها الذي كان فاعلاً في الأصل، والأصل بديع سماواتُه، أي بَدُعَت لمجيئها على شكل فائق حسن غريب، ثم شبهت هذه الصفة باسم الفاعل، فنصبت ما كان فاعلاً، ثم أضيفت إليه تخفيفاً، وهكذا كلّ ما جاء نظائره، فالإضافة لا بد وأن تكون من نصب؛ لئلا يلزم إضافته الصفة إلى فاعلها، وهو لا يجوز في اسم الفاعل الذي هو الأصل.
وقال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ: و «بديعُ السَّمَوَاتِ» من باب إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها.
ورده أبو حيان بما تقدم، ثم أجاب عنه بأنه يحتمل أن يريد إلى فاعلها في الأصل قبل أن يشبه.
وأجاز الزمخشري فيه وجهاً ثانياً: وهو أن يكون «بديع» بمعنى مُبْدِع؛ كما أن سميعاً في قول عَمْرو بمعنى مسمع؛ نحو: [الوافر]
٧٥١ - أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصٍيَهُ رَبَّ العِبَادِ إلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ
٧٥٣ - أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعي السَّمِيعُ يُؤَرِّقُنِي وأصْحَابِي هُجُوعُ
إلا أنه قال: «فيه نظر»، وهذا الوجه لم يذكر أبن عطية غيره، وكأن النظر الذى ذكره الزمخشري والله أعلم هو أن «فعيلاً» بمعنى «مُفْعِل» غيرُ مقبس، وبيت عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْه متأول، وعلى هذا القول يكون بديع السموات من باب إضافة اسم الفاعل لمصوبة تقديراً.
والمبدع: المخترع المنشىء، والبديع: الشيء الغريب الفائق غيره حسناً.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قضى أَمْراً﴾ العامل في «إذَا» محذوف يدل عليه الجواب من قوله: «فَإنَّمَا يَقُولُ»، والتقدير: إذا قضى أمراً يكون، فيكون هو الناصب له.
و «قضى» له معانٍ كثيرة.
قال الأزهري رَحِمَهُ اللهُ تعالى: «قضى» على وجوه مرجعُها إلى انقطاع الشَّيء وتمامه؛ قال أبو ذُؤَيْبٍ: [الكامل]
423
وقال الشَّماخ: [الطويل]
٧٥٤ - وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ
٧٥٥ - قَضَيْتَ أُمُوراً ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا بَوَائِقَ في أَكْمَامِهَا لم تُفَتَّقِ
فيكون بمعنى «خَلَقَ» نحو: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [فصلت: ١٢] وبمعنى أَعلم: ﴿وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الإسراء: ٤].
وبمعنى أمر: ﴿وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣].
وبمعنى ألزم: ﴿فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل﴾ [القصص: ٢٩].
وبمعنى ألزم: قضى القاضي بكذا.
وبمعنى أراد: «إِذَا قَضَى أمْراً».
وبمعنى أَنْهَى، ويجيء بمعنى قَدَّر وأَمْضَى، تقول: قَضَى يَقْضِي قََضَاءَ؛ قال: [الطويل]
٧٥٦ - سَأَغْسِلُ عَنِّي العَارَ بَالسَّيْفِ جَالِباً عَلَيَّ قَضَاءُ اللهِ مَا كَانَ جَالِبَا
ومعناه الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع، من قولهم: قضى القاضي لفلان على فلان بكذا إذا حكم؛ لأنه فصل للدعوى.
ولهذا قيل: حاكم فَيْصل إذا كان قاطعاً للخصومات.
وحكى ابن الأنباري عن أهل اللّغة أنهم قالوا: القاضي معناه القاطع الأمور المحكم لها.
ومنه: انقضى الشيء: إذا تم وانقطع.
وقولهم: قضى حاجته أي: قطعها عن المحتاج ودفعها عنه.
وقضى دينه: إذا أدَّاه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه، أو انتفع كل منهما من صاحبه.
وقولهم: قضى الأمر، إذا أتمه وأحكمه.
وأما قولهم: قضى المريض وقضى نَحْبَه: إذا مات، وقضى عليه: قتله فمجاز.
[اختلفوا في الأمر هل هو حقيقة في القول المخصوص أو حقيقة في الفعل وفي المقدر المشترك وهو كذا في أصول الفقه والله أعلم].
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجهاً:
الأول: الدين؛ قال الله تعالى:
﴿حتى
جَآءَ
الحق وَظَهَرَ أَمْرُ الله﴾
[التوبة: ٤٨] يعني: دينه.
424
الثاني: القول؛ قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ [المؤمنون: ٢٧] يعني قولنا. وقوله: ﴿فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ [طه: ٦٢] يعنى قولهم.
الثالث: العذاب؛ قال تعالى: «لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ» يعني لما وجب العذاب بأهل النار.
الرابع: عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، قال الله تعالى: ﴿إِذَا قضى أَمْراً﴾ [مريم: ٣٥] يعنى: عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
الخامس: القتل ب «بدر»، قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله﴾ [غافر: ٧٨] يعنى: القتل ب «بدر» وقوله: ﴿لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾ [الأنفال: ٤٢] يعنى قتل كفار «مكة».
السادس: فتح «مكة» ؛ قال الله تعالى: ﴿فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ﴾ [التوبة: ٤٢] يعنى فتح «مكة».
السابع: قتل «قريظة» وجلاء «بني النضير» ؛ قال الله تعالى: ﴿فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ﴾ [البقرة: ١٠٩].
الثامن: القيامة، قال الله تعالى: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١].
التاسع: القضاء؛ قال الله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الأمر﴾ [الرعد: ٢] يعنى القضاء.
العاشر: الوحي؛ قال الله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض﴾ [السجدة: ٥] يعنى الوحي.
الحادي عشر: أمر الخلق؛ قال الله تعالى: ﴿أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور﴾ [الشورى: ٥٣].
الثاني عشر: النصر، قال الله تعالى: ﴿هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ﴾ [آل عمران: ١٥٤] يعنون: النصر، ﴿قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٤] يعني النصر.
الثالث عشر: الذنب؛ قال الله تعالى: ﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا﴾ [الطلاق: ٩] يعنى جزاء ذنبها.
الرابع عشر: الشأن والفعل، قال الله تعالى: ﴿وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ [هود: ٩٧] لعله: وشأنه.
قوله تعالى: «فيكون» الجمهور على رفعه، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون مستأنفاً أي خبراً لمبتدأ محذوف أي: فهو يكون، ويعزى لسيبوبه، وبه قال الزَّجَّاج في أحد قوليه.
والثاني: أن يكون معطوفاً على «يقول»، وهو قول الزَّجاج والطبري، ورد ابن عطية هذا القول، وقال: إنه خطأ من جهة المعنى؛ لأنه يقتضي أن القول مع التَّكوين الوجود. انتهى. يعني أن الأمر قديم والتكوين حادث فكيف يعطف عليه بما يقتضي تعقيبه له؟
425
وهذا الرد إنما يلزم إذا قيل بأن الأمر حقيقة.
أما أذا قيل بأنه على سبيل التمثيل، وهو [الأصح] فلا.
ومثله قوله أبي النجم: [الرجز]
٧٥٧ - إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقي... الثالث: أن يكون معطوفاً على «كن» من حيث المعنى، وهو قول الفارسي، وضَعَّفَ أن يكون عطفاً على «يقول» ؛ لأن من المواضع ما ليس فيه «يقول» كالموضع الثاني في «آل عمران»، وهو «ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون» ولم ير عطفه على «قال» من حيثُ إنه مضارعن فلا يعطف على ماضي، فأورد على نفسه: [الكامل]
٧٥٨ - وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لاَ يَعْنِينِي
426
فقال: «أَمُرُّ بمعنى مَرَرْتُ».
قال بعضهم: ويكون في هذه الآية ت يعنى في آية «آل عمران» ت بمعنى «كان» فَلْيَجُزْ عَطْفُهُ على «قال».
وقرأ ابن عامر: «فيكونَ» نصباً هنا، وفي الأولى من «آل عمران»، وهي ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾، تحرزاً من قوله تعالى: ﴿كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ﴾ [آل عمران: ٥٠٦٠].
وفي مريم: ﴿كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ [مريم: ٣٥٣٦].
وفي غافر: ﴿كُن فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ﴾ [غافر: ٦٨٦٩].
ووافقه الكسائي على ما في «النحل» و «يس».
وهي: ﴿أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢].
أما آيتا «النحل» و «يس» فظاهرتان: لأن ما قبل الفعل منصوباً يصح عطفه عليه، وسيأتي.
وأما ما انفرد به ابن عامل في هذه المواضع الأربعة، فقد اضطرب كلام النَّاس فيها، وهي لَعَمْري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل، ولذلك تجرأ بعض الناس على هذا الإمام اكلبير، فقال ابن مجاهد: قرأ ابن عامر: «فَيَكُونَ» نصباً، وهذا غير جائز في العربيةح لأنه لا يكون الجواب هنا للأمر بالفاء إلاَّ في «يس» و «النحل» ن فإنه نسق لا جواب.
وقال في «آل عمران» : قرأ ابن عامر وحده: «كُنْ فَيَكُونَ» بالنصب وهو وَهَمٌ. قال: وقال هشامك كان أيوب بن تميم يقرأ: «فَيَكُونَ» نصباً، ثم رجع فقرأ: «يَكُونُ» رفعاً.
وقال الزجاج: «كُنْ فَيَكُونُ» رفع لاغير.
وأكثر ما أجابوا بأن هذا مما روعي فيه ظاهر اللَّفظ من غير ناظر لملعنى، يريدون أه قد وجد في اللفظ صورة أمر فَنُصِبَتا في جوابه بالفاء.
وأما إذا نظرنا إلى جانب المعنى، فإن ذلك لا يصح لوجهين:
427
أحدهما: أن هذا وإن كان بلفظ الأمر، فمعناه الخبر نحو: ﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن﴾ [مريم: ٧٥]. أي فيمدّ، وإذا كان معناه الخبر، لم ينتصب في جوابه بالفاء إلا ضرورة؛ كقوله: [الوافر]
٧٥٩ - سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي تَمِيمٍ وَأََلْحَقُ بِالحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا
وقول الآخر: [الطويل]
٧٦٠ - لَنَا هَضْبَةٌ لاَ يَنْزِلُ الذُّلُّ وَسْطَهَا وَيَأْوِي إلَيْهَا المُسْتَجِيرُ فَيُعْصَمَا
والثاني: أن من شرط النصب بالفاء في جواب الأمر أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحو: «ائتني فأكرمك» تقديره: «إن أتيتني أكرمتك».
وها هنا لا يصح ذلك إذ يصير التدقير: إن تكن تكن، فيتحد فعلا الشرط والجزاء معنى وفاعلاً، وقد علمت أنه لابد من تغايرهما، وإلا يلزم أن يكون الشيء شرطاً لنفسه وهو مُحَال، قالوا: والمُعَاملة اللفظية، واردةٌ في كلامهم نحو: ﴿قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ﴾ [إبراهيم: ٣١] ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ﴾ [الجاثية: ١٤].
وقال عمر بن أبي ربيعة: [الطويل]
٧٦١ - فَقْلْتُ لجَنَّادٍ خُذِ السَّيْفَ وَاشْتَمِلْ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَارْقُبِ الشَّمْسَ تَغْرُبِ
وَأَسْرِجْ لِيَ الدَّهْمَاءَ وَاذْهَبْ بِمِمْطَرِي ولاَ يَعْلَمَنْ خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ مَذهَبِي
فجعل «تَغْرُب» جوابابً ل «ارقب» وهو غير مترتِّب عليه، وكذلك لا يلزمُ من قوله أَنْ يفعلوا، وإنما ذلك مُرَاعة لجانب اللفظ.
أما ما ذكره في بيت عمر فصحيح.
وأما الآيات فلا نسلم أَنَّه غير مترتب عليهح لأنه أراد بالعباد الخُلّص، وبذلك أضافهم إليه.
أو تقولُ: إن الجزَمَ على حَذْفِ لامِ الأمر، وسيأتي تحقيقه في موضعه إن شاء الله تعالى.
428
وقال ابن مالك: «إنَّ» «أنْ» الناصبةَ قد تُضْمر بعد الحَصْر ب «إنما» اختياراً، وحكاه عن بعض الكوفيين.
قال: وحكوا عن العرب: إنما هي ضربة من الأسد فتحطمَ ظهره بنصب «تحطم»، فعلى هذا يكون النَّصْب في قراءة ابن عامر محمولاً على ذلك إلاَّ أنَّ هذا الذي نصبوه دليلاً لا دليل فيه لاحتمال أن يكون من باب العطف على الاسم تقديره: إنما هي ضَرْبَة فَحَطمح كقوله: [الوافر]
٧٦٢ - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقرَّ عَيْنِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ

فصل في تحرير كلمة كن


قال ابن الخطيب: أعلم أن ليس المراد من قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ هو أنه تعالى يقول له: «كُنْ»، فحينئذ يتكون ذلك الشيء، فإن ذلك فاسد، والذي يدل عليه وجوه:
الأول: أن قوله تعالى: «كُنْ» ما أن يكون قديماً أو محدثاً، والقسمان فاسدان، فبطل القول بتوقّف حدوث الأشياء على «كُنْ» إنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون قديماً لوجوه:
الأول: أن كلمة «كُنْ» لفظة مركّبة من الكاف والنون بشرط تقدّم الكاف على النون فالنون لكونه مسبوقاً بالكاف لا بد وأن يكون محدثاُ، والكاف لكونه متقدماً على المحدث بزمان واحد، يجب أن يكون محدثاً.
الثاني: أن كلمة «إذا» لا تدخل إلا على الاستقبال، فذلك القضاء لا بد وأن يكون محدثاً؛ لأنه دخل عليه حرف إذا وقوله: «كُنْ» مرتّب على القضاء ب «فاء» التعقيب؛ لأنه قال: ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ والمتأخر عن المحدث محدث، فاستحال أن يكون «كُنْ» قديماً.
الثالث: أنه تعالى رتّب تكوين المخلوق على قوله: «كُنْ» ب «فاء» التعقيب، فيكون قوله: «كُنْ» مقدماً على تكوين المخلوق بزمان واحد، والمتقدم على المحدث
429
بزمان واحد لا بد وأن يكون محدثاً، فقوله: «كُنْ» لا يجوز أن يكون قديماًن ولا جائز أيضاً أن يكن قوله: «كُنْ» محدثاُ؛ لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله: «كُنْ»، وقوله «كُنْ» أيضاً محدث، فيلزم افتقار «كُنْ» إلى «كُنْ» آخر، ويلزم التسلسل والدور، وهما مُحَالان، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقّف إحداث الحوادث على قوله: «كُنْ» وأن قوله: «كن» إن [كان] خطاباً له حال وجوده، فتحصيل للحاصل، قاله أبو الحسن الماوردي.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه، كما في بني إسرائيل أن يكونوا قِرَدَةً خاسئين، ولا يكون هذا في إيجاد المعدومات.
الثاني: أن الله تعالى علام بما هو كائن قبل كونهن فكانت الأشياء التي لم تكن كائنة لعلمه بها قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة، فجاز أن يقول لها: كوني، وبأمرها بالخروج من حال العدم إلى ح ال الوجودح لتصير جميعها له، ولعلمه بها في حال العدم.
الثالث: أن ذلك خبر من الله تعالى عام عن جميع ما يحدث ويكوِّنهن إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله، وإنما هو قضاء يريده، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولاً، كقول أبي النَّجْم: [الرجز]
٧٦٣ - إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الحَقِي ولا قول هناك، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن.
وكقول عمروا بن هممة الدَّوْسِيّ: [الطويل]
٧٦٤ - فَأَصْبَحْتُ مِثْلَ النَّسْرِ طَارَتْ فِرَاخُهُ... إِذَا رَامَ تَطْيَراً يُقَالُ لَهُ: قَعِ
وقال الآخر: [الرجز]
٧٦٥ - قَالَتْ جَنَاحَاهُ لِسَاقَيْهِ الحَقَا وَنَجِّيَا لَحْمَيْكُمَا أَنْ يُمْرَقَا
الحجة الثانية: أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق ب «كُن» قبل دخوله في الوجود، أو حال دخوله في الوجود، والأول باطل؛ لأن خطاب المعدوم حال عدمه سَفَه.
والثاني أيضاً باطل؛ لأنه يرجع حاصله إلى أنه تعالى أمر الموجود بأن يصير موجوداً، وذلك أيضاً لا فائدة فيه.
الحجة الثالثة: أن المخلوق قد يكون جماداً، وتكليف الجماد عبثن ولا يليق بَالحكيم.
الحجة الرابعة: أن القادر هو الذي يصحّ منه الفعل وتركه بحسب الإيرادات، فإذا
430
فرضنا القادر المريد منفكاً عن وقله: «كُنْ» فإما أن يتمكّن من الإيجادج والإحداث، أو لا يتمكّن، فإن تمكن لم يكن الإيحاد موقوفاً على قوله «كن»، وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم ألاَّ يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه ب «كن» فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمّيتم القادرة ب «كن» وذلك نزاع لفظي.
الحجة الخامسة: أن «كُنْ» كلمة لو كان لها أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثر لهذه الكلمة.
الحجة السادسة: أن لفظة «كُنْ» ككلمة مركبة من الكاف والنون، بشرط كون الكاف متقدماً على النونن فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما؛ فإن كان الا ل لم يكن لكلمة «كُنْ» أثر البتة بل التأثير لأحد هذه الحرفينن وإن كان الثَاني فهو مُحَال؛ لأنه لا وجود لهذا المجموع ألبتة؛ لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثَّاني حاصلاًُ، حين جاء الثَّاني فقد فات الأولن وإن لم يكن للمجموع وجود ألبتة استحال أن يكون للمجموع أثر ألبتة.
الحجة السابعة: قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٥٩] بين أن قوله «كُنْ» متأخر عن خلقه، إذ المتأخر عن الشَّيء لا يكون مؤثراً في المتقدم عليه، فعلمنا أنه لا تأثير لقوله: «كُنْ» في وجود الشيء، فظهر بذه الوجوه فساد هذا المذهب، فإذا ثبت هذا فنقول: لا بد من التأويل وهو من وجوه:
الأول: أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء، وأنه تعالى يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة.
الثاني: قال أبو الهُذَيل: إنه علامة يفعلها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علما أنه أحدث أمراً.
الثالث: قال الاصم: إنه خاصٌّ بالموجودين الذين قال لهم: ﴿كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥]، من جرى مجراهم.
الرابع: أنه أمر للأحياء بالموت، وللموتى بالحياة. والكل ضعيف، والقوي هو الأول.
وقال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: التكوين مع الأمر لا يتقدم الموجود، ولا يتأخر عنه، فلا يكون الشيء مأموراً بالوجود إلاّ وهو موجود بالأمر، ولا موجود إلا وهو مأمور بالوجودن ونظيره قيام الناس من قبورهم لا يتقدم دعاء الله تعالى ولا يتأخر عنه كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ [الروم: ٢٥].
431
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وتلخيص المعتقد في هذه الآية: أن الله عَزَّ وَجَلَّ لم يزل آمراً للمعومات بشرط وجودها، قادراً مع تأخّر المقدورات، عالماً مع تأخر المعلومات، فكل ما في الآية يقتضي الاستقبال، فهو بحسب المأمورات؛ إذ المحدَثَات تجيء بعد أن لم تكن. كل ما يسند إلى الله تعالى من قدرة وعلم، فهو قديم لم يزل ولمعنى الذي تقتضيه عبارة «كُنْ؛ هو قديم قائم بالذات.
432
قوله تعالى :" بَدِيعُ السَّمَوَاتِ " المشهور رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي : هو بديع.
وقرئ بالجر على أنه بدل من الضمير في " لَهُ " [ وفيه الخلاف المشهور ] وقرئ بالنصب على المدح.
و " بديع السموات " من باب الصفة المشبهة أضيفت إلى منصوبها الذي كان فاعلاً في الأصل، والأصل بديع سماواتُه، أي بَدُعَت لمجيئها على شكل فائق حسن غريب، ثم شبهت هذه الصفة باسم الفاعل، فنصبت ما كان فاعلاً، ثم أضيفت إليه تخفيفاً، وهكذا كلّ ما جاء من نظائره، فالإضافة لا بد وأن تكون من نصب ؛ لئلا يلزم إضافة الصفة إلى فاعلها، وهو لا يجوز، كما لا يجوز في اسم الفاعل الذي هو الأصل.
وقال الزمخشري رحمه الله تعالى : و " بديعُ السَّمَوَاتِ " من باب إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها.
ورده أبو حيان بما تقدم، ثم أجاب عنه بأنه يحتمل أن يريد إلى فاعلها في الأصل قبل أن يشبه.
وأجاز الزمخشري فيه وجهاً ثانياً : وهو أن يكون " بديع " بمعنى مُبْدِع ؛ كما أن سميعاً في قول عَمْرو بمعنى مسمع ؛ نحو :[ الوافر ]
٧٥٣- أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعي السَّمِيعُ *** يُؤَرِّقُنِي وأصْحَابِي هُجُوعُ ؟
إلا أنه قال :" وفيه نظر "، وهذا الوجه لم يذكر ابن عطية غيره، وكأن النظر الذي ذكره الزمخشري والله أعلم هو أن " فعيلاً " بمعنى " مُفْعِل " غيرُ مقيس، وبيت عمرو رضي الله عنه متأول، وعلى هذا القول يكون بديع السموات من باب إضافة اسم الفاعل لمنصوبه تقديراً.
والمبدع : المخترع المنشئ، والبديع : الشيء الغريب الفائق غيره حسناً.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْراً ﴾ العامل في " إذا " محذوف يدل عليه الجواب من قوله :" فَإنَّمَا يَقُولُ "، والتقدير : إذا قضى أمراً يكون، فيكون هو الناصب له.
و " قضى " له معانٍ كثيرة.
قال الأزهري رحمه الله تعالى :" قضى " على وجوه مرجعُها إلى انقطاع الشَّيء وتمامه ؛ قال أبو ذُؤَيْبٍ :[ الكامل ]
٧٥٤- وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا *** دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ
وقال الشَّماخ :[ الطويل ]
٧٥٥- قَضَيْتَ أُمُوراً ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا *** بَوَائِقَ في أَكْمَامِهَا لم تُفَتَّقِ
فيكون بمعنى " خَلَقَ " نحو :﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾ [ فصلت : ١٢ ] وبمعنى أَعلم :﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [ الإسراء : ٤ ].
وبمعنى أمر :﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ].
وبمعنى وَفَّى :﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ ﴾ [ القصص : ٢٩ ].
وبمعنى ألزم : قضى القاضي بكذا.
وبمعنى أراد :﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْراً ﴾.
وبمعنى أَنْهَى، ويجيء بمعنى قَدَّر وأَمْضَى، تقول : قَضَى يَقْضِي قََضَاءً ؛ قال :[ الطويل ]
٧٥٦- سَأَغْسِلُ عَنِّي العَارَ بَالسَّيْفِ جَالِباً *** عَلَيَّ قَضَاءُ اللهِ مَا كَانَ جَالِبَا
ومعناه الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع، من قولهم : قضى القاضي لفلان على فلان بكذا إذا حكم ؛ لأنه فصل للدعوى.
ولهذا قيل : حاكم فَيْصل إذا كان قاطعاً للخصومات.
وحكى ابن الأنباري عن أهل اللّغة أنهم قالوا : القاضي معناه القاطع الأمور المحكم لها.
ومنه : انقضى الشيء : إذا تم وانقطع.
وقولهم : قضى حاجته أي : قطعها عن المحتاج ودفعها عنه.
وقضى دينه : إذا أدَّاه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه، أو انتفع كل منهما من صاحبه.
وقولهم : قضى الأمر، إذا أتمه وأحكمه.
وأما قولهم : قضى المريض وقضى نَحْبَه : إذا مات، وقضى عليه : قتله فمجاز.
[ واختلفوا في الأمر هل هو حقيقة في القول المخصوص أو حقيقة في الفعل وفي القدر المشترك وهو كذا في أصول الفقه والله أعلم ].
قال القرطبي رحمه الله تعالى : والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجهاً :
الأول : الدين ؛ قال الله تعالى :﴿ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ ﴾ [ التوبة : ٤٨ ] يعني : دينه.
الثاني : القول ؛ قال تعالى :﴿ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا ﴾ [ المؤمنون : ٢٧ ] يعني قولنا. وقوله :﴿ فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ ﴾ [ طه : ٦٢ ] يعني قولهم.
الثالث : العذاب ؛ قال تعالى :﴿ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُُ ﴾ يعني لما وجب العذاب بأهل النار.
الرابع : عيسى عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى :﴿ إِذَا قَضَى أَمْراً ﴾ [ مريم : ٣٥ ] يعني : عيسى عليه الصلاة والسلام.
الخامس : القتل ب " بدر "، قال الله تعالى :﴿ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ ﴾ [ غافر : ٧٨ ] يعني : القتل ب " بدر "، وقوله :﴿ لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ﴾ [ الأنفال : ٤٢ ] يعني قتل كفار " مكة ".
السادس : فتح " مكة " ؛ قال الله تعالى :﴿ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾
[ التوبة : ٤٢ ] يعني فتح " مكة ".
السابع : قتل " قريظة " وجلاء " بني النضير " ؛ قال الله تعالى :﴿ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ [ البقرة : ١٠٩ ].
الثامن : القيامة، قال الله تعالى :﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ﴾ [ النحل : ١ ].
التاسع : القضاء ؛ قال الله تعالى :﴿ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ﴾ [ الرعد : ٢ ] يعني القضاء.
العاشر : الوحي ؛ قال الله تعالى :﴿ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ﴾
[ السجدة : ٥ ] يعني الوحي.
الحادي عشر : أمر الخلق ؛ قال الله تعالى :﴿ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ﴾
[ الشورى : ٥٣ ].
الثاني عشر : النصر، قال الله تعالى :﴿ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ ﴾
[ آل عمران : ١٥٤ ] يعنون : النصر، ﴿ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ﴾ [ آل عمران : ١٥٤ ] يعني النصر.
الثالث عشر : الذنب ؛ قال الله تعالى :﴿ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا ﴾ [ الطلاق : ٩ ] يعني جزاء ذنبها.
الرابع عشر : الشأن والفعل، قال الله تعالى :﴿ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾
[ هود : ٩٧ ] لعله : وشأنه.
قوله تعالى :" فيكون " الجمهور على رفعه، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون مستأنفاً أي خبراً لمبتدأ محذوف أي : فهو يكون، ويعزى لسيبويه، وبه قال الزَّجَّاج في أحد قوليه.
والثاني : أن يكون معطوفاً على " يقول "، وهو قول الزَّجاج والطبري، ورد ابن عطية هذا القول، وقال : إنه خطأ من جهة المعنى ؛ لأنه يقتضي أن القول مع التَّكوين والوجود. انتهى. يعني أن الأمر قديم والتكوين حادث فكيف يعطف عليه بما يقتضي تعقيبه له ؟
وهذا الرد إنما يلزم إذا قيل بأن الأمر حقيقة.
أما إذا قيل بأنه على سبيل التمثيل، وهو [ الأصح ] فلا.
ومثله قول أبي النجم :[ الرجز ]
٧٥٧- إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقي ***. . .
الثالث : أن يكون معطوفاً على " كن " من حيث المعنى، وهو قول الفارسي، وضَعَّفَ أن يكون عطفاً على " يقول " ؛ لأن من المواضع ما ليس فيه " يقول "، كالموضع الثاني في " آل عمران "، وهو ﴿ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ ولم ير عطفه على " قال " من حيثُ إنه مضارع، فلا يعطف على ماضي، فأورد على نفسه :[ الكامل ]
٧٥٨- وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي *** فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ : لاَ يَعْنِينِي
فقال :" أَمُرُّ بمعنى مَرَرْتُ ".
قال بعضهم : ويكون في هذه الآية يعني في آية " آل عمران "، بمعنى " كان " فَلْيَجُزْ عَطْفُهُ على " قال "
وقرأ ابن عامر :" فيكونَ " نصباً هنا، وفي الأولى من " آل عمران "، وهي ﴿ كُن فَيَكُونُ ﴾، تحرزاً من قوله تعالى :﴿ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾
[ آل عمران : ٥٩ ٦٠ ].
وفي مريم :﴿ كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ﴾ [ مريم : ٣٥ ٣٦ ].
وفي غافر :﴿ كُن فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ ﴾ [ غافر : ٦٨ ٦٩ ].
ووافقه الكسائي على ما في " النحل " و " يس ".
وهي :﴿ أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ يس : ٨٢ ].
أما آيتا " النحل " و " يس " فظاهرتان : لأن ما قبل الفعل منصوباً يصح عطفه عليه، وسيأتي.
وأما ما انفرد به ابن عامر في هذه المواضع الأربعة، فقد اضطرب كلام النَّاس فيها، وهي لَعَمْري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل، ولذلك تجرأ بعض الناس على هذا الإمام الكبير، فقال ابن مجاهد : قرأ ابن عامر :" فَيَكُونَ " نصباً، وهذا غير جائز في العربية ؛ لأنه لا يكون الجواب هنا للأمر بالفاء إلاَّ في " يس " و " النحل "، فإنه نسق لا جواب.
وقال في " آل عمران " : قرأ ابن عامر وحده :" كُنْ فَيَكُونَ " بالنصب وهو وَهَمٌ. قال : وقال هشام : كان أيوب بن تميم يقرأ :" فَيَكُونَ " نصباً، ثم رجع فقرأ :" يَكُونُ " رفعاً.
وقال الزجاج :" كُنْ فَيَكُونُ " رفع لا غير.
وأكثر ما أجابوا بأن هذا مما روعي فيه ظاهر اللَّفظ من غير نظر للمعنى، يريدون أنه قد وجد في اللفظ صورة أمر فَنُصِبَتا في جوابه بالفاء.
وأما إذا نظرنا إلى جانب المعنى، فإن ذلك لا يصح لوجهين :
أحدهما : أن هذا وإن كان بلفظ الأمر، فمعناه الخبر نحو :﴿ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ ﴾ [ مريم : ٧٥ ]. أي : فيمدّ، وإذا كان معناه الخبر، لم ينتصب في جوابه بالفاء إلا ضرورة ؛ كقوله :[ الوافر ]
٧٥٩- سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيمٍ *** وَأََلْحَقُ بِالحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا
وقول الآخر :[ الطويل ]
٧٦٠- لَنَا هَضْبَةٌ لاَ يَنْزِلُ الذُّلُّ وَسْطَهَا *** وَيأْوِي إلَيْهَا المُسْتَجِيرُ فَيُعْصَمَا
والثاني : أن من شرط النصب بالفاء في جواب الأمر أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحو :" ائتني فأكرمك " تقديره :" إن أتيتني أكرمتك ".
وها هنا لا يصح ذلك إذ يصير التقدير : إن تكن تكن، فيتحد فعلا الشرط والجزاء معنى وفاعلاً، وقد علمت أنه لا بد من تغايرهما، وإلا يلزم أن يكون الشيء شرطاً لنفسه وهو مُحَال، قالوا : والمُعَاملة اللفظية، واردةٌ في كلامهم نحو :﴿ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ ﴾ [ إبراهيم : ٣١ ] ﴿ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ ﴾ [ الجاثية : ١٤ ].
وقال عمر بن أبي ربيعة :[ الطويل ]
٧٦١- فَقُلْتُ لجَنَّادٍ خُذِ السَّيْفَ وَاشْتَمِلْ *** عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَارْقُبِ الشَّمْسَ تَغْرُبِ
وَأَسْرِجْ لِيَ الدَّهْمَاءَ وَاذْهَبْ بِمِمْطَرِي *** ولاَ يَعْلَمَنْ خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ مَذهَبِي
فجعل " تَغْرُب " جواباً ل " ارقب " وهو غير مترتِّب عليه، وكذلك لا يلزمُ من قوله أَنْ يفعلوا، وإنما ذلك مُرَاعاة لجانب اللفظ.
أما ما ذكره في بيت عمر فصحيح.
وأما الآيات فلا نسلم أَنَّه غير مترتب عليه ؛ لأنه أراد بالعباد الخُلّص، وبذلك أضافهم إليه.
أو تقولُ : إن الجزمَ على حَذْفِ لامِ الأمر، وسيأتي تحقيقه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال ابن مالك :" إنَّ " " أنْ " الناصبةَ قد تُضْمر بعد الحَصْر ب " إنما " اختياراً، وحكاه عن بعض الكوفيين.
قال : وحكوا عن العرب : إنما هي ضربة من الأسد فتحطمَ ظهره بنصب " تحطم "، فعلى هذا يكون النَّصْب في قراءة ابن عامر محمولاً على ذلك إلاَّ أنَّ هذا الذي نصبوه دليلاً لا دليل فيه لاحتمال أن يكون من باب العطف على الاسم تقديره : إنما هي ضَرْبَة فَحَطم ؛ كقوله :[ الوافر ]
٧٦٢- لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَق
«لو» و «لولا» يكونان حرفي ابتداء، وقد تقدم عند قوله: ﴿فَلَوْلاَ فَضْلُ الله﴾ [البقرة: ٦٤] ويكونان حرفي تحضيض بمنزلة: «هلا» فيختصَّان بالأفعال ظاهرة أو مضمرة، كقوله: [الطويل]
٧٦٦ - تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلاَ الكَمِيَّ المُقَنَّعَا
أي: لولا تعدون الكمَيَّ، فإن ورد ما يوهم وقوع الاسم بعد حرف التخصيص يؤوَّشل؛ كقوله: [الطويل]
432
ف «نفس ليلى» مرفوع بفعل محذوف يفسره «شفيعها» أي: فهلا شفعت نفس ليلى.
وقال أبو البقاء: إذا وقع بعدها المستقبل كانت للتحضيض، وإن وقع بعدها الماضي كانت للتوبيخ وهذا شيء يقوله علماء البيان، وهذه الجملة التخضيضية في محلّ نصب بالوقل.
قوله: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الذين﴾ قد تقدم الكلام على نظيره فليطلب هناك.
وقرأ أبو حيوة، وابن أبي إسحاق: «تَشَّابَهَت» بتشديد الشين.
قال الدَّاني: «وذلك غير جائز؛ لأنه فعل ماض»، يعني: أن التاءين المزيدتين إنما تجيثان في المضارع فتدغم أما الماضي فلا.

فصل في قبائح اليهود والنصارى والمشركين


هذا نوع آخر من قبائح اليهود والنصارى والمشركين، فإنهم قدحوا في التوحيد باتَّخاذ الولد، وَقَدَحُوا الآن في النبوّة.
قال ابن عباس: «هم اليهود».
وقال مجاهد: «هم النصارى» لأنهم المذكورون أولاً، ويدلّ على أن المراد أهل الكتاب قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك﴾ [النساء: ١٥٣].
فإن قيل: المراد مشركو العرب، لأنه تعالى وصفهم بأنهم لا يعلمون، وأهلب الكتاب أهل العلم.
[قلنا] : المراد أنهم لا يعلمون التوحيد والنبوة كما ينبغي، وأهل الكتاب كانوا كذلك.
وقال قتادة وأكثر المفسرين: هم مشركو العرب لقوله: ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون﴾ [الأنبياء: ٥]، وقالوا: ﴿لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا﴾ [الفرقان: ٢١].
وتقرير هذه الشبهة أنك تقول: إن الله تعالى يكلّم الملائكة وكلم موسى، ويقول: يا محمد إن الله تعالى كلّمك فلم يكلمنا مُشَافهة، ولا ينص على نبوتك
433
حتى يتأكّد الاعتقاد، وتزول الشبهة، فأجابهم أنا قد أيدنا قول محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمعجزات، وبالآيات وهي القرآن، وسائر المعجزات، فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنّت، فلم يجب إجابتها لوجوه:
أحدها: أنه إذا حصلت الدلالة الواحدةن فقد تمكّن المكلف من الوصول إلى المطلوب، فلو كان غرضه طلب الحق لاكتفى بتلك الدلالة، فحيث لم يكتف بها، وطلب الزائد عليها علمنا أن ذلك من باب العناد، ويدل له قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت: ٥١].
وثانيها: لو كان في [علم الله تبارك وتعالى] أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآسية لَفَعَلَهَا، ولكنه علم أنه لو أعطاعهم ما سألوه لما ازدادوا إلا لجاجاً فلا جرم لم يفعل ذلك، وذلك قال تعالى:
﴿وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: ٢٣].
وثالثها: إنه ربما كان كثرتها وتعاقبها يقدح في كونها معجزة؛ لأن الخوارق متى توالت صار انخراقُ العادة عادة، فحينئذ يخرج عن كونه معجزاً.
وأما قوله تعالى: «تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» [فالمراد أن المكذبين للرسل ت تتشابه أقوالهم وأفعالهم]، فكما أن قوم موسى، [كانوا أبداً في التعنت واقتراح] الأباطيل، كقولهم: ﴿لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ [البقرة: ٦١] وقولهم: ﴿اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: ١٣٨] وقولهم: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً﴾ [البقرة: ٦٧] وقولهم: ﴿أَرِنَا الله جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٢]، فكذلك هؤلاء المشركون يكونون أبداً في العِنَادِ واللّجاج، وطلب الباطل.
قوله: ﴿قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ يعنى القرآن وغيره من المعجزات كمجيء الشجرة، وكلام الذِّئْب، وإشباع الّخلق الكثير من الطعام القليل، آيات قاهرةٌ، ومعجزات باهرة لمن كان طالباً لليقين.
434
اعلم أن القوم لما أَصرُّوا على العِنَّاد واللّجَاج الباطل، واقترحوا المعجزات على سبيل التعنت بيّن الله تعالى لرسوله صلى الله أنه لا مزيد على مافعله في مصالح دينهم من إظهار الأدلة.
قوله: «بالحَقِّ» يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون مفعولاً به، أي: بسبب إقامة الحق.
434
الثاني: أن يكون حالاً من المفعول في «أَرْسَلْنَاكَ» أي: أرسلناك ملتبساً بالحق.
الثالث: أن يكون حالاً من الفاعل، أي: ملتبسين في الحق.
وفيه وجوه:
أحدها: أنه الصدق كقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ﴾ [يونس: ٥٣] أي: صدق وقال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «بالقرآن»، لقوله تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ﴾ [ق: ٥].
وقال ابن كيسان: «بالإسلام وشرائعه»، لقوله تعالى: ﴿وَقُلْ جَآءَ الحق﴾ [الإسراء: ٨١]، وقال مقاتل: «لم نُرسِلْك عبثاً وإنما أرسناك بالحق» لقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق﴾ [الأحقاف: ٣] وعلى هذه الأقوال في تعلّق هذا الجار وجوه:
أحدها: أنه متعلق بالإرسال.
وثانيها: أنه متعلّق بالبشير والنذير أي: أنت مبشر بالحق ومنذر به.
وثالثها: أن يكون المراد من الحق الدين والقرآن، أي أرسلناك بالقرآن حال كونك بشيراً لمن أطاع الله بالثواب، ونذيراً لمن كفر بالعقاب، والأولى أن يكون البشير والنذير حالاً من الرسول، أي: أرسلناك بالحق لتكون بشيراً ونذيراً لمن اتبعك [ونذيراً لمن كفر بك] ويجوز أن يكون بشيراً ونذيراً حالاً من «الحق» ؛ لأنه يوصف أيضاً بالبشارة والنَّذَارة، وبشير ونذير على صيغة «فعيل».
أما بشير فتقول: هو من بَشَرَ مخففاً؛ لأنه مسموع فيهن و «فعيل» مطرد من الثلاثي.
وأما: «نذير» فمن الرباعي، ولا ينقاس عَدْل مُفْعِل إلى فَعِيل، إلا أن له هنا مُحَسِّناً.
قوله تعالى: «وَلاَ تُسْأَلُ» قرأ الجمهور: «تُسْأَلُ» مبنيًّا للمعفول مع رفع الفعل معلى النفي، وفي معنى هذه القراءة وجوه:
أحدها: أن مصيرهم إلى الجحيم، فمعصيتهم لا تضّرك، ولست مسؤولاً عن ذلك، وهنو كقوله: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب﴾ [الرعد: ٤٠] وقوله: ﴿عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ﴾ [النور: ٥٤].
الثاني: أنك هَادٍ وليسي لك من الأمر شيء، ولا تَغْتَمّ لكفرهم ومصيرهم إلى العذاب، ونظيره قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: ٨].
الثالث: أنك لا تسأل عن ذَنْب غيرك ويعضد هذه القراءة قراءة أُبَيّ: «وما تسأل»، وقراءة عبد الله «ولن تسأل».
435
وقال مقاتل رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لَوْ أنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ بَأْسَهُ بِاليَهُودِ لآمَنُوا» ؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم﴾ وقُرىء «تَسْألُ» مبيناً للفاعل مرفوعاً أيضاً، وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنه حال، فيكون معطوفاً على الحال قبلها، كأنه قيل: بشيراً أو نذيراً، وغيكر مسؤول.
والثاني: أن تكون مستأنفةً.
وقرأ نافع ويعقوب: «تَسْأَلْ» على النَّهي، وهذا مستأنف فقط، ولا يجوز أن تكون حالاً؛ لأن الطَّلب لا يقع حالاً.
وفي المعنى على هذه القراءة وجهان:
الاول: روي أنه قال: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنهي عن السؤال عن أحوال الكفرة.
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ: وهذه الرواية بعيدة؛ لأنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان عالماً بكفرهم، وكان علاماً بأن الكفار معذّب، فمع هذا العلم لا يجوز أن يسأل.
والثاني: معنى هذا النهي تعظيم ما وقع فيه الكُفَّار من العذاب، كما إذا سألت عن إنسان واقع في بليّة، فيقال لك: لا تسأل عنه.
وقرأ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْه: «ولن تسأل».
وقرأ أبي: «وما تسأل» ؛ ومعناهما موافق لقراءة الجمهور، نفي أن يكون مسؤولاً عنهم.
والجحيم: شدّة توقّد النار، ومنه قيل لعين الأسد: «جَحْمَة» لشدة توقُّدها، يقال: جَحِمَتِ النَّارُ تَجْحَمُ؛ ويقال لشَّدة الحر «» جاحم «؛ قال: [مجزوء الكامل]
٧٦٧ - ونُبِّئْتُ لَيْلَى أَرْسَلَتْ بِشَفَاعَةٍ إلَيَّ فَهَلاَّ نَفْسُ لَيْلَى شَفِعُهَا
436
والرِّضَا: ضد الغضب، وهو من ذوات «الواو» لقولهم: الرضوان، والمصدر: رضاً ورِضَاء بالقصر والمد، ورِضْواناً بكسر «الفاء» وضمها.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: رَضِيَ يَرْضَى رِضاً ورِضاءً ورِضْواناً ورُضواناً ومَرْضاة، وهو من ذوات «الواو» ويقال في التثنية: رِضَوان، وحكى الكسائي رَحِمَهُ اللهُ: رِضيان، وحكى رضاء ممدود، وكأنه مصدر رَاضَى يُرَاضِي مُرَاضَاعةً ورِضَاءً.
وقد يتضمّن معنى «عَطَف» فيتعدى ب «عَلى» ؛ قال: [الوافر]
٧٦٩ - إذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ........................
والملّة في الأصل: الطريقة، يقال: طريق مُملٌّن أي: أثَّر فيه [المشي]، ويعبر بها عن الشريعة تشبيهاً بالطريقة.
وقيلك بل اشتقت من «أَمْلَلْتُ» ؛ لأن الشريعة فيها مَن يُمْلي ويُمْلَى عليه.

فصل في سبب نزول هذه الآية


اعلم أنه تعالى لما بين أن العلّة قد انزاحت من قبله لا من قبلهم، وأنه لا عذر لهم في الثبات على التكذيب به عقب ذلك بأن القوم بلغ حالهم في [تشددهم في باطلهم، وثباتهم على كُفْرهم] أنهم يريدون منك أن تتبع ملّتهمن ولا يرضون منك بالكُفْر، بل الموافقة لهم في دينهم وطريقتهم.
قال ابن عباس رَحِمَهُ اللهُ: هذا في القِبْلَةِ، وذلك أن يهود «المدينة» ونصارى «نجران» كانوا يرجون النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين كان يصلِّي إلى قبلتهم، فلما صرف الله القبلة إلى الكَعْبة أَيسُوا منه الموافقة على دينهم فنزلت هذه الآية.
وقيل: كانوا يسألون النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الهدنة، ويطمعونه أنه إن أمهلهم اتبعوه، فأنزل الله هذه الآية.
معناه: إنك إن هادنتهم، فلا يرضون بها، ولا يطلبون ذلك تعللاً ولا يرضون منك إلا باتباع ملتهم.
قوله: «تَتَّبعَ» منصوب ب «أن» مضمرة بعد «حتى» قاله الخليل، وذلك أن «حتى» خافضة بالاسم لقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿حتى مَطْلَعِ الفجر﴾ [القدر: ٥] وما يعمل في الاسم لا
437
يعمل في الفعل ألبتة وما يخفض اسماً لا ينصب شيئاً.
وقال النَّحاسك «تَتَّبع» منصوب ب «حتى»، و «حتى» بدل من «أن».

فصل في أن الكفر ملّة واحدة


دلت هذه الآية على أن الكفر ملّة واحدة لقوله تعالى: «مِلَّتَهُمْ» فوحّد الملّة، وبقوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: ٦]، وأمّا قوله صلوات الله وسلامه عليه: «لا يتوارَثُ أَهْل ملّتين شيء» المراد به الإسلام والكفر بدليل قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا يُوَرّثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلا الكَافِرُ المُسْلِمَ» ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى﴾ [البقرة: ١٢٠] يعني الإسلام هو الهدى الحقّ الذى يصح أن يسمى هدى، وهو الهدى كله ليس وراء هدى.
قوله تعالى: «هو» يجوز في «هو» أن يكون فصلاً أو مبتدأ، وما بعده خبره، ولا يجوز أن يكون بدلاً من «هُدَى اللهِ» لمجيئه بصيغة الرفع.
وأجاز أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى فيه أن يكون توكيداً لاسم «إن»، وهذا لا يجوز فإن المضمر لا يؤكّد المظهر.
قوله: «وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ» هذه تسمى «اللام» الموطِّئَة للقسم، وعلامتها أن تقع قبل أدوات الشرط، وأكثر مجيئها مع «إن» وقد تأتي مع غيرها نحو: ﴿لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ﴾ [آل عمران: ٨١]، ﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ﴾ ﴿مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ﴾ وحذف جواب الشَّرْط، ولو أجيب الشرط لوجبت «الفاء» وقد تحذف هذه «اللاَّم» ويعمل بمقتضاها، فيجاب القسم نحو قوله تعالى: ﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ﴾ [المائدة: ٧٣].
والأهواء جمع هوى، كما تقول: «جمل وأجمال»، ولما كانت مختلفة جمعت، ولو حمل على أفراد الملة لقال: هواهم. قوله: «مِن العِلْمِ» في محلّ نصب على الحال من فاعل «جَاءَكَ» و «مِن» للتبعيض، أي جاءك حال كونه بعَ العلم.

فصل في المراد بهذا الخطاب


قيل: المراد بهذا الخطاب الأمة كقوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥]،
438
فالخطاب مع الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد الأمة. ﴿بَعْدَ الذي جَآءَكَ مِنَ العلم﴾ البيان بأن دين الله هو الإسلام، والقبلة قبلة إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهي الكَعْبَةٌ.
﴿مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ أي معين يعصمك ويذبّ عنك.

فصل فيما تدل عليه الآية


قالوا: الآية تدلّ على أمور: منها أن الذي علم الله منه أنه لا يفعل الشيء يجوز منه أن يتوعده على فعله.
وثانيها: أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلّة، ويبطل القول بالتقليد.
وثالثها: أن اتباع الهَوَى لا يكون إلا باطلاً فمن هذا الوجه يدلّ على بطلان التقليد.
ورابعها: سئل الإمام أحمد رَحِمَهُ اللهُ عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: كافر.
فقيل: بم كفرته؟ فقال: بآية من كتاب الله، تعالى، ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم﴾ [البقرة: ١٤٥] فالقرآن من علم الله تعالى، فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر.
439
قوله تعالى: ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب﴾ رفع بالابتداء، وفي خبره وجهان:
أحدهما: «يَتْلُونَهُ»، وتكون الجملة من قوله: «أولئِكَ يُؤْمِنُونَ» : إما مستأنفة وهو الصحيح.
وإما حالاً على قول ضعيف مثله أو السورة.
والثاني: أن الخبر هو الجملة من قوله: «أولئِكَ يُؤْمِنُونَ».
ويكون «يَتْلُونَهُ» وتكون الجملة في محلّ نصب على الحال إما من المفعول في «آتْنَاهُمْ» وإما من الكتاب، وعلى كلا القولين فهي حال مقدرة؛ لأن وقت الإيتاء لم يكونوا تالين، ولا كان الكتاب متلوًّا.
وجوز الحوفي أن يكون «يتلونه» خبراً، و «أولَئِكَ يُؤْمِنُونَ» خبراً بعد خبر، قال: مثل قولهم: «هذا حلو حامض» كأنه يريد جعل الخبرين في معنى واحد، هذا إن أريد ب «الذين» قوم مخصوصون.
439
وإن أريد بهم العموم، كان «أولئِكَ يُؤْمِنُونَ» الخبر.
قال جماعة منهم ابن عطية رَحِمَهُ اللهُ وغيره و «يَتْلُونَهُ» حالاً يستغنى عنها، وفيها الفائدة.
وقال أيضاً أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون «يَتْلُونَهُ» خبراً؛ لئلا يلزم منه أنّ كل مؤمن يتلو الكتاب حَقَّ تلاوته بأي تفسير فسرت التلاوة قال أبو حيان: ونقول: ما لزم من الامتناع مِنْ جَعْلِهَا خبراً يلزم من جعلها حالاً؛ لأنه ليس كل مؤمن على حال التلاوة بأي تفسير فسرت التلاوة.
قوله تعالى: «حَقَّ تِلاَوَتِهِ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه نصب على المصدر وأصله: «تلاوةً حقًّا» ثم قدم الوصف، وأضيف إلى المصدر، وصار نظير «ضربت شديد الضرب» أي: ضَرْباً شديداً. فلما قدم وصف المصدر نصب نصبه.
الثاني: أنه حال من فاعل «يَتْلُونَهُ» أي: يتلونه محقين.
الثالث: أنه نعت مصدر محذوف.
وقال ابن عطية: و «حَقَّ» مصدر، والعامل فيه فعل مضمرن وهو بمعنى «أفعل»، ولا تجوز إضافته إلى واحد معرف، إنما جازت هنا؛ لأن تَعَرُّفَ التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض، وإنما هو بمنزلة قولهم: رجل وَاحِدُ أُمِّه وَسِيجُ واحده يعني: أنه في قوة «أفعل» التفضيل بمعنى أحقّ التلاوة، وكأنه يرى أن إضافة «أفعل» غير محضة، ولاحاجة إلى تقدير عامل فيه؛ لأن ما قبله يطلبه. والضمير في «به» فيه أربعة أقوال:
أحدهما وهو الظاهر: عوده على الكتاب.
الثاني: عوده على الرسول، قالوا: «ولم يَجْرِ له ذكر لكنه معلوم»، ولا حاجة إلى هذا الاعتذار، فإنه مذكور في قوله: ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾ [البقرة: ١١٩]، غلا أن فيه التفاتاً من خطاب إلى غيبة.
الثالث: أنه يعود على الله تعالى، وفيه التفات أيضاً من ضيمر المتكلّم المعظم في قوله: «أَرْسَلْنَاكَ» إلى الغيبة.
الرابع: قال ابن عطية: إنه يعود على «الهدى» وقرره بكلام حسن.

فصل فيمن نزلت فيهم هذه الآية


قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أهل السَّفينة الذين كانوا مع جفعر بن أبي طالب،
440
وكانوا أربعين رجلاً اثنان وثلاثون من «الحبشة» وثمانية من رهبان «الشام» منهم بحيرى.
وقال الضحاك: هو من آمن من اليهود: عبد الله بن سلام، وشعبة بن عمرو، وتمام ابن يهوذا، وأسيد وأسد ابنا كعب وابن تامين، وعبد الله بن صوريا. دليل هذين التأويلين تقدم ذكر الكتاب.
وقال قتادة وعكرمة: هم المؤمنون عامة لقوله: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾ هذا حثّ وترغيب في تلاوة هذا الكتاب، وهذا شأن القرآن؛ لأن التوراة والإنجيل لا يجوز قراءتهما، وأيضاً قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فأولئك هُمُ الخاسرون﴾ وهذا الوصف لا يليق إلا بالقرآن.
والتلاوة لها معنيان:
أحدهما: الاتباع فعلاً؛ لأن من اتبع غيره يقال: تلاه فعلاً، قال تعالى: ﴿والقمر إِذَا تَلاَهَا﴾ [الشمس: ٢].
والثاني: القراءة.
وفي حق التلاوة وجوه:
أحدها: أنهم يدبّروه، فعلموا بموجبه [حتى تمسّكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما].
وثانيها: أنهم خضعوا عند تلاوته.
وثالثها: أنهم عملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه، وفوضوه إلى الله تعالى.
ورابعها: يقرءونه كما أنزل الهل، ولا يحرفونه، ولا يتأولونه على غير حق.
وخامسها: روي عن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوا، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا.
وسادسها: المراد أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه؛ لأنها مشتركة في مفهوم واحد، وهو تعظيمها، والانقياد لها.
441
العامل في «إذ» «قال».
وقيل: العامل فيه «اذكر» مقدراً، وهو مفعول، وقد تقدم أنه لا يتصرف فالأولى ما ذكرته أولاً.
441
وقدره الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى كان كيت وكيت، فجعله ظرفاً، ولكن عامله مقدر. و «ابْتَلَى» ما بعده في محلّ خفض بإضافة الظرف إليه.
وأصل ابتلى: ابْتَلَوَ، فألفه عن «واو؛ لأنه» من بَلاَ يَبْلو «أي؛ اختبر.
و»
إبْرَاهِيم «مفعول مقدم، وهو واجب التقديم عند جمهور النحاة؛ لأنه متى اتَّصَل بالفاعل ضمير يعود على المفعول وجب تقديمه، لئلا يعود الضمير على متأخر لفظاً وربتة، هذا هو المَشْهثور، وما جاء على خلافه عدوه ضرورة.
442
وخالف أبو الفتح في ذلك وقال:» إن الفعل كما يطلب الفاعل يطلب المفعول، فصار للفظ به شعور وطلب «.
وقد أنشد ابن مالك أبياتاً كثيرة تأخر فيها المفعول المتصل ضميره بالفاعل، منها: [السريع]
443
٧٦٨ - وَالحَرْبُ لاَ يَبْقَى لِجَا جِمِهَا التَّخَيُّلُ وَالمِرَاحُ
٧٧٠ - لَمَّا عَصَى أَصْحَابُهُ مُصْعَباً أَدَّى إِلَيْهِ الكَيْلَ صَاعاً بِصَاعْ
ومنها: [البسيط]
٧٧١ - جَزَى بَنُوهُ أَبَا الْغِيلاَنِ عَنْ كِبَرٍ وَحُسْنِ فِعْلِ كَمَا يُجْزَى سِنِمَّارُ
وقال ابن عطية: وقدم المفعول للاهتمام بمن وقع إلابتلاء به، إذا معلوم أن الله هو المبتلي، واتِّصَال ضمير الفعل بالفاعل موجب للتقديم، يعنى أن الموجب للتقديم سببان: سبب معنوي وسبب صناعي.
و» إبراهيم «علم أعجمي.
قيل: معناه قبل النقل أب رحيم.

فصل في تفسير لفظ إبراهيم


قال الماوردى: هذا التفسير بالسريانية وبالعربية فيما حكى ابن عطية أب رحيم.
قال السهيلي: كثيراً ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي، أو يقاربه في اللفظ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب رحيم، راحم بالأطفال، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذي يموتون صغاراً إلى يوم القيامة [على ماروى البُخَاري في حديث الرؤيا الطويل أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس].
وفيه لغات سبع، أشهرها: إبراهيم بألف وياء، وإبْرَاهام بألفين، وبها قرأ هشام وابن ذكوان في أحد وجهيه في»
البقرة «، وانفرد هشام بها في ثلاثة مواضع في آخر» النساء «وموضعين في آخر» براءة «وموضع في آخر» الأنعام «وآخر» العنكبوت «، وفي» النجم «و» الشورى «و» الذاريات «و» الحديد «والأول في» الممتحنة «، وفي» إبراهيم «وفي» النحل «موضعين، وفي» مريم «ثلاثة، فهذه ثلاثة وثلاثون موضعاً منها خمسة عشر في» البقرة «وثلاثة عشر في السور المذكورة.
444
وروي عن ابن عامر قراءة جميع ما في القرآن كذلك.
ويروى أنه قيل لمالك بن أنس: إن أهل «الشام» يقرءون ستة وثلاثين موضعاً إبراهام بالألف، فقال: أهل «دمشق» بأكل البطِّيخ أبصر منهم بالقراءة.
فقيل: إنهم يدعون أنها قراءة عثمان.
فقال: هذا مصحف عثمان، فأخرجه فوجده كما نقل له.
الثالثة: إبْرَاهِم بألف بعد الراء، وكسر الهاء دون ياء، وبها قرأ أبو بكر؛ وقال زيد بنُ عمروِ ينِ نُفَيْلِ: [الرجز]
٧٢٢ - عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِمُ إذْ قَالَ وَجْهي لَكَ عَانٍ رَاغِمُ
الرابعة: كذلك، إلا أنه بفتح الهاء.
الخامسة: كذلك إلا أنه بضمها.
السادسة: إبْرَهَم بفتح الهاء من غير الف وياء.
قال عبد المطلب: [الرمل]
٧٧٣ - نحْنُ آلُ الله ِ فِي كَعْبَتِهِ لَمْ نَزَلْ ذَاكَ عَلَى عَهْدِ ابْرَهَمْ
السَّابعة: إبْرَاهُوم بالواو.
قال أبو البقاء: ويجمع على «أَبَاره» عند قوم، وعند آخرين «بَرَاهِم».
وقيل: أبارِهَة وبَرَاهِمَة ويجوز أَبَارِهَة [وقال المبرد رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لا يقال براهم فإن الهمزة لا يجوز حذفها].
وحكى ثعلب فيه: «بَرَاهٍ» كما يقال في تصغيره: «بُرَيْه» بحذف الزوائد.
والجمهور على نصب «إبراهيم» ورفع «رَبُّهُ» كما تقدم.
445
وقرأ ابن عباس وأبو الشعثاء وأبو حنيفة بالعكس. قالوا: وتأويلها دعا ربه، فسمى دعاءه ابتلاء مجازاً؛ لأن في الدعاء طلب استكشاف لما تجري به المقادير.
والضمير المرفوع في «فَأَتمّهُنّ» فيه قولان:
أحدهما: أنه عائد على «ربّه» أي: فأكملهن.
والثاني: أنه عائد على «إبْرَاهِيمَ» أي: عمل بهن، ووفّى بهن.
وهو إبراهيم بن تارح بن ناحور مولده ب «الشوس» من أرض «الأهواز».
وقيل: «بابل»، وقيل: «كولى» وقيل «كسكر» وقيل: «حيران».
ونقله أبوه إلى «بابل» أرض نمرود بن كنعان، كان له أربع بنين: إسماعيل وإسحاق ومدين ومدائن، ذكره السهيلي.

فصل فيما دلتش عليه السورة


اعلم أنه سبحانه وتعالى لما شرح وجوه نعمه على بني إسرائيل شرح قبائحهم في أديانهم وأعمالهم، وختم هذا الفصل بشرح النعم بقوله: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٢٢] بين نوعاً آخر من البيان، وهو أن ذكر قصة إبراهيم عليه السلام والحكمة فيه أن إبراهيم عليه السلام معترف بفضله جميع الطَّوائف، والمشركون أيضاً معترفون بفضله متشرّفون بأنهم من أولاده، ومن ساكني حرمه، وخادمي بيته، فذكر فضيلته لهم؛ لأنها تدلّ على قبول محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من وجوه:
أحدها: أنه تعالى لما أمر ببعض التكاليف، فلما وفّ لأى بها وخرج لا جرم نال النبوة والإمامة.
وثانيها: أنه لما طلب الإمامة لذريته فقال تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ فدلّ ذلك على أنّ من أراد هذا المنصب وجب عليه ترك اللَّجَاج والتعصّب للباطل.
وثالثها: أن الحج من خصائص دين محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فحكى الله تعالى ذلك عن
446
إبراهيم ليكون ذلك كالحُجَّة على اليهود والنصارى في وجوب الانقياد لذلك.
واربعها: أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهود والنصارى، فبيّنم الله تعالى أن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي يعترفون بتعظيمه، ووجوب الاقتداء به، فكان ذلك مما يوجب زوال الغضب على قلوبهم.

فصل في معنى الاتبلاء


والابتلاء هنا الاختبار والامتحان، وابتلاء الله ليس ليعلم أقوالهم بالابتلاء؛ لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات على سبيل التَّفَصايل من الأَزَلِ إلى الأبد، ولكن ليعلم الناس أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضاً، أو عاملهم معاملة المختبر.
وختلف في «الكَلِمَاتِ» فقال مجاهد: هي المذكورة بعدها في قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ إلى آخرها من الآيات، ورفع البيت، وتطهير البيت، ورفع القواعد، والدعاء ببعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإن هذه أمور شاقّة؛ لأن الإمامة هاهنا هي النبوة وتتضمن مشاقاً عظيمة. وأما بناء البيت وتطهيره، ورفع قواعده، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف شدّة البلوى فيه، ثم إنه يتضمّن إقامة المَنَاسك، وقد امتحن الله تعالى الخليل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بالشَّيْطَان في الموقف لرمي الجِمَار وغيرها.
وأما اشتغاله بالدعاء ببعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو مما يحتاج إلى اخلاص العمل لله تعالى، وإزالة الحَسَد عن القلب، فكل هذه تكاليف شاقّة، ويدلّ على إرادة ذلك أنه عقبه بذكره من غير فصل بحرف عطف، فلم يقبل وقال: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾.
واعترض القاضي على هذا، فقال: إنما يجوز هذا لو قال تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمها إبراهيم، ثم قال بعد ذلك: إني جاعلك للناس إماماً فأتمهن.
وأجيب عنه: بأنه ليس المراد من الكلمات الإمامة فقط، بل الإمامة وبناء البيت وتطهيره والدعاء ببعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكأنه تعالى ابتلاه بمجموع هذه الأشياء، فأخبر كأنه ابتلاه بأمور على الإجمال، ثم أخبر عنه أتمّها، ثم عقب ذلك بالشرح والتفصيل، وهذا ليس ببعيد.
وقال طاوس عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: عشر خصال كانت فَرْضاً في شرعه، وهي سُنّة في شرعنا: خمس في الرأس، وخمس في الجسد، أما التي في الرأس: فالمضمضة، والاستنشاق، وفرق الرأس، وقصّ الشارب، والسِّوَاك، وأما التي في البدن:
447
فالخِتَان، وحَلْق العَانَةِ، ونَتْف الإبط، وتقليم الأظفار، [والاستنجاء بالماء.
وفي الخبر أن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أول من قصّ الشارب، وأول من اختتن وأول من قلّم الأَظفار].
وقال أبو الفرج بن الجوزي حديثاً عن كعب الأحبار رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: خلق من الأنبياء ثلاثة عشر مَخْتُونين: آدم وشيث ونوح وإدريس وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى ومحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال محمد بن حبيب الهاشمي أربعة عشر: آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان من أصحاب الرَّسِّ، ومحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وروي أن عبد المطلب ختن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم سابعه وجعل مَأْدُبة، وسماه محمداً عليه أفضل الصلاة والسلام.
قال يحيى بن أيوب رضي الله تعالى عنه طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممّن لقيته إلاَّ عند ابن أبي السّريّ.
وقال عكرمة عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما لم يُبْتلَ أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام ابتلاه بثلاثين خَصْلة من خصال الإسلام: عشر منها في سورة «براءة» :﴿التائبون العابدون﴾ [التوبة: ١١٢] إلى آخر الآية.
وعشر منها في سورة «الأحزاب» :﴿إِنَّ المسلمين والمسلمات﴾ [الأحزاب: ٣٥] إلى آخر الآية وعشر منها في «المؤمنين» :﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾ إلى قوله ﴿أولئك هُمُ الوارثون﴾ [المؤمنون ١١٠].
وروي عن ابن عباس: أربعون فزاد: وعشر في ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ﴾ إلى قوله تعالى ﴿يُحَافِظُونَ﴾ [المعارج: ١ - ٣٤].
وقال ابن عباس، وقتادة، والربيع: هي مناسك الحَجّ.
[وقال الحسن] : ابتلاه بسبعة أشياء: بالشمس والقمر، والكواكب، والخِتَان على الكِبَر، والنار، وذَبْح الولد، والهجرة، فوفّى بالكلّ.
448
وقال يمَان بن رباب: هي مَحَاجّته قومه، والصلاة، والزكاة، والصوم، والضيافة، والصبر عليها.
وقال بعضهم: هي قوله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين﴾ [البقرة: ١٣١].
وقال سعيد بن جبير: هو قول إبراهيم وإسماعيل إذ يَرْفَعَان البَيْتَ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ﴾ [البقرة: ١٢٧] الآية.
وقيل: هي قوله: ﴿الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨] الآيات.
قال القَفّال: وجملة القول أن الابتلاء بتناول إلزام كلّ ما في فعله كُلفة شدة ومشقة، فاللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء، ويتناول كل واحد منهان فلو ثبتت الرواية في الكل وجب القول بالكل، ولو ثبتت الرواية في البعض دون البعض، [فحينئذ يقع بين هذه الروايات]، فوجب التوقّف.

فصل في وقت هذا الابتلاء


قال القاضي: هذا الابتلاء إنما كان قبل النبوة؛ لأنَّ الله تعالى جعل قيامه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بهنّ كالسبب لأنْ يجعله الله إماماً، والسبب مقدم على المسّبب، وإذا كان كذلك فالله تعالى ابتلاه بالتكاليف الشَّاقّة، فلما وفَّى بها لا جرم أعطاه خُلْعة النبوة والرسالة.
وقال غيره: إنه بعد النبوة، لأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته.
وأجاب القاضي: بأنه يحتمل أنه تعالى أوحى إليه على لسان جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بهذه التكاليف، فلما تمّم ذلك جعله نبيّاً مبعوثاً إلى الخلق.
إذا عرفت هذا فنقول: قال القاضي: يجوز أن يكون المراد بالكلمات ما ذكر الحَسَن من أمر الكواكب والشمس والقمر، فإنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ابْتُلِيَ بذلك قبل النبوة.
وأما ذبح الولد والهجرة والنار، وكذا الخِتان، فكل ذلك بعد النبوة.
يروى أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ختن نفسه، وكان سنه مائة وعشرين سنة.
ثم قال: فإن قامت الدلالة السمعية القاهرة على أن المراد من الكلمات هذه الأشياء كان المراد من قوله: «أَتَمَّهُنَّ» أنه سبحانه علم من حاله أنه يتمهن، ويقوم بهن بعد النبوةن فلا جَرَمَ أعطاه خلعة الإمامة والنبوة.

فصل


قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ روى في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن
449
المسيب، يقول: إبراهيم عليه السلام أول من اختتن، وأول من أضاف اضيف، وأول من استحدّ، وأول من قلّم الأظافر، وأول من قَصَّ الشارب، وأول من شاب، فلما رأى الشيب قال: ما هذا؟ قال: وقار، قال: يا رب زدني وقاراً.
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه قال: أول من خطب على المنابر إبراهيم خليل الله.
قال غيره: وأول من ثَرَدَ الثَّرِيدَ، وأول من ضرب بالسيف، وأول من اسْتَاك، وأول من استنجى بالماء، وأول من لبس السراويل.
قوله: «قَالَ إِنِّي» هذه الجملة القولية يجز أن تكون معطوفة على ما قبلها، إذا قلنا بأنها عاملة في «إذْ» ؛ [لأن التقدير: وقال أِنِّي جاعلك إذ ابتلى، ويجوز أن تكون استئنافاً إذا قلنا: إن العامل في «إذْ» مضمر]، كأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل: قال: إنِّي جَاعِلُكَ.
ويجز فيها أيضاً على هذا القول أن تكون بياناً لقوله: «ابْتَلَى» وتفسيبراً له، فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة، وتطهير البيت، ورفع القواعد، وما بعدها، نقل ذلك الزمخشري.
قوله: «جَاعِلُكَ» هو اسم فاعل من «جَعَلَ» بمعنى «صَيَّرَ» فيتعدّى لاثنين:
أحدهما: «الكاف»، وفيها الخلاف المشهور هل هي في محلّ نصب أو جر؟
وذلك أن الضمير المتصل باسم الفاعل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه في محل جر بالإضافة.
والثاني: أنه في محل نصب، وإنما حذف التنوين لشدة اتّصال الضمير، قالوا: ويدلّ على ذلك وجوده في الضرورة؛ كقولهم: [الوافر]
٧٧٤ - فَمَا أَدْرِ وَظَنِّي كُلَّ ظَنِّ أَمُسْلِمُنِي إِلَى قَوْمِي شَرَاحِي
وقال آخر: [الطويل]
٧٧٥ - هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالآمِرُونَهُ.............................
450
وهذا يدل على تسليم كون «نون» مسلمني تنويناً، وإلاّ فالصحيح أنها نون وقاية.
الثالث وهو مذهب سيبوبه أنّ حكم الضمير حكم مظهره، فما جاز في المظهر يجوز في مضمره.
والمفعول الثاني «إمَاماً».
قوله: «لِلنَّاسِ» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق بجاعل أي لأجل النَّاس.
والثاني: أنه حال من «إمَاماً»، فإنه صفةُ نكرةٍ قدم عليها، فيكون حالاً منها؛ إذ الأصل: إمَاماً للناس، فعلى هذا يتعلق بمحذوف.
و «الإِمَامُ» : اسم ما يؤتمّ به أي يقصد ويتبع كالإزار اسم ما يؤتزر به.
ومنه قيل لحائط البناء: «إِمَام» ويكون في غير هذا جمعاً ل «آمّ» اسم فاعل من آمّ يؤمّ نحو: قائم وقيام، ونائم ونيام وجائع وجياع.
والمراد من الإمام هاهنا النبي، ويدلّ عليه وجوه:
منها أن قوله: «للنَاسِ إِمَاماً» يدل على أنه تعالى جعله إماماً لكل الناس، والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون رسولاً من عند الله مستقلاًّ بالشرع؛ لأنه لو كان تبعاً لرسول آخر لكان مأموماً [لذلك الرسول لا إماماً له، فحينئذ] يبطل العموم.
وأيضاً إنّ اللفظ يدلّ على أنه إمام في كل شيء [والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون نبيّاً.
وأيضاً إنّ الأنبياء عليهم السلام أئمة من حيث يجب على الخلق اتباعهم] قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ [الأنبياء: ٢١].
والخلفاء أيضاً أئمة؛ لأنه رتّبوا في محل يجب على الناس اتباعهم، وقبول قولهم، وأحكامهم. والقضاة، والفقهاء أيضاً أئمة لهذا المعنى، والذي يصلّي بالناس يسمى أيضاً إماماً به.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَام إِمَاماً لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا»
451
وقد يسمى من يؤتم به في الباطل، قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار﴾ [القصص: ٤١] إلا أنه لا يستعمل إلا مقيداً.

فصل في إمامة سيدنا إبراهيم


اعلموا أن الله تعالى لما وعده بأن يجعله إماماً للناس حقّق الله تعالى ذلك الوعد فيه إلى قيام السَّاعة، فإن أهل الأديان على شدّة اختلافها ونهاية تنافيها يعظمون إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ويتشرفون بالانتساب إليه إما في النسب، وإما في الدين والشريعة حتى إن عَبَدَةَ الأوثان كانوا معظمين لإبراهيم عليه الصَّلاة والسلام.
وقال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ [النحل: ١٢٣] وقال تعالى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠].
وقال عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ﴾ [الحج: ٧٨].
وجميع أمة محمد ت عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يقولون في صلاتهم: وارْحَمْ محمّداً وآل محمد كما صليت وباركت وترحّمت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم.
قوله: «وَمِنْ ذُرِّيتِي» فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أ، «ومنْ ذُرِّيَّتي» صفة لموصوف محذوف هو مفعول أول، والمفعول الثَّاني والعامل فيهما محذوف تقديره: قال: واجعل فريقاً من ذريتي إماماً قاله أبو البقاء.
الثاني: أن «وَمِنْ ذُرِّيَتِي» عطف على «الكاف»، كأنه قال: «وجاعل بعض ذرّيتي» كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيداً.
قال أبو حَيَّان: لا يصح العطف على الكاف؛ لأنها مجرورة، فالعطف عليها لا يكون إلاَّ بإعادة الجار، ولم يُعَدْ؛ ولأن «مِنْ» لا يمكن تقدير إضافة الجار إليها لكونها حرفاً، وتقديرها مرادفة لبعض حتى تصحّ الإضافة إليها لا يصح، ولا يصح أن يقدر العطف من باب العطف على موضع الكاف؛ لأنه نصب، فتجعل «مِنْ» في موضع نصب؛ لأنه ليس مما يعطف فيه على الموضع [في مذهب سيبويه رَحِمَهُ اللهُ تعالى] لفوات المحرز، وليس نظير ما ذكر؛ لأن «الكاف» في «سأكرمك» في موضع نصب.
الثالث: قال أبو حيان: والذي يقتضيه المعنى أني يكون «مِنْ ذُرِّيَّتِي» متعلقاً
452
بمحذوف، التقدير: واجعل من ذريتي إماماً، لأن «إبراهيم» فهم من قوله: إني جاعلك للنَّاس إماماً الاختصاص فسأل أ، يجعل من ذرّيته إماماً.
قال شهاب الدِّين: إن أراد الشيخ التعلّق الصناعي، فيتعدّى «جاعل» لواحد، فهذا ليس بظاهر.
وإن أراد التعلق المعنوي، فيجوز أن يريد ما يريده أبو البقاء، ويجوز أن يكون «مِنْ ذُرِّيَّتِي» مفعولاً ثانياً قدم على الأول، فيتعلّق بمحذوف، وجاز ذلك لأنه ينعقد من هذين الجزءين مبتدأ وخبر لو قلت: «من ذريتي إمام» لصح.
وقال ابن عطية: وقيل هذا منه على جهة الاستفهام عنهم أي: ومن ذرّيتي يا رب ماذا يكون؟ فيتعلّق على هذا بمحذوف، ولو قدره قبل «مِنْ ذُرِّيَّتِي» لكان أولى؛ لأن ما في حَيّز الاستفهام لا يتقدم عليه.
وفي «ذرية» ثلاث لغات ضمّ الذال وكسرها وفتحها، وبالضم قرأ الجمهور، وبالفتح قرأ أبو جعفر الداني وبالكسر قرأ زيد بن ثابت. وفي تصريفها كلام طويل يحتاج الناظر فيه إلى تأمل.

فصل في اشتقاق ذريّة


فأما اشتقاقها ففيه أربعة مذاهب:
أحدها: أنها مشتقة من «ذَرَوْتُ».
الثاني: من «ذَرَيْتُ».
الثالث: من ذَرَأَ الله الخَلْق.
الرابع: من الذَّرِّ.
وأما تصريفها فَذُرِّيَّة بالضم إن كانت من ذَرَوْتُ، فيجوز فيها أن يكون وزنها «فُعُّولَة»، والأصلك «ذُرُّوْوَة»، فاجتمع واوان: الأولى زائدة للمد، والثانية لام الكلمة فقلبت لام الكلمة ياء تخفيفاً، فصار اللفظ «ذُرُّويَة»، فاجتمع ياء وواو، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء التي هي منقلبة من لام الكلمة، وكسر ما قبل الياء، وهي الراء للتجانس.
ويجوز أن يكون وزنها «فُعِّيلَة»، والأصل: «ذُرِّيْوَة»، فاجتمع ياء المد والواو
453
التي هي لام الكلمة، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت فيها ياء المد. وإن كانت من ذَرَيْتُ لغة في ذَرَوْتُ فيجوز فيها أيضاً أن يكون وزنها «فْعُّولة» أو فُعِّيلَة كما تقدم، وإن كانت «فُعُّولة» فالأصل «ذُرُّوْيَة» ففعل به ما تقدم من القلب والإدغام.
وإن كانت «فُعِّيْلَة» فالأصل «ذُرِّيَية»، فأدغمت الياء الزائدة في الياء التي هي لام. وإن كانت من ذرأ مهموزاً، فوزنها، «فُعِّيْلة»، والأصل: «ذُرِّيْئة» فخففت الهمزة بأن أبدلت ياء كهمزة «خطيئة» والنسيء «، ثم أدغمت الياء الزائدة في الياء المبدلة من الهمزة.
وإن كانت من»
الذَّر «فيجوز في وزنها أربعة أوجه:
أحدها:»
فُعْلِيَّة «وتحتمل هذه الياء أن تكون للنَّسب، وغَيَّرُوا الذَّال من الفتح إلى الضم كما قالوا في النسب إلى الدهر: دُهْرِي، وإلى السهل سُهْلي بضم الدال والسين، وأن تكون الغير النسب فتكون ك» قُمْرية «.
الثاني: أن تكون»
فُعِّيْلَة «ك» مُرِّيقَة «والأصل» ذُرِّيرة «، فقلبت الراء الآخيةر ياء لتوالي الأمثال، كما قالوا: تسرّيت وتظنّيت في تسررت وتظننت.
الثالث: أن تكون»
فُعُّولَة «ك» قدوس «و» سبُّوح «، والأصل:» ذُرُّوْرَة «فقلبت الراء ياء لما تقدم، فصار ذُرُّوْيَة فاجتمع واو وياء، فجاء القلب والإدغام كما تقدم.
الرابع: أن تكون فعلولة، والأصل: ذُرُّوْرَة، ففعل بها ما تقدم في الوجه الذي قبله.
وأما ذِرِّية بكسر الذال فإن كانت من ذروت فوزنها فِعَّيلة، والأصل: ذِرَّيْوَة، فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء بعدها، فإ، كانت من ذريت فوزنها فِعلية أيضاً، وإن كانت من ذرأ فوزنها فِعَّيلَة أيضاً كبطِّيخة، والأصل ذِرِّيْئَة، ففعل فيها ما تقدم في المضمومة الذال. وإن كانت من الذَّرِّ فتحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون وزنها فِعَلِيَّة نسبة إلى الذر على غير قياس في المضمومة.
الثاني: أن تكون»
فِعَّيلَة «.
اثالث: أن تكون»
فِعْليلة «ك» حلتيت «والأصل فيها: ذِرِّيرة ففعل فيهما من إبدال الراء الآخيرة ياء والإدغام فيها.
وأما»
ذَرِّيَّة «بفتح الذال: فإن كانت من ذروت أو ذريت فوزنها: فَعِّيْلة ك» سكينة «والأصل» ذَرِّيْوة أو ذَرِّيية أو فَعُّولة والأصل ذَرُّورَة أو ذَرُّويَة، ففعل به ما تقدم في نظيره.
وإن كانت من ذرأ فوزنها: إما فعِّيلَة ك «سكينة»، والأصل ذَرِّيئة وإما فَعُّولة ك «خرّوية» والأصل: ذَرَّوءة ففعل به ما تقدم في نظيره.
وإن كانت من الذر ففي وزنها أيضاً أربعة أوجه:
454
أحدها: فَعْلِيَّة، والياء أيضاً تحتمل أن تكون للنسب، ولم يَشِذُّوا فيه بتغيير كما شذّوا في الضم والكسر وألاّ يكون نحو: بَرْنية.
الثاني: فَعُّولة ك «خَرُّوبة» والاصل ذَرُّوْرَة.
الثالث: فَعَّيلَة ك «سكينة» والأصل: ذريرة.
الرابع: فَعْلُولة ك «بكُّولة»، والأصل ذرورة أيضاً، ففعل به ما تقدم في نظيره من إبدال الراء الأخير، وإدغام ما قبلها وكسرت الذال إتباعاً، وبهذا الضبط الذي فعلته اتضح القول في هذه اللفظة.

فصل في معنى الذّرية


النسل يقعل على الذكور والإناث، والجمع الذراري.
وزعم بعضهم أنها تقع على الآباء كوقوعها على الأبناء مستدلاًّ بقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون﴾ [يس: ٤١] يعنى: نوحاً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ومن معه، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

فصل


هل كان إبراهيم عليه السَّلام مأذوناً له في قوله تعالى: «ومن ذرّيتي» أو لم يكن مأذوناً فيه؟ فإن أذن الله تعالى في هذا الدعاء فلم ردّ دعاءه؟ وإن لم يأذن له فيه كان ذنباً.
قلنا: قوله: «ومن ذرّيتي» يدلّ على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ طلب أن يكون بَعْضُ ذريته أئمة، وقد حقق الله تعالى إجابة دُعَاءه في المؤمنين من ذريته ك «إسماعيل»، و «يعقوب»، و «يوسف»، و «موسى»، و «هارون» و «داود»، و «سليمان»، و «أيّوب» و «يونس»، و «زكريا»، و «يحيى» و «عيسى»، عليهم السلام وجعل آخرهم نبينا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من ذرّيته الذي هو أفضل الخلق عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.
قوله تعالى: ﴿قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾.
الجمهور على نَصْب «الظَّالمِينَ» مفعولاً، و «عَهْدِي» فاعل، اي: لا يصل عهدي إلى الظالمين فيدركهم.
وقرأ قتادة، والأعمش، وأبو رجاء: «الظَّالِمُونَ» بالفاعلية، و «عَهْدِي» مفعول به، والقراءتان ظاهرتان؛ إذ الفعل يصحّ نسبته إلى كل منهما، فإن من نالك فقد نِلْته.
455
والنَّيْل: الإدراك، وهو العطاء أيضاً، نال يَنَال نيلاً فهو نائل، وقرأ حمزة وحفص بإسكان الياء من: «عَهْدِيْ»، الباقون بفتحها.

فصل في تحرير معنى العهد


اختلفوا في العَهْدِ، فقيل: الإمامة.
وقال السدي: النبوة، وهو قول ابن عباس.
وقال عطاءك رحمتي.
وقيل: عهده أمره، ويطلق على الأمر، مقال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا﴾
[آل عمران: ١٨٣] أي: أمرنا، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ﴾ [يس: ٦٠] يعنى ألم أقدم إليكم الأمر به، فيكون معنى قوله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ أي: لا يجوز أن يكونوا بمحلّ من يقبل أوامر الله.
[قال قتادة رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هو الإيمان.
وقال مجاهد والضحاك رحمهما الله هو طاعتي، أي: ليس لظالم أن يطاع في ظلمه ومعنى الآية: لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالماً من ولدك.
وقال أبو عبيدة رَحِمَهُ اللهُ تعالى: العهد الأمان من النار؛ لقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن﴾ [الأنعام: ٨٢].
قال ابن الخطيب: والأول أولى؛ لأنه جواب لسؤال الإمامة.
فإن قيل: أفما كان إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام عالماً بأن النبوة لا تليق بالظَّالمين؟
فالجواب: بلى، ولكن لم يعلم حال ذرّيته، فبيّن الله تعالى أن فيهم من هذا حاله، وأن النبوة إنما تحصل لمن ليس بظالم.

فصل في عصمة الأنبياء


الآية تدلّ على عصمة الأنبياء من وجهين.
الأول: أنه قد ثبت أن المراد من هذا العهد: الإمامة، ولا شكّ أن كل نبي إمام، فإن الإمام هو الذي يؤتم به، والنبي أولى الناس، وإذا دلّت الآية على أن الإمام لا يكون فاسقاً، فبأن تدلّ على أن الرسول لا يجوز أن يكون فاسقاً فاعلاً للذنب والمعصية أولى.
الثاني: أنَّ العَهْدَ إن كان هو النبوة، وجب أن تكون لا ينالها أحد من الظَّالمين،
456
وإن كان هو الإمامة، فكذلك لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماماً يؤتم به، وكل فاسق ظالم لنفسه، فوجب ألاَّ تحصل النبوة لأحد من الفاسقين.

فصل في أنه هل يجوز عقد الإمام للفاسق؟


قال الجمهور من الفقهاء والمتكلّمين: الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له، واختلفوا في أنَّ الفسق الطَّارىء هل يبطل الإمامة أم لا؟
واحتج الجمهور على أنّ الفاسق لا يصلح أن تعقد له الإمامة بهذه الآية، ووجه الاستدلال بها من وجهين:
[الأول: ما بيّنا أن قوله: «لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» جواب لقوله: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» وقوله: «وَمِنْ ذُرِّيََّتِي» طلب الإمامة الَّتي ذكرها الله تعالى، فوجب أن يكون المراد بهذا العهْدِ هو الإمامة، ليكون الجواب مُطَابقاً للسؤال، فتصير الآية كأنه تعالى قال: لا ينال الإمامة الظَالمين، وكل عاص فإنه ظالم لنفسه، فكانت الآية دالّة على ما قلناه].
فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي انتفاء كونهم ظالمين ظاهراً وباطناً ولا يصح ذلك في الأئمة والقضاة.
[قلنا] : أما الشيعة [فيستدلون] بهذه الآية على صحة قولهم في وجوب العِصْمَةِ ظاهراً وباطناً.
وأما نحن فنقول: مقتضى الآية ذلك إلاّ أنا تركنا عبارة الباطن، فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة.
فإن قيل: أليس أن يونس عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال:
﴿سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾ [الأنبياء: ٨٧] وقال آدم: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ [الأعراف: ٢٣] ؟
قلنا: المذكور في الآية هو الظلم المطلق، وهذا غير موجود في آدم ويونس عليهما السلام.
الوجه الثاني: أن العهد قد يستعمل في كتاب الله بمعنى الأمر، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان﴾ [يس: ٦٠] يعني: ألم آمركم بهذا؟
وقال الله تعالى: ﴿قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ [آل عمران: ١٨٣] يعنى أمرنا، ومنه عهود الخلفاء إلى أمرائهم وقضائهم. إذا ثبت أن عهد الله هو أمره فنقول: لا يخلو قوله: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ من أن يريد أن أن الظالمين غير مأمورين وأن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحلّ من يقبل منهم أوامر الله تعالى، ولما بطل الوجه الأول لانفاق المسلمين
457
على أن أوامر الله تعالى لازمة للظالمين، كلزومها لغيرهم ثبت الوجه الآخر، وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغير مقتدى بهم فيها، فلا يكونون أئمة في الدّين، فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق، قال عليه السلام: «لاَ طَاعَة لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ» ودل أيضاً على أن الفاسق لا يكون حاكماً، وأن أحكامه لا تنفذ إذ وُلِّيَ الحكم، وكذلك لا تقبل شهادته، ولا خبره [عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا فتياه إذا أفتى، ولا يُقَدَّم للصَّلاة، وإن كان هو بحيث لو اقتدى به، فإنه لا تفسد صلاته].
وقال ابو بكر الرَّازيك «ومن النَّاس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أن يجوز كون الفاسق إماماً وخليفة، ولا يجوز كون الفاسق قاضياً»، قال: وهذا خطأ، ولم يفرق أبو حنيفة بين الإمام والحاكم في أن شرط كل واحد منهما العدالة، وكيف يكون خليفةً، وروايته غير مقبولة، وأحكامه غير نافذة.
قال: وإنما غلط من غلط في هذه الرواية أن قول أبي حنفية: أن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه، وتولى القضاء من إمام جائر فإنَّ أحكامه نافذة، والصَّلاة خلفه جائزة؛ لأن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه، ويمكنه تنفيذ الأحكام كانت أحكامه نافذة، فلا اعتبار في ذلك بمن وَلاَّه؛ لأن الذي ولاَّه بمنزلة سائر أعوانه، وليس شرط أعوان القاضي أن يكونوا عدولاً، ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرِّضَا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعواناً له على من امتنع من قبول أحكامه ولكان قضاؤه نافذاً، وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان. والله أعلم.

فصل في أخذ الأرزاق من الأئمة الظَّلمة


ونقل القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى عن أبن خويز منداد أنه قال: وأما أخذ الأرزاق من الأئمّة الظلمة فله ثلاثة أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخذاً على موجب الشريعة، فجائز أخذه؛ وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحَجّاج وغيره.
وإن كان مختلطاً حالالاً وظلماً، كما في أيدي الأمراء اليومن فالوَرَعُ تركه، ويجوز
458
للمحتاج أخذه، وهو كَلِصٍّ في يده مال مسروق، ومال حلال، [وقد وكله فيه رجل، فجاء اللص يتصدق به على إنسان]، فيجوز أن تؤخذ منه الصَّدقة، وكذلك لو باع أو اشترى كان العَقْدُ صحيحاً لازماً، وإن كان الوَرَعُ التنزُّه عنه، وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها، [وإنما تحرم لجهاتها، وإن كان في أيديهم ظلماً صراحاً، فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم]، ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوباً غير أنه لا يعرف له صاحب، ولا مطالب، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطّاع الطريق [ويجعل في بيت المال].
459
«إذْ» عطف على «إذْ» قبلها، وقد تقدم الكلام فيها، و «جَعَلْنَا» يحتمل أن يكون بمعنى «خَلَقَ» و «وضعَ» فيتعدّى لواحدن وهو «البيت»، ويكون «مَثَابَةً» نصباً على الحال وأن يكون بمعنى «صيّر فيتعدى لاثنين، فيكون» مَثَابَةً «هو المفعول الثاني. والأصل في» مثابة «» مثوبة «فأعلّ بالنقل والقلب، وهل هو مصدر أو اسم مكان قولان؟
وهل الهاء فيه للمبالغة ك»
عَلاَّمة «و» نَسَّابة «لكثكرة من يثوب إليه، أي يرجعن أو لتأنيث المصدر ك» مقامة «أو لتأنيث البقعة؟ ثلاثة أقوال، وقد جاء حذف هذه الهاء؛ قال ورقةُ بنُ نَوْفَل: [الطويل]
٧٧٦ - مَثابٌ لأَفْنَاءِ القَبَائِلِ كُلِّهَا تَخُبُّ إلَيْهَا اليَعْمَلاَتُ الذَّوَامِلُ
وقال: [الرمل]
٧٧٧ - جَعَلَ البَيْتَ مَثَاباً لَهُمُ لَيْسَ مِنْهُ الدَّهْرَ يَقْضُونَ الوَطَرْ
وهل معناه من ثاب يثوب أي: رجع أو من الثواب الذي هو الجزاء؟
قولان:
أظهرهما: أولهما قال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير رَضِيَ اللهُ عَنْهم: إنهم يثوبون إليه في كل عام.
وعن ابن عباس ومجاهد رَضِيَ اللهُ عَنْهما: [أنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى
459
العود إليه]، وقرأ الأعمش وطلحة» مَثَابَاتٍ «جمعاً، ووجهه أنه مثابة لكلّ واحد من الناس.
قوله تعالى:»
لِلنَّاسِ «فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلّق بمحذوف؛ لأنه صفة لمثابة ومحلّه النصب.
والثاني: أنه متعلّق بجعل أي: لأجل الناس يعنى مناسكهم.
قوله تعالى:»
وَأَمْناً «فيه وجهان:
أحدهما: أنه عطف على»
مثابة «وفيه التأويلات المشهورة: إما في جعله نفس المصدر، وإما على حذف مضاف، أي: ذا أمن، وأما على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل، أيك آمناً، على سبيل المجاز كقوله: ﴿حَرَماً آمِناً﴾ [العنكبوت: ٦٧].
والثاني: أنه معمول لفعل محذوف تقديره: وإذ جعلنا البيت مثابة، فجعلوه آمناً لا يعتدي فيه أحد على أحد.
والمعنى: أن الله جعل البيت محترماً بحكمه، وربما يؤيد هذا بقرأءة:»
اتَّخِذُوا «على الأمر، فعلى هذا يكون» وأَمْناً «وما عمل فيه من باب عطف الجمل عطفت جملة أمرية على خبرية، وعلى الأول يكون من عَطْفِ المفردات.

فصل في تحرير المقصود من البيت


اعلم أنه لما ذكر أمر تكليف إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام بالإمامة ذكر بعده التكليف الثاني، وهو تطهير البيت، فنقول: المراد ببيت الله الحرام؛ لأن الألف واللام فيه: إما للعهد أو للجنس، وقد علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس، فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة.
قال ابن الخطيب: وليس المراد نفس الكعبة؛ لأنه تعالى وصفه بكونه»
أمناً «وهذا صفة لجميع الحرم لا الكعبة فقط بدليل جواز إطلاق البيت، والمراد منه كل حرم.
قال تعالى: ﴿هَدْياً بَالِغَ الكعبة﴾ [المائدة: ٩٥] والمراد حرم كله لا الكعبة نفسها؛ لأنه لا يذبح في الكعبة، ولا في المسجد الحرام، وقال تعالى: ﴿فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ [التوبة: ٢٨].
460
والمراد والله أعلم منعهم من الحج وحضور مواضع النسك، وقال الله تعالى مخبراً عن إبراهيم ﴿رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً﴾ [إبراهيم: ٣٥]، فدلّ هذا على أنه وصف البيت بالأمن، فاقتضى جميع الحرم. والسّبب في أنه تعالى أطلق لفظ البيت، وعنى به الحرم كله أن حرمة الحرم لما كانت معلّقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت.

فصل في تحرير معنى الأمن


قوله: «وأمناً» أي: وموضع أمن يؤمنون فيه من إيذاء المشركين، ولا شَكَّ أن قوله تعالى: ﴿جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً﴾ خبر فتارة يتركه على ظاهره، ويقولك هو خبر وتارة يصرفه عن ظاهره، ويقول: هو أمر.
أما على الأول فالمراد أنه جعل أهل الحرم آمنين من القَحْط والجدب على ما قال ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً﴾ [العنكبوت: ٦٧] وقوله: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [القصص: ٥٧] ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القَتْلِ في الحرم؛ لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه.
وأيضاً فالقتل المباح قد يوجد فيه، قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم﴾ [البقرة: ١٩١] فأخبر عن وقوع القَتْلِ فيه.
وإن حملنا الكلام على الأمر فالمعنى: أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضوع آمناً من الغارة والقَتل، فكان البيت محرماً بحكم الله تعالى، وكانت الجاهلية يحرمونه ولا يتعرّضون لأهل «مكة»، وكانوا يسمون قريشاً: أهل الله تعظيماً له، ثم اعتبر فيه أمر الصيد حتى أن الكلب ليَهُمَّ بالظَّبي خارج الحرم فيفر الظبي منه فيتبعه الكلب، فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكَلْب قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم فتح «مكة» :«إنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ تَعَالَى إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لاَ يُعْضَدُ شُوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ يَلْتَقِطُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا» فقال العباس رَحِمَهُ اللهُ: يا رسول الله إلإذْخِرَ. فقال: «إلاَّ الإذْخِرَ».

فصل في أنه هل يجوز القتال في الحرم؟


قال الشَّافعي رَحِمَهُ اللهُ تعالى ورضي عنه: إذا دخل البيت من وجب عليه حَدٍّ فلا تستوف منه، لكن الإمام يأمر بالتضييق عليه حتى يخرج من الحرم، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحلّ، فإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتله فيه.
461
وقال أبو حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْه: لا يجوز.
واحتج الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه بأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أمر عندما قتل عاصم بن ثابت بن الأفلح وخبيب بقتل أبي سفيان في داره ب «مكة» غيلة إن قدر عليه، وهذا في الوقت الذي كانت «مكة» فيه محرمة، وذلك يدل أنها لا تمنع أحداً من شيء وجب عليه، وأنها إنما تمنع من أن ينصب الحرب عليها كما ينصب على غيرها.
واحتج أبو حنيفة رَحِمَهُ اللهُ بهذه الآية.
والجواب عنه أن قوله: «وأمناً» ليس فيه بيان أنه جعله آمناً في ماذا؟ فيمكن أن يكون أمناً من القَحْط، وأن يكون آمناً من نَصْب الحروب، وأن يكون آمناً من إقامة الحُدُود، وليس اللفظ من باب العموم حتى يحمل على الكل، بل حَمْلُه على الأمن من القَحْط والآفات أَوْلَى؛ لأنا على هذا التفسير لا نحتاج إلى حمل لفظ الخبر على معنى الأمر، وفي سائر الوجوه نحتاج إلى ذلك، فكان قول الشَّافعي رَحِمَهُ اللهُ أولى.
قوله تعالى: «واتَّخِذُوا» قرأ نافع وابن عامر: «واتَّخَذُوا» فعلاً ماضياً على فلظ الخبر، والباقون على لفظ الأمر.
فأما قراءة الخبر ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه معطوف على «جَعَلْنَا» المخفوض ب «إذ» تقديراً، فيكون الكلام جملة واحدة.
الثاني: أنه معطوف على مجموع قوله: «وإذْ جَعَلْنَا» فيحتاج إلى تقدير «إذْ» أي: وإذ اتَّخّذُوا، ويكون الكلام جملتين.
الثالث: ذكره أبو البقاء أن يكون معطوفاً على محذوف تقديره: فثابوا واتخذوا.
وأما قراءة الأمر فيها أربعة أوجه:
أحدها: أنها عطف على «اذكروا» إذا قيل بأن الخطاب هنا لبني إسْرَائِيل، أي: اذكروا نعمتي واتخذوا.
والثاني: أنها عطف على الأمر الذي تضمنه قوله: «مثابة»، كأنه قال: ثوبوا واتخذوا، ذكر هذين الوجهين المَهْدَوِي.
الثالث: أنه مفعول لقول محذوف، أي: وقلنا: اتخذوا، إن قيل بأن الخطاب لإبراهيم وذريته، أو لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأمته.
الرابع: أن يكون مستأنفاً ذكره أبو البقاء.
قوله تعالى: «مِنْ مَقَامِ» في «من» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها تبعيضية، وهذا هو الظاهر.
الثاني: أنها بمعنى «في».
الثالث: أنها زائدة على قول الأخفش، وليس بشيء.
462
والمقام هنا مكان القيام، وهو يصلح للزمان والمصدر أيضاً. واصله: «مَقْوَم» فأعل بنقل حركة «الواو» إلى السَّاكن قبلها، وقلبها آلفاً، ويعبر به عن الجماعة مجازاً؛ كما يعبر عنهم بالمجلس؛ قال زهير: [الطويل]
٧٧٨ - وفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمٍ وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا القَوْلُ وَالفِعْلُ
قوله: «مُصَلَّى» مفعلو «اتَّخِذُوا»، وهو هنا اسم مكان أيضاً، وجاء في التفسير بعنى قبله.
وقيل: هو مصدر، فلا بد من حذف مضاف أي: مكان صلاة، وألفه منقلبة عن واو، والأصل: «مُصَلَّو» ؛ لأن الصلاة من ذوات «الواو» كما تقدم أول الكتاب.

فصل في المقصود بالمقام


اختلفوا في «المقام» فقال الحسن والربيع بن أنس وقتادة: هو موضع الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين غسلت رأسه، فوضع إبراهيم عليه السلام رجله عليه، وهو راكب فغسلت أحد شقّي رأسه، ثم رفعته من تحته، وقد غاصت رجله في الحَجر، فوضته تحت الرجل الآخرى، فغاصت رجله أيضاً فيه، فجعله الله تعالى من معجزاته يروى أنه كان موضع أصابع رجليه بيِّناً فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهم أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم﴾ [البقرة: ١٢٧] فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن وضع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم عليه السلام، وقال مجاهد رَحِمَهُ اللهُ وإبراهيم النخعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: «مقام إبراهيم الحرم كله» وقال يمان: المسجد كله مقام إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
[وقال عطاءك إنه عرفة والمزدلفة والجمار، وقال ابن عباس: «الحج كله مقام إبراهيم].
واتفق المحققون على أن القول الأول أولى لما روى جابر رحمة الله عليه أنه عليه الصَّلاة والسلام لما فرغ من الطواف أتى المقام، وتلا قوله تعالى: ﴿واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾.
463
وروي أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مرّ بالمقام، ومعه عمر رضي الل عنه فقال: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فلم تغب الشمس من فوقهم حتى نزلت الآية، وقال تعالى: ﴿واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾.
وليس للصلاة تعلق بالحرم، ولا بسائر المواضع إلا بهذا الموضع، فيكون مقام إبراهيم هو هذا، ولو سأل أهل» مكّة «عن مقام إبراهيم لم يجبه أحد، ولم يفهم منه إلا هذا الموضع لما روي أن الحجر صار تحت قدميه في رُطُوبة الطّين حتى غاصت فيه رِجْلا إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وذلك من أظهر الدلائل على وَحْدَانية الله تعالى ومعجزة إبراهيم عليه السلام، فكان اختصاصه بإبراهيم أولى من اختصاص غيره، وثبت في الأخبار أنه قام على هذا الحجر عند المغتسل، ولم يثبت قيامه على غيره، فحمل هذا اللفظ، أعنى: مقام إبراهيم عليه السلام على الحجر يكون أولى.
قال القَفَّال: ومن فسر»
مقام إبراهيم «بالحجر خرج قوله تعالى: ﴿واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ على مجاز قول الرجل: اتخذت من فلان صديقاً، وقد أعطاني الله من فلان أخاً صالحاً، وإنما تدخل» من «لبيان المتخذ الموصوف، ويميزه في ذلك المعنى من غيره.

فصل في تحرير معنى المُصَلّى


اختلفوا في «المُصَلّى»
.
فقال مجاهد رَحِمَهُ اللهُ تعالى: «هو الدعاء»، قال تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب: ٥٦] وإنما ذهب إلى هذا التأويل ليتم له قوله: إن الحرم كله مقام إبراهيم.
وقال الحسن رَضِيَ اللهُ عَنْه: أراد به قبلة إبراهيم.
وقال قتادة والسّدي: أمروا أن يصلوا عنده، وهذا القول أولى؛ لأن لفظ «الصَّلاة» إذا أطلق يعقل منه الصَّلاة الشَّرعية وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لأسامة بن زيد المصلى أمامك يعني به موضع الصلاة. وصلَّى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم عنده بعد تلاوة الآية. وهاهنا بحثان وهو أن ركعتي الطواف هل هي فرض أو سنة فإن كان الطواف فرضاً فعن الشافعي رَحِمَهُ اللهُ قولان:
أحدهما: أنهما فرض؛ لهذه الآية، فإن الأمر للوجوب.
والثاني: أنهما سنة؛ لقول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للأعرابي حين سأله هل عليَّ غيرها؟ قال لا إلاَّ أن تطوع، وإن كان الطواف سنة فهما سنة.
464

فصل في الكلام على البيت المعمور


روي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضراح، وهو بجال الكعبة من فوقها، حرمته في السَّماء كحرمة البيت في الأرض، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون فيه أبداً.
وذكر علي رضي الله تعالى عنه أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم، فانهدم فبنته العَمَالقة، ومر عليه الدهر فانهدم، فبنته جُرْهم، ومر عليه الدهر فانهدم، بنته قريش ورسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يومئذ شابّ، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا: يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السّكة، وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أول من خرج عليهم، فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مِرْطٍ، ثم ترفعه جميعُ القبائل، فرفعوه كلهم فأخذه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووضعه.
وعن الزهري قال: بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ثلاثة صفوح في كل صفح كتاب.
في الصفح الأول: أنا الله ذو بَكَّة صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حفًّان وباركت لأهلها في اللحم واللبن.
وفي الصفح الثاني: أنا الله ذو بَكَّة خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي من وصلها وصلته، ومن قطعها قطتعه.
وفي الثالث: أنا الله ذو بكَّة خلقت الخير والشرّ، فطوبى لمن كان الخير على يديه، وويل لمن كان الشر على يديه.
وقال صلوات الله وسلامه عليه: «الرُّكْنُ وَالمَقَامُ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الجَنَّةِ طَمَسَ اللهُ تَعَالَى نُورَهُمَا، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأَضَاءَ لَهُمَا مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، وَما مسهما ذُو عَاهَةٍ وَلاَ سَقِيمٌ إلاَّ شُفِيَ».
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «هَذَا الحَجَرُ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا يَوْمَ القِيَامَةِ وَإنَّهُ كَانَ أَشَدَّ بَيَاضاً مِنَ الثَّلْجِ حَتَّى سَوَّدَتْهُ خَطَايَا أهْلِ الشِّرْكِ».
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال: «هَذَا الحَجَرُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ عَلَى مَن اسْتَلَمَهُ بِحَقِّ».
وعن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أنه قَبَّل الحجر الأَسْوَد وقال: «إِنِّي لأعلم أنك
465
حجر لا تضر ولا تنفع، وأن الله ربّي، ولولا أني رأيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقبّلك ما قبَّلتك».
قوله تعالى: ﴿وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ﴾ تقدم معنى العَهْد.
قيل: معناه هاهنا أمرنا وقيل: أوحينا.
قوله: «وَإسْمَاعِيلَ» إسماعيل علم أعجميٌّ، وفيه لغتان: باللام والنون؛ وعليه قول الشاعر: [الرجز]
٧٧٩ - قَالَ جَوَارِي الحَيِّ لَمَّا جِينَا هَذَا وَرَبِّ البَيْتِ إسْمَاعِينَا
ويجمع على: «سَمَاعلة» و «سماعيل» و «أساميع».
ومن أغرب مانقل في التسمية أن إبراهيم عليه السلام لما دعا لله أن يرزقه ولداً كان يقول: اسمع إيل اسمع إيل، وإيل هو الله تعالى فسمى ولده بذلك.
قوله: «أَنْ طَهِّرَا» يجوز في «أن» وجهان:
أحدهما: أنها تفسيرية لجملة قوله: «عَهِدْنَا»، فإنه يتضمن معنى القول؛ لأنه بمعنى أمرنا أو وصينا، فهي بمنزلة «أي» التي للتفسير، وشرط «أن» التفسيرية أن تقع بَعْدَما هو بمعنى القول لا حروفه.
وقال أبو البقاء: والمفسرة تقع بعد القول، وما كان في معناه.
فقد غلط في ذلك، وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب.
والثاني: أن تكون مصدرية، وخرجت على نظائرها في جواز وصلها بالجملة الأمرية، قالوا: «كتبت إليه بإن قم» وفيها بحث ليس هذا موضعه، والأصل: بأن ظهرا، ثم حذفت الباء، فيجيء فيها الخلاف المشهور من كونها في محل نصب، أو خفض.
و «بَيْتِيَ» معفول به أضيف إليه تعالى تشريفاً وقرأ أهل «المدينة» وحفص «بيتيَ» بفتح الياء هاهنا، وفي سورة «الحج»، وزاد حفص في سورة «نوح» عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
و «الطائف» اسم فاعل من: «طاف يطوف»، ويقال: أطاف رباعياً، قال: [الطويل]
٧٨٠ - أطَافَتْ بِهِ جَيْلاَنُ عِنْدَ قِطَاعِهِ.........................
وهذا من باب «فَعَل وأفْعَل» بمعنى.

فصل في معنى تطهير البيت


يجب أن يراد به تطهير البيت من كل أمر لا يليق به، لأنه موضع الصَّلاة فيجب
466
تطهيره من الشرك، ومن كل ما لا يليق به، وذكر المفسّرون وجوهاً:
أحدها: أن معنى «طَهِّرَا بَيْتِيَ» ابنياه وطَهّراه من الشرك، وأسِّسَاه على التقوى.
وثانيهما: عرّفا الناس أن بيتي طهرة لهم متى حجّوه، وزاره وأقاموا به.
ومجازه: اجعلاه طاهراً عندهم، كما يقال: فلان يطهر هذا، وفلان ينجسه.
وثالثها: ابنياه، ولا تدعا أحداً من أهل الريب أو الشرك يزاحم الطَّائفين فيه، بل اقرَّاه على طهارته من أهل الكفر والريب كما يقال: طهر الله الأرض من فلان، وهذه التأويلات مبنيّة على أنه لم يكن هناك ما يوجب إيقاع تَطْهيره من الأَوثَان والشرك، وهو كقوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥] فمعلوم أنهنّ لم يطهرن عن نجس، بل خلقن طاهرات، وكذا البيت المأمور بتطهيره خلق طاهراً.
ورابعها: معناه: أن نظّفا بيتي من الأوثان والشرك والمعاصي، ليقتدي الناس بكما في ذلك.
وخامسها: قال بعضهم: إن موضع البيت قبل البناء كان يلقى فيه الجِيف والأقذار، فأمر الله تعالى إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام بإزالة تلك القَاذُورَات وبناء البيت هناك، وهذا ضعيف؛ لأن قيل البناء ما كان البيت موجوداً، فتطهير تلك العَرْصَة لا يكون تطهيراً للبيت، ويمكن أن يجاب عنه بأنه سماه بيتاً، لأنه علم أن مآله إلى أن يصير بيتاً لكنه مجاز.
قوله تعالى: ﴿لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود﴾.
الطائفين: الدَّائرين حوله والعاكفين المقيمين الملازمين.
والرّكع «، وجمع» راكع «.
والعكوف لغة: اللزوم واللبثح قال: [الوافر]
٧٨١ -........................ عَلَيْهِ الطَّيْرُ تَرْقُبُهُ عُكُوفَا
وقال: [الرجز]
٧٨٢ - عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُونَ الفَنْزَجَا...
467
ويقال: عَكَفَ يَعْكُفُ وَيَعْكِفُ، بالفتح في الماضي، والضم والكسر في المضارع، وقد قرىء بهما.
و» السُّجُود «يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه جمع ساجد نحو: قاعد وقعود، وراقد ورقود، وهو مناسب لما قبله.
والثاني: أنه مصدر نحو: الدخول والقعود، فعلى هذا لابد من حذف مضاف أي: ذوي السّجود ذكره أبو البقاء.
وعطف أحد الوصفين على الآخر في قوله:»
الطَّائِفِينَ والعَاكِفِينَ «لتبايُنِ ما بينهما، ولم يعطف إحدى الصّفتين على الأخرى في قوله:» الرُّكَّعِ السُّجُودِ «، لأن المراد بهما شيء واحد وهو الصلاة إذ لو عطف لتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حِيَالِهَا، وجمع صفتين جمع سلامة، وأخْريَيْن جمع تكسير لأجل المقابلة، وهو نوع من الفَصَاحة، وأخر صيغة» فعُول «على» فُعّل «؛ لأنها فاصلة.

فصل في الكلام على الأوصاف الثلاثة المتقدمة


في هذه الأوصاف الثلاثة قولان:
أحدهما: أن يحمل ذلك على فرق ثلاثة؛ لأن من حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه، فيجب أن يكون الطائفون غير العاكفين والعاكفون غير الركع السجود لتصح فائدة العطف.
فالمراد بالطَّائفين: من يقصد البيت حاجًّا أو معتمراً، فيطوف به، والمراد بالعاكفين: من يقين هناك ويجاوزر، والمراد بالركع السجود: من يصلي هناك.
والثاني: قال عطاء: إنه إذا كان طائفاً فهو من الطائفينن وإذا كان جالساً فهو من العاكفين، وإذا كان مصلياً فهو من الركع السجود. وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما العاكفون هم الذين يصلون عند الكعبة.
خصّ الركوع والسجود بالذكر؛ لأنها أقرب أحوال المصليم إل الله تعالى.

فصل فيما تدل عليه الآية


هذه الآية تدل على أمور منها:
أنا إذا فسرنا الطائفين بالغرباء، فحينئذ تدل الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة؛ لأنه تعالى كما خصّهم بالطواف دلّ على أن لهم به مزيد اختصاص.
468
وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء: أن الطواف لأهل الأنصَارِ أفضل، والصلاة لأهل «مكة» أفضل.
ومنها جواز الاعتكاف في البيت.
ومنها جواز الصلاة في البيت فرضاً أو نَفْلاً إذ لم تفرق الآية بين شيئين منها، خلافاً لمن منع جواز الصَّلاة المفروضة في البيت.
فإن قيل: لا تسلم دلالة الآية على ذلك؛ لأنه تعالى لم يقل: الركّع السجود في البيت، وكما لا تدلّ الآية على جواز فعل الطَّواف في جوف البيت، وإنما دلّت على فعله خارج البيت كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصَّلاة إلى البيت متوجّهة إليه، فالجواب ظاهر لأنه يتناول الرجع السجود إلى البيت، سواء كان ذلك في البيت، أو خارجاً عنها، وإنما أوجبنا وقوع الطواف خارج البيت هو أن يطوب بالبيت، ولا يسمى طائفاً بالبيت مَنْ طاف في جوفه، والله تعالى إنما أمر بالطواف به لا بالطواف فيه، لقوله تعالى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق﴾ [الحج: ٢٩].
وأيضاً المراد لو كان التوحه إليه للصلاة، لما كان الأمر بتطهير البيت للركع السجود وجه، إذ كان حاضرو البيت والغائبون عنه سواء في الأمر بالتوجّه إليه.
فإن قيل: احتجّ المخالف بقوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ [البقرة: ١٤٤] ومن كان داخل المسجد الحرام لم يكن متوجّهاً إلى المسجد، بل إلى جزء من أجزائه.
والجواب: أن المتوجّه الواحد يستحيل أن يكون متوجهاً إلى كلّ المسجد، بل لا بد وأن يكون متوجهاً إلى جزء من أجزائه، ومن كان داخل البيت فهو كذلك، فوجب أن يكون داخلاً تحت الآية.

فصل في تظهير جميع بيوت الله


ويدخل في هذا المعنى جميع بيوت الله تعالى، فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة، وإنما خص الكعبة بالذكر، لأنه لم يكن هناك غيرها.
469
قال القاضي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: في هذه الآيات تقديم وتأخير، لأن قوله: ﴿رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً﴾ لا يمكن إلاَّ بعد دخول البلد في الوجود، والذي ذكره من بعد وهو قوله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت﴾ [البقرة: ١٢٧] وإن كان متأخراً في التلاوة، فهو متقدم في المعنى.
469
قوله تعالى: ﴿اجعل هذا بَلَداً آمِناً﴾ والجعل هنا يعنى التَّصيير، فيتعدّى لاثنين ف «هذا» مفعول أول و «بلداً» مفعول ثان، والمعنى: اجعل هذا البلد، أو هذا المكان، و «آمناً» صفة أي ذا أمن نحو: ﴿عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٢١] أو آمناً من فيه نحو: ليلُهُ نائم. والبلد معروف، وفي تسميته قولان:
أحدهما: أنه مأخوذ من البلد.
والبلْد في الأصل: الصدر يقال: وضعت الناقة بَلْدَتَها إذا بركت، أي: صدرها، والبلد صدر القرى، فسمي بذلك.
والثاني: أن البلد في الأصل الأثر، ومنه: رجل بليد لتأثير الجهل فيه.
وقيل لبركة البعير: «بَلْدَة» لتأثيرها في الأرض إذا برك، قال الشاعر [الطويل]
٧٨٣ - اُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ قَلِيلُ بِهَا الأًصْوَاتُ إلاَّ بُغَامُها
إنما قال في هذه السورة «بَلَداً آمناً» على التنكير.
وقال في سورة إبراهيم: ﴿هذا البلد آمِناً﴾ [إبراهيم: ٣٥] على التعريف لوجهين:
الأول: أن الدعوة الأولى وقعت، ولم يكن المكان قد جعل بلداً، كأنه قال: اجعل هذا الوادي بلداً آمناً؛ لأنه تعالى حكى عنه أنه قال: ﴿رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ [إبراهيم: ٣٧].
فقال هاهنا اجعل هذا الوادي بلداً آمناً، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً، فكأه قال: اجعل هذا المكان الذي صيّرته بلداً ذا أمن وسلامة، كقولك: جعلت هذا الرجل آمناً.
الثاني: أن يكون الدعوتان وقعتا بعدما صار المَكَان بلداً، فقوله: ﴿اجعل هذا بَلَداً آمِناً﴾ تقديره: اجعل هذا البلد بلداً آمناً، كقولك: كان اليوم يوماً حارًّا، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة؛ لأن التنكير يدلّ على المبالغة، فقوله: ﴿رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً﴾ معناه: اجعله من البلدان الكاملة في الأمن، وأما قوله: ﴿رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً﴾ فليس فيه إلاَّ طلب الأمن لا طلب المبالغة، والله أعلم.

فصل في المراد بدعاء سيدنا إبراهيم


قيل: المراد من الآية دعاء إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ للمؤمنين من سكّان «
470
مكة» بالأمن والتَّوْسعة بما يجلب إلى «مكة» فلم يصل إليه جَبّار إلا قَصَمَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ ّ كما فعل بأصحاب الفيل.

فصل في الرد على بعض الشُّبهات


فإن قيل: أليس أن الحَجّاج حارب ابن الزبير، وخرب الكَعْبة، وقصد أهلها بكل سوء وتم له ذلك؟
فالجواب: لم يكن مقصوده تخريب الكمعبة لذاتها، بل كان مقصوده شيئاً آخر.
فإن قيل: ما الفائدة في قول إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً﴾ [إبراهيم: ٣٥]، وقد أخبر الله تعالى قبل ذلك بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً﴾ [البقرة: ١٢٥] ؟
فالجواب: من وجوه:
أحدها: أن الله تعالى لما أخبره بأنه جعل البيت مثابة للناس وأمناً، ووقع في خاطره أنه إنما جعل البيت وحده آمناً، فطلب إبرراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يكون الأمن بجميع البلد.
وثانيها: أن يكون قوله تعالى: «وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ» بعد قوله أبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً﴾ فيكون إجابة لدعئه، وعلى هذا فيكون مقدماً في التلاوة مؤخراً في الحكم.
وثالثها: أن يكون المراد من الأَمْنِ المذكور في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً﴾ [البقرة: ١٢٥] هو الأمن من الأعداء والخيف والخَسْف والمَسْخ، والمراد من الأمن في دعاء إبراهيم هو الأمن من القَحْط، ولهذا قال: ﴿وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات﴾.
فإن قيل: الأمن والخصب مما يتعلّق بمنافع الدنيا، فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها؟
فجوابه من وجوه:
أحدها: أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين كان ذلك من أعظم أركان الدين، وإذا كان البلد آمناً مخصباً تفرغ أهلها لطاعة الله تعالى وإذا كان ضد ذلك كانوا على ضد ذلك.
وثانيها: أنه تعالى جعله مثابة للناس، والناس إنما يمكنهم الذَّهاب إليه إذا كانت الطرق آمنةً، والأقوات هناك رخصية.
471
وثالثها: أن الأمنو الخَصْب مما يدعوا الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة، فحينئذ يشاهل المشاعر العظيمة، والموقف الكريمة، فيكون الأمن تتمّةً في تلك الطاعة.

فصل في المراد بالأمن


اختلفوا في الأمن المسؤول هنا فقيل: الأمن من القَحْط؛ لأنه أسكن ذرّيته بوادٍ غير ذي زرع ولا ضَرْع.
وقيل: الأمن من الخَسْف والمَسْخ.
وقيل: الأمن من القتل هو قول أبي بكر الرازي، واحتج عليه بأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سأله الأمن أولاً، ثم سأله الرِّزْق ثانياً.
ولو كان المَطْلوب هو الأمن من القَحْط لكان سؤال الرِّزْق بعده تكرار، وقد يجاب بأنه: لعل الأمن المسؤول هو الأمن من الخَسْف والمَسْخ، أو لعله الأمن من القَحْط، ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية، وقد يكون بالتَّوْسعة فيها، فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القَحْطِ، وبالسؤال الثاني طلب التوسعة.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: دعا إبراهيم لذريته وغيرهم بالأمن، وَغَدٍ العيش.
فروي أنه لما دعا بهذا أمر الله تعالى جبريل، فاقتلع «الطائف» من «الشام» فطاف بها حول البيت أسبوعاً، فسميت «الطائف» لذلك، ثم أنزلها «تهامة»، وكانت «مكة» وما يليها حين ذلك قَفْراً لا ماء فيها ولا نَبَاتَ، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيرها، وأنبت فيها أنواع الثَّمَرات.

فصل في أنه متى صارت مكة آمنة؟


اختلفوا هل كانت مكة آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أو إنما صارت كذلك بدعوته؟
فقالوا: إنها كانت كذلك أبداً لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّة يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ».
472
قال إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم﴾ [إبراهيم: ٣٧] وهذا يقتضي أنها كان محرمة قبل ذلك، ثم إن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أكّده بهذا الدعاء.
وقيل: إنها إنوما صارت حرماً آمناً بدعاء إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقبله كانت كسائر البَلَدِ، الدليل عليه قوله عليه السلام: «اللهُمَّ إِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينْةَ كَمَّا حَرَّمَ إِبْرَاهِيْمُ مَكَّة».
وقيل: كانت حراماً قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراماً بعد الدعوة.
قوله: «مَنْ آمَنَ» بدل بعض من كلّ، [وهو «أَهْلَهُ» ] ولذلك عاد فيه ضميره على المبدل منه، و «من» في «مِنَ الثَّمَرَاتِ» للتبعيض.
وقيل: للبيان، وليس بشيء، إذ لم يتقدّم مبهم يبين بها.

فصل في تخصيص المؤمنين بهذا الدَّعاء


إنما خصَّ المؤمنين بهذا الدعاء لوجيهن:
الاولك أنه لما سأل الله تعالى فصار ذلك [تأديباً] في المسألة، فلما ميّز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة: خصّص المؤمنين بهذا الدُّعاء دون الكفارين.
الثاني: يحتمل إن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قوي في ظنه أنه إن دعا للكلّ كثر في البلد الكفار، فيكون في كثرتهم مفسدة ومضرّة في ذهاب الناس إلى الحَجّ، فخصّ المؤمنين بالدعاء لهذا السبب.
قوله: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ] يجوز في «من» ثلاثة أوجه.
أحدها: أن تكون موصولة، وفي محلّها وجهان:
أحدهما: أنها في محلّ نصب بفعل محذوف تقديره، قال الله: وأرزق من كفر، ويكون «فأمتعه» معطوفاً على هذا الفعل المقدر.
والثاني: [من الوجهين] : أن يكون في محلّ رفع بالابتداء، و «فأمتعه» الخبر، دخلت الفاء في الخبر تشبيهاً له بالشرط.
473
وسيأتي أن أبا البقاء يمنع هذا، والرد عليه.
الثَّاني من الثلاثة الأوجه: أن تكون نكرة موصوفة ذكره أبو البقاء، والحكم فيها ما تقدّم من كونها في محلّ نصب أو رفع.
الثالث: أن تكون شرطية، ومحلّلها الرفع على الابتداء فقط، و «فَأُمتِّعُهُ» جواب الشرط.
ولا يجوز في «من» في جميع وجوهها أن تكون منصوبةً على الاشتغال.
أما إذا كانت شرطاً فظاهر لأن الشرطية إنما يفسر عاملها فعل الشرط لا الجزاء، وفعل الشرط عنا غير ناصب لضميرها بل رافعة.
وأما إذا كانت موصولة فلأن الخبر الذي هو «فأمتعه» شبيه بالجزاء، وذلك دخلته الفاء، فكما أن الجمزاء لا يفسر عاملاً فما أشبهه أولى بذلك، وكذا إذا كانت موصوفة فإن الصفة لا تفسر.
وقال أبو البقاء: لايجوز أن تكون «من» مبتدأ، و «فأمتعه» الخبر؛ لأن «الذي» لا تدخل «الفاء» في خبرها إلا إذا كان الخبر مستحقاً بالصلة نحو: الذي يأتينين فله درهم، والكُفْر لا يستحقّ به التمتع.
فإن جعلت الفاء زائدة على قوله الأخفش جاز، أو جعلت الخبر محذوفاً، و «فامتعه» دليلاً عليه جاز تقديرهك ومن كفر أرزقه فأمتعه.
ويجوز أن تكون «من» شرطية، والفاء جوابها.
وقيل: الجواب محذوف تقديره: ومن كفر أرزق، و «من» على هذا رفع بالابتداء، ولا يجوز أن تكون منصوبة؛ لأن أدوات الشرط لا يعمل فيها جوابها، بل فعل الشرط انتهى.
أما قوله: «لأن الكفر لا يستحقّ به التمتّع» فليس بمسلّم، بل التمتُّع القليل والمصير إلى النار مستحقَّان بالكفر.
وأيضاً فإن التمتُّع وإن سلّمنا أنه ليس مستحقّاً بالكفر؛ ولكن قد عطف عليه ماهو مستحقّ به، وهو المصير إلى النار، فناسب ذلك أن يقعا جميعاً خبراً.
وأيضاً فقد ناقض كلامه؛ لأنه جوز فيها أن تكون شرطية، وهل الجزاء إلاَّ مستحق بالشرط، ومترتب عليه؟ فكذلك الخبر المشبه به.
وأما تجويزه زيادة الفاء، وحذف الخبر، أو جواب الشرط فأوجه بعيدة لا حاجة إليها.
474
وقرىء «أُمْتِعُهُ» مخفَّفاً من أمتع يمتع، وهي قراءة ابن عامر رَضِيَ اللهُ عَنْه، و «فأمتعه» بسكون العين، وفيها وجهان:
أحدهما: أنه تخفيف كقوله: [السريع]
٧٨٤ - فَاليَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبِ............................
والثاني: أن «الفاء» زائدة وهو جواب الشرط؛ فلذلك جزم بالسكون، وقرأ ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما ومجاهد «فَأمْتِعْهُ ثُمَّ اضْطرَه» على صيغة الأمر فيهما، ووجهها أن يكون الضمير في «قال» لإبراهيم يعني سأل ربه ذلك و «من» على هذه القراءة يجوز أن تكون متبدأ، وأن تكون منصوبة على الاشتغال بإضمار فعل سواء جعلتها موصولة أو شرطية، إلا أنك إذا جعلتها شرطية قدرت الناصب لها متأخراً عنها؛ لأن أداة الشرط لها صدر الكلام.
وقال الزمخشري: «وَمَنْ كَفَر» عطف على «من آمن» كما عطف «ومن ذرّيتي» على الكاف في «جاعلك» قال أبو حيان: أما عطف «من كفر» على «من آمن» فلا يصح؛ لأنه يتنافى تركيب الكلام؛ لأنه يصير المعنى: قال إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأرزق من كفر؛ لأنه لا يكون معطوفاً عليه حتى يشركه في العامل.
«من آمن» العامل فيه فعل الأمر، وهو العامل في «ومن كفر»، وإذا قدرته أمراً تنافى مع قوله: «فأمتعه» ؛ لأن ظاهر هذا إخبار من الله تعالى بنسبة التمتع، وإلجائهم إليه تعالى وأن كلاًّ من الفعلين تضمَّن ضميراً، وذلك لا يجوز إلاَّ على بعد بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى، أيك قال إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: وازرق من كفر، فقال الله: أمتعه قليلاً ثم أَصطره، ثم ناقض الزمخشري قوله هذا أنه عطف على «من» كما عطف «ومن ذريتي» على الكاف في «جاعلك».
فقال: فإن قلت لم خص إبراهيم بذلك المؤمنين حتى رد عليه؟
فالجواب: قاس الرزق على الإمامة، فعرف الفرق بينهما بأن الإمامة لا تكون للظالم، وأما الرزق فربما يكون استدراجاً.
والمعنى: قال: «وارزق من كفر فأمتعه» فظاهر قوله «والمعنى قال» أن الضمير في «قال» لله تعالى، وأن «من كفر» منصوب بالفعل المضارع المسند إلى ضمير المتكلم.
475
و «قليلاً» نعت لمصدر محذوف أو زمان، وقد تقدم له نظاره واختبار سيبويه فيه.
وقرأ الجمهور: «أَضْطَرُّهُ» خبراً.
وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الهمزة، ووجهها كسر حرف المضارعة كقولهم في أخال: إِخَال.
وقرأ ابن محيصن «أطَّرَّه» بإدغام الضاد في الطاء، [نحو] : اطَّجع في اضطجع وهي مَزْذولة؛ لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها، ولا تدغم هي في غيرها وهي حروف: ضغم شقر، نحو: اطجع في اضطجع، قاله الزمخشرين وفيه نظر؛ فإن هذه الحروف أدغمت في غيرها، أدغم أبو عمرو الدَّاني اللام في ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ﴾ [نوح: ٤] والضاد في الشين: ﴿لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ﴾ [النور: ٦٢] والشين في السين: ﴿العرش سَبِيلاً﴾ [إلاسراء: ٤٢].
وأدغم الكسائي الفاء في الباء: ﴿نَخْسِفْ بِهِمُ﴾ [سبأ: ٩].
وحكى سيبويه رَحِمَهُ اللهُ تعالى أن «مْضَّجَعًا» أكثر، فدلّ على أن «مطّجعاً» كثيرٌ.
وقرأ يزيد بن أبي حبيب: «أضطُرُّهُ» بضم الطاء كأنه للإتباع.
وقرأ أبي: «فَنُمَتِّعُهُ ثُمَّ نَضْطَّرُّهُ» بالنون.
واضطر افتعل من الضَّرِّ، وأصله: اضْتَرَّ، فأبدلت التاء طاء؛ لأن تاء الافتعال تبدل طاء بعد حروف الإطباق وهو متعدِّ، عليه جاء التنزيل؛ وقال: [البسيط]
٧٨٥ - إِضْطَرَّكَ الْحِرْزُ مِنْ سَلْمَى إِلَى أَجَإٍ........................
والاضطرار: الإلجاء والإلزاز إلى الأمر المكوره.
قوله: «أُمَتِّعُهُ» قيل: بالرزق.
476
وقيل: بالبقاء في الدنيا.
وقيل: بهما إلى الخروج محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقتله أو يخرجهُ من هذه الديار إن قام على الكُفْر، [وقيد المتاع بالقلّة] ؛ لأن متاع الدنيا قليلٌ بالنسبة إلى متاع الآخرة المؤبد.
وفي الاضطرار قولانك
أحدهما: أن يفعل به ما يتعذّر عليه الخلاص منه، كما قال الله تعالى:
﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطور: ١٣] و ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ﴾ [القمر: ٤٨] يقال اضطررته إلى الأمر أي: ألجأته [وحملته عليه] وقالوا: إن أصله من الضَّر؛ وهو إدناء الشيء، ومنه ضرة المرأة لدنوّها.
الثاني: أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك اختياراً، كقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] فوصفهُ بأنه مضطر إلى تناول الميتة، إن كان ذلك الأكل فعله، فيكون المعنى: أن الله تعالى يلجئه إلى أن يختار النار، ثم بيّن تعالى أن ذلك بئس المصير؛ لأن نعم المصير ما ينال فيه النعيم والسرور، وبئس المصير ضده.
قوله: «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» المصير فاعل، والمخصوص بالذم محذوف، أي: النار ومصير: مفعل من صار يصير، وهو صالح للزمان والمكان.
وأما المصدر فيقاسه الفتح؛ لأن ماكسر عين مضارعه، فقياس ظرفية الكسر ومصدره الفتح، ولكن النحويين اختلفوا فيما كانت عينه ياء على ثلاثة مذاهب.
أحدها: كالصحيح [وقد تقدم].
والثاني: أنه مخير فيه.
والثالث: أن يتبع المسموع فما سمع بالكسر أو الفتح لا يتعدّى، فإن كان «المصير في الآية اسم مكان فهو قياسي اتفاقاً، والتقدير: وبئس المصير النّار كما تقدم، وإن كان مصدراً على رأي من أجازه فالتقدير: وبئس الصيرورة صيرورتهم إلى النَّار.
477
«إذ» عطف على «إذ» قبلها، فالكلام فيهما واحد.
و «يرفع» في معنى ماضياً، ح لأنها من الأدوات المخلصة المضارع للمضي.
477
وقال الزمخشري: «هي حكاية حال ماضية» قال أبو حيان: وفيه نظر.
و «القوعد» جمع قاعدة، وهي الأساس والأصل لما فوق، وهي صفة غالبة، ومعناها الثابتة، ومنه «قَعَّدَك الله» أي: أسأل الله تثبيتك، ومعنى رَفْعِها البناءُ عليها؛ لأنه إذا بني عليها نقلت من هيئة الانخفاض إلى الارتفاع.
وأما القواعد من النِّسَاء فمفردها «قاعد» من غير تاء؛ لأن المذكر لا حظَّ له فيها إذ هي من: قَعَدَتْ عن الزوج.
ولم يقل «قواعد البيت»، بالإضافة لما في البيان بعد الإبهام من تفخيم شأن المبين.
[فصل في مشاركة إسماعيل في رفع القواعد
الأكثرون على أن البيت كان موجوداً قبل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ واختلفوا هل كان إسماعيل شريكاً له في رفع القواعد؟
فالأكثرون على أنه كان شريكاً له؛ للعطف عليه.
وروي عن علي رَضِيَ اللهُ عَنْه أنه لما بنى البيت خرج وخلف إسماعيل وهاجر.
فقالا: إلى من تكلنا؟
قال: إلى الله تعالى، فعطش إسماعيل ولم ير الماء، فناداه جبريل أن اضرب الأرض بأصبعكن فضربها بأصبعه، فنبع زمزم. وهذا ضعيف؛ وذلك لقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ﴾ وذها يوجب صرفه إلى المذكور السابق: وهو رفع القواعد].

فصل في الكلام على رفع القواعد


يروى أن الله تبارك وتعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام، وكانت زبدة بيضاء على الماء، وأنزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زُمُرّد أخضر، وأنزل الله الحجر، كان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية، وأمر الله تعالى آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يحج إليه، ويطوف به.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: حج آدم صلوات الله وسلامه عليه أربعين حجّة من «الهند» إلى «مكة» ماشياً، وكان ذلك إلى أيام الطوفان، فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة، وبعث جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس، وكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ثم أمر الله تعالى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بعد ما ولد إسماعيل ت عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ
478
ببناء البيت، فسأل الله تعالى أن يبين له موضعه، فبعث الله السّكينة ليدله على موضع البيت، فتبعها حتى أتيا «مكة»، هذا قول علي رضي الله تعالى عنه.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: بعث الله سحابة على قدر الكَعْبَة، وذهب إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في ظلها إلى أن وافت «مكة» فوقعت على موضع البيت، فنودي منها يا إبراهيم ابْنِ على ظلها ولا تزل ولا تنقص.
[وقيل: أرسل الله جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ليدله على موضع البيت قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: بُنِي البيت من خسمة أجبل: طوزر سيناء، وطور زيتا، ولبنان جبال بالشام، والجودي: جبل بالجزيرة وقواعده من حراء جبل بمكة المشرفة، فلما انتهى لموضع الحجر قال لإسماعيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يطلبه فصاح أو قُبيس: يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها، فأخذ الحجر الأسود، فوضعه مكانه.
وقيل: إن الله تبارك وتعالى بنى البيت المعمور في السماء، وسمي «صراح»، وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره وبقية الكلام على البيت يأتي في سورة «الحج» ‘إن شاء الله تعالى والله أعلم].
قوله: «من البيت» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلّق ب «يرفع» ومعناها اتبداء الغاية.
والثاني: أنها في محل نصب على الحال من «القواعد»، فيتعلّق بمحذوف تقديره: كائنة في البيتن ويكون معنى «من» التبعيض [روى ابن كثير رَحِمَهُ اللهُ عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما، «أن القواعد حجارة كأسنمة البخت بعضها من بعض، وحكى عن رجل من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها؛ ليخرج بها أحدهما، فتحركا تحرك الرجل، فانتفضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس».
وقيل: أبصر القوم برقة، كادت تخطلف بصر الرجل فبرأ الرجل من يدهن فوقع في موضعه، فتركوه ورجعوا إلى بنيانهم].
قوله: «وَإٍسْمَاعيِلُ» فيه قولان:
أحدهما: وهو الظاهر أنه عطف على «إبراهيم» ن فيكون فاعلاً مشاركاً في الرفع، ويكون قوله: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ﴾ في محلّ نصب بإضمار القول، ذلك القول في محل نصب على الحال منهما، أي: يرفعان يقولان: ربنا تقبل، ويؤيد هذا قراءة عبد الله
479
بإظهار فعل القول، وقرأ: «يَقُولاَنِ: رَبَّنَا تَقَبَّشلْ» أي: قائلين ذلك، ويجوز ألا يكون هذا القول حالاً، بل هو جملة معطوفة على ما قبلها، ويكون هو العامل في «إذ» قبله، والتقدير: يقولان: ربنا تقبل إذ يرفعان، أي: وقت رفعهما.
والثَّاني: الواو [واو الحال]، و «إسماعيل» مبتدأ وخبره قول محذوف هو العامل في قوله: «رَبَّنَا تَقَبَّلْ» فيكون إبراهيم هو الرَّافع، وإسماعيل هو الدَّاعي فقط، قالوا: لأن إسماعيل كان حينئذ طفلاً صغيراً، ورَوَوْه عن علي رَضِيَ اللهُ عَنْه والتقدير إذ يرفع إبراهيم حال كون إسماعيل يقول: ربنا تقبل منّا.
وفي المجيْ بلفظ «الرب» جل وعز تنبيه بذكر هذه الصفة على التربية والإصلاح.
و «تقّبل» بمعنى «اقبل»، ف «تَفَعَّلْ» هنا بمعنى المجرد.
وتقدم الكلام على نحو «إنك أنت السميع» من كان «أنت» يجوز فيه التأكيد والابتداء والفَصْل. وتقدمت صفة السَّمع، وإن كان سؤال التقبل متأخراً عن العمل للمجاورةن كقوله تعالى ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت﴾ [آل عمران: ١٠٦] وتأخرت صفة العلم، لأنها فاصلة، ولأنها تشمل المسموعات وغيرها.
[فإن قيل: قوله: ﴿إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم﴾ يفيد الحصر، وليس الأمر كذلك، فإن غعيره قد يكون سميعاً.
فالجواب أنه تعالى لكماله ف يهذه الصفة كأنه هو المختص بها دن غيره].
قوله: «مسلمين» مفعول ثاني للجعل؛ لأنه بمعنى [التصييير، والمفعول الأول هو] «ن».
وقرأ ابن عباس: مُسْلِمِيْنَ «بصيغة الجمع وفي ذلك تأويلان:
أحدهما: أنهما أجريا التثنية مجرى الجمع، وبه استدل من يجعل التثنية جمعاً.
والثاني: أنها أرادا أنفسهما وأهلهما ك»
هاجر «.
قوله:» لك «فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق ب»
مسلمين «لأنه بمعنى نُخْلص لك أوجهنا نحو: ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ﴾ [آل عمران: ٢٠] فيكون المفعول محذوفاً لفهم المعنى.
480
والثاني: أنه نعت لمسلمين أي: مسلميمن مستقرين لك أي مستسلمين. والأول أقوى معنى.

فصل فيمن استدل بهذه الآية على القول بخلق الأعمال


استدلوا بهذه الآية على خلق الأعمال بقوله: ﴿رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾، فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد، أو الاستسلام والانقياد، وكيف كان فقد رغبا ف يأن يجعلهما بهذه الصفة لامعنى له إلاّ خَلْق ذلك فيهما، فإن [الجعل] عبارة عن الخلق.
قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ [الأنعام: ١] فدلّ هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى.
فإن قيل: هذه الآية الكرمية متروكة الظاهر؛ لأنها تقتضي أنهما وقت السُّؤال [كانا] غير مسلمين إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلباً لتحصيل الحاصل، وإنه باطل، لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين؛ ولأن صدور هذا الدُّعَاء منهما لا يصلح إلاَّ بعد أن كانا مسلمين، وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسّك بها، سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر، لكن لا نسلم أن الجَعْل عبارة عن الخَلْق والإيجاد بل له معانٍ أخر سوى الخلق:
أحدها:» جعل «بمعنى» صيّر «، قال [الله] تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً والنوم سُبَاتاً وَجَعَلَ النهار نُشُوراً﴾ [الفرقان: ٤٧].
وثانيها:»
جعل «بمعنى» وهب «، تقول: جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الغرس.
وثالثها: [جعل] بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً﴾ [الزخرف: ١٩].
وقال: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن﴾ [الأنعام: ١٠].
ورابعها: «جعل»
كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً﴾ [السجدة: ٢٤] يعنى أمرناهم بالاقتداء بهم، وقال: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ [البقرة: ١٢٤] فهو الأمر.
وخامسها: أن يجعله بمعنى التعليم كقوله: جعلته كتاباً [وشاعراً] إذا علمته ذلك.
481
وسادسها: البيان والدّلالة تقول: جعلت كلام فلان باطلاً إذا أوردت [من الحجة] ما بين بطلان ذلك. إذ ثبت ذلك فنقول: لم لا يجوز أن يكن المراد وصفهما بالإسلام، والحكم لهما بذلك كما يقال: جعلني فلان لصّاً، وجعلني فاضلاً أديباً إذا وصفه بذلك سّمنا أن المراد من الجَعْل الخَلْق، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام، وتوفيقهما لذلك؟ فمن وفّقه الله لهذه الأمور حتى يفعلها، فقد جعله الله مسلماً له، ومثاله من يؤدّب ابنه حتى يصير أديباً، فيجوز أن يقال: صيّرتك أديباً، وجعلتك أديباً، وف يخلاف ذلك يقال: جعل ابنه لصّاً محتالاً.
سلمان أن ظاهر الآية الكريمة يقتضي كونه تعالى خالقاً للإسلام، لكنه على خلاف الدَّلاَئل العقلية، فوجب ترك القول به.
وإما قلنا [إنه] على خلاف الدَّلائل العقلية؛ لأنه لو كان فعل العَبْد خلقاً لله تعالى لماك استحق العبد به مدحاً ولا ذمّاً، ولا ثواباً ولا عقاباً، ولوجب أن يكون الله تعالى هو المسلم المطيع لا العبد.
والجواب: قوله: الآية متروكة الظاهر.
[قلنا] : لا نسلّم وبيانه من وجوه:
الأول: أن الإسلام عرض قائم بالقلب، وأنه لا يبقى زمانين فقوله: «واجعلنا مسلمين لك» أي: اخلق هذا العرض، فينافي الزمان المستقبل دائماً، وطلب تحصيله في الزمان المستقبل لا ينافي حصوله في الحال.
الثاني: أن يكون المراد منه الزِّيَادة في الإسلام كقوله: ﴿ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: ٤] ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد: ١٧] ويؤيد هذا قوله تعالى ﴿وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠] فكأنهما دعواه بزيادة اليقين والتصديق، وطلب الزيادة لا ينافي حصول الأصل في الحال.
الثالث: أن «الإسلاَم» إذا أطلق يفيد الإيمان والاعتقاد أما إذا أضيف بحرف «اللام» كقوله: «مُسْلِمَيْنِ لَكَ»، فالمراد الاستسلام له والانقياد والرِّضا بكل ما مقدر [وترك المنازعة في أحكام الله تعالى وأقضيته، فلقد كانا عارفين مسلمين لكن لعله بقي في قلوبهما نوع من المنازعة الحاصلة بسبب البشرية، فأراد أن يزيل الله ذلك عنهما بالكلية ليصحل لهما مقام الرضا بالقضاء على سبيل الكمال] فثبت بهذه الوجوه أن الآية ليست متروكة الظاهر.
قوله: يحمل الجعل على الحكم بذلك فلا نسلم أن الموصوف إذا حصلت الصفة
482
له فلا فائدة في الصفة، وإذا لم يكن المطلوب بالدعاء هو مجرد الوصف، وجب حمله على تحصيل الصفة، ولا يقال: وصفه تعالى بذلك ثناء ومدح، وهو مرغوب له فيه.
قلنا: نعم! لكن الرغبة في تحصيل نفس الشيء أكثر من تحصيل الرغبة في تحصيل الوَصْف به والحكم به، فكان حمله على الأول أولى.
وأيضاً أنه متى حصل الإسلام فيها فقد استحقا التسمية بذلك والله تعالى لا يجوز عليه الكذبن فكان ذلك الوصف حاصلاً، وأي فائدة في طلبه بالدعاء.
وأيضاً أنه لو كان المراد به التسمية لوجب أن كلّ من سمى إبراهيم مسلماً جاز أن يقال: جعله مسلماً.
أما قوله: يحمل ذلك على فعل الألطاف.
فالجواب: هذا مدفوع من وجوه:
أحدها: أن لفظ الجَعْل مضاف إلى «الإسلام»، فصرفه عنه إلى غيره ترك للظاهر.
وثانيها: أن تلك الألْطَاف قد فعلها الله تعالى وأوجدها، وأخرجها إلى الوجود على مذهب المعتزلة، فطلبها يكون طلباً لتحصيل الحاصل، وإنه غير جائز.
وثالثها: أن تلك الألطاف إما أن يكون لها أثر في تَرْجيح جانب الفعل على الترك أو لا.
فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح لم يكن ذلك لطفاً.
وإن كان لها أثر في الترجيح، فنقول: متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب، وذلك أن مع حصول ذلك القدر من الترجيح، إما أن يجب الفعل، أو يمتنع، أو لا يجب أصلا ولا يمتنع.
فإن وجب فهو المطلوب.
وإن امتنع فهو مانع لا مرجح، وإن لم يجب ولا يمتنع فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ولا وقوعه أخرى فاختصاص وقت الوقوع بالوقوع: إما أن يكون لانظمام أمر إليه لأجله تميز ذلك الوقت بالوقوع أو ليس كذلك فإن كان الأول كان المرجح مجمع اللطف مع هذه الضميمة الزائدة فلم يكن لهذا اللطف أثر في الترجيح أصلاً، وقد فرضناه كذلك هذا خلف.
وإن كان الثاني لزم رجحان أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجّح وهو محال، فثبت أن القول بهذا اللطف غير معقول.
قوله: الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع فعل العبد بخلق الله تعالى وهو فصل المدح والذم.
قلنا: إنه معارض بسؤال العلم وسؤال الداعي على ما تقدم.
483
قال القرطبي: سألاه التثبت والدوام و «الإسلام» في هذا الموضع: الإيمان والأعمال جميعاً، منه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ [آل عمران: ١٩]، وكفى هذا دليلاً لمن قال إن الإيمان والإسلام هما شيء واحد، ويؤيده قوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين﴾ [الذرايات: ٣٥، ٣٦] والله أعلم.
قوله: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً﴾ فيه قولان:
أحدهماك وهو الظاهر أن «من ذرّيتنا» صفة لموصوف محذوف وهو مفعول أول، و «أمة مسلمة» مفعول ثاني تقديره: واجعل فريقاً من ذرّيتنا أمة مسلمة.
وفي «من» حينئذ ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها للتعبيض.
والثاني: أجازه الزمخشري أن تكون للتبيين، قال تبارك وتعالى: ﴿الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ﴾ [النور: ٥٥].
الثالث: أن تكون لابتداء غاية الجعل، قاله أبو البقاء.
والثاني: من القولين: أن يكون «أمة» وهو المفعول الأول، و «من ذرّيتنا» حال منها؛ لأنه في الأصل صفة نكرة، فلما قدم عليها انتصب حالاً، و «مسملة» هو المفعول الثاني، والأصل: واجعل الأمة من ذريتنا مسلمة، ف «الواو» داخلة في الأصل على «أمة»، وإنما فصل بينهما بقوله: «مِنْ ذُرِّيَتِنَا» وهو جائز؛ لأنه من جملة الكلام المعطوف، وفي إجازته ذلك نظر، فإن النحويين كأبي عليٍّ وغيره منعوا الفصل بالظَّرف [بين حرف العطف] إذا كان على حرف واحد وبين المعطوف وجعلوا منه قوله: [المنسرح]
٧٨٦ - يَوْماً تَرَاهَا كَشِبْهِ أَرْدِيةٍ الْعَصْبِ وَيَوْماً أَدِيمُا نَغِلاَ
ضرورة، فالفصل في الحال أبعد، وصار ما أجازه نظير قولك: «ضرب الرجل ومتجردة المرأة زيد» وهذا غير فصيح، ولا يجوز أن يكون أجعل المقدرة بمعنى أخلْقُ وأُوْجِد، فيتعدى لواحد، ويتعلق «من ذرّيتنا» به، ويكون «أمة» مفعولاً به، لأنه إن كان من عطف المفردات لزم التشريك في العامل الأول، والعامل الأول ليس معناه «اخلق» إنما معناه «صَيَّرْ».
وإن كان من عطف الجمل، فلا يحذف إلا ما دلّ عليه المنطوقن والمنطوق ليس بمعنى الخلق، فكذلك المحذوف ألا تراهم منعوا في قوله: {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ
484
وَمَلاَئِكَتُهُ} [الأحزاب: ٤٣] أن يكون التقدير: وملائكته يصلون لا ختلاف مدلول الصَّلاتين، وتأولوا ذلك على قدر مشترك بينهما، وقوله: «لك» فيه الوجهان المتقدمان بعد «مسلمين».

فصل


إنماخص بعضهم؛ لأنه تعالى أعلمهما [أن] في ذريتهما الظالم بقوله ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ [البقرة: ١٢٤].
وقيل: أراتد به العرب؛ لانهم من ذريتهما.
وقيل: هم أمّة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقوله تعالى: ﴿وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٩].
فإن قيل: قوله: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ [البقرة: ١٢٤] كما يدلّ على أن في ذرّيته من يكون ظالماً فكذلك [يوجب فيهم من لا يكون ظالماً]، فإذن كون بعض ذريته أمة مسلمة صار معلوماً بتلك الآية، فما الفائدة في طلبه بالدعاء مرة أخرى؟
فالجواب: تلك الدلالة ما كانت قاطعة، والتشفيق بسوء الظن مولع.
فإن قيل: لم خص ذريتهما بالدعاء أليس أن هذا يجرى مجرى البُخْل في الدعاء؟
فالجواب: الذرية أحق بالشفقة والمصلحة قال الله تعالى: ﴿قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾ [التحريم: ٦] ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم.
والأمة هناك الجماعة، وتكون واحداً إذا كان يقتدى به في الخير، ومنه قوله تعالى:
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ﴾ [النحل: ١٢٠]. وقد يطلق لفظ الأمّة على غير هذا المعنى [كقوله تعالى: ﴿إنا وجدنا آباءنا على أمة﴾ أي دين وملة]. ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الأنبياء: ٩٢].
وقد تكون بمعنى الحِيْن والزمان، ومنه قوله تعالى: ﴿وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: ٤٥] أي: بعد حين وزمان.
ويقال هذا أمة زيدن أي أّمُّ زيدٍ، والأمة أيضاً: القامة، يقال: فلان حسن الأّمَّة، أي: حسن القامة؛ قال [المتقارب]
485
وقيل: الأمة الشَّجَّة التي تبلغ أم الدماغ، يقال: رجل مأموم وأميم نقله القرطبي.
قوله: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ الظّاهر أن الرؤية هنا بصرية، فرأى في الأصل يتعدّى لواحد، فلما دخلت همزة النقل أكسبتها معفولاً ثانياً، ف «أنا» مفعول أول، وم «مناسكنا» مفعول ثان.
وأجاز الزمخشري أن تكون منقولة من «رأى» بمعنى عرف، فتتعدى أيضاً لاثنين كما تقدم، وأجاز قوم فيما حكاه ابن عطية أنها هنا قلبية، والقلبية تقبل [النَّقْل] لاثنين كقول القائل: [الطويل]
٧٨٧ - وَإِنَّ مُعَاوِيَة الأَكْرمِينَ حِسَانُ الْوُجُوهِ طِوَالُ الأُمَمْ
٧٨٨ - وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً إِذَا مَات رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُولُ
وقال الكُمَيْت: [الطويل]
٧٨٩ - بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ تَرَى حُبَّهُمٍ عَاراً علَيَّ وَتَحْسِبُ
وقال ابن عطية: ويلزم قائله يتعدّى الفعل منه إلى ثلاثةن وينفصل عنه بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب كغير المعدى؛ وأنشد قول حُطَائِطَ بْنِ يَعْفُرَ: [الطويل]
٧٩٠ - أَرِينِي جَوَاداً مَاتَ هُزْلاً لأَنِنَّي أََرَى ما تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلاً مُخَلَّدَا
يعنى: أنه قد تعدت «علم اقلبية إلى اثنين، سواء كان مجردة من الهمزة أم لا، وحينئذ يشبه أن يكون ما جاء فيه» فَعِلَ وأَفْعَل «بمعنى وهو غريب، ولكن جَعْلَه بيت حطَائط من رؤية القلب ممنوعن بل معناه من رؤية البَصَرِ، ألا ترى أن قوله:» جواداً مات «من متعلقات البصر، فيحتاج في إثبات تعدي» أعلم «القلبية إلى اثنين إلى دليل.
486
وقال بعضهم: هي هنا بصرية قلبية معاً؛ لأن الحج لا يتم إلاّ بأمور منها ما هو معلوم ومنها منا هو مبصر.
ويلزمه على هذا الجمع بين الحقيقة والمجاز، أو استعهمال المشترك في معنييه معاً.
وقرأ الجمهور: ﴿أَرِنَا﴾ بإشباع كسر» الراء «هنا، وفي [النساء: ١٥٣] وفي [الأعراف: ١٤٣] ﴿أرني أَنظُرْ﴾، وفي [فصلت: ٢٩] ﴿أَرِنَا اللذين﴾.
وقرأ ابن كثير بالإسْكَان في الجميع، ووافقه في»
فصلت «ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، واختلف عن أبي عمرو، فروي عن السوسي موافقة ابن كثير بالإسكان في الجميعن وروي عه الدَّوري اختلاس الكَسْر فيها.
أما اكسر فهو الأصل.
وأما الاختلاص فحسن مشهور.
وأما الإسكان فللتخفيف، شبهوا المصتل بالمنفصل فسكنوا كسره، كما قالوا في فَخِذ: فَخْذ، وكَتِف: كَتْف.
وقد غلط قوم راوي هذه القراءة.
وقالوا: صار كسر الراء دليلاً على الهمزة المحذوفة، فإن أصله: «أرئنا»
ثم نقل.
قال الزمخشري تابعاً لغيره: قال الفارسي: التغليط ليس بشيء لأنها قراءة متواترة، وأما كسرة الراء فصارت كالاصل؛ لأن الهمزة مرفوضة الاستعمال.
وقال ايضاً: ألا تراهم أدغموا في ﴿لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي﴾ [الكهف: ٣٨]، والأصل «لكان أنا» نقولا الحركة، وحذفوا، ثم أدغموا، فذهاب الحركة في «أرنا» ليس بدون ذهابها في الإدغام، وأيضاً فقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصّاً عن العرب؛ قال القائل: [البسيط]
٧٩١ - أَرْنَا إِدَاوَةَ عَبْدِ اللهِ نَمْلَؤُهَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا
وأصل أرنا: أَرئنَا، فنقلت حركة «الهمزة» إلى «الراء» وحذفت هي، وقد تقدم الكلام بأشبع من هذا عند قوله: ﴿حتى نَرَى الله جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥].
و «المناسك» واحدها: «مَنْسِك» بفتح العين وكسرها، وقد قرىء بهما والمفتوح هو المقيس لانضمام عين مضارعة.
487
ويقال: المنسك بفتح السين بمعنى الفعل وبكسر السين بمعنى الموضع، كالمسجد والمشرق والمغرب.
قال الله تعالى: ﴿لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ [الحج: ٦٧] قرىء بالفتح الكسر، وظاهر الكلام يدلّ على الفعل، وكذلك قوله عليه السلام «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» أمرهم بأن يتعلّموا أفعاله في الحجّ، لا أنه أراد: خذوا عنِّي مواضع نسككم، وبعض المفسرين حمل المَنَاسك على الذبيحة فقط.
قال ابن الخطيب: وهو خطأ، لأن الذبيحة إنما تسمى نسكاً لدخولها تحت التعبُّد، [لا لكونها مذبوحة] ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك.
قال القرطبي: [قوله تعالى: «مَنَاسِكَنَا» يقال] : إن أصل النُّسك في اللغة الغَسْل، يقال منه نسك ثوبه إذا غسله.
وهو في الشرع اسم للعبادة، يقال: رجل ناسك إذا كان عابداً.

فصل في تسمية عرفات


وقال الحَسَن: إن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم المناسك كلّها حتى بلغ «عرفات»، فقال: يا إبراهيم أعرفت ما رأيتك من النماسك؟ قال: نعم [فسميت «عرفات» ] فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت فعرض له إبليس فسد عليه الطريق، فأمره جبريل عليه السلام بأن يرميه بسبع حَصَيات، ففعل فذهب الشيطان، ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كلّ ذلك يأمره جبريل عليه السلام برمي سَبْعِ حصيات.
فبعضهم حمل المناسك هنا على [شعائر] الحج، وأعماله كالطواف والسعي والوقوف.
وبعضهم حمله على المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج، ثمل «منى» و «عرفات» و «المزدلفة» ونحوها.
488
وبعضهم حمله على المجموع.

فصل في استلام الأركان


قال ابن إسحاق: وبلغني أن آدم عليه السلام كان يَسْتَلِمُ الأركان كلها قبل إبراهيم عليه السلام.
وقال: حج إسقحاق وسارة من «الشَّام»، وكان إبراهيم عليه السلام يحجه كل سَنَةٍ على البُرَاق، وحجّة بعد ذل الأنبياء والأمم.
وروي محمد بن سابط عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ إذَا هَلَكَتْ أُمَّتُهُ لَحِقَ مَكَّة فَتَعَبَّدَ بِهَا هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ حَتَّى يَمُوتُوان فَمَاتَ بِهَا نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَقُبورُهُمْ بَيْنَ زَمْزَمَ وَالحَجرِ».
وذكر ابن وهب أن شعيباً ما ب «مكة» هو من معه من المؤمنين، فقبورهم في غربيّ «مكة» بين دار الندوة وبين بني سهم.
وقال ابن عباس: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبل إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام، فقر إسماعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود.
وقال عبد الله بن ضمرة السلولي: ما بين الرُّكن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيّاً جاءوا حجاجاً فقبروا هنالك، صلوات الله عليهم أجمعين.
قولهك «وتب علينا» احتج به من جوز الذنب على الأنبياء قال: لأن التوبة مشروطة بتقدم الذنب، فلولا تقدم الذنب، وإلاَّ لكان طلب التوبة طلباً للمحال.
قالت المعتزلة: الصغيرة تجوز على الأنبياء.
ولقائل أن يقول: إن الصَّغائر قد صارت مكفّرة بثواب فاعلها، وإذا صارت مكفرة فالتوبة عنها مُحَال؛ لأن تأثير التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال.
قال ابن الخطيب: وهاهنا أجوبة تصلح لمن جوز الصغيرة، ولمن لم يجوزها، وهي من وجوه:
أولها: يجوز أن يأتي بصورة التوبة تشدُّداً في الانصراف عن المعصية؛ لأن من تصور نفسه بصورة النَّادم العازم على التحرز التشديد، كان أقرب إلى ترك المعاصي.
وثانيها: أن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه، فإنه لا ينفكّ عن التَّقْصِير من بعض الوجوه: إما على سبيل السهو أو على سبيل ترك الأولى، فكان هذا الدعاء لأجل ذلك.
489
وثالثها: أنه تعالى لما أعلم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته من يكون ظالماً عاصياً، لا جرم سأل هاهنا أن يجعل بعض ذرّيته أمة مسلمة، ثم طلب منه أن يوفق أولئك العُصَاة للتوبة فقال: «وَتُبْ علَيْنَا» أي على المُذْنبين من ذرّيتنا، والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده، فاعتذر الوالد عنه، فقد يقول: أجرمت وعصيت فاقبل عُذْري، ويكون مراده: أن ولدي أذنب فاقبل عُذْره؛ لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه، والذي يقوي هذا التأويل وجوه:
الأولك ما حكى الله تعالى في سورة «إبراهيم» أنه قال: ﴿واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [إبراهيم: ٣٥٣٦].
فيحتمل أن يكون المعنى: ومن عصاني فإنك قادر على أن تتوب عليه إن تاب، وتغفر له ما سلف من ذنوبه.
الثاني: ذكر أن في قراءة عبد الله: «وَاََرِهِمْ مَنَاسِكَهُم وَتُبْ عَلَيْهم».
الثالث: أنه قال عطفاً على هذا: ﴿رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٩].
الرابع: تأولوا قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] بجعل خلقه إياه خلقه لهم إذ كانوا فيه، فكذلك لا يبعد أن يكون قوله: «أَرِنَا مَنَاسِكَنَا» أية «ذُرّيتنا».
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أجاب بعضهم عن هذا الإشكال فقال: إنهما لما قالا «وَتُبْ علينا» وهم أنبياء معصومون إنما طلبا التثبيت والدوام؛ لأنهما كان لهما ذنب.
قال القرطبي: وهذا حسن، وأحسن مه أن يقال: إنهما لما عرفا المَنَاسك وبنيا البيت أراد أن يبيّنا للناس، ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصُّل من الذنوب وطلب التوبة.

فصل فيمن استدل بالآية على خلق الأفعال لله تعالى


دلّت الآية الكريمة على أن فعل العبد خلق الله تعالى لأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ طلب من الله تعالى أن يتوب عليه، فلو كانت التوبة مخلوقة للعبد، لكان طلبها من الله تعالى [مُحَالاً وجهلاً.
قالت المعتزلة: هذا معارض بما أن الله تعالى] طلب التوبة منا. [فقال] ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً﴾ [التحريم: ٨] ولو كانت فعلاً لله تعالى، لكان طلبها من العبد محالاً وجهلاً، وإذا ثبت ذلك حمل قوله: «وَتُبْ
490
عَلَيْنَا» على التوفيق، وفعل الألطاف، أو على قبول التوبة من العبد.
والجواب: [قال ابن الخَطِيْب] متى لم يخلق الله تعالى داعيةً موجبة للتوبة استحال حصول التوبة، فكانت التوبة من الله تعالى لا من العَبْدِ، وتقرير دليل الداعي قد تقدم غير مرّة.

فصل في معنى التوبة


اعلم أن التوبة هي الرجوع، فمعنى توبة الله تعالى أن يرجع برضاه وتوحيده عليهم، ومعنى توبة العبد أن يرجع عما ارتكبه من المَعَاصي، فمتعلّق التوبة مختلف، وإذا اختلفت التعلّعات ضعفت دلالة الآية الكريمة على مذهب أهل السّنة.

فصل في الدعاء


قال بعضهم: إذا أراد الله من العبد أن يجيب دعاءه، فليدع بأسماء الله المناسبة لذلك الدعاء، فإن كان الدعاء للرحمة والمغفرة، فليدع باسم الغفار والتواب والرحيم وما أشبهه، وإن كان دعاؤه لشر، فليدع بالعزيز والمنتقم، وبما يناسبه. وتقدم الكلام على قوله: ﴿إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم﴾.
491
قوله :" مسلمين " مفعول ثان للجعل ؛ لأنه بمعنى [ التصيير، والمفعول الأول هو ] " نا ".
وقرأ ابن عباس " مُسْلِمِيْنَ " بصيغة الجمع وفي ذلك تأويلان :
أحدهما : أنهما أجريا التثنية مجرى الجمع، وبه استدل من يجعل التثنية جمعاً.
والثاني : أنهما أرادا أنفسهما وأهلهما ك " هاجر ".
قوله :" لك " فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب " مسلمين " لأنه بمعنى نُخْلص لك أوجهنا نحو :
﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ﴾ فيكون المفعول محذوفاً لفهم المعنى.
والثاني : أنه نعت لمسلمين أي : مسلمين مستقرين لك أي مستسلمين. والأول أقوى معنى.

فصل فيمن استدل بهذه الآية على القول بخلق الأعمال


استدلوا بهذه الآية على خلق الأعمال بقوله :﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ﴾، فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد، أو الاستسلام والانقياد، وكيف كان فقد رغبا في أن يجعلهما بهذه الصفة، وجعلهما بهذه الصفة لا معنى له إلاّ خَلْق ذلك فيهما، فإن [ الجعل ] عبارة عن الخلق.
قال الله تعالى :﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ [ الأنعام : ١ ] فدلّ هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى.
فإن قيل : هذه الآية الكريمة متروكة الظاهر ؛ لأنها تقتضي أنهما وقت السُّؤال [ كانا ] غير مسلمين إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلباً لتحصيل الحاصل، وإنه باطل، لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين ؛ ولأن صدور هذا الدُّعَاء منهما لا يصلح إلاَّ بعد أن كانا مسلمين، وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسّك بها، سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر، لكن لا نسلم أن الجَعْل عبارة عن الخَلْق والإيجاد بل له معانٍ أخر سوى الخلق :
أحدها :" جعل " بمعنى " صيّر "، قال [ الله ] تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الّلَيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً ﴾ [ الفرقان : ٤٧ ].
وثانيها :" جعل " بمعنى " وهب "، تقول : جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الغرس.
وثالثها :[ جعل ] بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثاً ﴾ [ الزخرف : ١٩ ].
وقال ﴿ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ ﴾ [ الأنعام : ١٠ ].
ورابعها :" جعل " كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً ﴾
[ السجدة : ٢٤ ] يعني أمرناهم بالاقتداء بهم، وقال :﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ] فهو الأمر.
وخامسها : أن يجعله بمعنى التعليم كقوله : جعلته كاتباً [ وشاعراً ] إذا علمته ذلك.
وسادسها : البيان والدّلالة تقول : جعلت كلام فلان باطلاً إذا أوردت [ من الحجة ] ما بين بطلان ذلك. إذا ثبت ذلك فنقول : لم لا يجوز أن يكون المراد وصفهما بالإسلام، والحكم لهما بذلك كما يقال : جعلني فلان لصّاً، وجعلني فاضلاً أديباً إذا وصفه بذلك سلّمنا أن المراد من الجَعْل الخَلْق، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام، وتوفيقهما لذلك ؟ فمن وفّقه الله لهذه الأمور حتى يفعلها، فقد جعله الله مسلماً له، ومثاله من يؤدّب ابنه حتى يصير أديباً، فيجوز أن يقال : صيّرتك أديباً، وجعلتك أديباً، وفي خلاف ذلك يقال : جعل ابنه لصّاً محتالاً.
سلمنا أن ظاهر الآية الكريمة يقتضي كونه تعالى خالقاً للإسلام، لكنه على خلاف الدَّلاَئل العقلية، فوجب ترك القول به.
وإما قلنا [ إنه ] على خلاف الدَّلائل العقلية ؛ لأنه لو كان فعل العَبْد خلقاً لله تعالى لما استحق العبد به مدحاً ولا ذمّاً، ولا ثواباً ولا عقاباً، ولوجب أن يكون الله تعالى هو المسلم المطيع لا العبد.
والجواب : قوله : الآية متروكة الظاهر.
[ قلنا ] : لا نسلّم وبيانه من وجوه :
الأول : أن الإسلام عرض قائم بالقلب، وأنه لا يبقى زمانين فقوله :" واجعلنا مسلمين لك " أي : اخلق هذا العرض، فينافي الزمان المستقبل دائماً، وطلب تحصيله في الزمان المستقبل لا ينافي حصوله في الحال.
الثاني : أن يكون المراد منه الزِّيَادة في الإسلام كقوله :﴿ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [ الفتح : ٤ ] ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ﴾ [ محمد : ١٧ ] ويؤيد هذا قوله تعالى ﴿ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [ البقرة : ٢٦٠ ] فكأنهما دعواه بزيادة اليقين والتصديق، وطلب الزيادة لا ينافي حصول الأصل في الحال.
الثالث : أن " الإسلاَم " إذا أطلق يفيد الإيمان والاعتقاد أما إذا أضيف بحرف " اللام " كقوله :" مُسْلِمَيْنِ لَكَ "، فالمراد الاستسلام له والانقياد والرِّضا بكل ما مقدر [ وترك المنازعة في أحكام الله تعالى وأقضيته، فلقد كانا عارفين مسلمين لكن لعله بقي في قلوبهما نوع من المنازعة الحاصلة بسبب البشرية، فأراد أن يزيل الله ذلك عنهما بالكلية ليحصل لهما مقام الرضا بالقضاء على سبيل الكمال ] فثبت بهذه الوجوه أن الآية ليست متروكة الظاهر.
قوله : يحمل الجعل على الحكم بذلك فلا نسلم أن الموصوف إذا حصلت الصفة له فلا فائدة في الصفة، وإذا لم يكن المطلوب بالدعاء هو مجرد الوصف، وجب حمله على تحصيل الصفة، ولا يقال : وصفه تعالى بذلك ثناء ومدح، وهو مرغوب له فيه.
قلنا : نعم ! لكن الرغبة في تحصيل نفس الشيء أكثر من تحصيل الرغبة في تحصيل الوَصْف به والحكم به، فكان حمله على الأول أولى.
وأيضاً أنه متى حصل الإسلام فيهما فقد استحقا التسمية بذلك والله تعالى لا يجوز عليه الكذب، فكان ذلك الوصف حاصلاً، وأي فائدة في طلبه بالدعاء.
وأيضاً أنه لو كان المراد به التسمية لوجب أن كلّ من سمى إبراهيم مسلماً جاز أن يقال : جعله مسلماً.
أما قوله : يحمل ذلك على فعل الألطاف.
فالجواب : هذا مدفوع من وجوه :
أحدها : أن لفظ الجَعْل مضاف إلى " الإسلام "، فصرفه عنه إلى غيره ترك للظاهر.
وثانيها : أن تلك الألْطَاف قد فعلها الله تعالى وأوجدها، وأخرجها إلى الوجود على مذهب المعتزلة، فطلبها يكون طلباً لتحصيل الحاصل، وإنه غير جائز.
وثالثها : أن تلك الألطاف إما أن يكون لها أثر في تَرْجيح جانب الفعل على الترك أو لا.
فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح لم يكن ذلك لطفاً.
وإن كان لها أثر في الترجيح، فنقول : متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب، وذلك لأن مع حصول ذلك القدر من الترجيح، إما أن يجب الفعل، أو يمتنع، أو لا يجب أصلا ولا يمتنع.
فإن وجب فهو المطلوب.
وإن امتنع فهو مانع لا مرجح، وإن لم يجب ولا يمتنع فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ولا وقوعه أخرى فاختصاص وقت الوقوع بالوقوع : إما أن يكون لانضمام أمر إليه لأجله تميز ذلك الوقت بالوقوع أو ليس كذلك فإن كان الأول كان المرجح مجموع اللطف مع هذه الضميمة الزائدة فلم يكن لهذا اللطف أثر في الترجيح أصلاً، وقد فرضناه كذلك هذا خلف.
وإن كان الثاني لزم رجحان أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجّح وهو محال، فثبت أن القول بهذا اللطف غير معقول.
قوله : الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع فعل العبد بخلق الله تعالى وهو فصل المدح والذم.
قلنا : إنه معارض بسؤال العلم وسؤال الداعي على ما تقدم.
قال القرطبي : سألاه التثبت والدوام و " الإسلام " في هذا الموضع : الإيمان والأعمال جميعاً، ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ ﴾
[ آل عمران : ١٩ ]، وكفى هذا دليلاً لمن قال إن الإيمان والإسلام هما شيء واحد، ويؤيده قوله تعالى :﴿ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ الذاريات : ٣٥، ٣٦ ] والله أعلم.
قوله :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً ﴾ فيه قولان :
أحدهما وهو الظاهر أن " من ذرّيتنا " صفة لموصوف محذوف وهو مفعول أول، و " أمة مسلمة " مفعول ثان تقديره : واجعل فريقاً من ذرّيتنا أمة مسلمة.
وفي " من " حينئذ ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها للتبعيض.
والثاني- أجازه الزمخشري أن تكون للتبيين، قال تبارك وتعالى :
﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ ﴾ [ النور : ٥٥ ].
الثالث : أن تكون لابتداء غاية الجعل، قاله أبو البقاء.
والثاني من القولين : أن يكون " أمة " هو المفعول الأول، و " من ذرّيتنا " حال منها ؛ لأنه في الأصل صفة نكرة، فلما قدم عليها انتصب حالاً، و " مسلمة " هو المفعول الثاني، والأصل : واجعل الأمة من ذريتنا مسلمة، ف " الواو " داخلة في الأصل على " أمة "، وإنما فصل بينهما بقوله :" مِنْ ذُرِّيَّتِنَا " وهو جائز ؛ لأنه من جملة الكلام المعطوف، وفي إجازته ذلك نظر، فإن النحويين كأبي عليٍّ وغيره منعوا الفصل بالظَّرف [ بين حرف العطف ] إذا كان على حرف واحد وبين المعطوف وجعلوا منه قوله :[ المنسرح ]
٧٨٦- يَوْماً تَرَاهَا كَشِبْهِ أَرْدِيةِ ال عَصْبِ وَيَوْماً أَدِيمُها نَغِلاَ
ضرورة، فالفصل في الحال أبعد، وصار ما أجازه نظير قولك :" ضرب الرجل ومتجردة المرأة زيد " وهذا غير فصيح، ولا يجوز أن يكون أجعل المقدرة بمعنى أخلْقُ وأُوْجِد، فيتعدى لواحد، ويتعلق " من ذرّيتنا " به، ويكون " أمة " مفعولاً به، لأنه إن كان من عطف المفردات لزم التشريك في العامل الأول، والعامل الأول ليس معناه " اخلق " إنما معناه " صَيِّرْ ".
وإن كان من عطف الجمل، فلا يحذف إلا ما دلّ عليه المنطوق، والمنطوق ليس بمعنى الخلق، فكذلك المحذوف ألا تراهم منعوا في قوله :
﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ ﴾ [ الأحزاب : ٤٣ ] أن يكون التقدير : وملائكته يصلون لاختلاف مدلول الصَّلاتين، وتأولوا ذلك على قدر مشترك بينهما، وقوله :" لك " فيه الوجهان المتقدمان بعد " مسلمين ".

فصل


إنما خص بعضهم ؛ لأنه تعالى أعلمهما [ أن ] في ذريتهما الظالم بقوله ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾.
وقيل : أراد به العرب ؛ لأنهم من ذريتهما.
وقيل : هم أمّة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى :﴿ وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾ [ البقرة : ١٢٩ ].
فإن قيل : قوله :﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ كما يدلّ على أن في ذرّيته من يكون ظالماً فكذلك [ يوجب فيهم من لا يكون ظالماً ]، فإذن كون بعض ذريته أمة مسلمة صار معلوماً بتلك الآية، فما الفائدة في طلبه بالدعاء مرة أخرى ؟
فالجواب : تلك الدلالة ما كانت قاطعة، والشفيق بسوء الظن مولع.
فإن قيل : لم خص ذريتهما بالدعاء أليس أن هذا يجرى مجرى البُخْل في الدعاء ؟
فالجواب : الذرية أحق بالشفقة والمصلحة قال الله تعالى :﴿ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ﴾ [ التحريم : ٦ ] ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم.
والأمة هنا : الجماعة، وتكون واحداً إذا كان يقتدى به في الخير، ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ ﴾ [ النحل : ١٢٠ ]. وقد يطلق لفظ الأمّة على غير هذا المعنى [ كقوله تعالى :﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة ﴾ أي دين وملة ]. ومنه قوله تعالى :{ إِنَّ هَذِهِ أ
في ضمير «فيهم» قولان:
أحدهما: أنه عائد على معنى الأمة؛ إذ لو عاد على لفظها لقال: «فيها» قاله أبو البقاء.
والثاني: أنه يعنود على الذّرية بالتأويل المتقدم وقيل: يعود على أهل «مكة»، ويؤيده: ﴿هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾ [الجمعة: ٢]، وفي قراءة أبي: «وَابْعَثْ فيهِمْ فِي آخِرِهُمْ رَسُلاً مِنْهُمْ».
قوله: «مِنْهُمْ» في محلّ نصب، لأنه صفة ل «رسولاً»، فيتعلّق بمحذوف، أي: رسولاً كائناً منهم.
قال ابن الأنباري: يشبه أن يكون أصله من قولهم: ناقة مرْسَال ورسلة، إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النُّوق.
ويقال للجماعة المهملة المرسلة: رسل، وجمعه أَرْسَال. ويقال: جاء القوم أَرْسالاً، أي بعضهم في أثر بعض، ومنه يقال للبن: رسل، لأنه يرسل من الضرع. نقله القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
قوله: «يَتْلُوا» في محلّ هذه الجملة ثلاثة أوجه:
491
أحدهما: أنها في محلّ نصب صفة ثانية ل «رسولاً»، وجاء هذا على الترتيب الأحسن، إذا تقدم ما هو شبيه بالمفرد، وهو المجرور على الجملة.
والثاني: أنها في محل نصب على الحال من «سولاً» ؛ لأنه لما وصف تخصص.
الثالث: أنها حال من المضير في «منهم»، والعامل فيها الاستقرار الذي تعلّق به «منهم» لوقوعه صفةً.
وتقدم قوله: «العزيز» ؛ لأنها صفة ذات، وتأخر «الحكيم» ؛ لأنها صفة فعل.
ويقال: عَزَّ، ويَعَزُّ، ويعِزُّ، ولكن باختلاف معنى، فالمَضْمُوم بمعنى «غلب»، ومنه: ﴿وَعَزَّنِي فِي الخطاب﴾ [ص: ٢٣].
والمفتوح بمعنى [الشدة، ومنه: عزّ لحم الناقة، أي: اشتد، وعَزّ عليّ هذا الأمر، والمكسور بمعنى] النَّفَاسة وقلّة النظير.
فصيل في الكلام على دعاء سيدنا إبراهيم
اعلم أن هذا الدعاء يفيد كمال حال ذرّيته من وجهين:
أحدهما: أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع.
والثاني: أن يكون المبعوث منهم لام من غيرهم، لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معاً من ذريتهن كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها، وإذا كان منهم، فإنهم يعرفون مولده ومنشأه، فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه، وأمانته، وكان أحرص الناس على خيرهم، وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم.
أجمع المفسرون على أن الرسول هو محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ روي أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: «أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيْمَ وَبِشَارَةُ عِيْسَى».
وأراد بالدعوة هذه الآية، وبِشَارة عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما ذكره في سورة «الصف» من قوله: ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ﴾ [الصف: ٦].
وثالثها: أن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إنما دعا بهذا الدعاء ب «مكة» لذريته الذين يكونون بها، وبما حولها، ولم يبعث الله تعالى إلى من ب «مكة» وما حولها إلاّ محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: كل الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام من بني
492
إسرائيل إلا عشرة: هود ونوح وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
قوله: ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ فيه وجهان:
الأول: أنها الفُرْقان الذي أنزل على محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن الذي كان يتلوه عليهم ليس إلا ذلك، فوجب حمله عليه.
الثاني: يجوز أن تكون الآيات هي الأعلام الدَّالة على وجود الصَّانع وصفاته سبحانه وتعالى، ومعنى تلاوته إيّاها عليهمك أنه كان يذكرهم بها، ويدعوهم إليها، ويحملهم على الإيمان بها.
قوله: «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَاب» أي: القرآن يعلمهم مافيه من الدَّلائل والأحكام.
وأما الحكمة فهي: الإصابة في القول والعمل.
وقيلك أصلها من أحكمت الشيء أي رددته، فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ، وهو راجع إلى ما ذكرنا من الإصابة في القول والعمل.
اختلف المفسرون [في المراد بالحكمة] هاهنا.
قال ابن وهب قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال: معرفة الدين، والفقه فيه، والاتباع له.
وقال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: الحكمة سُنّة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو قول قتادة.
وقال أصحاب الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولاً، وتعلميه ثانياً، ثم عطف عليه الحكمة، فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئاً خارجاً عن الكتاب، وليس ذلك إلاَّ سُنّة الرسول عليه اسلام.
فإن قيل: لم لا يجوز حَمْله على تعليم الدَّلائل العقلية على التوحيد والعدل والنبوة؟
فالجواب: لأن العقول مستقبلة كذلك فحمل هذا اللفظ على ما لا يُسْتفاد من الشرع أَوْلَى.
وقيل: الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل.
وقال مقاتل: هي مواعظ القرآن الكريم، وما فيه منا لأحكام.
وقال ابن قتيبة: هي العلم والعمل به.
وقيل: حكمة تلك الشرائع، وما فيها من وجوه المصالح والمنافع.
وقيل: أراد بالكتاب الآيات المحكمة، واراد بالحكمة المتشابهات. [وقال بان دُريد: كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة].
493
وأما قوله: «وَيُزَكِّيهِمْ».
قال الحسن: يطهّرهم من شركهم.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: التزكية هي الطاعة والإخلاص.
وقال بان كيسان: يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا هم للأنبياء بالبلاغ لتزكية المزكي للشهود.
وقيل: يأخذ زكاة أموالهم. ولما ذكر هذه الدعوات، فتمّمها بالثناء على الله تعالى فقال: ﴿إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾.
و «العزيز» : هو القادر الذي لا يغلب، و «الحكيم» : هو العليم الذي لا يجهل شيئاً.
[واعلم أن «العزيز» و «الحكيم» بهذين التفسيرين صفة للذات، وإذا أريد بالعزيز أفعال العزة وهو الامتناع من استيلاء الغير عليه، وأراد بالحكمة: أفعال الحكمة، لم يكن «العزيز» و «الحككيم» من صفات الذات أزلية، وصفات الفعل ليست كذلك، وصفات الفعل أمور سببية يعتبر في تحققها صدور الآثار عن الفعل، وصفات الذات ليست كذلك.

فصل]


[و] قال الكلبي: العزيز المتقدم لقوله تعالى: ﴿والله عَزِيزٌ ذُو انتقام﴾ [آل عمران: ٤].
وقال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: العزيز الذي لا يوجد مثله.
وقيل: المنيع الذي لا تناله الأيدي، ولا يصل إليه شيء.
وقيل: القوي.
والعزّة القوة، لقوله تعالى: ﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ [يس: ١٤] أي قوينا.
وقيل: الغالب، لقوله: ﴿وَعَزَّنِي فِي الخطاب﴾ [ص: ٢٣] أي غلبنين ويقال: من عزيز أي من غلب.
والعم أن مناسبة قوله: ﴿أَنتَ العزيز الحكيم﴾ لهذا الدعاء هو أن العزيز هو القادر، والحكيم هو العالم بوضع الأشياء في مواضعها، ومن كان عالماً قادراً فهو قادر على أن يبعث فيهم رسولاً يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.
494
«من» اسم استفهام بمعنى الإنكار، فهو نفي في المعنى، لذلك جاءت بعده «إلاَّ» التي للإيجاب، ومحلّه رفع بالابتداء.
و «يرغب» خبره، وفيه ضمير يعود عليه.
والرغبة أصلها الطلب، فإن تعدت ب «في» كانت بمعنى الإيْثَار له، والاختيار نحو: رغبت في كذا، وإن تعدت ب «عن» كانت بمعنى الزّهَادة نحو: رغبت عنك.
قوله: ﴿إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ في «مَنْ» وجهان.
أحدهما: أنها في محلّ رفع البدل من الضمير في «يرغب»، وهو المختار؛ لأن الكلام غير موجب، والكوفيون يجعلون هذا من باب العطف.
فإذا قلت: ما قام القوم إلاَّ زيد، ف «إلاَّ» عندهم حرف عطف، وزيد معطوف على القوم، وتحقيق هذا مذكور في كتب النحو.
الثاني: أنها في محلّ نصب على الاستثناء، و «من» يحتمل أن تكون موصولة، وأن تكون نكرة موصوفة، فالجملة بعدها لا محلّ لها على الأول، ومحلها الرفع، أو النصب على الثاني.
قوله: «نَفْسَهُ» في نصبه سبعة أوجه:
أحدها: وهو المختار أن يكون مفعولاً به؛ لأنه حكي أن «سَفِهَ» بكسر الفاء يتعدّى بنفسه كما يتعدى «سَفَّه» بفتح الفاء والتشديد، وحكى عن أبي الخَطّاب أنها لغة، وهو اختيار الزّمخشري [فإنه قال] :«سفه نفسه: امتهنها، واستخف بها»، ثم ذكر أوجهاً أخرى.
ثم قال الوجه الاول، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث: «الكِبْرُ أَنْ تَسْفَهَ الحَقَّ وَتُغْمِضَ النَّاسَ».
495
الثاني: أنه مفعول به ولكن على تضمين «سفه» معنى فعل يتعدى، فقدره الزجاج وابن جني بمعنى «جهل»، وقدره أبو عبيدة بمعنى «أهلك».
قال القرطبي: وأمام سَفُهَ بالضم فلا يتعدى قاله ثعلب والمبرد].
الثالث: أنه منصوب على إسقاط حرف الجَرّ تقديره: سَفِهَ في نَفْسه.
الرابع: توكيد لمؤكد محذوف تقديره: سفه في نفسه، فحذف المؤكد قياساً على النعت والمنعوت، حكاه مكّي.
الخامس: أنه تمييز، وهو قول الكوفيين.
قال الزمخشري: ويجز أن يكون في شذوذ تعريف المميِّز؛ نحو قوله: [الوافر]
٧٩٢ -...................... وَلاَ بِفزَارَةَ الشُّعْرِ الرِّقَابَا
[الوافر]
٧٩٣ -..................... أَجَبَّ الظَّهْرَ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ
فجعل «الرِّقَاب» و «الظَّهر» تمييزين، وليس كذلكن بل هما مُشَبَّهان بالمفعول به؛ لأنهما معمولا صفة مشهبة، وهي «الشُّعْر» جمع أَشْعَر، و «أَجَبّ» وهو اسم.
السادس: أنه مشبه بالمفعول وهو قول بعض الكوفيين.
السابع: أنه توكيد لمن سفه؛ لأنه في محل نصب على الاستثناء في أحد القولين، وهو تخريج غريب نقله صاحب «العَجَائب والغَرَائب».
والمختار الأول؛ لأن التضمين لا ينقاص، وكذلك حرف الجر.
496
وأما حذف المؤكد وإبقاء التوكيد، فالصحيح لا يجوز.
وأما التمييز فلا يقع معرفة، ما ورد نادر أو متأول.
وأما النصب على التشبيه بالمفعول، فلا يكون في الأفعال إنما يكون في الصّفات المشبهة خاصة.

فصل في مناسبة الآية لما قبلها من الآيات


لما ذكر أمر إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام وشرائعه ابتلاه الله بها، وبناء بيته، والحرص على مصالح عباده، ودعائه [الخير لهم]، وغير ذلك عدب الناس فقال: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾.
قال النحاس: وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي، أي وما يرغب والمعنى: يزهد فيها، وينأى بنفسه عنها، أي: الملّة وهي الدين والشرع؛ إلاّ من سَفِهَ نَفْسَهُ.
قال قتادة: وكل ذلك توبيخ اليهود، والنصارى، ومشركي العرب؛ لأن اليهود إنما يفتخرون بالوَصْلَة إلى إسرائيل وقريش، فإنهم إنما نالوا كلّ خير بالبيت الذي بناه، [فصاروا لذلك يدعون إلى كتاب الله]، وسائر العرب، [وهم العدنانيون] مرجعهم إلى إسماعيل، وهم يفتخرون على [القَحْطَانيين] بما أعطاه الله تعالى من النبوة، فرجع عند التحقيق افتخار الكل بإبراهيم عليه السلام، ولما ثبت أنّ إبراهيم عليه السلام هو الذي طلب من الله تعالى بعثة هذا الرسول في آخر الزمان ثبت أنه هو الذي تضرع إلى الله تعالى في تحصيل هذا المقصود، والعجب ممن [أعظم مفاخره وفضائله الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام] ثم إنه لا يؤمن بالرسول الذي هوم دعوة إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ومطلوبه بالتضرّع لا شك أن مما يستحق أن يتعجب منه.
[فإن قيل: لعل الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الذي طلب إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بعثه غير هذا الشخص.
فالجواب أن التوراة والإنجيل شاهدة بصحة هذه الرواية، والمعتمد في إثبات نبوته صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وظهور المعجزة على يده، وهو القرآن الكريم وإخباره عن الغيوب منسوخ، ولفظ «الملة» يتناول الفروع والأصول؛ فيكون محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
والجواب لمّا أنه طلب من الله بعثه هذا الرسول وتأييده ونشر شريعته، عبر عن هذا المعنى بأنه ملة إبراهيم].
497

فصل


روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما: إن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيّاً اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، وأَسْلم سَلَمَةُ، ومهاجراً أَبَى أن يسلم، فنزلت هذه الآية الكريمة.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «إلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» خَسر نفسه.
وقال الكلبي: «ضلّ من قتل نفسه».
وقال أبو البقاء، وأبو عبيدة: «أهلك نفسه».
وقال ابن كيسان والزجاج: «جهل نفسه» ؛ لأنه لم يعرف الله تعالى خالقها، وقد جاء «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ».
وقال ابن بحر: معناه جهل نفسه، وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعاً ليس كمثله شيء، فيعلم به توحيد الله وقدرته.
وهذا معنى قول الزجاج رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لا يفكّر في نفسه من بيدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما، وعينين يبصر بهما، وأذنين يسمع بهما، ولسان ينطق به، وأضراس نبتت له عند غناه عن الرضاع، وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام، ومَعِدَة أعدّت لطبخ الغذاء، وكبد يصعد إليها صَفْوه، وعروق ينفذ بها إلى الأطراف، وامعاء يرتكز إليها نقل الغذاء، فيبرز من أسفل البدن، فيستدل بها على أن له خالقاً قادراً عليماً حكيماً وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ ﴿الذاريات: ٢١].
قوله: {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا﴾
اخترناه من سائر الخلق في الدنيا، وإنّه في الآخةر عظيم المنزلة.
[قال الحسين بن فضيل: فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير كان أولى. وقال الحسن: من الذين يستحقون الكرامة وحسن الثواب].
قوله: «فِي الآخِرَةِ» فيه خمسة أوجه:
أحدها: أنه متعلّق بالصالحين على أن الألف واللام للتعريف، وليست موصولة.
الثاني: أنه متعلّقة بمحذوف تقديره أعني في الآخرة كقولك: بعد سقياه.
الثالث: يتعلق بمحذوف أيضاً، لكن من جنس المفلوظ به أي: وإنه لصالح في الآخرة لمن الصالحين.
498
الرابع: أن يتعلق بقوله الصالحين، وإن كانت «آل» موصولة؛ لأنه يُغْتفر في الظروف وشبهها ما لا يغتفر في غيرها اتساعاً، ونظيره قول الشاعر: [الرجز]
٧٩٤ - رَبَّيْتُهُ حَتَّى إِذَا تَمَعْدَدَا كَانَ جَزَائِي بِالْعَصَا أَنْ أُجْلَدَا
الخامس: أن يتلّق ب «اصطفيناه».
قال الحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير مجازه: ولقد اصطفيناه في الدنيا وفي الآخرة.
وهذا ينبغي ألا يجوز مثله في القرآن لنُبُوِّ السمع عنه.
والاصطفاه: الاختيار، «افتعال» من صورة الشيء، وهي خياره، وأصله: اصتفى، وإنما قلبت تاء الافتعال «طاء» مناسبة للصاد لكونها حرف إطْبَاق، وتقدم ذلك عند قوله: ﴿أَضْطَرُّهُ﴾ [البقرة: ١٢٦].
وأكد جملة الأصطفاء باللام، والثانية ب «أن» و «اللام» ؛ لأن الثانية محتاجة لمزيد تأكيد، وذلك أن كونه في الآخرة من الصالحين أمر مُغَيَّب، فاحتاج الإخبار به إلى فَضْل توكيد.
وأما اصطفاء الله فقد شاهدوه منه، ونقله جيل بعد جيل.
499
في «إذ» خمسة أوجه:
أصحها: أنه منصوب ب «قال أسلمت»، أي: قال أسلمت وقت قول الله لم أسلم.
الثاني: أنه بدل من قوله: «في الدنيا».
الثالث: أنه منصوب ب «اصطفيناه».
الرابع: أنه منصوب ب «اذكر» مقدراً، ذكر أبو البقاء، والزمخشري، وعلى تقدير كونه معمولاً ل «اصطفيناه» أو ل «اذكر» مقدراً يبقى قوله: «قَالَ: أَسْلَمْتُ» غير منتظم مع ما قبله، إلاّ أن يقدر حذف حرف عطف أي: فقال، أو يجعل جواباً بسؤالٍ مقدر، أي ما كان جوابه؟
فقيل: قال أسلمت.
الخامس: أبعد بعضهم، فجعله مع ما بعده في محلّ نصب على الحال، والعامل في «اصْطَفَيْنَاه:.
499
وفي قوله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ﴾ التفات، إذ لو جاء على نسقه لقيل: إذ قلنا؛ لأنه بعد» ولقد اصطفيناه «، وعكسه في الخروج من الغيبة إلى الخطاب قوله: [البسيط]
٧٩٥ - بَاتَتْ تَشَكَّى إِلَيَّ النَّفْسُ مُجْهِشَةً... وَقَدْ حَمَلْتُكِ سَبْعاً بَعْدَ سَبْعِينا
وقوله:»
لرَبِّ الْعَالَمِينَ «فيه من الفخامة ما ليس في قوله» لك «أو» لربي «، لأنه إذا اعترف بأنه ربّ جميعا العالمين اعترف بأنه بربه وزيادة، بخلاف الأول، فذلك عدل عن العبارتين.
وفي قوله:»
أسلم «حَذْفُ مفعول تقديره: أسلم لربك.

فصل في تحرير وقت قول الله لإبراهيم: أسلم


الأكثرون على أن الله تعالى إنما قال ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس، واطّلاعه على أمَارَات الحدوث فيها، فلما عرف ربه قال له تعالى: ﴿أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين﴾ ؛ لأنه لا يجوز أن يقول له ذلك قبل أن يعرف ربه، ويحتمل أيضاً أن يكون قوله:»
أسلم «كان قبل الاستدلال، فيكون المراد من هذا القول دلالة الدليل عليه [لا نفس القول] على حسب مذاهب العرب في هذا، كقول الشاعر: [الرجز]
٧٩٦ - إِمْتَلأَ الْحَوْضُ وَقَالَ: قَطْنِي... مَهْلاً رُوَيْداً قَدْ مَلأْتِ بَطْنِي
ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: ٣٥] فجعل دلالة البُرْهان كلاماً.
وذهب بعضهم إلى أن هذا الأمر بعد النبوة، واختلفوا في المراد منه.
فقال الكلبي والأصمّ: أخلص دينك، وعبادتك لله تعالى.
وقال عطاء: أسلم نفسك إلى الله، وفوّض أمورك إليه.
قال: أسلمت، أي: فوضت.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: وقد تحقّق ذلك حيث لم يأخذ من الملائكة من ألقي في النار.
500
قال القرطبي: والإسلام هنا على أتم وجوهه، فالإسلام في كلام العرب الخضوع والإنقياد للمستسلم والله أعلم.
501
قرىء: «وَصَّى»، وفيه معنى التكثير باعتبار المفعول الموصَّى، وأوصى رباعياً، وهي قراءة نافع، وابن عامر، وكذلك هي في مصاحف «المدينة» و «الشام».
وقيل: أوصى ووصى بمعنى.
والضمير في «بها» فيه ستّة أقوال:
أحدها: أنه يعود على الملّة في قوله: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: ١٣٠].
قال أبو حيان: «وبه أبتدأ الزمخشري، ولم يذكر المهدوي غيره».
والزمخشري رَحِمَهُ اللهُ لم يذكر هذا، وإنما ذكر عوده على قوله «أسلمت» لتأويله بالكلمة.
قال الزمخشري: والضمير في «بها» لقوله: ﴿أسلمت لرب العالمين﴾ على تأويل الكلمة والجملة، ونحوه رجوع الضمير في قوله: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً﴾ [الزخرف: ٢٨] إلى قوله: ﴿إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: ٢٦ ٢٧] وقوله: «كَلِمَةً بَاقِيَةً» دليل على أن التأنيث على معنى الكلمة. انتهى.
الثاني: أنه يعود على الكلمة المفهومة من قوله: «أسلمت» كما تقدم تقريره عن الزمخشري.
قال ابن عطية: «وهو أصوب لأنه أقرب مذكور».
الثالث: أنه يعود على متأخرن وهو الكلمة المفهومة من قوله: ﴿فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
الرابع: أنه يعود على كلمة الإخلاص، وإن لم يَبْدُ لها ذكر قاله الكلبي ومقاتل.
الخامس: أنه يعود على الطَّاعة للعلم بها أيضاً.
السادس: أنه يعود على الوصيّة المدلول عليها بقوله: «ووصّى»، و «بها» يتعلّق ب «وَصَّى» و «بينه» مفعول به.
501
روي أنهم ثمانية: إسماعيل، واسم أمه هاجر القبطية، وإساحق، وأسم أمه سارة وستة، واسم أمهم قنطورا بنت قطن الكنعانية تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة، فولدت له مدين ومداين ونهشان وزمران وتشيق وشيوخ، ثم توفي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وكان بين وفاته وبين مولد النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نحو من ألفي سنةٍ وستمائة سنة، واليهود ينقصون ذلك نحواً من أربعمائة سنة.
قوله: «وَيَعْقُوب» والجمهور على رفعة وفيه قولان:
أظهرهما: أنه عطف على «إبراهيم»، ويكون مفعوله محذوفاً، أي: ووصى يعقوب بنيه أيضاً.
والثاني: أن يكون مرفوعاً بالابتداء، وخبره محذوف تقديره: ويعقوب قال: يا بني إن الله اصطفى.
وقرأ إسماعيل بن عبد الله، وعمرو بن فائد بنصبه عطفاً على «بنيه»، أي: ووصّى إبراهيم يعقوب أيضاً.
[ولم ينقل أنّ يعقوب جده إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وإنما ولد بعد موته قاله الزمخشري، وعاش يعقوب مائة وسبعة وأربعين سنة، ومات بمصر، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدسة ويدفن عند ابنه إسحاق، فحمله يوسف، ودفنه عنده].
قوله: «يَابَنِي» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مقول إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وذلك على القول بعطف يعقوب على إبراهيم، أو على قراءته منصوباً.
والثَّاني: أنه من مقول يعقول إن قلنا رفعه باللابتداء، ويكون قد حذف مقول إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ للدلالة عليه تقديره: «ووصّى إبراهيم بنيه يا بني».
502
وعلى كل تقدير فالجملة من قوله: «يابني» وما بعدها منصوبة بقول محذوف على رأي البصريين، أي: فقال يابني، وبفعل الوصية؛ لأنها في معنى القول على رأي الكوفيين، [قال النحاس: يا بني نداء مضاف، وهذه ياء النفس لا يجوز هنا إلا فتحها؛ لأنها لو سكنت لا لتقى سكنان، وبمعناه ﴿بِمُصْرِخِيَّ﴾ [إبراهيم: ٢٢] ونحوه]. وقال الراجز: [الرجز]
٧٩٧ - رَجْلاَنِ مِنْ ضَبَّةَ أَخْبَرَانَا إِنَّا رَأَيْنَا رَجُلاً عُرْيَانَا
بكسر الهمزة على إضمار القول، أو لإجراء الخبر مجرى القول، ويؤيد تعلّقها بالوصية قراءة ابن مسعود: «أن يا بني» ب «أن» المفسرة ولا يجوز أن تكون هنا مصدرية لعدم ما يَنْسبك منه مصدر.
قال الفراء: ألغيت «أن» لأن التوصية كالقول، وكل كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول «أن» وجاز إلغائها، وقال النحويون: إنما أراد «أن» وألغيت ليس بشيء. ومَنْ أبَى جعلها مفسرة وهم الكوفيون يجعلونها زائدة.
و «يعقوب» علم أعجمي ولذلك لا ينصرف، ومن زعم أنه سُمِّي يعقوب؛ لأنه وُلِد عقب العيص أخيه، وكانا توأمين، أو لأنه كثر عَقبهُ ونَسْلُه فقد وهم؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرف، لأنه عربي مشتق.
ويعقوب أيضاً ذَكَرُ الْحَجَل، إذ سمي به المذكر انصرف؛ والجمع يَعَاقِبَة وَيَعَاقِيب، و «اصْطَفَى» ألفه عن ياء تلك الياء منقلبة عن «واو» ؛ لأنها من الصَّفْوة، ولما صارت الكلمة أربعة فصاعداً، قلبت ياء، ثم انقلبت ألفاً.
اصْطَفَى: اختار.
قال الراجز: [الرجز] لَكَ اصْطَفَاهَا وَلَهَا اصْطَفَاكَا... والدين: الإسلام.
٧٩٨ - يا ابْنَ مُلُوكٍ وَرَّثُوا الأمْلاَكَا خِلآفةَ اللهِ الَّتِي أَعْطَاكَا
و «لكم» أي لأجلكم، والألف واللام في «الدين» للعهد؛ لأنهم كانوا عرفوه.
503
قوله: ﴿فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ﴾ هذا في الصورة عن الموت، وهو في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا كقولك: «لا تصلً إلا وأنت خاشع»، فنهيك له ليس عن الصلاة، وإنما هو عن ترك الخشوع في حال صلاته، والنُّكْتة في إدخال حرف النهي على الصلاة، وهي غير مَنْهِي عنها هي إظهارُ أَنَّ الصلاة التي لا خشوع فيها كَلاَ صلاة، كأنه قال: أنهاك عنها إذا لم تُصَلِّها على هذه الحالة، وكذلك المعنى في الآية الكريمة إظهار أن موتهم لا على حال الثابت على الإسلام موت لا خير فيه، وأن حقّ هذا الموت ألا يجعل فيهم.
[وعن الفضيل بن عياض أنه قال: «إلا وأنتم مسلمون»، أي: مسلمون الظن، أي محسنون الظن بربكم، وروي عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه سولم قبل موته بثلاثة أيام يقول: «لا يموتن أحد إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى» ]. وأصل تموتُن: تَمُوتُوننَّ: النون الأولى علامة الرفع، والثانية المشددة للتوكيد، فاجتمع ثلاثة أمثال فحذفت نون الرفع؛ لأن نون التوكيد أولى بالبقاء لدلالتها على معنى مستقلّ، فالتقى سكنان: الواو والنون الأولى المدغمة، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة تدلّ عليها، وهكذا كل ما جاء في نظائره.
قوله: ﴿إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴾ هذا استثناء مفرغ من الأحوال العامة، و «أنتم مسلمون» مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال، كأنه قال تعالى: «لا تموتنّ على كل حالا إلا على هذه الحال»، والعامل فيها ما قبل إلا.
504
«أم» في أم هذه ثلاثة أقوال:
أحدها وهو المشهور: أنها منقطعة والمنقطعة تقدر ب «بل»، وهمزة الاستفهام. وبعضهم يقدرها ب «بل» وحدها، ومعنى الإضراب انتقال من شيء إلى شيء لا إبطال. ومعنى الاستفهام الإنكار والتوبيخ فيؤول معناه إلى النفي، أي: بل أكنتم شهداء يعنى لم تكونوا. الثاني: أنها بمعنى همزة الإستفهامن وهو قول ابن عطية والطبري، إلا أنهما اختلفا في محلها. فإن ابن عطية قال: و «إم» تكون بمعنى ألف الاستفهام ف يصدر الكلام، لغة يمانية.
504
وقال الطبري: إن أم يستفهم بها وسط كلام قد تقدم صدره.
قال ابو حيان في قول ابن عطية: «ولم أقف لأحد من النحويين على ما قال».
وقال في قول الطبري: وهذا أيضاً قول غريب.
الثالث: أنها متصلة، وهو قول الزمخشري.
قال الزمخشري بعد أن جعلها منقطعة، وجعل الخطاب للمؤمنين قال بعد ذلك: وقيل: الخطاب لليهود؛ لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبي إلا على اليَهُودية، إلا أنهم لو شهدوه، وسمعوا ما قاله لبنيه، وما قاله لظهر لهم حرصُه على ملّة الإسلام، وَلَمَا ادَّعوا عليه اليهودية، فالآية الكريمة مُنَافية لقولهم، فكيف يقال لهم: أم كنتم شهداء؟
ولكن الوجه أن تكون «أم» متصلة على أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل: أَتَدَّعُون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء، يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذْ أراد بنيه على التوحيد وملّة الإسلام، فما لكم تَدَّعُونَ على الأنبياء ما هم منه براء؟
قال أبو حيان: ولا أعلم أحداً أجاز حذف هذه الجملة، لا يحفظ ذلك في شعر ولا غيره، لو قلت «أم زيد» تريد: «أقام عمرو وأم زيد» لم يجز، وإنما يجوز حذف المعطوف عليه مع الواو والفاء إذا دلّ عليه دليل كقولك: «بلى وعمراً» لمن قال: لم يضرب زيداً، وقوله تعالى: ﴿فانفجرت﴾ [البقرة: ٦٠] أي فضرب فانفجرت، وندر حذفه مع «أو» ؛ كقوله: [الطويل]
٧٩٩ - فَهَلْ لَكَ أَوْ مِنْ وَالِدٍ لَكَ قَبْلَنَا........................
أي: من أخ أو والد، ومع حمتى كقوله: [الطويل]
٨٠٠ - فَوَعَجَبَا حَتَّى كُلَيْبٌ تُسُبُّنِي كَأَنَّ أَبَاهَا نَهْشَلٌ أَوْ مُجَاشِعُ
أي: يسبني الناسُ حتى كليبٌ، على نظر فيه، وإنما الجائز حذف «أم» مع ما عطفت كقوله: [الطويل]
505
٨٠١ - دَعَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لأَمْرِهِ سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلاَبُهَا
أي: أم غَيٌّ، وإنما جاز ذلك؛ لإن المستفهم على الإثبات يتضمنّن نقيضه، ويجوز حذف الثواني المقابلات إذا دلّ عليها المعنى، ألا ترى إلى قوله: ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] كيف حذف و «الْبَرْدَ» انتهى.
و «شهداء» خبر كان، وهو جمع شاهد أو شهيد، وقد تقدم أول السورة.
قوله: «إذ حضر» إذ منصوب بشهداء على أنه ظرف لا مفعول به أي: شهداء وقت حضور الموت إياه، وحضور الموت كناية عن حضور أسبابه مقدماته؛ قال الشاعر: [البسيط]
٨٠٢ - وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالعُذْرِ وَالْتَمِسُوا قَوْلاً يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ
أي: أنا سببه، والمشهور نصب «يعقوب»، ورفع «الموت»، قدم المفعول اهتماماً وقرأ بعضهم بالعكس.
وقرىء: «حَضِر» بكسر الضاد، قالوا: والمضارع يَحْضُر بالضم شاذ، وكأنه من التداخل وقد تقدم.
قوله: «إذْ قَالَ»، «إذ» هذه فيها قولان:
أحدهما: بدل من الأولى، والعامل فيها، إما العامل في «إذ» الأولى إن قلنا: إن البدل لا على نية تكرار العامل، أو عامل مضمر إن قلنا بذلك.
الثاني: أنها ظرف ل «حضر».
قوله: «مَا تَعْبُدُونَ»، ما أسم استفهام في محلّ نصب؛ لأنه مفعول مقدم بتعبدون، وهو واجب التقديم؛ لأن له صدر الكلام، وأتى ب «ما» دون «من» لأحد أربعة معانٍ.
أحدها: أن «ما» للمبهم أمره. فإذا عُلِم فُرّق ب «ما» و «مَنْ».
[قال الزمخشري: وكفاك دليلاً قول العلماء: «مَن» لما يعقل.
الثاني: أنها سؤال عن صفة المعبود].
506
قال الزمخشري: كما تقول: ما زيد؟ تريد: أفقيه أم طبيب، أم غير ذلك من الصفات؟
الثالث: أن المعبودات في ذلك الوقت كانت غير عقلاء، كالأوثان والأصنام والشمس والقمر، فاستفهم ب «ما» التي لغير العاقل، فعرف بَنُوه ما أراد، فأجابوه عنه بالحق.
الرابع: أنه اختبرهم وامتحنهم فسألهم ب «ما» دون «من»، لئلا يَطْرُق لهم الاهتداء، فيكون كالتلقين لهم، ومقصوده الاختبار.
وأجاب ابن الخطيب بوجهين:
الاول: أن «ما» عام في كل شيء، والمعنى: أي شيء تعبدون.
والثاني: قوله: «مَا تَعْبُدُونَ» كقولك عند طلب الحد والرسم ما الإنسان؟
وقوله: «مِنْ بَعْدي» أي: بعد موتي.
قوله: ﴿قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ﴾.
تمسّك المقَلِّدة بهذه الآية الكريمة قالوا: إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد، ولم ينكره عليهم.
والجواب: أن هذا ليس تقليداً، وإنما هو إشارة إلى ذكر الدليل على وجود الصَّانع كقوله: ﴿يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] فهاهنا المراد من قوله: ﴿نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ﴾ أي: الإله الذي دلّ عليه وجودك، ووجود آبائك.

فصل في نزول هذه الآية


قال القَفَال: وفي بعض التفاسير أن يعقوب عليه السلام لما دخل «مصر» رأى أهلها يعبدن النيران والأوثان، فخاف على بنيه بعد وفاته، فقال لهم هذا القول تحريضاً لهم على التمسّك بعبادة الله تعالى.
وحكى القاضي عن ابن عباس: أن يعقوب عليه السَّلام جميعهم إليه عند الوفاة، وهم كانوا يعبدون الأوثان والنيران، فقال: يا بني ما تبعدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك.
ثم قال القاضي: هذا بعيد لوجهين:
الأول: أنهم بادروا إلى الاعتراف بالتوحيد مبادرة من تقدم منه العلم واليقين.
الثاني: أنه تعالى ذكر في الكتاب الأَسْبَاط من أولاد يعقوب، وأنهم كانوا قوماً صالحين، وذلك لا يليق بحالهم.
507
[وقال عطاء: إن الله لم يقبض نبياً حتى يخبره بين الموت والحياة، فلما خير يعقوب قال: أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم؛ ففعل ذلك به، فجمع ولده وولد ولده، وقال لهم: قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون، والعرب تسمي العم أباً كما تسمي الخالة أماً، وسيأتي الكلام على ذلك قريباً إن شاء الله تعالى].
وقال القَفَّال: وقيل: إنما قدّم ذكر إسماعيل على إسحاق؛ لأن إسماعيل [كان أسنّ من إسحاق].
قوله: «وَإِلَهَ آبائِكَ» أعاد ذكر الإله، لئلا يَعْطِفَ على الضمير المجرور دون إعادة الجار، والجمهور على «آبائك».
وقرأ الحسن ويحيى وأبو رجاء: «أبيك».
وقرأ أُبّي: «وَإلَهَ إِبْرَاهِيمَ» فأسقط «آبائك».
فأما قراءة الجمور فواضحة.
وفي «إبراهيم» وما بعده حينئذ ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بدل.
والثاني: أنه عطف بيان، ومعنى البدلية فيه التفصيل.
الثالث: أنه منصوب بإضمار «أعني» فالفتحة على هذا علامة للنصب، وعلى القولين قبله علامة للجر لعدم الصَّرْف، وفيه دليل على تسمية الجَدِّ والعم أباً، فإن إبراهيم جده إسماعيل عمه، كما يطلق على الخالة أمّ، ومنه: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ﴾ [يوسف: ١٠٠] في أحد القولين.
قال بعضهم: وهذا من باب التَّغليب، يعنى: أنه غلب الأب على غيره، وفيه نظر، فإنه قد جاء هذا الإطلاق حيث لا تثنية ولا جمع، فيغلب فيهما.
وأما قراءة «أبيك» فتحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مفرداً غير جمع، وحينئذ فإما أن يكون واقعاً موقع الجمع أو لا، فإنْ كان واقعاً موقع الجمع، فالكلام في «إبراهيم» وما بعده كالكلام فيه على القراءة المشهورة. وإن لم يكن واقعاً موقعَهُ، بل أريد به الإفراد لفظاً ومعنى، فيكون «إبراهيم» وحده على الأوجه الثلاثة المتقدمة، ويكون إسماعيل وما بعده عطفاً على «أبيك»، أي: وإله إسماعيل.
508
الثاني: يكون جمع سلامة بالياء والنون، وإنما حذفت النون للإضافة، وقد جاء جمع آب على «أبُونَ» رفعاً، و «أبين» جراً ونصباً، حكاها سيبويه؛ قال الشاعر: [المتقارب]
٨٠٣ - فَلَمَّا تَبَيَّنَّ أصْوَاتَنَا بَكَيْنَ وَفَدَّيْنَنَا بِالأَبِينَا
ومثله: [الوافر]
٨٠٤ - فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إنَّا أَخُوكُمْ........................
والكلام في إبراهيم وما بعده كالكلام فيه بعد جمع التكسير، وإسحاق: علمٌ أعجميٌّ، ويكون مصدر أسحاق، فلو سُمِّي به مذكرٌ لا نصرف، والجمع: أسحاقهٌ وأساحيق.
قال القرطبي: ولم ينصرف إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق؛ لأنَّها أعجميةٌ.
قال الكسائيُّ: وإن شِئْتَ صرفت «إسحاق»، وجعلته من السّحق، وصرفت «يعقوب» وجعلته من الطَّير.
وسمى الله تعالى كل واحد من العم والجد أباً، وبدأ بذكر الجد، ثم إسماعيل العم؛ لأنَّهُ أكبر من إسحاق.

فصل في تحرير اختلاف الفقهاء في كون الجد أباً


ذهب أبو حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْه إلى أن الجد أب، وأسقط به الإخوة، والأخوات، وهو قول أبي بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْه وابن عباس وعائشة، وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن التابعين، والحسن، وطاوس وعطاء.
وذهب الشافعي إلى أن الجد لا يسقط الإخوة والأخوات للأب، وهو قول عمر، وعثمان، وعلي رَضِيَ اللهُ عَنْهم وهو قول مالك، وأبي يوسف ومحمد.
509
واحتج أبو حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْه بأدلة منها هذه الآية الكريمة، وأنه أطلق لفظ الأب على الجد.
فإن قيل: قد أطلقَهُ على العمِّ، وهو إسماعيل مع أنه ليس بأب اتفاقاً.
فالجواب: الأصل في الاسْتِعْمَال الحقيقة وترك العمل به في العم لدليل قام به، فيبقى في الثاني حجة.
والثاني: منها قوله تبارك وتعالى مخبراً عن يوسف: ﴿واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ [يوسف: ٣٨].
ومنها: ما روى عطاء عن ابن عباس أنَّهُ قال: من شاء لاَعَنْتُهُ عند الحجر الأسود أنّ الجدّ أب.
وقال أيضاً: ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن أبناً، ولا يجعل أب الأب أباً.
واحتجَّ الإمام الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه وأرضاه بأدلّة.
منها: ﴿ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ [البقرة: ١٣٢] فلم يدخل يعقوب في بنيه، بل ميَّزه عنهم، فلو كان الصاعد في الأبوَّة أباً لكان النازل في النبوَّة ابناً في الحقيقة، فلما لم يكن كذلك ثبت أن الجدَّ ليس بأب [ومنها أن الأب لا يصح نفي اسم الأبوة عنه بخلاف الجد، فعلمنا أنه حقيقة من الأب مجاز الجد]. ولو كان الجد أباً على الحقيقة لما صح لِمَنْ مات أبُوه وجدُّه حَيٌّ أن ينفي أنَّ له أباً، كما لا يصح في الأب القريب، ولما صح ذلك علمنا أنه ليس بأب في الحقيقة.
فإن قيل: اسم الأبوة وإن حصل في الكل إلا أنَّ رُتْبَةَ الأدنى أقْرَبُ من رتبةِ الأبعد، فلذلك صح فيه النفي.
فالجواب: لوك كان الاسم حقيقة فيهما جميعاً لم يكن الترتيب في الوجود سبباً لنفي اسم الأب عنه.
ومنها: لو كان الجد أباً على الحقيقة لصحَّ القول بأنَّهُ مات، وخلف أُمًّا وآباء كثيرين، وذلك مما لم يطلقه أحدٌ من الفقهاء، وأرباب اللغة، والتفسير.
ومنها: [ول كان الجدُّ أباً ولا شكَّ] أنَّ الصحابة عارفون باللغة لما كانوا يختلفون في ميراث الجدن ولو كان الجد أباً لكانت الجدة أُمًّا، ولو كان كذلك لما وقعت الشُّبهة في ميراث الجدة حتى يحتاج أبو بكر رَضِيَ اللهُ عَنْه إلى السؤال عنه، [فهذه الدلائل دلت على أنَّ الجدَّ ليس بأب].
510
ومنها: قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين﴾ [النساء: ١١] فلو كان الجدُّ أباً لكان ابن الابن ابناً لا محالة، فكان يلزم بمقتضى هذه الآية حصول الميراث لابن الابن مع قيام الابن، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الجد ليس بأب.
وأما الجواب عن الآية الكريمة فمن وجهين:
الأول: أنه قرأ أُبيّ: «وإلَهَ إبْرَاهِيمَ» بطرح «آبائك» إلاَّ أنَّ هذا لا يقدح في الغرض؛ لأن القراءة الشاذَّة لا تدفع القراءة المتواترة.
بل الجواب أن يقال: إنَّه أطلق لفظ الأب على الجدِّ وعلى العمِّ.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في العبَّاس: «هَذَا بَقِيَّةٌ آبَائِي».
وقال: «رُدٌُّوا عَلَيَّ أبي، فإنِّي أخْشَى أنْ تَفْعَلَ بِهِ قُرَيْشٌ مَا فَعَلَتْ ثَقِيفٌ بِعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودِ»، فدلنا ذلك على أنَّهُ ذكره على سبيل المجاز، ولو كان حقيقة لما كان كذلك.
وأمَّا قول ابن عباس فإنما أطلق الاسم عليه نظراً إلى الحكم الشرعي، لا إلى الاسم اللغوي؛ لأن اللغات لا يقع الخلاف فيها بين أهل اللِّسَان.
قوله: «إلهاً واحداً» فيه ثلاثة أَوْجُهٍ:
أحدها: أَنَّهُ بَدَلٌ من «إلهك» بدل نكرة موصوفة من معرفة كقوله: ﴿بالناصية نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ﴾ [العلق: ١٥١٦].
والبصريون لا يشترطون الوصف مستدلين بقوله: [الوافر]
٨٠٥ - فَلاَ وَأَبِيكِ خَيْرٍ مِنْكِ إِنِّي لَيُؤْذِينِي التَّحَمْحُمُ والصَّهِيلُ
ف «خير» يدلٌ من «أبيك»، وهو نكرةٌ غيرُ موصوفةٍ.
والثاني: أنَّهُ حال من «إلهك» والعامل فيه «نعبد»، وفائدة البدل الحال التنصيص على أنَّ معبودهم فَرْدٌ إذْ إضافة الشيء إلى كثير تُوهِم تَعْدَادَ المضاف، فنصَّ بها على نفي ذلك الإبهام. وهذه الحال تمسى «حالاً مُوَطِّئة»، وهي أن تذكرها ذاتاً موصوفة، نحو: جاء زيد رجلاً صالحاً.
الثالث: وإليه نَحَا الزَّمَخْسَرِيُّ: أن يكون منصوباً على الاختصاص، أي: نريد بإلهك إلهاً واحداً.
قالوا: أبو حيَّان رَحِمَهُ اللهُ: وقد نصّ النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرةً ولا مبهماً.
511
قوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنَّها معطوفةٌ على قوله: «نعبد» يعني: أنها تتمّةٌ جوابهم له، فأجابوه بزيادة.
والثني: أنهَّا حال من فاعل «نعبد»، والعامل «نعبد».
والثالث: وَإليه نَحَا الزَّمخشري: ألاَّ يكون لها محل، بل هي جملة اعتراضيّة مؤكدة، أي: ومن حالنا أنَّا له مخلصون.
قال ابو حيّان: ونصّ النحويون على أنَّ جملة الاعتراض هي التي تفيد تقويةً في الحكم، أمّا بين جزئَيْ صلة وموصول؛ كقوله: [البسيط]
٨٠٦ - مَاذّا وَلاَعَتْبَ في المَقْدُورِ رُمْتَ أَمَا يَكْفِيكَ بِالنُّجْحِ أمْ خُسْرٌ وتَظْلِيلُ
وقوله: [الكامل]
٨٠٧ - ذَاكَ الَّذِي وأَبِيكَ يَعْرِفُ مالِكاً وَالحَقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ البَاطِلِ
أو من مُسْنَد ومُسْنَد إليه كقوله: [الطويل]
٨٠٨ - وَقَدْ أَدْرَكَتْنِي والحَوَادِثُ جَمَّةٌ أَسِنَّةٌ قَوْمٍ ضِعَافٍ وَلاَ عُزْلِ
أو بين شرط وجزاء، أو قسم وجوابه، مما بينهما تلازم.
وهذه الجملة قبلها كلامٌ مستقل عمّا بعدها، لا يُقَال: إنَّ بين المشار إلَيْهِ وبين الإخبار عنه تلازماً؛ لأنَّ ما قبلها من مقول بني يعقوب، وما بعدها من كلام الله تعالى، أخبر بها عنهم، والجملة الاعتراضية إنما تكون من الناطق بالمتلازمين لتوكيد كلامه. نتهى ملخصا.
وقال ابن عطية: «ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ابتداء وخبر، أي: كذلك كنا، ونحن نكون.
قال أبو حيان: يظهر منه أنَّهُ جعل هذه الجملة عطفاً على جملةٍ محذوفة، ولا حاجة إليه.
512
«تلْكَ» مُبْتَدَأ، و «أمَّةٌ» خبره، ويجوز أنْ تَكُونَ «أُمَّة» بدلاً من «تلك»، و «قد خلت» خبر للمبتدأ.
وأصل «تلك» :«تي»، فلمَّا جاء باللاَّم للبعد حُذِفَتِ الياء لالتقاء الساكنين، فإن قيل: لِمَ لَمْ تسكر اللام حتى لا تحذف الياء؟
فالجواب: أنَّهُ يثقل اللفظ بوقوع الياء بين كسرتين.
وزعم الكوفيون أنَّ التاء وحدَها هي الاسمن وليس ثَمَّ شيء محذوف.
وقوله: «قد خلت» جملة فعلية في محل رفع صفة ل «أُمَّة» إنْ قيل إنها خبر «تلك» أو خبرُ «تلك» إن قيل: إن «أمة» بدل من «تلك» كما تقدم، و «خلت» أي صارت إلى الخلاءن وهي الأرض التي لا أنيس بها، والمراد به ماتت، والمشار إليه هو إبراهيم ويعقوب وأبناؤهم.
والأمة: الجماعة، وقيل: الصنف.
قوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ في هذه الجملة ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون صفة ل «أمة» أيضاً، فيكون محلها رفعاً.
والثاني: أن تكون حالاً من الضمير في «خلت» فحملها نصب، أي: خلت ثابتاً لَهَا كَسْبُها.
والثالث: أن تكون استئنافاً فلا محلّ لها.
وفي «ما» من قوله: «ما كسبت» ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها بمعنى الذي.
والثاني: أنها نكرة موصوفةن والعائد على كلا القولين محذوف أي: كسبته، إلا أن الجملة لا محلّ لها على الأول.
والثالث: أن تكون مصدرية، فلا تحتاج إلى عائد على المشهور، ويكون المصدر واقعاً موقع المفعول أي: لها مكسوباً أو يكون ثَمَّ مضاف، أي: لها جزاء كسبها.
قوله: ﴿وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ﴾ إن قيل: إن قوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ مستأنف كانت هذه الجملة عطفاً عليه.
وإن قيل: إنه صفة أو حال فلا.
أما الصفة فلعدم الرابط فيها.
وأما الحال فلاختلاف زمان استقرار كسبها لها، وزمان استقرار كسب المخاطبين،
513
وعطف الحال على الحال يوجب اتحاد الزمان، و «ما» من قوله: «ما كسبتم» ك «ما» المتقدمة.

فصل فيمن استدل بالآية على إضافة بعض الأكساب إلى العبد


دلت هذه الآية على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب، وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك، إن كان خيراً فبفضله وإن كان شرًّا فبعدله، فالعبد مكتسب لأفعاله، على معنى أنه خلقت له قدرة مُقَارنة للفعل يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرَّعشة مثلاً، وذلك التمكن هو مَنَاط التكليف، وهذا مذهب أهل السُّنة.
وقالت الجبرية بنفي اكتساب العَبْدِ، وأنه كالنبات الذي تصرفه الرياح.
وقالت القدرية والمعتزلة خلاف هذين القولين، وأن العبد يخلق أفعاله، نقلهُ القرطبي.
قوله: «وَلاَ تُسْأَلُونَ» هذه الجملة استئناف ليس إلاَّ، ومعناها التوكيد لما قبلها؛ لأنه لما تقدم أن أحداً لا ينفعه كسب أحد، بل هو مختص به إن خَيْراً وإن شرًّا، فلذلك لا يسأل أحد عن غيره، وذلك أن اليهود افتخروا بأسلافهم، فأخبروا بذلك.
و «ما» يجوز فيها الأوجه الثلاثة من كونها موصلة أسمية، أو حرفية، أو نكرة، وفي الكلام حذف، أي: ولا يُسْألون عما كنتم تعملون.
قال أبو البقاء: ودلّ عليه: لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم انتهى.
ولو جُعِل الدالُّ قوله: «ولا تسألون عما كانوا يعملون» كان أوْلى؛ لأنه مقابلة.
514
والكلام في «أو» [كالكلام فيها عند] قوله: ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١١١].
و «تهتدوا» جزم على جواب الأمرن وقد عركف ما فيه من الخلاف: أعني هل جزمه بالجملة قبله، أو ب «إن» مقدرة.
قوله: «مِلَّة إبْرَاهِيمَ» قرأ الجمهور: «ملّة» نصباً، وفيها أربعة أوجه:
أحدها: أنه مفعول فعل مضمر، أي بل نتبع ملة؛ [فحذف المضاف وإقيم
514
المضاف إليه مقامه] لأن معنى كونوا هوداً: اتبعوا اليهودية أو النصرانية.
الثاني: أنه منصوب على خبر «كان»، أي: بل نكون ملّة أي: أهل ملّة كقول عدي ابن حاتم: «إني من دين» أي من أهل دين، وهو قول الزَّجَّاج، وتبعه الزمخشري.
الثالث: أنه منصوب على الإغْرَاء، أي: الزموا ملّة، هو قول أبي عبيدة، وهو كالوجه الأول في أنه مفعول به، وإن اختلف العامل.
الرابع: أنه منصوب على إسقاط حرف الجر، والأصل: نقتدي بملّة إبراهيم، فلما حذف الحرف انتصب.
وهذا يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، فيكون تقدير الفعل: بل نكون، أو نتبع، أو نقتدي كما تقدم، وإن يكون خطاباً للكفار، فيكون التقدير: كونوا أو اتبعوا أو اقتدوا.
وقرأ ابن هرمز، وابن أبي عبلة «مِلَّةٌ» رفعاً وفيها وجهان:
أحدهما: أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: بل ملتنا ملّة إبراهيم، أو نحن ملة، أي: أهل ملة.
الثاني: أنها مبتدأ حذف خبره، تقديره: ملة إبراهيم ملتنا.
قوله: «حَنيفاً» في نصبه أربعة أقوال:
أحدها: أنه حال من «إبراهيم» ؛ لأن الحال تجيء من المضاف إليه قياساً في ثلاثة مواضع على ما ذكر بعضهم.
515
أحدها: أن يكون المضاف عاملاص عمل الفعل.
الثاني: أن يكون جزءاً نحو: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً﴾ [الحجر: ٤٧].
الثالث: أن يكون الجزء كهذة الآية؛ لأن إبراهيم لما لازمها تنزلت منه منزلة الجزء.
والنحويون يستضعفون مجيئها من المضاف إليه، ولو كان المضاف جزءاً، قالوا: لأن الحال لا بد لها من عامل، والعامل في الحال هو العامل في صاحبها، والعامل في صاحبها لا يعمل عمل الفعل، ومن جوز ذلك قدر العامل فيها معنى اللام، أو معنى الإضافة، وهما عاملان في صاحبها عند هذا القائل.
ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه وشبهه بقولك: «رأيت وجه هند قائمة»، وهو قول الزجاج.
الثاني: نصبه بإضمار فعل، أي: نبتع حنيفاً وقدره أبو البقاء، ب «أعني»، وهو قول الأخفش الصغير، وجعل الحال خطأ.
الثالث: أنه منصوب على القطع، وهو رأي الكوفيين، وكان الأصل عندهم: إبراهيم الحنيف، فلما نكره لم يمكن إتْباعه، وقد تقدم تحرير ذلك.
الرابع: وهو المختار: أن يكون حالاً من «ملّة» فالعامل فيه ما قَدَّرناه عاملاً فيها، وتكون حالاً لازمة؛ لأن الملة لا تتغير عن هذا الوصف، وكذلك على القول بجعلها حالاً من «إبراهيم» ؛ لأنه لم ينتقل عنها.
فإن قيل: صاحب الحال مؤنث، فكان ينبغي أن يطابقه التأنيث، فيقال: حنيفة.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن «فعيلاً» يستوي فيه المذكر والمؤنث.
والثاني: أن الملّة بمعنى الدين، ولذلك أبدلت منه في قوله ﴿دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ [الأنعام: ١٦١] ذكر ذلك ابن الشَّجَرِيِّ في «أماليه».
و «الحَنَفُ» : الميل، ومنه سمي الأَحْنَفُ؛ لميل إحدى قدميه بالأصابع إلى الأخرى؛ قالت أُمُّهُ: [الرجز]
516
٨٠٩ - وَاللهِ لَوْلاَ حَنَفٌ بِرِجْلِهِ مَا كَانَ في فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ
ويقال: رجل أَحْنَفُ، وامرأة حَنْفَاءُ.
وقيل: هو الاستقامة، وسمي المائل الرِّجْل بذلك تفاؤلاً؛ كقولهم لِلَّدِيغ «سَلِيم» ولِلْمَهْلكة: «مَفَازة» قاله ابن قتيبة [وهو مروي عن محمد بن كعب القرظيّ].
وقيل: الحَنيفُ لقب لمن تديَّن بالإسلام؛ قال عَمْرٌو: [الوافر]
٨١٠ - حَمِدْتُ اللهَ حِينَ هَدَى فُؤَادِي إلى الإسْلاَمِ وَالدِّينِ الحَنِيفِ
[قاله القفال. وقيل: الحنيف: المائل عما عليه العامة إلى ما لزمه].
قال الزجاج؛ وأنشد: [الوافر]
٨١١ - وَلَكِنَّا خُلِقْنَا إذْ خُلِقْنَا حَنِيْفاً دِينُنَا عَنْ كُلِّ دِيْنِ
وأما عبارات المفسرين، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد رضي الله تعالى عنهم أجمعين: الحنيفية حج البيت.
وعن مجاهد أيضاً: اتباع الحق.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام.
وقيل: اتباع شرائع الإسلام.
وقيل: أخلاص الدين قاله الأصم.
وقال سعيد بن جبير: هي الحج الحسن، وقال قَتَادة: الحنيفية الختان، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات، وإقامة المناسك.
قوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ تنبيه على أن اليهود والنصارى أشركوا؛ لأن بعض اليهود قالوا: عزيزٌ ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله وذلك شرك.
وأيضاً إن الحنيف اسم لمن دَانَ بدين إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ومعلوم أنه عليه السلام أتى بشرائع مخصوصة، من حجّ البيت الخِتَان وغيرهما، فمن دَانَ بذلك فهو
517
حنيف، وكانت العرب تدين بهذه الأشياء، ثم كانت تشرك، فقيل من أجل هذا «حنيفاً، وما كان من المشركين» ونظيره قوله: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ﴾ [يوسف: ٦].

فصل في الكلام على هذه الآية


اعلم أن الله تعالى ذكر هذه الآية على طريق الإلزام لهم وهو قوله: «ملّة إبراهيم حنيفاً» وتقديره: إن كان طريق الدين التقليد فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم حنيفاً؛ لأن هؤلاء المختلفين قد «أتفقوا» على صحّة دين إبراهيم، والأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، فكأنه سبحانه وتعالى قال: إن كان المقول في الدين على الاستدلال والنظر، فقد قدمنا الدلائل، وإن كان المقول على التقليد، فالرجوع إلى دين إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وترك الهيودية والنصرانية أولى.
فإن قيل: اليهود والنصارى إن كانوا معترفين بفضل إبراهيم مقرّين أن إبراهيم ما كان من القائلين بالتشبيه والتثليث امتنع أن يقولوا بذلك، بل لا بد وأن يكونوا قائلين بالتنزيه والتوحيد، ومتى كانوا قائلين بذلك لمن يكن في دعوتهم إليه فائدة، وإن كانوا منكرين فضل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أو كانوا مقرين به، لكنهم أنكروا كونه منكراً للتجسيم والتثليث لم يكن ذلك متفقاً عليه، فحينئذ لا يصح إلزام القول بأن هذا متفق عليه، فكان الأخذ به أولى.
فالجواب: أنه كان معلوماً بالتواتر أن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما أثبت الولد لله تعالى فلما صح عن اليهود والنصارى أنهم قالوا بذلك ثبت أن طريقتهم مخالفة لطريقة إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
فإن قيل: أليس أن كلّ واحد من اليهود والنصارى يدعي أنه على دين إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؟
فالجواب أن إبراهيم كان قائلاً بالتوحيد، وثبت أن النصارى يقولون بالتَّثْليث، واليهود يقولون بالتشبيه، فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأنّ محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما ادعى التوحيد كان على دين إبراهيم.

فصل


[اعلم أن قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ﴾ ليس المراد منه التخيير، إذ من المعلوم من حال اليهود أنها لا تُجَوِّزُ اختيار النصرانية على اليهودية، بل تزعم أنه كفر، وكذلك أيضاً حال النصارى، وإنما المراد أن اليهود تدعو إلى اليهودية، والنصارى إلى النصرانية، فكل فريق يدعو إلى دينه، ويزعم أنه على الهدى].
518
«قولوا» : في هذا الضمير قولان:
أحدهما: أنه للمؤمنين، والمراد بالمنزل إليهم القرآن على هذا.
والثاني: أنه يعود على القائلين كانوا هوداً أو نصارى.
والمراد بالمُنزل إليهم: إما القرآن، وإما التوراة والإنجيل
[قال الحسن رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لما حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا: كونوا هوداً أو نصارى ذكر في مقابلته للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قل: بل «ملة» إبراهيم، قال: ﴿قولوا آمَنَّا بالله﴾ ].
وجلمة «آمنَّا» في محلّ نصب ب «قولوا»، وكرر الموصول في قوله: ﴿وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ﴾ لاختلاف المنزل إلينا، والمنزل إليه، فلو لم يكرر لأوهم أن المنزل إلينا هو المنزل إليهم، ولم يكرر في «عيسى» ؛ لأنه لم يخالف شريعة موسى إلاّ في نزر يسير، فالذي أوتيه عيسى هو عَيْن ما أوتيه موسى إلا يسيراً، وقدم المنزل إلينا في الذكر، وإن كان متأخراً في الإنزال تشريفاً له.
والأسباط جمع «سِبْط» وهم في ولد يعقوب كالقبائل في ولد إسماعيل والشّعوب في العجم.
وقيل: هم بنو يعقوب لصلبه.
وقال الزمخشري: «السبط هو الحَافِدُ».
واشتقاقهم من السبط وهو التتابع، سموا بذلك؛ لأنهم أمة متتابعون.
وقيل: من «السَّبط» بالتحريك جمع «سَبَطَة» وهو الشجر الملتف.
وقيل ل «الحَسَنَيْنِ» : سِبْطا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لانتشار ذرّيتهم.
ثم قيل لكل ابن بنت: «سِبْط».
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: جميع إبراهيم براهم، وإسماعيع سماعيل، قاله الخليل وسيبويه والكوفيون، وحكوا: بَراهِمة وسَماعِلة، وحكوا براهِم وسماعِل.
قال محمد بن يزيد: هذا غلط؛ لأنه الهمزة ليس هذا موضع زيادتها، ولكن أقول: أباره وأسامع، ويجوز أباريه وأساميع.
وأجاز أحمد بن يحيى «بِراه»، كما يقال في التصغير «يريه».
519
قوله: ﴿وَمَآ أُوتِيَ موسى﴾ يجوز في «ما» وجهان:
أحدهما: أن تكون في محل جر عطفاً على المؤمن به، وهو الظاهر.
والثاني: أنها في محل رفع بالابتداء، ويكون ﴿وَمَا أُوتِيَ النبيون﴾ عطفاً عليها. وفي الخبر وجهان:
أحدهما: أن يكون «من ربهم».
والثاني: أن يكون «لا نُفَرِّقُ» هكذا ذكر أبو حيان، إلا أن في جعله «لا نُفَرِّقُ» خبراً عن «ما» نظر لا يخفى من حيث عدم عد الضمير عليها.
ويجوز أن تكون «ما» الأولى عطفاً على المجرور، و «ما» الثانية مبتدأه، وفي خبرها الوجهان، وللشيخ أن يجيب عن عدم عود الضمير بأنه محذوف تقديره: لا نفرق فيه، وحذف العائد المجرور ب «في» مطَّرِد كما ذكر بعضهم، وأنشد: [المتقارب]
٨١٢ - فَيَوْمٌ علَيْنَا وَيَوْمٌ لَنَا وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرْ
أي: نُسَاءُ فيه ونُسَرُّ فيه.
قوله: «من ربِّهم» فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما وهو الظاهر أنه في محل نصب، و «من» لابتداء الغايةن ويتعلّق ب «أوتي» الثانية إن أَعَدْنَا الضمير على النبيين فقط دون موسى وعيسى، أو ب «أوتي» الأولى، وتكون الثانية تكراراً لسقوطها في «آل عمران» إن أعدنا الضمير على موسى وعيسى عليهما السلام والنبيين.
الثاني: أن يكون في محلّ نصب على الحال من العائد على الموصول فيتعلّق بمحذوف تقديره: وما أوتيه كائناً من ربهم.
الثالث: أنه في محل رفع لوقوعه خبراً إذا جعلنا «ما» مبتدأ.
قوله: «بين أحد» متعلق ب «لا نفرق»، وفي «أحد» قولان:
أظهرهما: أنه الملازم للنفي الذي همزته أصلية، فهو للعموم وتحته أفراد، فلذلك صحّ دخول «بين: عليه من غير تقدير معطوف نحو:» المال بين الناس «.
والثاني: أنه الذي همزته بدل من»
واو «بمعنى واحدٍ، وعلى هذا فلا بد من تقدير معطوف ليصح دخول» بين «على متعدد، ولكنه حذف لفهم المعنى، والتقدير: بَيْنَ أحدٍ منهم؛ ونظيره ومثله قول النابغة: [الطويل]
520
٨١٣ - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً... أَبُو حُجُرٍ إلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
أي: بين الخير وبَيْنِي.
و» له «متعلِّق ب» مُسْلِمُون «، قدم للاهتمام به لعود الضمير على الله تعالى أو لتناسب الفواصل.

فصل في الكلام على الآية


قدم الإيمان بالله؛ لأن من لا يعرف الله يستحيل أن يعرف نبيًّا أو كتاباً، فإذا عرف الله، وآمن به عرف أنبياءه، وما أنزل عليهم.
وقوله: ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ فيه وجهان:
الأول: لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، بل نؤمن بالكل، روي عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام؛ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ»
لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا: آمَنَّا باللهِ وَمَا أُنْزِلَ... «الآية.
الثاني: لا نقول: إنهم متفرقون في أصول الديانات، بل هم يجتمعون على الأصول التي هي الإسلام كما قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى المشركين﴾ [الشورى: ١٣].
[فإن قيل: كيف يجوز الإيمان بأبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة؟
قلنا: نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقاً في زمانه، فلا تلزمنا المناقضة، وإنما تلزم المناقضة لليهود والنصارى؛ لاعترافهم بنبوة من ظهر المعجز على يده. لم يؤمنوا].
وقوله:»
وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ «يعنى أن إسلامنا لأجل طاعة الله لا لأجل الهوى.
521
«الباء» في قوله «بمثل» فيه أقوال:
521
أحدها: أنها زائدة كهي في قوله: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥] وقوله: ﴿وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ﴾ [مريم: ٢٥] ؛ وقوله: [البسيط]
٨١٤ -................... سُودُ المَحَاجِرِ لاَ يَقْرَأْنَ باِلسُّوَرِ
والثاني: أنها بمعنى «على»، أي: فإن آمنوا على مثل إيمانكم بالله.
والثالث: أنها للاستعانة كهي في «نجرت بالقدُّوم»، و «كتبت بالقلم»، والمعنى:
فإن دخلوا في الإيمان بشهادةٍ مثل شهادتكم. وعلى هذه الأوجه، فيكون المؤمَن به حذوفاً، و «ما» مصدرية، والضمير في «به» عائداً على الله تعالى والتقدير: فإن آمنوا بالله إيماناً مثل إيمانكم به، و «مثل» هنا فيها قولان:
أحدهما: أنها زائدة، والتقدير: بما آمنتم به، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، وابن عباس [وذكر البيهقي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما لا تقولوا بمثل ما آمنتم به، فإن الله تعالى ليس له مثل، ولكن قولوا بالذي آمنتم به، وهذا يروى قراءة أُبيّ] ونظيرها في الزيادة قول الشاعر: [السريع أو الرجز]
٨١٥ - فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْشفٍ مَأْكُولْ... وقال بعضهم: هذا من مجاز الكلام تقوم: هذا أمر لا يفعله مثلك، أي: لا تفعله أنت.
والمعنى: فإن آمنوا بالذي آمنتم به، نقله ابن عطية، وهو يؤول إلى إلغاء «مثل» وزيادتها.
والثاني: أنها ليست بزائدة، والمثليّة متعلقة بالاعتقاد، أي: فإن اعتقدوا بمثل اعتقادكم، أو متعلقة بالكتاب، أي: فإن آمنوا بكتاب مثل الكتاب الذي آمنتم به، والمعنى: فإن آمنوا بالقرآن الذي هو مصدق لما في التوراة والإنجيل، وهذا التأويل ينفي زيادة «الباء».
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وفيها وجوه، وذكر بعضها أن المقصود
522
منه التثبيت، والمعنى: إن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم، ومساوياً له في الصحة والسداد، فقد اهتدوا، ولمَّا استحال أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في الصواب والسَّدَاد استحال الاهتداء بغيره ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه: ها هو الرأي الصواب، فإ، كان عندك رأي أصوب مه فاعمل به، وقد علمت أن لا أَصْوَبَ من رأيك، [ولكنك تريد تثبيت صاحبك، وتوقيفه على أن ما رأت لا رأي وراءه].
وقيل: إنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف، فإن آمنوا بمثل ذلك، وهو التوراة من غير تصحيف وتحريف، فقد اهتدوا؛ لأنهم يتوصّلون به إلى معرفة نوبة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: فإن صاروا مؤمنين بمثل ما به صرتم مؤمنين، فقد اهتدوا.
و «ما» ف يقوله: «بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ» فيها وجهان:
أحدهما: أنها بمعنى الذي، والمراد بها حينئذ: إما الله تعالى بالتأويل المتقدم عند من يجيز وقوع «ما» على أولي العلم نحو:
﴿والسمآء وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس: ٥].
وإما الكتاب المنزل.
[والثاني: أنها مصدرية، وقد تقدم ذلك.
والضمير في «به» فيه أيضاً وجهان:
أحدهما: أنه يعود على الله تعالى كما تقدم]
والثاني: أن يعود على «ما» إذا قيل: إنها بمعنى الذي.
قوله: «فَقَدِ اهْتَدَوا» جواب الشرط في قوله: «فَإِنْ آمَنُوا»، وليس الجواب محذوفاً، كهو في قوله: ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ﴾ [فاطر: ٤٠]، لأن تكذيب الرسل ماض محقق هناك، فاحتجنا إلى تقدير جواب.
وأما هنا فالهداية منهم لم تقع بعد، فهي مستقبلة معنى، وإن أبرزت في لفظ المعنى.
[قال ابن الخطيب: والآية تدل على أن الهدىية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء، وتلك الهداية لا يمكن حملها إلا على الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عنها، وبين وجوه دلالتها، ثم بيَّن وجه الزجر وما يلحقهم إن تولوا، فقال: ﴿وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ ].
قوله: «فِي شِقَاقٍ» خبر لقوله: «هم»، وجعل الشقاق ظرفاً لهم، وهم مظروفون له مبالغة في الأخبار باستعماله علهيم، وهو أبلغ من قولك: هم مُشَاقّونَ، وفيه: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾ [الأعراف: ٦٦] ونحوه.
523
والشِّقَاق: مصدر من شاقَّهُ يُشَاقّه نحو: ضاربه ضِراباً، ومعناه المخالفة والمعاداة.
وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه من الشّق وهو الجانب. وذلك أن أحد المشاقين يصير في شقّ صابحه، أي: جانبه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
٨١٦ - إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ بِشِقِّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ
أي: بجانب.
الثاني: أنه من المشقة، فإن كلاًّ منهما يحرص على ما يَشُقّ على صاحبه.
الثالث: أنه من قولهم: «شققتُ العَصَا بين وبينك»، وكانوا يفعلون ذلك عند تعاديهم.

فصل في الكلام على الآية


قال ابن الخطيب: معناه إن تركوا مثل هذا الإيمان فقد التزموا المناقضة، والعاقل لا يلتزم المناقضة ألبتة، فحيث التزموها علمنا أنه ليس غرضهم طَلَب الدين، والانقياد للحق، وإنما غرضهم المنازعة، وإظهار العداوة.
قال ابن عباس وعطاء رَضِيَ اللهُ عَنْهما «فإنما هم في شِقَاقٍ» أي: في خلاف منذ فارقوا الحقّ، وتمسّكوا بالباطل، فصاروا مخالفين لله.
وقال أبو عبيدة ومقاتل: «في شِقَاقٍ»، أي: في ضلال.
وقال ابن زيد: في منازعة ومُحَاربة.
وقال الحسن: في عداوة.
قال القاضي: ولا يكاد يقال في المُعَاداة على وجه الحق، أو المخالفة التي لا تكون معصية: إنه شقاق، وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنته وفي استحقاق النَّار، فصار هذا القول وعيداً منه تعالى لهم، وصارَ وَصْفُهُمْ بذلك دليلالآ على أنهم معادون للرسول، مضمرون له السوء مترصّدون لإيقاعه في المِحَنِ، فعند هذا آمنه الله تعالى ت من كيدهم، وآمن المؤمنين من شرّهم ومكرهم، [فقال: «سَيَكْفِيكَهُمْ اللهُ» تقوية لقلبه وقلوب المؤمنين].
و «الفاء» في قوله: «فَسَيْكَفِيْكَهُمْ» تشعر بتعقيب الكفاية عقب شقاقهم، وجيء ب «السين» دون «سوف» ؛ لأنها أقرب منها زماناً بوضعها، ولا بد من حذف مضاف أي:
524
فسيكفيك شقاقهم؛ لأن الذوات لا تكفى إنما تكفى أفعالها، والمكفي به محذوف، أي: بمن يهديه الله، أو بتفريق كلمتهم.
[ولقد كفى بإجلاء بني النضير، وقتل بني قريظة، وبني قينقاع، وضرب الجزية على اليهود والنصارى].
قوله: ﴿وَهُوَ السميع العليم﴾ أي: السميع لأقوالهم، العليم لأحوالهم.
وقيل: السميع لدعائك العليم بنيتك، فهو يستجيب لك ويصولك لمرادك. [وروي أن عثمان رضي الله تعالى عنه كان يقرأ في المصحف، فقتل فقطرت نقطة من دمه على قوله تعالى «سَيَكْفِيكَهُمْ اللهُ».
كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم وبجل وعظم، قد أخبره بذلك].
والكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان؛ ويجوز في غير القرآن الكريم: «فسيكفيك».

فصل في الكلام على سمع الله وعلمه


واحتجوا بقوله تعال: ﴿وَهُوَ السميع العليم﴾ على أنه سمعه تعالى زائد على علمه بالمسموعات، وإلا يلزم التكرار، وهو غير جائز، فوجب أن يكون صفة كونه تعالى سميعاً أمراً زائداً على وصفه بكونه عاليماً.
525
قرأ الجمهور «صيغة» بالنصب.
وقال الطبري رَحِمَهُ اللهُ: من قرأ: «ملّةُ إبراهيم» بالرفع قرأ «صبغة» بالرفع وقد تقدم أنها قراءة ابن هرمز، وابن أبي عبلة.
فاما قراءة الجمهور ففيها أربعة أوجه:
أحدها: أن انتصابها انتصاب المصدر المؤكد، وهذا اختاره الزمخشري، وقال: «هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حَذَام انتهى قوله.
525
واختلف حينئذ عن ماذا انْتَصَبَ هذا المصدر؟
فقيل: عن قوله:» قولوا: آمنا «.
وقيل عن قوله:»
ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ «.
وقيلك عن قوله:»
فَقَد اهْتَدُوا «.
الثاني: أن انتصابها على الإغراء أي: الزموا صبغة الله.
وقال أبو حيان وهذا ينافره آخر الآية، وهو قوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾ [فإنه خبر والأمر ينافي الخبر] إلا أن يقدر هنا قول، وهو تقدير لا حاجة إليه، ولا دليل من الكلام عليه.
الثالث: أنها بدل من»
ملة «وهذا ضعفيف؛ إذ قد وقع الفصل بينهما يجمل كثيرة.
الرابع: انتصابها بإضمار فعل أي: اتبعوا صِبْغَةَ الله، ذكر ذلك أبو البقاء مع وجه الإغراء، وهو في الحقيقة ليس زائداً فإنَّ الإغراء ايضاً هو نصب بإضمار فعل.
قال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ: هي أي الصبغة من»
صَبَغَ «كالجِلْسَة من» جَلَس «، وهي الحالة التي يقع عليها الصَّبْغُ، والمعنى: تطهير الله؛ لأن الإيمان يطهر النُّفُوس.

فصل في الكلام على الصّبغ


الصّبغ ما يلون به الثياب ويقال: صبغ الثوب يصبغُهُ بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات صبغاً بفتح الصاد وكسرها.
و»
الصِّبْغة «فعلة من صبغ كالجِلْسَة من جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ.
ثم اختلفوا في المراد بصبغة الله على أقوال:
الأول: أنه دين الله، وذكروا في تسمية دين الله بالصبغة وجوهاً.
أحدها: أن بعض لنصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون: هو تطهير لهم. وإذا فعل الواحد بولده ذلك قال: الآن صار نصرانياً فأمر المسملون أن يقولوا: آمنا وصبغنا الله صِبْغة لا مثل صِبْغتكم، وإنما جيء بفلظ الصِّبغة على طريق المُشَاكلة كما توقول لمن يغرس الأشجار: [اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلاً يصطنع الكرم.
والسبب في إطلاق لفظ الصبغة على الدين طريقة المُشَاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار وأنت تريد أن تأمره بالكرم] : اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلاً مواظباً على الكرم.
526
ونظيره قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٤١٥]، ﴿يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢]، ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله﴾ [آل عمران: ٥٤]، ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠]، ﴿إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ﴾ [هود: ٣٨].
وثانيها: اليهود تصبغ أولادها يهوداً، والنصارى تصبغ أولادها نصارى بمعنى يلقونهم، فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قُلُوبهم.
عن قتادة قال ابن الأنباري رَحِمَهُ اللهُ يقال: فلان يصبغ فلاناً في الشيء، أي: يدخله فيه، ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازماً للثوب. وأنشد ثعلب: [الطويل]
٨١٧ - دَعِ الشَّرَّ وانْزِلْ بالنَّجَاةِ تَحَرُّزاً إِذا أنْتَ لَمْ يَصْبَغْكَ بِالشّرْعِ صَابِغُ
وثالثها: سمي الدين صبغة؛ لأن هيئته تظهر بالمشاهدة من أثر الطَّهَارة والصلاة قال الله تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود﴾ [الفتح: ٢٩].
[وقال مجاهد والحسن وأبو العالية وقتادجة رضي الله تعالى عنهمك أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم فيما يسمونه المعمودية، وصبغوه بذلك ليطهروه به، كأنه الخِتَان، لأن الختان تطهير، فلما فعلوا ذلك قالوا: الآن قد صار نصرانياً حقًّا، فرد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً﴾ وهي الإسلام فسمى الإسلام صبغة استعارة ومجازاً من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.
قال بعض شعراء ملوك «همدان» :[المتقارب]
٨١٨ - وَكُلُّ أُنَاسٍ لَهُمْ صِبْغةٌ وَصِبْغَةُ هَمْدَانَ خَيْرُ الصِّبَغْ
صَبَغْتنَا عَلَى ذَاكَ أَبْنَاءَنَا فَأَكْرِمْ بِصِبْغَتِنَا في الصِّبَغْ]
ورابعها: قال القاضي: قوله: «صِبْغَةَ اللهِ» متعلّق بقوله: ﴿قولوا آمَنَّا بالله﴾ [البقرة: ١٣٦] إلى قوله: «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» فوصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله تَعَالى؛ ليبيّن أن المُبَاينة بين هذا الدين الذي اختاره الله، بين الدِّين الذي اختاره المبطل ظاهرة جلية، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحسّ السليم.
القول الثاني: أن صبغة الله فطرته، وهو كقوله: ﴿فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله﴾ [الروم: ٣٠].
527
ومعنى هذا الوجه أن الإنسان موسوم في تركيبه وبِنْيَتِهِ بالعَجْزِ والفَاقَة، والآثار الشاهدة عليه بالحدوث والافتقار إلى الخالق، فهذه الآثار كالصبغة له وكالسِّمَة اللاَّزمة.
[قال القاضي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: من حمل قوله تعالى: «صبغة الله» على الفطرة فهو مقارب في المعنى لقول من يقول: هو دين الله؛ لأن الفطرة التي أمروا بها هو الدين الذي تقتضيه الأدلّة من عَقْل وشرع، وهو الدين أيضاً الذي ألزمكم الله تعالى التمسّك به، فالنفع به سيظهر دُنيا ودين، كالظهور حُسْن الصبغة، وإذا حمل الكلام على ما ذكرنا، لم يكن لقول من يقول إنما قال ذلك لعادة جارية لليهود والنصارى، وفي صبغ يستعملونه في أولادهم معنى؛ لأن الكلام إذا استقام على أحسن الوجوه بدونه، فلا فائدة فيه].
القول الثالث: أن صبغة الله هي الختان، الذي هو تطهير، أي كما أن المخصوص الذي للنصارى تظهير لهم، فكذلك الختان تظهير للمسلمين قاله أبو العالية.
القول الرابع: قال الأصم رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أنه حجة الله.
القول الخامس: قال أبو عبيدة رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إنه سُنة الله
وأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين:
أحدهما: أنها خبر مبتدأ محذوف أي: ذلك الإيمان صبغة الله.
والثاني: أن تكون بدلاً من «ملَّة» ؛ لأن من رفع «صبغة» رفع «ملة» كما تقدم فتكون بدلاً منها كما قيل بذلك في قراءة النصب.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وقيل: الصِّبْغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلاَم، بدلاً من مَعْمُودية النصارى، ذكر ذلك الماوردي رَحِمَهُ اللهُ تعالى. وعلى هذا التأويل يكون غسل الكافر واجباً، وبهذا المعنى جاءت السُّنة الثابتة في قيس بن عاصم وثمامة بن أثال حين اسلما.
وقيل: «وَمَنْ أَحْسَنُ» مبتدأ وخبر، وهذا استفهام معناه النفي أي: لا أحد، و «أحسن» هنا فيها احتمالان:
أحدهما: أنها ليست للتفضيل؛ إذ صبغة غير الله منتف عنها الحسن.
والثاني: أن يراد التفضيل باعتبار من يظنّ أن في «صبغة» غير الله حسناً لا أن ذلك بالنسبة غلى حقيقة الشيء.
و «من الله» متعلق بأحسن، فهو في محل نصب.
و «صبغة» نصب على التمييز من أحسن، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ
528
والتقدير: ومن أحسن من صبغة الله، فالتفضيل إنما يجري بين الصّبغتين لا بين الصَّابغين. [وهذا غريب معنى، وغني عن القول كون التمييز منقولاً عن المبتدأ].
قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾ جلمة من مبتدأ خبر معطوف على قوله: «قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ» فهي في محلّ نصب بالقول.
قال الزمخشري: وهذا العطف يرد قول من زعم أن «صبغة الله» بدل من «ملّة»، أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الهل لما فيه من فكّ النظم، وإخراج الكلام عن الْتِئَامِهِ واتساقه.
قال أبو حيان: وتقديره في الإغراء: علكيم صبغة ليس بجيد؛ لأن الإغراء إذا كان بالظروف والمجرورات لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدّرناه: ب «الزمموا صبغة الله» انتهى. كأنه لضعف العمل بالظّروف والمجرورات ضعف حذفها وإبقاء عملها.
529
الاستفهام في قوله: «أَتُحَاجُّونَنَا» للإنكار والتوبيخ.
والجمهور: «أتحاجوننا» بنونين الأولى للرفع، والثانية نون «ن».
وقرأ زيد والحسن والأعمش رحمهم الله بالإدغام.
وأجاز بعضهم حذف النون الأولى.
فأما قراءة الجمهور فواضحة.
وأما قراءة الإدغام فلاجتماع مثلين، وسوغ الإدغام وجود حرف المد وللين قبله القائم مقام الحركة.
وأما من حذف فبالحمل على نون الوقاية كقراءة: ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر: ٥٤] ؛ وقوله [الوافر]
529
يريد «فَليْنَنِي»، وهذه الآية مثل قوله: ﴿أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ﴾ [الزمر: ٦٤]، فإنه قرئت بالأوجه الثلاثة: الفَكِّ والإدغام والحذف، ولكن في المتواتر.
وها لم يُقْرأ في المشهور كما تقدَّم إلا بالفكّ.
ومَحَلُّ هذه الجملة النصب بالقول قبلها.
والضمير في «قل» يَحْتَمِلُ أن يكون للنبي عليه الصلاة والسَّلام أو لكلّ من يصلح للخطاب، والضمير المرفوع في: «أتحاجُّوننا» اليهود والنصارى، أو لمشركي العرب أو للكلّ.
و «المحاجّة» مفالعة من حَجَّة يَحُجُّهُ.

فصل في حرير معنى المحاجّة


اختلفوا في تلك المحاجة: فقيل: هي قولهم: إنهم أولى بالحق والنبوة لتقدم النبوة فيهم، والمعنى: أتجادلوننا في أن الله اصطفى رسوله من العرب لأمتكم، وتقولونك لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم، وترونكم أحق بالنبوة منا.
وقيل: هي قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] وقوله: ﴿لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١١١]، وقولهم: ﴿كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ﴾ [البقرة: ١٣٥] قاله الحسن رَضِيَ اللهُ عَنْه.
وقيل: ﴿أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللهِ﴾ أي: أتجادلوننا في دين الله.
وقوله: «في الله» لا بد من حذف مضاف أي: في شأن الله، أو دين الله.
قوله: «وَهُوَ رَبُّنَا» مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال، وكذا ما عطف عليه من قوله: «وَلَنَا أعمالنا» ولا بد من حذف مضاف أي: جزاء أعمالنا، ولكم جزاء أعمالكم.

فصل


قوله: ﴿وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ فيه وجهان:
الأول: أنه أعلم بتدبير خلقه، وبمن يصلح للرسالة، وبمن لا يصلح لها، فلا تعتضوا على ربكم، فإنّ العبد لس له أن يعترض على ربه، بل يجب عليه تفويض الأمر إليه.
الثاني: أنه لا نسبة لكم إلى الله تعالى إلى بالعبودية وهذه النسبة مشتركة بيننا وبينكم، فلم ترجّحون أنفسكم علينا، بل الترجيح من جانبنا؛ لأنا مخلصون في العبودية، ولستم كذلك، وهذا التأويل أقرب.
قوله تعالى: ﴿وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ المراد منه النَّصيحة في الدين، كأنه تعالى قال لنبيه: قل لهم هذا القول على وجه الشَّفقة والنصيحة، اي: لا يرجع إليَّ من أفعالكم
530
القبيحة ضرر حتى يكون المقصود من هذا القول دفع ذلك الضرر، وإنما المراد [نصحكم] وإرشادكم إلى الأصلح.
531
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: وجمع إسحاق: أساحيق.
وحكى الكوفيون: أساحقة، وأساحق؛ وكذا يعقوب ويعاقيب ويعاقبة ويعاقب.
قال النحاس رَحِمَهُ اللهُ: فأما إسرائيل فلا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوّله، وإنما يقال: «أساريل».
وحكى الكوفيون «اسارلة»، و «أسارل». والباب في هذا كله أن يجمع مسَّماً فيقال: «إبراهيمون»، و «إسحاقون»، و «يعقوبون»، والمسلَّم لا عمل فيه.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى وقوله تعالىك «أَمْ تَقُولُونَ» : قرأ حمزة، والكسائي، وحفص، وابن عامر بتاء الخطاب، والباقون بالياء.
فأما قراءة الخطاب، فتحتمل «أم» فيها وجهين:
أحدهما: أن تكون المتّصلة، والتعادل بين هذه الجملة وبين قوله: «أَتُحَاجُّونَنَا» فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين: المُحَاجَّة في الله، أو ادعاء على إبراهيم، ومن ذكر معه اليهودية والنصرانية، وهو استفهام إنكار وتوبيخ كما تقدم، فإنّ كلا الأمرين باطلٌ.
قال ابن الخَطِيبِ: إن كانت متّصلة تقديره: بأي الحُجّتين تتعلّقون في أمرنا؟
أَبِالتَّوْحِيدِ فنحن موحدون، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متّبعون؟
والثاني: أن تكون المنقطعة، فتتقدر ب «بل» والهمزة على ما تقدر في المنقطعة على أصح المذاهب.
والتقدير: بل أتقولون؟
والاستفهام للإنكار والتوبيخ أيضاً فيكون قد انتقل عن قوله: أتحاجوننا وأخذ في الاستفهام عن قضية أخرى، والمعنى على إنكار نسبة اليهودية والنصرانية إلى إبراهيم ومن ذكرمعه، [كأنه قيل: أتقولون: إن الأنبياء علليه السلام كانوا قبل نزول التوراة والإنجيل هوداً أو نصارى].
531
وأما قراءة الغيبة فالظاهر أن «أم» فيها منقطعة على المعنى المتقدم، وحكى الطبري عن بعض النحويين أنها متّصلة؛ لأنك إذا قلت: أتقوم أم يقوم عمرو؛ أيكون هذا أم هذا، أورد ابن عطية هذا الوجه فقال: هذا المثال غير جيّد؛ لأن القائل غير واحد، والمخاطب واحد، والقول في الآية من اثنين، والمخاطب اثنان غيران، وإما تتّجه معادلة «أم» للألف على الحكم المعنوى، كأن معنى قل: أتحاجوننا: «أيحاجون يا محمد أم تقولون».
وقال الزمخشري: وفيمن قرأ بالياء لا تكون إلاَّ منطقعة.
قال أبو حيان رَحِمَهُ اللهُ تعالى: ويمكن الاتصال مع قراءة الياء، ويكون ذلك من الالتفات إذا صار فيه خروج من خطاب إلى غيبة، والضمير لناس مخصوصين.
وقال ابو البقاء: أم تقولون يقرأ بالياء ردًّا على قوله: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ»، فجعل هذه الجملة متعلّقة بقوله: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ»، وحينئذ لا تكون إلا منقطعة لما عرفت أن من شرط المتصلة تقدم همزة استفهام أو تسوية مع أن المعنى ليس على أن الانتقال من قوله: «فسيكفيكهم» إلى قوله: «أم يقولون» حتى يجعله ردّاً عليه، وهو بعيد عنه لفظاً ومعنى.
وقال أبو حيان: الأحسن في القراءتين أن تكون «أم» منقعطة، وكأنه أنكر عليهم محاجتهم في الله، وسبة أنبيائه لليهودية والنصرانية، وقد وقع منهم ما أنكر عليهم ألا ترى إلى قوله: ﴿ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٦٥] الآيات.
وإذا جعلناها متصلة كان ذلك غير متضمن وقوع الجملتين، بل إحداهما، وصار السؤال عن تعيين إحداهما، وليس الأمر كذلك إذ وقعا معاً.
وهذا الذي قاله الشيخ حَسَن جداً.
و «أو» في قوله: «هُوداً أو نصارى» كهي في قوله: ﴿لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١١١] وقد تقدم تحقيقه.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله﴾.
معناه: أن الله أعلم، وَخَبره أصدق، وقد أخبر في التوراة والإنجيل، وفي القرآن على لسان محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه كانوا مسلمين مبرئي عن اليهودية والنصرانية.
فإن قيل: إنما يقال هذا فيمن لا يعلمن وهم علموه وكتموه، فكيف يصح الكلام؟
فالجواب: من قال «إنهم كانوا على ظَنّ وتوهم، فالكلام ظاهر، ومن قال: علموا وجحدوا، فمعناه: أن منزلتكم منزلة المعترضين على ما يعلم أن الله أخبر به، فلا ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله تعالى أعلم.
532
[و» أم «في قوله تعالى:» أم الله «متصلهة، والجلالة، عطف على» أنتم «، ولكنه فصل بي المتعاطفين بالمسؤول عنه، وهو أحسن الاستعمالات الثلاثة؛ وذلك أنه يجوز في مثل هذا التركيب ثثة أوجه: تقدم المسؤول عنه نحو قوله:» أأعلم أم الله «، وتوسطه نحو» أأنتم أعلم أم الله «، وتأخيره نحو: أأنتم أم الله أعلم.
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى:»
أم الله «مبتدأ، والخبر محذوفل أي: أم الله أعلم، و» أم «هنا متصلة، أي: ربكم أعلم، وفيه نظر؛ لأنه إذا قدر له خبراً صناعياً صار جملة، و» أم «المتصلة لا تعطف الجمل، بل المفرد وما فيها معناه. وليس قول أبي البقاء بتفسير معنى، فيغتفر له ذلك، بل تفسير إعراب، والتفصيل في قوله:» أعلم «على سبيل الاستهزاء، وعلى تقدير أن يظن بهم علم، فيكون من الجهلة، وإلا فلا مشاركة، ونظيره قول حسان: [الوافر]
٨١٩ - تَرَاهُ كَالثَّغَامِ يُعَلُّ مِسْكاً يَسُوءُ الفَالِيَاتِ إذَا فَلَيْنِي
أَتهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ شَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الفِدَاءُ
وقد علم أن الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ خير الكل].
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله﴾.
في»
من «من قوله:» مِنَ اللهِ «أربعة أوجه:
أحدها: أنها متعلقة ب»
كنتم «، وذلك على حذف مضاف أي: كتم من عباد الله شهادة عنده.
الثاني: أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة لشهادة بعد صفة؛ لأن «عنده»
صفة لشهادة، وهو ظاهر قول الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ، فإنه قال: و «من» في قوله: «شَهَادَةً مِنَ اللهِ» مثلها في قولك: «هذه شهادة مني لفلان» إذا شهدت له، ومثله: ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة: ١].
الثالث: أنها في محلّ نصب على الحال من المضمر في «عنده» يعني: من الضمير المرفوع بالظَّرف لوقوعه صفة، ذكره أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
الرابع: أن يتعلّق بذلك المحذوف الذي تعلق به الظرف، وهو «عنده» لوقوعه صفة، والفرق بينه وبين الوجه الثاني أن ذلك له عامل مستقل غير العامل في الظرف.
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تعلق «من» بشهادة لئلاً يفصل بين الصلة والموصول بالصفة يعني: أن «شهادة» مصدر مؤول بحرف مصدري وفعل، فلو عَلّقت «مِنْ» بها لكنت قد فصلت بين ما هو في معنى الموصول، وبين أبعاض الصّلة بأجنبي، وهو الظرف الواقع صفة لشهادة.
533
وفيه نظر من وجهين:
أحدهما: لا نسلم أن «شهادة» ينحل إلى الموصول وصلته فإن كل مصدر لا ينحل لهما.
والثاني: سلمنا ذلك، ولكن لا نسلم والحالة هذه أن الظرف صفة، بل هو معمول لها، فيكون بعض الصلة أجنبياً حتى يلزم الفصل به بين الموصول وصلته، وإنما كان طريق منع هذا بغير ما ذكر، وهو أن المعنى يأبى ذلك.
و «كتم» يتعدّى لا ثنين، فأولهما في الآية الكريمة محذوف تقديره: كنتم النَّاس شهادةً، والأحسن من هذه الوجوه أن تكون «من الله» صفة لشهادة أو متعلّقة بعامل الظرف لا متعلقة ب «كنتم»، وذلك أن كتمان الشهادة مع كونها مستدعة من الله عنده ابلغ في الأظلمية من كتمان شهادة مطلقة من عبادة الله.
وقال في «ري الظمآن» : في الآية التقديم وتأخير، والتقدير: ومن أظلم من الله ممن كتم شهادة حصلت له كقولك: «ومن أظلم من زيد من جملة الكلمتين للشهادة»، والمعنى: لو كان إبراهيم وبنوه يهوداً أو نصارى، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه، لكن لما استحال ذلك مع عدلهن وتنزيهه عن الكذب علمنا أن الأمر ليس كذلك.
قال ابو حيان: وهذا متكلّف جدّاً من حيث التركيب، ومن حيث المدلول. أما التركيب فإن التقديم والتأخير من الضَّرائر عند الجمهور.
وأيضاً فيبقى قوله: «مِمَّنْ كَتَمَ» متعلقاً: إما ب «أظلم»، فيكون ذلك على طريق البدلية، ويكون إذ ذلك بدل عام من خاص، وليس بثابت، وإن كان بعضهم زعم وروده، لكن الجمهور تأولوه بوضع العامّ موضع الخاص، أو تكون «من» متعلقة بمحذوف، فتكون في موضع الحال، أي: كائناً من الكاتمين.
وإمّا من حيث المدلول، فإن ثبوت الأظلمية لمن جُرَّ ب «من» يكون على تقدير، أي: إن كتمها فلا أحد أظلم منه، وهذا كله معنى لا يليق به تعالى وينزه كتابه عنه.
قوله تعالى: « ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ وعيد وإعلام بأنه لم يترك أمرهم سُدى، وأنه يجازيهم على أعمالهم.
والغافل الذي لا يفطن إلى الأمور إهمالاً منه؛ مأخوذ من الأرض الغُفْل، وهي التي لا عَلَم لها ولا أثر عمارة.
وناقة غُفْلك لا سِمَة بها.
ورجل غُفْلك لم يجرب الأمور. وقال الكسائي:»
أرض غُفْل لم تمطر «، غفلت عن الشيء غَفْلَةً وغُفُولَةً، وأغفلت الشيءك تركته على ما ذكر منك.
534
فإن قيل: ما الحكمة في عدوله عن قوله:» وَاللهُ عَلِيمٌ «إلى» وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ «.
فالجواب: أن نفي النقائص وسلبها عن صفاتا لله تعالى أكمل من ذكر الصفات مجردة عن ذكر نفي نقيضها، فإن النقيض يستلزم إثبات النقيض وزيادة، والإثبات لا يستلزم نفي النقيض؛ لأن العليم قد يفضل عن النقيض، فلما قال الله تعالى:»
وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ «دلّ ذلك على أنه عالم، وعلى أنه غير غافل، وذلك أبلغ في الزجر المقصود من الآية.
فإن قيل: قد قال تعالى في موضع آخر: ﴿والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [يوسف: ١٩].
فالجواب: أن ذلك سيق لمجرد الإعلام بالقصّة لا للزجر، بخلاف هذه الآية، فإن المقصود بها الزجر والتهديد.
535
اعلم أن الله تعالى لما حاجّ اليهود في هؤلاء الأنبياء عقبه بهذه الآية ليكون وعظاً لهم، وزجراً حتى لايتّكلوا على فضل الآباءن فكلّ واحد يؤخذ بعمله.
وأيضاً أنه تعالى لما ذكر حسن طريقة الأنبياء الذين ذكرهم في هذه الآيات بين أن الدليل لا يتم بذلك، بل كل إنسان مسؤول عن عمله، ولا عذر له في ترك الحق بأن يتوهم أنه متمسّك بطريقة من تقدم؛ لأنهم أصابوا أو أخطئوا لا ينفع هؤلاء ولا يضرهم لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد.
فإن قيل: لم كررت هذه الآية؟
فالجواب من وجهين:
الأول: قال الجُبَّائي: إنه عني بالآية الأولى إبراهيم، ومن ذكر معه، والثانية أسلاف اليهود.
قال القاضي: هذا بعيد؛ لأن أسلاف اليهود والنصارى لم يَجْرِ لهم ذلك مصرح، وموضع الشبهة في هذا القول أن القوم لما قالوا في إبراهيم وبينه: إنهم كانوا هوداً، فكأنهم قالوا: إنهم كانوا على مثل طريقة أسلافنا من اليهود، فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يقول: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ ويعنيهم ولكن ذلك كالتعسُّف، بل المذكور السابق هو إبراهيم وبنوه، فقوله: «تلك أمة» يجب أن يكون عائداً إليهم.
الوجه الثاني: أنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن لم يكن التَّكْرار عبثاً، فكأنه تعالى قال: ما هذا إلا بشر، فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين لا يسوغ التقليد في هذا [الجنس]، فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة، فلها ما كسبت،
535
وانظروا فيما دعاكم إليه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإن ذلك أنفع لكم، وأعود عليكم، ولا تُسألون إلا عن عملكم.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: كررها، لأها تضمّنت معنى التهديد والتخويف، أي: إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم، فأنتم أحرى، فوجب التأكيد فذلك كررها.
536
قوله: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ﴾ فيه قولان:
أحدهما: وهو اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهراً، لكنه قد يستعمل في الماضي أيضاً كالرجل يعمل عملاً، فيطعن فيه بعض أعدائه، فيقول: أنا أعلم أنهم [سيطعنون عليَّ فيما فعلت، ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد]، فإذا ذكروه مَرَّة، فسيذكرونه بعد ذلك مرات، فصحّ على هذا التأويل أن يقال: سيقول السُّفهاء من الناس ذلك، وقد وردت الأخبار أنهم لما قالوا ذلك [نزلت الآية].
[قال القرطبي: «سيقول» بمعنى: قال؛ جعل المستقبل موضع الماضي، دلالة على استدامة ذلك] وأنهم يستمرون على ذلك القول.
و «السفهاء» جمع، واحده سفيه، وهو الخفيف العقل، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج وقد تقدم.
والنساء سفائه. وقال المؤرج: السَّفيه: البهات الكاذب المتعمد خلاف ما يعلم.
وقال قُطْرب: الظلوم الجهول.
القول الثاني: أن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد.
أحدها: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه، كان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً.
وثانيها: أنه - تعالى - إذا أخبر عن ذلك أولاً، ثم سمعه منهم، فإنه يكون تأذيه من هذا الكلام أقلّ مما إذا سمعه فيهم أولاً.
وثالثها: أن الله - تعالى - إذا أسمعه ذلك أولاً، ثم ذكر جوابه معه، فحين يسمعه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - منهم يكون الجواب حاضراً، كان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضراً.
3

فصل في الكلام على السفيه


تقدم الكلام على السَّفه في قوله: ﴿كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء﴾ وبالجملة فإن السفيه من لا يميّز ما له وما عليه، فيعدل عن طريق ما ينفعه إلى ما يضره، يوصف بالخفّة والسفه، ولا شك أن الخطأ في باب الدين أعظم معرّة منه في باب الدنيا، [فإذا كان العادل عن الرأي واضحاً في أمر دنياه يعدّ سفيهاً، فمن يكون كذلك في أمر دينه كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلا وهو سفيه، فهذا اللفظ] يمكن حمله على اليهود، وعلى المشركين، وعلى المنافقين وعلى جملتهم، وذهب إلى كلّ واحد من هذه الوجوه قوم من المفسرين.
قال ابن عباس ومجاهد: هم اليهود، وذلك لأنهم كانوا يأتسون بموافقة الرسول لهم في القِبْلة، وكانوا يظنون أن موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقاً لهم بالكلية، فلما تحول عن ترك القبلة اغْتَمُّوا وقالوا: قد عاد إلى طريقة آبائه ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة، فنزلت هذه الآية.
قال ابن عباس والبراء بن عازب والحسن والأصم رَضِيَ اللهُ عَنْهم: إنهم مشركو العرب، [وذلك لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان متوجهاً إلى «بيت المقدس» حين كان ب «بمكة» والمشركون] كانوا يتأذون منه بسبب ذلك، فلما جاء إلى «المدينة» وتحول إلى الكعبة قالوا: رجع إلى موافقتنا، ولو ثبت عليه لكان أولى به.
وقال السدي: هم المنافقون إنما ذكروا ذلك استهزاء من حيث لا يتميز بعض الجهات عن بعض بخاصية معقولة تقتضي تحويل القبلة إليها، فكان هذا التحويل مجرد العبث، والعمل بالرأي والشهوة، وإنما حملنا لفظ السفهاء على المنافقين، لأن هذا الاسم مختص بهم، قال الله تعالى: ﴿ألاا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٣].
وقيل: يدخل فيه الكل؛ لأن لفظ السفهاء لفظ عموم، ودخل فيه الألف واللام، وقد بَيّنا صلاحيته لكلّ الكفار بحسب الدليل العقلي، والنص أيضاً يدلّ عليه، وهو قوله: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠].
[فإن قيل: المقصود من الآية بيان وقوع هذا الكلام منهم في الجملة، وإن كان كذلك لم يكن ادعاء العموم فيه بعيداً.
4
قلنا: هذا القدر لا ينافي العموم، ولا يقتضي تخصيصه؛ بل الأقرب أن يكون الكل قد قالوا ذلك؛ لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن، فإذا وجدوا مجالاً لم يتركوا مقالاً].
قوله تعالى: ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ في محلّ نصب على الحال من «السفهاء» والعامل فيها «سيقول»، وهي حال مبينة، فإن السَّفه كما يوصف به الناس يوصف به غيرهم من الجماد والحيوان، وكما ينسب القول إليهم حقيقة ينسب لغيرهم مجازاً، فرفع المجاز بقوله: «مِنَ النَّاسِ» ذكره ابن عطية وغيره.
قوله: ﴿ما وَلاّهُمْ﴾ «ما» مبتدأ، وهي استفهامية على وجه الاستهزاء والتعجب، والجملة بعدها خبر عنها و ﴿عن قبلتهم﴾ متعلّق ب «ولاّهم»، ولا بد من حذف مضاف في قوله: «عليها» أي: على توجهها، أو اعتقادها، وجملة الاستفهام في محلّ نصب بالقول والاستعلاء في قوله: «عليها» مجاز، نزَّل مواظبتهم على المُحَافظة عليها منزلة من اسْتَعْلَى على الشيء، والله أعلم.

فصل في الكلام على التولّي


وَلاَّه عنه: صرفه عنه، وولى إليه بخلاف ولّى عنه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ [الأنفال: ١٦] وفي هذا التولّي قولان:
المشهور عند المفسرين: أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة عاب الكفار المسلمين، فقالوا: ﴿مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ﴾ فالضَّمير في قوله: ﴿مَا وَلاَّهُمْ﴾ للرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والمؤمنين والقبلة التي كانوا عليها هي «بيت المقدس».
واختلفوا في تاريخ تحويل القِبْلَة بعد ذهابه إلى «المدينة» فقال أنس بن مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْه - بعد تسعة أشهر أو عشرة أشهر وقال معاذ: بعد ثلاثة عشر شهراً، وقال قتادة: بعد ستة عشر شهراً.
وعن ابن عباس والبراء بن عازب بعد سبعة عشر شهراً، [وهذا القول أثبت عندنا من سائر الأقوال.
5
وعن بعضهم ثمانية عشر شهراً] من مقدمه.
وقال الواقدي: صرفت القِبْلَة يوم الاثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً.
وقال آخرون: بل سنتان.
القول الثاني: قول أبي مسلم وهو أنه لما صح الخبرُ بأن الله - تعالى - حوّلها إلى الكعبة وجب القول به، ولولا ذلك لاحتمل لفظ الآية أن يراد بقوله: ﴿كَانُوا عَلَيْهَا﴾، أي: السفهاء كانوا عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قِبْلَة اليهود والنصارى، فقبلة اليهود إلى العرب؛ لأن النداء لموسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ جاء فيه وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي﴾ [القصص: ٤٤]، ولأنه مكان غروب الشمس والكواكب، وذلك شبه الخروج من الدنيا والعبور إلى الآخرة، وهو وقت هُمُود الناس الذي هو الموت الأصغر، واستقبلوا المغرب لشبهه بوقت القدوم على الله تعالى، والنَّصَارى إلى المشرق؛ لأن جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنما ذهب إلى مريم في جانب المَشرق، لقوله تعالى: ﴿إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً﴾ [مريم: ١٦] ؛ لأن المشرق مكان إشراق الأنوار، ومنه تشرق الكواكب بأنوارها، فهو مشتبه بحياة العالم فاستقبلوه؛ لأن منه مبتدأ حياة العالم، والعرب ما جرت عادتهم بالصلاة حتى يتوجّهوا إلى شيء من الجهات، فلما رأوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ متوجهاً إلى الكعبة استنكروا ذلك، فقالوا: كيف يتوجه أحد إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين، فقال تبارك وتعالى رداً عليهم: ﴿قُلْ: لِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ﴾.
قال ابن الخطيب: «ولولا الروايات الظاهرة لكان هذا القول محتملاً والله أعلم».

فصل في تحرير معنى القبلة


القبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان، وهي من المقابلة، وإنما سميت القبلة قبلةً؛ لأن المصلي يقابلها وتقابله.
وقال قطرب: يقولون في كلامهم: ليس لفلان قبلة أي: ليس له جهة يأوي إليها، وهو أيضاً مأخوذ من الاستقبال.
وقال غيره: إذ تقابل الرجلان، فكلّ واحد منهما قبلة للآخر. [قال القرطبي: وجمع القبلة في التكسير قبل، وفي التسليم قبلات، ويجوز أن يبدل من الكسرة فتحة، وتقول: قبلات، ويجوز أن تحذف الكسرة، وتسكن الباء].

فصل في بعض شبه اليهود والنصارى


قال ابن الخطيب: هذه شبهة من شبه اليهود والنصارى التي طعنوا بها في الإسلام،
6
فقالوا: النسخ يقتضي: إما الجهل أو التجهيل، وكلاهما لا يليق بالحكيم، وذلك لأن الأمر إما أن يكون خالياً عن القَيْدِ، وإما أن يكون مقيداً بلا دوام [وإما أن يكون مقيداً بقيد الدوام، فإن كان خالياً عن القيد لم يقتضِ الفعل إلا مرة واحدة، فلا يكون ورود الأمر بعد ذلك على خلافه ناسخاً له، وإن كان مقيداً بقيد الدوام، فإن كان الأمر يعتقد فيه أن يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدلّ على] أنه يبقى دائماً، ثم إنه رفعه بعد ذلك، فها هنا كان جاهلاً، ثم بدا له ذلك، [وإن كان عالماً بأنه لا يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدلّ على أن يبقى دائماً كان ذلك تجهيلاً] فثبت أن النسخ يقتضي: إما الجهل أو التجهيل، وهما مُحَالان على الله تعالى، فكان النسخ منه محالاً، [فالآتي بالنَّسْخ في أحكام الله - تعالى - يجب أن يكون مبطلاً]، فبهذا الطريق توصّلوا بالقدح في نسخ القبلة إلى الطعن في الإسلام، ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة، فقالوا: إنا إذا جوزنا النسخ إنما نجوزه عند اختلاف المصالح، وهنا الجهات متساوية في أنها لله - تعالى - ومخلوقة له وتغيير القبلة من [جانب إلى] جانب فعل خالٍ عن المصلحة فيكون عبثاً، والعَبَثُ لا يليق بالحكيم، فدل هذا على أن هذا التغيير ليس من الله تعالى، وقد أجاب الله - تعالى - على هذه الشبهة بقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّهِ المَشْرِق وَالمَغْرِبُ﴾.
وتقديره: أن الجهات كلها لله - عَزَّ وَجَلَّ - مُلْكاً ومِلْكاً، فلا يستحق منها شيء لذاته أن يكون قبلة، بل إنما تصير قبلة؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ جعلها قبلة، وإذا كان كذلك فلا اعتراض عليه بالتَّحويل من جهة إلى جهة؛ لأنه لا يجب تعليل أحكام الله تعالى وأفعاله على قول أهل السُّنة.
وأما على قول المعتزلة فلهم طريقان:
الأول: لا يمتنع اختلاف المصالح لحسب اختلاف الجهات، وبيانه من وجوه:
أحدها: أنه إذا رسخ في أوهام بعض الناس أن هذه الجهة أشرف من غيرها بسبب أن هذا البيت بناه الخليل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وعظّمه، كان هذا الإنسان عند استقباله أشد تعظيماً وخشوعاً، وذلك مصلحة مطلوبة.
وثانيها: أن الكعبة منشأ محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فتعظيم الكعبة يقتضي تعظيم محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وذلك أمر مطلوب [لأنه متى رسخ في قلوبهم تعظيمه كان قبولهم لأوامره ونواهيه أسهل وأسرع، والمفضي إلى المطلوب مطلوب].
7
وثالثها: أن الله - تعالى - بين ذلك في قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة: ١٤٣] فأمرهم الله - تعالى - حين كانوا ب «مكة» أن يتجهوا إلى «بيت المقدس» ليتميزوا عن المشركين، فلما هاجروا إلى «المدينة» وبها اليهود أمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا عن اليهود.
[ورابعها: أن في أفعاله حكماً، ثم إنها تارة تكون ظاهرة لنا، وتارة تكون مستورة خفية عنا، وتحويل القبلة يمكن أن يكون لمصالح خفية، وإذا كان كذلك استحال الطعن بهذا التحويل في الإسلام].

فصل في استقبال الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيت المقدس هل كان عن رأي واجتهاد أم لا؟


اختلفوا هل كان استقباله بيت المقدس عن رأي واجتهاد أم لا؟
فقال الحسن: كان عن رأي واجتهاد، وهو قول عكرمة وأبي العالية.
وقال القرطبي: كان مخيراً بينه وبين الكعبة، فاختار بيت المقدس طمعاً في إيمان اليهود واستمالتهم.
وقال الزجاج: امتحاناً للمشركين، لأنهم ألغوا الكعبة.
وقال ابن عباس: وجب عليه استقباله بأمر الله - تعالى - ووحيه لا مَحَالَةَ، ثم نسخ الله ذلك، وهو قول جمهور العلماء نقله القرطبي.

فصل


اختلفوا أيضاً حين فرضت عليه الصَّلاة أولاً ب «مكة»، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة؟ على قولين:
فقالت طائفة: إلى بيت المقدس وب «المدينة» سبعة عشر شهراً، ثم صرفه الله - تعالى - إلى الكعبة، قاله ابن عباس.
وقال آخرون: أول ما افترضت الصلاة إلى الكعبة، ولم يزل يصلّي إليها طول مقامه ب «مكة» على ما كان عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل، فلما قدم «المدينة» صلى إلى «بيت المقدس» ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً على الخلاف، ثم صرفه الله إلى «الكعبة».
قال ابن عمر: وهذا أصح القولين عندي.
قوله تعالى: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ تقدم الكلام على الهداية، قالت المعتزلة: إنما هي الدلالة الموصلة، والمعنى: أنّه - تعالى - يدلّ على ما هو للعبادة أصلح، والصراط المستقيم هو الذي يؤديهم - إذ تمسّكوا به - إلى الجنة.
8
قال أصحابنا: هذه الهداية: إما أن يكون المراد منها الدعوة، أو الدلالة، أو تحصيل العلم فيه، والأولان باطلان؛ لأنهما عامّان لجميع المكلفين، فوجب حمله على الوجه الثالث، وذلك يقتضي بأن الهداية والإضلال من الله تعالى.
9
الكاف في قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ» فيها الوجهان المَشْهُوران كما تقدم ذلك غير مَرَة: إما النصب على النعت، أو على الحال من المصدر المحذوف.
والتقدير: وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً جعلاً مثل ذلك، ولكن المشار إليه ب «ذلك» غير مذكور فيما تقدم، وإنما تقدم ام يدلّ عليه. واختلفوا في «ذلك» على خمسة أوجه:
أحدها: أن المشار إليه هو الهُدى المدلول عليه بقوله: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾.
والتقدير: جعلناكم أمة وسطاً مثل ما هديناكم.
الثاني: أنه الجعل، والتقدير: جعلناكم أمة وسطاً مثل ذلك الجَعْل القريب الذي فيه اختصاصكم بالهداية.
الثالث: قيل: المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسّطة جعلناكم أمة وسطاً.
الخامس - وهو أبعدها - أن المشار إليه قوله: ﴿وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا﴾ [البقرة: ١٣٠] أي: مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمة وسطاً.
[قال ابن الخطيب: ويحتمل عندي أن يكون التقدير: ولله المشرق والمغرب، فهذه الجهات بعد استوائها لكونها مِلْكاً لله تعالى، خصّ بعضها بمزيد الشرف والتكريم، بأن جعله قبلة فضلاً منه، وإحساناً؛ فكذا العباد كلهم يشتركون في العبودية إلا أنه خص هذه الأمة بمزيد الفضل والعبادة، فضلاً منه وإحساناً لا وجوباً.
وفيه وجه آخر: وهو أنه قد يذكر ضمير الشيء، وإن لم يكن المضمر مذكوراً إذا كان المضمر مشهوراً معروفاً، كقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾ [القدر: ١] لأن المعروف عند كل أحد أنه - سبحانه وتعالى - وهو القادر على إعزاز من يشاء من خلقه، وإذلال من يشاء، فقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ أي: ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم أمة وسطاً].
9
و «جعل» بمعنى صير، فيتعدّى لاثنين، فالضمير مفعول أول، و «أمة» مفعول ثاني ووسطاً نعته.
والوَسَط بالتحريك: اسم لما بين الطرفين، ويطلق على خيار الشيء؛ لأن الأوساط محميَّة بالأطراف؛ قال حَبِيبٌ: [البسيط].
٨٢١ - كَانَتْ هِيَ الوَسَطَ المَحْمِيَّ فَاكْتَنَفَتْ بِهَا الحَوَادِيُ حَتَّى أَصْبَحَتُ طَرَفَا
ووسط الوادي خير موضع فيه؛ قال زُهَيْر: [الطويل]
٨٢٨ - هُمُ وَسَطٌ تَرْضَى الأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ إذَا نَزَلَتْ إِحْدَى البَلاَياَ بِمُفْضَلِ
[وقال آخر: [الراجز].
٨٢٢ - كُنْ مِنَ النَّاسِ جَمِيعاً وَسَطَا]... وقال تعالى: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ [القلم: ٢٨] أي أعدلهم.
[وروى القفال عن الثورى عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وبجل وعظم وكرم «أمّة وَسَطاً» ؛ قال: «عَدْلاً».
وقال عليه صلوات الله وسلام: «خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا» ؛ أي: أعدلها. وقيل: كان النبي - صلوات الله وسلامه عليه - أوسط قريش نَسَباً.
وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: «عَلَيْكُمْ بالنَّمطِ الأَوْسَطِ»
قال الجوهري في الصحاح: «أمة وسطاً» أي: عدلاً، وهو الذي قاله الأخفش، والخليل، وقطرب، فالقرآن والحديث والشعر يدلون على أن الوَسَط: خيار الشيء].
وأما المعنى فمن وجوه.
10
أحدها: أن الوسط حقيقة في البُعْد عن الطرفين، ولا شك أن طرفي الإفراط والتفريط رذيلتان، فالمتوسّط في الأخلاق يكون بعيداً عن الطرفين، فكان معتدلاً فاضلاً.
وثانيها: إنما سمي العدل وسطاً؛ لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين، [والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين].
وثالثها: أن المراد بقوله: ﴿جُعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ طريقة المدح لهم؛ لأنه لا يجوز أن يذكر الله - تعالى - وصفاً، ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهوداً له ثم عطف على ذلك شهادة الرسول، وذلك مدح، فثبت أن المراد بقوله: «وَسَطاً» ما يتعلّق بالمدح في باب الدين، ولا يجوز أن يمدح الله الشُّهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً لا بكونهم عدولاً؛ فوجب أن يكون المراد من الوَسَط العدالة.
ورابعها: أن الأوساط محمية بالأطراف، وحكمها مع الأطراف على حَدّ سواء، والأطراف يتسارع إليها الخَلَل والفساد، والوسط عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جِهَةٍ دون جهة.
وقال بعضهم: تفسير الوسط بأنه خيار الشيء [أوْلى من تفسيره بالعدالة؛ لأن العدالة لا تطلق على الجمادات، فكان أَوْلَى، والمراد من الآية: أنهم لم يغلوا؛ كما غلت النصارى، فجعلوه ابناً وإلهاً، ولا قصَّروا؛ كتقصير اليهود في قتل الأنبياء، وتبديل الكُتُبِ وغير ذلك]. وفرق بَعْضهم بين «وَسَط» بالتفح و «وَسْط» بالتسكين.
فقال: كلُّ موضع صَلَحَ فيه لفظ «بَيْن» يقال بالسكون، وإلا فبالتحريك.
فقتلو: جلست وَسْطَ القومِ، بالسكون.
وقال الراغب: وسط الشيء ما له طرفان متساويان القَدْر، ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد، فتقول: وسطه صلب، ووسْط بالسكون يقال في الكميّة المنفصلة؛ كشيء يفصل بين جسمين نحو: «وَسْط القوم» كذا.
وتحرير القول فيه هو أن المفتوح في الأصل مَصْدَرٌ، ولذلك استوى في الوصف به الواحدُ وغيره، والمؤنَّث والمذكَّر، والسَّاكن ظَرْفٌ، والغاب فيه عدم التصرُّف، وقد جاء متمكِّناً في قول الفرزدق: [الطويل].
٨٢٤ - أَتَتْهُ بِمَجْلُومٍ كَأَنَّ جَبِينَهُ صَلاَءَةُ وَرْسٍ وَسْطُهَا قَدْ تَفَلَّقَا
روي برفع الطَّاء، والضمير ل «صلاءة»، وبتفحها والضمير للجائية.
11

فصل في الاستدلال بالآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى


احتج الأصحاب بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى؛ لأن هذه الآية دالة على أن عدالة هذه الأمة وخيرتيهم بجعل الله وخلقه، وهذا صريح في المذهب.
وقالت المعتزلة: المراد من هذا الجعل فعل الألطاف.
أجيب عنه بوجوده:
الأول: أن هذا ترك للظاهر، وذلك محال لا يصار ليه إلا عند عدم إمكان حمل الآية على ظاهرها، أقصى ما للمعتزلة في هذا الباب التمسّك بفصل المَدْح والذم والثواب والعقاب، وقد بيّنا أن هذه الطريقة منتقضةٌ على أصولهم بمسألة العلم ومسألة الداعي:
والثاني: أنه تعالى - قال قبل هذه الآية
﴿يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ١٤٢].
وقد بيذنا دلالة هذه الآية على قولنا في أنه - تعالى - يخص البعض بالهداية دون البعض، فهذه الآية يجب أن تكون محمولة على ذلك لتكون كل واحدة منها مؤكدة لمضمون الأخرى.
والثالث: أن كلّ ما في مقدور الله - تعالى - من الألطاف في حقّ الكل فقد فعله، وإذا كان كذلك لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذا المعنى فائدة.

فصل في الاستدلال بالآية على أن الإجماع عجّة


احتج الجمهور بهذه الآية على أن الإجماع حجة فقالوا: أخبر الله - تعالى - عن
12
عدالة هذه الأمة، وعن خيريتهم، فلو أقدموا على شيء من المَحْظُورات لما اتّصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المَحْظُورات وجب أن يكون قولهم حجّة، فإن قيل: الآية متروكة الظاهر؛ لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتِّصَاف كل واحد منهم بها، وخلاف ذلك معلوم بالضرورة، فلا بد من حملها على البعض، فنحن نحملها على الائمة المعصومين.
فالجواب: أنها ليست متروكة الظاهر، لكن لا نسلم أن الوسط من كل شيء خياره، والوجوه التي ذكرتموها معارضة بوجهين:
الأول: أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات، واجتناب المحرمات، وهذا من فعل العبد، وقد أخبر الله - تعالى - أنه جعلهم وسطاً، وذلك يقتضي أن يكون كونهم وسطاً غير كونهم عدولاً، وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقادرين وهو محال.
الثاني: أن الوَسَط اسم لما يكون متوسطاً بين شيئين، فجعله حقيقة في العدالة والخيرية يقتضي الاشتراك، وهو خلاف الأصل.
13
سلّمنا اتصافهم بالخيرية، وذلك لا يكفي في حصول هذا الوصف الاجتناب عن الكبائر فقط، وإذا كان كذلك احتمل أن الذي اجتمعوا عليه وإن كان خطأ، لكنه من الصَّغائر، فلا يقدح ذلك في خيريتهم، ومما يؤكّد ذلك الاحتمال أنه - تعالى - حكم بكونهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس، وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة.
سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر، ولكن الله - تعالى - بيّن وصفهم بذلك لكونهم شهداء على النَّاس، ومعلوم أن هذه الشهادة إنما تتحقق في الآخرة، فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك، لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمّثلن وذلك لا نزاع فيه؛ لأن الأمة تصير عصومة في الآخرة.
فلم قلت: إنهم في الدنيا كذلك؟
سلمنا وجوب كونهم عدولاً في الدنيا، لكن المخاطبين بهذا الخطاب [هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية، لأن الخطاب] مع مَنْ لم يوجد مُحَال، وإذا كان كذلك، فهذه الآية تقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت لا عدالة غيرهم، فدلّت الآية على أن إجماع [أولئك} حق، يجب ألاَّ نتمسّك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه.
لكن ذلك لا يمكن [إلا إذا علمنا كل واحد من أولئك الأقوام بأعيانهم، وعلمنا بقاء كل واحد] منهم إلى ما بعد وفاة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلمنا حصول أقوالهم بأسرهم في ذلك الإجماع، ولما كان ذلك كالمتعذّر امتنع التمسّك بالإجماع.
والجواب عن قولهم: الآية متروكة الظاهر.
قلنا: لا نُسلّم فإن قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ يقتضي أنه - تعالى - جعل كلّ واحد منهم عند اجتماعه مع غيره بهذه الصفة.
وعندنا أنهم في كل أمر اجتمعوا عليه، فإنّ كل واحد منهم يكون عدلاً في ذلك الأمر، بل إذا اختلفوا، فعند ذلك قد يفعلون القبيح، وإنما قلنا: إن هذا الخطاب معهم حال الاجتماع، لأن قوله: «جَعَلْنَاكُمْ» خطاب لمجموعهم لا لكلّ واحد منهم وحده، على أنا وإن سلمنا أن هذا يقتضي كون كل واحد فيهم عدلاً، لكنا نقول ترك العمل به في حقّ البعض لدليل قام عليه، فوجب أن يبقى معمولاً به في حقّ الباقي، وهذا معنى ما قاله العلماء: ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك، بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة، فإذا كُنَّا لا نعلمهم بأعيانهم افتقرنا إلى إجماع جماعتهم على القول والفعل لكي يدخل المعتبرون في جملتهم.
مثاله: أن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إذا قال: إن واحداً من أولاد فلان لا بد
14
وأن يكون مصيباً في الرأي، فإذا لم نعلمه بعينه، ووجدنا أولاده مجتمعين على رأي علمناه حقّاً؛ لأنه لا بد وأن يوجد فيهم ذلك المحق.
فأما إذا اجتمعوا سوى الواحد على رأي لم نحكم بكونه حقّاً، لتجويز أن يكون الصواب مع ذلك الواحد المخالف.
ولهذا قال العلماء: إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيباً عمن كان مخطئاً كانت الحجة قائمة في قول المصيب ولم نعتبر ألبتة [بقول المخطئ.
قوله: لو كان المراد من كونهم وسطاً هو عدالتهم لزم أن يكون فعل العبد خلقاً لله تعالى.
قلنا: هذا مذهبنا. فإن قيل] قولهم: لم قلتم: إن إخبار الله - تعالى - عن عَدَالتهم وخيريّتهم اجتنابهم عن الصغائر؟
قلنا: خبر الله - تعالى - صدق، والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه، وفعل الصغيرة ليس بخبر، فالجمع بينهما متناقض.
ولقائل أن يقول: الإخبار عن الشَّخْص بأنه خير أهم من [الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور، أو في بعض الأمور، ولذلك فإنه يصحّ تقسيمه إلى] هذين القسمين، فيقال: الخير إما أن يكون خيراً في بعض الأمور دون البعض، أو في كل الأمور، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين، فمن كان خيراً من بعض الوجود دون البعض يصدق عليه أنه خير، فإذن إخبار الله - تعالى - عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره - تعالى - عن خيريتهم في كل الأمور، فثبت أن هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلاً عن الصغائر، [وكنا قد نصرنا هذه الدلالة في أصول الفقه إلاَّ أن هذا السؤال وارد عليهم، أما السؤال الآخر فقد أجيب عنه بأن قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها، من كان منهم موجوداً وقت نزول هذه الية، ومن جاء بعدهم إلى [قيام الساعة]، كما أن قوله
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص﴾ [البقرة: ١٧٨]، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام﴾ [البقرة: ١٨٣] يتناول الكل، ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت، [وكذلك سائر تكاليف الله - تعالى - وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة] فإن قيل: لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطاباً لجميع من يوجد إلى قيام الساعة، فإنما حكم جماعتهم بالعدالة، فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجّة على من بعدهم؟
قلنا: لأنه - تعالى - لما جعلهم شهداء على الإنسان فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها
15
بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة، إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه.
فعلمنا أن المراد به أهل كلّ عصر، ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة، فإن الأمة الجماعة التي تؤمّ جهة واحدة، ولا شك أن أهل كل عصر كذلك، ولأنه - تعالى - قال: «أُمَّةً وَسَطاً» فعبر عنهم بلفظ النكرة، ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر.
[قال النووي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - في «التهذيب» : الأُمّة تطلق على معانٍ:
منها من صدق النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وآمن بما جاءه، واتبعه فيه، وهذا هو الذي جاء مَدْحه في الكتاب والسُّنة كقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ و ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠].
وقوله صلوات الله وسلام عليه: «شَفَاعَتِي لأُمَّتِي» و «تَأْتِي أُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ» وغير ذلك.
ومنها من بعث إليهم النبي - صلوات الله وسلامه عليه - من مسلم وكافر.
ومنه قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدهِ لاَ يَسْمَعُ بي مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ثم يموت وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلَتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» رواه مسلم.
ويأتي باقي الكلام عن الأمة في آخر «النحل» إن شاء الله - تعالى - عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: ١٢٠] إلى قوله: ﴿كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: ٢١٣].

فصل في الكلام على قوله: لتكونوا


قوله تعالى: «لِتَكُونُوا» يجوز في هذه اللام وجهانِ:
أحدهما: أن تكون لام «كي» فتفيد العلة.
والثاني: أن تكون لام الصيرورة، وعلى كلا التقديرين فهي حرف جر، وبعدها «أن» مضمرة، وهي وما بعدها في محلّ جر، وأتى ب «شهداء» جمع «شهيد» الذي يدلّ على المبالغة دون شاهدين وشهود جميع «شاهد».
وفي «على» قولان:
أحدها: أنها على بابها، وهو الظاهر.
والثاني: أنها بمعنى «اللام»، بمعنى: أنكم تنقلون إليهم ما علمتموه من الوحي
16
والدين، كما نقله الرسول - عليه السلام - وكذلك القولان في «على» الأخيرة، بمعنى أن الشهادة لمعنى التزكية منه - عليه السلام - لهم.
وإنما قدم متعلّق الشهادة آخراً، وقدم أولاً لوجهين:
أحدهما: وهو ما ذكره الزمخشري أن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم.
والثاني: أن «شهيداً» أشبه بالفَوَاصل والمقاطع من «عليكم»، فكان قوله «شهيداً» تمام الجملة، ومقطعها دون «عليكم»، وهذا الوجه قاله الشيخ مختاراً له رادّاً على الزمخشري مذهبه من أن تقديم المعفول يشعر بالاختصاص، وقد تقدم ذلك.

فصل في الكلام على الشهادة.


اختلفوا في هذه الشهادة هل هي في الدنيا أو في الآخرة؟ فالقائل بأنها في الآخرة وهم الأكثرون لهم وجهان:
الأول: أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أُمَمِهِمْ الذين يكذبونهم.
روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فيطالب الله - تعالى - الأنبياء بالبّينة على أنهم قد بلّغوا وهو أعلم، فيؤتى بأمة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيشهدون فتقول الأمم: من أين عرفتم فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه النَّاطق على لسان نبيه الصَّادق، فيؤتى بمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم، وذلك قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً﴾ [النساء: ٤١] وقد طعن القاضي رَحِمَهُ اللهُ تعالى في هذ الرواية من وجوه:
أحدها: أن مَدَار هذه الرواية على أن الأمم يكذبون أنبياءهم، وهذا بناء على أن أهل القيامة يكذبون.
وهذا باطل عند القاضي، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في سورة «الأنعام» عند قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ [الأنعام: ٢٣ - ٢٤].
وثانيها: أن شهادة الأمة، وشهادة الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مستندةٌ في الآخرة إلى شهادة الله - تعالى - على صدق الأنبياء، وإذا كان كذلك، فَلِمَ لم يشهد الله - تعالى - لهم بذلك ابتداء؟
والجوا: الحكمة في ذلك تمييز أمة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الفضل عن سائر الأمم بالمبَادرة إلى تصديق الله - تعالى - وتصديق جميع الأنبياء، والإيمان بهم جميعاً، فهم بالنسبة إلى سائر الأمم كالعَدْل بالنسبة إلى الفاسق.
وثالثها: أن مثل هذه الأخبار لا تسمّى شهادة، وهذا ضعيف لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة
17
وَالسَّلَام ُ: «إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْس فاشْهَدْ» والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه فهو معلوم مثل الشمس، فوجب جواز الشَّهَادة عليه.
والثاني: قالوا معنى الآية: لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحقّ فيها، قال ابن زيد رَحِمَهُ اللهُ تعالى: الأشهاد الأربعة: الملائكة الموكلون بإثبات أعمال العباد، قال تعالى: ﴿وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ [ق: ٢١].
وقال: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨] وقال: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار: ١٠ - ١٢].
وثانيها: شهادة الأنبياء، وهو المراد بقوله حاكياً عن عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: ١١٧].
وقال تعالى في حق سيدنا محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمته في هذه الآية: ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾.
وقال في حق - محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً﴾ [النساء: ٤١].
وثالثها: شهادة أمة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال تعالى: ﴿وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء﴾ [الزمر: ٦٩].
وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد﴾ [غافر: ٥١].
ورابعها: شهادة الجَوَارح، وهي بمنزلة الإقرار، بل أعجب منه.
قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾ [النور: ٢٤]. الآية، وقال: ﴿اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ﴾ [يس: ٦٥] الآية.
القول الثاني: أن أداء هذه الشهادة إنما يكون في الدنيا، وتقديره أن الشهاة والمشاهدة والشهود هو الرؤية يقال: شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته.
ولما كان بين الإبصار بالعَيْن وبين المعرفة بالقَلْب مناسبة شديدة، لا جَرَمَ قد تسمى المعرفة التي في القلب: مشاهدة وشهوداً، والعارف بالشيء: شاهداً ومشاهداً، ثم سميت الدلائل على الشيء: شاهداً على الشيء، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً، ولما كان المخبر عن الشيء والمبيّن لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضاً شاهداً، ثم اختصّ هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة. إذا ثبت هذا فنقول: إن كلّ من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهداً عليه، والله سحبانه وتعالى وصف هذه الأمة بالشهادة، فهذه الشهادة: إما أن تكون في الآخرة، أو الدنيا، ولا جائز أن تكون في الآخرة؛ لأن الله -
18
تعالى - جعلهم عدولاً في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء، وذلك يقتضي أن يكونوا شهداء في الدنيا].
فإن قيل: تحمُّل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا، ومتحمّل الشهادة قد يسمى شاهداً، وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة.
وإنما قلنا: إنه - تعالى - جعلهم عدولاً في الدنيا؛ لأنه - تعالى -[قال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَةً وَسطاً﴾ وهذا إخبار عن الماضي، فلا أقل من حصوله في الحال، وإنما قلنا: إن ذلك يقتضي صيرورتهم شهوداً في الدنيا؛ لأنه تعالى] قال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾ رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطاً ترتيب الجزاء على الشرط، فإذا حصل وصف كونهم وسطاً في الدنيا [وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا].
وفإن قيل: تحمُّل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا، ومتحمّل الشهادة قد يسمى شاهداً، وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة.
قلنا: الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل، بدليل أنه - تعالى - اعتبر العدالة في هذه الشهادة، والشهادة التي تعتبر فيها العدالة، هي الأداء لا التحمّل، فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدّين للشهادة في الدنيا، وذلك يقتضي أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا عن شيء أن يكون قولهم حجّة، ولا معنى لقولنا: الإجماع حجة إلا هذا، فثبت أن الآية تدلّ على أن الإجماع حجّة [من هذا الوجه أيضاً].
واعلم أن هذا الدليل لا ينافي كونهم شهوداً في القيامة أيضاً على الوجه الذي وردت الأخبار به، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ يعني مؤدياً ومبيناً، ثم لا يمتنع أن تحصل مع ذلك لهم الشَّهادة في الآخرة، فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمّل، لأنهم إذا أثبتوا الحقّ عرفوا عنده من [القابل ومن الراد]، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة [على أن الشَّاهد على العقود يعرف الذي تم، والذي لم يتم، ثم يشهدون بذلك عند الحاكم.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: معنى قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ أي: بأعمالكم يوم القيامة
وقيل: «عليكم» بمعنى لكم أي: يشهد لكم بالإيمان.
وقيل: يشهد عليكم بالتبليغ لكم].
وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ... ﴾ في هذه الآية خمسة أوجه:
19
أحدها: أن «القبلة» مفعول أول، و «التي كنت عليها» مفعول ثان، فإن الجعل بمعنى التصيير، وهذا ما جزم به الزّمخشري فإنه قال: ﴿التي كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ ليس بصفة للقبلة، إنما هي ثاني مفعوليْ جعل، يريد: وما جعلنا القِبْلَةَ الجهة التي كنت عليها، وهي الكَعْبَة؛ لأنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يصلي ب «مكة» إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس، ثم حول إلى الكعبة.
الثاني: أن «القِبْلَة» هي المفعول الثاني، وإنما قدم، و «التي كنت عليها» هو الأول، وهذا ما اختاره الشيخ محتجّاً له بأن التصيير هو الانتقال من حَالٍ إلى حَالٍ، فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني، ألا ترى أنك تقول: جعلت الطين خزفاً، وجعلت الجاهل عالماً، والمعنى هنا على هذا التقدير: وما جعلنا القِبْلَة الكعبة التي كانت قبلة لك أولاً، ثم صرفت عنها إلى «بيت المقدس» قبلتك الآن إلا لنعلم.
ونسب الزمخشري في جعله «القِبْلَة» مفعولاً أول إلى الوهم.
الأصح: أن «القِبْلَة» مفعول أول، و «التي كنت» صفتها، والمفعول الثَّاني محذوف تقديره: وما جعلنا القِبْلة التي كنت عليها منسوخة.
ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه قدره: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة، ولا طائل تحته.
الرابع: أن «القبلة» مفعول أول، و «إلاَّ لنعلم» هو المفعول الثَّاني، وذلك على حذف مضاف تقديره: وما جعلنا صرف القِبْلَة التي كنت عليها إلا لنعلم، نحو قولك: ضرب زيد للتأديب، أي: كائن، أو ثابت للتأديب.
الخامس: أن «القبلة» مفعول أول، والثاني محذوف، و ﴿التي كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ صفة لذلك المحذوف، والتقدير: وما جعلنا القِبْلة القبلة التي، ذكره أبو البقاء، وهو ضعيف.
وفي قوله: «كُنْتَ» وجهان:
أحدهما: أنها زائدة، ويروى عن ابن عباس أي: أنت عليها، وهذا منه تفسير معنى لا إعراب، وهو كقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] والقبلة في الأصل اسم للحالة التي عليها المقابلة نحو: الجِلْسَة، وفي التعاريف صار اسماً للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة.
وقال قطرب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يقولون: ليس له قِبْلَة أي جهة يتوجه إليها.
وقال غيره: إذا تقابل رجلان فكلّ واحد قبلة للآخر.

فصل في الكلام على الآية.


في هذا الكلام وجهان:
الأول: أن يكون هذا الكلام بياناً للحكمة في جعل الكعبة قِبْلة، وذلك لأنه - عَلَيْهِ
20
الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يصلّي إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى «بيت المقدس» بعد الهجرة تأليفاً لليهود، ثم حول إلى الكعبة فقال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا القبلة﴾ الجهة ﴿التي كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ أولاً يعني: وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس.
الثاني: يجوز أن يكون قوله: ﴿التي كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ لساناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة يعني أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وأن استقبالك «بيت المقدس» كان أمراً عارضاً لغرض، وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذان وهي «بيت المقدس» لنمتحن الناس، وننظر من يتبع الرسول، ومن لا يتبعه وينفر عنه.
وذكر أبو مسلم وجهاً ثالثاً فقال: لولا الروايات لم تدلّ على قبلة من قبل الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لأنه قد يقال: كنت بمعنى: صرت، كقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ وقد يقال: كان في معنى لم يزل كقوله تعالى:
﴿وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً﴾ [النساء: ١٥٨] فلا يمتنع أن يراد بقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ أي: التي لم تزل عليها، وهي الكعبة إلاَّ كذا وكذا.
قوله: «إلاَّ لِنَعْلَمَ» قد تقدم أنه في أحد الأوجه يكون مفعولاً ثانياً.
وأما على غيره فهو استثناء مفرّغ من المفعول العام، أي: ما سبب تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلاَّ لكذا. وقوله: «لِنَعْلَمَ» ليس على ظاهره، فإن علمه قديم، ونظره في الإشكال قوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين﴾ [محمد: ٣١].
وقوله: ﴿١٦٤٩; لآنَ خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً﴾ [الأنفال: ٦٦]، وقوله: ﴿لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى﴾ [طه: ٤٢]، وقوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ﴾ [العنكبوت: ٣].
وقوله: ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالآخرة﴾ [سبأ: ٢١]، فلا بد من التأويل وهو من أوجه:
أحدها: لتمييز التابع من النَّاكص إطلاقاً للسبب، وإرادة للمسبّب.
وقيل: على حذف مضاف أي: لنعلم رسولنا فحذف، كما يقول الملك: فتحنا البَلْدة الفلانية بمعنى: فتحها أولياؤنا.
ومنه يقال: فتح عمر السّواد.
ومنه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فيما يحكيه عن ربه: «اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُقْرِضْنِي، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُمْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي يقول: وادهراه وأنا الدهر»
وفي الحديث: «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيَّا فَقَدْ أَهَانَنِي»
وقيل: معناه: إلا لنرى.

فصل


قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: وهذا قول ابن أبي طالب وقول العرب، تضع العلم مكان
21
الرؤية، والرؤية مكان العلم، كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل﴾ [الفيل: ١] بمعنى ألم تعلم، وعلمت، وشهدت، ورأيت، ألفاظ تتعاقب.
وقيل: حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين، معناه: لتعلموا.
والغرض من هذا الكلام الاستمالة والرفق في الخطاب كقوله: ﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى﴾ [سبأ: ٢٤] فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقاً للخطاب، ورفقاً بالمخاطب.
وقيل: يعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم.
وقيل: العلم صلة زائدة معناه إلاَّ ليحصل اتباع المتبعين، وانقلاب المنقلبين.
ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك: ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني، والمعنى: أنه لو كان لعلمه الله.
قوله: ﴿مَنْ يَتَّبع﴾ في «من» وجهان:
أحدهما: أنها موصولة، و «يتبع» صلتها، والموصول في محلّ المفعول ل «نعلم» ؛ لأنه يتعدّى إلى واحد.
والثاني: أنها استفهامية في محلّ رفع بالابتداء، و «يتبع» خبره، والجملة في محلّ نصب؛ لأنها معلقة للعلم، والعلم على بابه، وإليه نحا الزَّمخشري في أحد قوليه.
وقد رد أبو البقاء هذا الوجه، فقال: لأن ذلك يوجب تعلّق «نعلم» عن العمل، وإذا علقت عنه لم يبق ل «من» ما تتعلّق به، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلّق بما قبله، ولا يصحّ تعلها ب «يتبع» ؛ لأنها في المعنى متعلّقة بلا علامة، وليس المعنى: أي فريق يتبع ممن ينقلب انتهى.
وهو رد واضح إذ ليس المعنى على ذلك، إنما المعنى على أن يتعلق «مِمَّنْ يَنْقَلِبُ» ب «نعلم» نحو: علمت من أحسن إليك مِمّن أساء، وهذا يقوي التجوز بالعلم عن التمييز، فإن العلم لا يتعدى ب «من» إلا إذا أريد به التمييز.
ورأ الزهري: «إلاَّ لِيُعْلم» على البناء للمفعول، وهي قراءة واضحة لا تحتاج إلى تأويل، لأنا لا نقدر ذلك الفاعل غير الله تعالى.
قوله: «عَلَى عَقِبَيْهِ» في محلّ نصب على الحال، أي ينقلب مرتدّاً راجعاً على عقبيه، وهذا مجاز، [ووجه الاستعارة أن: المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه، فلما تركوا الإيمان والدلائل بمنزلة المدبر عما بين يديه، فوصفوا بذلك لما قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر﴾ [المدثر: ٢٣] وقوله تعالى: ﴿كَذَّبَ وتولى﴾ [طه: ٤٨].
وقرئ «عَلَى عَقْبَيْهِ» بسكون القاف، وهي لغة «تميم».
22

فصل


اختلفوا في هذه المحنة، هل حصلت بسبب تعيين القبلة، أو بسبب تحويلها؟ فقال بعضهم: إنما حصلت بسبب تعيين القبلة؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يصلّي غلى الكعبة، فلما جاء «المدينة» صلى إلى «بيت المقدس»، فشق ذلك على العرب لترك قبلتهم.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: والآية جوا لقريش في قولهم: ﴿مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾ [البقرة: ١٤٢] وكانت قريش تألف الكعبة، فأراد الله - عَزَّ وَجَلَّ - أن يمتحنهم بغير ما ألفوه.
وقال الأكثرون: حصلت بسبب التحويل قالوا: إن محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه.
روى القَفَّال عن ابن جريج أنه قال: بلغني أنه رجع ناس ممن أسلموا، فقالوا: مرة ههنا ومرة ههنا.
وقال السدي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لما توجه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - نحو المسجد الحرام واختلف الناس، فقال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها؟
وقال المسلمون: ليتنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس.
وقال آخرون: اشتاق إلى بلد أبيه ومولده.
وقال المشركون: تحيّر في دينه.
قال ابن الخطيب: وهذا القول أولى؛ لأن الشبهة في أمر النَّسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة [وقد وصفها الله - تعالى - بالكبر فقال عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله﴾ فكان حمله عليه أولى].
قوله: «وإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً» «إنْ» هي المخففة من الثقيلة دخلت على ناسخ المبتدأ والخبر، وهو أغلب أحوالها، و «اللام» للفرق بينها وبين «إن» النافية، وهل هي لام الابتداء، أو لام أخرى أتى بها للفرق؟ خلاف مشهور.
23
وزعم الكوفيون أنها بمعنى «ما» النافية، وأن «اللام» بمعنى «إلا»، والمعنى: ما كانت إلا كبيرة، نقل ذلك عنهم أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ [وفيه نظر. واعلم أن «إن» المكسورة الخفيفة تكون على أربعة أوجه:
جزاء، وهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى، فالمستلزم هو الشرط، واللازم هو الجزاء، كقولك: إن جئتني أكرمتك.
ومخففة من الثقيلة، وهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة المشددة، كقولك: إن زيداً لقائم، قال تعالى: ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق: ٤]، ﴿إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً﴾ [الإسراء: ١٠٨].
وللجحد، لقوله تعالى: ﴿إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ﴾ [الأنعام: ٥٧] ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن﴾ [الأنعام: ١٤٨] ﴿وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا﴾ [فاطر: ٤١]. أي: ما يمسكهما. وزائدة كقوله: ما إن رأيت زيداً]، والقراءة المشهورة نصب «كبيرة» على خبر «كان»، واسم كان مضمر فيها يعود على التولية، أو الصلاة، أو القبلة المدلول عليها بسياق الكلام.
وقرأ اليزيدي عن أبي عمرو: برفعها.
وفيه تأويلان:
أحدهما - وذكره الزمخشري -: أن «كان» زائدة، وفي زيادتها عاملةً نظر لا يخفى؛ وقد استدلّ الزمخشري على ذلك بقوله: [الوافر].
24
فإن قوله: «كرام» صفة ل «جيران»، وزاد بينهما «كانوا»، وهي رافعة للضمير، ومن منع ذلك تأول «لنا» خبراً مقدماً، وجملة الكون صفة ل «جيران».
والثاني: أن «كان» غير زائدة، بل يكون «كبيرة» خبراً لمبتدأ محذوف، والتقدير: وإن كانت لهي كبيرة، وتكون هذه الجملة في محلّ نصب خبراً لكانت، ودخلت لام الفرق على الجملة الواقعة خبراً، وهو توجيه ضعيفٌ، ولكن لا توجه هذه القراءة الشَّاذة بأكثر من ذلك.
[والضمير في «كانت» فيه وجهان:
الأول: أنه يعود على القبلة؛ لأن المذكور السابق هو القبلة.
والثاني: يعود إلى ما دلّ عليه الكلام السّابق، وهو مفارقة القبلة، والتأنيث للتولية أي: وإن كانت التولية؛ لأن قوله تعالى: «ما ولاهم» يدل على القولية، ويحتمل أن يكون المعنى: وإن كانت هذه الفعلة نظيره «فبها ونعمت».
ومعنى «كبيرة» ثقيلة شاقّة مُسْتنكرة.
وقوله تعال: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ [الكهف: ٥]].
قوله: «إلاَّ عَلَى الَّذِينَ» متعلق ب «كبيرة»، وهو استثناء مفرغ.
فإن قيل: لم يتقدم هنا نفي ولا شبهة، وشرط الاستثناء المفرغ تقدم شيء من ذلك.
فالجواب: أن الكلام وإن كان موجباً لفظاً فغنه في معنى النفي؛ إذ المعنى أنها لا تخف ولا تسهل إلا على الذين، وهذا التأويل بعينه قد ذكروه في قوله:
﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾ [البقرة: ٤٥].
وقال أبو حيان: [هو استثناء من مستثنى محذوف تقديره: وإن كانت لكبيرة على النّاس إلا على الذين] وليس استثناء مفرغاً؛ لأنه لم يتقدمه نفي ولا شبهة، وقد تقدم جواب ذلك [واستدل الأصحاب رحمهم الله - تعالى - بهذه الآية على خلق العمال].
قوله: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ﴾ في هذا التركيب وما أشبهه [مما ورد في القرآن وغيره] نحو: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب﴾ [آل عمران: ١٧٩]، ﴿مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ﴾ [آل عمران: ١٧٩] قولان:
أحدهما: قول البصريين؛ وهو أن خبر «كان» محذوف، وهذه اللام تسمى لام الجُحود ينتصب الفعل بعدها بإضمار «أن» وجوباً، فينسبك منها ومن الفعل مصدر منجرّ بهذه «اللام»، وتتعلق هذه اللام بذلك الخبر المحذوف.
25
والتقدير: وما كان الله مريداً لإضاعة أعمالكم، وشرط لام الجحود عندهم أن يتقدمها كون منفي.
[واشترط بعضهم مع ذلك أن يكون كوناً ماضياً، ويفرق بينها وبين «لام» ما ذكرنا من اشتراط تقدم كون مَنْفي]، ويدلّ على مذهب البصريين التصريح بالخبر المحذوف في قوله: [الوافر].
٨٢٦ - سَمَوْتَ وَلَمْ تَكْنْ أَهْلاً لِتَسْمُو... والقول الثاني للكوفيين: وهو أن «اللام» وما بعدها في محلّ الجر، ولا يقدرون شيئاً محذوفاً، ويزعمون أن النصب في الفعل بعدها بنفسها لا بإضمار «أن»، وأن «اللام» للتأكيد، وقد رد عليهم أبو البقاء فقال: وهو بعيد، لأن «اللام» لام الجر، و «أن» بعدها مرادة، فيصير التقدير على قولهم: وما كان لله إضاعة إيمانكم، وهذا الرد غير لازم لهم، فإنهم لم يقولوا بإضمار «أن» بعد اللام كما قدمت نقله عنهم، بل يزعمون النصب بها، وأنها زائدة للتأكيد ولكن للرد عليهم موضع غير هذا.
واعلم أن قولك: «ما كان زيد ليقوم» ب «لام» الجحود أبلغ من: «ما كان زيد يقوم».
أما على مذهب البصريين فواضح، وذلك أن مع «لام» الجحود نفي الإرادة للقيام والتَّهيئة، ودونها نفي للقيام فقط، ونفي التَّهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل؛ إذ لا يلزم من نفي الفِعْلِ نفي إرادته.
وأما على مذهب الكوفيين فلأن «اللام» عندهم للتوكيد، والكلام مع التوكيد أبلغ منه بلا توكيد.
وقرأ الضحاك: «لِيُضَيِّعَ» بالتشديد، وذلك أن: أَضَاعَ وَضيَّعَ بالهمزة، والتضعيف للنقل من «ضاع» القاصر، يقال: ضَاعَ الشيء يَضيعُ، وأَضَعْتُه أي: أهملته، فلم أحفظه.
وأما ضَاعَ المِسْكُ يَضُوعُ أي: فاح، فمادة أخرى.

فصل في مناسبة اتّصال هذه الآية بما قبلها


وجه اتصال هذه الآية الكريمة بما قبلها أن رجلاً من المسلمين كأبي أمامة، وسعد ابن زُرَارة، والبراء بن عازب، والبراء بن مَعْرُور، وغيرهم ماتوا على القبلة.
26
قال عشائرهم: يا رسول الله توفي إخواننا على القبلة الأولى، فكيف حالهم؟
فأنزل الله - تعالى هذه الآية.
[واعلم أنه لا بد من هذا السبب، وإلا لم يتّصل بعض الكلام ببعض، ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم يجوّوزوا النسخ إلا مع البَدَاء يقولون: إنه لمّا تغير الحكم وجب أن يكون الحكم مفسدة] فبين أن النسخ نقل من مَصْلحة إلى مصلحة، ومن تكليف إلى تكليف، والأول كالثاني في أن القائم به متمسّك بالدين، وأن من هذا احاله، فإنه لا يضيع أجره.
ونظيره: ما سألوا بعد تحريم الخَمْر عمن مات، وكان يشربها، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ﴾ [المائدة: ٩٣] فعرفهم الله - تعالى - أنه لا جُنَاحَ عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى
فإن قيل: إذا كان الشك إنما تولّد من تجويز البَدَاء على الله - تعالى - فكيف يليق ذلك بالصحابة؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن ذلك الشّك وقع لمنافق، فذكر الله - تعالى - ذلك ليذكره المسلمون جواباً لسؤال ذلك المنافق.
وثانيها: لعلهم اعتقدوا أن الصَّلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا: ليت إخواننا ممن مات أدرك، فذكر الله - تعالى - هذا الكلام جواباً عن ذلك.
وثالثها: لعله - تعالى - ذكر هذا الكلام ليكون دفعاً لذلك اسؤال لو خَطَر ببالهم.
ورابعها: لعلهم توهموا أن ذلك لما نُسِخَ وبطل، وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كَفّارة لما سلف، واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل، فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا، ولم يأتاو بما يكفر ما سلف؛ قال: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾، والمراد: أهل ملّتكم، كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد صلى الله عيله وسلم: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً﴾ [البقرة: ٧٢]، ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر﴾ [البقرة: ٥٠]، ويجوز أن يكون السؤال واقعاً عن الأحياء والأموات معاً، فإنهم أشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم، وكان الإشفاق واقعاً في الفريقين، فقيل: إيمانكم للأحياء والأموات، إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب، فيقولوا: كنت أنت وفلان الغائب فعلتما والله أعلم.
27
وقال أبو مسلم: يحتمل أن يكون ذلك خطاباً لأهل الكتاب، والمراد بالإيمان صلاتهم، وطاعتهم قبل البعثة ثم نسخ.
وإنما اختار ابو مسلم هذا القول، لئلا يلزمه وقوع النسخ في شرعنا.
قال القرطبي: «وسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نيّة وقول وعمل».
استدلت المعتزلة بقوله: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ على أن الإيمان اسم لفعل الطاعات، فإنه - تعالى - أراد بالإيمان ها هنا الصلاة.
والجواب: لا نسلم أن المراد من الإيمان هنا الصلاةن بل المراد منه التَّصديق، والإقرار، فكأنه - تعالى - قال: إنه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة.
سلمنا أن المراد من الإيمان هاهنا الصلاة، ولكن الصلاة أعظم الإيمان، وأشرف نتائجه وفوائده، فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصلاة على سبيل الاسْتِعَارة من هذه الجهة.

فصل في الكلام على الآية.


قوله: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي: لا يضيع ثواب إيمانكم؛ لأن الإيمان قد انقضى وفني، وما كان كذلك استحال حفظه وإضاعته، إلاّ أنَّ استحقاق الثواب قائم بعد انقضائه، فصح حفظه وإضاعته، وهو كقوله تعالى: ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ﴾ [آل عمران: ١٩٥].
قوله: ﴿لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾.
قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر: «لَرَؤُفٌ» على وزن: «نَدُس» و «رَعُف» مهموزاً غير مُشْبَع، وهي لغة فاشيةٌ، كقول: [الوافر].
٨٢٥ - فَكَيْفَ إذَا مَرَرْتَ بِدَارِ قَوْمٍ وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامِ
٧٢٨ - وَشَرُّ الظَّالِمين فَلا َتَكُنْهُ يُقَاتِلُ عَمَّهُ الرَّؤُفَ الرَّحِيمَا
وقال آخر: [الوافر].
٨٢٨ - يَرَى لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ حَقّاً كَحَقِّ الوَلِدِ الرِّؤُفِ الرَّحِيمِ
وقرأ الباقون: «لرؤوفٌ» مثقلاً مهموزاً مشبعاً على زنة «شكور».
وقرأ أبو جعفر «لروف» من غير هَمْزٍ، وهذا دأبه في كل همزة ساكنة أو متحركة.
28
و «الرأفة» : أشد الرحمة، فهي أخص منها، [وقيل بينهما عموم وخصوص، فلا ترى فيه اكمل من الرحمة بالكيفية، والرحمة اتصال النعمة برقة يكون معها إيلام كقطع العضو المتآكل وشرب الدواء].
وفي «رءوف» لغتان أخريان لم تصل إلينا بهما قراءة وهما: «رئِف» على وزن «فَخِذ»، و «رأف» على وزن «ضَعْف».
وإنم قدم على «رحيم» لأجل الفواصل، والله أعلم.

فصل فيمن استدل بالآية على أن الله تعالى لا يخلق الكفر


استدلت المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر ولا الفساد قالوا: لأنه - تعالى - بين أنه بالنَّاس لرءوف رحيم، فوجب أن يكون رءوفاً رحيماً بهم، وإنما يكون كذلك لو لم يخلق فيهم الكُفْر الذي يجرّهم إلى العقاب الدائم، والعذاب السَّرمَدِي، ولو لم يُكَلّفهم ما لا يُطِيقون، فإنه - تعالى - لَوْ كان مع مثل هذا الإضرار رءوفاً رحيماً، فعلى أيّ طريقٍ يتصور ألاَّ يكون رَءُوفاً رَحيماً.
واعلم أنَّ الكلامَ عليه قد تَقَدَّم مِرَاراً، والله أعلمُ.
29
قال العلماء: هذه الآيةُ متقدِّمةٌ في النزول على قَوْلِهِ تَعَالى: ﴿سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس﴾ [البقرة: ١٤٣].
ومَعْنَى «» : تحرُك وَجْهِكَ إلى السَّمَاءِ.
اعلم أنَّ «قَدْ» هذه قال فيها بعضُهم: إنها تَصْرفُ المضارعَ إلى مَعْنى المُضِيّ، وجَعَلَ مِنْ ذلك هذه الآيةَ وأمثالَها، وقوْلَ الشاعِرِ: [الطويل]
٨٢٩ - لِقَوْمٍ لَعَمْرِي قَدْ نَرَى أَمْسِ فِيهُمُ مَرَابِطَ للأَمْهَارِ وَالعَكَرِ الدَّثِرْ
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: «قَدْ نَرَى» : رُبَّما نَرَى، ومعناه كثرةُ الرؤية؛ كقوله: [البسيط]
29
قال أَبُو حَيَّان: وشرحه هذا على التحقيق مُتَضَادّ؛ لأنه شرح «قَدْ نَرَى» ب «رُبَّمَا نَرَى»، و «ربّ» على مَذْهب المحققين إنما تكون لِتَقْلِيل الشَّيْءِ في نَفْسِه، أو لتقليل نَظِيره.
ثُمَّ قال: «ومعناه كثرةُ الرُّؤْيةِ» فهو مضادٌّ لمدلولِ «رُبّ» على مذهب الجمهور.
ثم هذا الذي ادَّعاه من كثرة الرؤية لا يدل عليه اللفظ، لأنه لم توضع للكثرة «قد» مع المضارع، سواء أريد به المضي أم لا، وإنَّما فُهِمَتِ الكَثْرة من متعلّق الرؤية، وهو التقلب.
قوله: «في السَّمَاءِ» في متعلّق الجار ثلاثةُ أَقْوالٍ:
أحدهما: أنه المصدرُ، وهو «تَقَلُّب»، وفي «في» حينئذٍ وَجْهَان:
أحدهما: أنها على بَابِهَا من الظرفية، وهو الواضِحُ.
والثَّاني: أنها بمعنى «إلَى» أي: إلى السَّمَاءِ ولا حاجةَ لذلك، فإنَّ هذا المصْدَرَ قد ثَبَت تعديه ب «في»، قال تعالى: ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد﴾ [آل عمران: ١٩٦].
والثاني من الأقوال: أنه «نَرَى»، وحينئذٍ تَكُون «فِي» بمعنى «مِنْ» أي: قد نرى من السَّماءِ، وذِكْرُ السماءِ وإن كان تَعَالى لا يتحيّز في جِهَةٍ على سَبيل التشريفِ.
والثالث: أنه محل نَصْب على الحَال من «وَجْهِكَ» ذكره أَبُوا البَقَاءِ، فيتعلّق حينئذ بمحذُوفٍ، والمصدرُ هنا مضافٌ على فَاعِله، ولا يجوزُ أنْ يكُونَ مُضَافاً إلى مَنْصُوبه؛ لأنه مصدرُ ذلك التقلِيبِ، ولا حَاجَةَ إلى حَذْفٍ، ومِنْ قَوْلِه: «وَجْهَكَ» وهو بَصَر وَجْهِك، لأن ذلك لا يكاد يستعمل، بل ذكر الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء، وهو الذي يقبله السَّائل في حاجته، وقيل: كنى بالوجه عن البصر؛ لأنه محلّه.
قوله: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً﴾ «الفَاء» هنا للِتَّسَبُّب وهو وَاضِحٌ، وهذا جوابُ قَسَم مَحْذُوفٍ، أيْ: فواله لنولّينَّكَ، و «نُولِّي» يتعدّى لاثْنين: الأولُ الكَافُ، والثَّانِي «قِبْلَةُ» و «تَرْضَاهَا» الجملة في محلّ نَصْبٍ صفةً ل «قبلة».
قال أَبُو حَيَّان: وهذا؛ يعني: «فَلَنولّينك» يدلّ على أن الجملةَ السابقةَ محذوفة تقديرهُ: قَدْ نَرَى تقلّ وَجْهِكَ في السَّماء طَالِباً قبلة غير التي أَنْت مُسْتقبلها.
30

فصل في الكلام على الآية


في الآية قَوْلاَنِ:
القولُ الأولُ: وهو المشهورُ الذي عليه أَكْثر المُفَسِّرين أن ذلك كان لانتظارِ تَحْوِيله من «بيتِ المقْدِس» إلى الكَعْبة، وذكروا في ذلك وجوهاً:
أحدها: أنه كان يكره التوجّه إلى بيت المقْدِس، ويحبّ التوجّه إلى الكَعْبة، إلاّ أنه ما كان يتلكَّم بذلك، فكان يقلّب وجْهَهُ في السَّماء لهذا المعنى.
رُوي عن عباس أنه [صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] قال: «يَا جِبريلُ وَدِدْتُ أنَّ اللهَ - تَعَالى - صَرَفَنِي عَنْ قِبْلَةِ اليَهُود، إلَى عَيْنِهَا فَقَدْ كَرِهْتُهَا»
فقال جبريلُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «أنَا عَبْدٌ مِثْلُكَ فَاسْأَلْ ربَّكَ ذَلِكَ».
فجَعَلَ رسولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُدِيمُ النَّظرَ إلى السماء؛ رجاء مجيء جِبْرِيلَ بما سأَلَ، فأَنْزل الله تعالى هذه الآية، وهؤلاءِ ذكروا في سببِ هذه المِحْنة أموراً:
الأولُ: أنَّ اليَهُودَ كانوا يَقُولُونَ: إنه يُخَالِفُنَا، ثم إنه يتبع قِبْلَتَنَا، ولولا نحْنُ لم يدر أَيْن يستقبل. فعند ذلك كَرِهَ أن يتوجّه إلى قِبْلتهم.
الثَّاني: أنَّ الكَعْبة كانتِ قِبْلة إبْراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
[الثَّالث: أنه - صلوات الله وسلامه عليه - كان يقدِّرُ أن يَصِير ذلك سبباً لاسْتمالة العرب، ولدخولهم في الإسلامِ.
الرَّابع: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أَحَبَّ] أن يحصل هذا الشرفُ للمسجدِ الذي في بلْدَتِهِ ومَنْشَئه لا في مسجدٍ آخر.
واعترض القَاضِي على هذا الوجْهِ، وقال: إنه لا يَلِيقُ به - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يكره قِبْلَةً أُمِرَ أَنْ يُصَلِّي إليها، ويحبّ أن يحوله ربُّه عنها إلى قِبْلَةٍ يَهْوَاها بطبْعِه، ويميلُ إِلَيْها بحسب شَهْوتِه؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - علم أنَّ الصَّلاحَ في خلاف الطَّبْعِ والمَيْلِ.
قال ابنُ الخَطِيب: وهذا قليلُ التحْصِيل؛ لأنَّ المُسْتنكَرَ من الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يعرض عما أمره الله - تعالى - به، ويشتغل بما يدعوه طبعه إليه.
فأما أن يميل قلبه إلى شيء، فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه، فذلك مما لا إنكار
31
عليه، لا سيما إذا لم ينطق به، [أي بعد في أن يميل طبع الرسول إلى شيء، فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه، وهذا مما لا استبعاد فيه بوجه من الوجوه].
الوجهُ الثاني: أنه - عليه الصلاةُ والسلامُ - قد استأذَنَ جبريل - عليه السلام - في أن يدعو الله - تعالى - بذلك، فأخبره جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بأن الله قد أذن له في هذا الدعاء، وذلك لأن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئاً إلا بإذن منه، لئلا يسألون ما لا صَلاَحَ فيهن فلا يجابوا إليه، فيفضي ذلك إلى تحقير شأنهم، فلما أذن الله - تعالى - له في الإجابة، علم أنه يستجاب إليه، فكان يقلّب وجهه في السَّماء ينتظر مجيء جبريل - عليه السلام - بالوَحْيِ في الإجابة.
الوجه الثالث: قال الحسن: إن جبريل - عليه السلام - أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخبره أن الله - تعالى سيحوّل القبلة عن بيت المقدس إلى قبلة أخرى، ولم يبين له إلى أي موضع يحوّلها، ولم تكن قبلة أحبّ إلى الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - من الكَعْبة، فكان رسول الله يقلّب وجهه في السّماء ينتظر الوحي؛ لأنه - عليه السلام - على أنّ الله تعالى لا يتركه بغير صلاة، فأتاه جبريل عليه السلام، فأمره أن يصلّي نحو الكعبة.
والقائلون بهذا الوجه اختلفوا، فمنهم نم قال: إنه - عليه السلام - منع من استقبال «بيت المقدس» ولم يعين له القِبْلة، فكان يخاف أن يرد وق الصلاة، ولم تظهر القبلة، فتتأخر صلاته، فلذلك كان يقلّب وجهه. عن الأصم.
وقال آخرون: بل وعد بذلك، وقِبْلة بيت المقدس باقية، بحيث تجوز الصلاة إليها، لكن لأجل الوعد كان يتوقع ذلك، ولأنه كان يرجو عند التحويل عن «بيت المقدس» إلى «الكعبة» وجوهاً كثيرة من المصالح الدينية:
نحو: رغبة العرب في الإسلام، والمُبَاينة عن اليهود، وتَمْيِيز المُوافق من المُنَافِق، لهذا كان يقلّب وجهه، وهذا الوجه أولى، وإلاّ لما كانت القِبْلَة الثانية ناسخة للأُولى، [بل كانت مبتدأه.
والمفسرون أجمعوا على أنها ناسخة للأولى]، ولأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلاَّ مع بيان موضع التوجّه.
الرابع: أن تقلب وجهه في السَّماء هو الدعاء.
القول الثاني: وهو قول أبي مسلم الأَصْفَهَاني، قال: لولا الأخبار التي دلّت على هذا القول، وإلا فلفظ الآية يحتمل وجهاً آخر، وهو أنه يحتمل أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنما كان يقلّب وجهه في أول مقدمة «المدينة».
32
فقد روي أنه - عليه السلام - كان إذا صلّى ب «مكة» جعل الكعبة بينه وبين «بيت المقدس»، وهذه صلاة إلى الكعبة، فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه، فانتظر أمر الله - تعالى - حتى نزل قوله: ﴿﴾.
فصل اختلفوا في صلاته إلى بيت المقدسن فقال قوم: كان ب «مكة» يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه [إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً.
وقال قوم: بل كان ب «مكة» يصلي إلى بيت المقدس، إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبينها.
وقال قوم: بل كان يصلي إلى بيت المقدس فقط وب «المدينة» أولاً سبعة عشر شهراً، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة لما فيه من الصلاح.
واختلفوا في توجه النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] إلى بيت المقدس هل كان فرضاً لا يجوز غيره، أو كان مخيراً في التوجه إليه وإلى غيره، فقال الربيع بن أنس: قد كان مخيراً في ذلك. وقال ابن عباس: كان التوجه إليه فرضاً.
وعلى كلا الوجهين صار منسوخاً، واحتج الأولون بالقرآن والخبر.
أما القرآن فقوله تعالى: ﴿وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ [البقرة: ١١٥].
وذلك يقتضي كونه مخيراً في التوجه إلى أي جهة شاء.
وأما الخبر فما روى أبو بكر الرّازي في كتاب «أحكام القرآن» : أن نَفَراً قصدوا الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - من «المدينة» إلى «مكة» للبيعة قبل الهِجْرَةِ، وكان فيها البراء بن معرور، فتوجّه بصلاته إلى الكعبة في طريقه، وأبى الآخرو، وقالوا: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يتوجّه إلى بيت المقدس، فلما قدموا «مكة» سألوا النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال له: قد كنت على قبلة يعني بيت المقدس لو ثَبَتَّ عليها أجزأك، ولم يأمره باستئناف الصلاة، فدلّ على أنهم قد كانوا مخيرين.
واحتجّ الذاهبون إلى القول الثَّاني بأنه - تعالى - قال: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ فدلّ على أنه - عليه السلام - ما كان يرتضي القبلة الأولى، فلو كان مخيراً بينها وبين الكعبة ما كان يتوجّه إليها، فحيث توجّه إليها مع أنه كان ما يرتضيها علمنا أنه ما كان مخيراً بينها وبين الكَعْبة.

فصل في نسخ التوجه إلى بيت المقدس


المشهور أن التوجّه إلى «بيت المقدس» إنما صار منسوخاً [بالأمر بالتوجّه إلى الكعبة.
33
ومن الناس من قال: التوجّه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله تعالى: ﴿وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ [البقرة: ١١٥] ثم إن ذلك صار منسوخاً بقوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾.
واحتجوا عليه بالقرآن والأثر.
أما القرآن فهو أنه تعالى ذكر أولاً قوله: ﴿وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ ] ثم ذكر بعده: ﴿سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾ [البقرة: ١٤٢] ثم ذكر بعده: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾.
وهذا الترتيب يقتضي صحّة المذهب الذي قلناه بأن التوجذه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾.
فلزم أن يكون قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس﴾ [متأخراً في النزول والدرجة عن قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ فحينئذ يكون تقديمه عليه في الترتيب على خلاف الأصل، فثبت ما قلناه.
وأما الأثر فما] روي عن ابن عباس أن أمر القبلة أول ما نسخ من القُرْآن، والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور في القرآن، إنما المذكور في القرآن ﴿وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ فوجب أن يكون قوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ ناسخاً لذلك، لا للأمر بالتوجذه إلى «بيت المقدس».
قوله: «فَلَنُوَلِّيَنَكَ» : فلنعطينّك ولنمكننّك من استقبالها من قولك: ولّيته كذا، إذ جعلته والياً له، أو فلنجعلنّك تَلِي سَمْتها دون سَمْت بيت المقدس.
قوله: «تَرْضَاهَا» فيه وجوه:
أحدها: ترضاها: تحبّها وتميل إليها؛ لأن الكعبة كانت أحبّ غليه من غيرها بحسب ميل الطبع، وتقدم كلام القاضي عليه وجوابه.
وثانيها: «قِبْلَةً تَرْضَاهَا» أي: تحبها بسبب اشتمالها على المَصَالح الدينة.
وثالثها: قال الأصم: أي: كل جهة وجّهك الله إليهان فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط كما فعل من انقلب على عقبيه من العرب الذين كانوا قد أسلموا، فلما تحولت القبلة ارتدوا.
ورابعها: «تَرْضَاهَا» أي: ترضى عاقبتها؛ لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام، مما يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها، أو مال يكتسبه.
قوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ «ولّى» يتعدى لاثنين:
34
أحدهما: «وجهك».
والثاني: «شطر».
ويجوز أن ينتصب «شَطْرَ» على الظرف المكاني، فيتعدى الفعل لواحد، وهو قول النحاس، ولم يذكر الزمخشري غيره.
والأول: أوضح، وقد يتعدى إلى ثانيهما ب «إلى». [والمراد من الوجه ها هنا جملة بدن الإنسان؛ لان الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط، والوجه قد يُراد به العضو، وقد يعبر عن كل الذات بالوجه.
قال أهل اللغة: «الشطر» اسم مشترك يقع على معنيين.
أحدهما: النصف من الشيء والجزء منه، يقال: شطرت الشيء، أي: جعلته نصفين، ويقال في المَثَل: اجلب جلباً لك شطره، أي: نصفه.
ومنه الحديث: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ»
وتكون من الأضداد.
ويقال: شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه، وشطر من كذا إذا ابتعد عنه وأعرض، ويكون بمعنى الجهة والنحو، واستشهد الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْه - في كتاب «الرسالة» في هذا لأربعة أبيات] قال: [الوافر]
٨٣٠ - قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُضفَرّاً أَنَامِلُهُ كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفُرْصَادِ
٨٣١ - أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي رَسُولاً وَمَا تُغْنِي الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو
وقال: [الوافر]
٨٣٢ - أَقُولُ لأُمِّ زِنْبَاعِ أَقِيمِي صُدُورُ العِيْسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ
وقال: [البسيط]
٨٣٣ - وَقَدْ أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمُ هَوْلٌ لَهُ ظُلَمٌ يَغْشَاكُمْ قِطَعَا
وقال ابْنُ أَحْمَر: [البسيط]
35
٨٣٤ - تَعْدُو بِنَا شَطْرَ نَجْدٍ وَهْيَ عَاقِدَةٌ قَدْ قَارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفادِهَا الحُقبَا
وقال: [المتقارب]
٨٣٥ - وَأَظْعَنُ بِالرُّمْحِ شَطْرَ المُلُو... كِ....................
وقال: [البسيط]
٨٣٦ - إِنَّ العَسِيرَ بِهَا دَاءٌ يُخَامِرُوهَا وَشَطْرَهَا نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ
كل ذلك بمعنى: «نحو» و «تلقاء» [فعلى هذا المراد الجهة، وهو قول جمهور المفسّرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين، واختار الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أن المراد جهة المسجد الحرام وتلقاءه.
وقرأ أبي بن كعب تلقاء المسجد الحرام.
قال القرطبي: وهو في حرف ابن مسعود: «تِلْقَاء المسجد الحرام»، وقال الجبائي: المراد من التشطير هاهنا وسط المسجد، ومنتصفه؛ لأن الشطر هو النصف، والكعبة لما كانت واقعة في نصف المسجد حسن أن يقول: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ يعني: النصف من كل جهة، كأنه عبارة عن بُقْعة الكعبة، وهذا اختيار القاضي، ويدل عليه وجهان:
الأول: أن المصلي خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجهاً إلى المسجد ولكن لا يكون متوجهاً إلى منتصف المسجد الذي هو موضع الكعبة لم تنفع صلاته.
الثاني: لو فسرنا الشرط بالجانب لم يَبْق لذكر الشطر مزيد فائدة؛ لأنك لو قلت: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ لحصلت الفائدة المطلوبة.
وإذا فسرنا الشطر بما ذكرناه كان لذكره فائدة زائدة].
ويقال: شَطر: بعد، ومنه: الشّاطر، وهو الشّاب البعيد من الجيران الغائب عن منزله، ويقال: شَطَر شُطُوراً.
والشَّطِيرُ: البعيد، ومنه: منزل شَطِيرٌ، وشطر إليه أي: أقبل.
وقال الراغب: وصار يعبر بالشّاطر عن البعيد، وجمعه: شُطُرٌ، والشاطر أيضاً لمن يتباعد من الحق، وجمعه شُطَّارٌ.
36
[فصل في الكلام على المسجد الحرام
قال الأزرقي: ذرع المسجد الحرام مقصراً مائة ألف وعشرون ألف ذِرَاع، وعدد أساطينه من شقّه الشَّرْقي: مائة وثلاث أُسْطُوَانات. ومن شقّه الغربي: مائة وخمس أُسْطُوانات، ومن شقّه الشّامي: مائة وخمس وثلاثون أسطوانة، ومن شقّه اليمنى: مائة وإحدى وأربعون أسطوانة.
وذرع ما بين كل أُسطوانتين ستة أذرع وثلاثة عشر إصبعاً.
وللمسجد الحرام ثلاثة وعشرون باباً، وعدد شُرُفاته مائتا شرفه واثنان وسبعون شرفة ونصف شرفة، ويطلب المسجد الحرام، وَيُرَاد به الكعبة.
قال تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾.
ويطلب ويراد به المسجد معها.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ لِثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ» إلى آخره، ويطلق ويراد به «مَكّة» كلها، وقال سبحانه وتعالى: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام﴾ [الإسراء: ١] قال المفسرون: كان الإسراء من بيت أُمِّ هانئ بنت أبي طالب.
ويطلق ويراد به «مكة» كلها، قال سبحانه وتعالى: ﴿ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام﴾ [البقرة: ١٩٦].
قال البعض: حاضروا المسجد الحرام من كان منه دون مسافة نفر.
وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ [التوبة: ٢٨]، هل تعتبر هذه المسافة من نفس «مكة» أو من طرف الحرم؟ والأصح أنها من طرف الحرم].

فصل في المراد بالمسجد الحرام


اختلفوا في المراد من المسجد الحرام.
روي عن ابن عباس، أنه قال: البيت قِبْلة لأهل المسجد، والمسجد قِبْلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب، وهذا قول مالك رَضِيَ اللهُ عَنْه.
37
وقال آخرون: القِبْلة هي الكعبة، والدليل عليه ما أخرج في «الصحيحين» عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، قال: أخبرني أسامة بن زيد، قال: إنه لمّا دخل النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ البيت دعا في نَوَاحيه كلها، ولم يصلِّ حتى خرج منه، فلما خرج صلى ركعتين في قُبُل الكعبة، وقال: هذه القبلة.
قال القفال: وقد وردت الأخبار الكثيرة في صرف القِبْلة إلى الكعبة.
وفي خبر البراء بن عازب: ثم صرف إلى الكعبة، وكان يحبّ أن يتوجذه إلى الكعبة.
وفي خبر ابن عمر في صلاة أهل قباء: فأتاهم أتٍ فقال: إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حول إلى الكعبة.
وفي رواية ثمامة بن عبد الله بن أنس: جاء منادي رسول الله، فنادى أن القبلة حولت إلى الكعبة. هكذا عامة الروايات.
وقال آخرون: بل المراد المسجد الحرام الحرمُ كلّه، قالوا: لأن الكلام يجب إجراؤه على ظاهر لفظه، إلاّ إذا منع منه مانع.
وقال آخرون: المراد من المسجد الحرام الحرمُ كلّه، والدليل عليه قوله تعالى ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام﴾ [الإسراء: ١] وهو - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنما أسري به خارج المسجد، فدلّ هذا على أن الحرم كله مسمى بالمسجد الحرام.
وقوله تعالى: ﴿وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ﴾ هنا وجهان:
أظهرهما: أنها شرطية، وشرط كونها كذلك زيادة «ما» بعدها خلافاً للقراء ف «كنتم» في محلّ جزم بها، و «فولُّوا» جوابها، وتكون هي منصوبة على الظرفية ب «كنتم» فتكون هي عاملة فيه الجزم، وهو عامل فيها النصب نحو: ﴿أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى﴾ [الإسراء: ١١٠].
واعلم أن «حَيْثُ» من الأسماء اللازمة للإضافة فالجملة التي بعدها كان القياس يقتضي أن تكون في محلّ خفض بها، ولكن منع من ذلك مانع، وهو كونها صارت من عوامل الأفعال.
قال أبو حيان: وحيث هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة، فهي مقتضية للخفض بعدها، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم؛ لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال والإضافة موضحة لما أضيف، كما أن الصلة موضحة، فينافي اسم الشرط؛ لأن اسم
38
الشرط مبهم، فإذا وصلت ب «ما» زال منها معنى الإضافة، وضمنت معنى الشرط وجُوزِيَ بها، وصارت من عوامل الأفعال.
والثاني: أنها ظرف غير مضمن معنى الشرط، والناصب له قوله: «فولّوا» قاله أبو البقاء، وليس بشيء، لأنه متى زيدت عليها «ما» وجب تضمّنها معنى الشرط. وأصل «ولّوا» : وليوا، فاستثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان فحذف أولهما، وهو الياء وضم ما قبله ليجانس الضمير، فوزنه «فعوا».
وقوله: «شَطْرَهُ» فيه القولان، وهما: إما المفعول به، وإما الظرفية كما تقدم.

فصل في الصلاة في المسجد الحرام


قال صاحب التهذيب: الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام يتسحب أن يقف الإمام خلف المقام، والقوم يقفون مستدبرين البيت، فإن كان بعضهم أقرب إلى البيت من الإمام جاز، فلو امتدّ الصف في المسجد، فإنه لا تصحّ صلاة من خرج عن مُحاذاة الكعبة.
وعند أبي حنيفة تصحّ؛ لأن عنده الجهة كافية. وحجة الشّافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه:
القرآن والخبر والقياس.
أما القرآن فهو ظاهر هذه الآية، وذلك لأنا دللنا على أن المراد من شطر المسجد الحرام جانبه، وجانب الشيء هو الذي يكون محاذياً له، وواقعاً في سَمْته، والدليل عليه أنه لو كان كل واحد منهما إلى جانب المشرق، إلا أنه لا يكون وجه أحدهما محاذياً لوجه الآخرن لا يقال: إنه ولّى وجهه إلى جانب عمرو، فثبت دلالة الآية على أن استقبال عين الكعبة واجب.
وأما الخبر فما روينا أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما خرج من الكعبة ركع ركعتين في قِبْلة الكعبة، وقال: «هَذِهِ القِبْلَةُ»
وهذه الكلمة تفيد الحصر، فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة، وكذلك سائر الأخبار التي رَوَيْنَاها في أن القبلة هي الكعبة.
وأما القياس فهو أن مبالغة الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في تعظيم الكعبة أمر بلغ التواتر، والصلاة من أعظم شعائر الدين، وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة مما يوجب حصول مزيد شرف الكعبة، فوجب أن يكون مشروعاً، ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم، وكون غيرها قبلة أمر مَشْكُوك، والأَوْلَى رعاية الاحتياط في الصلاة، فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال الكعبة.
واحتج ابو حنيفة بظاهر الآية؛ لأنه - تعالى - أوجب على المكلف أن يولّي وجهه إلى جانبه، فمن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيهن فقد أتى بما أمر به.
39
سواء كان مستقبلاً الكعبة أم لا، فوجب أن يخرج على العهدة.
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: «مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ قِبْلَةٌ»
قال أصحاب الشافعي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: ليس المراد من هذا الحديث أن كلّ ما يصدق عليه أنه بين مشرق ومغرب فهو قبلة؛ لأن جانب القُطب الشمالي يصدق عليه ذلك، وهو بالاتفاق ليس بقبلة، بل المراد أن الشيء الذي هو بين مشرق معين، وغرب معين قبلة، ونحن نحمل ذلك على الذي يكون بين المشرق الشتوي، وبين المغرب الصيفي، فإن ذلك قبلة، وذلك لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل، والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خطّ الاستواء بمقدار الميل، والذي بينهما هو سَمْت «مكة».
قالوا: فهذا الحديث بان يدلعلى مذهبنا أَوْلى بالدلالة على مذهبكم، أما فعل الضحابة فمن وجهين:
الأول: ان أهل مسجد «قبال» كانوا في صلاة الصبح ب «المدينة» مستقبلين لبيت المقدس، مستدبرين للكعبة؛ لأن «المدينة» بينهما.
فقيل لهم: ألا إن القبلة قد حوّلت إلى الكعبة، فاستداروا في أثناء الصَّلاة من غير طَلَبِ دلالةلة، ولم ينكر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليهم، وسمى مسجدهم ب «ذي القبلتين» ومقابلة العين من المدينة إلى «مكة» لا تعرف إلا بأدلّة هندسية يطول النظر فيها، فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل؟
الثاني: أن الناس من عهد رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام، ولم يحضروا قط مهندساً عند تسوية المحراب، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة.
وأما القياس فمن وجوه:
الأول: لو كان استقبال عين الكعبة واجباً، إما علماً أو ظنّاً، وجب ألاّ تصح صلاة أحد قط؛ لأنه إذا كان مُحَاذاة الكعبة مقدار نيف وعشرين ذراعاً، فمن المعلوم أن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في مُحَاذات هذا المقدار، بل المعلوم أن الذي يقع منهم في مُحَاذاة هذا القدر القليل قليل بالنسبة إلى كثير.
ومعلوم أن العبرة في أحكام الشرع بالغالب، والنادر ملحق به، فوجب ألاَّ تصح
40
صلاة أحد منهم لا سيما وذلك الذي وقع في مُحَاذاة الكعبة لا يمكنه أن يعرف أنه وقع في مُحَاذاتها، وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أن المحاذاة معتبرة.
فإن قيل: الدائرة وإن كانت عظيمة إلا أن جميع النقط المفروضة عليها تكون محاذية لمركز الدائرة، فالصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة بالكعبة، والكعبة كأنها نقطة لتلك الدائئرة إلا أن الدائرة إذا صَغُرت صغر التَّقَوُّس والانحناء في جميعها، وإن اتسعت وعظمت لم يظهر التقوس والانحناء في كل واحد من قسمها، بل نلى كل قطعة منها شبيهاً بالخطّ المستقيم، فلا جرم صحت الجماعة بصفّ طويل في المشرق والمغرب يزيد طولاه على أضعاف البيت، والكلّ يسمون متوجهين إلى عين الكعبة.
قلنا: هَبْ أن الأمر على ما ذكرتموه، ولكن القطعة من الدائرة العظيمة، وإن كانت شبيهة بالخط المستقيم في احس، إلا أنها لا بد وأن تكون منحنيةً في نفسها؛ لأنها لو كانت في نفسها مستقيمة، وكذا القول في جميع قطع تلك الدائرة، فحينئذ تكون الدَّائرة مركبة من خطوط مستقيمة يتّصف بعضها ببعض، فيلزم أن تكون الدائرة إما مضلعة أو خطّاً مستقيماً، فالصفوف المتصلة في أطراف العالم إنما يكون كل واحد منها مستقبلاً لعين الكعبة لو لم تكن تلك الصفوف واقعة على خط مستقيم، بل إذ حصل فيها ذلك الانحناء القليل إلاَّ أن ذلك الانحناء القليل الذي لا يفي بإدراكه الحس ألبتة، لا يمكن أن يكون في محلّ التكليف، وإذا كان كذلك كان كل واحد من هؤلاء الصفوف جاهلا بأنه هل هو مستقبل لعين الكعبة أو لا؟
فلو كان استقبال عين الكعبة شرطاً لكان حصول هذا الشرط مجهولاً للكلّ والشّك في حصول الشرط يقتضي الشَّك في حصول المشروط، فوجب أن يبقى كل واحد من أهل هذه الصفوف شاكّاً في صحة صلاته، وذلك يقتضي أن لا يخرج عن العُهْدَة ألبتة.
وحيث اجتمعت الأمة على أنه ليس كذلك علمنا أن استقبال العين ليس بشرط لا علماً ولا ظنّاً، وهذا كلام بيّن.
الثاني: أنه لو كان استقبال عين الكعبة واجباً لا سبيل إليه إلاّ بالدلالة الهندسية، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب، فكان يلزم أن يكون تعلم الدلالة الهندسية واجباً على كل واحد، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب.
فإن قيل: عندنا استقبال عين الجهة واجب ظنّاً لا يقيناً، والمفتقر إلى الدلائل الهندسية هو الاستقبال يقيناً لا ظنّاً.
قلنا: لو كان استقبال عين الكعبة واجباً لكان القادر على تحصيل اليقين، لا يجوز له الاكتفاء بالظن، والقادر على تحصيل ذلك بواسطة تعلم الدلائل الهندسية، فكان يجب عليه تعلم تلك الدلائل، ولما لم يجب ذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب.
41
الثالث: لو كان استقبال العين واجباً إام علماً أو ظنّاً، ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك الظن إلا بنوع من أنواع الأمارات، وما لا يتأدّى الواجب إلاَّ به فهو واجب، فكان يلزم أن يكون تعلم تلك الأمارات فرض عَيْن على كل واحد من المكلفين، ولما لم يكن كذلك علمنا أان استقبال العين غير واجب.

فصل في وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة


دلّ قوله تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ على وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة في الصلاة وغيرها، ويؤيده قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «خَيْرُ المَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ القِبْلَةُ» خرج منه الصلاة حال المُسَايفة، والخوف، والمطلوب والخائف والهارب من العدود، ويبقى فيما عداه على مقتضى الدليل.
فإن قيل: قوله تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَه﴾ تكرار لقوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾.
فالجواب: أن هذا ليس بتَكْرَار، وبيانه من وجهين:
أحدهما: أن قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ خطاب مع الرسول - عليه السلام - لا مع الأمة.
وقوله: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَه﴾ خطاب مع الكل.
وثانيهما: أن المراد بالأولى مخاطبتهم، وهم ب «المدينة» خاصة، وقد كان من الجائز لو وقع الاقتصار عليه أن يظن أن هذه القبلة قبلة لأهل «المدينة» خاصة، فبيّن الله تعالى أنهم أينما صلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة.
[قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾.
قال السُّدٍّي: هم اليهود خاصة، والكتاب: التوراة.
وقال غيره: أحبار اليهود، وعلماء النصارى؛ لعموم اللفظ، والكتاب التوراة والإنجيل.
فلا بد أن يكون عدداً قليلاً؛ لأن الكثير لا يجوز عليهم التواطؤ على الكتمان].
قوله تعالى: «أَنَّهُ الحَقُّ» يحتمل أن تكون «أن» واسمها وخبرها سادّة مسدّ المفعولين ل «يعلمون» عند الجمهور، ومسدّ أحدهما عند الأخفش، والثاني محذوف على أنها تتعدى لاثنين، وأن تكون سادّة مسد مفعول واحد على أنها بمعنى العِرْفان، وفي الضمير ثلاثة أقوال:
42
أحدها: يعود على التولّي المدلول عليه بقوله: «فولّوا».
والثاني: على الشطر.
والثالث: على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، [أي: يعلمون أن الرسول مع شرعه وبنوّته حقّ] ويكون على هذا التفاتاً من خطابه بقوله: «فلنولِّينَّك» إلى الغيبة.
[قوله تعالى: «من ربهم» متعلب بمحذوف على أنه حال من الحق، أي كائناً من ربهم].

فصل في كيفية معرفة أهل الكتاب


اختلفوا في كيفية معرفتهم فذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: أن قوماً من علماء اليهود كانوا عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول، وخبر القبلة، وأنه يصلي إلى القبلتين.
وثانيها: أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله - تعالى - قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
وثالثها: أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما ظهر عليه من المعجزات، ومتى علموا نبوته، فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق، فكان هذا التحويل حقّاً.
قوله تعالى: ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ تقدم معناه.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «تعملون» بالتاء على الخطاب للمسلمين وهو الظاهر أو ل «للذين» على الالتفات تحريكاً لهم وتنشيطاً، والباقون بالغيبة ردّاً على الذين أوتوا الكتاب، أو ردّاً على المؤمنين، ويكون التفاتاً من خطابهم بقوله: «وجوهكم - كنتم» فإن جعلناه خطاباً للمسلمين، فهو وعد لهم، وبشارة أي: لا يخفى عليَّ جدّكم واجتهادكم في قَبُول الدين، فلا أخل بثوابكم.
وإن جعلناه كلاماً مع اليهود، فهو وعيد وتهديد لهم، ويحتمل أيضاً أنه ليس بغافل عن مكافأتهم ومجازاتهم، وإن لم يعجلها لهم، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار﴾ [إبراهيم: ٤٢].
43
قوله تعالى: ﴿وَلِئَنْ أَتَيْتَ﴾ فيه قولان:
43
أحدهما: قول سيبويه وهو أن «اللام» هي الموطّئة للقسم المحذوف، و «إن» شرطية، فقد اجتمع شرط وقسم، وسبق القسمن فالجواب له إذ لم يتقدمهما ذو خبر.
فلذلك جاء الجواب للقسم ب «ما» النافية وما بعدها، وحذف جواب الشرط لسدّ جواب القسم مسده، ولذلك جاء فعل الشرط ماضياً؛ لأنه متى حذف الجواب وجب مضيّ فعل الشرط إلا في ضرورة، و «تَبِعُوا» وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبل معنى أي: ما يتبعون لأن الشرط قيد في الجملة والشرط مستقبل، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلاً ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطاً في الماضي.
الثاني: وهو قول الفراء، وينقل أيضاً عن الأخفش والزجاج أن «إن» بمعنى «لو»، ولذلك كان «ما» في الجواب، وجعل «ما تَبِعُوا» جواباً ل «إن» لأنها بمعنى «لو».
أما إذا لم تكن بمعناها، فلا تجاب ب «ما» وحدها، بل لا بد من الفاء، تقول: إن تزرني فما أزورك.
ولا يجيز الفراء: «ما أزورك» بغير فاء
وقال ابن عطية: وجاء جواب «لئن» كجواب «لو»، وهي ضدها في أنَّ «لو» تطلب المضي والوقوع، و «إنْ» تطلب الاستقبال؛ لأنهما جميعاً يترتب قبلهما القسم، فالجواب إنما هو للقسم؛ لأن أحد الحرفين يقع موضع الآخر هذا قول سيبويه.
قال أبو حيان: هذا فيه تثبيج، وعدم نصّ على المراد؛ لأن أوله يقتضي أن الجواب ل «إن»، وقوله بعد: الجواب للقسم يدل على أنه ليس ل «إن»، وتعليله بقوله: لأن أحد الحرين يقع موقع الآخر لا يصلح علة لكون «ما تَبِعُوا» جواباً للقسم، بل لكونه جواباً ل «إن».
وقوله: «قول سيبويه» ليس في كتاب سيبويه ذلك، إنما فيه أن «ما تبعوا» جواب القَسَم، ووقع فيه الماضي موقع المستقبل.
44
قال سيبويه وقالوا: لئن فعلت ما فعل، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل.
وتلّخص مما تقدم أن قوله: «مَا تَبِعُوا» فيه قولان:
أحدهما: أنه جواب للقسم سادّ مسدّ جواب الشرط، ولذلك لم يقترن بالفاء.
والثاني: أنه جواب ل «إن» إجراء لها مجرى «لو».
وقال أبو البقاء: «ما تَبِعُوا» أي: لا يتبعوا فهو ماض في معنى المستقبل، ودخلت «ما» حملاً على لفظ الماضي، وحذفت الفاء في الجواب؛ لأن فعل الشرط ماض.
وقال الفراء: «إِنْ» هنا بمعنى «لو».
وهذا من أبي البقاء يؤذن أن الجواب للشرط وإنما حذفت الفاء لكون فعل الشرط ماضياً، وهذا منه غير مُرْضٍ؛ لأنه خالف البصريين والكوفيين بهذه المَقَالَة.

فصل في المراد بالآية.


قال الأصم: المراد من الآية علماؤهم الذين أخبر عنهم في الآية الكريمة المتقدمة بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ﴾ [البقرة: ١٤٤] ؛ لأن الآية الكريمة لا تتناول العوام، ولو كان المراد الكل لامتنع الكِتْمان؛ لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم الكِتْمَان، ولأنا لو حملناه على العموم لصارت الآية كذباً؛ لان كثيراً من أهل الكتاب آمن بمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وتبع قبلته.
وقال آخرون: بل المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ لأن الذين أوتوا الكتاب صيغة عموم، فيتناول الكل.

فصل في لفظ «آية»


«الآية» : وزنها «فَعَلَة» أصلها: أَيَيَة «، فاستثقلوا التشديد في الآية فأبدلوا من الياء الأولى ألفاً لانفتاح ما قبلها.
والآية: الحُجّة والعلامة، وآية الرجل: شخصه، وخرج القول بآيتهم أي: جماعتهم.
وسميت آية القرآن بذلك؛ لأنها جماعة حروف. وقيل: لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها.
وقيل: لانها دالة على انقطاعها عن المخلوقين، وأنها ليست إلا من كلام الله تعالى.

فصل في سبب نزول هذه الآية


روي أن يهود»
المدينة «، ونصارى» نجران «قالوا للرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد
45
وبجل وعظم: ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال ابن الخطيب:» والأقرب أان هذه الآية ما نزلت في واقعة مبتدأة، بل هي من بقية أحكام تحويل القبلة «.
قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعِ قِبْلَتَهُمْ﴾.
»
ما «تحتمل الوجهين أعني: كونها حجازية، أو تميمية: فعلى الأول يكون» أنت «مرفوعاً بها، و» بتابع «في محلّ نصب.
وعلى الثاني يكون مرفوعاً بالابتداء، و»
بتابع «في محلّ رفع، وهذه الجملة معطوفة على جملة الشرط، وجوابه لا على الجواب وحده، إذ لا يحل محله؛ لأن نفس تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيداً في نفي تبعيته قبلتهم، وهذه الجملة أبلغ في النفي من قوله: ﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ من وجوه:
أحدها: كونها اسمية متكررة فيها الاسم، مؤكد نفيها بالباء.
ووحّد القبلة وإن كانت مثناة: لأن لليهود قبلة، وللنصارى قبلة أخرى لأحد وجهين:
إما لاشتراكهما في البطلان صارا قبلة واحدة، وإما لأجل المقابلة في اللفظ؛ لأن قبله: ﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾.
وقرئ: ﴿بِتَابِعٍ قِبْلَتِهِمْ﴾ بالإضافة تخفيفاً؛ لأن اسم الفاعل المستكمل لشروط العمل يجوز فيه الوجهان.
واختلف في هذه الجملة: هل المراد بها النهي أي: لا تتبع قبلتهم، ومعناه: الدوام على ما أنت عليه؛ لأن معصوم من اتباع قبلتهم، أو الإخبار المَحْض بنفي الأتبّاع، والمعنى أن هذه القبلة لا تصير مَنْسوخة، أو قطع رجاء أهل الكتاب أن يعود إلى قبلتهم؟ قولان مشهوران.
قوله: ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾.
قال القفال: هذا يمكن حمله على الحال وعلى الاستقبال.
أما على الحال فمن وجوه:
الأول: أنهم ليسوا مجتمعين على قِبْلَةٍ واحدة حتى يمكن إرضاؤهم باتباعها.
الثاني: أن اليهود والنصارى مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة، فكيف يدعونك إلى ترك قبلتك، مع أنهم فيما بينهما مختلفون.
الثالث: أن هذا إبطال لقولهم: إنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب؛ لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتاهما للمصلحة جاز أن تكون المصلحة في ثالث.
46
وأما حمل الآية على الاستقبال ففيه إشكال وهو أن قوله: ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ ينفي أن يكون أحد منهم قد اتبع قبلة الآخر، لكن ذلك قد وقع فيفضي إلى الخلف، وجوابه أنا إن حملنا أهل الكتاب على علمائهم الذين كانوا في ذلك الزمان، فلم يثبت عندنا أن أحداً منهم تبع قبلة الآخر، فالخلف غير لازم.
وإن حملناه على الكل قلنا: إنه عاّ دخله التخصيص.
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٠] كقوله: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ﴾.
وقوله: «إِنَّكَ» جواب القسم، وجواب الشرط محذوف كما تقدم في نظيره.
قال أبو حيان: لا يقال: غنه يكون جواباً لهما لاتمناع ذلك لفظاً ومعنى.
أما المعنى فلأن الاقتضاء مختلف، فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه؛ لأن القَسَم إنما جيء به توكيداً للجملة المقسم عليها، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملاً، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه، فتكون الجملة في موضع جزم، وعمل الشرط لقوة طلبه له.
وأام اللفظ فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم لم تحتج إلى مزيد رابط، فإذا كانت جواب شرط احتاجت إلى مزيد رابط وهو الفاء، ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها، فلذلك امتنع أن تكون جواباً لهما معاً.

فصل في الهوى


الهوى المقصور: هو ما يميل إليه الطبع [وقيل: هو شهوة نتجت عن شبهة، والممدود هو الجو]. ؟
اختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب.
قال بعضهم: الرسول.
وقال بعضهم: الرسول وغيره.
وقال آخرون: بل غيره؛ لأنه - تعالى - عرف أن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لا يفعل ذلك، فلا يجوزأن يخصّه بهذا الخطاب، وهذا خطأ من وجوه:
أحدها: أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب ألا ينهاه عنه، لكان ما علم أن يفعله وجب ألا يأمره به، وذلك يقتضي ألا يكون النبي مأموراً بشيء، ولا منهيّاً عن شيء، وإنه بالاتفاق باطل.
وثانيها: لولا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عنه فلما كان ذلك الاحتراز
47
مشروطاً بذلك النهي والتحذير، فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافياً للنهي والتحذير.
وثالثها: أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذاك في العقل، فيكون الغرض منه التأكيد، ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعدما قرّرها في العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل، فأي بعد في مثل هذا الغرض هاهنا.
ورابعها: قوله تعالى في حق الملائكة: ﴿وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٢٩] مع أنه - تعالى - أخبر عن عصمتهم في قوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: ٥٠] وقال في حق محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥].
والإجماع على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما أشرك، وما مال إليه، وقال ﴿يا أَيُّهَا النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين﴾ [الأحزاب: ١] وقال: ﴿بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة: ٦٧]، وقوله: ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين﴾ [الأنعام: ١٤].
فثبت بما قلنا أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مَنْهي عن ذلك وأن غيره أيضاً منهي عنه؛ لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواصّ الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
بقي أن يقال: فلم خصه بالنهي دون غيره؟
فنقول فيه وجوه:
أحدها: أن كل من كان نعم الله عليه أكثر، كان صدور الذنب منه أقبح، فكان أَوْلَى بالتخصيص.
وثانيها: أن مزيد الحبّ يقتضي التخصيص بمزيد التحذير.
وثالها: أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم، فزجره عن أمر بحضرة جماعه أولاده، فإنه يكون منبهاً بذلك على عظم ذلك الفعل إن ارتكبوه، فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية.
القول الثاني: أن قوله: ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٠] ليس المراد منه إن اتبع أهواءهم في كل الأمور، فلعله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم، مثل ترك المُخَاشنة في القول والغِلْظَة في الكلام، طمعاً منه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في استمالتهم، فنهاه الله - تعالى - عن ذلك القدر أيضاً، وآيَسَهُ منهم بالكلية على ما قال: ﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٤].
القول الثالث: أن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا ان المراد منه غيره وهذا كما أنك إذا عاتبت [إنساناً أساء عبده إلى عبدك فتقول له: لو فعلت مرة أخرى مثل] هذا الفعل لعاقبتك عليه عقاباً شديداً، فكان الغرض منه زجر العبد.
48
قوله تعالى: ﴿مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم﴾.
إنه - تعالى - لم يرد بذلك أنه نفس العلم، بل المراد الدَّلائل والآيات والمعجزات؛ لأن ذلك من طرق العلم، فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثّر، والغرض من هذا الاستعارة هو المبالغة [والتعظيم في] أمر النبوات والمعجزات بأنه سمّاه باسم العلم، وذلك ينبّهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة، ودلّت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجّهه على غيرهم.
[قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين﴾ أي إِنّك لو فعلت ذلك لكنت بمنزلة القوم في كفرهم، وظلمهم أنفسهم].
و «إذاً» حرف جواب وجزاء بنص سييبويه، وتنصب المضارع بثلاثة شروط:
أن تكون صدراً، وألا يفصل بينها وبين الفعل بغير الظرف والقسم، وألا يكون الفعل حالاً، ودخلت هنا بين اسم «إن» وخبرها لتقرير النسبة بينهما وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر، فلم تتقدم، لأنه سبق قسم وشرط والجواب هو للقسم، فلو تقدمت لتوهّم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف، ولم تتأخر لئلا تفوت مناسبة الفواصل رؤوس الآي.
قال أبو حيان: وتحرير معنى «إذاً» صعب اضطرب الناس في معناها، وفي فهم كلام سيبويه فيها، وهو أن معناها الجواب والجزاء.
قال: والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظاً أو تقديراً، وما بعدها في اللفظ أو التقدير، وإن كان متسبباً عما قبلاه فهي في ذلك على وجهين:
أحدهما: أن تدلّ على إنشاء الارتباط والشرط، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها، مثال ذلك: أزورك فتقول: إذاً أزورك، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطاً لفعلك، وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب، وبالفعلية في زمان مستقبل، وفي هذا الوجه تكون عاملة، ولعملها شروط مذكورة في النحو.
الوجه الثاني: أن تكون مؤكّدة لجواب ارتبط بمقدم، أو مبّهة على مسبب حصل في الحال، وهي في الحالين غير عاملة؛ لأن المؤكدات لا يعتمد عليها والعامل يعتمد عيله، وذلك، نحو: «إن تأتني إِذَاً آتك»، و «والله إِذاً لأفعلن» فلو أسقطت «إِذاً» لفهم الارتباط، ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو: «أزورك» فتقول: «إِذاً أنا أكرمك»، وجاز توسطها نحو: «أنا إِذاً أكرمك» وتأخرها، وإذا تقرر هذا فجاءت «إذاً» في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم، وإنما
49
قررت معناها هنا؛ لأنها كثيرة الدور في القرآن، فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه انتهى كلامه.
واعلم أ، ها إذا تقدمها عاطف جاز إعمالها وإهمالها، وهو الأكثر، وهي مركبة من «همزة وذال ونون»، وقد شبهت العرب نونها بتنوين المنصوب قلبوها في الوقف ألفاً، وكتبوها في الكتاب على ذلك، وهذا نهاية القول فيها.
وجاء في هذا المكان «مِنْ بِعْدِ مَا جَاءَكَ» وقال قبل هذا: ﴿بَعْدَ الذي جَآءَكَ﴾ [البقرة: ١٢٠] وفي «الرعد» :﴿بَعْدَ مَا جَآءَكَ﴾ [الرعد: ٣٧] فلم يأت ب «من» الجارة إلا هنا، واختص موضعاً ب «الذين»، وموضعين ب «ما»، فما الحكمة في ذلك؟
والجواب: ما ذكره بعضهم وهو أن «الذي» أخص و «ما» أشد إبهاماً، فحيث أتي ب «الذي» أشير به إلى العلم بصحّة الدين الذي هو الإسلام المانع من ملّتي اليهود والنصارى، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه؛ لأنه علم بكل أصول الدين، وحيث أتي بلفظ «ما» أشير به إلى العلم [بركنين] من أركان الدين، أحدهما: القبلة، والأخر: بعض الكتاب؛ لأنه أشار إلى قوله: ﴿وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ﴾ [الرعد: ٣٦].
قال: وأما دخول «: من» ففائدته ظاهرة، وهي بيان أول الوقت الذي وجب عليه - عليه السلام - أن يخالف أهل الكتاب في قبلتهم، والذي يقال في هذا: إنه من باب التنوع من البلاغة.
50
في «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ» : ستة أوجه:
ظهرها: أنه مرفوع بالابتداء، والخبر قوله: «يعرفونه».
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين آتيناهم.
الثالث: النصب بإضمار «أعني».
الرابع: الجر على البدل من «الظَّالمين».
الخامس: على الصفة للظالمين.
السادس: النصب على البدل من «الَّذين أوتوا الكتاب» في الآية قبلها.
قوله تعالى: «يَعْرِفُونَهُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر «الذين آتيناهم» كما تقدم في أحد الأوجه المذكورة في «الَّذِينَ آتيناهم».
الثاني: أنه نصب على الحال على بقية الأقوال المذكورة.
50
وفي صاحب الحال وجهان:
أحدهما: المفعول الأول ل «آتيناهم».
والثاني: المفعول الثاني وهو الكتاب؛ لأن في «يعرفونه» ضميرين يعودان عليهما، والضمير في «يعرفونه» فيه أقوال:
أحدها: أنه يعود على «الحق» الذي هو التحول، وهو قول ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - وقتادة والربيع وابن زيد.
الثاني: على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم وبجل وعظّم؛ أي: يعرفونه معرفة جليّة كما يعرفون أبناءهم لا تشتبه أبناؤهم وأبناء غيرهم.
روي عن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أنه سأل عبد الله بن سلام - رضي الله تعالى عنه - عن رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: أنا أعلم به مني بابني، قال: ولم؟ قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبي، وأما ولدي فلعل والدته خانت. فقبَّل عمر رأسه.
وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر؛ لأن الكلام يدل عليه، ولا يلتبس على السامع، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام.
قالوا: وهذا القول أولى من وجوه:
أحدها: أن الضمير إنام يرجع إلى مذكور سابق، وأقرب المذكورات العلم في قوله: ﴿مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم﴾ [البقرة: ١٤٥].
والمراد من ذلك العلم: النبوة، فكأنه تعالى قال: إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم، وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة.
وثانيها: أن الله - تعالى - ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القِبْلة مذكور في التوراة والإنجيل، واخبر فيه ان نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم مذكورة في التوراة والإنجيل، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوّة أَوْلى.
وثالثها: أن المعجزات لا تدلّ أوّل دلالتها إلا على صدق محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظّم، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى.
وعلى هذا القول أسئلة.
السؤال الأول: أنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله من امر القبلة.
51
والجواب: أنه تعالى في الآية المتقدمة لما حذر أمة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عن اتْباع اليهود والنصارى بقوله تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين﴾ [البقرة: ١٤٥] أخبر المؤمنين بحاله - صلوات الله وسلامه عليه - في هذه الآية فقال: العلماء يا معشر المؤمنين أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمداً، وما جاء به وصدقه ودعوته وقِبْلَتَه لا يشكّون فيه كما لا يشكون في أبنائهم.
السؤال الثاني: هذه الآية نظيرها قوله تعالى: ﴿يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل﴾ [الأعراف: ١٥٧] وقال: ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ﴾ [الصف: ٦] إلا أنّا نقول: من المستحيل أن يعرفوه كما يعرفون أبناءهم، وذلك لأنه وصفه في التوراة والإنجيل: إما أن يكون قد أتى مشتملاً على التفصيل التام، وذلك إنما يكون بتعيين الزمان والمكان والصفة والخِلْقة والنَّسَب والقبيلة، أو هذا الوصف ما أتى من هذا النوع من التفصيل، فإن كان الأول وجب أن يكون بمقدمه في الوقت المعين، من البلد المعين، من القبيلة المعينة على الصفة المعينة معلوماً لأهل المشرق والمغرب؛ لأن التوراة والإنجيل كانا مشهورين فيما بين أهل المشرق والمغرب، ولو كان الأمر كذلك لما تمكن أحد من النصارى واليهود من إنكار ذلك.
وأما القسم الثاني: فإنه لا يفيد القطع بصدق نبوة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنا نقول: هَبْ أن التوراة اشتملت على أن رجلاً من العرب سيكون نبيّاً إلا أن ذلك الوصف لما لم يكن منتهياً في التفصيل إلى حَدّ اليقين، لم يلزم من الاعتراف به الاعتراف بنبوّة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والجواب: أن هذا الإشكال إنما يتوجذه لو قلنا بأن العلم بنبوته إنما حصل من اشتمال التوراة والإنجيل على وصفه، ونحن لا نقول به، بل نقول: إنه ادّعى النبوة، وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبياً صادقاً، فهذا برهان، والبرهان يفيد اليقين، فلا جرم كان العلم بنبوة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقوى وأظهر من العلم ببنوّة الأبناء، وأبوة الآباء.
السؤال الثالث: فعلى هذا الوجه الذي قرّرتموه كان العلم بنبوة محمد - صلوات الله وسلامه عليه - علماً برهانياً، غير محتمل للغَلَطِ.
أما العلم بأن هذا ابْني فذلك ليس علماً يقينياً، بل ظن ومحتمل للغلط، فلم شبه اليقين بالظن؟
والجواب: ليس المراد أن العلم بنبوة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يشبه العلم ببنوّة الأبناء، بل المراد به تشبيه العلم بأشخاص الأبناء وذواتهم، فكما أن الأب يعرض شخص ابنه معرفة لا يشتبه هو عنده بغيره فكذا هاهنا، وعند هذا يستقيم التشبيه، لأن هذا العلم ضروري وذلك نظري، وتشبيه النظري بالضروري يفيد المبالغة وحسن الاستعارة.
السؤال الرابع: لم خص الأبناء بالذكر دون البنات.
52
الجواب: لأن الذكور أعرف وأشهر، وهم بصحبة الآباء ألزم، وبقلوبهم ألصق.
والضمير في «يَعْرِفُونَه» يعود على القرآن الكريم.
وقيل: على العلم.
وقيل: على البيت الحرام.
[ويعود الضمير إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم. وهو رأي الزمخشري، واختاره الزَّجاج وغيره، وقال أبو حيان: هذا من باب الالتفات من الخطاب في قوله: «فَوَلِّ وَجْهَكَ» إلى الغيبة].
قوله: «كَمَا يَعْرِفُونَ» «الكاف» في محل نصب إما على كونها نَعْتاً لمصدر محذوف أي: معرفة كائنة مثل معرفتهم أبناءهم، أو في موضع نصب على الحال من ضمير ذلك المصدر المعرفة المحذوف، التقدير: يعرفونه معرفة مُمَاثلة لعرفانهم، وهذا مذهب سيبويه وتقدم تحقيق هذا. و «ما» مصدرية لأنه ينسبك منها ومما بعدها مصدر كما تقدم تحقيقه.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٤٦].
اعلم أن الذين أوتوا الكتاب وعرفوا الرسول، فمنهم من آمن به مثل عبد الله بن سلام وأتباعه، ومنهم من بقي على كفره، ومن آمن لا يوصف بكتمان الحق، وإنما يوصف بذلك من بقي على كفره، لا جرم قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ فوصف البعض بذلك، ودلّ بقوله] :«» على سبيل الذّم، على أنّ كتمان الحقّ في الدين محظور إذا أمكن إظهاره، واختلفوا في المَكْتُوم، فقيل: أمر محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل: أمر القبلة كما تقدم.
قوله تعالى: «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» جملة اسمية في محلّ نصب على الحال من فاعل «يكتمون»، والأقرب فيها أن تكون حالاً مؤكدة؛ لأن لفظ «يَكْتُمون الحَقّ» يدل على علمه، إذ الكتم إخفاء ما يعلم وقيل: متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب، أي: وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق، فتكون إذ ذاك حالاً مبينة، وهذا ظاهر في أن كفرهم كان عِنَاداً، ومثله: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ [النمل: ١٤].
قوله تعالى: «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده، وفي الألف واللام حينئذ وجهان:
أحدهما: أن تكون للعهد، والإشارة إلى الحق الذي عليه الرسول - عليه السلام - أو إلى الحق الذي في قوله: «يَكْتُمُونَ الْحَقَّ» أي: هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك، وأن تكون للجنس على معنى الحق من الله لا من غيره.
53
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الحق من ربك، والضمير يعود على الحق المكتوم أي: ما كتموه هو الحق.
الثالث: أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره: الحق من ربك يعرفونه، والجار والمجرور على هَذَين القولين في محلّ نصب على الحال من «الحَقّ»، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر في الوجه الثاني.
وقرأ علي بن أبي طالب: «» نصباً، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوب على البدل من الحق المكتوم، قاله الزمخشري.
الثاني: أن يكون منصوباً بإضمار «الذم»، ويدل عليه الخطاب بعده في قوله: «لَلاَ تَكُونَنَّ».
الثالث: أنه يكون منصوباً ب «يعلمون» قبله، وذكر هذين الوجهين ابن عطية، وعلى هذا الوجه الأخير يكون مما وقع فيه الظاهر موضع المضمر، أي: وهم يعلمونه كائناً من ربك، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل نحو: [الخفيف]
٧٣٧ - لاَ أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيءٌ..................................
والنهي عن الكون على صفة أبلغ من النهي عن نفس الصفة، فلذلك جاء التنزيل عليه: نحو ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين﴾ [الأنعام: ٣٥] دُونَ: لا تمتر ولا تجهل ونحوه وتقرير ذلك أن قوله: «لا تكن ظالماً» نهي عن الكون بهذه الصفة، والنهي عن الكون على صفة أبلغ من النهي عن تلك الصفة؛ إذ النهي عن الكون على صفة يدلّ على عموم الأكوان المستقبلة عن تلك الصفة، والمعنى لا تظلم في كل أكوانك، أي: في كل فرد فرد من أكوانك فلا يمرّ بك وقت يوجد منك فيه ظلم، فيصير كأن فيه نصاً على سائر الأكوان، بخلاف: لا تظلم، فإنه يستلزم الأكوان، وفرق بين ما يدلّ دلالة بالنص وبين ما يدل دلالة بالاستلزام و «الامتراء» : افتعال من المِرْيَة وهي الشك، ومنه المراء. قال: [الطويل]
54
و «ماريته» : جادلته وشاكلته فيما يدعيه، و «افتعل» فيه بمعنى «تفاعل»، يقال: تماروا في كذا، وامتروا فيه نحو: تجاوروا، واجتوروا.
وقال الراغب: المِرْيَة: التردّد في الأمر، وهي أخَصُّ من الشَّك، والامتراء والمماراة المُحاجَّةُ فيما فيه مِرْية، وأصله من مَرَيْتُ النَّاقة إذا مَسحتَ ضَرْعَها للحَلْب.
ففرق بين المِرْية والشَّك كما ترى، وهذا كما تقدم له الفرق بين الرّيب والشَّك، وانشد الطبري قول الأعشى: [الطويل]
٨٣٨ - فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الْمِرَاءَ فَإِنَّهُ إِلَى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وَلِلشَّرِّ جَالِبُ
٨٣٩ - تَدُرُّ عَلى أَسْؤُقِ المُمْتَرِي نَ رَكَضاً إِذَا مَا السَّرَابُ ارْجَحَنْ
شاهداً على أن الممترين الشاكون.
قال: ووهم في ذلك؛ لأن أبا عبيدة وغيره قالوا: الممترون في البيت هم الذين يمرُّون الخيل بأرجلهم هَمْزاً لتجري كأنهم يَتَحلبون الجري منها.
[فصل فيمن نزلت فيه الآية
قوله: ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ قال الحسن: من الذين علموا صحة نبوتك وإن بعضهم عاندوكم.
وقيل: بل يرجع إلى أمر القبلة.
وقيل: بل يرجع إلى صحة نبوته وشرعه، وهو أقرب؛ لأن أقرب مذكور إليه قوله: «من ربك» ؛ وظاهره يقتضي النبوة، فوجب أن يرجع إليه، ونهيه عن الامتراء لا يدلّ على أنه كان شاكاً فيه كما تقدم القول في هذه المسألة].
55
قوله تعالى :" الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ " فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده، وفي الألف واللام حينئذ وجهان :
أحدهما : أن تكون للعهد، والإشارة إلى الحق الذي عليه الرسول - عليه السلام - أو إلى الحق الذي في قوله :" يَكْتُمُونَ الْحَقَّ " أي : هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك، وأن تكون للجنس على معنى الحق من الله لا من غيره.
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف، أي : هو الحق من ربك، والضمير يعود على الحق المكتوم أي : ما كتموه هو الحق.
الثالث : أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره : الحق من ربك يعرفونه، والجار والمجرور على هَذَين القولين في محلّ نصب على الحال من " الحَقّ "، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر في الوجه الثاني.
وقرأ علي٥ بن أبي طالب :" الحقَّ مِنْ رَبِّك " نصباً، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب على البدل من الحق المكتوم، قاله الزمخشري٦.
الثاني : أن يكون منصوباً بإضمار " الذم "، ويدل عليه الخطاب بعده في قوله :" فَلاَ تَكُونَنَّ ".
الثالث : أنه يكون منصوباً ب " يعلمون " قبله، وذكر هذين الوجهين ابن عطية، وعلى هذا الوجه الأخير يكون مما وقع فيه الظاهر موضع المضمر، أي : وهم يعلمونه كائناً من ربك، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل نحو :[ الخفيف ]
٨٣٧ - لاَ أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيءٌ ***. . . ٧
والنهي عن الكون على صفة أبلغ من النهي عن نفس الصفة، فلذلك جاء التنزيل عليه : نحو ﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾
﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [ الأنعام : ٣٥ ] دُونَ : لا تمتر ولا تجهل ونحوه وتقرير ذلك أن قوله :" لا تكن ظالماً " نهي عن الكون بهذه الصفة، والنهي عن الكون على صفة أبلغ من النهي عن تلك الصفة ؛ إذ النهي عن الكون على صفة يدلّ على عموم الأكوان المستقبلة عن تلك الصفة، والمعنى لا تظلم في كل أكوانك، أي : في كل فرد فرد من أكوانك فلا يمرّ بك وقت يوجد منك فيه ظلم، فيصير كأن فيه نصاً على سائر الأكوان، بخلاف : لا تظلم، فإنه يستلزم الأكوان، وفرق بين ما يدلّ دلالة بالنص وبين ما يدل دلالة بالاستلزام و " الامتراء " : افتعال من المِرْيَة وهي الشك، ومنه المراء. قال :[ الطويل ]
٨٣٨ - فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الْمِرَاءَ فَإِنَّهُ *** إِلَى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وَلِلشَّرِّ جَالِبُ٨
و " ماريته " : جادلته وشاكلته فيما يدعيه، و " افتعل " فيه بمعنى " تفاعل "، يقال : تماروا في كذا، وامتروا فيه نحو : تجاوروا، واجتوروا.
وقال الراغب٩ : المِرْيَة : التردّد في الأمر، وهي أخَصُّ من الشَّك، والامتراء والمماراة المُحاجَّةُ فيما فيه مِرْية، وأصله من مَرَيْتُ النَّاقة إذا مَسحتَ ضَرْعَها للحَلْب.
ففرق بين المِرْية والشَّك كما ترى، وهذا كما تقدم له الفرق بين الرّيب والشَّك، وأنشد الطبري قول الأعشى :[ الطويل ]
٨٣٩ - تَدُرُّ عَلى أَسْؤُقِ المُمْتَرِي *** نَ رَكَضاً إِذَا مَا السَّرَابُ ارْجَحَنْ١٠
شاهداً على أن الممترين الشاكون.
قال : ووهم في ذلك ؛ لأن أبا عبيدة وغيره قالوا : الممترون في البيت هم الذين يمرُّون الخيل بأرجلهم هَمْزاً لتجري كأنهم يَتَحلبون الجري منها.
[ فصل فيمن نزلت فيه الآية
قوله :﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ قال الحسن : من الذين علموا صحة نبوتك وإن بعضهم عاندوكم١١.
وقيل : بل يرجع إلى أمر القبلة.
وقيل : بل يرجع إلى صحة نبوته وشرعه، وهو أقرب ؛ لأن أقرب مذكور إليه قوله :" من ربك " ؛ وظاهره يقتضي النبوة، فوجب أن يرجع إليه، ونهيه عن الامتراء لا يدلّ على أنه كان شاكاً فيه كما تقدم القول في هذه المسألة ]١٢.
جمهور القراء على تنوين «كلّ»، وتنوينهُ للعوض من المضاف إيله، والجار خبر مقدم، و «وِجْهَة» مبتدأ مؤخر.
واختلف في المضاف إليه «كل» المحذوف.
فقيل: تقديره: ولكل طائفة من أهل الأديان [يعني: أن الله يفعل ما يعلمه صلاحاً، فالجهات من الله تعالى وهو الذي ولَّى وجوه عباده إليها فانقادوا لأمر الله تعالى، فإن انقيادكم خيرات لكم، ولا تلتفتوا إلى طعن هؤلاء، وقولهم: «ما ولاّهم عن قبلتهم أي التي كانوا عليها» فإن الله يجمعهم وإياكم في القيامة].
55
وقيل: ولكل أهل موضع من المسلمين وِجْهَتُه إلى جهة الكعبة يميناً وشمالاً ووراء وقدّام [فهي كجهة واحدة، ولا يخفى على الله نيّاتهم؛ فهو يحشرهم جميعاً ويثيبهم على أعمالهم]. وفي «وجهة» قولان:
أحدهما: ويعزى للمبرد، والفارسي، والمازني في أحد قوليه: أنها اسم المكان المتوجه إليه، وعلى هذا يكون إثبات «الواو» قياساً إذ هي غير مصدر.
قال سيبويه ولو بنيت «فِعْلَة» من الوعد لقلت: وعدة، ولو بنيت مصدراً لقلت: عدة.
والثاني: أنه مصدر، ويعزى للمازني، وهو ظاهر كلام سيبويه، فإنه قال بعد ذكر حذف «الواو» من المصادر: «وقد أثبتوا فقالوا: وجهة في الجهة» وعلى هذا يكون إثبات «الواو» شاذَاً مَنْبَهَةٌ على ذلك الأصل المتروك في «عدة» ونحوها، والظاهر أن الذي سوغ إثبات «الواو» وإن كانت مصدراً أنها مصدر جاءت على حذف الزوائد؛ إذ الفعل المسموع من هذه المادة تَوَجَّه واتَّجَهَ، ومصدرهما التوجه والاتجاه، ولم يسمع في فعله: «وَجَهَ يَجِهُ» ك «وعد يَعِدُ»، وكان الموجب لحذف «الواو» من عدة وزنة الحمل على المضارع لوقوع الواو بين ياء وكسرة، وهنا لم يسمع فيه مضارع يحمل مصدره عليه، فلذلك قلت: إن «وِجْهَة» مصدر على حذف الزوائد ل «توجه» أو «اتجه»، وقد ألم أبو البقاء بشيء من هذا.
قال القرطبي: الوِجْهَة وزنها فِعْلَة من المُوَاجهة.
والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد، والمراد القِبْلة، أي: أنهم لا يتبعون قبلتك، وأنت لا تتبع قبلتهم، ولك وجهة: إما بحق، وإما بهوى.

فصل في لفظ الوجه


قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ الوجه في القرآن الكريم على أربعة أضرب: الأول: بمعنى الملّة، قال تبارك وتعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ أي: ملّة.
الثاني: بمعنى الإخلاص في العمل، قال تعالى: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ [الأنعام: ٧٩] أي: أخلصت عملي، ومثله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ [النساء: ١٢٢] أي: أخلص عمله لله.
الثالث: بمعنى الرِّضَا، قال تعالى:
﴿وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام: ٥٢] أي: رضاه، ومثله: ﴿واصبر نَفْسَكَ﴾ [الكهف: ٢٨] الآية الكريمة، ومثله: ﴿وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله﴾ [الروم: ٢٩] أي: رضاه.
56
الرابع: الوجه هو الله تعالى كقوله تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ [البقرة: ١١٥]، ومثله: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله﴾ [الإنسان: ٩]، وقوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] أي: إلاّ إياه.
قوله تعالى: «هُوَ مُوَلِّيهَا» جملة مبتدأ وخبر في محلّ رفع؛ لأنها صفة ل «وجهة» [وهي قراءة الجمهور] واختلف في «هو» على قولين:
أحدهما: أنه يعود على لفظ «كلّ» لا على معناها، ولذلك أفرد [قال القرطبي: ولو كان على المعنى لقال: هم مولوها وجوههم فالهاء والألف مفعول أول]. والمفعول الثاني محذوف لفهم المعنى تقديره: هو موليها وجهه أو نفسه، ويؤيد هذا قراءة ابن عامر: «مُوَلاَّها» على ما لم يسم فاعله.
والثاني: أنه يعود على الله - تعالى - أي: الله مولّي القبلة إياه، أي ذلك الفريق.
وقرأ الجمهور: «مُوَليها» على اسم فاعل، وقد تقدم أنه حذف أحد مفعوليه، وقرأ ابن عامر - ويعزى لابن عباس - «مُوَلاَّها» على اسم المفعول، وفيه ضمير مرفوع قائم مقام الفاعل والثاني: هو الضمير المتصل به وهو «ها» العائد على الوجهة.
وقيل: على التولية ذكره أبو البقاء، وعلى هذه القراءة يتعيّن عود «هو» إلى الفريق؛ إذ يستحيل في المعنى عوده على الله تعالى. [ولقراءة ابن عامر معنيان:
أحدهما: ما وليته فقد ولاّك؛ لأن معنى وليته أي: جعلته بحيث يليه، وإذا صار بحيث يلي ذاك، فذاك أيضاً يلي هذا، فإذاً قد يفيد كل واحد منهما الآخر.
فهو كقوله تعالى: ﴿فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: ٣٧] فهذا قول الفراء.
الثاني: «هُوَ مُوَلِّيها» أي: قد زينت لك تلك الجهة أي صارت بحيث تتبعها وترضاها].
وقرأ بعضهم: «وَلَكُلِّ وجهة» بالإضافة، ويعزى لابن عامر، واختلفوا فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها، وهو قول الطبري: أنها خطأ، وهذا ليس بشيء؛ إذ الإقدام على تخطئة ما ثبت عن الأئمة لا يسهل.
57
[قال ابن عطية: وخطأها الطبري وهي متّجهة أي: فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم من هذه وهذه أي: إنما عليكم الطاعة في الجميع وقدم قوله: «ولكلٍّ وجهةٌ» على الأمر في قوله: «فَاسْتَبقوا الخيرات» للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول.
وذكر أبو عمرو الدَّاني هذه القراءة عن ابن عَبَّاس].
والثاني: وهو قول الزمخشري وأبي البقاء أن «اللام» زائدة في الأصل.
قال الزمخشري: المعنى وكلّ وجهة اللهُ مولّيها، فزيدت «اللام» لتقدم المفعول، كقولك: لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضاربه.
قال أبو حيان: وهذا فاسد؛ لأن العامل إذا تعدَّى لضمير الاسم لم يتعد إلى ظاهره المجرور ب «اللام» لا تقول: لزيد ضربته، ولا: لزيد أنا ضاربه، لئلا يلزم أحد محذورين، وهما: إما لأنه يكون العامل قوياً ضعيفاً. [وذلك أنه من حيث تعدّى للضمير بنفسه يكون قويّاً ومن حيثُ تعدى للظاهر ب «اللام» يكون ضعيفاً]، وإما لأنه يصير المتعدي لواحد متعدياً لاثنين، ولذلك تأويل النحويون ما يوهم ذلك وهو قوله: [البسيط].
٨٤٠ - هَذَا سُرَاقَةُ لِلْقُرآنِ يَدْرُسُهُ وَالْمَرْءُ عِنْدَ الرُّشَا إِنْ يَلْقَهَا ذِيْبُ
على أن الضمير في «يدرسه» للمصدر أي: يدرس الدرس لا للقرآن؛ لأن الفعل قد تعدى غليه.
وأام تمثيله بقوله: «لزيد ضربت»، فليس نظير الآية؛ لأنه لم يتعدّ في هذا المثال إلى ضميرهن ولا يجوز أن تكون المسألة من باب الاشتغال، فتقدر عاملاً في: «لكل وجهة» يفسره «موليها» ؛ لأن الاسم المشتغل عنه إذا كان ضميره مجروراً بحرف ينتصب ذلك الاسم بفعل يوافق العامل الظاهر في المعنى، ولا يجوز جر المشتغل عنه إذا كان ضميره مجروراً بحرف تقول: زيداً مررت به، أي: لابست زيداً مررت به، ولا يجوز: لزيد مررت به.
قال تعالى: ﴿والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ﴾ [الإنسان: ٣١]، وقال:
58
فأتى بالمشتغل عنه منصوباً، وأما تمثيله بقوله: لزيد أبوه ضاربه، فتركيب غير عربي.
الثالث: أن «لكلّ وجهة» متعلق بقوله: ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾ أي: فاستبقوا الخيرات لكل وجهة، وإنما قدم على العامل للاهتمام به، كما تقدم المفعول، كا ذكره ابن عطية.
ولا يجوز أن توجه هذه القراءة على أن «لكل وجهة» في موضع المفعول الثاني ل «مولّيها»، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو «مولّ»، وهو «ها»، وتكون عائدة على الطوائف، ويكون التقدير: وكلَّ وجهة اللهُ مولِّي الطوائف أصحاب القِبْلاَت، وزيدت «اللام» في المفعول لتقدمه، ويكون العامل فرعاً؛ لأن النحويين نصُّوا على أنه لا يجوز زيادة «اللام» للتقوية إلا في المتعدي لواحد فقط، و «مولّ» مما يتعدّى لاثنين، فامتنع ذلك فيه، وهذا المانع هو الذي منع من الجواب عن الزمخشري فيما اعترض به أبو حيان عليه من كون الفعل إذا تعدى للظاهر، فلا يتعدى لضميره، وهو أنه كان يمكن أن يجاب عنه بأن الضمير المتصل ب «مول» ليس بضمير المفعول، بل ضمير المصدر وهو التَّولية، يكون المفعول الأول محذوفاً والتقدير: الله مولي التولية كلَّ وجهةٍ أَصْحَابَها، فلما قدم المفعول على العامل قوي ب «اللام» لولا أنهم نصوا على المنع من زيادتها في المتعدي لاثنين وثلاثة.
قوله تعالى: «فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ» «الخيرات» منصوبة على إسقطا حرف الجر، التقدير: إلى الخيرات، كقوله الراعي: [الطويل]
٨٤١ - أَثَعْلَبَةَ الْفَوارِسِ أَمْ رِيَاحاً عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ وَالْخِشَابَا
٨٤٢ - ثَنَائِي عَلَيْكُمْ آلَ حَرْبٍ وَمَنْ يَمِلْ سِوَاكُمْ فَإِنِّي مُهْتَدٍ غَيرُ مَائلِ
أي: إلى سواكم، وذلك لأن «استبق» : إما بمعنى سبق المجرد، أو بمعنى: تسابق [لا جائز أن يكون بمعنى: سبق؛ لأن المعنى ليس على اسبقوا الخيرات، فبقي أن يكون بمعنى: تسابق] ولا يتعدى بنفسه.
و «الخيرات» جمع: خيرة، وفيها احتمالان.
أحدهما: أن تكون مخففة من «خَيِّرة» بالتشديد بوزن «فَيْعِلة» نحو: مَيْت في مَيِّت.
والثاني: أن تكون غير مخففة، بل تثبت على «فَعْلَة» بوزن «جفْنَة»، يقال: رجل خير وامرأة خير، وعلى كلا التقديرين فليسا للتفضيل.
والسبق: الوصول إلى الشيء أولاً، وأصله التقدم في السير، ثم تجوز به في كل ما تقدم
59

فصل في المسابقة إلى الصلاة


من قال: إنَّ الصلاة في أول الوقت أفضل استدل بقوله: «فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ» ؛ قال: لأن الصلاة خير لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «خَيْرُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلاَةُ» وظاهر الأمر بالسبق للوجوب، فإذا لم يتحقق فلا أقل من الندب.
وأيضاً قوله تعالى: ﴿سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [الحديد: ٢١] ومعناه: إلى ما يوجب المغفرة، والصلاة مما يوجب المغفرة، فوجب أن تكون المسابقة إليها مندوبة.
وأيضاً قوله تعالى: ﴿والسابقون السابقون أولئك المقربون﴾ [الواقعة: ١٠ - ١١].
والمراد منه: السابقون في الطاعات، والصلاة من الطاعات، وأيضاً أنه مدح الأنبياء المقدمين بقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات﴾ [الأنبياء: ٩٠]، والصلاة من الخيرات، كما بَيّنا.
وأيضاً أنه تعالى ذم إبْليس في ترك المُسَارعة فقال: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: ١٢].
وأيضاً قوله تعالى: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصلوات﴾ [البقرة: ٢٣٨] والمحافظة لا تحصل إلا بالتَّعْجيل، ليأمن الفوت بالنسيان.
وأيضاً قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى﴾ [طه: ٨٤] فثبت أن الاستعجال أولى.
وأيضاً قوله تعالى: ﴿﴾ [الحديد: ١٠] فبين أن المسابقة سبب لمزيد الفضيلة، وأيضاً ما روي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «الصَّلاَةُ في أَوَّلِ الوَقْتِ رَضْوَانُ اللهِ وَفِي آخِرِهِ عَفْوُ اللهِ».
قال الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْه: رضوان الله أحب إلينا من عَفْوه.
قال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: رضوان الله إنما يكون للمحسنين، والعفو يوشك أن يكون عن المقصرين.
فإن قيل: هذا الاحتجاج يقتضي أن يأثم بالتأخير، وأجمعنا على أنه لا يأثم، فلم يبق
60
إلا أن يكون معناه: أن الفعل في آخر الوقت يوجب العفو عن السيئات السابقة، وما كان كذلك فلا شك أنه يوجب رضوان الله، فكان التأخير موجباً للعفو والرضوان، فكان التأخير أوْلى.
فالجواب: أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون تأخير المغرب أفضل، وذلك لم يقله أحد، وأيضاً عدم المُسَارعة إلى الامتثال يشبه عدم الالتفات، وذلك يقتضي العقاب، إلاّ أنه لما أتى بالفعل بعد ذلك سقط ذلك الاقتضاء، وأيضاً أن تفسير أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللهُ عَنْه - يبطل هذا التأويل، [وروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أنه سأل رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصَّلاَةُ لِمِيقَاتِهَا الأَوَّلِ»
وأيضاً قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلاَةَ وَقَدْ فَاتَهُ مِنْ أَوَّلِ الوَقْتِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ»
وأيضاً إنا توافقنا على أن أحد أسباب الفضيلة فيما بين الصَّحابه المسابقة إلى الإسلام حتى وقع الخلاف الشَّديد بين أهل السُّنة وغيرهم أن أبا بكر أسبق إسلاماً أم عليّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهما، وما ذاك إلا لاتفاهم على ان المُسَابقة في الطاعة توجب مزيد الفضل.
[وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في خطبة له: «بَادِرُوا بِالأعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ تَشْتَغِلُوا» والصَّلاة من الأعمال الصالحة].
61
وأيضاً تعجيل حقوق الآدميين أفضل من تأخيرها، فوجب أن يكون [الحال في أداء] حقوق الله - تعالى - كذلك لرعاية التعظيم.
وأيضاً المبادرة والمسارعة إلى الصلاة إظهار للحصر على الطاعة، والولوع بها، والرغبة فيها وفي التأخير كَسَلٌ عنها، فيكون الأول أَوْلى.
[وأيضاً فإن المبادرة احتياط، لأنه إذا أدَّاها في أوّل الوقت تفرغت ذمته، وإذا أخّرها ربما حصل له شغل، فمنعه من أدائها، فالوجه الذي يحصل به الاحتياط أولى.
فإن قيل: تنتقض هذه الدلائل بالظّهر في شدة الحر، وبما إذا حصل له إدْرَاك الجماعة، أو وجود الماء.
قلنا: التأخير في هذه المواضع لأمور عارضة، والكلام إنما هو في مقتضى الأصل].

فصل في التغليس في صلاة الفجر


قال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - التَّغْليس في صلاة الفجر أفضل، وهو مذهب أبي بكر وعمر، وقول مالك وأحمد رَضِيَ اللهُ عَنْهم.
وقال أبو محمد: يستحب أن يدخل فيها بالتّغليس.
واحتج الأولون بما تقدم من الآية، وبما روت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها قال: كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم يصلي الصبح، فينصرف والنساء متلفّعات بِمُرُوطِهِنّ ما يعرفهنّ أحد من الغَلَس.
فإن قيل: كان هذا في ابتداء الإسلام حين كان النساء يحضرون الجماعات، فكان النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصلي بالغَلًس كيلا يعرفن.
وهكذا كان عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه يصلي بالغَلَس، ثم لما نُهِين عن الحضور في الجماعات ترك ذلك.
قلنا: الأصل عدم النسخ، وإن سلم النسخ فالمنسوخ إنما هو حضور النساء لا الصلاة.
وروى أنس عن زيد بن ثابت قال: تسحَّرنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - ثم قمنا إلى الصلاة، قال أنس: قلت لزيد كم كان قدر ذلك؟ قال: قدر خمسين آية، وهذا يدلّ أيضاً لى التَّغْليس، وروي عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غَلَّسَ بالصبح، ثم أسفر مرة، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله تعالى.
62
وأيضاً فإن النوم في ذلك الوقت أَطْيب، فيكون تركه أشقّ، فوجب أن يكون ثوابه أكثر، لقوله عليه السلام: «أَفْضَلُ العِبَادَاتِ أَحْمَزُهَا» أي: أشقّها.
واحتج أبو حنيفة بوجوه:
أحدها: قوله عليه السلام: «أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ»
وروى عبد الله بن مسعود أنه صلى الفجر ب «المزدلفة» فغلس، ثم قال ابن مسعود: ما رأيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلاة إلا لميقاتها إلا صلاة الفجر.
ويروى عن أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أنه صلى الفجر، فقرأ «آل عمران»، فقالوا: كادت الشمس أن تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين.
وعن عمر أنه قرأ البقرة فاستشرقوا الشمس، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين.
وأيضاً فإن تأخير الصلاة يشتمل على فضيلة الانتظار.
وقال عليه السلام: «المُنْتَظِرُ لِلصَّلاةِ كَمَنْ هُوَ في الصَّلاَةِ»، فمن [أخر الصلاة عن أول وقتها فقد انتظر الصلاة أولاً، ثم بها ثانياً]، ومن صلاّها في أول الوقت فقد فاته فضل الانتظار.
وأيضاً: فإن التنوير يفضي إلى كثرة الجماعة فيكون أَوْلى.
والجواب عن الأول أن الفجر اسم للنور الذي [يتفجر به ظلام] المشرق، فالفجر إنما يكون ضجْراً لوكانت الظلمة باقية في الهواء.
فأما إذا زالت الظلمة بالكلية واستنار الهواء لم يكن ذلك فجراً.
وأما الإسفار فهو عبارة عن الظهور، يقال: أسفرت المرأة عن وجهها إذا [كشفت عنه]، إذا ثبت هذا فنقول: ظهر الفَجْر إنما يكون عند بقاء الظلام في الهواء، فإن الظالم كلما كان أشد كان النور الذي يظهر فيما بين ذلك الظلام أشد.
فقوله: «أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ» يجب أن يكون محمولاً على التَّغْليس، أي: كلما وقعت صلاتكم حين كان الفجر [أظهر كان] أكثر ثواباً.
وقد بينا أن ذلك لا يكون إلا في أول الفجر، وهذا معنى قول الشافعي رَضِيَ اللهُ
63
عَنْه عنه: إن الإسفار المذكور في الحديث مَحْمُول على تيقُّن طلوع الفجر، وزوال الشك عنه، والذي يدل على ما قلنا: أن الصلاة في ذلك الوقت أشق، فوجب أن يكون أكثر ثواباً.
وأما تأخير الصلاة إلى وقت التنوير، فهو عادة أهل الكسل، وهذا جواب عن قول ابن مسعود أيضاً وأما باقي الوجوه فمعارض لبعض ما قدمناه.
قوله: «أَيْنَمَا تَكُونُوا» «أين» اسم شرط تجزم فعلين ك «إن»، و «ما» مزيدة عليها على سبيل الجواز، وهي ظرف مكان، وهي هنا في محلّ نصب خبراً ل «كان»، وتقديمها واجب لتضمنها معنى ما له صدر الكلام.
و «تكونوا» أيضاً مجزوم بها على الشرط، وهو الناصب لها، و «يأت» جوابها، وتكون أيضاً استفهاماً فلا تعمل شيئاً، وهي مبنية على الفتح لتضمن معنى حرف الشرط أو الاستفهام.
[ودلت الآية على أنه قادر على جميع الممكنات، فوجب أن يكون قادراً على الإعادة؛ لأنها ممكنة، وهذا وَعْدٌ لأهل الطاعة، ووعيد] لأهل المعصية.
64
«مِنْ حَيْثُ» متعلق بقوله: «فولّ وَجْهَكَ» و «خرجت» في محلّ جر بإضافة «حيث» إليها، وقرأ عبد الله بالفتح، وقد تقدم أنها إحدى اللغات، ولا تكون هنا شرطية، لعدم زيادة «ما»، والهاء في قوله: ﴿وَإِنَّهُ للحَقُّ﴾ الكلام فيها كالكلام عليها فيما تقدّم.

فصل في الكلام على الآية


أعلم أنه - تبارك وتعالى - قال أولاً: ﴿قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: ١٤٤] وذكر هاهنا ثانياً قوله تعالى: ﴿﴾.
ثم ذكر ثالثاً قوله: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ثم ذكر ثالثاً قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وحيث ما كنتم فولوا
64
وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة} فما فائدة هذا التكرار؟ فيه أقوال: أحدها: أن الأحوال ثلاثة:
أولها أن يكون الإنسان في المسجد الحرام.
وثانيها: أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد.
وثالثها: أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض.
فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى، والثانية على الثانية، والثالثة على الثالثة؛ لأنه قد يتهّم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للبعد، فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله - تعالى - هذه الآيات.
والجواب: أنه علق بها كل مرة فائدة زائدة، ففي الأولى بين أن أهل الكتاي يعلمون أن أمر نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمر هذه القبلة حقّ؛ لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل.
وفي الثانية بين أنه - تعالى - يشهد أن ذلك حقّ، وشهادة الله بكونه حقّاً مغايرة لعلم أهل الكتاب [حقّاً].
وفي الثالثة بين [فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجّة]، فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة في المرات واحدة من هذه الفوائد، ونظيره قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: ٧٩].
وثالثها: لما قال في الأولى: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: ١٤٤] أي: إن التحويل ليس لمجرد رضان، بل لأجل أنه الحق الذي لا محيد عنه، فاستقبالها ليس لمجرد الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي يقيمون عليها بمجرّد الهوى والميل.
ثم قال تعالى ثالثاً: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: ١٤٤] والمراد منه الدوام على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات، وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخاً.
ورابعها: أنه قرن كل آية بمعنى، فقرن الأولى وهي القبلة التي يرضاها ويحبّها بالقبلة التي كانوا يحبونها، وهي قبلة إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقرن الآية الثانية
65
بقوله:
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ [البقرة: ١٤٨] أي: لكل صاحب ملّة قبلة يتوجّه غليها، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله انها حقٌّ، وقرن الثالثة بقطع الله - تعالى - حجّة من خاض من اليهود في أمر القِبْلَةِ، فكانت هذه عللاً ثلاثاً قرن بكل واحدة منها أمراً بالتزام القبلة.
نظيره أن يقال: الزم هذه القبلة كأنها القبلة التي كنت تهواها، ثم يقال: الزم هذه القبلة، فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى، وهو قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾ ثم يقال: الزم هذه القبلة، فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلااء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ١٦] وكذلك ما كرر في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٨].
وخامسها: أن هذه الواقعة أوّل الوقائع التي ظهر النَّسخ فيها في شرعنا، فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير، وإزالة الشبهة، وإيضاح البينات.
أما قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ يعني: ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق، وهم يعرفونه، ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم: ﴿مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾ [البقرة: ١٤٢] وبأنه قد اشتاق إلى مولده، ودين آبائه، فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله. [وقد تقدم الكلام على نفي الغَفْلة وعدم ذكر العلم].
قوله تعالى: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ﴾ هذه لام «كي» بعدها «أن» المصدرية الناصبة للمضارع، و «لا» نافية واقعة بين الناصب ومنصوبه، كما تقع بين الجازم ومجزومه نحو: ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ﴾ [الأنفال: ٧٣] و «أن» هنا واجبة الإظهار، إذ لو أضمرت لثقل اللَّفظ بتوالي لامين، ولام الجر متعلقة بقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾.
وقال أبو البقاء: متعلّقة بمحذوف تقديره: فعلنا ذلك لئلا، ولا حاجة إلى ذلك، و «للناس» خبر ل «يكون» مقدّم على اسمها، وهو «حجّة»، و «عليكم» في محل نصب على الحال؛ لأنه في الأصل صفة النكرة، فلما تقدم عليها انتصب حالاً، ولا يتعلق ب «حجة» لئلاّ يلزم تقديم معمول المصدر عليه، وهو ممتنع؛ لأنه في تأويل صلة وموصول، وقد قال بعضهم: يتعلّق ب «حجة» وهو ضعيف، ويجوز أن يكون «عليكم» خبراً ل «يكون» ويتعلق «للناس» ب «يكون» على رأي من يرى أن «كان» الناقصة تعمل في الظرف وشبهه، وذكر الفعل في قوله «يكون» ؛ لأن تأنيث الحجّة غير حقيقي، وحسن ذلك الفصل أيضاً. [وقال أبو روق: المراد ب «النَّاس» : أهل الكتاب.
ونقل عن قتادة والربيع: أنهم وجدوا في كتابهم أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تحوّل إلى القبلة، فلما حوّلت بطلت حجّتهم.
66
«إلا الذين ظلموا» ؛ بسبب أنهم كتموا ما عرفوا.
وقيل: لام أوردوا تلك الشبهة معتقدين أنها حجّة سماها تعالى حجّة، بناءً على معتقدهم، أو لعله - تعالى - سمّاها حجّة تهكُّماً بهم.
وقيل: أراد بالحجة المحاجّة، فقال: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ﴾ فإنهم يحاجونكم بالباطل].
قوله تعالى: «إلاَّ الَّذِينَ» قرأ الجمهور «إلاَّ» بكسر «الهمزة» وتشديد «اللام».
وقرأ ابن عباس، وزيد بن علي، وابن زيد بفتحها، وتخفيف «اللام» على أنها للاستفتاح.
فأما قراءة الجمهور فاختلف النحويون في تأويلها على أربعة أقوال:
أظهرها: وهو اختيار الطبري، وبدأ به ابن عطية، ولم يذكر الزمخشري غيره أنه استثناء متصل.
قال الزمخشري: معناه لئلا يكون حجّة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين: ما ترك قِبْلَتنا إلى الكعبة إلا ميلاً لدين قومه، وحبّاً لهم، وأطلق على قولهم: «حجّة» ؛ لأنهم ساقوه مساق الحجة.
والحجّة كما أنها تكون صحيحة، فقد تكون أيضاً باطلة، قال الله تعالى: ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ [الشوى: ١٦].
وقال تعالى: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم﴾ [آل عمران: ٦١] والمحاجّة هي أن يورد كل واحد من المحق والمبطل على صاحبه حجّة، وهذا يقتضي أن الذي يورده المبطل يسمى بالحجّة، ولأن الحجّة اشتقاقها من حَجَّه إذا علا عليه، فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجّة.
وقال بعضهم: إنها مأخوذة من محجّة الطريق، فكل كلام يتّخذه الإنسان مسلكاً لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجّة.
وقال ابن عطية: المعنى أنه لا حجّة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا من اليهود وغيرهم الذين تكلموا في النازلة، وسماها حجّة وحكم بفسادها حين كانت من ظالم.
الثاني: أنه استثناء منقطع، فيقدر ب «لكن» عند البصريين، وب «بل» عند الكوفيين؛ لأنه استثناء من غير الأول، والتقدير: لكن الذين ظلموا، فإنهم يتعلقون عليكم
67
بالشبهة يضعونها موضع الحجة [نظيره قوله: ﴿إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون إَلاَّ مَن ظَلَمَ﴾ النمل: ١٠ - ١١].
وقال: ﴿لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾ [هود: ٤٣].
ويقال: ما له عليّ مِنْ حقَ إلاّ التعدي، أي: لكنه يتعدى].
ومثار الخلاف هو: هل الحجّة هي الدليل الصحيح، أن الاحتجاج صحيحاً كان أو فاسداً؟
فعلى الأولى يكون منقطعاً، وعلى الثاني يكون متصلاً.
الثالث: وهو قول أبي عبيدة أن «إلا» بمعنى «الواو» العاطفة وجعل من ذلك قوله: [الوافر]
٨٤٣ - وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخْوهُ لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدانِ
يَعْني: والفرقدان.
وقول الآخر: [البسيط]
٨٤٤ - مَا بِالمَدِينَةِ دَارٌ غَيرُ وَاحِدَةٍ دَارُ الخَلِيفَةِ إِلاَّ دَارُ مَرْوَانَا
تقدير ذلك عنده: «ولا الذين ظلموا، والفرقدان، ودار مروان» وقد خطأه النحاة في ذلك كالزجاج وغيره.
الرابع: أن «إلا بمعنى بعد، أي: بعد الذين ظلموا، وجعل منه قول الله تعالى: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى﴾ [الدخان: ٥٦].
وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٢] تقديره: بعد الموتة، وبعد ما قد سلف، هذا من أَفْسَد الأقوال، وأنكرها، وإنما ذكرته لغرض التنبيه على ضعفه.
و»
الذين «في محل نصب على الاستثناء على القولين اتّصالاً وانقطاعاً، وأجاز قطرب أن يكون في موضع جَرّ بدلاً من ضمير الخطاب في» عليكم «، والتقدير: لئلا تثبت حجّة للناس على غير الظالمين منهم، وهم أنتم أيها المخاطبون بتولية وجوهكم إلى القِبْلة.
ونقل عنه أنه كان يقرأ:»
إلاَّ على الذين «كأنه يكرر العامل في البدل على حَدْ
68
قوله: ﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ [الأعراف: ٧٥].
وهذا عند جمهور البصريين ممتنع؛ لأنه يؤدي إلى بدل ظاهر من ضمير حاضر بدل كلّ من كل، ولم يجزه من البصريين إلا الأخفش، وتأول غيره ما ورد من ذلك.
وأما قراءة ابن عباس ب» ألا «للاستفتاح، ففي محل» الذين «حينئذ ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه مبتدأ، وخبره قوله:»
فَلاَ تَخْشَوْهُمْ «، وإنما دخلت» الفاء «في الخبر؛ لأن الموصول تضمن معنى الشرط، والماضي الواقع صلة مستقبل معنى كأنه قيل: من يظلم الناس فلا تخشوهمن ولولا دخول الفاء لترجّح النصب على الاشتغال، أي: لا تخشوا الذين ظلموا لا تخشوهم.
الثاني: أن يكون منصوباً بإضمار فعل على الاشتغال، وذلك على قول الأخفش، فإنه يجيز زيادة الفاء.
الثالث: نقله ابن عطية أن يكون منصوباً على الإغراء.
ونقل عن ابن مجاهد أنه قرأ:»
إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا «وجعل» إلى «حرف جر متأولاً لذلك بأنها بمعنى» مع «، والتقدير: لئلا يكون للناس عليكم حجة مع الذين، والظاهر أن هذا الراوي وقع في سمعه» إلا الذين «بتخفيف» إلاَ «فاعتقد ذلك فيها، وله نظائر مذكورة عندهم.
و»
فم «في محل نصب على الحال فيتعلّق بمحذوف، ويحتمل أن تكون» من «للتبعيض، وأن تكون للبيان.

فصل في الكلام على هذه الحجة


اعلم ان هذا الكلام يوهم حِجَاجاً وكلاماً تقدم من قبل في باب القِبْلَةِ عن القوم فأراد الله تعالى أن يبين أن تلك الحجّة تزول الآن باستقبال الكعبة.
وفي كيفية تلك الحجة روايات:
إحداها: أن اليهود قالوا: تخالفنا في ديننا وتتبع قبلتنا.
وثانيها: قالوا: ألم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه؟
وثالثها: أن العرب قالوا: إنه كان يقول: أنا على دين إبراهيم، والآن ترك التوجه إلى الكعبة، ومن ترك التوجّه إلى الكعبة، فقد ترك دين إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فصارت هذه الوجوه وَسَائِلَ لهم إلى الطعن في شرعه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، إلاّ أن الله - تعالى - لما علم أن الصلاح في ذلك أوجب عليهم التوجه إلى بيت المقدس لما فيه
69
المصلحة في الدين؛ لأن قولهم لا يؤثر في المصالح، وقد بينا من قبل تلك المصلحة وهي تمييز من اتبعه ب» مكة «ممن أقام على تكذيبه فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلا بهذا الجنس ولما انتقل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إلى المدينة تغيرت المصلحة، فاقتضت الحكمة تحويل القبلة إلى الكعبة، فلهذا قال الله تعالى:» لئلا يكون للناس عليكم حجة يعني أنّ تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل، ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أن يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى، وهو قول بعض العرب: إن محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عاد إلى ديننا في الكَعْبة وسيعود إلى ديننا بالكلية، وكان التمسك بهذه الشبهة، والاستمرار عليها سبباً للبقاء على الجهل والكفر، وذلك ظلم [للنفس] على ما قال تعالى:
﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] فلا جرم، قال الله تعالى ﴿فَلاَ تَخْشَوهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾.
أي: لا تخشوا من يتعنّت ويجادل، ولا تخافوا طعنهم في قبلتكم، فإنهم يضرونكم، واخشوني، واحذروا عقابي إن عدلتم عما ألزمتكم، وفرضت عليكم.
و «الخَشْية» : أصلها: طمأنينة في القلب تبعث على التوقي والخوف و «الخوف» : فزع في القلب تخف له الأعضاء، ولخفّة الأعضاء به يسمى خوفاً، ومعه التحقير لك من سوى الله تعالى، والأمر باطّراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى.
قال بعضهم: الخوف أوّل المراتب، وهو الفزع، ثم بعده الوَجَل، ثم الخَشْية، ثم الرَّهْبة].
قوله: «وَلأُتِمَّ» فيه أربعة أوجه:
أظهرها: أنه معطوف على قوله: «لِئَلاَّ يَكُونَ» كأن المعنى: عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم، ولإتمام النعمة، فيكون التعريف معلّلاً بهاتين العلّتين:
[إحداهما: لانقطاع حجّتهم عنه.
والثانية: لإتمام النعمة. وقد بَيَّن مسلم الأصفهاني ما في ذلك من النعمة، وهو القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما يفعلون، فلما حُوِّل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى «بيت المقدس» لحقهم ضعف قلب، ولذلك كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يحب التحوّل إلى الكعبة، لما فيها من شرف البُقْعة، فهذا موضع النعمة]، والفصل بالاستثناء وما بعده كَلاَ فَصْلٍ إذ هو من متعلق العلة الأولى.
الثاني: أنه معطوف على علّة محذوفة، وكلاهما [معلولها] الخشية السابقة
70
فكأنه قيل: واخشوني [لأوفقكم] ولأتم نعمتي عليكم.
الثالث: أنه متعلّق بفعل محذوف مقدر بعده تقديره: وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ عرفتكم أمر قبلتكم «.
الرابع: وهو أضعفها أن تكون متعلقة بالفعل قبلها، و «الواو»
زائدة، تقديره: واخشوني لأتم نعمتي.
وهذه لام «كي» و «أن» مضمرة بعدها ناصبة للمضارع، فينسبك منهما مصر مجرور باللام وتقدم تحقيقه، و «عليكم» فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق ب «أتمّ».
الثاني: أن يتعلق بمحذوف على أ، هـ حال من «نعمتي»، أي: كائنة عليكم.
فإن قيل: إنه - تعالى - أنزل عند قرب وفاة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: ٣] فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم، فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية ﴿وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ ؟!
فالجواب: أنا قلنا تمام النعمة اللاَّئقة في كل وقت هو الذي خص به.
وعن عليّ رَضِيَ اللهُ عَنْه: تمام النعمة الموت على الإسلام.
وقوله: «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» فيه سؤال، وهو أن لَفْظَه التَّرَجِّي، وهو في حق الله - تعالى - مُحَال؛ لأنه يعلم الأشياء على ما هي عليه.
وأجيب عن ذلك بوجهين:
الأول: أن الترجي في الآية الكريمة بالنسبة إلى المخاطبين أي: بإتمام النعمة ترجون الثَّواب والاهتداء إلى دلائل التوحيد.
الثاني: قال بعض المفسرين: كل لفظ «لعلّ» في القرآن الكريم المراد به التحقيق كقول الملك لمن طلب منه حاجة وأراد ذلك قضاها، فنقول لطالب الحاجة: لعلّ حاجتك تقضى.
والاهتداء يطلق، ويراد به بيان الأدلة كقوله تعالى: ﴿وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: ١٦] الآية، ويطلق ويراد به الاهتداء إلى الحق.
71
قوله تعالى :﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ ﴾ هذه لام " كي " بعدها " أن " المصدرية الناصبة للمضارع، و " لا " نافية واقعة بين الناصب ومنصوبه، كما تقع بين الجازم ومجزومه نحو :﴿ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ ﴾
[ الأنفال : ٧٣ ] و " أن " هنا واجبة الإظهار، إذ لو أضمرت لثقل اللَّفظ بتوالي لامين، ولام الجر متعلقة بقوله سبحانه وتعالى :﴿ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ﴾.
وقال أبو البقاء : متعلّقة بمحذوف تقديره : فعلنا ذلك لئلا، ولا حاجة إلى ذلك، و " للناس " خبر ل " يكون " مقدّم على اسمها، وهو " حجّة "، و " عليكم " في محل نصب على الحال ؛ لأنه في الأصل صفة النكرة، فلما تقدم عليها انتصب حالاً، ولا يتعلق ب " حجة " لئلاّ يلزم تقديم معمول المصدر عليه، وهو ممتنع ؛ لأنه في تأويل صلة وموصول، وقد قال بعضهم : يتعلّق ب " حجة " وهو ضعيف، ويجوز أن يكون " عليكم " خبراً ل " يكون " ويتعلق " للناس " ب " يكون " على رأي من يرى أن " كان " الناقصة تعمل في الظرف وشبهه، وذكر الفعل في قوله " يكون " ؛ لأن تأنيث الحجّة غير حقيقي، وحسن ذلك الفصل أيضاً.
وقال أبو روق : المراد ب " النَّاس " : أهل الكتاب.
ونقل عن قتادة والربيع : أنهم وجدوا في كتابهم أنه - عليه الصلاة والسلام - تحوّل إلى القبلة، فلما حوّلت بطلت حجّتهم.
" إلا الذين ظلموا " ؛ بسبب أنهم كتموا ما عرفوا.
وقيل : لما أوردوا تلك الشبهة معتقدين أنها حجّة سماها تعالى حجّة، بناءً على معتقدهم، أو لعله - تعالى - سمّاها حجّة تهكُّماً بهم.
وقيل : أراد بالحجة المحاجّة، فقال :﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾ فإنهم يحاجونكم بالباطل ]٥.
قوله تعالى :" إلاَّ الَّذِينَ " قرأ الجمهور " إلاَّ " بكسر " الهمزة " وتشديد " اللام ".
وقرأ٦ ابن عباس، وزيد بن علي، وابن زيد بفتحها، وتخفيف " اللام " على أنها للاستفتاح.
فأما قراءة الجمهور فاختلف النحويون في تأويلها على أربعة أقوال :
أظهرها : وهو اختيار الطبري، وبدأ به ابن عطية، ولم يذكر الزمخشري غيره أنه استثناء متصل.
قال الزمخشري : معناه لئلا يكون حجّة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين : ما ترك قِبْلَتنا إلى الكعبة إلا ميلاً لدين قومه، وحبّاً لهم، وأطلق على قولهم :" حجّة " ؛ لأنهم ساقوه مساق الحجة.
والحجّة كما أنها تكون صحيحة، فقد تكون أيضاً باطلة، قال الله تعالى :﴿ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ [ الشورى : ١٦ ].
وقال تعالى :﴿ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾
[ آل عمران : ٦١ ] والمحاجّة هي أن يورد كل واحد من المحق والمبطل على صاحبه حجّة، وهذا يقتضي أن الذي يورده المبطل يسمى بالحجّة، ولأن الحجّة اشتقاقها من حَجَّه إذا علا عليه، فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجّة.
وقال بعضهم : إنها مأخوذة من محجّة الطريق، فكل كلام يتّخذه الإنسان مسلكاً لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجّة.
وقال ابن عطية : المعنى أنه لا حجّة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا من اليهود وغيرهم الذين تكلموا في النازلة، وسماها حجّة وحكم بفسادها حين كانت من ظالم.
الثاني : أنه استثناء منقطع، فيقدر ب " لكن " عند البصريين، وب " بل " عند الكوفيين ؛ لأنه استثناء من غير الأول، والتقدير : لكن الذين ظلموا، فإنهم يتعلقون عليكم بالشبهة يضعونها موضع الحجة [ نظيره قوله :﴿ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ﴾
[ النمل : ١٠ - ١١ ].
وقال :﴿ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ﴾ [ هود : ٤٣ ].
ويقال : ما له عليّ مِنْ حقَ إلاّ التعدي، أي : لكنه يتعدى ]٧.
ومثار الخلاف هو : هل الحجّة هي الدليل الصحيح، أو الاحتجاج صحيحاً كان أو فاسداً ؟
فعلى الأولى يكون منقطعاً، وعلى الثاني يكون متصلاً.
الثالث : وهو قول أبي عبيدة أن " إلا " بمعنى " الواو " العاطفة وجعل من ذلك قوله :[ الوافر ]
٨٤٣ - وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخْوهُ لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدانِ٨
يَعْني : والفرقدان.
وقول الآخر :[ البسيط ]
٨٤٤ - مَا بِالمَدِينَةِ دَارٌ غَيرُ وَاحِدَةٍ دَارُ الخَلِيفَةِ إِلاَّ دَارُ مَرْوَانَا٩
تقدير ذلك عنده :" ولا الذين ظلموا، والفرقدان، ودار مروان " وقد خطأه النحاة في ذلك كالزجاج وغيره.
الرابع : أن " إلا بمعنى بعد، أي : بعد الذين ظلموا، وجعل منه قول الله تعالى :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى ﴾ [ الدخان : ٥٦ ].
وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [ النساء : ٢٢ ] تقديره : بعد الموتة، وبعد ما قد سلف، هذا من أَفْسَد الأقوال، وأنكرها، وإنما ذكرته لغرض التنبيه على ضعفه.
و " الذين " في محل نصب على الاستثناء على القولين اتّصالاً وانقطاعاً، وأجاز قطرب أن يكون في موضع جَرّ بدلاً من ضمير الخطاب في " عليكم "، والتقدير : لئلا تثبت حجّة للناس على غير الظالمين منهم، وهم أنتم أيها المخاطبون بتولية وجوهكم إلى القِبْلة.
ونقل عنه أنه كان١٠ يقرأ :" إلاَّ على الذين " كأنه يكرر العامل في البدل على حَدّ قوله :﴿ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ﴾
[ الأعراف : ٧٥ ].
وهذا عند جمهور البصريين ممتنع ؛ لأنه يؤدي إلى بدل ظاهر من ضمير حاضر بدل كلّ من كل، ولم يجزه من البصريين إلا الأخفش، وتأول غيره ما ورد من ذلك.
وأما قراءة ابن عباس ب " ألا " للاستفتاح، ففي محل " الذين " حينئذ ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مبتدأ، وخبره قوله :" فَلاَ تَخْشَوْهُمْ "، وإنما دخلت " الفاء " في الخبر ؛ لأن الموصول تضمن معنى الشرط، والماضي الواقع صلة مستقبل معنى كأنه قيل : من يظلم الناس فلا تخشوهم، ولولا دخول الفاء لترجّح النصب على الاشتغال، أي : لا تخشوا الذين ظلموا لا تخشوهم.
الثاني : أن يكون منصوباً بإضمار فعل على الاشتغال، وذلك على قول الأخفش، فإنه يجيز زيادة الفاء.
الثالث : نقله ابن عطية أن يكون منصوباً على الإغراء.
ونقل عن ابن مجاهد أنه قرأ١١ :" إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا " وجعل " إلى " حرف جر متأولاً لذلك بأنها بمعنى " مع "، والتقدير : لئلا يكون للناس عليكم حجة مع الذين، والظاهر أن هذا الراوي وقع في سمعه " إلا الذين " بتخفيف " إلاَ " فاعتقد ذلك فيها، وله نظائر مذكورة عندهم.
و " فهم " في محل نصب على الحال فيتعلّق بمحذوف، ويحتمل أن تكون " من " للتبعيض، وأن تكون للبيان.

فصل في الكلام على هذه الحجة


اعلم أن هذا الكلام يوهم حِجَاجاً وكلاماً تقدم من قبل في باب القِبْلَةِ عن القوم فأراد الله تعالى أن يبين أن تلك الحجّة تزول الآن باستقبال الكعبة.
وفي كيفية تلك الحجة روايات :
إحداها : أن اليهود قالوا : تخالفنا في ديننا وتتبع قبلتنا.
وثانيها : قالوا : ألم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه ؟
وثالثها : أن العرب قالوا : إنه كان يقول : أنا على دين إبراهيم، والآن ترك التوجه إلى الكعبة، ومن ترك التوجّه إلى الكعبة، فقد ترك دين إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - فصارت هذه الوجوه وَسَائِلَ لهم إلى الطعن في شرعه عليه الصلاة والسلام، إلاّ أن الله - تعالى - لما علم أن الصلاح في ذلك أوجب عليهم التوجه إلى بيت المقدس لما فيه من المصلحة في الدين ؛ لأن قولهم لا يؤثر في المصالح، وقد بينا من قبل تلك المصلحة، وهي تمييز من اتبعه ب " مكة " ممن أقام على تكذيبه فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلا بهذا الجنس ولما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تغيرت المصلحة، فاقتضت الحكمة تحويل القبلة إلى الكعبة، فلهذا قال الله تعالى :" لئلا يكون للناس عليكم حجة يعني أنّ تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل، ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أن يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى، وهو قول بعض العرب : إن محمداً عليه الصلاة والسلام - عاد إلى ديننا في الكَعْبة وسيعود إلى ديننا بالكلية، وكان التمسك بهذه الشبهة، والاستمرار عليها سبباً للبقاء على الجهل والكفر، وذلك ظلم [ للنفس ]١٢ على ما قال تعالى :﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ] فلا جرم، قال الله تعالى ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [ فَلاَ تَخْشَوهُمْ وَاخْشَوْنِ ﴾.
أي : لا تخشوا من يتعنّت ويجادل، ولا تخافوا طعنهم في قبلتكم، فإنهم يضرونكم، واخشوني، واحذروا عقابي إن عدلتم عما ألزمتكم، وفرضت عليكم.
و " الخَشْية " : أصلها : طمأنينة في القلب تبعث على التوقي والخوف، و " الخوف " : فزع في القلب تخف له الأعضاء، ولخفّة الأعضاء به يسمى خوفاً، ومعنى التحقير لكل من سوى الله تعالى، والأمر باطّراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى.
قال بعضهم : الخوف أوّل المراتب، وهو الفزع، ثم بعده الوَجَل، ثم الخَشْية، ثم الرَّهْبة ]١٣.
قوله :" وَلأُتِمَّ " فيه أربعة أوجه :
أظهرها : أنه معطوف على قوله :" لِئَلاَّ يَكُونَ " كأن المعنى : عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم، ولإتمام النعمة، فيكون التعريف معلّلاً بهاتين العلّتين :
[ إحداهما : لانقطاع حجّتهم عنه.
والثانية : لإتمام النعمة. وقد بَيَّن مسلم الأصفهاني ما في ذلك من النعمة، وهو القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما يفعلون، فلما حُوِّل - عليه الصلاة والسلام - إلى " بيت المقدس " لحقهم ضعف قلب، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يحب التحوّل إلى الكعبة، لما فيها من شرف البُقْعة، فهذا موضع النعمة ]١٤، والفصل بالاستثناء وما بعده كَلاَ فَصْلٍ إذ هو من متعلق العلة الأولى.
الثاني : أنه معطوف على علّة محذوفة، وكلاهما [ معلولها ]١٥ الخشية السابقة، فكأنه قيل : واخشوني [ لأوفقكم ]١٦ ولأتم نعمتي عليكم.
الثالث : أنه متعلّق بفعل محذوف مقدر بعده تقديره : وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ عرفتكم أمر قبلتكم ".
الرابع : وهو أضعفها أن تكون متعلقة بالفعل قبلها، و " الواو " زائدة، تقديره : واخشوني لأتم نعمتي.
وهذه لام " كي " و " أن " مضمرة بعدها ناصبة للمضارع، فينسبك منهما مصدر مجرور باللام وتقدم تحقيقه، و " عليكم " فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب " أتمّ ".
الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من " نعمتي "، أي : كائنة عليكم.
فإن قيل : إنه - تعالى - أنزل عند قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾
[ المائدة : ٣ ] فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم، فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية ﴿ وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ﴾ ؟ !
فالجواب : أنا قلنا تمام النعمة اللاَّئقة في كل وقت هو الذي خصه به.
وعن عليّ رضي الله عنه : تمام النعمة الموت على الإسلام.
وقوله :" لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " فيه سؤال، وهو أن لَفْظَه التّ
قوله تعالى: «كَمَآ أَرْسَلْنَا» : الكاف من قوله: «كما» فيها قولان:
71
أظهرها: أنها للتشبيه.
والثاني: أنها للتعليل، فعلى القول الأول تكون نعت مصدر محذوف.
واختفوا في متعلقها حينئذ على خمسة أوجه:
أحدها: أنها متعلقة بقوله: «ولأتم» تقديره: ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل إتمام الرسول فيكم، ومتعلّق الإتمامين مختلف، فالأول بالثواب في الآخرة، والثاني بإرسال الرسول في الدنيا، أو الأول بإيجاب الدعوة الأولى لإبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في قوله: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أَمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ [البقرة: ١٣٨]
والثاني بإجابة الدعوى الثانية في قوله: ﴿رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٩] [قاله ابن جرير]، ورجحه مكي؛ لأن سياق اللفظ يدلّ على أن المعنى: ولأتم نعمتي عليكم ببيانه ملة أبيكم إبراهيم، كما أجبنا دعوته فيكم، فأرسلنا إليكم رسولاً منكم.
والثاني: أنها متعلّقة ب «تهتدون»، تقديره: يهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولاً، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقيق والثبوت أي: اهتداء متحققاً كتحقيق إرسالنا.
الثالث: وهو قول أبي مسلم: أنها متعلقة بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ [البقرة: ١٤٣]، أي: جعلاً مثل إرسالنا.
وهذا بعيد داً؛ لطول الفصل المؤذن بالانقطاع.
الرابع: أنها متعلقة بما بعدها وهو «اذكروني» [قال مجاهد وعطاء والكلبي: وروي عن علي رَضِيَ اللهُ عَنْه، واختاره الزَّجاج: كما أرلنا فيكم رسولاً تعرفونه بالمصدق فاكروني بالتوحيد والتصديق به، وعلى هذا فالوقف على «تهتدون» جائز].
قال الزمخشري: كما ذكرتكم بإرسال الرسل، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب، فيكون على تقدير مصدر محذوف، وعلى تقدير مضاف أي: اذكروني ذكراً من ذكرنا لكم بالإرسال، ثم صار: مثل ذكر إرسالنا، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا كما تقول: كما أتاك فلان فإنه يكرمك، و «الفاء» غير مانعة من ذلك.
قال أبو البقاء: «كما» لم تمنع في باب الشرط يعني أن ما بعد فاء الجزاء يعمل فيما قبلها.
وقد ردّ مكي هذا بأن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه و «اذكروني» قد أجيب بقوله: «أذكركم» فلا يتعلق به ما قبله.
قال: ولا يجوز ذلك إلا في التشبيه بالشرط الذي يجاب بجوابين، نحو: إذا أتاك فلان فأكرمه تَرْضَهْ، فيكون «كما»، و «فأذكركم» جوابين للأمر، والاول أفصح وأشهر،
72
وتقول: «كما أحسنت إليك فأكرمني» فيصح أن تجعل الكاف متعلقة ب «أكرمني» إذ لا جواب له.
وهذا الشرط منعه مكّي قال أبو حيان: «لا نعلم خلافاً في جوازه».
وأما قوله: إلا أن يشبه بالشرط، وجعله «كما» جواباً للأمر، فليس بتشبيه صحيح، ولا يتعقل، وللاحتجاج عليه موضع غير هذا الكتاب.
قال أبو حيان: وإنما يخدش هذا عندي وجود الفاء، فإنها لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وتبعد زيادتها. انتهى.
وقد تقدم [قول] أبي البقاء في أنها غير مانعة من ذلك.
الخامس: أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال من «نعمتي» والتقدير: ولأتم نعمتي مُشبِهَةً إرسالنا فيكم رسولاً، أي: مشبهة نعمة الإرْسَال، فيكون على حذف مضاف. [وقال مكي: في «إعراب المشكل» : فإن شئت جعلت «الكاف» في موضع نصب على الحال من الكاف والميم في «عليكم» ].
وأما على القول بأنها للتعليل، فتتعلّق بما بعدها وهو قوله: «فاذكروني» أي: اذكروني لأجل إرسالنا فيكم رسولاً، وكون «الكاف» للتعليل واضح، وجعل بعضهم منه: ﴿واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨]، وقول الآخر: [الراجز]
٨٤٥ - لاَ تَشْتُمِ النَّاس كَمَا لاَ تُشْتَم... أي: لا تَشتم لامتناع النَّاس من شَتمك.
وفي «ما» المتّصلة بهذه «الكاف» ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها مصدرية، وقد تقدم تحريره.
والثاني: أنها بمعنى الذي، والعائد محذوف، و «رسولاً» بدل منه، والتقدير: كالذي أرسلناه رسولاً، وهذا بعيد جداً.
وأيضاً فإن فيه قوع «ما» على آحاد العقلاء، وهو قول مرجوح.
الثالث: أنها كافة «للكاف» كهي في قوله: [الوافر]
73
ولا حاجة إلى هذا، فإنه لا يُصَار إلى ذلك إلاّ حيث تعذّر أن ينسبك منها ومما بعدها مصدر، كما إذا اتصلت بجملة اسمية كالبيت المتقدم.
و «منكم» في محلّ نصب؛ لأنه صفة ل «رسولاً»، وكذلك ما بعده من الجمل، ويحتمل أن تكون الجمل بعده حالاً لتخصيص النكرة بوصفها بقوله: «منكم»، وأتي بهذه الصفات بصيغة المضارع؛ لأنه يدل على التجدد والحدوث، وهو مقصود هاهنا، بخلاف كون «منهم»، فإنه وصف ثابت له، [وقوله: «فيكم» و «منكم»، أي: من العرب، وفي إرساله فيهم رسولاً، ومنهم نِعَمٌ عليهم عظيمة؛ لما لهم فيه من الشَّرَفِ، وأن المشهور من حال العرب الأَنَفَةُ الشديدة من الانقياد إلى الغير، فبعثه الله - تعالى - من واسطتهم ليقرب قبولهم.
وقوله: «يَتْلُو عَلَيْكُمْ» فيه نِعَمٌ عليكم عظيمة؛ لأنه معجزة باقية تتأذى به العبادات ومستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة.
واعلم أنه إن كان المراد بالآيات القرآن، فالتلاوة فيه ظاهرة.
وإن كان المراد بالآيات المعجزات، فمعنى التلاوة لها تتابعها؛ لأنَّ الأصل في التلاوة التتابع، يقال: جاء القوم يتلو بعضهم بعضاً أي بعضهم إثْرَ بعض]، وهنا قدم التزكية على التعليم، وفي دعاء إبراهيم بالعكس.
والفرق أن المراد بالتزكية هنا التطهير من الكفر، وكذلك فسروه.
وهناك المراد بها الشهادة بأنهم خيار أزكياء، وذلك متأخر عن تعلم الشرائع والعمل بها. [وقال الحسن: «يزكّيكم» يعلّمكم ما إذا تمسّكتم به صرتم أزكياء.
وقال أبو مسلم: «التزكية» عبارة عن التَّنمية، كأنه قال: يكثركم؛ كقوله تعالى ﴿إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: ٨٦]، وذلك بأن يجمعهم على الحق فيتواصلوا ويكثروا].
وقوله: ﴿يُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ بعد قوله: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة﴾ باب ذكر العام بعد الخاص، وهو قليل بخلاف عكسه. [وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب﴾ بعد قوله: ﴿يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ ليس بتكرار؛ لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم.
وأما الحكمة فهي العلم بسائر الشرائع التي لم يشتمل القرآن على تفصيلها.
وقال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: الحكمة هي سُنّة الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
وفي قوله تعالى: ﴿وَيَعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ تَنْبِيهٌ على انه - تعالى - أرسله على حين فَتْرَةٍ من الرسل، وجهالة الأمم].
74
اعلم أن الله - تعالى - كلفنا في هذه الآي بأمرين: الذكر، والشكر.
أما الذكر فقد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب، وقد يكون بالجوارح.
فذكر اللسان الحمد، والتسبيح، والتمجيد، وقراءة كتابه.
وذكر القلب التفكّر في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته، والتفكر في الجواب على الشبهة العارضة في تلك الدلائل، والتفكّر في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده، فإذا عرفوا كيفية التَّكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم، والتفكر في أسرار مخلوقاته.
وأما الذكر بالجوارح، فهو عبارة عن كون الجوارح مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها، وعلى هذا سمى الله الصلاة ذكراً، بقوله تعالى: ﴿فاسعوا إلى ذِكْرِ الله﴾ [الجمعة: ٩] فقوله: «اذْكُرُوني» يتضمن الطاعات، ولهذا روي عن سيعد بن جبير أنه قال: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي فأجمله حتى يدخل الكل فيه.

فصل في وروده الذكر في القرآن


الذكر ورد على ثمانية أوجه:
الأول: بمعنى الطاعة كهذه الآية أي: أطيعوني أغفر لكم.
الثاني: العمل، قال تعالى: ﴿خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ﴾ [البقرة: ٦٣] أي: اعملوا بما فيه.
الثالث: العِظَة، قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين﴾ [الذاريات: ٥٥] أي العِظَة، ومثله ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ [الأنعام: ٤٤] أي: ما وعظوا به.
الرابع: الشَّرف قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: ٤٤] ومثله: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ﴾ [المؤمنين: ٧١] أي: بشرفهم، وقوله: ﴿هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي﴾ [الأنبياء: ٢٤] أي: شرف.
الخامس: القرآن قال تعالى: ﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا﴾ [ص: ٨] أي: القرآن، ومثله: ﴿وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ﴾ [الأنبياء: ٥٠].
السادس: التوراة قال تعالى: ﴿فاسألوا أَهْلَ الذكر﴾ [النحل: ٤٣] أي: التوراة.
75
السابع: البيان، قال تعالى: ﴿أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ٦٣].
الثامن: الصلاة، قال تعالى: ﴿فاسعوا إلى ذِكْرِ الله﴾ [الجمعة: ٩].
قوله: «أَذْكُرْكُمْ» هذا خطاب لأهل «مكة» والعرب.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: اذكروني بطاعتي أذكركم بمعرفتي.
وقيل: اذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء.
بيانه قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: ١٤٣ - ١٤٤].
وقيل: اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة.
قال تبارك وتعالى: ﴿ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠] قاله أبو مسلم.
وقيل: اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة، وقيل: اذكروني بمَحَامدي أذكركم بهدَايتي.
روى الحسن عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: إني سمعت هذا الحديث من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن الله - تَعَالَى - يقول: يَا ابْنَ آدَمَ إِنْ ذَكَرْتَنِي فِي نَفْسِكَ ذَكَرْتُكَ فِي نَفْسِي، وَإنْ ذَكَرْتَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُكَ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإنْ دَنَوْتَ مِنِّ شِبْراً دَنَوْتُ مِنْكَ ذِرَاعاً، وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي ذِرَاعاً دَنَوْتُ مِنْكَ بَاعاً، وَإِنْ مَشَيْتَ إِلَيَّ هَرْوَلْتُ إِلَيْكَ، وإِنْ هَرْوَلْتَ إِلَيَّ سَعَيْتُ إِلَيْكَ، وإِنْ سَأَلْتَنِي أَعْطَيْتُكَ، وَإِنْ لَمْ تَسْأَلْنِي غَضِبْتُ عَلَيْكَ»
وقال أبو عثمان النهدي: إني لأعلم الساعة التي يذكرون منها.
قيل: ومن أين تعلمها؟ قال: اتقوا الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَاذْكُرُونِي أّذْكُرْكُمْ﴾.
قوله: ﴿واشكروا لِي﴾.
تقدم أن «شَكَر» يتعدّى تارة بنفسه، وتارة بحرف جر على حد سواء على الصحيح.
وقال بعضهم: إذا قلت: شكرت لزيد، فمعناه شكرت لزيد صَنِيْعَهُ، فجعلوه متعدياً لاثنين.
أحدهما: بنفسه، والآخر بحرف الجر، ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله: «واشكروا لي ما أنعمت به عليكم».
وقال ابن عطية: «واشكروا لي، واشكروني بمعنى واحد».
و «لي» أفصح وأشهر مع الشّكر، ومعناه: نعمتي وَأَيَادِيَّ، وكذلك إذا قلت
76
شكرتك. فالمعنى شكرت لك صنيعك وذكرته، فحذف المضاف؛ إذ معنى الشكر ذكر اليد، وذكر مُسْدِيها معاً، فما حذف من ذلك، فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف.
وأصل الشكر في اللغة: الظهور، فشكر العبد لله - تعالى - ثناؤه عليه بذكر إحسانه، وشكر الله سبحانه للعبد ثناؤه عليه بطاعته له، إلا أن شكر العبد نُطق باللسان، وإقْرَار بالقلب بإنعام الرب.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ نهي ولذلك حذفتع منه نون الجماعة، وهذه نون المتكلم، وحذفت الياءح أنها رأس آية إثباتها أحسن في غير القرآن، أي: لا تكفروا نعمتي، فالكفر هنا سَتْر النعمة لا التكذيب.
77
أعلم أنه - تعالى - لما أوجب بقوله «فاذكروني» جميع العبادات، وبقوله: ﴿واشكروا لِي﴾ ما يتصل بالشكر أردفه ببيان ما يعين عليهما، فقال: ﴿استعينوا بالصبر والصلاة﴾ وإنما خصّهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات.
أما الصبر فهو قَهْر النفس على احتمال المَكَاره في ذات الله - تعالى - وتوطينها على تحمُّل المشاقّ، ومن كان كذلك سهل عليه فعل الطاعات، وتحمل مشاق العبادات، وتجنّب المحظورات.
وأما الصلاة فلقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر﴾ [النعكبوت: ٤٥].
ومن الناس من حمل الصبر على الصوم.
ومنهم من حمله على الجهاد، لقوله تعالى بعده: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ [البقرة: ١٥٤] ولأنه - تعالى - أمره بالتثبت في الجهاد، فقال تعالى: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا﴾ [الأنفال: ٤٥] وبالتثبُّت في الصلاة وفي الدعاء، فقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾ [آل عمران: ١٤٧].

فصل في أقسام الصبر وذكر الاستعانة


والقول الأول أولى لعموم اللفظ وعدم تقيّده الاستعانة، ذكر الاستعانة بالصلاة ولم يذكر فيماذا يُسْتعان.
فظاهره يدل على أن الاستعانة في كل الأمور، وذكر الصبر، وهو ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: الصبر على الطاعات.
77
والثاني: الصبر على الشدائد فهو يشملها وتقدم الكلام على المراد بالصلاة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله مَعَ الصابرين﴾.
فالمعيّة على قسمين:
أحدهما: معيّة عامة، وهي المعيذة بالعلم والقدرة، وهذه عامة في حق كل أحد.
والثاني: معيّة خاصة وهي المعيّة بالعَوْن والنصر، وهذه خاصة بالمتقين والمحسنين والصابرين، ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨] وقال هاهنا: ﴿إِنَّ الله مَعَ الصابرين﴾ أي: بالعون والصبر.
78
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: نزلت الآية في قَتْلِى «بدر»، وقتل من المسلمين يومئذ أربعة شعر رجلاً: ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار.
فمن المهاجرين: عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب، وعمر بن أبي وقاص، وذو الشمالين، وعمرو بن نفيلة، وعامر بن بكر، ومهجع بن عبد الله، ومن الأنصار: سعيد بن خيثمة، وقيس بن عبد المنذر، وزيد بن الحرث، وتميم بن الهمام، ورافع بن المعلى، وحارثة بن سراقة، ومعوذ بن عفراء، وعوف بن عفراء رضوان الله تعالى عليهم وكانوا يقولون: مات فلان ومات فلان، فنهى الله - تعالى - أن يقال فيهم: إنهم ماتوا. وقال بعضهم: إن الكفار والمنافقين قالوا: إنّ الناس يقتلون أنفسهم طلباً لمَرْضَاة محمد من غير فائدة فنزلت هذه الآية.

فصل في المراد بحياء الشهداء


اختلفوا في هذه الحياة.
فقال أكثر المفسرين: إنهم في القبر أحياء كأن الله تعالى أحياهم لإيصال الثواب إليهم، وهذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم وهو في القبور.
فإن قيل: نحن نشاهد أجسادهم ميتة في القبور، فكيف يصح ما ذهبتم إليه؟
فالجواب: قال ابن الخطيب: أما عندما فالبنية ليست شرطاً في الحياة، ولا امتناع في أن يعيد الله الحياة إلى كلّ واحد من تلك الذّرات والأجزاء الصغيرة من غير حاجة إلى التركيب والتأليف.
وأما عند المعتزلة فلا يبعد أن يعيد الله الحياة إلى الأجزاء التي لا بدّ منها في ماهية الحي، ولا يعتبر بالأطراف.
ويحتمل أيضاً أن يحييهم إذا لم يشاهدوا.
وقال الأصم: يعني لا تسمّوهم بالموتى، وقولوا لهم: الشهداء الأحياء، ويحتمل أن المشركين قالوا: هم أموات في الدين كما قال تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [
78
الأنعام: ١٢٢] فقال: ولا تقولوا للشهداء ما قاله المشركون، ولكن قولوا: هم أحياء في الدين، ولكن لا يشعرون [يعني المشركين لا يعلمون من قتل على دين محمد صلوات الله وسلامه عليه حيٌّ في الدين] وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني: إن المشركين كانوا يقولون: إن أصحاب محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقتلون أنفسهم، ويخسرون حياتهم، فيخرجون من الدنيا بلا فائدة، ويضيعون أعمارهم إلى غير شيء. وهؤلاء الذين قالوا ذلك، يحتمل أنهم كانوا دهرية ينكرون المعاد’، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين بالمعاد إلا أنهم منكرين لنبوة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فلذلك قالوا هذا الكلام، فقال الله تعالى ولا تقولوا كما قال المشركون: إنهم أموات لا ينشرون ولا ينتفعون بما تحملوا من الشدائد في الدّنيا، ولكن اعلموا أنهم أحياء، أي: سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة، وتفسير قوله: «أحياء» بأنهم سيحيون غير بعيد، قال الله تعالى:
﴿الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: ١٣ - ١٤]، وقال: ﴿أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾ [الكهف: ٢٩].
وقال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء: ١٤٥] وقال ﴿افَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [الحج: ٥٦].
والقول الأول هو المشهور ويدل عليه وجوه:
أحدها: الآيات الدالة على عذاب القبر كقوله تعالى: ﴿قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين﴾ [غافر: ١١]، [والموتتان لا تحصلان إلا عند حصول الحياة في القبر] وقال الله تعالى: ﴿أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً﴾ [نوح: ٢٥] و «الفاء» للتعقيب.
وقال: ﴿النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب﴾ [غافر: ٤٦] وإذا ثبت عذاب القبر وجب القول بثواب القبر أيضاً؛ لأن العذاب حقّ الله - تعالى - على العبد، والثواب حق للعبد على الله تعالى.
وثانيها: أن المعنى لو كان على ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله: وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ «معنى؛ لأن الخطاب للمؤمنين، وقد [كانوا يعلمون أنهم ماتوا على هدى وكون أنهم] كانوا لا يعلمون؛ أي أنهم سيحيون يوم القيامة.
وثالثها: أن قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم﴾ [آل عمران: ١٧٠] دليل على حصول الحياة في البَرْزَخِ قبل البعث.
ورابعها: قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ»
أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَاب القَبْرِ «وقوله:» القَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النيران «
79
وخامسها: أنه لو كان المراد من قوله:» إنهم أحياء «أنهم سيحيون، فحينئذ لا يبقى لتخصيصهم بهذا فائدة.
قال القرطبي: والشهداء أحياء كما قال الله تعالى: وليس معناه أنهم سيحيون، إذ لو كان كذلك لم يكن بين الشهداء وبين غيرهم فرق إذ كل أحد سَيَحْيَا.
ويدل على هذا قوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ والمؤمنون يشعرون أنهم سيحيون.
وأجاب عنه أبو مسلم بأنه - تعالى - إنما خصهم بالذكر؛ لأن درجتهم في الجنة أرفع، ومنزلتهم أعلى وأشرف لقوله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَ ائِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: ٦٩] فأرادهم بالذكر تعظيما.
قال ابن الخطيب: هذا الجواب ضعيف؛ لأن منزلة النبيين والصديقين أعظم مع أن الله - تعالى - ما خصهم بالذكر.
وفي هذا الجواب نظر؛ لأن الآية الكريمة ليست في النبيين والصديقين، إنما هي في الشهداء.
واحتج أبو مسلم بأنه - تعالى - ذكر هذه الآية في»
آل عمران «فقال: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: ١٦٩] وهذه العندية ليست بالمكان، بل بالكون في الجنة، ومعلوم أن أهل الثواب لا يدخلون الجنة إلا بعد القيامة.
وقال ابن الخطيب: لا نسلم أن هذه العندية ليست إلا بالكون في الجنة، بل بإعلاء الدرجات، وإيصال البشارات إليه، وهو في القبر، أو في موضع آخر.
وقال بعضهم: ثواب القبر وعذابه للروح لا للقالب، والكلام في هذه المسألة مذكور في غير هذا المكان.
[قال الحسن: إن الشهداء هم أحياء عند الله - تعالى - تُعْرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرج، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشية، فيصل إليهم الوَجَعُ].
قوله تعالى: «أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} خبر مبتدأ محذوف أي: لا تقولوا: هم أموات، وكذلك»
أحياء «خبر مبتدأ محذوف أي: بل هم أحياء.
80
[وقد راعى لفظ» من «مرة فأفرد في قوله:» يقتل «، ومعناها أخرى، فجمع في قوله:» أموات بل أحياء «] و» اللام «هنا للعلة، ولا تكون للتبليغ؛ لأنهم لم يُبَلِّغُوا الشهداء قوله هذا.
والجملة من قوله:»
هم أموات «في محلّ نصب بالقول؛ لأنها محكية به.
وأما»
بل هم أحياء «فيحتمل وجهين:
أحدهما: ألا يكون له محل من الإعراب، بل هو إخبار من الله - تعالى - بأنهم أحياء، ويرجحه قوله: ﴿وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ ؛ إذ المعنى لا شعور لكم بحياتهم.
والثاني: أن يكون محلّه النصب بقول محذوف تقديره، بل قولوا: هم أحياء، ولا يجوز أن ينتصب بالقول الأول لفساد المعنى، وحذف مفعول»
يشعرون «لفهم المعنى: أي بحياتهم، والله أعلم.
81
قال القفال [رَحِمَهُ اللهُ:] هذا متعلق بقوله تعالى: ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾ [البقرة: ٤٥] فإنما نبلوكم بالخَوْفِ وبكذا، وفيه مسائِلُ.
فإن قيل: إنه تعالى قال: ﴿واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: ١٥٢] والشكرُ يوجب المزيدّ، لقوله: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: ٧] فكيف أردَفهُ بقوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف﴾ ؟.
[قال ابن الخطيب] : والجواب من وَجْهَيْنِ:
الأولُ: أنه - تعالى - أخبر أَنَّ إكمَالَ الشرائعِ إتمامُ النعمةِ، فكأنه كذلك موجباً للشُّكْرِ، ثم أَخبر أن القيامَ بتلك الشرائع لا يُمْكِن إِلا بتحمّل المِحَن، فلا جَرَمَ أمر فيها بالصَّبْر.
الثاني: أنه - تبارك وتعالى - أَنْعَم أولاً فأَمَر بالشكْر، ثم ابْتَلَى وأمر بالصَّبْرِ، لينال [الرجل] درجةَ الشاكرين وَالصَّابِرينَ مَعاً، فيكمل إيمانُهُ على ما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الإِيْمَانُ نِصْفَانِ نِصْفٌ صَبْرٌ، وَنِصْفٌ شُكْرٌ»
81
قال بعضَهم: الخطابُ لجميع أُمَّةِ محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال عَطاءٌ والرَّبِيعُ بنُ أَنس: المرادُ بهذه المخاطبةِ أصحاب النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد الهِجْرة وهذا الابتلاءُ لإِظْهَارِ المطيع من العاصي لا ليعلم شيئاً، ولم يَكُنْ عَالِماً به، وقد يُطْلق الابتلاءُ على الأَمانةِ؛ كهذه الآية الكريمةِ، والمعنى: وليصيبنكُم اللهُ بشيْءٍ من الخوف، وقد تقدَّم الكلامُ فِيه، في قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٢٤].
وفي حكمة هذا الابتلاء وجوه:
أَحَدُهما: ليوطِّنُوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت، فيكُونُ ذلك أبعدَ لهم من الجَزَعِ، وأَسْهَل عليهم بعد الورُود.
وثَانِيهَا: أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المِحَن، اشتَدَّ خَوْفُهم فيصير ذلك الخوفُ تَعْجِيلاً للابتلاءِن، فيستحِقُّون به مزيدّ الثَّوابِ.
وثَالِثُهما: أن الكفارَ إذا شاهدوا محمداً وأصحَابَهُ مقِيمينَ على دينهم مُسْتقرّين عليه، مع ما كانوا عليه منْ نِهَاية الضر والمِحْنَةِ والجُوع، يَعْلَمُونَ أن القومَ إِنَّما اختاروا هذا الدِّينَ لقطْعِهم بصحّته، فيدعُوهم ذلك إِلى مَزِيد التأمَّل في دَلاَئِله.
ومن المعلُوم الظَّاهِر أَنَّ التَّبَعَ إذا عَرَفُوا أن المتبوعَ في أَعْظَم المِحنَ بسبب المذهب الذي ينصرُه، ثم رأوه مع ذلك مُصِرّاً على ذلك المذهب كان ذلَك أَدْعَى لهم إلى اتَّباعِه مما إذا رأوه مُرَفّه الحَالِ، لا كُلْفة عليه في ذلك المذهب.
ورَابِعُهَا: أنه تعالى أخبر بوقوُع ذلك الابتلاءِ قَبْل وقُوعِه، فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه، فكان ذلك إْباراً عن الغَيْب، فكان معجزاً.
وخَامِسُها: أَنَّ من المُنَافِقِينَ مَنْ أَظْهَر متابعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه طمعاً منه في المال، وسعة الرزق، فإذا اختبره تعالى بنزول هذه المحن فعند ذلك يتميز المنافق من الموافق؛ لأنَّ المنافِقَ إِذَا سَمِعَ ذلكن نَفَر منه، وتركَ دِينَه، فكانَ في هَذَا الاختبارِ هَذِهِ الفَائِدَةُ.
وسَادِسُها: أن إخلاص الإنسان حالة [البلاء، ورجوعه إلى باب الله تعالى] أكثر من أخلاصه حال إقبال الدنيا عليه.
قوله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» هذا جواب قسم محذوف، ومتى كان جوابه مضارعاً مثبتاً مستقبلاً، وجب تلقيه باللام وإحدى النونين خلافاً للكوفيين حيث يعاقبون بينهما، ولا
82
يُجيز البصريون ذلك إلا في الضرورة، وفتح الفعل المضارع لاتصاله بالنون، وقد تقدم تحقق ذلك وما فيه من الخلاف.
[قال القُرْطِبيُّ: وهذه «الوَاوُ» مفتوحَةٌ عِنْد سِيبَوَيْه؛ لالتِقَاءِ السّاكِنَين. وقال غيرُه: لَمَّا ضُمَّتَا إلى النُّونِ الثَّقِيلَةِ بُنِيَ الفِعْلُ مُضَارِعاً بمنزِلَةِ عَشَر، والبَلاَءُ يَكُون حَسَناً وَيَكُونُ سَيِّئاً، وأَصْلَهُ: المِحْنَةُ، وقدم تقدَّمَ].
قوله تعالى: «بِشَيء» متعلق بقوله: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» و «الباء» معناها الإلصاق، وقراءة الجمهور على إفراد «شيء»، ومعناها الدلالة على التقليل؛ إذ لوجمعه لاحتمل أن يكون ضرباً من كل واحد.
وقرأ الضحاك بن مزاحم: «بأشياء» على الجمع.
وقراءة الجمهول لا بد فيها من حذف تقديره: وبشيء من الجوع؛ وبشيء من النقص.
وأما قراءة الضحاك فلا تحتاج إلى هذا.
وقوله: «مِنَ الْخَوْفِ» في مَحَلّ جَرِّ صفة لشيء، فيتعلّق بمحذوف.

فصل في أقسام ما يلاقيه الإنسان من المكاره


أعْلَم أَنَّ كلّ ما يلاقي الإنسان من مكروه ومحبوب، فينقسم إلى موجود في الحال، وإلى ما كان موجوداً في الماضي، وإلى ما سَيُوجَدُ في المُسْتَقْبل.
فإذا خَطَر بالبالِ [وجود شيء] فيما مضى سمي ذكراً وتذكراً، وإن كان مَوْجُوداً في الحَال يُسَمى ذوقاً ووجداً، وإنما سمي وَجْداً؛ لأنها حالةٌ تجدها مِنْ نَفْسِك.
وإن خطر بالبالِ وُجُودُ شَيْءٍ في الاستقبال وغلب ذلك على القَلْبِ سُمِّيً انتظاراً وتوقّعاً.
فإن كان المنتظر مكروهاً يحصل منه ألم في القلب يسمى خوفاً وإشفاقاً، وإن كان محبوباً سمي ذلك ارتياحاً في القلب.

فصل في الفرق بين الخوْف والجُوع والنَّقْص


قال ابنُ عباسٍ رَضي الله عنهما: الخوفُ خوفُ العَدُوِّ والجُوع القَحْط، والنقصُ مِنَ الأَمْوَالِ بالخُسْرَانِ والهَلاَكِ والأنفس بمعنى القتل.
83
وقيل: بالمرض والسبي.
وقال القفال رَحِمَهُ اللهُ: أما الخوف الشديد فقد حصل لهم عند مكاشفتهم العرب بسبب الدّين، فكانوا لا يؤمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم، وقد كان من الخوف وقعة «الأحزاب» ما كان، قال الله تعالى: ﴿هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً﴾ [الأحزاب: ١١].
وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى «المدينة» لقلّة أموالهم، حتى أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ [كان يشدّ الحجر على بطنه.
وروى أبو الهيثم من التّيهان أنه - عليه السلام]- لما خرج التقى بأبي بكر قال مَا أَخْرَجَكَ؟ قال: الجُوعُ، قال: أَخْرَجَنِي مَا أَخْرَجَكَ [وأما نَقْصُ الأَمْوَالِ والأَنْفُسِ، فقد يَحْصُلُ ذلك عند مُحَاربة العَدُوِّ، بأَنْ ينفق مَالَهُ في الاسْتِعْدادِ والجهَادِ، وقد يُقْتَلُ؛ فهناك يحصلُ النَّقْصُ في المال والنفس] وقال اللهُ تَعَالَى:
﴿وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ٤١] وقد يحصلُ الجُوعُ في سفر الجِهَادِ عند فَنَاءِ الزَّادِ؛ قال الله تعالى: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله﴾ [التوبة: ١٢٠].
وأما نقص الثمرات فقد يكون بالجَدْب، وقد يكون بترك عِمَارة الضِّيَاع للاشتغال بجهاد الأعداء، وقد يكون ذلك بالإنْفَاق على من كان يَرِدُ على رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الوفود.
قال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: الخوف: خوف الله عَزَّ وَجَلَّ، والجوع: صيام شهر رَمَضان، والنقص من الأموال: بالزكوات والصدقات، ومن الأنفس بالأمراض، ومن الثمرات، موت الأولاد.
قولهُ تَعَالى: «وَنَقْصٍ» فِيه وَجْهان:
أَحدُهُما: أَنْ يكُونَ معطوفاً على «شَيْءٍ»، والمعنى: بشيءٍ من الخَوْفِ وبنقص.
والثَّانِي: أن يكون مَعْطوفاً على الخَوْفِ، أَيْ: شيءٌ من نقص الأموال.
والأول أَوْلَى؛ لاشتراكهما في التنكير.
قَوْلَهُ: «مِنَ الأَمْوَالِ» فيه خَمْسة أَوْجُه:
أَحدها: أَنْ يكونَ مُتعَلقاً ب «نقص» ؛ لأنه مصدر «نقص»، وهو يتعدَّى إلى واحدٍ، وقد حُذِف، أَيْ: ونقص شيء مِنْ كَذا.
الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ في محلّ جَرٍّ صفة لذلك المحذوف، فيتعلّق بمحذوف، أي ونقص شيء كائن من كذا.
84
الثَّالِثُ: أَنْ يكونَ في محلِّ نَصْبٍ صفَةً لمفعول مَحْذُوفٍ نصب بهذا المصدر المنون، والتقديرُ: ونقصُ شيء كَائِنٌ من كذا، ذكره أَبُوا الْبَقَاء.
ويكونُ مَعنى «منْ» على هذين الوجهين التَّبْعِيضُ.
الرَّابعُ: أَنْ يكون في محل جرِّ صِفَةً ل «نَقص»، فيتعلق بمحذوف أيضاً، أَيْ: نقص كائن من كذا، وتكونُ «مِنْ» لابتداء الغَايَةِ.
الخِامِسُ: أن تكون «مِنْ» زائدةً عن الأَخْفَشِ، وحينئذ لا تعلّق لها بِشَيْءٍ.
قوله تعالى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» الخِطَابُ لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولمن أتَى بَعْدَهُ من أمته، أي: الصابرين على ابَلاَءِ والرَّزَايا، أي بشرهم بالثواب على الصبر، والصبر أصله الحبس وثوابه غير مقدر، ولكن لاَ يكُون ذلك إلا بالصَّبْر عند الصَّدْمَة الأولى [لقوله عليه الصلاةُ والسَّلامُ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُوْلَى» ] أي الشاقة على النفس الذي يَعْظُمُ الثوابُ عليه، إنما هو عند هُجُوم المُصيبة ومَرَارتها.
والصَّبْرُ صَبْرانِ؛ صَبْرٌ عن معصية الله تعالى فهذا مُجَاهِدٌ، والصبرُ عَلَى طَاعَةِ الله فهذا عَابِدٌ.
85
في قوله: «الَّذِينَ» أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ.
أحدُها: أَنْ يكُونَ منصوباً على النَّعْتِ للصابرين، وهو الأَصُحّ.
الثَّانِي: أن يكون مَنْصُوباً على المدْحِ.
الثَّالِثُ: أن يكون مَرْفُوعاً على خبر مبتدأ محذوف، أَيْ هُمُ الذينَ، وحينئذٍ يحتمل أن يكون على القطع، وأَنْ يكونَ على الاستئنافِ.
الرَّابُعُ: أَنْ يَكُون مُبْتَدأً، والْجُمْلَةُ الشرطية مِنْ «إِذا» وَجَوابِهَا صلةٌ، وخبرَهُ ما بعده مِنْ قولِه: ﴿أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ﴾.
85
قولُه تعالى: ﴿أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾.
والمصيبةُ: [كُلُّ ما يُذي المؤْمِنَ وَيصِيبُهُ]، يقالُ: أَصابَهُ إِصَابَة ومُصَابة ومُصَاباً.
والمصيبةُ: وَاحِدُ المَصَائب.
والمَصُوبَةُ «بضم الصَّادِ» مِثْلُ المصيبَةِ.
وأجمعتِ العربُ على هَمْزِ المَصَائب، وأَصْلُهُ «الواو»، كَأَنَّهم شَبَّهوا الأَصْلي بالزائد ويُجْمَعُ على «مصاوب»، وهو الأصْلُ، والمُصَابُ الإِصَابةُ، قال الشاعر: [الكامل]
٨٤٦ - لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدِ كَمَا النَّشْوَانُ وَالرَّجُلُ الحَلِيمُ
٨٤٧ - أَسُلَيْمُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلاً أَهْدَى السَّلاَم تَحِيَّة طُلْمُ
وصَابً السَّهْمُ القِرْطاسَ يُصيبه صَيْبًا لغةٌ في أَصَابَهُ.
والمُصِيبَةُ: النَّكْبَةُ يُنْكَبُها الإنسانُ وإِنْ صَغُرَتْ، وتستعمل في الشر.
قولهُ تعالى: «إِنَّا لِلَّهِ» إِنَّ وَاسْمَها وخَبَرَها في محلِّ نَصْبٍ بالقول، والأصلُ: إِنَّنَا بثلاث نوناتٍ، فحُذِفَتِ الأخيرةُ من «إِنَّ» لا الأُولَى، لأنه قد عُهِدَ حَذْفُها، ولأنها طرفٌ من الأطرافِ الأَوْلَى بالحذْفِ، لا يُقالُ: إنها لو حُذِفَتِ الثانيةُ لكانت مُخَفَّفةً، والمخففةُ لا تعمل على [الأَفْصَح] فكان يَنْبَغِي أَنْ تُلْغَى، فينفصل الضميرُ المرفوعُ حِينَئذٍ، إذْ لاَ عَمَلَ لهَا فيه، فدل عَدَمُ ذلك على أن المَحْذُوف النُّونُ الأُولَى لأن هذا الحذفَ حَذْفٌ لِتَوالِي الأَمْثَالِ لا ذلك الحذفُ المعْهُودُ في «إن» وأصابَتْهُمْ مُصيبةٌ من التَّجانُسِ المغاير؛ إذْ إِحْدَى كَلِمتِي المادَّةِ اسمٌ والأُخْرَى فِعْلٌ، ومثله: ﴿أَزِفَتِ الآزفة﴾ [النجم: ٥٧] ﴿وَقَعَتِ الواقعة﴾ [الواقعة: ١].
86

فصل في الكلام على الآية.


قال بَعْضُهُم: «إِنَّا لِلَّهِ» إقرارٌ مِنَّا له بالمُلْكِ، «وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» إِقْرارٌ على أنفُسنا بالهَلاَك، لا بمعنى الانتِقَال إلى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ فإن ذلك على الله مُحَال، بل المرادُ أنه يَصيرُ إلى حَيثُ لا يَمْلِكُ الحُكْمَ سواه، وذلك هو الدَّارُ الآخرَةُ؛ لأَنَّ عند ذلك لا يَمْلكُ لهم أحدٌ نفعاً ولا ضرّاً، وما دَامُوا في الدنيا، قَدْ يَمْلِكُ غيرُ اللهِ نفعَهُمْ وضرهم بحسب الظاهِر، فجعل اللهُ - تعالى - هذا رُجُوعاً إليه تعالى، كما يُقالُ: إن المُلْكَ والدولة ترجعُ إليه لاَ بمعنى الانْتِقَالِ بل بمعنى القُدْرة، وترك المُنَازَعةِ.
وقال بعضهم: ﴿إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ في الآخرة.
[رُويَ عَنِ النَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: «مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ المُصِيْبَةِ جَبَرَ اللهُ مُصِيبَتُهُ، وأَحْسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ اللهُ لَهُ خَلَفاً صَالِحاً يَرْضاه»
وروي أنه طُفِئ سِرَاجُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجُعونَ﴾.
فقال: «إنا لله وإنّا إليه راجعون»، فقيل: مُصِيبَةٌ هِيَ؟ قال: «نَعَمْ، كُلّ شَيْءٍ يُؤْذِي المُؤْمِنَ فَهُوَ مُصِيْبَةٌ»
وقالت أُمُّ سَلَمَةَ: حدثني أَبُو سَلَمَةَ، أنه عليه الصلاةُ والسلام قال: «مَا مِنْ مُسْلِمِ يُصابُ مُصِيْبَةً فَيَفْزَعُ إِلَى مَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللهُمَّ أُجْرْنِيّ فِي مُصِيْبَتي، وأخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْها» قالت: فملا توفي أَبُو سَلَمَة ذكرت هذا الحِديثَ، وقلتُ هذا القولَ، فأخلف اللهُ لِيَ محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشرف، وكرم، ومجد وبجل، وعظم.
وقال ابنُ عَبَّاس: أخبر اللهُ - تعالى - أن المُؤْمِنَ إِذَا أَسْلَمَ أَمْرَه لِلَّهِ، واسترجَعَ عند مُصَيبَتِهِ كتب اللهُ له ثَلاثَ خِصَالٍ: الصَّلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سبيل الهدى.
87
وقال ابنُ مَسْعُودٍ: لأن أَخِرَّ من السماء أحبّ إليّ مِنْ أن أقول لشيءٍ قضاه اللهُ: لَيْتَهُ لَمْ يَكُن].
قال أَبُو بَكْرٍ الرازي: اشتملت الآيةُ الكرِيمَةُ على حُكْمين فَرْضٍ ونَفْل.
أَمَّا الفَرْضُ فهو التَّسْلِيمُ لأمرِ الله تعالى، والرِّضَا بِقَضَائِهِ، والصبرُ على أداءِ فَرَائِضِه، لا يصرف عنها مصائب الدنيا.
وأما النَّفْل فإظهاراً لقولِ: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.
[ذكَرُوا من قولِ هذه الكَلِمةِ فَوائِدَ.
منها: الاشتغالُ بهذه الكلمةِ عن كَلاَم لا يليق.
ومنها: أنها تُسلّي قلبَ المُصَابِ، وتقلّلُ حُزْنَه.
ومنها: تقطَعُ طمع الشَّيْطَانِ في أَنْ يُوَافِقَهُ في كَلاَمٍ لا يَلِيقُ.
ومنها أَنَّهُ إذا سمعه غيرُه اقْتَدَى به.
ومنها: أنه إذا قال بلسَانِه في قَلْبِه الاعتقادَ الحَسَن، فإنَّ الحِسَابَ عند المُصِيبَةِ، فكان هذا القَوْل مذكراً له التَّسْليم لِقَضَاءِ الله وقدره].
فإن في إظهاره فوائد جزيلة:
مناه أن غيره يقتدي به إذا سمعه.
ومنها غبط الكفار، وعلمهم بجده واجتهاد في دين الله، والثبات عليه وعلى طاعته.
وحكي عن بَعْضِهِم أنه قال: الزهدُ في الدنيا ألاّ يُحِبَّ البقاءَ فِيهَا، وأفضَلُ الأعمالِ الرضا عن الله، ولا ينبَغِي لِلْمُسلِم أن يحزن؛ لأنه يَعْلَمُ أَنَّ لكلِّ مصيبة ثواباً.
قولهُ تعالى: «أُولَئِكَ» مبتدأٌ، و «صَلَوَاتٌ» مبتدأٌ ثان، و «عَلَيْهِمْ» خبرهُ مُقَدَّمٌ عليه، والجملةُ خبر قوله: «أُولَئِكَ».
ويجوز أن تكون «صلوات» فاعلاً بقوله: «عليهم».
قال أبو البقاء: لأنه قد قوي بوقوعه خبراً.
والجملة من قوله «أولئك» وما بعده خبر «الذين» على أحد الأوجه المتقدمة، أو لا محلّ لها على غيره من الأوجه.
و «قالوا» هو العامل في «إذا» ؛ لأنه جوابها وتقدم الكلام في ذلك وأنها هل تقتضي التكرار أم لا؟
88
قولهُ تعالى: «وَرَحْمَةٌ» عطف على الصلاة، وإن كانت بمعناها، فإن الصلاة من الله رحمة؛ لاختلف اللفظين كقوله: [الوافر]
٨٤٨ - وَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لِرَاهِشَيْهِ وَأَلْفَى قَوْلَها كَذِباً وَمَيْنَا
وقوله: [الطويل]
٨٤٩ - أَلاَ حَبَّذَا هِندُ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدٌ وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ
قولُه تعالى: «مِنْ رَبِّهِمْ» فيه وَجْهَانِ:
أَحدُهما: أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه صَفةٌ ل «صلوات» و «من» للابتداءِ، فهو في مَحَلِّ رفع، أيْ: صلوات كائنة مِنْ رَبِّهم.
والثَّانِي: أنه يتعلق بما تضمنه قولُه «عَلَيْهِمْ» من الفعل إذَا جعلناه رَافعاً ل «صلوات» رفع الفاعل، فعلى الأول، يكون قد حذف الصفة بعد «رَحْمة» أَيْ: ورحمة منه.
وعلى الثَّانِي: لاَ يَحْتَاجُ إلى ذلك.
وقولُه: «وأُولَئِكُ هُمْ الْمُهْتَدُونَ» نَظيرُ: ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ [البقرة: ٥] وفيه وجوهٌ:
أَحَدُهَا: أ، هم هم المهتدون لهذه الطَّرِيقَةِ المُوصّلَةِ بصاحبها إلى كل خير.
وثَانِيهَا: المُهْتدُونَ إلى الجنَّةِ الفائزون بالثواب.
وثَالِثُها: المُهْتدُونَ لسائِر ما لزمهم.
فَصْلٌ في الكلام في الآية
قال أَبُوا الْبَقَاءِ: «هُمُ المُهْتَدُونَ» هُمْ: مُبْتَدأٌ أو توكيد أو فصل.
فإن قِيلَ: لِمَ أَفْرَدَ الرحْمَةَ وجَمَعَ الصَّلَواتِ؟
فالجوابُ: قال بعضُهم: إن الرحمَةَ مصدرٌ بمعنى التعطُّف والتحنُّن، ولا يجمعُ و «التَّاءُ» فيها بمنزلتها في الملّة والمحبّةِ والرأْفَةِ، والرحمةُ ليست للتحذيرِ، بل مَنْزِلتُها في مرية وثمرة، فكما لا يُقالُ: رقات ولا خلات ولا رأفات، ولا يُقال: رَحَمات، ودخول الجمعُ يُشْعرُ بالتحذِيرِ والتقييد بعده، والإفْرَادُ مُطْلقاً مِنْ غَيْر تَحْدِيدٍ، فالإفْرَادُ - هنا - أَكْملُ وأكرُ مَعْنًى مع الجمع؛ لأنه زيد بمدلول المفرد أكثر مِنْ مدلولِ الجَمْعِ، ولهذا كان قولُه تَعَالى: ﴿فَلِلَّهِ الحجة البالغة﴾ [الأنعام: ١٤٩] أَعَمَّ وأَتَمَّ مَعْنًى مِنْ أَنْ يُقالَ: لِلَّهِ الحُجَجُ البَوالِغُ، وكذا قولُه: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: ٣٤] أتمُّ مَعْنًى
89
مِنْ أنْ يُقالَ: وإنْ تَعَدُّوا نِعَمَ الله لا تُحْصُوها، وقولُه سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً﴾ [البقرة: ٢٠١] أتمُّ مَعْنًى مِنْ قوله: حَسَناتٍ، وقولُه: ﴿بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ﴾ [آل عمران: ١٧٤]، أتَمُّ معنى من قوله: بنعمٍ، ونظائِرهُ كَثِيرةٌ.
وأما الصّلوات فالمراد بها درجات الثَّوَاب، وهي إنما تحصل شيئاً بَعْدَ شَيْءٍ، فكأنه دلّ على الصِّفَةِ المقصوُدَةِ.
90
قولهُ تعالى :" أُولَئِكَ " مبتدأٌ، و " صَلَوَاتٌ " مبتدأٌ ثان، و " عَلَيْهِمْ " خبرهُ مُقَدَّمٌ عليه، والجملةُ خبر قوله :" أُولَئِكَ ".
ويجوز أن تكون " صلوات " فاعلاً بقوله :" عليهم ".
قال أبو البقاء : لأنه قد قوي بوقوعه خبراً.
والجملة من قوله " أولئك " وما بعده خبر " الذين " على أحد الأوجه المتقدمة، أو لا محلّ لها على غيره من الأوجه.
و " قالوا " هو العامل في " إذا " ؛ لأنه جوابها وتقدم الكلام في ذلك وأنها هل تقتضي التكرار أم لا ؟
قولهُ تعالى :" وَرَحْمَةٌ " عطف على الصلاة، وإن كانت بمعناها، فإن الصلاة من الله رحمة ؛ لاختلاف اللفظين كقوله :[ الوافر ]
٨٤٨ - وَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لِرَاهِشَيْهِ*** وَأَلْفَى قَوْلَها كَذِباً وَمَيْنَا١١
وقوله :[ الطويل ]
٨٤٩ - أَلاَ حَبَّذَا هِندُ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدٌ وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ١٢
قولُه تعالى :" مِنْ رَبِّهِمْ " فيه وَجْهَانِ :
أَحدُهما : أنه متعلق بمحذوف ؛ لأنه صَفةٌ ل " صلوات " و " من " للابتداءِ، فهو في مَحَلِّ رفع، أيْ : صلوات كائنة مِنْ رَبِّهم.
والثَّانِي : أنه يتعلق بما تضمنه قولُه " عَلَيْهِمْ " من الفعل إذَا جعلناه رَافعاً ل " صلوات " رفع الفاعل، فعلى الأول، يكون قد حذف الصفة بعد " رَحْمَة " أَيْ : ورحمة منه.
وعلى الثَّانِي : لاَ يَحْتَاجُ إلى ذلك.
وقولُه :" وأُولَئِكُ هُمْ الْمُهْتَدُونَ " نَظيرُ :﴿ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
[ البقرة : ٥ ] وفيه وجوهٌ :
أَحَدُهَا : أنهم هم المهتدون لهذه الطَّرِيقَةِ المُوصّلَةِ بصاحبها إلى كل خير.
وثَانِيهَا : المُهْتدُونَ إلى الجنَّةِ الفائزون بالثواب.
وثَالِثُها : المُهْتدُونَ لسائِر ما لزمهم.
فَصْلٌ في الكلام في الآية
قال أَبُو الْبَقَاءِ :" هُمُ المُهْتَدُونَ " هُمْ : مُبْتَدأٌ أو توكيد أو فصل.
فإن قِيلَ : لِمَ أَفْرَدَ الرحْمَةَ وجَمَعَ الصَّلَواتِ ؟
فالجوابُ : قال بعضُهم : إن الرحمَةَ مصدرٌ بمعنى التعطُّف والتحنُّن، ولا يجمعُ و " التَّاءُ " فيها بمنزلتها في الملّة والمحبّةِ والرأْفَةِ، والرحمةُ ليست للتحذيرِ، بل مَنْزِلتُها في مرية وثمرة، فكما لا يُقالُ : رقات ولا خلات ولا رأفات، لا يُقال : رَحَمات، ودخول الجمعُ يُشْعرُ بالتحذِيرِ والتقييد بعده، والإفْرَادُ مُطْلقاً مِنْ غَيْر تَحْدِيدٍ، فالإفْرَادُ - هنا - أَكْملُ وأكثرُ مَعْنًى من الجمع ؛ لأنه زيد بمدلول المفرد أكثر مِنْ مدلولِ الجَمْعِ، ولهذا كان قولُه تَعَالى :
﴿ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ﴾ [ الأنعام : ١٤٩ ] أَعَمَّ وأَتَمَّ مَعْنًى مِنْ أَنْ يُقالَ : لِلَّهِ الحُجَجُ البَوالِغُ، وكذا قولُه :﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾
[ إبراهيم : ٣٤ ] أتمُّ مَعْنًى مِنْ أنْ يُقالَ : وإنْ تَعَدُّوا نِعَمَ الله لا تُحْصُوها، وقولُه سُبْحَانَهُ وتَعَالَى :﴿ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾
[ البقرة : ٢٠١ ] أتمُّ مَعْنًى مِنْ قوله : حَسَناتٍ، وقولُه :﴿ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ﴾ [ آل عمران : ١٧٤ ]، أتَمُّ معنى من قوله : بنعمٍ، ونظائِرهُ كَثِيرةٌ.
وأما الصّلوات فالمراد بها درجات الثَّوَاب، وهي إنما تحصل شيئاً بَعْدَ شَيْءٍ، فكأنه دلّ على الصِّفَةِ المقصوُدَةِ.
في تعلُّق هذه الآية بما قبلها وُجُوهٌ.
أحدُهَا: أَنَّهُ سبحانَهُ وتعالَى بَيَّنّ أَنَّهُ إِنَّمَا حَوَّل القبْلةَ إلى الكعبة؛ ليتُمَّ إِنْعامَه علَى محمَّد [صلواتُ البَرِّ الرِّحيم وسلامُهُ علَيْه] وأمّتِهِ بإِحْيَاءِ شَرِيعَةِ إِبْرَاهيم - علَيه الصَّلاةُ والسلام - لقوله تعالى: ﴿وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٠]، وكان السَّعْيُ بَيْن الصَّفَا والمَرْوَة مِنْ شَرِيعَة إِبْرَاهِيمَ [علَيْه الصَّلاةُ والسَّلاَمُ] فذكَرَ هذا الحُكْمَ عَقبَ تلْكَ الآيَةِ.
وقِيلَ: إنَّه تبارك وتَعالَى [لَمَّا] أَمَرَ بالذِّكْر مُطْلَقاً في قَوْله تعالى: «فَاذكرُونِي» بيّن الأَحوالَ الَّتي يذكر فيها وإحداها الذِّكْر مُطْلقاً.
والثَّانية: الذكْرُ في حَال النِّعْمَةِ، وهو المرادُ بقوله تعالى: ﴿واشكروا لِي﴾ [البقرة: ١٥٢].
الثالثةُ: الذّكْر في حَال الضَّرَّاءِ، فقال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع﴾ [البقرة: ١٥٥] إلى قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصابرين﴾ [البقرة: ١٥٥] ثم بَيَّنَ في هذه الآيةِ المَوَاضِع الَّتِي يُذْكَرُ فيها، ومِنْ جُمْلَتِها عنْد الصَّفَا والمَرْوَةِ، وبَقِيَّة المشَاعِر.
وثانيها: أَنَّهُ لمّا قال سبْحَانه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع﴾ [الآية] إلى قوله سبحانَهُ: ﴿وَبَشِّرِ الصابرين﴾، ثم قَالَ [عَزَّ وَجَلَّ] :﴿إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ﴾، وإنما جَعَلَهَا كذلك، لأنَّها مِن أثار «هَاجَرَ، وإسْمَاعِيل»، وما جَرَى [عليْهمَا] من البَلْوَى ويُستَدَلُّ بِذلك عَلَى أَنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى البَلْوَى، لا بُدَّ وأَنْ يَصِلَ إِلَى أَعْظَمِ الدَّرَجَاتِ.
وثالثها: أنَّ [أقسام] التَّكْليفِ ثَلاثَةٌ:
أحدها: ما يَحْكُمُ العاقلُ [بِحُسْنِهِ] في أَوْلِ الأَمْرِ، فَذَكَرَهُ أَوَّلاً، وهو قوله تعالى: ﴿فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: ١٥٢] ؛ فَإنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أنَّ ذِكْرَ المُنْعِمِ بالمَدْحِ، والشُّكْرِ، أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ في العَقْلِ.
90
وثانيها: ما يَحْكُمُ العَقْلُ [بقُبْحِهِ] في أوَّل الأَمْر، إلاَّ أنَّهُ لَمَّا وَرَدَ الشَّرْع به، وَبَيَّنَ الحِكْمَةَ فِيهِ، [وهي] الابْتِلاءُ، والامْتِحَانُ؛ عَلى ما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ [البقرة: ١٥٥]، فَحِينَئِذٍ يَعْتَقِدُ المسلمُ حُسْنَهُ، وكَوْنَهُ حِكْمَةً وَصَوَاباً.
[وثالثها] : ما لا يَهْتَدِي العَقْلُ إلى حُسْنِهِ، وَلاَ إلى [قُبْحِه]، بَل [يراها] كالعَبَثِ الخَالِي عن المنفَعَةِ والمَضَرَّةِ، وهُوَ مِثْلُ أَفْعالِ الحجِّ مِنَ السَّعِي بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فذكر الله تعالى هذا القِسْمَ عَقِيبَ القِسْمَين الأَوَّلَيْنِ؛ ليكونَ قد نَبَّهَ على جميع أقْسَامِ التكاليفِ.
قوله [تعالى] :«إنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ» :[الصَّفَا:] اسمُ «إنَّ»، و «مِنْ شَعَائِر الله» خَبَرُهَا.
قال أبُوا البَقَاءِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: وفي الكَلاَم حَذْفُ مُضَافٍ، تقديره «طَوَافُ الصَّفَا، أَوْ سَعْيُ الصَّفَا». وألفُ «الصَّفَا» [مُنْقَلِبَةٌ] عن وَاوٍ؛ بِدَلِيل قَلْبِهَا في التثنية وَاواً؛ قالوا: صَفَوَانِ؛ والاشْتِقَاقُ يَدُلُّ عليه أيضاً؛ لأنَّهُ مِنَ الصَّفْو، وهو الخُلُوصُ، [والصَّفَا: الحَجَرُ الأمْلَسُ].
وقال القُرْطُبِي: «والصَّفَا مقصورٌ» جمع صَفَاة، وهي الحِجَارة المُلْسُ.
وقيل: الصَّفَا اسْمٌ مُفْرَدٌ؛ وجمعه «صُفِيٌّ» - بِضَمِّ الصاد -[وَأصْفَاء] ؛ على [وزن] أَرْجَاء.
قال [الرَّاجِزُ] :[الرجز]
٨٥٠ - كَأَنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ
وقيل: مِنْ شُرُوط الصَّفَا: البَيَاضُ والصَّلاَبَةُ، واشتقاقُهُ مِنْ: «صَفَا يَصْفُو»، أيْ: [أُخْلِصَ مِن] التُّرابِ والطِّينِ، والصَّفَا: الحَجَرُ الأَمْلَسُ.
وفي كتاب الخَلِيل: الصَّفَا: الحَجَرُ الضَّخْمُ الصُّلْبُ الأَمْلَسُ، وإذا [نَعتُوا] الصَّخْرةَ، قالوا: صَفَاةٌ صَفْوَاءُ، وإذَا ذَكَّرُوا، قالوا: «صَفاً صَفْوَان»، فجعلوا الصَّفَا [والصَّفَاة] كَأَنَّهما في معنى واحد.
قال المُبَرِّدُ: «الصَّفَا» : كُلُّ حَجَرٍ أَمْلَسَ لا يُخالِطُهُ غَيْرُهُ؛ مِنْ طِين أو تُرَابٍ،
91
وَيَتَّصِلُ به، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ وَاحِدِهِ وَجَمْعِهِ تَاءُ التأنيث؛ نحْوُ: صَفاً كَثِيرٌ، وَصَفَاةٌ وَاحِدَةٌ، وقد يُجْمَعُ الصَّفَا على: فُعُولٍ، وأَفْعَال؛ قالوا: صُفِيٌّن بِكَسْر الصاد، وضَمِّها؛ كُعِصيٍّ، [وأصْفَاء]، والأصلُ صُفووٌ، وأضْفَاوٌ، وقُلِبَتِ الواوُ في «صُفُووٌ» يَاءَين، والواوُ في «أَصْفَاء» هَمْزةً؛ ك «كِسَاء» وبابه].
والمَرْوَةُ: الحجارةُ الصِّغَارُ، فقيل: اللَّيِّنَة.
وقال الخَلِيلُ: البيضُ الصُّلْبَة، الشَّدِيدَةُ [الصَّلاَبة].
وقِيل: المُرْهَفةُ الأَطْرافِ. وقِيل: البيضُ.
وَقِيلَ: السُّودُ. وهُمَا في الآية عَلَمَان لِجَبَلَينِ مَعْرُوفَيْنِ، والألِفُ واللاَّمُ فيهما لِلْغَلَبَةِ؛ كهما في البيت، والنَّجْم، وجَمْعُها مَرْوٌ؛ كقوله [في ذلك] :[الرمل]
٨٥١ - وَتَرَى المَرْوَ إذَا ما هَجَّرَتْ عَنْ يَدَيْهَا كَالْفَرَاشِ المُشْفَتِرْ
وقال بعضهم: جَمْعُه في القَليلِ: مَرَواتٌ، وفي الكثير: مرو. قال أبو ذُؤَيْب: [الكامل]
٨٥٢ - حَتَّى كَأَنِّي لِلْحَوِادِثِ مَرْوَةٌ [بِصَفَا المُشَقَّرِ كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَع]

فصل في حد الصفا والمروة


قال الأَزْرَقِيّ: [ذَرْعُ] ما بَيْن الصَّفا والمَرْوَة: [سَبْعمائة ذراع وسِتَّةٌ وَسِتُّون ذِرَاعاً] وَنِصْفُ ذِرَاع.
قال القُرْطُبِيُّ: وَذَكَرَ الصَّفَا؛ لأنَّ آدَمَ [المُصْطَفى -[صلواتُ الله، وسلامه عليه]- وَقَفَ عَلَيْهِ، فسُمِّيَ به؛ وَوَقَفَتْ حضوَّاءُ عَلَى المَرْوَةِ، فَسُمِّيَتْ بِاسم المَرْأة، فأنثت لذلك، والله أعلم].
قَالَ الشَّعْبِيُّ: كان عَلَى الصَّفَا صنمٌ يُدْعَى «إسَافاً»، وعلى المَرْوَةِ صَنَمٌ يُدْعَى نَائِلَةَ، فاطّرد ذلك في [التذكير والتأنيث]، وقُدّم المُذَكَّرُ، وما كان كَرَاهةُ مَنْ كَرِهَ الطَّوَافَ بينهما إلاَّ مِنْ أَجْلِ هذا، حتَّى رفع الله الحَرَجَ من ذلك، وزعَمَ أَهْلُ الكِتَابِ:
92
أَنَّهما كانا آدميّين زنيا في الكَعْبَة، فمسَخَهُما اللهُ حَجَرَين، فوضَعَهُما على الصَّفَا، والمَرْوَة؛ ليُعتبر بهما؛ فلمَّا طالبت المُدَّةُ، عُبدا مِن دُون الله، والله - تعالى - أعلم.

فصل في معنى «الشعائر»


و «الشَّعَائرُ» : جَمْهُ شَعِيرَةٍ، وهي العلامة، فَكُلُّ شَيْءٍ جُعِلَ عَلَماً مِنْ أعلام طاعةِ الله، فهو من شَعَائِر الله تعالى. قال تبارك وتعالى: ﴿والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله﴾ [الحج: ٣٦]، أي: عَلامَةً [للقُرْبَةٍ، ومنه: إشعارُ السَّنَام [وَهُو أن تُعْلَمَ بالمُدْيَة] وَمِنْهُ: الشِّعارُ في الحَرْب، [وهي العلامةُ الَّتي يتبيَّن بها إحدى الفئَتَين من الأخْرَى] ومنه قولُهُمْ: شَعَرْتُ بِكَذَا، أي: عَلِمْتُ به، وقيل: الشَّعَائِرُ جمع [شَعِيرَةٍ]، والمرادُ بها في الآية الكريمة مَنَاسِكُ الحَجِّ، ونقل الجَوْهَرِيُّ أنَّ الشَّعَائِرَ هي العباداتُ، والمَشَاعِرَ أماكنُ العبَادَاتِ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الشَّعَائِرِ وَالمَشَاعِرِ.
وقال الهَرَوِيٌّ: الأجْوَدُ: لا فَرْقَ بينهما، والأَجْوَدُ شَعَائرُ بالهَمْز؛ لزيادة حَرْفِ المَدِّ، وهو عكسُ «مَعَايش» و «مصايب».

فصل في الشعائر هل تحمل على العبادات أو على موضع العبادات


الشَّعَائِرُ: إمَّا أنْ نَحْمِلَهَا على العبادات، أو النُّسُك، أو نَحْمِلَهَا على مَوْضِع العبادات والنُّسُكِ؟!
[فإن قُلْنَا بالأَوَّلِ، حَصَلَ في الكَلاَم حَذْفٌ؛ لأنَّ نَفْسَ الجَبَلين لا يَصِحُّ وَصْفُهُمَا بأنَّهُمَا دِينٌ وَنُسُكٌ؛ فالمرادُ بِهِ أنَّ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا أو السَّعْيَ مِنْ دِينِ اللهِ تَعَالَى.
وإنْ قُلنا بالثاني: اسْتَقَامَ ظَاهِرُ الكلام؛ لأنَّ هَذَين الجَبَلَيْنِ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَا مَوْضِعَيْنِ لِلْعِبَادَةِ والنُّسُكِ].
وكيف كان؛ فالسَّعْيُ بينهما من شعائر الله، ومن أعلام دِينهِ، وقد شَرَعَهُ الله [تَعَالى] لأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -[لإبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ]، قبل ذلك، وهو من المَنَاسِكِ الَّتي عَلَّمها الله [تَعَالى] لإبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إجابةً لِدَعْوَتِهِ في [قولِهِ تَعَالى] :﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: ١٢٨]. وَاعْلَمْ أنَّ [السَّعْيَ ليْسَ] عبادَةٌ تامَّةٌ في نَفْسِهِ، بل إنما يَصِيرُ عبادة إذا صار بعضهاً من أبْعاضِ الحجِّ والعُمْرَةِ، فلهذا بَيَّنَ الله تبارك وتعالى المَوْضِعَ الَّذِي يَصِيرُ فيه السَّعْيُ عبادةً، فقال [سبحانه] :﴿فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾.
والحكمةُ في شَرْعِ هذا السّعي: ما حُكِيَ أن هَاجَرَ حينَ ضاق بها الأَمْرُ في عَطَشها، وعطشِ ابْنها إسْمَاعيلَ، سَعَتْ في هذا المكانِ إلى أن صَعِدَتِ الجَبَلَ، ودَعَتْ، فأَنْبَعَ الله
93
لَهَا زَمْزَمَ، وأجاب دُعَاءَها، وجعل فِعْلَها طاعةً لجميع المكلَّفين إلى يَوْم القيَامَة.
قوله [تعالَى] :«فَمنْ حَجَّ البَيْتَ».
«مَنْ» : شَرْطِيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء و «حَجَّ» : في مَوْضِع جزمٍ بالشرط و [البيت «نصبٌ على المفعول به، لا على الظَّرْف، والجوابُ قوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾.
و»
الحَجُّ «: قال القَفَّال - رَحِمَهُ اللهُ - فِيه أَقْوَالٌ:
أحدها: أنَّ الحَجَّ في اللغةِ كَثْرَةُ الاخْتِلافِ إلى الشَّيءِ والتردُّد إليه، فإنَّ الحاجَّ يأتيه أوّلاً؛ لِيَزُورَهُ، ثُمَّ يعودُ إلَيْه للطَّوَاف، ثم ينصرفُ إلى مِنَى، ثم يَعُودُ إليه؛ لطَوَافِ الزِّيارة، [ثم يَعُودُ لطَوافِ الصَّدر].
وثانيها: قال قُطْرُبٌ [الحَجُّ] الحَلْقُ، يقال: احْجُجْ شَجَّتَكَ، وذلك أن يقطع الشعر من نواحي الشَّجَّة؛ ليدخل القدحُ في الشَّجَّة.
وقال الشاعر: [الطويل]
٨٥٣ - وَأشْهَد مِنْ عوفٍ حُلُولاً كَثِيرَةً يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُعَصْفَرَا
»
السِّبُّ «: لفظٌ مشتَرَكٌ، قال أبُو عُبَيْدَةَ: السِّبُ، بالكَسْرِ: السِّبَابُ، وَسِبُّكَ أيضاً: الذي يُسَابُّكَ؛ قال الشاعر: [الخفيف]
٨٥٤ - لاَ تَسُبَّنَّني فَلَسْتَ بِسِبِّي [إنَّ سِبِّي] مِنَ الرِّجَالِ الكَرِيم
والسِّبُّ أيضاً: الخِمَارُ والعِمَامَةُ.
قال المُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ: [الطويل]
٨٥٥ -....................... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُعَصْفَرَا
والسِّبُّ أيضاً: الحَبْلُ في لغة هُذَيل؛ قال أبُو ذُؤَيْبٍ: [الطويل]
94
والسبوبُ: الحِبَالُ، والسِّبُّ: شُقّة كتان رقية والسُّبية مثله، والجَمْعُ: السُّبُوب والسَّبَائب، قال الجَوْهَرِيُّ؛ فيكون المَعنَى: حَجَّ فلانٌ، أي: حَلَّقَ.
قال القَفَّالُ - رحِمَهُ الله تعالى -: وهذا مُحْتَملٌ؛ كقوله تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾ [الفتح: ٢٧]، أي: حُجَّاجاً وعُمَّاراً؛ فَعَبَّرَ عَنْ ذلك بالحَلْق، فلا يَبْعُدُ أن يكون الحَجُّ مُسَمَّى بهذا الاسمِ لمعنى الحَلْقِ.
وثالثها: الحَجُّ: القَصْدُ.
ورابعها: الحَجُّ في اللغة: القَصْدُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.
قال الشاعر: [البسيط]
٨٥٧ - يَحُجَّ مَأْمُومَةً في قَعْرِهَا لَجَفٌ............................
اللَّجَفُ: الخَسْفُ أسْفَلَ البئرِ، نقله القُرْطُبيُّ.
يُقَالُ: رَجُلٌّ مَحْجُوجٌ، أي: مَقْصُودٌ، بمعنى: أنَّه يُخْتَلَفُ إِلَيْه مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.
قال الراغبُ: [الرجز]
٨٥٦ - تَدَلَّى عَلَيْهَا بَيْنَ سِبٍّ وَخَيْطَةٍ بِجَرْدَاءَ مِثْل الوكْفِ يَكْبُوا غُرابُهَا
٨٥٨ - لِرَاهِبٍ يَحُجُّ بَيْتَ المَقْدِسِ في مِنْقَلٍ وَبُرْجُدٍ وَبُرْنُسِ
وكذلك مَحَجَّةُ الطَّريقِ: وهي التي كَثُر فيها السَّيْرُ، وهذا شَبِيهٌ بالقَوْل الأوَّل.
قال القَفَّالُ: «والأول أشْبَهُ بالصَّوَاب».
والاعْتِمَارُ: الزِّيَارَةُ.
وقِيلَ: مُطْلَقُ القَصْدِ، ثم صارا عَلَمَين بالغَلَبَةِ في المعاني؛ كالَبْبيت [والنَّجْم] في الأعيان.
وقال قُطْرُبٌ: العُمْرَةُ في لُغَةِ [عَبْد] القَيْسِ: المَسْجِدُ والبِيعَةَ والكَنِيسَةُ.
قال القَفَّالُ: والأشْبَهُ بالعُمَرَةِ إذا أُضِيفَتْ إلى البيت أن تَكُون بمعنى الزِّيَارةِ؛ لأنَّ المُعْتَمِرَ يَطُوف بالبيت، وبالصفا، والمروة، ثم ينصرف كالزَّائر.
95
قوله تعالى: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ] الظاهرُ: أنَّ «عَلَيْه» خَبَرُ «لاَ» ن و «أن يَطَّوَّفَ» : أَصْلُهُ [ «في أنْ يَطَّوَّفَ» ]، فحذف حَرْفَ الجَرِّ، فيَجيءُ في محلِّها القولان النصبُ، أو الجَرُّ، والوقْفُ في هذا الوجه على قوله «بهما»، وأجازوا بَعْدَ ذلك أوجُهاً ضَعِيفةً.
منها: انْ يَكُونُ الكلامُ قَدْ تَمَّ عند قوله: «فَلاَ جُنَاحَ» ؛ على أن يكون خبر «لا» محذوفاً، وقَدَّرَهُ أبُو البَقاءِ «فلا جناح في الحج»، ويُبْتَدأُ بقوله «عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوفَ» فيكون «عَلَيْهِ» خبراً مقدماً وان يطوف في تأويل مصْدرٍ مَرْفُوعٍ بالابْتِدَاء؛ فإنَّ الطوافَ وَاجبٌ.
قَالَ أبُو البَقَاءِ - رَحِمَهُ اللهُ -: والجيدُ أَنْ يَكُونَ «عَلَيْهِ» في هذا الوجه خَبَراً، و «أَنْ يَطَّوَّفَ» مُبْتَدأ.
وَمِنْهَا: «أَنْ يكُون» عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ «مِنْ بِابِ الإِغْرِاء؛ فيكونَ» أَنْ يَطَّوَّفَ «في محلْ النصْب؛ كقولك:» عَلَيْكَ زَيْداً «أي:» الْزَمْهُ «، إلاَّ أنَّ إغرار الغَائِب ضَعِيفٌ، حكى سيبَوَيْهِ:» عَلَيْهِ رَجُلاً لَيْسَنِي «قال: وهو شاذٌ.
ومنها: أنَّ»
أنْ يَطَّوَّفَ «في مَحَلَّ رفع خبراً ثانياً ل» لا «، [والتقديرُ: فَلاَ جُنَاحَ عليه في الطَّوَاف بِهِمَا.
ومنها:»
أنْ يَطَّوَّفَ «: في محلّ نصبٍ على الحال من الهَاءِ في» عَلَيْهِ «، والعامل في الحالِ العَامِلُ في الخَبَرِ].
والتقديرُ: {فلا جُنَاحَ عَلَيْهِ في حالِ طَوَافِهِ بهما﴾
وهذان القولان ساقِطان ذَكَرْتُهُما تنبيهاً على غلطهما.
وقراءةُ الجمهور: «أنَّ يَطَّوَّفَ»
بغير «لا» وقرأ أنس، وابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - وابنُ سيرين، وشهر بن حوشب: «أنْ لاَ يَطَّوَّفَ»، قَالُوا: وكذلك في مُصْحَفَيْ أَبَيٍّ، وعبد الله، وفي هذه القراءة احتمالان:
أحدهما: أنها زائدةٌ؛ كهي في قوله: ﴿أَلاَ تَسْجُدَ﴾ أعراف: ١٢]، وقوله [الرجز]
٨٥٩ - وَمَا أُلُومُ البِيضَ أَلاَّ تَسْخَرَا لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرَا
وحينئذٍ يتَّحِدُ معنى القراءتَينِ.
والثَّاني: أنَّها غيرُ زائدةٍ: بمعنى: أنَّ رفع الجُنَاح في فعل الشيء، وهو رفعٌ في تركه؛ إذ هو تمييزٌ بَيْنَ الفعلِ والتَّرْك؛ نحو: «فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا» فتكون قراءة الجُمْهُور فيها رفعُ الجُنَاحِ في فِعْلِ الطَّوافِ نَصًّا، وفي هذِهِ رَفْعُ الجُنَاح في التَّرك نصًّا،
96
والجُنَاحُ: أصْلُه من المَيْل؛ من قولهم: جَنَحَ إلى كذا، أي: مال إليه؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا﴾ [الأنفال: ٦١] وجَنَحَتِ السَّفينةُ: إذَا لَزِمَت المَاءَ، فلم تَمْضِ.
وقيل للأضْلاَعِ، «جَوَانِحُ» ؛ لاعوجَاجِها، وجَنَاحُ الطَّائِر مِن هذا؛ لأنَّه يَمِيلُ في أَحَدِ شِقَّيْهِ، ولا يطيرُ على مستوى خلقته.
قال بعضهم: وكذلك أيضاً عُرْفُ القرآنِ الكَرِيمِ، فمعناه: لا جُنَاحَ عليه: أي: لا مَيْلَ لأَحدٍ عليه بمطالبَةِ شَيءٍ من الأشياء.
ومنهم من قال: بَلْ هو مختصٌّ بالمَيْل إلى البَاطلِ، وإل ما يؤْلَمُ به.
و «أنْ يَطَّوَّفَ» أي: «يَتَطَوَّفَ»، فأُدْغِمَت التَّاءُ في الطاء؛ كقوله: ﴿ياأيها المزمل﴾ [المزمل: ١]، ﴿ياأيها المدثر﴾ [المدثر: ١] ويقال: طَافَ، وأَطَافَ: بمعنىَ واحدس.
وقرأ الجُمْهُور «يَطَّوَّفَ» بتشديد الطاء، والواو، والأصل «يَتَطَوَّفَ»، وماضيه كان أًله «تَطَوَّفَ»، فلما أرد الإدغام تخفيفاً، قُلِبَتِ التاء طاء، وأُدْغِمَتْ في الطاء، فاحتيجَ إلى هَمزةِ وصْلٍ؛ لِسُكُونِ أوَّله؛ لأجل الإدغامن فأتى بها فجاء مضارعُهُ عليه «يَطَّوَّفَ»، فانحذفت همزة الوصل؛ لتحصُّنِ الحرفِ المُدْغَم بحرف المضارعة ومصْدَره على «التَّطَوُّف» ؛ رجوعاً إلى أصل «تَطَوَّفَ». وقرأ أبو السَّمَّال: «يَطُوفَ» مخفَّفاً من: طَافَ يَطُوفُ، وهي سهل، وقرأ ابن عباس: «يَطَّافَ» بتشديد الطاء، [مع الألِفِ، وأصله «يَطتَوف» على وزن «يَفْتَعِل»، وماضيه على «اطْتَوَف» افْتَعَلَ، تحرَّكَتِ الواوُ، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً، ووقعت تاء الافتعال بعد الطاء؛ فوجب قلبها طاء، وإدغام الطاء] فيها؛ كما قالوا: اطَّلَبَ يَطَّلِبُ، والأصل: «اطْتَلَبَ، يَطْتَلِبُ»، فصار «اطَّافَ»، وجاء مضارعُهُ عيله: «يَطَّافُ» هذا هو تصريفُ هذه اللفْظَة من كون تاء الافْتِعَالِ تُقَلَبُ طاءَ، وتُدْغَمُ فيها الطاءُ الأولى.
وقال ابن عَطِيَّة: فجاء «يَطْتَافُ» أُدْغِمَتِ [التاءُ بعد الإسكان في الطاء على مَذْهَبِ مَنْ أجاز إدْغَام الثَّاني] في الأوَّل، كما جاء في «مُدَّكِرٍ» ومن لم يُجِزْ ذَلِكَ، قال: قُلِبَتِ التاءُ طاءً، ثم أدغمت الطاء في الظَّاء، وفي هذا نَظَرٌ، لأنَّ الأصْلِيَّ أُدْغِمَ في الزائدِ، وذلك ضعيفٌ. وقول ابنِ عَطيَّة فيه خطأٌ من وجهين:
97
أحدهما: كونُهُ يَدَّعِي إدْغَامَ الثَّاني في الأوَّل، وذلك لا نَظِيرَ له، إنَّمَا يُدْغَمْ الأَوَّل في الثَّاني.
والثاني: قوله: كَمَا جَاءَ في «مُدَّكر» ؛ لأنَّه كان يَنْبَغِي على قوله: أن يُقَالَ: «مُذَّكر» بالذَّال المُعَجَمة، لا الدَّال المهملة [وهذه لغةَ رَدِيئةٌ، إنَّما اللُّغة الجيِّدة بالمهملة؛ لأنَّا قَلَبْنَا تَاءَ الافتعالِ بَعَدَ الذَّال المعجمةِ دَالاً مهملةً]، فاجتمع متقاربَان، فقلَبْنَا أوَّلَهُما لجنْسِ الثَّاني، وأدغَمْنَا، وسيأتي تحقيقُ ذلك.
ومصدر «أطَّافَ» على «الأطِّيَافِ» بوزن «الافْتِعَالِ»، والأصلُ «اطِّوَافِ» فكسر ما قبل الواو، فقُلِبَتْ ياءً، وإنَّمَا عادَتِ الواوُ إلى أصْلها؛ لزوالِ مُوجِبِ قَلْبها ألفاً؛ ويوضِّح ذلك قولهم: اعْتَادَ اعْتِيَاداً والأصل: «اعْتِوَادٌ» ففُعِلَ به ما ذكرتُ [لك] :
قوله تعالى: { «وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً» قرأ حَمْزَةُ والكِسَائيُّ «يَطَّوَّعْ» هنا وفي الآية الَّتي بعدها بالياء وجزم العين فعلاً مضارعاً.
قال ابن الخَطِيبِ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهذا أحْسَنُ أيضاً؛ لأنَّ المعنى على الاسْتقْبَال والشرط، والجزاء، والأحْسَنُ فيهما الاستقبال، وإن كان يَجُوز أن يقال: «مَنْ أتَانِي أَكْرَمْتُهُ».
وقراها الباقُونَ بالتاء فعلاً ماضياً، فأما قراة حَمْزَة، فتكون «مَنْ» شرطيَّةً، فتعمل الجَزْمَ، وافق يَعْقُوبُ في الأُوْلَى، وأصل «يَطَّوَّعُ» «يَتَطَوَّعُ» فأدغمَ على ما تقدَّم في «تَطَوَّفَ»، و «مَنْ» في محل رفع بالابتداء، والخَبَر فعْلُ الشَّرْطِ؛ على ما هو الصحيح كما تقدَّم تحقيقُهُ.
وقوله: «فإنَّ الله» جملةٌ في محلِّ جَزْمٍ، لأنَّها جوابُ الشَّرط، ولا بُدَّ مِن عائِد مقدَّر، أي: فإنَّ الله شاكِرٌ له.

فصل


قال أبو البَقَاءِ: وإذا جُعِلَتْ «مَنْ» شَرْطاً، لم يَكُنْ في الكلام حَذْفُ ضمير؛ لأنَّ ضمير «مَنْ» في «تَطَوَّعَ» وهذا يخالفُ ما تقدَّم عن النُّحَاةِ؛ من أنَّ إذَا كَانَ أدَاةُ الشَّرطِ اسماً، لَزِمَ أن يكون في الجواب ضميرٌ يَعُودُ عليه، وتقدَّم تحقيقه.
وأما قراءةُ الجُمْهُور، فتحملُ وجْهَيْن:
98
أحدهما: أن تكون شرطيَّةً، والكلام فيها كما تَقَدَّمَ.
والثاني: أن تكون موصولةً، و «تَطَوَّعَ» صلتها، فلا محَلَّ لها من الإعراب حينئذٍ، وتكون في مَحَلِّ رفْع بالابتداء أيضاً، و «فإِنَّ الله» خبَرُهُ، ودَخلَتِ الفاءُ؛ لما تضمَّن «مَنْ» مَعْنى الشَّرط، والعائدُ محذوفٌ كما تقدَّم، أي: شَاكِرٌ لَهُ.
وانتصاب «خَيْراً» على أحَدِ أوْجُهٍ:
أحدها: إمَّا على إسْقَاط حَرْفِ الجَرِّ، أي: تَطَوَّعَ بِخَيْرٍ، فلمَّا حذف الحَرْف، انتصب؛ نَحْو قوله: [الوافر]
٨٦٠ - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تعُوجُوا...........................
وهو غير مقِيسٍ.
والثاني: أن يكونهَ نعْتَك مصْدرٍ محذوفٍ، أي: «تَطَوُّعاً خَيْراً».
والثالث: أن يكونَ حالاً مِنْ ذلك المَصْدرَ المقدَّر معرفةً.
وهذا مذهَبُ سِيبَوَيْهِ، وقد تقدَّم ﴿غَيْرَ مرَّة]، أو على تضمين «تَطَوَّعَ» فعلاً يتعدَّى، أي: من فَعَلَ خَيْراً مُتَطَوَّعاً به.
وقد تَلَخَّصَ مما تقدَّم أنَّ في قولِهِ: {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾
وجْهَين:
أحدهما: الجزمُ على القَوْل بكَوْن «مَنْ» شرطيَّةً.
والثاني: الرَّفْعُ؛ عَلَى القَوْلِ بِكَوْنها موصولةً.

فصل في ظاهر قوله: «لا جُنَاحَ عَلَيْهِ»


ظاهرُ قَوْله - تبارك وتعالى -: «لاَ جَنَاحَ عَلَيْهِ» : أنه لا إثْم عليهِ، [وأن الذي يَصْدُقُ عليه: أنَّه لا إثْمَ عليه] في فعله يَدْخُلُ تحته الواجبُ والمَنْدُوبُ، والمُبَاحُ، فلا يتميَّز أحدُهُما، إلاَّ بقِيْدٍ زائدٍ، فإذَنْ: ظاهرُ الآية لا يدلُّ على أنَّ السَّعْيَ بين الصَّفاء والمَرْوة واجبٌ، أو مسنونٌ؛ لأنَّ اللَّفظ الدَّالَّ على القَدْرِ المُشْتَرَكِ بين الأقسام لا دلالة فيه ألبتة على خصوصيَّة كلِّ واحدٍ من تلك الأقسام، فإذَنْ، لا بُدَّ من دليل خارجيٍّ، يدلُّ على وجوب السَّعْي، أو مسنونِيَّتِهِ، فذهب بعضهم إلى أنه ركْنٌ، ولاَ يقومُ الدَّمُ مَقَامه.
وعند أبي حنيفَة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: أنه ليس بركنٍ، ويُجْبَرُ بالدم، وعن ابن الزُّبَيْرِ، ومجاهدٍ، وعَطَاءٍ: أنَّ مَنْ تركه، فلا شيء عليه.
99
احتجَّ الأَوَّلُون بقوله عليه [أفْضَلُ] الصَّلاة والسَّلام - «إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ، فَاسْعَوا»
فإن قيل: هذا متروك الظَّاهر، لأنَّه يقتضي وجُوبَ السَّعْي، وهو العدوُ، وذلك غير واجبٍ.
قلنا: لا نسلِّم أنَّ السَّعْيَ عبارةٌ عن العدو؛ [بدليل قوله تعالى: ﴿فاسعوا إلى ذِكْرِ الله﴾ [الجمعة: ٣٩] والعَدْوُ فيه غَيْرُ واجبٍ] وقال - تبارك وتعالى -: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ [النجم: ٣٩] وليس المراد منه العَدْوَ، بل الجِدَّ، والاجتهاد، سلَّمنا أنه العَدْوُ، ولكنَّ العدو مشتملٌ على صفة تُرك العملُ به في هذا الصِّفات، فيبقى أصل المشي واجباً:
واحتجُّوا أيضاً: بأنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما دنا من الصَّفا، قال: «إنَّ الصَّفَا والمَروَةَ مِنْ شَعَائِر اللهِ، ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ به» فبدأ بالصَّفَا فرقي عليه، ثم سعى، وقال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، وقال تعالى: ﴿واتبعوه﴾ [الأعراف: ١٥٨] وقال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١] وقالوا: إنه أشواطٌ شُرعت في بقعة من بِقَاعِ الحَرَمِ ويُؤْتَى به في إحرام كاملٍ، فكان جِنْسُهَا رُكناً؛ كطَوَافِ الزَّيَارة، ولا يلْزَمُ طَوَافُ الصَّدرِ، لأنَّ الكلامَ للجنسِ؛ لوجوبه مرة.
واحتجَّ أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - بوجوهٍ:
منها: قوله تعالى: ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ وهذا لا يقال في الواجبات، وأكَّد ذلك بقوله: «وَمَنْ تَطَوَّعَ» فبيَّن أنه تطوُّع ولَيْسَ بواجبٍ.
ومنها: [قوله] :«الحَجُّ عَرَفَةُ فمن أدرك عرفة، فقد تمَّ حَجُّهُ»، وهذا يقتضي التمام
100
من [جميع] الوجوه؛ ترك العمل به في بعض الأشياء؛ فيبقى معمولاً به في السَّعْي.
والجوابُ عن الأوَّل من وجوه:
الأوَّل: ما بيَّنَّا [أن قوله] :«لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ» [ليس فيه إلاَّ أنه لا إثم على فاعله] وهذا القدر مشتركٌ بين الواجب، وغيره؛ فلا يكون فيه دلالةٌ على نفي الوجوب، وتحقيق ذلك قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ﴾ [النساء: ١٠١] والقصر عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - واجبٌ، مع أنَّه قال فيه: «فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ» كذا ههنا.
الثاني: انه رفع الجَنَاحُ عن الطَّوَاف [بهما لا عن الطَّوَاف بينهما].
والأوَّل عندنا غير واجب، والثاني هو الواجب.
الثالث: قال ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - كان على الصَّفا صنمٌ، [وعلى المَرْوَة صنمٌ، وكان الذي على الصَّفَا] اسمُهُ: «إسَافٌ»، والذي على المَرْوَة صنمٌ اسمه «نَائِلَة» وكان أهل الجاهليَّة يطوفون بهما، فلمَّا جاء الإسلام، كره المسلمون الطَّوَافِ بهما؛ لأجل الصنمي، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة. إذا عرفت هذا، فنقول: انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حالالطَّواف، لا إلى نفس الطَّوَاف؛ كما لو كان في الثَّوب نجاسةٌ يسيرٌ عندكم، أو دم البراغيث عندنا، فقيل: لا جُنَاحَ عليكم أن تصلوا فيه، فإنّ رفع الجُنَاحِ ينصرف إلى مكان النجاسة، لا إلى نفس الصلاة.
الرابع: كما ان قوله: «لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ» لا يطلق على الواجب، فكذلك لا يطلق على المندوب؛ ولا شكَّ في أنَّ السَّعْيَ مندوبٌ، فقد صارت الآية متروكة الظاهر، والعمل بظاهرها، وأما التمسُّك بقوله: ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ﴾ [البقرة: ١٨٤] فضعيفٌ، وإنه لا يمكن أن يكون المراد من هذا التطوع من الطَّوَافَ المذكور، بل يجوز أن يكون المراد منه شيئاً آخر؛ كقوله: ﴿وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] ثم قال: «فَمَن تَطَوَّعَ خيراً» فأوجب عليه الطَّعام، ثم ندبهم إلى التَّطوُّع بالخيرِ، فكان المعنى: فمن تَطَوَّعَ؛ فزاد على طعام مسكينٍ، كان خيراً له، فكذا ههنا يحتمل أن يكون هذا التطوُّع مصروفاً إلى شيء آخر؛ وهو من وجهين.
أحدهما: أنه يزيد في الطَّوَاف، فيطُوفُ أكْثَرَ من الطَّوَافِ الواجبِ، مثلُ أن يطُوفَ ثمانية أو أكثر.
101
والثاني: أن يتطوَّع بعد فرض الحجِّ وعمرته بالحجِّ والعمرة مرةً أخرى؛ حتى طاف بالصَّفَا والمَرْوَة تطوُّعاً.
وقال الحَسَنُ وغيره: أراد سائر الأعمال، يعني: فعل غير الفرض؛ من صلاةٍ، وزكاةٍ، وطواف، وغيرها من أنواع الطَّاعات.
وأصل الطاعة الانقيادُ.
وأما الحديث: فنقول فيه إنه عام، وحديثنا خاص، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامِّ.
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾.
قال ابنُ الخَطِيب: اعلَمْ أنَّ الشاكِرَ في اللُّغة هو المظهر للإنعام عليه، وذلك في حقِّ الله محالٌ، فالشاكر في حقِّه - تبارك وتعالى - مجازٌ، ومعناه المجازيُّ على الطاعة، وإنما سمى المجازاة على الطَّاعة، شكراً؛ لوجوه:
الأول: أن اللفظ خرج مخرج التلطُّف للعبادة، ومبالغة في الإحسان إليهم؛ كما قال تعالى ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ [البقرة: ٢٤٥] وهو سبحانه وتعالى لا يستقرض من عوض، ولكنه تلطف في الاستدعاء؛ كأنه قيل: من ذا الذي يعمل عمل المقرض؛ بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدّم.
الثاني: أنَّ الشُّكر لما كان مُقابلاً [للإنعام أو الجزاء] عليه، سُمِّي كلُّ ما كان جزاء شكراً؛ على سبيل التشبيه.
الثالث: أن الشكر اسم لما يجازى به، والله تعالى هو المجازي، فسمِّي شاكراً، فعلاقة المجازاة.
[وقال غيره:] بل هو حقيقةٌ؛ لأنَّ الشكر في اللُّغة: هو الإظهار؛ لأنَّ هه المادَّة، وهي الشين، والكاف، والراء تدلُّ على الظُّهور، ومنه: كَشَرَ البَعِيرُ عن نَابه، إذا أظهره؛ فإنَّ الله تعالى يظهر ما خَفِيَ من أعمال العبد من الطَّاعة، ويُجَازِي عليه.
وقيل: الشُّكْرُ: الثناء، والله تعالى يُثْني على العبد، فلا يبخس المستحقَّ حقَّه، لأنَّه عالمٌ بقدره، ويحتمل أنه يريد أنَّه عليمٌ بما يأتي العَبْدُ، فيقوم بحقِّه من العبادة والإخلاص.
102
في «الكاتِمِينَ» قولان:
102
أحدهما: أنه كلامٌ مستأنفٌ يتناولُ كلَّ من كتم شيئاً من الدين.
الثاني: عن ابن عبَّاس، ومجاهد، والحسن، وقتادة والرَّبيع، والسُّدِّيِّ، والأصَمِّ: أنها نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى.
الثالث: نزلت في اليهود والَّذين كتموا ما في التَّوراة من صفة محمد - صلوات الله وسلامه عليه -.
قال ابن الخَطِيبِ: والأوَّل أقرب إلى الصَّواب؛ لوجوه:
الأوَّل: أن اللفظ عامٌّ، وثبت في «أُصُول الفقه» أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصص السَّبب.
الثاني: ثبت أيضاً في «أُصُول الفقه» أن العبرة بعموم اللَّفظ، وأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب [مُشْعِرٌ بالعِلِّيَّة]، وكتمانُ الدِّين يُناسبُ استحقاق اللَّعن؛ فوجب عموم الحكم عند عموم الوصف.
الثالث: أن جماعةً من الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - حملوا هذا اللَّفظ على العموم؛ كما روي عن عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْها - أنها قالت: «مَنْ زَعَمَ أنَّ مُحَمَّداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَتَمَ شَيْئاً مِنَ الوَحْي، فَقَدْ أعْظَمَ الفِرْيَةَ على اللهِ تَعَالَى»، واللهُ تَعَالَى يقول: ﴿إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى﴾ [البقرة: ١٥٩] «فحملت الآية على العموم.
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - قال [لَوْلاَ آية] من كتاب الله، ما حَدَّثْتُ حديثاً بعد أن قال النَّاس: أكْثَرَ أبو هُرَيْرَة، وتَلاَ: ﴿إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات﴾.
احتجَّ من خصَّ الآية بأهل الكتاب: أنَّ الكتمان لا يصحُّ إلاَّ منهم في شرع نبوَّة محمَّد - صلواتُ الله، وسلامه عليه - وأمَّا القرآن، فإنَّه متواترٌ، فلا يصحُّ كتمانُهُ.
والجواب: أنَّ القرآن الكريم قبل صَيْرُورَتِهِ متواتراً يَصِحُّ كتمانُهُ، والكلامُ إنَّما هو فيما يحتاج المكلَّف إليه.
103

فصل في تفسير» الكتمان «


قال القاضي: الكتمانُ ترك إظهار الشَّيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى أظهار؛ للأأنَّه متى لم يكن كذلك، لا يُعَدُّ من الكتمان، فدلَّت الآية على أنَّ ما يتَّصلُ، بالدِّين، ويحتاج المكلَّف إليه، لا يجوز كتمانه.
ونظيرُ هذه الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ [البقرة: ١٧٤] وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: ١٨٧] فهذه كلُّها زواجرُ عن الكتمان.
ونظيرها في باين العلم، وإن لم يكن فيه ذكر الوعيد لكاتمه، قوله سبحانه: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢].
وروى أبو هريرة عن النبيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:»
مَنْ كَتَمَ عِلْماً يَعْلَمُهُ جِيءَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ «
104
واعلم أن العالم، إذا قصد كتمان العلم، عصى، وإن لم يقصده، لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره، وأما من سئل، فقد وجب عليه التبليغ؛ لهذه الآية، وللحديث.
واعلم أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن، ولا العلم؛ حتى يسلم، ولا يجوز تعليم المبتدع الجدال، والحجاج، ليجادل به أهل الحق، ولا يعلم الخصم على خصمه حجَّةً، ليقتطع بها ماله، ولا السُّلطان تأويلاً يتطرَّق به على مكاره الرَّعيَّة، ولا ينشر الرُّخص من السُّفهاء، فيجعلوا ذلك طريقاً إلى ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات، ونحو ذلك. وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «لاَ تَمْنَعُوا الحِكْمَةَ أَهْلَهَا؛ فَتَظْلِمُوهُمْ، وَلاَ تَضَغُوهَا في غَيْرِ أَهْلِهَا، فَتَظْلِمُوهَا»
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «لاَ تُعَلِّقُوا الدُّرَّ في أَعْنَاقِ الخَنَازِيرِ» يريد تعليم الفقه من ليس من أهله.
قوله تعالى: «مَا أَنْزَلْنَا» مفعول ب «يَكْتُمُونَ»، و «أَنْزَلْنَا» صلته، وعائده محذوف، أي: أنزلناه، و «مِنَ البَيِّنَاتِ» [يجوز فيه ثلاثة أوجهٍ:
أظهرها: أنها حالٌ من «ما» الموصولة، فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي: كائناً من البَيِّنَات.
الثاني: أن يتعلَّق ب «أَنْزَلْنَا» فيكون مفعولاً به، قاله أَبُو البَقَاءِ، وفيه نظرٌ من حيث إنَّه إذا كان مفعولاً به، لم يتعد الفعل إلى ضمير، وإذا لم يتعدَّ] إلى ضمير الموصول، بقي الموصول بلا عائد.
الثالث: أن يكون حالاً من الضمير العائد على الموصول، والعامل في «أَنْزَلْنَا» ؛ لأنه عامل في صاحبها.

فصل في المراد من «البيِّنات»


والمراد من «البَيِّنَاتِ» ما أنزلنا على الأنبياء من الكتاب والوحي، دون أدلَّة العقل.
105
وقوله «والهُدى» يدخل فيه الدَّلالة العقليَّة، والنَّقْليَّة؛ لما تقدَّم في دليل قوله ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٣] أنَّ الهدى عبارةٌ عن الدلائل، فيعمُ الكُلَّ. فإن قيل: فقد قال: ﴿والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ﴾ فعاد إلى الوجه الأوَّل.
قلنا: الأوَّل: هو التنزيل، والثاني: ما يقتضيه التنزيل من الفوائد.
وهذه الآية الكريمة تدلّ على أن من أمكنه بيان أصول الدِّين بالدلائل العقليَّة لمن كان محتاجاً إليها، ثم تركها، أو كتم شيئاً من أحكام الشرع مع الحاجة إليه، فقد لحقه هذا الوعيد.
قوله تعالى: ﴿مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ﴾ متعلِّق ب «يَكْتُمُونَ»، ولا يتعلَّق ب «أَنْزَلْنَا» لفساد المعنى؛ لأنَّ الإنزال لم يكن بعد التَّبيين، وأمَّا الكتمان فبعد التَّبيين، والضمير في [ «بَيَّنَّاهُ» يعودُ على «ما» الموصولة.
وقرأ الجمهور «بَيَّنَّاهُ»، وقرأ طلحة بنُ مُصَرِّف «بَيَّنَهُ» على ضمير الغائب، وهو التفاتٌ من التكلّم إلى الغيبة، و «للنَّاس» متعلِّق بالفعل قبله.
وقوله: «في الكِتَابِ» يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه متعلِّق بقوله: «بَيَّنَّاهُ».
والثاني: أنه يتعلَّق بمحذوف؛ لأنَّه حالٌ من الضَّمير المنصوب في] «بَيَّنَّهُ» أي: بيَّنَّاهُ حال كونه مستقرّاً كائناً كائناً في الكتاب، والمراد بالكتاب جميع الكتب المنزلة.

فصل في حكم هذا «البيان»


قال بعضهم: هذا الإظهار فرضٌ على الكفاية، لأنَّه إذا أظهره البعض، صار بحيث يتمكنَّ كلُّ أحدٍ من الوصول إليه، فلم يبق مكتوماً، وإذا خرج عن حد الكتمان، لم يجب على البقاين إظهاره مرةً أخرى، والله أعلم.

فصل في الاحتجاج بقبول خبر الواحد


من الناس من يحتجُّ بهذه الآيات على قبول خبر الواحد، لأنَّ أظهار هذه الأحكام واجبٌ، [ولو لم يجب العمل]، لم يكن إظهارها واجباً، وتمام التقرير فيه قوله تعالى في آخر الآية: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ﴾ [البقرة: ١٦٠] فحكم بوقوع البيان بخبرهم.
106
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون كل واحد كان منهيّاً عن الكتمان، ومأموراً بالبيان؛ [ليكثر المخبرون] ؛ فيتواتر الخبر.
فالجواب: هذا غلط؛ لأنَّهم ما نهوا عن الكتمان، إلاَّ وهم ممن يجوز عليهم الكتمان، ومن جاز منهم التَّواطؤ على الكتمان، جاز منهم التواطُؤُ على الوضع والافتراء، فلا يكو خبرهم موجباً للعلم، والمراد من [الكتاب] قيل: التَّوراة والإنجيل، وقيل: القرآن، وقيل: أراد بالمُنْزَل الأوَّل ما فيه كتب المتقدَّمين، والثَّاني ما في القرآن.
قوله تعالى: «أولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ» يجوز في «أولَئِك» وجهان:
أحدهما: أن يكون مبتدأ، و «يَلْعَنُهُم» الخبر؛ لان قوله تعالى: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ﴾ يحتمل أن يكون معطوفاً على ما قبله، وهو ﴿يَلْعَنُهُمْ اللهُ﴾ وأن يكون مستأنفاً، وأتى بصلة «الَّذِينَ» فعلاً مضارعاً، وكذلك بفعل اللَّعنة؛ دلالةً على التجدُّد والحدوث، وأن هذا يتجدَّد وقتاً فوقتاً، وكُرِّرَت اللعنة؛ تأكيداً في ذمِّهم. وفي قوله «يَلْعَنُهُمْ اللهُ» التفاتٌ؛ إذ لو جرى على سنن الكلام، لقال: «نَلْعَنُهُمُ» ؛ لقوله: «أَنْزَلْنَا»، ولكن في إظهار هذا الاسم الشريف ما ليس في الضمير.

فصل في معنى اللعنة، والمراد باللاعنين


اللَّعْنَةُ في أصْلِ اللُّغَة: هي الإبْعَادُ، وفي عُرْف الشَّرْع، الإبعادُ من الثَّوَاب، واختلَفُوا في الَّلاعِنِينَ، مَنْ هُمْ؟ فقيل: دوَابُّ الأرض وهوامُّها؛ فإنَّها تقول: مُنِعْنَا القَطْرَ بمعَاصِي بَنِي آدَمَ، قنله مجاهدٌ، عن عِكْرِمَة.
وقال: «اللاَّعِنُونَ»، ولم يقل «اللاعِنَات» ؛ لأنَّه تعالَى وصَفَها بصفةِ مَنْ يعقلُ، فجمعَها جَمْعَ مَنْ يعقلُ؛ كقوله تعالى: ﴿والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤] و ﴿ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ [النمل: ١٨] ﴿وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا﴾ [فصلت: ٢١].
و ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٤٠] وقيل: «كُلُّ شيْءٍ إِلاَّ الإنْسَ والجِنَّ» قاله ابنُ عَبَّاس.
فإن قيل: كَيْفَ يصحُّ اللعْنُ من البهائِمِ، والجَمَادَاتِ؟
فالجواب مِنْ وجْهين:
107
الأول: على سبيلِ المُبَالغَةَ، وهي أنَّها لو كانت [عاقلةً]، لكانَتْ تَلْعَنُهُمْ.
الثاني: أنها في الآخِرَة، إذا أُعِيدَت، وجُعِلَتْ من العُقَلاء فإنَّها تَلْعَنُ مَنْ فَعَل ذلك في الدُّنْيا، ومَاتَ عَلَيْهِ.
وقيل: إنَّ أهْلَ النَّار يَلْعَنُونَهُمْ وقيل يلْعَنُهُمُ الإنْسُ والجِنُّ.
وقال ابنُ مَسْعُود - رضي الله تعالَى عَنْه -: ما تَلاَعنَ اثْنَانِ من المُسْلِمِينَ إلاَّ رجَعَتْ تلْكَ اللَّعْنَةُ على اليَهُود والنَّصَارَى الَّذين كَتَمُوا أَمْرَ محمَّد - صلواتُ الله وسلامهُ علَيْه - وصِفَتَهُ. وعن ابْنَ عَبَّاس: أنَّ لهم لعنتَيْنِ لعنة الله، ولَعْنَة الخَلاَئِقِ، قال: وذلك إذَا وُضِعَ الرَّجُلُ في قَبْرِهِ، فَيُسْأَلُ ما دِينُكَ؟ وما نَبِيُّكَ؟ وما رَبُّكَ؟ فيقول: لا أَدرِي فيُضْرَبُ ضربةً يسمعها كلُّ شَيْءٍ إلاَّ الثَّقَلَيْنِ، فلا يَسْمَعُ شيْء صَوْتَه إلاَّ لَعَنَهُ، ويقول المَلَكُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، كذَلِكَ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا.
وقال أَبُوا مُسْلِمٍ: «اللاَّعِنُون هم الَّذِين آمَنُوا به، ومعْنَى اللَّعْنَة، مباعدةُ المَلْعُون، ومُشَاقَّتُه، ومخالَفَتُه مع السَّخَط عليه.
وقيل: الملائكةُ، والأنبياءُ، والصالحُون؛ ويؤكِّده قولُهُ تعالَى: ﴿إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملاائكة والناس أَجْمَعِينَ﴾ [البقرة: ١٦١].
وقال قتادة:»
الملائكةُ «.
قال الزَّجَّاجُ: والصوابُ قَوْلُ مَنْ قال:»
اللاَّعِنُونَ الملائكة والمؤمنونَ «، فأمَّا أن يكون ذلك لدوَابِّ الأَرْضِ فلا يُوقَفُ على حقيقته إلاَّ بنَصٍّ أو خَبَرٍ لاَزِمٍ، ولم يوجَدْ شيءٌ من ذذلك.
قال القرطبِيُّ: قد جَاءَ بذلك خَبَرٌ رَوَاهُ البَرَاء بن عَازِب، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وعلى آلِهِ، وسَلَّم، وشَرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - في قوله تعالى:»
يَلْعَنُهُمُ اللاَّعنُونَ «قال:» دوابُّ الأَرْض «أخْرَجَه ابْنُ ماجَةَ.
108
وقال الحَسَن:» جميعُ عبَادِ الله «.
قال القاضِي:»
دلَّتِ الآيةُ على أنَّ هذا الكِتْمَان من الكَبَائر لأنَّه تعالَى أَوْجبَبَ فيه اللَّعْن.
109
في الاستثناءِ وَجْهَان:
أحدهما: أن يكون متَّصِلاً، والمُسْتَثْنى منْه هو الضَّميرُ في «يلعنُهم».
والثاني: أن يكُونَ منقطعاً؛ لأنَّ الَّذين كَتَمُوا، لُعِنُوا قَبْل أَنْ يَتُوبُوا. وإنَّما جَاءَ الاستثناءُ؛ لبَيَانِ قَبْول التَّوْبَةِ؛ لأنَّ قَوْماً من الكاتِمِينَ لَمْ يُلْعَنُوا، نقل ذلك أبو البَقَاء.
قال بعضُهُمْ: «ولَيْسَ بشَيْءٍ».
فَصْل
اعلَمْ أنَّه تعالى لَمَّا بيَّن عظيمَ الوَعِيدِ، فكان يجوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الوعيدَ يلحقُهُمْ على كُلِّ حالٍ، فبيَّن تعالَى أَنَّهُمْ إذا تابُوا، تغيَّر حُكْمُهم، ودَخَلُوا في أهْلِ الوعْدِ. والتَّوْبةُ عبارةٌ عن النَّدَم على فِعْلِ القبيح لقُبْحِهِ، لا لِغَرَضٍ سِوَاه؛ لأنَّ مَنْ لم يَرُدَّ الوديعَة، ثم ندمِ للَوْمِ الناس وذمِّهم، أو لإِنَّ الحاكم رَدَّ شهادتَهُ لم يكُنْ تائباً، وكَذَلِكَ، لو عَزَمَ على رَدِّ الودائعِ والقيام بالواجِبَاتِ؛ لكي تُقْبَلَ شهادتُهُ أو يُمْدَحَ بالثَّنَاءِ علَيْه، لم يكن تائِباً وهذا مَعْنَى الإِخْلاَّص في التوبة ثم بيَّن تعالى أنه لا بُدَّ له بَعْدَ التوبة مِنْ إصْلاح ما أفْسَدَهُ مثلاً، لو أفْسَد على رجُلِ دِينَهُ بإيرادِ شُبْهَةٍ عَلْيه، يلْزَمُه إزالَة تِلْكَ الشُّبْهَةِ، ثمَّ بيَّن بأنه يجبُ علَيْه بعْدَ ذلك أَنْ يَفْعَلَ ضِدَّ الكِتْمَانِ، وهُو البَيَانُ بقَوْله «وَبَيَّنُوا» فدلَّت الآيةُ على أنَّ التَّوْبة لا تَحْصُلُ إلاَّ بِتَرْكِ كُلِّ ما ينبغي.
وقيلَ: بَيَّنوا تَوْبَتَهُمْ وصَلاَحَهُم. قال ابْنُ الْخَطِيبِ: قالَتِ المُعْتَزِلةُ: الآيةُ تَدُلُّ على أَنَّ التَّوْبة عن بَعْضٍ المعاصِي مع الإصْرَارا عَلى البَعْضِ لا تَصِحُّ؛ لأن قوله «وَأَصْلَحُوا» عامٌّ في الكلِّ.
والجوابُ: أَنَّ اللفْظ المُطْلَق يكْفِي في صِدْقه حُصُولُ فَرْدٍ واحدٍ مِنْ أفْراده.
وقولُه: «أَتُوبُ عَلَيْهِمْ» أَتَجَاوَرُ عنْهم، وأَقْبَلُ تَوْبتهمْ. «وَأَنَا التَّوَّابُ» الرَّجَّاع بقُلُوبِ عبَادِي المنْصَرفة عَنِّي إلَيَّ، القَابِلُ لِتَوْبة كلِّ ذي توبةٍ، الرحيمُ بِهِمْ بَعْدَ إقْبَالهم عَلَيَّ.
اعلَمْ أنَّ ظاهِرَ الآيَة يَعْمُّ كُلَّ كافِرٍ ماتَ على كُفْره.
وقال أَبُو مُسْلِم: يجبُ حَمْلُه على الَّذِينَ تقدَّم ذكْرُهُمء، وهُمُ الذينَ يكْتُمُون الآياتِ، واحتجَّ بأنَّهُ تعالى لَمَّا ذَكَر حالَ الَّذشين يكْتُمُون، ثُمَّ ذكَرَ حالَ التَّائِبِين منْهم، ذكَرَ أيْضاً حَالَ مَن يَمُوتُ منْهم منْ غَيْر تَوْبَةٍ، وأيضاً: فإِنه تعالى لمَّا ذَكر أنَّ أولئكَ الكاتِمِينَ مَلْعُونُونَ حالَ الحياةِ، بيَّن أَنَّهم ملْعُونُون بَعْد المَوْت. وجوابُهُ: إِنَّمَا يصحُّ هذا، لو كان الَّذين يمُوتُون منْهُمْ مِنْ غير تَوْبة دخلُوا تَحْت الآيَةِ، وإلاَّ لاسْتَغْنَى عن ذكْرِهم فوجَبَ حَمْلُ الكلامِ على أمْرٍ مستأْنفٍ.
فإنْ قيل: كيْفَ يلْعَنُهُ النَّاس أَجْمَعُونَ، وأهْلُ [دينِهِ لا يلْعَنُونَه].
فجوابُهُ منْ وجُوهٍ:
أحدها: أَنَّ أهل دينه يلْعَنُونه فِي الآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ [العنكبوت: ٢٥] قال أبو العَالِيَةِ: «يُوقَفُ الكافِرُ يَوْمَ القيامةِ، فيلْعَنُهُ اللهُ، ثم تَلْعَنُهُ الملائكةُ، ثم تلْعَنُهُ النَّاسُ».
وثانيها: قال قَتَادَةُ، والرَّبِيع: أَرَادَ بالنَّاس أجْمَعِين المؤمِنِينَ؛ كأنه لَمْ يَعْتَدَّ بغَيْرهم، وحَكَم بأنَّ المؤمنين هُمُ النَّاس لا غَيْرُ.
وثالثها: أنَّ كُلَّ أحَدٍ يَلْعَنُ الجاهلَ، الظَّال؛ لأنَّ قُبْحَ ذلك مُقَرَّرٌ في العُقُول فإذا كان في نَفسه [هو جاهلاً، أو ظالماً، وإنْ كَانَ لا يعلَمُ هو مِن نَفْسه كوْنَهُ كَذَلِكَ] كانَتْ لعنتُهُ على الجَاهِلِ والظَّالم تتناوَلُ نَفْسَهُ.
ورابعها: أَنَّ يُحْمَل وُقُوعُ اللَّعْنَة عَلَى اسْتحْقَاق اللَّعْنِ، وحينئذ يَعُمُّ ذلك.
فَصل فِي بَيضانِ جَوِازٍ لَعْنٍ مَنْ مَاتَ كَافِراً
قال أبو بَكْرٍ الرَّازِيُّ - رَضِيَ الله عنه -: الآيَةُ الكريمة تدلُّ على أنَّ للمسلِمِين
110
لعن مَنْ مات كَافِراً، وَأَنَّ زوالَ التكْليف عَنْه بالمَوْتِ لا يُسْقِطُ عَنْه اللَّعْنة؟ لأنَّ قوله تعالى: «وَالنَّاس أَجْمَعِينَ» أمرٌ لَنَا بلَعْنِهِ بَعْدَ مَوته؛ وَهَذَا يدلُّ على أنَّ الكافر، لَوْ جُنَّ، لم يَكُنْ زَوَالُ التَّكْلِيفِ عَنْه مُسْقِطاً اللَّعْنةَ والبَرَاءة منْهُ، وكذلك السَّبيلُ فيما يُوجِبُ المَدْحَ والموالاَةَ مِنَ الإِيمَان والصَّلاح، فَمَوْتُ مَنْ كان كذلك أو [جنونُهُ لا يغيِّر] حكْمَهُ عَمَّا كان علَيْه قَبْلَ حُدُوث الحَالِ به.
قوله تعالى: «وَمَاتُوا» الواو هذه واو الحال، والجُمْلَة في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال، وإثباتُ الواو هُنَا أفْصَحُ؛ خلافاً للفَرَّاء، والزَّمَخْشَريِّ، حيثُ قالا: إنَّ حَذْفَها شاذٌ. وقوله ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله﴾ :«أُولَئِكَ» : مبتدأٌ، [و ﴿عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ﴾ : مبتدأ وخَبَرُه، خَبَرٌ عَنْ «إِنَّ»، ويجُوزُ في «لَعْنَةُ» الرفْعُ بالفاعليَّة بالجَار قَبْلَها؛ لاعتَمادهَا؛ فَإِنَّهُ وقع خَبَراً عن «أولئك» وتقدَّم تحريرُهُ في ﴿عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ﴾ [البقرة: ١٥٧].

فصل في هل يجوز لعن الكافر المعين


قال ابْنُ الْعَرَبيِّ: قَالَ لِي كثيرُ مِنْ أشْيَاخِي: إنَّ الكافرَ المُعَيَّن لا يجوزُ لَعْنُهُ؛ لأنَّ حاله عنْد المُوَافَاةِ لا تُعْلَمُ، وقَدْ شَرَط الله تعالى في هذه الآية الكريمة في إطْلاَقِ اللَّعْنَةِ: المُوافَاةَ عَلَى الكُفْر.
وأمَّا ما رُويَ عَنِ النبيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعَلَى آلِهِ وسلَّم، وشَرَّفَ وكَرَّمَ، ومَجَّدَ، وَبَجَّلَ وعَظَّم - أَنَّه لَعَنَ أَقْوَاماً بأعْيَانِهِمْ مِن الكُفَّار، فَإِنما كان ذَلِكَ؛ لِعِلْمِهِ بمآلِهِمْ.
قال ابْنُ العَرَبِيِّ: والصحيحُ عنْدِي: جوازُ لَعْنِهِ؛ لظاهر حَالِهِ، ولجواز قَتْله وقتَالِهِ.
وقد رُويَ عَنِ النبيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعَلَى آلِهِ وسلَّم، وشَرَّفَ وكَرَّمَ، ومَجَّدَ، وَبَجَّلَ وعَظَّم - أنه قال: «اللهُمَّ، إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ هَجَانِي، وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي لَسْتُ بشَاعِرٍ، فَألْعَنْهُ، وأَهْجُهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي» [فَلَعَنَهُ، وإن كان الإيمانُ والدِّينُ والإسْلاَمُ مَآلَهُ، وانتصف بقوله «عَدَدَ مَا هَجانِي» ] ولم يَزِدْ؛ لتعليم العَدْلِ والإنصافِ، وأضَافَ الهَجْوَ إلى الله تعالَى في باب الجَزَاءِ، دون الابتداءِ بالوَصْف بذلك؛ كما يضاف إليه المكْرُ والاسْتهْزَاءُ والخَديعةُ، تعالَى عَنْ ذلك.
111
قال القُرْطُبِيُّ: أما لَعْنُ الكُفَّار جُمْلَةُ مِنْ غَيْر تَعْيين، فلا خِلاَفَ، فيه؛ لِمَا روَى مَالِكٌ، عن داوُدَ بْنِ الحُصيْنِ، أنَّه سَمِعَ الأَعْرَجَ يقُولُ: «مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إلاَّ وَهُمْ يَلْعَنُونَ الكَفَرَةَ فِي رَمَضانَ، وَسَواءٌ كَانَتْ لَهْم ذِمَّةٌ أَوْ لَمْ تَكْنْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ، وَلَكِنَّهُ مُبَاحٌ».
قوله تعالى: «وَالمَلاَئِكَة» الجمهورُ على جرِّ الملائكة؛ [نَسَفاً عَلَى اسم الله تعالى]، وقرأ الحَسَنُ بالرَّفع، ﴿والمَلاَئِكَهُ وَالنَّاسُ أَجمَعُونَ﴾ وخرَّجَها النحاةُ عَلَى العَطْف على مَوْضع اسْم الله تعالَىن فإنه وِنْ كان مَجْرُوراً بإضافة المَصْدر، فموضعُهُ رَفْعٌ بالفاعلية؛ لأنَّ هذا المَصْدر يَنحَلُّ لحَرْفٍ مصدريٍّ، وفِعْلٍ، والتقديرُ: «أَنْ لَعَنَهُمْ»، أوْ «أنْ يَلْعَنَهُمُ اللهُ»، فعطف الملائِكَةَ على هذا التَّقْدير.
قال أبو حيان: وهذا لَيْسَ بجائزٍ على ما تقرَّر مِنَ العَطْفِ على الموضِع، فإنَّ مِنْ شرْطِهِ: أن يكُونَ ثمَّ مُحْرِزٌ للموْضِعِ، وطَالبٌ، والطالبُ للرفع وجودُ التَّنْوِينِ في المَصْدَر، هذا إِذَا سَلَّمْنَا أن «لَعْنَة» تنحلُّ لِحَرْفٍ مصدريٍّ، وفعْلٍ؛ لأنَّ الانحلال لذلك شرطُهُ أنْ يُقْصَدَ به العلاجُ؛ ألا ترَى أنَّ قوله: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين﴾ [هود: ١٨] لَيْسَ المعنَى على تقْدير: أنْ يلْعَنَ اللهُ على الظالمين، بل المرادُ اللَّعْنَةُ المستقرَّة، وأضيفتْ للَّه على سَبِيلِ التَّخْصِيص، لا على سَبِيلِ الحُدُوث. ونقلَ عن سِيبَوَيْهِ: أنَّ قولك: هَذَا ضَارِبُ زَيْدٍ غَداً وَعَمْراً، بنَصْب «عَمْراً» : أنَّ نَصْبَه بفعْل محذوفٍ، وأبى أَنْ ينصبَهُ بالعَطْف على المَوْضِع، ثم بعد تَسْليمه ذلك كلَّه، قال: المَصْدرُ المُنَوَّن لم يُسْمَعْ بعده فاعِلٌ مرفعوعٌ، ومفعولٌ منصوبٌ، إِنَّمَا قاله البصريُّون قياساً على «أنْ والفِعْل» ومنَعَهُ الفَرَّاء، وهو الصحيحُ ثم إِنَّه خَرَّجَ هذه القراءة الشَّاذَّة على أحَدِ ثلاثةِ أوجُهٍ:
الأول: أن تكونَ الملائكةُ مرفوعةً بفعلٍ محذُوفٍ، أي: «وتَلَعَنُهُمُ المَلاَئِكَةُ» ؛ كما نصَبَ سِيبَوَيْهِ «عَمْراً» في قولِكَ «ضَارِبُ زَيْداً وَعَمْراً» بفعْلٍ محذوفٍ.
الثاني: أَنْ تكُونَ الملائكةُ عَطْفاً على «لَعْنَةُ» بتقدير حَذْف مضافٍ، أي: «وَلَعْنَةُ المَلاَئِكَةِ» فَلَمَّا حذَفَا المضافَ، أُقِيمَ المضافُ إلَيْه مُقَامَهُ.
الثالث: أنْ يكُونَ مبتدأً قد حُذِفَ خبرهُ تقْديرُهُ ﴿وَالمَلاَئِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ تَلْعَنُهُمْ﴾ وهذه أوجُهٌ متكلَّفةٌ، وإِعْمَالُ المصدر المنوَّنِ ثابِتٌ؛ غايُةُ ما في الباب: أنه قد يُحْذَفُ فاعلُهُ؛ كقوله ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ﴾ [البلد: ١٤ - ١٥]. وأيْضاً: فقد أَتْبَعَتِ
112
العَرَبُ المجرورَ المَصْدر عَلَى رَفْعاً؛ قال: [البسيط].
٨٦١ -................... مَشْيَ الهَلُوكِ عَلَيْهَا الخَيْعَلُ الْفَضُلُ
برفع «الفُضُلُ» وهي ل «الهَلُوكِ» على المَوْضِع؛ وإذَا ثَبَتَ ذلكَ في النَّعْتِ، ثَبَتَ فِي العَطْفِ؛ لأنَّهما تابعانِ مِنَ التوابع الخمْسَةِ، و «أَجْمَعِينَ» : من ألْفَاظِ التأْكِيد
المعنويِّ بمنزلةِ كُلٍّ.
قال ابنُ الخَطِيبِ: والآيةُ تَدُلُّ على جواز التَّخْصْيصِ معَ التَّوْكِيد؛ لأنَّه تعالى قال: «والنَّاسِ أَجْمَعِينَ» مع أنَّه مخصوصٌ على مَذْهَب مَنْ قال: المراد بالنَّاس بَعْضُهُمْ.
قوله تعالَى: «خِالِدِينَ» حالٌ من الضَّمير في «عَلَيْهِمْ» والعاملُ فيها الظرْفُ من قوله «عَلَيْهِمْ» ؛ لأنَّ فيه معنى الاسْتقْرَار لِلَّعْنة، والخلودُ: اللُّزومُ الطَّويل، ومنْه قوله تعالى: «أَخْلدَهُ» أي: لَزِمُهُ، ورَكَنَ إلَيْه.
قال بعضُهُمْ: «خَالِدِينَ فِي اللَّعْنَة».
وقيلَ: في النَّار، أُضْمِرَتْ؛ تفخيماً وتهويلاً؛ كقوله ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾ [القدر: ١].
والأول أولى؛ لوجوه:
الأول: أَنَّ ردَّ الضَّميرِ [إلى المَذْكُور السَّابق أَوْلَى مِنْ رَدِّة، إذَا لم يُذْكَر.
الثاني: أَنَّ حَمْلَ هذا الضَّمِير على اللَّعْنَة] أَمكْثَرُ فائدةً؟ لأنَّ اللَّعْنَ هو الإبْعَادُ مِنَ الثَّوَاب بفِعْل العِقَاب في الآخِرَة، وإيجادِهِ في الدُّنيا، فيدخل في اللعن النَّار وزيادةٌ [فكان حَملُ اللَّفظ عليهم أولى].
[الثالث: أن حمل الضمير على اللَّعن يكون حاصلاً في الحال وبعده، وحمله على النَّار لا يكون حالاً حاصلاً في الحال، بل لا بدَّ من تأويلٍ].
قوله تعالى: «يُخَفَّفُ» فيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أن يكون مستأنفاً.
الثاني: أن يكون حالاً من الضَّمير في «خَالِدِينَ» فيكون حالان متداخلان.
الثالث: أن يكون حالاً ثانية من الضَّمير في «عَلَيْهِمْ»، وكذلك عند من يجيز تعدُّد
113
الحال. وقد منع أبو البقاء هذا الوجه، بناءً منه على مذهبه في ذلك.
وقوله: «وَلاَ هُمْ يَنْظَرُونَ».
قال مَكِّيٌّ رَحِمَهُ اللهُ: هو ابتداءٌ وخبرٌ في موضع الحال من الضَّمير في «خالدين» أو من الضَّمير في «عَنْهُمْ».

فصل في وصف العذاب


اعلم أنه تعالى وصف هذا العذاب بثلاثة أمورٍ:
أحدها: الخلود، وهو المكث الطَّويل عِنْدنا، أو المكث الدَّائم عند المعتزلة.
وثانيها: عدم التخفِيفِ، ومعناه أنّ العذابَ في الأوقاتِ كلِّها متشابهٌ؛ لا يكون بعضُه أقَلَّ من بَعْضٍ.
فَإِن قيلّ: هذا التَّشْبيهُ مُمْتَنعٌ؛ لوجوهٍ:
أحدها: أَنَّه إذا تصوَّر حال غيره من شدَّة العذب، كان ذلك كالتَّخفيف عنه.
وثانيها: أنَّه تعالى يزيد علَيْهِمْ في أقوات، ثمَّ تنقطع تلْك الزِّيادةُ فيكونُ ذلك تَخفيفاً.
وثالثها: أنه حين يخاطبهم بقوله تعالى: ﴿اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨] لا نشكُّ أنَّه يزادُ عنْهم في ذلك الوَقْت.
فالجوابُ أَنَّ التفاوتُ في هذه الأمُورِ قليلٌ، فالمستَغرِقُ في العَذَاب الشّدِيد لا ينْتبه لهذا القدْر القليل منَ التَّفاوتُ، وهذه الآية تَدُلُّ على دوام العذاب، وأبديتِه، فإنَّ الواقعَ في [محْنَةٍ] عظيمةٍ [وشدةٍ] في الدُّنْيَا، إذا بُشِّرَ بالخَلاَص، وقيل له: إنَّك تَخلُصُ من هذه الشِّدَّة بعد أيَّامٍ، فإنَّه يَفْرَح ويسْهُلُ عليه موقع هذه المحنة.
الصفة الثانية: قوله «وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ» والإنظارُ: هو التأْجيلُ والتأخيرُ؛ قال سُبحانه ﴿فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠] والمعنى: أن عذابَهُمْ لا يُؤجَّل، بل يكون حاضراً متَّصِلاً بعذاب مثله؛ ووجه اتِّصال هذه الآية بها قبلها: أنَّه تعالى لمَّا حّذَّر من كتْمَان الحقِّ بين أن أوَّل ما يجبُ إظهارُهُ ولا يجوزُ كتمانُهُ أمْرُ التوحيدِ، ووَصَل ذلك بذكْر البُرْهان، وعلَّم طريقَ النَّظَر، وهو الفكْرُ في عجائِبِ الصُّنْع؛ ليعلم أنَّه لاَ بُدَّ منْ فاعل لا يشبهُه شَيْءٍ:
ويحتمل أن يكون من النَّظَرِ؛ كقوله: ﴿وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة﴾ [آل عمران: ٧٧].
114
قوله تعالَى :" خِالِدِينَ " حالٌ من الضَّمير في " عَلَيْهِمْ " والعاملُ فيها الظرْفُ من قوله " عَلَيْهِمْ " ؛ لأنَّ فيه معنى الاسْتقْرَار لِلَّعْنة، والخلودُ : اللُّزومُ الطَّويل، ومنْه قوله تعالى :" أَخْلدَهُ " أي : لَزِمَهُ، ورَكَنَ إلَيْه.
قال بعضُهُمْ :" خَالِدِينَ فِي اللَّعْنَة ".
وقيلَ : في النَّار، أُضْمِرَتْ ؛ تفخيماً وتهويلاً ؛ كقوله ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [ القدر : ١ ].
والأول أولى ؛ لوجوه٢٠ :
الأول : أَنَّ ردَّ الضَّميرِ [ إلى المَذْكُور السَّابق أَوْلَى مِنْ رَدِّة، إذَا لم يُذْكَر.
الثاني : أَنَّ حَمْلَ هذا الضَّمِير على اللَّعْنَة ]٢١ أَكْثَرُ فائدةً ؟ لأنَّ اللَّعْنَ هو الإبْعَادُ مِنَ الثَّوَاب بفِعْل العِقَاب في الآخِرَة، وإيجادِهِ في الدُّنيا، فيدخل في اللعن النَّار وزيادةٌ [ فكان حَملُ اللَّفظ عليه أولى ].
[ الثالث : أن حمل الضمير على اللَّعن يكون حاصلاً في الحال وبعده، وحمله على النَّار لا يكون حالاً حاصلاً في الحال، بل لا بدَّ من تأويلٍ ]٢٢.
قوله تعالى :" يُخَفَّفُ " فيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أن يكون مستأنفاً.
الثاني : أن يكون حالاً من الضَّمير في " خَالِدِينَ " فيكون حالان متداخلان.
الثالث : أن يكون حالاً ثانية من الضَّمير في " عَلَيْهِمْ "، وكذلك عند من يجيز تعدُّد الحال. وقد منع أبو البقاء هذا الوجه، بناءً منه على مذهبه في ذلك.
وقوله :" وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ".
قال مَكِّيٌّ رحمه الله : هو ابتداءٌ وخبرٌ في موضع الحال من الضَّمير في " خالدين " أو من الضَّمير في " عَنْهُمْ ".

فصل في وصف العذاب


اعلم أنه تعالى وصف هذا العذاب بثلاثة أمورٍ :
أحدها : الخلود، وهو المكث الطَّويل عِنْدنا، أو المكث الدَّائم عند المعتزلة.
وثانيها : عدم التخفِيفِ، ومعناه أنّ العذابَ في الأوقاتِ كلِّها متشابهٌ ؛ لا يكون بعضُه أقَلَّ من بَعْضٍ.
فَإِن قيلّ : هذا التَّشْبيهُ مُمْتَنعٌ ؛ لوجوهٍ :
أحدها : أَنَّه إذا تصوَّر حال غيره من شدَّة العذب، كان ذلك كالتَّخفيف عنه.
وثانيها : أنَّه تعالى يزيد علَيْهِمْ في أقوات، ثمَّ تنقطع تلْك الزِّيادةُ فيكونُ ذلك تَخفيفاً.
وثالثها : أنه حين يخاطبهم بقوله تعالى :﴿ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾
[ المؤمنون : ١٠٨ ] لا نشكُّ أنَّه يزادُ عنْهم في ذلك الوَقْت.
فالجوابُ أَنَّ التفاوتُ في هذه الأمُورِ قليلٌ، فالمستَغرِقُ في العَذَاب الشّدِيد لا ينْتبه لهذا القدْر القليل منَ التَّفاوتُ، وهذه الآية تَدُلُّ على دوام العذاب، وأبديتِه، فإنَّ الواقعَ في [ محْنَةٍ ] عظيمةٍ [ وشدةٍ ] في الدُّنْيَا، إذا بُشِّرَ بالخَلاَص، وقيل له : إنَّك تَخلُصُ من هذه الشِّدَّة بعد أيَّامٍ، فإنَّه يَفْرَح ويسْهُلُ عليه موقع هذه المحنة.
الصفة الثانية : قوله " وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ " والإنظارُ : هو التأْجيلُ والتأخيرُ ؛ قال سُبحانه ﴿ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [ البقرة : ٢٨٠ ] والمعنى : أن عذابَهُمْ لا يُؤجَّل، بل يكون حاضراً متَّصِلاً بعذاب مثله ؛ ووجه اتِّصال هذه الآية بها قبلها : أنَّه تعالى لمَّا حّذَّر من كتْمَان الحقِّ بين أن أوَّل ما يجبُ إظهارُهُ ولا يجوزُ كتمانُهُ أمْرُ التوحيدِ، ووَصَل ذلك بذكْر البُرْهان، وعلَّم طريقَ النَّظَر، وهو الفكْرُ في عجائِبِ الصُّنْع ؛ ليعلم أنَّه لاَ بُدَّ منْ فاعل لا يشبهُه شَيْءٍ :
ويحتمل أن يكون من النَّظَرِ ؛ كقوله :﴿ لاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ آل عمران : ٧٧ ].
قوله: «إلهٌ وَاحدٌ» خبر المبتدأ، و «وَاحِدٌ» صفةٌ، وهو الخبر في الحقيقة؛ لأنَّه مَحَطّ الفائدةَ، ألاَ ترى أنَّه لو اقتصر [على ما قَبْلَه، لم يُفد، وهذا يُشْبهُ الحالَ الموطِّئة؛ نحو: «مَرَرْتُ بِزَيْدٍ رَجُلاً صَالِحاً» ف «رَجُلاً» حالٌ] وليستْ مقصودة، إِنَّما المقصودُ وصْفُها.
قال أبو عليٍّ: قولُهُمْ واحدٌ: اسمٌ جَرَى على وَجْهَيْن في كلامِهِم.
أحدهما: أن يكونَ اسماً.
والآخَرُ: أن يكونَ وَصْفاً، فالاسْمُ قولُهُمْ في العَدَد: واحد، اثْنَانِ، ثلاثةٌ، فهذا اسمٌ لَيْسَ بوصف، كما أنَّ سائر أسماء العَدد كذلك، وأَمَّا كونُهُ صفةً؛ فقولُكَ: مَرَرْتُ برَجُلٍ وَاحِدٍ، وهَذَا شَيءٌ وَاحِدٌ، فإذا جرى هذا الاسمُ على الحَقِّ سُبْحانه وتعالى، جاز أن يكون الذي هو الوصفُ كالعالِم والقادِرِ، وَجَازَ أن يكون الذي هو الاسْمُ كقولكِ شَيْء ويقوِّي الأوَّل قوله تعالى: «وَإِلهُكُمْ إِلَهٌ وَاحدٌ».

فصل في وجوه وصفه تعالى بأنه واحد


قال الجُبَّائِيُّ: وُصَفَ الله بأنَّه واحدٌ منْ وجُوهٍ أربعة: لأنَّه ليس بذي أبْعَاضٍ، ولا بذِي أَجْزَاء؛ ولأنَّه منفردٌ [القِدَمِ؛ ولأنَّه مُنْفَردٌ] بالإلهيَّة؛ ولأنه منفردٌ بصفات ذاتِهِ؛ نَحُو كوْنِهِ [عَالِماً بنَفْسِه، قَادِراً بنَفْسِهِ.
قوله تعالى: «إلا هُوَ» : رفع «هُوَ» على أنه] بدلٌ من اسْم «لا» على المَحَلِّ؛ إذ محلُّه الرفْعُ على الابتداء، أو هو بَدَلٌ من «لاَ» وما عملتْ فيه، لأنَّها وما بعْدَها في مَحلِّ رفْعٍ بالابتداء، وقد تَقدَّم تقريرُ ذلك، ولا يجُوزُ أنْ يَكُون «هو» خبر «لاَ» التَّبْرِئَةِ، لما تقرَّر من أنَّها لا تعملُ في المَعَارف، بَلِ الخَبر مَحْذُوفٌ، أي: «لاَ إِلهَ لَنَا» هذا إذا فَرَّعنا على أنَّ «لاَ» المبنيَّ معها اسْمُها عاملةٌ في الخَبَرِ، أمَّا إذا جعلْنَا الخَبَرَ مَرْفُوعا بما كان علَيْه قَبْل دخولِ «لاَ» ولَيْسَ لها فيه عَمَلٌ وهو مذهبُ سيبَوَيْهِ فكَان ينبغي أن يكون «هُوَ» خبراً إلاَّ
115
أنَّه مَنَع منه كوْنُ المبتدأ نكرةً، والخبَر معرفةً، وهو ممنوعٌ إلاَّ في ضرائر الشِّعْر في بَعْض الأَبْوَاب.
واستَشكَلَ الشَّيْخُ أبو حَيَّان كَونَهُ بَدَلاً منْ «إِلَهَ».
[قال: لأنَّه لَمْ يمكنْ تكريرُ العَامِلِ؛ لا نقولُ: «لاَ رَجُلَ إِلاَّ زَيْدٌ» والذي يظهر أنه لَيْسَ بدلاً من «إلَه» ] ولا مِنْ «رَجُل» في قولك: «لاَ رَجُلَ إِلاَّ زَيْدٌ»، غنما هو بَدَلٌ من الضَّمير المستكنِّ في الخبر [المحْذُوفِ، فإذا قلنا: لا رجل إلاّ زيَدٌ، فالتقديرُ: «لاَ رَجُلَ كائنٌ، أو مَوْجُودٌ إِلاَّ زَيْدٌ»، ف «زَيْدٌ» بدلٌ من الضمير المستكنِّ في الخبر] لا مِنْ «رَجُل»، فليس بدلاً على مَوْضِع اسم «لا»، وَإِنَّما هو بدلٌ مَرْفُوعٌ منْ ضمير مَرْفوعٍ، وذلك الضَّميرُ هو عائدٌ على اسم «لا»، ولولا تصريح النَّحويِّين: أنَّه بَدَلٌ على الموضِعِ مِنِ اسم «لاَ»، لتأوَّلنا كلامَهُمْ على ما تقدَّم تأويلُهُ.
قال شهاب الدين: والَّذي قالُوهُ غَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لأنهم لم يقولُوا: هو بدَلٌ من اسْم «لاَ» على اللَّفظِ؛ حتى يلزمَهُمْ تكريرُ العامِلِ، وإنَّما كان يشكلُ لو أجازُوا إبْدَالَهُ مِن اسْمِ «لاَ» على اللَّفظِ، وهم لم يجيزوا ذلك لعَدَم تكير العَامِلِ، ولذلك منعوا وجْهَ البَدَلِ في قولهمْ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» وجعلُوهُ انتصاباً على الاستِثْناءِ، وأَجَازُوهُ في قولك: «لا رَجُلَ في الدَّارِ إلاَّ صاحِباً لك» لأنَّه يُمْكِن فيه تكريرُ العَامِلِ.
قوله تعالى: «الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ» فيه أربعةُ أوْجُهٍ:
أحدها: أن يكونَ بَدَلاً منْ «هُوَ» بدَلَ ظاهرٍ مِنْ مُضْمَرٍ، إلا أن هذا يُؤَدِّي إلى البَدَلِ بالمُشْتقَّاتِ وهو قليلٌ؛ ويُمْكِنُ أنْ يجاب بأنَّ هاتَين الصفتَيْن جَرَتا مَجْرَى الجوامِدِ ولا سِيَّمَا عنْدَ من يَجْعل [الرَّحْمن] علماً، وقد تقدَّم تحقيقُهُ في «البَسْمَلَةِ».
الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هُو الرَّحْمَنُ، وحسَّنَ حذْفَهُ توالي اللفْظِ ب «هُوَ» مرَّتَيْن.
الثالث: أن يكوم خبراً ثالثاً لقوله: «وَإلَهُكُمْ» أخبر عنْهُ بقوله: «إِلَهٌ وَاحِدٌ» وبقوله: «لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ» وبقوله: «الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ»، وذلك عند مَنْ يَرَى تعدّدَ الخَبَرِ مُطْلقاً.
الرابع: أن يكون صفةً لقولِهِ «هُوَ»، و [ذلك] عند الكِسَائِيِّ؛ فإنَّه يجيزُ وَصف الضَّمير الغائب بصفة المَدح، فاشترط في وصف الضَّمير هذَين الشَّرْطَين: أن يكون غائباً، وأن تكون الصفَةُ صفةَ مَدْحٍ؛ وإن كان ابنُ مالكٍ أطْلَقَ عَنْه جوازَ وَصْفِ ضمير
116
الغائِب، ولا يجوز أنْ يكُون خبراً ل «هُوَ» هذه المذكورةِ؛ لأنَّ المستثنى ليْسَ بجُملةٍ.

فصل في سبب النُّزُول


قال ابن عبَّاسِ: سَبَبُ نُزُول هذه الآية أَنَّ كُفَّار قُرَيش قالوا: يا مُحَمَّد، صِفْ وانسُبْ لَنَا رَبَّكَ فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى سُورَةَ الإخْلاَصِ، وهَذه الآيَة.
قال أبو الضُّحَى: لمَّا نزلَّتْ هذه الآيةُ، قال المُشْرِكُون: إنَّ محمَّداً يقُولُ: إلَهكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ، إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَنْزل اللهُ - عَزَّ وَجَّل -: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض﴾ [والمرادُ بالخَلْق هنا المخلُوقُ.
قال أبو مسلم: وأصْلُ الخَلْق التقديرُ؛ قالَ تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾ [الفرقان: ٢].
117
ذكر ابن جرير في سَبَب نُزُول هذه الآيةِ عن عطاءٍ أيضاً ما ذكرْنَاه آنفاً.
وعن سعيد بن مَسْروق، قال: سألت قُرَيشٌ اليَهودَ، فقالوا: حدِّثُونَا عَمَّا جَاءَكُم به موسى - عليه السَّلام - من الآيَاتِ. فَحَدَّثوهُمْ بالعَصا وبالْيَدِ البَيْضاءِ، فقالت قُرَيش عَمَّا جاءَهُمْ به عيسى، فَحدَّثُوهُم بإبراءِ الأَكْمَه والأَبْرَصِ وإحياءِ المَوتَى؛ فقالت قُرَيش عِند ذلك للنَّبيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ادْعُ اللهَ لَنَا أنْ يَجْعَلَ الصَّفا ذَهَباً، فَنَزدَادَ يقيناً، ونَتَقَوَّى على عدُوِّنَا [فَسَأل ربَّهُ ذلك] فأوحَى اللهُ تعالى إليه أنْ يعطيهم، ولكن إن كذَّبُوا بَعْدَهُ، عَذَّبْتُهُم عَذَاباً شدِيداً لا أعذِّبُهُ أحداً مِنَ العالمين فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام: - «ذَرْنِي وَقَوْمِي، أدعُوهُمْ يَوماً فَيَوْماً»، فأنْزَلَ اللهُ تعالى هذه الآية مُبَيِّناً لهم أنهم إنْ كانوا يريدون أنْ أجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَباً؛ ليزدادوا يقيناً؛ فَخَلقُ السَّموات والأَرْض وسائِرُ ما ذكر أعظمُ وأكْبرُ.
117
وقيل: لمَّا نزل قوله: «وَإِلَهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ»، قالوا: هل مِنْ دليلٍ على ذلك فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض﴾ ؛ فبيَّن لهم الدَّليل وقد تقدَّم في قوله تعالى: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء﴾ [البقرة: ٢٢].
قال البغويِ: ذكر «السموات» بلَفظ الجَمْع، لأنَّ كُلَّ سماء من جِنسٍ آخَرَ، وأفْرَد الأرْضَ؛ لأن الأرَضينَ كلَّها مِنْ جنْسٍ واحدٍ، وهو الترابُ، والآيةُ في السَّموات سُمْكُها وارتفاعُها مِنْ غير عَمدٍ، ولا عَلاقَةَ، وما يُرى فيها من الشَّمْس، والقَمَر، والنُّجوم، واختلافِ أحوالها مِنَ الطُّلُوع، والغُرُوبُ، وغير ذلك، والآيةُ من الأَرْضِ: مَدُّها، وبَسْطُها وسَعَتُها، وما يُرَى فيها من الأشجار، والاثمَار، والنْهَار، والجِبَالِ، والبِحَار، والجوةاهر، والنبات، وقد تقدّم طَرَفٌ من هذا.
قوله تعالى: وَاخْتلاف اللَّيل والنَّهَار «ذكَرُوا للاخْتلاَف تفْسيرَينْ:
أحدهما: أنَّه افْتِعَالٌ مِنْ قَولِهِمْ:»
خَلَفَهُ يَخْلَفُهُ «إذا ذهبَ الأوَّل، وجاء الثَّاني، فاختلاف اللَّيْل والنَّهار تَعَاقُبُهُمَا في الذَّهاب والمجِيء؛ يقالُ: فلانٌ يَخْتلف إلى فلانٍ، إذا كان يَذْهب إلَيه ويجيء من عنده، فَذَاهَابُهُ يَخْلُفُ مجيئَهُ، ومجيئُهُ يخْلُفُ ذَهَابه، وكلُّ شيءٍ يجيء بعد شيءٍ آخَرَ، فهو خِلْفَةُ، وبهذا فَسَّرُوا قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً﴾ [الفرقان: ٦٢] ؛ ومنه قول زهير: [الطويل]
٨٦٢ - بِهَا الْعِينُ والأَرْآمُ يَمْشِينَ خِلْفَةً َأَطْلاَؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ
[المديد]
٨٦٣ - وَلَهَا بِالمَاطِرُونِ إِذَا أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي صَنَعَا
خِلْفَةٌ حَتَّى إِذَا ارْتَبَعَتْ سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيَعَا
الثاني: اختلاف الليل والنهار، في الطول والقِصَر، والنور والظلمة، والزيادة والنقصان.
118
قال الكسائي:» يقال لكُلِّ شيئَيْن اختَلفَا: هُمَا خلَفَان «.
قال ابن الخطيبِ: وعندي فيه وجهٌ ثالثٌ، [وهو] أنَّ اللَّيْل والنهارَ كما يختلفان بالطُّول والقِصَرِ في الأزمِنَةِ، فهُمَا يختلفَانِ في الأمكنةِ فإنَّ مَنْ يقول: إِنَّ الأرض كُرَةٌ، فكلُّ ساعةٍ عنيتها، فتلْكَ الساعةُ في موضِع مِنَ الأرض صُبحٌ، وفي موضِعٍ آخَرَ ظُهْرٌ، وفي آخرَ عَصْرٌ وفي آخَرَ مَغْرِبٌ، وفي آخَرَ عِشَاءٌ، وهلُمَّ جرّاً، هذا إذا [اعتبرنا البلادَ المُخْتلفَةَ في الطُول، أما البلادُ المختلفَةُ] في العَرْضِ، فكُلُّ بَلَدٍ يكُونُ عَرْضُهُ الشماليُّ أكْثَرَ، كانَتْ أَيَّامُهُ الصيفيَّة أطْوَلَ وليالِيهِ الصَّيفيَّةُ أقْصَرَ، وأَيَّامُهُ الشتويَّة بالضِّدِّ مِنْ ذلك، فهذه الأحوالُ المختلفةُ في الأيَّام واللَّيالي بحَسَب اختلاف أَطْوالِ البلاَد وعُرُوضها أمْرٌ عجيبٌ مختلفٌ.
وأيضاً: فإنَّ إقْبال الخَلق في أوَّل الليل على النَّوم يُشْبه مَوْتَ الخلائِق عند النَّفخةِ الأولى في الصُّور، ويقظتهم آخِرَ اللَّيْل يشبهُ عَوْدَة الحياة إليهم عند النَّفخة الثانية، هذا أيضاً من الآياتِ العَظِيمة.
وأيضاً: انشقاقُ ظُلمة الليْلِ بظهورِ الصُّبْحِ المستطيل كأنَّهُ جَدولُ ماءٍ صافٍ يَسيلُ في بَحْرِ كَدِرٍ بحيث لا يتكدّر الصَّافي بالكَدِرِ، ولاَ الكَدرُ الصافي، وهو المرادُ بقوله: ﴿فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً﴾ [الأنعام: ٩٦].
قال علماءُ الهَيْئَة: إنَّ الموضع الذي يكون القُطب فيه على سَمْتِ الرأسِ تكُونُ السَّنَةُ فيه [سِتَّةَ أشهرٍ نهاراً] وستَّةُ أشْهُرٍ ليلاً، وهناكَ لا يَتِمُّ النُّضج، ولا يصلحُ لِمَسْكنِ الحيوانِ ولا يتهيأُ فيه سبَبٌ من أسْبَاب المَعيشة.

فصل في أصل الليل


اختلفُوا؛ قيل: الليلُ: اسم جنس، فيفرق بَيْن واحد وجمعه بتاء التأنيث؛ فيقال: لَيْلَةٌ وَلَيْلٌ؛ كتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ، واللَّيالي جمعُ الجَمْعِ، والصحيحُ: أنَّهُ مفْرَدٌ، ولا يحفظ له جَمعٌ؛ وكذلك خطَّأ الناسُ مَنْ زعَمْ أنَّ «الليالي»
جَمْعُ «لَيْلٍ»، بل الليالي جمعُ «لَيْلَة» وهو جمعٌ غريبٌ، ولذلك قالُوا: هو جمعُ «لَيْلاَةٍ» تقديراً، وقد صُرِّح بهذا المفْرَدِ في قول الشَّاعر: [السريع أو الرجز]
٨٦٤ - في كُلِّ يَوْمٍ ما وَكُلِّ لَيْلاَهْ... حَتَّى يَقُولَ كُلُّ رَاءٍ إِذَا رَآهْ...
119
يَا وَيْحَهُ مِنْ جَمَلٍ مَا أَشْقَاهْ... ويدلُّ على ذلك تصيغرُهُمْ لها على «ليُبْلَةٍ» ونظيرُ «لَيْلَةٍ» و «ولَيَالٍ» :«كَيْكَةٌ وكَيَاك» ؛ كأنَّهم توهَّموا أَنَّاها «كَيْكَاتٌ» في الأصْل، والكَيْكَةُ: البَيْضَةُ.
وأمَّا النَّهار: فقال الرَّاغب: «هو في الشَّرْع: اسمٌ لما بين طُلُوع الفجر إلى غروب الشَّمس».
قال ابن فَارِس: «والنَّهارُ» : ضياءُ مَا بين طُلُوع الفَجْر إلى غُرُوب الشمس قال القرطبي: وهُوَ الصحيحُ؛ ويدلُّ عليه ما ثبت في «صحيح مُسْلِم» : عن عَدِيِّ بن حاتم، قال: لَمَّا نَزلَتْ: ﴿حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر﴾ [البقرة: ١٨٧] قال له عَدِيٌّ: يا رسول اللهِ، إنِّي جَعَلتُ تَحتَ وِسَادَتِي عِقَالَيْن؛ عِقَالاً أَبْيَضَ، وعِقَالاً أَسْوَدَ، أَعْرِفُ بهما اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَواتُ اللهِ البَرِّ الرَّحِيم وسَلاَمُهُ عَلَيْهِ -: «إِنَّ وسَادَكَ لَعَرِيضٌ» يعني إنَّما هو سوادُ الليْلِ وبياضُ النهارِ، وبهذَا يقْضِي الفقهُ في الأيْمَان، وبه ترتبطُ الأحْكام.
وظاهرُ اللُّغَة أنَّه مِنْ وَقْت الإسْفَار.
وقال ثعلب والنَّضْرُ بن شُمَيلٍ: «هو مِنْ طُلُوع الشَّمْس» زاد النَّضْرُ: ولا يعدُّ ما قبل ذلك مِنَ النَّهَار.
وقال الزَّجَّاج: «أوَّلُ النَّهار ذُرُورُ الشَّمْس».
ويُجْمَعُ على نُهُرٍ وأَنهِرَة؛ نحو: قَذالٍ، وقُذُلٍ، وأَقْذِلَة.
وقيل: لا يُجْمَعُ؛ لأنه بمنزلة المَصْدَر، [والصحيحُ: جمعُهُ على ما تقدَّم].
قال: [الراجز]
٨٦٥ - لَوْلاَ الثَّرِيدَان لَمُتْنَا بِالضُّمُرْ ثَرِيدُ لَيْلٍ، وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ
وقد تقدَّم اشتقاق هذه المادَّة، وأنَّها تدُلُّ على الاتِّسَاعِ، ومنه «النَّهَارُ» لا تِّسَاع ضَوْئه
120
عِنْد قوله: ﴿مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ [البقرة: ٢٥] قاله ابن عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: قال ابن فارس: ويقال: «إنَّ [النَّهارِ] فَرْخٌ الحَبَارَى» وقدم اللَّيْل على النَّهار لأنَّهُ سَابقُهُ؛
وقال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار﴾ [يس: ٣٧] وهذا أصحُّ القولَين.
وقيل: النُّورُ سابِقُ الظلمةِ، وينبني على هذا الخلافِ فائدةٌ، وهي أنَّ الليلة، هَلْ هي تابعةُ لليوم [قبْلَهَا، أو لِلْيَومِ بَعْدها.
فعلى الصَّحيح: يكونُ الليل للْيَوم بَعْدها، فيكونُ اليَوْم تابعاً لها، وعلى الثاني: تكونُ للْيَوْم قبْلَها، فتكون اللَّيلة تابعةً لها]
فيَوْمُ عَرَفَةَ؛ على الأوَّل: مستثنىً من الأصْلِ؛ فإنَّه تابعٌ لِلَّيْلة الَّتي بَعْده، وعلى الثاني: جاء على الأصْلِ.
قال القرطبي: وقسَّم ابن الأنباريّ الزَّمن ثلاثة أقسام:
قِسْماً جعَلَه لَيْلاً مَحْضاً؛ وهو مِنْ غُرُوب الشَّمْس إلى طُلُوعِ الفجر، وقِسْماً جعَلَهُ نهاراً مَحضاً، وهو مِنْ طُلُوع الشَّمْس إلى غُرُوبها، وقِسْماً جعَلَهُ مُشْترِكاً بين النَّهارِ واللَّيْلِ؛ وهو مِنْ طُلُوع الفجْر إلى طُلُوع الشَّمْس؛ لبقايا ظلمة اللَّيْل، [ومَبَادِئ ضَوء النَّهار].
قوله تعالى: «وَالفُلْك» عَطْفٌ على «خَلْقٍ» المجرورة ب «فِي» لا على «السَّمَواتِ» المجرورة بالإضافة، و «الفُلْك» يكونُ واحداً؛ كقوله: ﴿فِي الفلك المشحون﴾ [يس: ٤١]، وجَمْعاً كقَوْله: «في الفُلْكِ ﴿فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢] فإذا أُرِيدَ به الجَمْعُ، ففيه أقوالٌ:
أصحُّها - وهو قولُ سيبويه -: أنَّهْ جَمع تَكْسيرٍ، وإنْ قيل: جمْعُ التكسيرِ لا بُدَّ فيه من تَغَيُّرٍ ما، فالجَوَابُ: أنَّ تغييره مقدَّرُ، فالضمة في حال كونِهِ جَمْعاً، كالضمة في»
حُمُرٍ «و» نُدُبٍ «وفي حال كون مفرداً، كالضَّمَّة في» قُفْلٍ «، وإنَّما حمل سيبيوه على هذا، ولم يجعلهُ مشتركاً بين الواحد والجمع؛ نحو:» جُنُبٍ «و» شُلُلٍ « [فلَمَّا ثَنَّوْهُ، وقالوا: فُلْكَانٍ، علمْنا] أنَّهم لم يَقْصِدُوا الاشْتراك الَّذي قصَدُوه في» جُنُبٍ «و» شُلُل «ونظيرُه ناقَةٌ هِجَانٌ ونُوقٌ هِجَانٌ، ودرْعٌ دِلاَصٌ، ودُرُوعٌ دِلاَصٌ، فالكَسْرة في المفرد كالكسرة في» كِتَاب «وفي الجمع كالكسرة في» رِجَال «؛ لأنهم قالوا في التَّثْنيَة: هِجَانَانِ ودِلاَصَانِ.
الثاني: مذهب الأخفش: أنَّه اسم جمع، كصحبٍ، وركبٍ.
الثالث: أنَّه جمع «فَلَكٍ»
بفتحتين، كأسدٍ وأُسدٍ، واختار أبو حيَّان أنه مشتركٌ بين
121
الواحد والجمع، وهو محجوجٌ بما تقدَّم من التثنية، ولم يذكر لاختياره وجهاً، وإذا أفرد «فلك» ن فهو مذكَّر؛ قال تعالى: ﴿فِي الفلك المشحون﴾ [يس: ٤١]. وقال جماعةٌ، منهم أبو البقاء: يجوزُ تَأْنيثُهُ؛ مستدلِّين بقوله: ﴿والفلك التي تَجْرِي فِي البحر﴾ فوصفه بصفة التأنيث، ولا دليل في ذلك؛ لاحتمال أن يراد به الجمع؛ وحينئذٍ فيوصف بما يوصف به المؤنثة الواحد.
قال الواحديُّ: وأصله من الدَّوَرَان، فكل مستدير فلك، ومنه «فَلَكُ السَّمَاءٍ» ؛ لدوران النُّجوم فيه، و «فَلْكَةُ المِغْزَلِ» [وفَلكَتِ الجَارِيَةُ: استدارَ نَهْدُها]، وسُمِّيت السَّفينة فُلْكا لأنَّها تدور بالماء أسهل دورٍ.
وجاء بصلة «الَّتِي» فعلاً مضارعاً؛ ليدلَّ على التجدُّد والحدوث، وإسناد الجري إليها مجازٌ، وقوله: «فِي البَحْرِ» توكيدٌ؛ إذ المعلوم أنَّها تجري في غيره؛ كقوله ﴿يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨].

فصل في عدد البحور


قال ابنُ الخَطِيبِ - رَحِمَهُ اللهُ - قيل: إنَّ البُحُورَ المَعْرُوفَةَ [خَمْسَةٌ] : بحرُ الهند: وهو بحرُ الصِّين، وبحرُ المغرب، وبحر الشَّام، وبحر الرُّوم [ومِصْر] وبحر نيطش وبحر جُرْجان.
فالأوَّل يمتدُّ طوله [من المغرب إلى المَشْرقِ]، من أقصى أرض الحبشة إلى أٌصى أرض الهند، ويخرج منه خليج عند أرض الحبشة يمتد إلى ناحية البربر، يسمَّى البربريُّ، وخليج بحر أيلة، وهو بحر القلزم، ينتهي إلى البحر الأخضر على شرقيّ أرض اليمن وعلى غربيّ أرض الحبشة، وخليج بحر فارس يسمى الفارسي وهو بحر البصرة على شرقي تيز ومكران، وعلى غربيه غمان وبين هذين الخليجين خليج أيلة، وخليج فارس الحجاز واليمن، وبلاد المغرب وخليج رابع إلى أٌصى الهند يسمَّى الأخضر، وفي بحر الهند ألف وثلثمائة وسبعون جزيرة منها سرنديب عند بلاد الصين يحيط بها لثلاثة الآف ميل فيها جبالٌ وأنهارٌ، ومنها يخرجُ الياقوتُ الأحمر.
وأمَّا بحر المغرب، فهو المحيط ويسمِّيه اليونانيُّون: أوقيانوس، ويتًّل به بحر الهند، وطرفه في ناحية المغرب والشمال محاذياً لأرض الروم والصقالبة ويأخذ في الجنوب محاذياً لأرض السُّودان مارّاً على [حدود السّوس، وطنحة وتاهرت]، ثم الأندلس والجلالقة والصَّقالبة، ثم يمتد من هناك وراء الجبال غير المسلوكة والأراضي غير المسكونة نحو بحر المشرق، وهذا البحر لا تجري فيه السُّفن إلا بقرب ساحله، وفيه
122
ستُّ جزائر تسمى الخالدات، تقابل أرض الحبشة، ويخرج منه خليجٌ عظيمٌ يمتد إلى أرض بلغار.
وأما بحر الرُّوم وإفريقية [ومصر والشَّام:] فيخرج منه إلى أرض البربر، وفي هذا البحر مائة واثنتان وستُّون جزيرةً.
وأما بحر نيطش: فيمتدُّ من اللاذقيَّة إلى خلف قسطنطينيَّة، وأرض الرُّوم والصَّقالبة.
وأمَّا بحر جرجان، ويعرف ب «بحر السُّكون» فيمتدُّ إلى طبرستان والدَّيلم، وباب الأبواب، وليس يتصل ببحر آخر، فهذه هي [البُحُور] العظامُ، وأما غيرها: فهي بَطَائح؛ كبحيرة خوارزم، وبحيرة طبريَّة.

فصل في سبب تسمية البحر بالبحر


قال اللَّيثُ: سمي البحر بحراً؛ لاستبحاره، وهو سعته وانبساطه، ويقال: استبحر فلانٌ [في العلم]، إذا اتَّسَعَ فيه؛ وتَبَحَّر الرَّاعي في الرَّعي كَثُرَ، وتبحَّر فلانٌ في المال.
وقال غيره: سُمِّيَ البحر بحراً؛ لأنَّه شقّ في الأرض، والبحر الشَّقُّ، ومنه البُحَيْرَة.
قوله تعالى: «بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ». [في «ما» قولان:
أحدها: أنها موصولة اسميَّةٌ؛ وعلى هذا: الباء للحال، أي: تجري مصحوبةً بالأعيان الَّتي تنفعُ النَّاس.
الثَّاني: أنها] حرفيَّةٌ، وعلى هذا تكونُ الباءُ للسَّببب، أي: تجري بسَبَبِ نفع النَّاس في التِّجارة وغيرها.

فصل في الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع.


فأما كيفيَّة الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصَّانع تعالى وتقدَّس:
فهو أنَّ السُّفُن، وإن كانت من تركيب النَّاس إلاَّ أنَّه تعالى [هو الَّذي] خلق الآلات الَّتي يمكن بها تركيب هذه السُّفُن، وتبحرُ بها الرياح، وقوَّى قلوبَ من ركِبَها، وخصَّ كُلَّ طَرَفٍ من أطراف العالم بشيءٍ معيَّن، وأحوج الكُلَّ إلى الكُلِّ؛ حتَّى صار ذلك داعِياً يدعوهم إلى اقتحامِ هذه الأخطار في هذه الأسفار، ويخَّر البحر لحمل الفلك، مع قوَّة سلطان البحر إذا هاج، وعظُم هوله، واضطربت أمواجه، مع ما فيه من الحيوانات العظيمة ثم إنه تبارك وتعالى يُخَلِّص السُّفُن عنها ويوصِّلاه إلى ساحل السَّلامة، وهذا أمرٌ
123
لا بد له من مدَبِّر، ومقتدر يحفظه، وهذه الآية الكريمة تدلُّ على إباحة ركوب البحر وعلى إباحة الاكتساب، والتِّجارة؛ قوله: «بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ».

فصل في بيان الحالة المستثناة في ركوب البحر


البحر إذا أرتج، لم يجز ركوبه لأحدٍ بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه، ولا في الزَّمن الذي الأغلب فيه عدم السَّلامة؛ وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمنٍ يكون الالب فيه السلامة -[نقله القُرْطُبيُّ].
قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ﴾ [البقرة: ١٦٤] [ «من» ] الأولى معناها ابتداءُ الغاية، أي: أنزل من جهة السماء، واما الثانيةُ فتحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون لبيان الجِنسِ فإنَّ المنزل من السَّماء ماءٌ وغيره.
والثاني: أن تكون للتَّبعيض؛ فإنَّ المنزل منه بعضٌ لا كلٌّ.
والثالث: أن تكون هي وما بعدها بدلاً من قوله: «من السماء» بدل اشتمالٍ بتكرير العامل، وكلاهما أعني «مِن» الأولى، و «مِن» الثانية متعلِّقان ب «أَنْزَلَ».
فالجوابُ: أنَّ الممنوع من ذلك أن يتَّحدا معنًى من غير عطف، ولا بدلٍ، لا تقول: أَخَذْتُ من الدَّرَاهِمِ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَأَمَّا الآية الكريمة: فإنَّ المحذورَ فيه مُنْتَفٍ، وذلك أنَّك إن جَعَلْتَ «مِنَ» الثانية للبيان، أو للتبعيض، فظاهرٌ؛ لاختلاف معناهما؛ فإنَّ الأولى للابتداء، وإن جعلناها لابتداء الغاية، فهي وما بعدها بدلٌ، والبدلُ يجوز ذلك فيه، كما تقدَّم، ويجوز أن تتعلَّق «مِن» الأولى بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ؛ إمَّا من الموصول نفسه، وهو «مَا»، أو من ضميره المنصوب ب «أنْزَلَ»، أي: وما أَنْزَلَ اللهُ حالَ كَوْنِهِ كائناً من السَّماء.

فصل في أن إنزال الماء من السماء آية دالَّة على وجود الصانع


قيل: أراد بالسَّماء السَّحَابَ؛ فإنَّ كلَّ ما علاك يُسَمَّى سماءً، ومنه قيل: سَقْفُ البيت سماؤُهُ، وقيل: أراد السَّماء المعرفة، وأنَّه ينزل من السَّماء إلى السَّحاب، ومن السحاب إلى الأرض، وفي دلالة إنزالِ الماء من السَّماء على وجود الصَّانع: أنَّ جسم الماء، وما قام به من صفات الرَّقَّة، والرُّطوبة، واللَّطَافة والعُذُوبة، وجعله سبباً لحياة الإنسان، ولأكثر [منافعه]، وسبباً لرزقه، وكونه من السحاب معلَّقاً في جَوِّ السَّماء، وينزل عند التضرُّع، واحتياج الخلق إليه - مقدار المنفعة، وسوقه إلى بلد ميِّتئن فحيي به -
124
من الآيات العظيمة الدَّالَّة على وجود الصانع المدبِّر القدير.
قوله تعالى: «فَأَحْيَا بِهِ» عطف «أحْيَا» على «أَنْزَلَ» الَّذي هو صلة بفاء التَّعقيب، دلالة على سُرعة النبات، و «بِهِ» متعلِّق ب «أَحْيَا» والباءُ يجوزُ أن تكون للسَّبب، وأن تكون باء الإله، وكلُّ هذا مجازٌ؛ فإنَّه متعالٍ عن ذلك، والضميرُ في «به» يعود على الموصول.

فصل في دلالة إحياء الأرض بعد موتها على وجود الصانع


اعلم أنَّ «أحْيَا الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا» يدلُّ على وجود الصانع من وجوه:
[فإنَّ نفس الزَّرع وخروجه على هذا الحدِّ ليس في مقدور أحدٍ.
واختلاف ألوانه على وجه] [لا يُحَدُّ، ولا يُحْصَى]، واختلاف الطُّعُوم والروائح، مع كونه يسقى بماء واحدٍ.
واستمرار العادة بذلك في أوقات مخصوصةٍ، فإنَّ ظهور النَّبات من الكلأ، والعشب، وغيرهما، لولاه ما عاش دوابُّ الأرض، ولما حصلت أقوات العباد [وملابسهم].
وهذا لا بُدَّ له من [مُدَبِّر]، حكيمٍ، قادرٍ.
وووصف اأرض بالحاية بعد الموت مجازٌ؛ لأنَّ الحياة لا تصحُّ إلاَّ على من يدرك، ويصحُّ أن يعلم، وكذلك الموت؛ إلاَّ أنَّ الجسم، إذا صار حيّاً، حصل فيه أنواعٌ من الحسن، ونضرة، ونور، ورونق، وذلك لشبهه [بالحياة]، وموتها [يبسها، وجدبها]، وهذا مجاز أيضاً؛ لشبهة بالموت.
قوله تعالى: «وَبَثَّ فِيهَا» يجوز في «بَثَّ» وجهان:
أظهرهما: أنَّهما عطفٌ على «أَنْزَلَ» داخلٌ تحت حُكم الصِّلة؛ لأنَّ قوله «فَأَحْيَا» عطفٌ على «أَنْزَلَ» فاتصل به، وصارا جميعاً كالشَّيء الواحد، وكأنه قيل: «وَمَا أَنْزَلَ في الأَرْضِ مِنْ مَاءٍ، وبَثَّ فيها من كُلِّ دابِّة؛ لأنَّهم يَنْمُونَ بالخِصْبِ، ويَعِيشُون بالحَيَا» : قاله الزمخشريُّ.
والثاني: أنه عطفٌ على «أَحْيَا».
واستشكل أبو حيَّان عطفه [عليها؛ لأنَّها صلةٌ للموصول، فلا بُدَّ من ضمير يرجع
125
من هذه الجملة إليه، وليس ثمَّ ضميرٌ في اللَّفظ] ؛ لأن «فيها» يعود على الأَرْض، فبقي أن يكون محذوفاً، تقديره: وبَثَّ به فيها، ولكن لا يجوز حذف الضمير المجرورة بحرف إلا بشروطٍ:
أن يكون الموصول مجروراً بمثل ذلك الحرف.
وأن يتَّحِد متعلَّقهما.
وألاَّ يُحْصَرَ الضَّميرُ.
وأن يتعيَّن للرَّبط.
وألا يكون الجارُ قائماً مقام مرفوعٍ.
والموصول هنا غير مجرورٍ ألبتَّة، ولمَّا استشكل هذا بما ذكر، خرَّج الآية على حذف موصول اسميٍّ؛ قال: وهو جائزُ شائعٌ في كلامهم، وإن كان البصريُّون لا يجيزُونه؛ وأنشد شَاهِداً عليه: [الخفيف]
٨٦٦ - مَا الَّذِي دَأْبَهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ وَهَوَاهُ أَطَاعَ يَسْتَوِيَانِ
أي: والَّذي أَطَاعَ؛ وقوله: [الوافر]
٨٦٧ - أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
أي: ومن [يَمْدَحُهُ] وَيَنْصُرُهُ.
وقوله: [الطويل]
٨٦٨ - فَوَاللهِ، مَا نِلْتُمْ وَمَا نِيلَ مِنْكُمُ بِمُعْتَدِلٍ وَفْقٍ وَلاَ مُتَقَارِبِ
أي: «مَا الَّذِي نِلْتُمْ»، وقوله تعالى: ﴿وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ [العنكبوت: ٤٦] ؛ ليطابق قوله: ﴿والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ﴾ [النساء: ١٣٦]، ثم قال: وقد يتمشَّى التقدير الأوَّل - يعني: جواز الحذف - وإن لم يوجد شرطه. قال: وقد جاء ذلك في أشعارِهِم؛ وأنشد: [الطويل]
126
أي: عَلْقَمٌ عَلَيْهِ، وقوله: [الطويل]
٨٦٩ - وَإشنَّ لِسَانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا وَهُوَّ عَلَى مَْ صَبَّهُ اللهُ عَلْقَمُ
٨٧٠ - لَعَلَّ الًَّذِي أَصْعَدْتنِي أنْ يَرُدَّنِي إلى الأَرْضِ إشنْ لَمْ يَقْدِرِ الخَيْرَ قَادِرُهُ
أي: أصْعَدتنِي بِهِ.
[قوله تعالى: «مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» يجوز في «كُلِّ» ثلاثة أوجُهٍ:
أحدها: أن يكون ي موضع المفعول به]، وتكون «مِنْ» تبعيضيَّةً.
الثاني: [أن تكون «مِنْ» زائدةً على مذهب الأخفش، و «كُلِّ دَابَّةٍ» مفعولٌ به ل «بَثَّ» أيضاً.
والثالث] : أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول «بَثَّ» المحذوف، إذَا قلنا: إنَّ ثَمَّ موصولاً محذوفاً، تقديره: وما بَثَّ حال كونه كائناً من كُلِّ دابَّةٍ؛ وفي «مِنْ» حينئذٍ وجهان:
أحدهما: ﴿أن تكون للبيان.
والثاني] : أن تكون للتبعيض.
وقال أبو البَقَاءِ رَحِمَهُ اللهُ: ومفعول «بَثَّ» محذوفٌ، تقديره: {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾
وظاهرُ هذا أنَّ «مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» : صفةٌ لذلك المحذوف، {وهو تقديرٌ لا طائلَ تحته].
والبَثُّ: نَشْرٌ وتفريقٌ.
قال: [الطويل]
٨٧١ -........................ وَفِي الأضرْضِ مَبْثُوثاً شُجَاعٌ وَعَقْرَبُ
ومضارِعُه: يَبُثُّ، بضم العين، وهو قياسُ المُضَاعف [المُتَعَدِّي]، وقد جاء الكَسر في أُلَيْفَاظٍ؛ قالوا: «نَمَّ الحديثَ يَنُمُّهُ» بالوجهين.
والدَّابَّةُ: اسمٌ لكلِّ حيوانٍ، وزَعَمَ بعضهم إخراج الطَّير منه، ورُدَّ [عليه] بقول عَلْقَمَةَ: [الطويل]
127
وبقول الأعْشَى: [الطويل]
٨٧٣ -......................... دَبِيبَ قَطَا البَطْحَاءِ في كُلِّ مَنْهِلِ
وبقوله سبحانه: ﴿والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ﴾ [النور: ٤٥] ثمَّ فَصَّل: بمن يمشي على رجلين، وهو الأإنسان والطَّير.

فصل في أنَّ حدوث الدواب دليل على وجود الصانع


اعلم أنَّ حدوث الحيوانات قد يكون بالتَّوليد، وقد يكون بالتَّوَالد:
وعلى التقديرين: فلا بُدَّ فيهما من [الافتقار إلى] الصَّانع الحَكِيم؛ يُرْوَى أنَّ رَجُلاً قال عند عُمَرَ بن الخَطَّاب - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: إنِّي لاأَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِ الشِّطْرَنْجِ، فإنَّ رُقْعَتَهُ ذِرَاعٌ في ذِرَاع، وإنَّه لَوْ لَعِبَ الإِنْسَانُ ألْفِ مَرَّةٍ، فَإِنَّه لا يَتَّفِقُ مَرَّتَان على وجه واحد، فقال عمر بن الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه وعن الصحابة أجمعين -: ههنا ما هو أَعجيب منه، وهو أنَّ مقدار الوجه شبرٌ [في شبرٍ]، ثم إن موضع الأعضاء التي فيه؛ كالحاجبين، والعينين، والأنف، [والفم]، لا يتغيَّر ألبَتَّة، ثم إنَّك لا ترى ضخصين في الشَّرق والغرب يشتبهان في الصُّورة، وكذا اللَّون، والألسنة، والطِّباع، والأمزجة، والصَّوت، والكثافة، واللَّطَافة، والرِّقَّة، والغلظ، والطُّول، والقصر، وبقيَّة الأعضاء، والبَلاَدة، وافِطنة، فما أعظم تلك المقدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرُّقعة الصَّغيرة هذه الاختلافات الَّتي لا حدَّ لها!
ورُوِيَ عن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه -[أنه قال] :«سُبْحَانَ مَنْ أَبْصَرَ بِشَحْمٍ، وأَسْمَعَ بعَظْمٍ، وأنْطَقَ بلَحْمٍ».
واعلَمْ أنَّ أهل الطبائع؛ قالوا: أعلى العناصر يجبُ أن يكون هو النَّار؛ لأنّها حارَّةٌ يابسةٌ، ودونها في اللَّطافة: الهواء، وهو حارٌّ رطبٌ، ودونها: الماء؛ لأنَّه باردٌ رطبٌ، والأرض لا بدَّ أن تكون تحت الكُلِّ؛ لثقلها، وكثافتها، [ويُبْسها]، ثُمَّ إنَّهم قلبوا هذه القضيَّة في [تركيب] بَدنِ الإنسان؛ لأنَّ أعلى الأعضاء منه عظم القحف، والعظم وهو باردٌ يابسٌ، فطبيعته على طبيعة الأرض، وتحته الدِّماغُ، وهو باردٌ رطبٌ على طبع الماء، وتحته النَّفَسُ، وهو حارٌّ رطبٌ على طبع الهواء، وتحت الكل: القلبُ، وهو حارٌّ يابسٌ
128
على طبع النَّار، فسبحان من [بيده قلبُ] الطبائع، وترتيبها كيف يشاء، وتركيبها كيف أراد.
ومن هذا الباب: أنَّ كُلَّ صانعٍ يأتي بنقشٍ لطيفٍ، فإنَّه يصونه عن التُّراب؛ لئلاَّ يكدِّره، وعن النار؛ لئلاَّ تحرقه، وعن الهواء؛ لئلاَّ يغيره، وعن الماءِ؛ لئلا تذهب به، ثم إنَّه سبحانه وتعالى وضع نقش خلقته على هذه الأشياء؛ فقال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾ [آل عمران: ٥٩]، وقال في النار ﴿وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ﴾ [الرحمن: ١٥] وقال تعالى ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا﴾ [الأنبياء: ٩١] وقال تعالى في الماءِ: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأنبياء: ٣٠] ؛ وهذا يدلُّ على أن صنعه بخلاف صنع كُلِّ أحدٍ؛ وأيضاً: انظر إلى الطِّفل بعد افنصاله من أُمّشه، لو وضعت على فمه وأنفه ثوباً [فانْقَطَع نَفَسُه]، لمات في الحَال، ثمَّ إن بَقِيَ في الرَّحم المنطبق مدَّةً [مديدةً]، مع تعذُّر النَّفس هناك، ولم يمُتْ، [ثم إنَّهُ] بعد الانفصال يكون من أضعف الأشياء، وأبعدها عن الفهم؛ بحيث لا يميز بين الماء والنَّار، وبين الأُم وغيرها، وبعد استكماله يصير أكل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك، ليعلم أنَّ ذلك من عظمة القادر الحكيم، هذا بعض ما في الإنسان.
وأمَّا الكلام على بقيَّة الحيوان، فبَحْرٌ لا ساحل له.
قوله تعالى: «وَتَصْرِيفِ الرَّيِاحِ» :«تَصْرِيفِ» : مصدرُ «صَرَّفَ»، وهو الرَّدُّ والتَّقْلِيب، ويجوزُ أنْ يكون مضافاً للفاعل، والمفعول محذوف، تقديره: [وتصريف الرِّياح السَّحَابَح فإنَّها تسوق السَّحاب، وأن يكون مضافاً للمفعول، والفاعل محذوفٌ، أي:] وتصريفُ الله الرِّياح، والرِّياح: جمعُ «رِيح»، جمع تكسير، وياء الرِّيح، والرِّياح عن واو، والأصلُ «روحٌ» ؛ لأنَّه من: رَاحَ يَرُوحُ، وإنَّما قُلِبَتْ في «ريح» ؛ لِسُكُونها، وانكسار ما قَبْلها، وفي «رِيِاح» ؛ لأنَّها عينٌ [في جمع] بعد كسرةٍ، وبعدها ألفٌ، وهي ساكنةٌ في المفرد، وهي إبدالٌ مطَّردٌ؛ ولذلك لمَّا زال موجب [قلبها، رجعت إلى أصلها] ؛ فقالوا: أرواحٌ؛ قال: [الطويل]
٨٧٢ - كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ
٨٧٤ - أَرَبَّتْ بِهَا الأَرْوَاحُ كُلَّ عَشِيَّةِ فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ آلُ خَيْمٍ مُنَضَّدِ
ومثله: [الوافر]
129

فصل في لحن من قال: الأرياح


وقد لَحَنَ عَمَارَةُ بْنُ بِلاَلٍ، فقال «الأرْيَاحَ» في شعره، فقال له أبو حَاتِم: «إنَّ الأرْيَاحَ لا تجُوزُ» فقال له عمارةُ: ألاَ تَسْمَعُ قولهم: رِيَاحٌ؟ فقال أبو حاتمِ: هذا خلاف ذلك، فقال: صَدَقْتَ، ورجع.
قال أبُو حَيَّان: وفي محفوطي قديماً؛ أنَّ «الأَرْيَاح» جاء في شعر بعض فُصَحَاءِ العَرَب المستَشْهَد بكلامهم، كأنَّهم بنوه على المفرد، وإن كانت علّضة القلب مفقودةً في الجمع، كما قالوا: «عيدٌ وأعْيَادٌ» والأصلُ «أَعْوَاد» ؛ لأنَّه من: «عَادَ يَعُودُ»، لكنه لما ترك البَدَل، جعل كالحرف الأصليِّ.
قال شِهِابُ الدِّيِن: ويؤيد ما قاله الشَّيْخُ أن التزامَهُمُ «الياء» في «الأَرْيَاحِ» ؛ لأجل اللَّبس [بينه، وبين «أَرْوَاح» جمع «رُوح»، كام قالوا: التُزمت الياء في «أعْيَاد؛ فَرْقاً] بينه وبين» أعْوَاد «جمع عود الحطب؛ كما قالوا في التصغير:» عُيَيْد «دون» عُوَيْد «؛ وعلَّلوه باللَّبْس المذكور.
وقال أبو عليٍّ: [يجمع] في القليل»
أرْوَاح «وفي الكثير» رِيَاح «.
قال ابن الخطيب وابن عطِيَّة:»
وجاءت في القرآن مجموعةً مع الرَّحمة، مفردةً مع العذابِ، إلاَّ في قوله تعالى: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾
[يونس: ٢٢] وهذا أغلب وقوعها في الكلام، وفي الحديث: «اللهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحاً، وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحاً» ؛ لأنَّ رِيحَ العذَابِ شديدةٌ ملتئمةُ الأجْزاءِ، كأنَّهَا جسْمٌ واحدٌ، وريح الرَّحْمَة ليِّنَةٌ متقطِّعَةٌ، وإنما أُفْرِدَتْ مع الفُلْكِ - يعني في يونس - لأنَّها لإجراء السُّفُن، وهي واحدةٌ متَّصِلَةٌ؛ ثمَّ وصفت بالطَّيِّبَةِ، فزال الاشتراك بينها، وبين ريح العذاب «. انتهى.
وردَّ بعضهم هذا؛ باختلاف القُرَّاء في اثْنِي عَشَرَ موضعاً في القرآن، وهذا لا يَرُدُّه لأنَّ من جمع في الرَّحمة، فقد أتى بالأصل المُشِار إليه، ومن أفرد في الرّحمة، فقد أراد الجنس، [وأما الجمع في العذاب، فلم يأتِ أصلاً]، وإما الإفراد فإن وصف، كما في يونس من قوله:»
بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ «فإنَّه مزيلٌ للَّبس، وإن أطْلَقَ، كان للعذَابِ، كما في الحديث، وقد تختصُّ اللفظة في القرآن بشيءٍ، فيكون أمارةً له، فمن ذلك: ان عامَّة ما في القرآن من قوله: ﴿يُدْرِيكَ﴾ [الشورى: ١٧] مبهمٌ غير مبيَّن، قال تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ﴾ [الشورى: ١٧] وما كان من لفظ» أَدْرَاك «فإنَّه مفسَّر؛ كقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ [القارعة: ١٠ - ١١].
130
وقرأ حَمْزَةُ، والكسائيُّ هنا» الرِّيح «بالإفراد، والباقون بالجَمع، فالجمع لاختلاف أناوعها: جَنُوباً ودَبُوراً وصَباً وغير ذلك، وإفرادها على إرادة الجنس، وكلُّ ريح في القرآن ليس فيها ألفٌ ولامٌ، اتفق القرَّاء على توحيدها، وما فيها ألف ولام، اختلفوا في جمعها، وتوحيدها، إلاَّ الرِّيح العقيم في سورة الذَّاريات [٤١]، اتفقوا على توحيدها، والحرف الأوَّل من سورة الروم ﴿الرياح مُبَشِّرَاتٍ﴾ [الروم: ٤٦] اتفقوا على جمعها، والرِّياح: تذكَّر، تؤنَّث.

فصل في بيان تصريف الرياح


وأمَّا تصريفها: فإنها تُصرَّفُ إلى الشَّمال والجنوب والقبول والدَّبور، وما بين كلِّ واحدٍ من هذه المهابِّ، فهي نكباء، وقيل في تصريفها: إنها تارةً تكون ليِّنة، وتارةً تكون عاصفةٌ، [وتارةً حارَّةً]، وتارة باردةً.
قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما -: أعظم جنود الله تعالى الرِّيح، والماء، وسمِّيت الرِّيح ريحاً؛ لأنها تريح النفوس.
قال القاضي شريح: ما هبَّت ريحٌ إلاَّ لشفاء سقيم، ولسقيم صحيحٍ. والبشارة في ثلاثة من الرِّياح، في الصَّبا، والشَّمال، والجنوب، وأمَّا الدَّبور، فهي: الرِّيح العقيم، لا بشارة فيها.
وقيل: الرِّياح ثمانيةٌ: أربعةٌ للرَّحمة: المبشرات، والنَّاشرات، والذَّاريات، والمرسلات، وأربعة للعذاب: العقيم، والصَّرصر في البرِّ، والعاصف والقاصف في البحر.
روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه -: فروح الله سبحانه وتعالى] تأتي
131
بالرَّحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبُّوها واسألوا الله من خيرها، واستعيذوا بالله من شرِّها.
قال ابن الأعرابيِّ: النَّسيم أوَّل هبوب الريح.

فصل في بيان دلالة الآية على الوحدانية


فأما وجه الاستدلال بها على وحدانيَّة الله تعالى الصَّانع، فإنَّه صرَّفها على وجه النَّفع العظيم في الحيوان، فإنَّها مادَّة النَّفس الَّذي لو انقطع ساعةً في الحيوان، لمات.
قيل: إنَّ كلَّ ما كانت الحاجة إليه أشدَّ، كان وجدانه أسهل، ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات؛ حتى لو انقطع عنه لحظة، لمات؛ لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كلِّ شيءٍ.
وبعد الهواء الماء؛ لأنَّ الحاجة إلى الماء أيضاً شديدةٌ؛ فلا جرم أيضاً سهل وجدان الماء، ولكنَّ وجدان الهواء أسهل؛ لأنَّ الماء لا بُدَّ من تكلُّف الاغتراف، بخلاف الهواء؛ فإنَّ الآلات المهيئة لجذبه حاضرةٌ أبداً.
ثم بعد الماء: الحاجة إلى الطَّعام شديدةٌ، ولكن دون الحاجة إلى الماء؛ فلا جرم كان تحصيل الطَّعام أصعب من تحصيل الماء؛ لأنَّه يحتاجُ إلى تكلُّفٍ أكثر، والمعاجين والأدوية تقلُّ الحاجة غليها؛ فلا جرم عسرت وقلَّت، ولمَّا عظمت الحاجة إلى رحمة الله تعالى، ننرجو أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كلِّ شيءٍ، ولولا تحرُّك الرياح، لما جرت الفلك، وذلك ممَّا لا يقدر عليه أحدٌ إلاَّ الله تعالى، فلو أراد كلُّ من في العالم ان يقلب الرياح من الشَّمال إلى الجنوب، او إذا كان الهواء ساكناً، أن يحركه، لم يقدر على ذلك.
قوله تعالى: «والسَّحَابِ» اسم جنس، واحدته «سَحَابَةٌ» [سُمِّي بذلك] ؛ لانسحابه في الهواء؛ كما قيل له «حَباً» لأنَّه يحبو، ذكره أبو عليٍّ.
قال القرطبيُّ: ويقال: سَحَبْتُ ذَيْلِي سَحْباً، وتَسَحَّبَ فُلاَنٌ على فُلاَنٍ؛ والسَّحْبُ شدة الأكل والشُّرب؛ وباعتبار كونه اسم جنس، وصفه بوصف الواحد المنكِّر في قوله: «المُسَخَّرِ» كقوله: ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ [القمر: ٢٠] ولما اعتبر معناه تارةً أخرى، وصفه بما يوصف به الجمع في قوله: «سَحَاباً ثِقَالاً» ويجوز أن يوصف به المؤنَّثة الواحدة؛ كقوله: ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٧] وهكذا: كلُّ اسم جنسٍ فيه لغتان: التذكير باعتبار اللّفظ، والتأنيث باعتبار المعنى.
والتَّسخير: التذليل، وجعل الشَّيء داخلاً تحت الطَّوْع، وقال الرَّاغب: هو القهر على الفعل، وهو أبلغ من الإكراه.
قوله تعالى: «بَيْنَ السَّماءِ والأَرْضِ» في «بَيْنَ» قولان:
132
أحدهما: أنه منصوبٌ بقوله: «المُسَخَّرِ» فيكون ظرفاً للتَّسخير.
ولاثاني: أن يكون حالاً من الضَّمير المستتر [في اسم المفعول] ؛ فيتعلَّق بمحذوف، أي: كائناً بين السَّماء والأرض، و «لآيَاتٍ» اسم «إنَّ»، والجارُ خبرٌ مقدَّمٌ، ودخلت اللاَّم على الاسم؛ لتأخُّره عن الخبر، ولو كان موضعه، لما جاز ذلك فيه.
وقوله: «لِقَوْمٍ» : في محلِّ نصبٍ، لأنَّه صفةٌ ل «آياتٍ»، فيتعلَّق بمحذوفٍ، وقوله: «يَعْقِلُونَ» : الجملة في محلِّ جرٍّ؛ لأنها صفةٌ ل «قَوْمٍ»، والله أعلم.
فصل في تفسير «السَّحَاب» روى ابن عبَّاس عن كعب الأحبار - رَضِيَ اللهُ عَنْه - قال: «السَّحَابُ غِرْبَالُ المَطَرِ، لَوْلاَ السَّحَابُ حِينَ ينزل المَاء مِنَ السَّمَاءِ، لأَفْسَدَ مَا يَقَعْ عَلَيْهِ مِنَ الأَرْضِ».
وقال ابن عَبَاسِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: سَمِعْتُ كَعْباً، يَقُولُ: إنَّ الأرْضَ تُنْبِتُ العام نباتاً، وتُنْبِتُ نَبَاتاً عَاماً قَابِلاً غَيْرَهُ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إنَّ البَذْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ المَطَرِ، فَيَخْرُجُ في الأَرْضِ.

فصل في الاستدلال بتسخير السحاب على وحدانية الله


في الاستدلال بتسخير السَّحاب على وحدانيَّة الصَّاع: أنَّ طبع الماء ثقيلٌ يقتضي النُّزول فكان بقاؤه في جوِّ الهواء على خلاف الطَّبع، فلا بُدَّ من قادرٍ قاهرٍ، يقهر على ذلك، فلذلك سمّضاه بالمسخَّر، وأيضاً: فإنَّه لو دام، لعظم ضرره من حيث إنَّه يستر ضوء الشَّمس، ويكثر [الأمطار، والابتلال]، ولو انقطع، لعظم ضرره؛ لأنَّه يفضي إلى القحط وعدم العشب، والزراعة؛ فكان تقديره بالمقدار المعلوم الذي يأتي في وقت الحاجة، ويزول عند زوال الحاجة بتقدير مقدِّرٍ قاهرٍ أيضاً؛ فإنَّه لا يقف في موضع معيَّن، بل الله تعالى يسيّره بواسطة تحريك الرِّياح إلى حيث شاء وأراد، وذلك هو التَّسخير.
روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه قال: «بَيْنَمَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتاً مِنَ سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ، فَتنَحَّى ذلك السَّحَابُ، فأفرغ ماءَهُ في جرَّةٍ، فإذا بشرجةٍ من تلك الشِّراج، وقد استوعتب ذلك الماء كلَّه، فتتبَّع الماء، فإذا رجلٌ قائمٌ في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله،
133
ما اسمك؟ قال: فلان؛ للاسم الذي سمع من السَّحاب، فقال له: يا عبد الله، لم تَسْأَلُني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتاً من السَّحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك، فماذا تصنع؟ قال: أمَّا إذا قلت هذا، فإنِّي أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدَّق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً وأردُ فيها ثلثه.»
وفي روايةٍ: «وأجعل ثلثه للمساكين، والسَّائلين، وابن السَّبيل»
قوله: «يَعْقِلُونَ»، أي: يعلمون لهذه الأشياء خالقاً وصانعاً.
قال القاضي: دلت الآية على أنَّه لو كان الحقُّ يدرك بالتقليد، واتباع الآباء، الجري على الإلف والعادة، لما صَحَّ قوله: «لآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»، وأيضاً: لو كانت المعارفُ ضروريَّةً، وحاصلةً بالإلهام، لما صَحَّ وصفُ هذه الأمُور بأنَّها آياتٌ؛ لأنَّ المعلومَ بالضَّرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات.
قال وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: ثلاثة لا يدرى من أين يَجِيء: الرَّعد، والبرق، والسَّحاب.
134
اعلم: أنه، سبحانه وتعالى، لمَّا قرَّر التوحيد بالدلائل العقلية القاطعة، أردفه بتقبيح ما يضاده؛ لأنَّ تقبيح ضد الشيء مما يوكِّد حسن الشَّيء.
قال الشاعر: [الكامل]
٨٧٦ -........................ وَبِضِدِّهَا تَتَبَيِّنُ الأَشْيَاءُ
وقالوا أرضاً: النِّعمة مجهولةٌ، فإذا فقدت عرفت، والنَّاس لا يعرفون قدر الصِّحَّة، فإذا مرضوا، ثم عادت الصحَّة إليهم، عرفوا قدرها، وكذا القول في جميع النِّعم، فلهذا السَّبب أردف الله تبارك وتعالى هذه الآية الدَّالَّة على التَّوحيد بهذه الآية الكريمة.
قوله تعالى: «مَنْ يَتَّخِذُ» «مَنْ» : في محلِّ رفع بالابتداء، وخبره الجارُّ قبله، ويجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون موصولةً.
والثاني: أن تكون موصوفةً.
فعلى الأوَّل: لا محلَّ للجملة بعدها. وعلى الثاني: محلُّها الرَّفع، أي: فريقٌ، أو
134
شخصٌ متَّخذٌ، وأفرد الضمير في «يَتَّخِذُ» ؛ حملاً على لفظ «مَنْ» و «يَتَّخِذُ» : يفتعل، من «الأَخْذ»، وهي متعدِّية إلى واحد، وهو «أنداداً».
قوله تعالى: «مِنْ دُونِ اللهِ» : متعلِّق ب «يَتَّخِدُ»، والمرابد ب «دُونِ» [هنا «غَيْرَ» ]. وأصلها إذا قلت: «اتَّخَذْتُ مِنْ دُونِكَ صَدِيقاً»، أصله: اتخذت من جهةٍ ومكانٍ دون جهتك، ومكانك صديقاً، فهو ظرف مجازيٌّ، وأذا كان المكان المتَّخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطَّةً عنه، ودونه؟ لزم أن يكون غيراً، [لأنه ليس إيَّاه، ثم حُذِف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، مع كونه غيراً]، فصارت دلالته على الغيريَّة بهذا الطريق، لا بطريق الوضع لغةً، وتقدَّم تقرير شيء من هذا أوَّل السُّورة.

فصل في اختلافهم في المراد بالأنداد


اختلفوا في «الأَنْدَاد»، فقال أكثر المفسِّرين: هي الأوثان التي اتَّخذوها آلهةً، ورجعوا من عندها النف والضُّرَّ، وقصدوها بالمسائل، وقرَّبوا لها القرابين؛ فعلى هذا: الأصنام بعضها لبعضٍ أندادٌ أي أمثالٌ، والمعنى: أنَّها أندادٌ لله تعالى؛ بحسب ظنونهم الفاسدة.
وقال السُّدِّيُّ: إنَّها السَّادة الَّذين كانوا يطيعونهم، فيحلون لمكان طاعتهم في أنَّهم يحلُّون ما حرّم الله، ويحرِّمون ما أحلَّ الله؛ ويدلُّ على هذا القول وجوه:
الأوَّل: ضمير العقلاء في «يُحِبُّونَهُمْ».
والثاني: يبعد أنَّهم كانوا يحبُّون الأصنام كحبِّ الله تعالى، مع علمهم بأنها لا تضر، ولا تنفع.
الثالث: قوله بعد هذه الآية: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا﴾ [البقرة: ١٦٦] ؛ وذلك لا يليق إلاَّ بالعقلاء.
وقال الصُّوفية: كلُّ شيءٍ شغلت قلبك به سوى الله تعالى، فقد جعلته في قلبك ندّاً لله تعالى؛ ويدلُّ عليه قوله تبارك وتعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ﴾ [الجاثية: ٢٣].
قوله تعالى: «يُحِبُّونَهُمْ» في هذ الجلمة ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون في محلِّ رفع؛ صفة ل «مِنْ» في أحد وجهيها، والضمير المرفوع يعود عليها؛ باعتبار المعنى، بعد باعتبار اللَّفظ في «يَتَّخِذُ».
135
والثاني: أن تكون في محلِّ نصبٍ؛ صفةً ل «أَنْدَاداً»، والضمير المنصوب يعود عليهم، والمراد بهم الأصنام؛ وإنَّما جمعوا جمع العقلاء؛ [لمعاملتهم له معاملة العقلاء، أو يكون المراد بهم: من عبد من دون الله من العقلاء] وغيره، ثم غلب العقلاء على غيرهم.
قال ابْنُ كَيْسَانَ، والزَّجَّاجُ: معناه: كَحُبِّ الله، أي: يسوُّون بين الأصنام وبين الله تبارك وتعالى في المحبَّة.
قال أبو إسْحَاقَ: وهذا القول الصحيح؛ ويدلُّ عليه قوله: ﴿والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ﴾ نقله القرطبيُّ.
الثالث: أن تكون في محل نصب على الحال مِنَ الضَّمير في «يَتَّخِذُ»، والضمير المرفُوع عائدٌ على ما عاد عليه الضَّمير في «يَتَّخِذُ»، وجُمِعَ حملاً على المعنى؛ كما تقدَّم.
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: في الآية حَذْفٌ، أي: يُحبُّونَ عبادَتَهُمْ، والانقياد إليهم.
قوله تعالى: «كَحُبِّ الله» الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: يحبُّونَهُمْ حُبّاً كَحُبِّ الله، وأمَّا عل الحال من المَصدر المعرَّف؛ كما تقرَّر غير مَرَّة، والحُبُّ: إرادة ما تَاهُ وتظنُّه خيراً، وأصله من: حَبَبْتُ فُلانَاً: أصبحتُ حَبَّةَ قَلْبِهِ؛ نحو: كَبِدتُهُ، وأَحْبَبْتُهُ: جعلت قَلْبِي مُعرَّضاً بأنْ يُحِبَّهُ، لكن أكثر الاستعمال أنْ يقال: أَحْبَبْتُهُ، فهو مَحْبُوبٌ، وَمُحَبٌّ قليلٌ؛ كقول القائل: [الكامل]
٨٧٥ - لَبَيْتٌ تَخْفقُ الأَرْوَاحُ فِيهِ أَحَبُّ إليَّ مِنْ قَصْرٍ مُنِيفِ
٨٧٧ - وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ مِنِّي بمَنزِلَةِ المُحَبِّ الْمُكْرَمِ
والحُبُّ في الأصل: مصدرُ «حَبَّهُ» وكان قياسه فتح الحاء، ومضارعُهُ يَحُبُّ بالضم، وهو قياس فعل المضعَّف، وشَذَّ كسره، و «مَحْبُوب» أكثر مِنْ «مُحَبٍّ»، و «مُحَبٌّ» أكثر من «حَابٍّ» وقد جمع الحُبُّ؛ لاختلاف أنواعه؛ قال: [الطويل]
136
٨٧٨ - ثَلاًثَةُ أَحْبَابٍ فَحُبٌّ عَلاَقَةٌ وَحُبٌّ تِمِلاَّقٌ وَحُبٌّ هُوَ الْقَتْلُ
والحُبُّ مصدرٌ لمنصُوبِهِ، والفاعلُ محذوفٌ، تقديرُه، كحُبِّهِمْ الله أو كَحُبِّ المؤمنين اللهِ؛ بمعنى: أنَّهم سَوَّوا بين الحُبَّيْن: حبِّ الأنداد، وحُبِّ الله.
وقال ابن عطيَّة: «حُبّ» : مصدرٌ مضافٌ للمفعول في اللَّفْظ، وهو في التقدير مضافٌ للفاعل المُضمرِ، يريدُ به: أنَّ ذلك تقديرُه: كَحُبِّكُمُ اللهَ أو كَحُبِّهِمُ اللهَ، حَسبما قدَّرَ كُلَّ وَجهٍ منهما فرقَةٌ انتهى.
وقوله: «للفاعل المُضْمر» يريدُ به أنَّ ذلك الفاعل منْ جنس الضمائرِ، وهو «كمْ» أو «هُمْ» أو يُسَمَّى الحذف إضماراً وهو اصطلاحٌ شائعٌ ولا يريد أنَّ الفاعل مُضْمر في المصدرِ كما يُضْمَرُ في الأفعال؛ لأنَّ هذا قولٌ ضعيفٌ لبعضهم؛ مردُودٌ بأن المصدر اسم جنسٍ واسمُ الجنس لا يُضمرُ فيه لجمودِهِ.
وقال الزمخشريُّ: «كَحُبِّ اللهِ» كتعظيم الله، والخُضُوع، أي: كا يُحَبُّ اللهُ؛ عليه أنه مصدرٌ مبنيٌّ من المفعول، وإنما استُغنِيَ عن ذكرِ من يُحِبُّهُ؛ لأنه غير مُلتبسٍ انتهى.
أما جعلُهُ المصْدر من المبنيِّ للمفعول، فهو أحد ألأقوَالِ الثلاثة؛ أعني: الجوازَ مُطْلَقاً.
والثاني: المَنْعُ مُطْلَقاً: وهو الصحيحُ.
والثالث: [التفصيلُ بين الأفعال التي لم تُستَعْمل إلاَّ مَبْنِيَّةً للمفعول، فيجوز؛ نحو: عَجِبْتُ مِنْ جُنُونِ] زيد بالعلم، ومنه الآية الكريمةُ؛ فإنَّ الغالب من «حُبّ» أنْ يبنَى للمفعول وبيْنَ غيرها، فلا يجوزُ، واستدلَّ مَنْ أجازهُ مطْلقاً بقَول عائشة - رضي الله تعالى عنها - نَهَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل وَعَظَّم - عن قَتْل الأبتر، وَذُوا الطُّفيتين برفع «ذُو» ؛ عَطْفاً على محل «الأبتر» لأنَّه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعله تقديراً، أي أنْ يُقْتَلَ الأَبتَرُ، ولتَقرير هذه الأقوال موضعٌ غير هذا.
وقد رد الزَّجَّاجُ تقدير مَنْ قدَّر فاعل المصدر «المُؤْمنِينَ» أو ضميرهم.
وقال «لَيْسَ بشَيْءٍ» والدليلُ على نقضه قوله بَعْدُ: ﴿والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ﴾ ورجَّح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتَّخذين، أي: يحبُّون الأصنام، كما يُحبُّون الله؛ لأنَّهم اشركوها مع الله، فَسَوَّوْا بين الله تعالى، وبين أوثانهم في المَحَبَّة، وهذا الذي قاله الزَّجَّاجُ واضحٌ؛ لأن التسوية بين محبَّة الكفَّار لأَوثانهم، وبن محبَّة المؤمنين لله يُنَافِي
137
قوله ﴿والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ﴾ فإنَّ فيه نَفْيَ المُسَاواة. وقرأ أبو رجاء: «يَحُبُّونَهُمْ» بفتح الياء من «حَبَّ» ثلاثيّاً، و «أَحَبَّ» أكثر، وفي المَثَل: «مَنْ حَبَّ طَبَّ».

فصل في المراد من قوله كحب الله


في قوله: كَحُبِّ الله قولان:
الأول: كَحُبِّهِم للَّهِ.
والثاني: كَحُبِّ المؤمنين للَّهِ، وقد تقدَّم ردُّ هذا القَوْلِ.
فإِن قيل: العاقل يستحيل أنْ يكون حبُّه للأوثان كحُبِّه لله؛ وذلك لأنه بضَرُورة العَقْل يَعْلَمُ أنَّ هذه الأوثانَ ينارٌ لا تسمع، ولا تعقلُ، وكانوا مُقرِّين بأنَّ لهذا العالَم صانعاً مدَبِّراً حَليماً؛ كما قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ [لقمان: ٢٥] فمع هذا الاعتقادِ، كيف يُعْقَلُ أنْ يكُونَ حبِّهُمْ لتلك الأوثان كحُبِّهم لله تعالى، وقال تعالى؛ حكايةً عنهم أنَّهُم قالوا ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣] فكيف يعقل الاستواءُ في الحُبِّ؟
والجواب: كحُبِّ الله تعالى في الطَّاعة لها، والتَّعْظِيمِ، فالاستواءُ في هذه المحبَّة لا ينافي ما ذكرتُموه.
قوله تعالى: «أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ» : المُفضَّلُ عليه محذوفٌ وهم المُتَّخِذُون [الأندادَ، أي: أشدُّ حُبّاً لله من المُتَّخِذِين] الأنْدادَ لأوثانهم؛ وقال أبو البقاء: ما يتعلَّق به «أَشَدُّ» محذوفٌ، تقديره: أشَدُّ حُبّاً للَّهِ مِنْ حُبِّ هؤلاء للأنداد، والمعنى: أنَّ المؤمنين يُحبُّون الله تعالى أكثر من محبَّة هؤلاء [أوثَانَهُمْ، ويحتمل أن يكون المعنى: أن المؤمنين يُحبُّون الله تعالى أكثر ممَّا يحبُّه هؤلاء] المتَّخذون الأنداد؛ لأنهم لم يُشْرِكُوا معه غيره، وأتى ب «أشَدُّ» موصِّلاً بها إلى أفعل التَّفضيل من مَادَّة «الحُبِّ» ؛ لأنَّ «حُبَّ» مبنيٌّ للمفعول، والمبنيُّ للمفعول لا يُتعجَّب منه، ولا يبنى منه «أَفْعَل» للتَّفضيلِ؛ فلذلك أتى بما يجوز فيه ذلك.
[فأمَّا قوله: «مَا أَحَبَّهُ إِلَيَّ» فساذٌّ على خلافٍ في ذلك، و «حُبّاً» تمييزٌ منقولٌ من المبتدأ، تقديره: حُبُّهُمْ لِلَّهِ أشدٌّ].

فصل في معنى قوله أشد حبّاً لله


معنى «أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ»، أي: أثبتُ وأدْوَمُ على حُبِّهِ؛ لأنَّهم لا يختارون على الله ما
138
سواه، والمشركون إذا اتَّخذوا صَنَماً، ثم رأوا أحسن منه، طرحوا الأوَّل، واختاروا الثَّاني قاله ابن عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما.
وقال قتادة: إن الكافِرَ يُعْرِضُ عن معبودِهِ في وقت البَلاء، ويُقبل على الله تعالى [كما أخبر الله تعالى عنهم، فقال: ﴿فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ﴾ [العنبكوت: ٦٥] والمؤمن لا يُعْرِضُ عن الله] في السَّرَّاءِ والضَّرَّاء، والشِّدَّة والرَّخاء؛ وقال سعيد بن جُبير: إِنَّ الله - عزَّ وجلّ - يأمُر يَوْم القيامةِ من أحرق نفسه في الدُّنيا على رُؤية الأصنام: أنْ يَدْخُلُوا جهنَّمَ مع أصنامِهِم، فلا يَدْخُلُون؛ لعلمهم أن عذابَ جَهَنَّم على الدوام، ثم يقول للمؤمنين، وهم بين أَيدِي الكفَّار: إنْ كُنْتُم أحِبَّائي فادْخُلُوا جَهَنَّم فيقتحمون فيها، فيُنادي مُنادٍ منْ تحت العرش ﴿والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ﴾.
وقيل: وإنَّما قال: ﴿والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ﴾ ؛ لأنَّ الله تبارك تعالى أحَبَّهم أوَّلاً، ثم أحبُّوه، ومَنْ شهد له المعبود بالمحبّة، كانت محبته أتمَّ؛ قال الله تعالى: «يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَه».
فإن قيل: كيف يمكن أن تكون محبَّةُ المؤمن لله أشَدَّ مع أنَّا نَرَى اليهود يأتُون بطاعاتٍ شاقَّة، لا يأتي بمثلها أحَدٌ من المُؤمنين، ولا يأتُون بها إلا الله تعالى، ثم يقتلون أنفُسهم حبّاً لله؟ والجوابُ من وجوه:
أحدها: ما تَقَدَّم من قول ابن عَبَّاس، وقتادة، وسعيد بن جبير.
وثانيها: أنَّ مَنْ أحب غيره رضي بقضائه، فلا يتصرف في مُلْكه، فأولئك الجُهَّال [قَتَلُوا أنْفُسَهُمْ بِغَيْرِ إذْنه، إنَّما المُؤمنون الذي يقتلُون أنْفُسَهم بإذْنِه، وذلك في الجهاد].
وثالثها: أنَّ الإنسَانَ، إذا ابتلي بالعَذَاب الشَّديد لا يمكنُهُ الاشتغال بمعرفة الرَّبِّ، فالذي فعلوه باطلٌ.
ورابعها: أنَّ المؤمنين يوحِّدون ربَّهم، فمحبتهم مجتمعةٌ لواحدٍ، والكفَّارُ يعبدون مع الصنم أصناماً، فتنقص مبحَّة الواحد منهم، أما الأإله الواحد فتنضم محَّبة الجمع إليه.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا﴾ جواب «لَوْ» محذوفٌ، واختلف في تقديره، ولا يظهر ذلك إلاَّ بعد ذكر القراءات الواردة في ألفاظ هذه الآية الكريمة. قرأ عامر ونافعٌ: «وَلَو تَرَى» بتاء الخطاب، «أنَّ القُوَّة» و «أَنَّ اللهَ» بفتحهما.
وقرأ ابن عامر: «إِذْ يُرَوْنَ» بضم الياء، والباقون بفتحها.
139
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو والكوفيون: «وَلَوَ يَرَى» بياء الغَيْبَة، «أنَّ القُوَّة»، «أَنَّ اللهَ» بفتحهما. وقرأ الحسن، وقتادة وشيبة، ويعقوب، وأبو جعفر: «وَلَوْ تَرَى» بتاء الخطاب، «أَنَّ القُوَّةَ»، و «إِنَّ اللهِ» بكسرهما. وقرا طائفةٌ: «وَلَوْ يَرَى» بياء الغيبة «إِنَّ القُوَّة» و «إِنَّ اللهِ» بكسرهما. إذا تقرَّر ذلك، فقد اختلفوا في تقدير جواب «لَوْ».
فمنهم مَنْ قَدَّره قبل قوله: «أَنَّ القُوَّةَ» ومنهم مَنْ قَدَّره بعد قوله: ﴿وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب﴾ هو قول أبي الحسن الأخفش. [المُبرِّد.
أمَّا مَنْ قدَّره قبل: «أَنَّ القوَّة» فيكون «أَنَّ الْقوةَ» معمولاً لذلك الجواب] وتقديره على قراءة «تَرَى» بالخطاب وفَتح «أنَّ» و «أنَّ» :«لَعَلِمْتَ، أَيها السَّامعُ، أنَّ القُوَّةَ للَّهِ جميعاً» والمراد بهذا الخطاب: إِمَّا النبيُّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - وإمَّا: كُلُّ سامع، فيكون معناه: ولو تَرَى يا محمَّدُ، أو يا أيُّها السَّامعُ، الَّذين ظَلَمُوا، يعني: أشركوا، في شدَّة العذاب لرأيت أمراً عظيماً [وقيل: معناه: قُلْ، يا محمَّد، أيُّها الظالم، لو تَرَى الَّذِين ظَلَمُوا من شدَّةِ العذابِ، لرأيتَ أمراً فظيعاً].
وعلى قراءة الكَسرَ في «إِنَّ» يَكُونُ التقديرُ: لَقُلْتَ إِنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً، والخلافُ في المراد من الخطاب كما تقدَّم، أو يكون التقدير: «لاَسْتَعْظَمْتَ حَالَهُمْ»، وإنما كُسِرَتُ «إِنَّ» ؛ لأنَّ فيها معنى التلعيل؛ نحو قولك: «لو قَدِمْتَ على زيدٍ، لأَحْسَن إلَيك؛ إنَّه مُكْرِمٌ لِلضِّيفَانِ» فقولُك: «إِنَّهُ مُكْرمُ لِلضِّيفَانِ» علَّةٌ لقولك: «أَحْسَنَ إِلَيْكَ» وقال ابن عطيَّة: تقديره: «وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ في حَال رُؤيتِهِم العذابَ وفَزَعهمْ منْه، واسْتِعْظَامِهِمْ له، لأقَرُّوا أنَّ لِلَّهِ جمِيعاً».
وناقشه أبو حَيَّان، فقال: كانَ يَنْبغي أنْ يقول: «فِي وقْتِ رُؤْتهم العذابَ» فيأتي بمرادف «إِذْ» وهو الوَقْت لا الحَالُ وأيضاً: فتقديرُه لجَوابِ «لو» غيْر مُرتَّبٍ على ما يلي «لَوْ» ؛ لأن رؤية السَّامع أو النبيِّ - علَيْه الصَّلاة والسَّلام - الظَّالمين في وقت رُؤيتهِمْ [لا يترتَّب عليها إقْرَارُهُمْ بأنَّ القوَّة لله جميعاً؛ وهو نظيرُ قولك: يَا زيَدُ، لَوْ تَرَى عَمْراً فِي وَقْتِ] ضَرْبِهِ، لأَقرَّ أَنَّ الله - تعالى - قادِرٌ عَلَيْهِ. فإقرارُهُ بقُدْرة اله تعالى ليسَ مترتِّباً على رؤية زيدٍ. انتهى.
140
وتقديره على قراءة «يَرَى» بالغيبة: «لَعَلِمُوا أنَّ القُوَّة لِلَّهِ» [إن كان فاعلُ «يَرَى» : الَّذِينَ ظَلَمُوا، وإنء كان ضميراً يَعْودُ على السَّامع، فيقدَّر: «لَعَلِمَ أنَّ القُوَّة» ] وأمَّا مَنْ قدَّره بعد قوله «شَدِيد العَذَابِ»، فتقديره على قراءة «تَرَى» بالخطاب: «لاَسْتَعْظَمْتَ مَا حَل بِهِمْ» ويكون فَتْح أَنَّ على أَنَّهُ مفعولٌ مِنْ أجله، أي: «لأَنَّ القوَّةَ للَّهِ جميعاً» وكسْرُها على معنى التلعيل؛ نحو: «أَكْرِمْ زيْداً؛ إنَّه عالمٌ، وأَهِنْ عَمْراً؛ إِنَّهُ جَاهِلٌ» أو تكون جملة فاعلُ «يَرَى» ضمير السَّامع: «لاَسْتَعْظَمَ ذَلِكَ» وإِنْ كان فاعلُهُ الَّذينَ، كان التقديرُ «لاَسْتَعْظَمُوا مَا حَلَّ بِهِمْ» ويكون فتح «أَنَّ على أَنَّها معمولةٌ ل» يَرَى «على أن يكون الفاعل» الَّذِينَ ظَلَمُوا «والرؤية هنا تحتملُ أنْ تكُونَ من رُؤية القَلْب، فتسُدَّ» أَنَّ «مَسَدَّ مفعوليها، وأنْ تكُون مِنْ رؤية البَصَر، فتكون في موضع مفعول واحدٍ.
واَمَّا قراءة «يَرَى» [الَّذِينَ] بالغيبة، وكَسْر «إِنَّ» و «إِنَّ» فيكون الجواب قولاً محذوفاً، وكُسرَتَا لوقوعهما بعد القَوْل، فتقديرُه على كون الفاعل ضمير الرَّأي، لَقَالَ: «إِنَّ القُوَّةَ» وعلى كَونه «الَّذِينَ» :«لَقَالُوا» ويكون مفعول «يَرَى» محذوفاً، أي: «لَوْ يَرَى حَالَهُمْ» ويحتمل أنْ يكون الجواب: «لاَسْتَعْظَمَ، أو لاسْتَعْظَمُوا» على حسب القولين: وقدَّر بعضهم: ﴿مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً﴾ وإنَّما كُسِرَتَا؛ استئنافاً، وحَذُفُ جواب «لَوْ» شائعٌ مستفيضٌ كثيرٌ في التنزيل، قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت﴾ [الأنعام: ٩٣] ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال﴾ [الرعد: ٣١] ويقولون: «لَوْ رَأَيْتَ فُلاَناً، والسِّيَاطُ تَأخُذُ مِنْهُ» قالوا: وهذا الحَذفُ أفخم وأشَدُ كلَّ مَذْهَب فيه؛ بخلاف ما لو ذكر فإنَّ السامع يقصُرُ همَّه عليه، وقد وَرَد في أَشْعَارِهمْ ونَثْرِهِمْ كثيراً؛ قال امرُؤُ القَيْسِ: [الطويل]
٨٧٩ - وَجَدِّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا
وقال النَّابغة: [الطويل]
٨٨٠ - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً أَبُوا حُجُرٍ إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
ودخلت «إِذْ»، وهي ظرفُ زمانٍ ماضٍ في أثناء هذه المستقبلات تقريباً للأمر،
141
وتصحيحاً لوقوعه؛ كما وقعت صيغة المُضِيِّ موضع المستقبلِ لذلك؛ كقوله: ﴿ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة﴾ [الأعراف: ٥٠]. وكما قال الأشتر: [الكامل]
٨٨١ - بَقَّيْتُ وَفْرِي وَانْحَرَفْتُ عَنْ العُلاَ وَلَقيْتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبوسِ
إِنْ لَمْ أَشُنَّ عَلَى ابْنِ حَرْبٍ غَارَةً لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نِهَابِ نُفُوسِ
فأوقع «بَقَّيْتُ» و «انْحَرَفْتُ» - وهما بصيغة المضيِّ - موقع المستقبل، لتعليقهما على مستقبلٍ، وهو قوله: إنْ لم أشنَّ «.
وجاء في التنزيل كثيرُ مِنْ هذا الباب قال تبارك وتعالى:
﴿وَلَوْ
ترى
إِذْ
وُقِفُواْ عَلَى النار﴾
[الأنعام: ٢٧] ﴿وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ﴾ [سبأ: ٥١] ولما كان وقوعُ السَّاعةَ قريباً، أجْرَاه مجرَى ما حَصَل ووضع، مِنْ ذلك قولُ المُؤَذِّن: قَدْ قَامَتِ الصَّلاَة، يقوله قبل إيقَاعِ التَّحْريم بالصَّلاَة؛ لقرب ذلك.
وقيل: أَوْقَعَ «إِذْ»
موقع «إِذَا» ؛ [وقيل: زمن الآخر متصلٌ بزمن الدنيا، فقام أحدهما مقام الآخر؛ لأنَّ المجاور للشَّيء يقوم مَقَامه، وهكذا كُلُّ موضع وقع مثْلَ هذا، وهو في القرآن كثير].
وقرأ ابن عامر «يَرَوْنَ الْعَذَابَ» مبنيّاً للمفعول من «أَرَيْتُ» المنقولة مِنْ «رَأَيْتُ» بمعنى «أبْصَرْتُ» فتعدَّى لاثنين:
أولهما: قام مقام الفاعِلِ، وهو الواو.
والثاني: هو العذاب.
وقراءُ الباقين واضحة.
وقال الراغب: قوله: أَنْ القُوَّةَ «بدلٌ من» الَّذِينَ «قال:» وهو ضعيفٌ «.
قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللهُ - ويَصيرُ المَعْنَى:»
ولو تَرَى قُوَّة اللهِ وقُدْرَتَهُ على الَّذين ظَلَمُوا «وقال في المُنْتَخَب: قراءة الياء عند بعضهم أَوْلى من قراءة التَّاء؛ قال:» لأَنَّ النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - والمؤمِنِينَ قَدْ علِمُوا قدْرَ ما يُشَاهِدُه الكُفَّار، وأما الكُفَّار، فلم يعلَمُوه؛ فوجَبَ إسْنادُ الفِعل إِلَيْهِم «وهذا أمر مردودٌ؛ فإن القراءتَيْن متواترتَانِ.
قوله تعالى:»
جميعاً «حالٌ من الضَّمير المستكنِّ في الجارِّ والمجرور، والواقعِ
142
خَبَراً، لأنَّ تقديره:» أّنَّ القُوَّة كائنةٌ لله جميعاً «، ولا جائزٌ أنْ يكونَ حالاً منَ القُوَّة؛ فإن العامل في الحال، هو العامل في صاحبها، وأَنَّ لا تعمَلُ في الحال، وهذا مشكل؛ فإنهم أجازوا في» ليت «أن تعمل في الحال، وكذا» كأنَّ «؛ لِمَا فيها من معنى الفعل - وهو التمنِّي والتَّشْبيهُ - فكان ينبغي أن يجوز ذلك في» أَنَّ «لما فيها مَعْنَى التَأْكِيد.
و»
جَمِيعُ «في الأصل:» فَعِيلٌ «من الجمع، وكأنه اسم جمع؛ فلذلك يتبع تارةً بالمُفرد؛ قال تعالى: ﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ﴾ [القمر: ٤٤] وتارة بالجَمع؛ قال تعالى: ﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس: ٣٢] وينتصب حالاً، ويؤكَّد به؛ بمعنى:» كُلّ «ويدلُّ على الشمول؛ كدلالة» كُلِّ «، ولا دلالة له على الاجتماع في الزَّمان، تقول:» جاءَ القَوْمُ جَمِيعُهُمْ «لا يلزمُ أنْ يكُونَ مجئيهم في زمن واحدٍ، وقد تقدَّم ذلك في الفَرْق بينهما وبين» جاءُوا معاً «.
143
اعْلَم أنَّه لما بَيَّن حال مِنْ يَتَّخذُ مِنْ دُون الله أنْداداً بقوله: وَلَوْ يَرَى الَّذينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ على طَرِيقِ التهْدِيد زادَ في هَذَا الوَعِيد بهذه الآية الكريمة، وبَيَّنَ أنَّ الذين أفْنَوْا عُمْرهم في عِبَادَتِهِمْ، واعتقَدُوا أنَّهم سَبَبُ نجاتِهِمْ، فإنَّهم يتبَّرءُون منْهُمْ؛ ونظيره قوله تعالى: ﴿يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ [العنكبوت: ٢٥] وقولُهُ - عزَّ وجلَّ سبحانَهُ - ﴿الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين﴾ [الزخرف: ٦٧] وقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ [الأعراف: ٣٨] وقول إبليس لعنه الله ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ﴾ [إبراهيم: ٢٢].
وهل هذا التبرُّؤ يقع منهم بالقَوْل، أو بظُهُور النَّدَم على ما فرَطَ منهم من الكُفْر والإِعْرَاض؟ قوْلاَن: أظهرها الأوَّل.
واختلفوا في خؤلاء المَتْبُوعِينَ، فقال قتادَةُ، والرَّبيع وعَطَاءٌ: السَّادة والرُّؤساء مِنْ مشركي الإنس إلاَّ أنَّهم الذين يصحُّ منهم الأَمر؛ والنَّهْيُ؛ حتى يمكن أن يتبعوا
وقال السُّدِّيُّ: هُمْ شَيَاطينُ الجِنِّ.
وقيلَ: شَيَاطين الإنْسِ والجِنِّ.
وقيلَ: الأوْثَان الَّتي كانُوا يسمُّونها بالآلهة؛ ويؤيد الأوَّل قولُهُ تعالى: ﴿إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا﴾ [الأحزاب: ٦٧].
143
قولُهُ تعالى: «إِذْ تَبَرَّأَ» في «إِذْ» ثلاثةُ أوجُهٍ:
أحدُها: أنها بدل مِنْ «إِذْ يَرَوْنَ».
الثاني: أنها منصوبةٌ بقوله: «شَدِيدُ العَذَابِ».
الثالث - وهو أضْعَفُها - أنها معمولةٌ ل «اذكُرْ» مقدَّراً، و «تَبَرَّأَ» في محلِّ خفْضٍ بإضافةِ الظَّرْف إلَيْه، والتبرُّؤ: الخُلُوص والانفصالُ، ومنه: «بَرِئْتُ مِنَ الَّذِينَ» وتقدم تحقيقُ ذلك عند قوله: ﴿إلى بَارِئِكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] والجمور على تقديم: «اتُّبِعُوا» مبنياً للمفعول على «اتَّبَعُوا» مبنياً للفاعل.
وقرأ مجاهدٌ بالعَكْس، وهما واضحتَانِ، إلاَّ أن قراءة الجُمْهُور واردةٌ في القُرْآنِ أَكْثَرَ.
قوله تعالى: «وَرَأَوا العَذَابَ» في هذه الجملة وجْهان:
أظْهَرُهما: أنَّها عطْفٌ على ما قبْلَها؛ فتكُون داخلةٌ في خَبَر الظَّرْف، تقديرُهُ: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا»، و «إِذْ رَأَوا».
والثانيك أنَّ الواو للحالِ، والجملة بعدها حاليَّةٌ، و «قَدْ» معها مُضْمَرَةٌ، والعاملُ في هذه الحالِ، «تَبَرَّأَ» أي: «تَبَرَّءُوا» في حال رُؤْيتهم العَذَابَ.
قوله تعالى: «وتَقَطَّعَتْ» يجوزُ أنْ تكُون الواوُ للعَطْف، وأن تكون للحالِ، وإذا كانت للعطف، فهل عطفت «تَقَطَّعَتْ» على «تَبَرَّأَ» ويكون قوله: «وَرَأَوا» حالاً، وهو اختيارُ الزمخشري أو عطفت على «رَأَوْا» ؟ وإذا كانت للحال، فهل هي حالٌ ثانيةٌ ل «الَّذِينَ» أو حالٌ للضَّمير في «رَأَوا» وتكونُ حالاً متداخلةً، إذا جعْلنَا «ورَأوا» حالاً.
والباءُ في «بهم» فيها أربعةُ أوْجُه:
أحدها: أَنَّها للحالِ، أي: تقطَّعَتْ موصُولةً بهم الأسْبَاب؛ نحو: «خَرَجَ بِثِيَابِهِ».
الثَّانِي: أن تكُونَ للتعديَة، اي: قَطَّعَتْهُم الأَسْبَابُ؛ كما تقول: تَفَرَّقَتْ بهم الطُّرُقُ، أي: فَرَّقَتْهُمْ.
الثالث: أن تكون للسببيّة، أي: تقطَّعت [بسبَب كُفْرهمُ الأَسْبَابُ الَّتي كانُوا يرْجُون بها النَّجَاةَ].
الرابع: أن تكون بمعنى «عَنْ» [أي: تقطَّعت عنْهُم، كقوله ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً﴾ [الفرقان: ٥٩]، أي: عنهُ] وكقول علْقَمَةَ في ذلك: [الطويل]
144
٨٨٢ - فَإِنَّ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فإِنَّنِي بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسِاءِ طَبيبُ
أي: عن النِّسَاء.

فصلٌ في المراد ب «الأسباب»


والأَسْبَابُ: الوَصْلاَتُ التي كانت بينهم، قاله مجاهدٌ، وقتادةُ، والرَّبيعُ.
وقال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عَنْهما - وابن جُرَيْجٍ: الأَرْحَام الَّتِي يتعاطَفُونَ بها؛ كقوله تعالى: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ﴾ [المؤمنون: ١٠١].
وقال ابنُ زَيْدٍ، والسُّدِّيُّ: الأعمالُ الَّتي كانوا يلزَمُونَها.
وقال ابنُ عَبَّاسٍ: العُهُودُ والحَلِفُ الَّتي كانوا يلزَمُونَها.
وقال الضَّحَّاكُ، والرَّبيع بنُ أَنَسٍ: المنازلُ التي كانَتْ لهم في الدُّنيَا.
وقال السُّدِّيُّ: الأعْمَالُ الَّتي كانوا يلزمونها في الدنيا؛ كقوله تبارك وتعالى: ﴿وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾ [الفرقان: ٢٣].
وقيل: أسبابُ النجاةِ تقطَعَّت عنهم.
قال ابنُ الخَطِيبِ - رَضِيَ اللهُ عَنْه - والأظْهَرُ دخولُ الكُلِّ فيه ولأن ذلك كالنَّفي، فيعمّ الكلَّ؛ فكأنَّه قال: وزالَ كلُّ سببٍ يمكنُ أن يتعلَّق به، وأنهم لا ينتفعونُ بالأَسْباب على اختلافِهَا من منزلةٍ، وسببٍ ونسَبٍ، وعَهْدٍ، وعَقْدٍ وذلك نهاية اليأس.
وهذه الأسبابُ مجازٌ فإِنَّ السَّبب في الأصْل: الحَبْل؛ قالوا: ولا يُدْعى الحَبْلُ سبباً؛ حتى يُنْزَلَ فيه ويُصْعَدَ به، ومنْه قوله تبارك وتعالى: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء﴾ [
145
الحج: ١٥] ثم أطلق على كلِّ ما يُتَوَصَّلُ به إلى شَيْءٍ، عَيْناً كان أو معنى، وقيل للطَّريق: سَبَبٌ؛ لأنَّك بسُلُوكِهِ تَصِلُ إلى المَوْضع الذي تريدُهُ؛ قال تعالى: ﴿فَأَتْبَعَ سَبَباً﴾ [الكهف: ٨٥] أي: طريقاً، وأسبابُ السَّموات: أَبوابُها؛ قال تعالى مُخْبِراً عن فِرْعُونَ:
﴿لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات﴾ [غافر: ٣٦ - ٣٧] وقد تُطْلَقُ الأسبابُ على الحوادِثِ؛ قال زُهَيْرٌ: [الطويل]
٨٨٣ - وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ وَلَوْ نَالَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وقد يُطْلَق السَّبَب على العِلْمِ؛ قال سُبحَانهُ وتعالى: ﴿مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾ [الكهف: ٨٤] أي؛ عِلماً، وقد وجد هنا نَوعٌ منْ أنواع البَدِيع، وهو التَّرْصِيع، وهو عبارةٌ عن تسجيع الكلامِ، وهو هنا في موضعين.
أحدهما: ﴿اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا﴾ ؛ ولذلك حذف عائد المَوْصُول الأوَّل، فلم يَقُلْ ﴿منالذين اتبعوهم﴾ ؛ لفواتِ ذلك.
والثَّاني: ﴿وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب﴾، وكقوله ﴿وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢٧٦].
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الذين اتبعوا﴾، يعني: الأَتْبَاع: ﴿لَوْ أَنْ لنَا كَرَّةً﴾ أي: رجعةً إلى الدُّنيا، والكرَّةُ: العودَة، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرّاً؛ قال القائل في ذلك: [الوافر]
٨٨٤ - أَكُرُّ عَلَى الْكِتيبَةِ لاَ أُبَالِي أَفِيهَا كَانَ حَتْفِي أَمْ سَوَاهَا
قوله تعالى: «فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ» منصوبٌ بعد الفاءِ ب «أنْ» مضمرة في جواب التمنِّي الَّذي أُشْرِبَتْهُ «لَوْ» ولذلك أجيب بجواب «لَيْتَ» الذي في قوله:
﴿ياليتني
كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً﴾
[النساء: ٧٣] وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمنِّي، فهلْ هي الامتناعيَّةُ المفتقرة إلى جوابٍ، أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ.
الصحيحُ: أنها تحتاجُ إلى جوابٍ، وهو مقدّر في الآية الكريمة تقديرُهُ تَبَرَّأْنَا ونحو ذلك، وأَمَّا مَنْ قال بأنَّ «لَو» الَّتي للتمنِّي لا جوابَ لها؛ فاستدَلَّ بقول الشَّاعر: [الوافر]
146
وهذا لا يدلُّ فإنَّ جوابها في البيتِ بعده، وهو قوله [الوافر]
٨٨٥ - وَلَوْ نُبِشَ المَقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ فَيُخْبَرَ بالذَّنائِبِ أَيُّ زِيرِ
٨٨٦ - بِيَوْمِ الشَّعْثَمَين، لَقَرَّ عَيْناً وَكَيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ الْقُبُورِ
واستدلَّ أيضاً بأنَّ «أَنْ» تُفْتَحُ بعْد «لَوْ» ؛ كما تفتحُ بَعْد لَيْتَ في قوله [الرجز]
٨٨٧ - يَا لَيْتَ أَنَّا ضَمَّنَا سَفِينَهْ حَتَّى يَعُودُ الْبَحْرُ كَيَّنُونَهْ
وها هنا فائدة ينبغي أنْ يُنْتَبَهَ لها، وهيَ: أَنَّ النُّحاة قالُوا: كلُّ موضعٍ نُصبَ فيه المضارعُ بإضمار «أنْ بعد الفَاءِ [إذا سقَطَتِ الفاءُ، جزم إلاَّ في النَّفسِ، ينبغي أن يزاد هذا الموضع أيضاً؛ فيقال: و» إلاَّ «في جواب التَّمَنِّي ب» لَوْ «؛ فإنَّه ينصب المضارع فيه بإضمار» أَنْ «بعد الفاء الواقعة جواباً له، ومع ذلك، لو سَقَطَتْ هذه الفاءُ] لم يُجزم.
قال أَبُوا حَيَّانَ والسَّبب في ذلك: أَنَّها محمولةٌ على حَرْف التمنِّي، وهو»
لَيْتَ «والجزمُ في جواب» لَيْتَ «إنما هو لتضمنها معنى الشَّرْط، أو لدلالَتها على كونه محذوفاً على اختلاف القولَيْن؛ فصارت» لَوْ «فَرَعَ الفَرْعِ، فضَعُفَ ذلك فيها.
وقيلَ:»
لَوْ «في هذه الآية الكريمة ونظَائِرِها لِما كانَ سيقعُ لِوُقُوع غيره، وليس فيها معنى التمنِّي، والفعلُ منصوب ب» أَنْ «مضمرَة؛ على تأويل عَطف اسْمٍ على اسمٍ، وهو» كَرَّة «والتقديرُ:» لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً، فنتبرَّأَ «فهو مِنْ باب قوله: [الوافر]
٨٨٨ - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي..............................
ويكون جواب»
لَوْ «محذوفاً أيضاً؛ كما تقدَّم.
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى:»
فَنَتَبَرَّأَ «منصوبٌ بإضمارِ» أَنْ «، تقديره: ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ﴾ فحلَّ» كرَّة «إلى قوله:» أَنْ نَرْجِعَ «؛ لأنَّه بمعناه، وهو قريبٌ، إلاَّ أنَّ النحاة يأوّلون الفعل المنصوب بمصدرٍ؛ ليعطفُوه على الاسم قَبْله، ويتركُون الاسم على حالِهِ؛ وذلك لأنه قد يكُون اسْماً صَرِيحاً غير مَصْدر؛ نحو» لَوْلاَ زَيْدٌ وَيَخْرُج، لأَكْرَمْتُكَ «فلا يتأتَّى تأويله بحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ.
قولُهُ تعالى:»
كَمَا «الكافُ في موضعها نصبٌ: إِمَّا على كونها نعت مصدرٍ محذوف، أي:» تَبَرُّؤاً «وإِمَّا على الحاف مِنْ ضمير المصدر المعرَّف المحذوف أي»
147
نتبرّأهُ، أي: التَّبَرُّؤَ، مُشَابِهاً لِتَبَرُّئِهِمْ «؛ كما تقرَّر غير مرَّة.
وقال ابن عطيَّة: الكاف في قوله: «كَمَا»
في موضع نصب على النَّعت: إمّا لِمَصدرٍ: أو لحال، تقديره: مُتَبَرِّئِينَ، كما قال أبو حَيَّان. أمَّا قوله «لِحَالِ» تقديرُهُ: «مُتَبَرِّئِينَ كما» فغيرُ واضحٍ، لأنَّ «ما» مصدرية، فصارتِ الكافُ الداخلة عليها مِن صفات الأفَفعال و «مُتَبرِّئين» : من صفات الأَعْيَان، فكيف يُوصف بصفات الأَفعال.
قال: وأَيضاً لا حاجة لتقدير هذه الحال، لأنَّها إذ ذاك تكون حالاً مؤكِّدة، وهي خلافٌ الأَصل، وأيضاً: فالمؤكَّد ينافِيهِ الحَذفُ؛ لأنَّ التوكيد يُقَوِّيه، فالحَذْفُ يناقضه.

فصل في معنى التبرؤ


قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ - قولهم: ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا﴾ ذلك تمنٍّ منهم للرجعة إلى الدُّنْيا، كما تبرءوا يَوْمَ القيامة منهم ومفهوم الكلام: أَنَّهُمْ تمنُّوا لهم في الدُّنيا ما يُقَاربُ العذابَ، فيتبرّءُونَ منهم، ولا يخلصونهم، كما فعلوا بهم يومَ القيامة، وتقديرُه: فلو أنَّ لنا كَرَّةً فنتبرَّأَ منهم، وقد دَهَمَهُمْ مثلُ هذا الخَطْب، كما تبرءوا منَّا، والحالُ هذه؛ لأنَّهم إِنْ تَمَنَّوا التبرُّؤ منهم، مع سلامةٍ، فأيُّ فائدة؟.
قال القُرطبي: التبرُّؤُ: الانفصال.
قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله﴾ في هذه «الكافِ» قولان:
أحدهما: أنَّ موضعها نصبٌ: إِمَّا نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أو حالً من المَصدر المعرَّفِ، أي: يُريهمْ رؤية كذلك، أو يَحْشُرُهُمْ حَشْراً كَذَلِكَ، أوْ يَجزظِيهم جَزَاءً كذلك، أو يُريهم الإراءة مشبهةً كذلك ونحو هذا.
الثاني: أن يكون في موضع فرع، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك، أو حَشْرُهُمْ كذلك، قاله أبو البقاء.
قال أبو حيَّان: وهو ضعيفٌ؛ لأنَّه يقتضي زيادة الكاف، وحذف مبتدأ، وكلاهما على خلاف الأَصل والإشارة بذلك إلى رأيهم تلك الأهوال والتقديرُ: مثل إراءتهم الأهوال، يريهمُ اللهُ أعمالَهُمْ حسَرَاتٍ.
وقيل: الإشارةُ إلى تبرُّؤ بعضهم من بعض والتقديرُ: كَتَبَرُّؤ بعضهم من بعض، يريهمُ اللهُ أعمالهُم حسَراتٍ عليهمح وذلك لانقطاع الرَّجَاء منْ كُلِّ أحدٍ.
148
أحدهما: أن تكون بَصَريَّة، فتتعدّى لاثنين بنقل الهمزة أولهُما الضميرُ، والثاني «أَعْمَالَهُمْ» و «حَسَرَاتٍ» على هذا حالٌ مِنْ «أَعْمَالَهُمْ».
والثاني: أَنْ تكونُ قلبيَّةً؛ فتتعدَّى لثلاثةٍ؛ ثالثُهما «حَسَرَاتٍ» و «عَلَيْهِمْ» يجوزُ فيه وجْهَان:
أن يتعلَّق ب «حَسَرَاتٍ» ؛ لأنَّ «يحْسَرُ» يُعدَّى ب «عَلَى» ويكونُ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ. أي: على تَفْرِيطهِمْ.
والثاني: أنْ يتعلَّق بمحذوف؛ لأنّضها صفةٌ ل «حَسَرَاتٍ»، فهي في محلّ نصْبٍ؛ لكونها صفةً لمنصوبٍ.

فصل في المراد ب «الأعمال» في الآية


اختلفوا في المراد بالأَعمال.
فقال السُّدِّيُّ: الطاعاتُ، لِمَ ضَيَّعُوها؟ وقال الربيعُ وابنُ زَيْدٍ، المعاصي والأَعْمَال الخبيثَةُ يتحسَّرون لِمَ عَمِلُوها؟
وقال الأَصَمُّ: ثوابُ طاعاتهم الَّتي أتَوْا بها، فأحْبضطُوها بالكُفْرِ، قال السُّدِّيُّ: تُرفع لهم الجَنَّة، فينظرُون إليها وإلى بيوتهم فيها، لو أطاعُوا الله، فيقال لهم: تِلْكَ مساكنُكمْ، لو أطعتُمُ الله تعالى، ثمَّ تقسَّم بين المؤمِنين، فذلك حين يتحسَّرُونَ.
وقيل: أعمالُهُمْ الَّتي تقرَّبوا بها إلى رؤسائهم والانقياد لأَمرهم، قال ابن كَيْسَان: إِنَّهُمْ أشركُوا بالله الأوثان، رجاءَ أن تقرِّبهم إلى الله تعالى، فلما عُذِّبوا على ما كانوا يَرْجُون ثوابه، تحسَّروا ونَدِمُوا.
قال ابن الخطيب: والظاهرُ أنَّ الأعمال الَّتي اتَّبَعُوا فيها السَّادَة، وهو كُفْرُهُم. ومعاصِيهِمْ، وإنما تكون حَسْرةً بأن رأوها في صحيفَتهِمْ، وأيقنوا بالجزاءِ عليها، وكان يمكنُهُمْ تركُها، والعدولُ إلى الطَّاعات، وفي هذا الوجه الإضافة وفي الثاني: مجازٌ بمعنى لزومِهِم، فَلَمْ يَقُومُوا بها. و «الحَسْرَة» واحدةُ الحَسَرَاتِ؛ كَتَمْرَةٍ وَتَمَرَاتٍ، وَجَفْنَةٍ وَجَفَنَاتٍ وشَهَوَاتٍ.
هذا إذا كان اسماً. [فإنْْ نَعتَّهُ سكَّنت؛ كقوله ضَخْمَة وضَخْمَات وعَبْلَة وعَبْلاَت نقله القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى قال الزَّجَّاج: هي شِدَّة الندامة، وهو تألُّم القَلب بانحسارِهِ عمّا تؤلمه واشتقاقها إِمَّا من قولهم: بعير حَسيرٌ أي منقطعُ القوَّة والحُسُور الإِعياء، وقال تبارك وتعالى: ﴿لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ﴾ [الأنبياء: ١٩] أو من الحسر وهو
149
الكشف يقال: حسر عن ذراعيه، والحسرة: انشكافٌ عن حالة النَّدَامة؛ [والمحسرة] المنكسة؛ لأنها تكشف عن الأرض؛ والطير تنحسر لأنها تنكشف بذهاب الريش.
قوله تعالى: ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار﴾.
احتجَّ به على أن أصحاب الكبائِرِ منْ منْ أهْل القبلة يخرجُون من النَّار، فقالوا:
لأنَّ قوله: «وَمَا هُمْ» تخصيصٌ لهم بعَدَم الخروج على سبيل الحَصر؛ فوجب أن يكُون عدَمُ الخروج مخصًوصاً بهم، وهذه الآية الكريمة تكشف عن المراد بقوله: ﴿وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ﴾ [الأنفطار: ١٤ - ١٦] فبيَّن أنَّ المراد بالفُجَّار ها هنا الكفَّار؛ لدلالة هذه الآية الكريمة عليه والله أعلم.
150
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ﴾، يعني : الأَتْبَاع :﴿ لَوْ أَنْ لنَا كَرَّةً ﴾ أي : رجعةً إلى الدُّنيا، والكرَّةُ : العودَة، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرّاً ؛ قال القائل في ذلك :[ الوافر ]
٨٨٤ - أَكُرُّ عَلَى الْكِتيبَةِ لاَ أُبَالِي *** أَفِيهَا كَانَ حَتْفِي أَمْ سِوَاهَا١٦
قوله تعالى :" فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ " منصوبٌ بعد الفاءِ ب " أنْ " مضمرة في جواب التمنِّي الَّذي أُشْرِبَتْهُ " لَوْ " ولذلك أجيبت بجواب " لَيْتَ " الذي في قوله :﴿ يا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [ النساء : ٧٣ ] وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمنِّي، فهلْ هي الامتناعيَّةُ المفتقرة إلى جوابٍ، أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ.
الصحيحُ : أنها تحتاجُ إلى جوابٍ، وهو مقدّر في الآية الكريمة تقديرُهُ تَبَرَّأْنَا ونحو ذلك، وأَمَّا مَنْ قال بأنَّ " لَو " الَّتي للتمنِّي لا جوابَ لها ؛ فاستدَلَّ بقول الشَّاعر :[ الوافر ]
٨٨٥ - وَلَوْ نُبِشَ المَقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ *** فَيُخْبَرَ بالذَّنائِبِ أَيُّ زِيرِ١٧
وهذا لا يدلُّ فإنَّ جوابها في البيتِ بعده، وهو قوله [ الوافر ]
٨٨٦ - بِيَوْمِ الشَّعْثَمَين، لَقَرَّ عَيْناً *** وَكَيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ الْقُبُورِ١٨
واستدلَّ أيضاً بأنَّ " أَنْ " تُفْتَحُ بعْد " لَوْ " ؛ كما تفتحُ بَعْد لَيْتَ في قوله [ الرجز ]
٨٨٧ - يَا لَيْتَ أَنَّا ضَمَّنَا سَفِينَهْ *** حَتَّى يَعُودَ الْبَحْرُ كَيَّنُونَهْ١٩
وها هنا فائدة ينبغي أنْ يُنْتَبَهَ لها، وهيَ : أَنَّ النُّحاة قالُوا : كلُّ موضعٍ نُصِبَ فيه المضارعُ بإضمار " أنْ " بعد الفَاءِ [ إذا سقَطَتِ الفاءُ، جزم إلاَّ في النَّفسِ، ينبغي أن يزاد هذا الموضع أيضاً ؛ فيقال : و " إلاَّ " في جواب التَّمَنِّي ب " لَوْ " ؛ فإنَّه ينصب المضارع فيه بإضمار " أَنْ " بعد الفاء الواقعة جواباً له، ومع ذلك، لو سَقَطَتْ هذه الفاءُ ]٢٠ لم يُجزم.
قال أَبُو حَيَّانَ٢١والسَّبب في ذلك : أَنَّها محمولةٌ على حَرْف التمنِّي، وهو " لَيْتَ " والجزمُ في جواب " لَيْتَ " إنما هو لتضمنها معنى الشَّرْط، أو لدلاَلَتها على كونه محذوفاً على اختلاف القولَيْن ؛ فصارت " لَوْ " فَرَعَ الفَرْعِ، فضَعُفَ ذلك فيها.
وقيلَ :" لَوْ " في هذه الآية الكريمة ونظَائِرِها لِما كانَ سيقعُ لِوُقُوع غيره، وليس فيها معنى التمنِّي، والفعلُ منصوب ب " أَنْ " مضمرَة ؛ على تأويل عَطف اسْمٍ على اسمٍ، وهو " كَرَّة " والتقديرُ :" لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً، فنتبرَّأَ " فهو مِنْ باب قوله :[ الوافر ]
٨٨٨ - لَلُبْسُ عَباءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي ***. . . ٢٢
ويكون جواب " لَوْ " محذوفاً أيضاً ؛ كما تقدَّم.
وقال أبو البقاء٢٣ رحمه الله تعالى :" فَنَتَبَرَّأَ " منصوبٌ بإضمارِ " أَنْ "، تقديره :﴿ لَوْ أَنَّ لَنَا أنْ نَرْجِعَ فَنَتَبَرَّأَ ﴾ فحلَّ " كرَّة " إلى قوله :" أَنْ نَرْجِعَ " ؛ لأنَّه بمعناه، وهو قريبٌ، إلاَّ أنَّ النحاة يأوّلون الفعل المنصوب بمصدرٍ ؛ ليعطفُوه على الاسم قَبْله، ويتركُون الاسم على حالِهِ ؛ وذلك لأنه قد يكُون اسْماً صَرِيحاً غير مَصْدر ؛ نحو " لَوْلاَ زَيْدٌ وَيَخْرُج، لأَكْرَمْتُكَ " فلا يتأتَّى تأويله بحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ.
قولُهُ تعالى :" كَمَا " الكافُ في موضعها نصبٌ : إِمَّا على كونها نعت مصدرٍ محذوف، أي :" تَبَرُّؤاً " وإِمَّا على الحال مِنْ ضمير المصدر المعرَّف المحذوف أي " نتبرّأهُ، أي : التَّبَرُّؤَ، مُشَابِهاً لِتَبَرُّئِهِمْ " ؛ كما تقرَّر غير مرَّة.
وقال ابن عطيَّة : الكاف في قوله :" كَمَا " في موضع نصب على النَّعت : إمّا لِمَصدرٍ : أو لحال، تقديره : مُتَبَرِّئِينَ، كما قال أبو حَيَّان. أمَّا قوله " لِحَالٍ " تقديرُهُ :" مُتَبَرِّئِينَ كما " فغيرُ واضحٍ، لأنَّ " ما " مصدرية، فصارتِ الكافُ الداخلة عليها مِن صفات الأَفعال و " مُتَبرِّئين " : من صفات الأَعْيَان، فكيف يُوصف بصفات الأَفعال.
قال : وأَيضاً لا حاجة لتقدير هذه الحال، لأنَّها إذ ذاك تكون حالاً مؤكِّدة، وهي خلافُ الأَصل، وأيضاً : فالمؤكَّد ينافِيهِ الحَذفُ ؛ لأنَّ التوكيد يُقَوِّيه، فالحَذْفُ يناقضه.

فصل في معنى التبرؤ


قال ابن الخطيب٢٤ - رحمه الله - قولهم :﴿ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا ﴾ ذلك تمنٍّ منهم للرجعة إلى الدُّنْيا، وإلى حال التَّكليف، ويكون الاختيارُ لهم ؛ حَتَّى يتبرءوا منهم في الدُّنيا، كما تبرءوا يَوْمَ القيامة منهم ومفهوم الكلام : أَنَّهُمْ تمنَّوا لهم في الدُّنيا ما يُقَاربُ العذابَ، فيتبرّءُونَ منهم، ولا يخلصونهم، كما فعلوا بهم يومَ القيامة، وتقديرُه : فلو أنَّ لنا كَرَّةً فنتبرَّأَ منهم، وقد دَهَمَهُمْ مثلُ هذا الخَطْب، كما تبرءوا منَّا، والحالُ هذه ؛ لأنَّهم إِنْ تَمَنَّوا التبرُّؤ منهم، مع سلامةٍ، فأيُّ فائدة ؟.
قال القُرطبي : التبرُّؤُ : الانفصال٢٥.
قوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ ﴾ في هذه " الكافِ " قولان :
أحدهما : أنَّ موضعها نصبٌ : إِمَّا نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أو حالاً من المَصدر المعرَّفِ، أي : يُريهمْ رؤية كذلك، أو يَحْشُرُهُمْ حَشْراً كَذَلِكَ، أوْ يَجزِيهم جَزَاءً كذلك، أو يُريهم الإراءة مشبهةً كذلك ونحو هذا.
الثاني : أن يكون في موضع رفع، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي : الأمر كذلك، أو حَشْرُهُمْ كذلك، قاله أبو البقاء٢٦.
قال أبو حيَّان٢٧ : وهو ضعيفٌ ؛ لأنَّه يقتضي زيادة الكاف، وحذف مبتدأ، وكلاهما على خلاف الأَصل والإشارة بذلك إلى رأيهم تلك الأهوال والتقديرُ : مثل إراءتهم الأهوال، يريهمُ اللَّهُ أعمالَهُمْ حسَرَاتٍ.
وقيل : الإشارةُ إلى تبرُّؤ بعضهم من بعض والتقديرُ : كَتَبَرُّؤ بعضهم من بعض، يريهمُ اللَّهُ أعمالهُم حسَراتٍ عليهم ؛ وذلك لانقطاع الرَّجَاء منْ كُلِّ أحدٍ.
والرؤيةُ تحتملُ وجهَين :
أحدهما : أن تكون بَصَريَّة، فتتعدّى لاثنين بنقل الهمزة أولهُما الضميرُ، والثاني " أَعْمَالَهُمْ " و " حَسَرَاتٍ " على هذا حالٌ مِنْ " أَعْمَالَهُمْ ".
والثاني : أَنْ تكونُ قلبيَّةً ؛ فتتعدَّى لثلاثةٍ ؛ ثالثُها " حَسَرَاتٍ " و " عَلَيْهِمْ " يجوزُ فيه وجْهَان :
أن يتعلَّق ب " حَسَرَاتٍ " ؛ لأنَّ " يحْسَرُ " يُعدَّى ب " عَلَى " ويكونُ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ. أي : على تَفْرِيطهِمْ.
والثاني : أنْ يتعلَّق بمحذوف ؛ لأنَّها صفةٌ ل " حَسَرَاتٍ "، فهي في محلّ نصْبٍ ؛ لكونها صفةً لمنصوبٍ.

فصل في المراد ب " الأعمال " في الآية


اختلفوا في المراد بالأََعمالِ.
فقال السُّدِّيُّ : الطاعاتُ، لِمَ ضَيَّعُوها ؟ وقال الربيعُ وابنُ زَيْدٍ، المعاصي والأَعْمَال الخبيثَةُ يتحسَّرون لِمَ عَمِلُوها٢٨ ؟
وقال الأَصَمُّ : ثوابُ طاعاتهم الَّتي أتَوْا بها، فأحْبَطُوها بالكُفْرِ، قال السُّدِّيُّ : تُرفع لهم الجَنَّة، فينظرُون إليها وإلى بيوتهم فيها، لو أطاعُوا الله، فيقال لهم : تِلْكَ مساكنُكمْ، لو أطعتُمُ الله تعالى، ثمَّ تقسَّم بين المؤمِنين، فذلك حين يتحسَّرُون.
وقيل : أعمالُهُمْ الَّتي تقرَّبوا بها إلى رؤسائهم والانقياد لأَمرهم، قال ابن كَيْسَان : إِنَّهُمْ أشركُوا بالله الأوثان، رجاءَ أن تقرِّبهم إلى الله تعالى، فلما عُذِّبوا على ما كانوا يَرْجُون ثوابه، تحسَّروا ونَدِمُوا.
قال ابن الخطيب٢٩ : والظاهرُ أنَّ الأعمال الَّتي اتَّبَعُوا فيها السَّادَة، وهو كُفْرُهُم. ومعاصِيهِمْ، وإنما تكون حَسْرةً بأن رأوها في صحيفَتهِمْ، وأيقنوا بالجزاءِ عليها، وكان يمكنُهُمْ تركُها، والعدولُ إلى الطَّاعات، وفي هذا الوجه الإضافة وفي الثاني : مجازٌ بمعنى لزومِهِم، فَلَمْ يَقُومُوا بها. و " الحَسْرَة " واحدةُ الحَسَرَاتِ ؛ كَتَمْرَةٍ وَتَمَرَاتٍ، وَجَفْنَةٍ وَجَفَنَاتٍ وشَهْوَةٍ وشَهَوَاتٍ.
هذا إذا كان اسماً. [ فإنْْ ] نَعتَّهُ سكَّنت ؛ كقوله ضَخْمَة وضَخْمَات وعَبْلَة وعَبْلاَت نقله القرطبي٣٠ رحمه الله تعالى قال الزَّجَّاج : هي شِدَّة الندامة، وهو تألُّم القَلب بانحسارِهِ عمّا تؤلمه واشتقاقها إِمَّا من قولهم : بعير حَسيرٌ أي منقطعُ القوَّة والحُسُور الإِعياء، وقال تبارك وتعالى :﴿ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٩ ] أو من الحسر وهو الكشف يقال : حسر عن ذراعيه، والحسرة : انشكافٌ عن حالة النَّدَامة ؛ [ والمحسرة ]٣١ المنكسة ؛ لأنها تكشف عن الأرض ؛ والطير تنحسر لأنها تنكشف بذهاب الريش.
قوله تعالى :﴿ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾.
احتجَّ به على أن أصحاب الكبائِرِ منْ أهْل القبلة يخرجُون من النَّار، فقالوا :
لأنَّ قوله :" وَمَا هُمْ " تخصيصٌ لهم بعَدَم الخروج على سبيل الحَصر ؛ فوجب أن يكُون عدَمُ الخروج مخصُوصاً بهم، وهذه الآية الكريمة تكشف عن المراد بقوله :﴿ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ ﴾ [ الانفطار : ١٤ - ١٦ ] فبيَّن أنَّ المراد بالفُجَّار ها هنا الكفَّار ؛ لدلالة هذه الآية الكريمة عليه والله أعلم.
لَمَا بيَّن التوحيد ودلائلهُ وما للموحِّدين مِنَ الثواب وأتبعه بذكر الشِّرك، أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين وأنَّ معصية مَنْ عَصَاه، وكُفْر من كَفَر به، لم تُؤَثِّر في قطع نعمه وإحسَانه إِلَيهمْ.
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: هذه الآية نزلت في قومٍ من ثقيف، وبني عامر بن صَعْصعَة، وخُزَاعة، وبني مُدْلجٍ، حَرَّموا على أنفسُهم مِنَ الحَرثِ، والبحائِرِ، والسَّوائِب، والوَصَائِلَ والحَامِ.
قوله تعالى « ﴿مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً﴾ حَلالاً فيه خَمْسَة أوجُهٍ:
أحدها: أن يكون مفعولاً ب»
كُلُوا «و» مِنْ «على هذا فيها وجهان:
أحدهما: أنْ تتعلَّق ب»
كُلُوا «ويكون معناها ابتداء الغاية.
الثاني: أنْ تتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من»
حلالاً « [وكانت في الأصلِ صفةً له، فَلَمَّا قُدَّمَتْ عليه، انتصَبَتْ حالاً] ويكون معنى» مِن «التَّبْعِيضَ.
الثاني: أنْ يكون انتصابُ»
حَلاَلاً «على أنَّه نعتُ لمفعولٍ محذوف، تقديرُهُ: شيئاً أو رِزْقاً حَلاَلاً، ذكَرَه مَكِّيٌّ واستعبده ابن عطيَّة ولم يبيِّن وجه بُعْده، والذي يظهرُ في بُعْده أَنَّ» حَلاَلاً «ليس صفةً خاصَّة بالمأْكُول بل يُوصَف به المأكُول وغيره وإذا لم تكُن الصفة خاصَّة، لا يجوز حذف الموصول.
150
الثالث: أن ينتصب» حلالاً «على أنَّه حالٌ من» مَا «بمعنى:» الَّذي «، أي: كُلُوا من الَّذي في الأرض حال كونه حلالاً.
الرابع: أن ينتصب على أنه نعت لمصدر محذوف، [أي: أكلاً حلالاً، ويكون مفعول»
كُلُوا «محذوفاً، و» ما في الأرض «صفةً لذلك المفعول المحذوف]، ذكره أبو البقاء وفيه من الرَّدِّ ما تقدِّم على مَكِّيٍِّ، ويجوز على هذا الوجه الرابع ألا يكون المفعول محذوفاً، بل تكون» مِنْ «مزيدةً على مذهب الأخفش، تقديره،» كُلثوا مَا في الأَرْضِ أكْلاً حَلاَلاً «.
الخامس: أن يكون حالاً من الضَّمير العائد على»
ما «قاله ابن عطيَّة، يعني ب» الضَّمير «الضَّمير المستكنَّ في الجارِّ والمجرور، الواقع صلة.
و»
طَيِّباً «فيه ثلاثة أوجه.
أحدها: أن تكون صفة ل»
حَلاَل «أمَّا على القول بأنَّ» مِنْ «للابتداء، متعلِّقةٌ ب» كُلُوا «فهو واضحٌ؛ وأمَّا على القول بأن» مِمَّا في الأَرْضِ «حال من» حَلاَلاً «، فقال أبُوا البَقَاءِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: ولكن موضعها بعد الجارِّ والمجرور، لئلاَّ يفصل الصِّفة بين الحال وذي الحال. وهذا القول ضعيفٌ، فإنَّ الفصل بالصفة بين الحال وصاحبها ليس بممنوعٍ؛ تقول» جَاءَنِي زَيْدٌ الطَّويلُ [راكِباً «، بل لو قدَّمت الحال على الصِّفة، فقلت:» جاءَنِي زَيْدٌ راكباً الطَّوِيلٌ «]- كان في جوازه نظر.
الثاني: أن يكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالاً من المصدر المعرفة المحذوف: أي أكلاً طَيِّباً.
الثالث: أن يكون حالاً من الضَّمير في «كُلُوا»
تقديره: مستطيبين - قال ابن عطيَّة.
قال أبُو حَيَّان: وهذا فاسدٌ في اللَّفظ أمَّا اللَّفظ؛ فلأنَّ «الطَّيِّبَ» اسم فاعل فكان ينبغي أن تُجمع؛ لتطابق صاحبها؛ فيقال: طيِّبين، وليس «طَيِّب» مصدراً؛ فيقال: إنَّما لم يجمع لذلك، وأمَّا المعنى؛ فلأنَّ «طَيِّباً» مغايرٌ لمعنى مستطيبين، لأنَّ «الطَّيِّب» من صفات المأكول، و «المستطيب» من صفات الآكلين، تقول: «طَابَ لِزَيْدٍ الطَّعَامُ» ولا تقول: «طَابَ زَيْدُ الطَّعَامَ» بمعنى استطابه.
و «الحَلاَلُ» : المأذون فيه ضدُّ الحرام الممنوع منه، حلَّ يحلُّ، بكسر العين في المضارع، وهو القياس، لأنه مضاعفٌ غير متعدٍّ، يقال: حَلاَلٌ، وحِلٌّ؛ كَحَرَامٍ وحِرْمٍ وهو في الأصل مصدرٌن ويقال: «حِلٌّ بِلٌّ» على سبيل الإتباع؛ ك «حَسَنٌ بَسَنٌ»، وحَلٌ
151
بمكان كذا يَحُلُّ - بضم العين وكسرها - وقُرئ: ﴿فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي﴾ [طه: ٨١] بالوجهين، وأصله من «الحضلِّ» الذي هو: نقيض العقد، ومنه: حلَّ بالمكان، اذا نزل به؛ لأنَّه حلَّ شدَّ الرحال للنُزول، وحَلَّ الدَّين إذا نزل به، لانحلال العقد بانقضاء المُدَّة، وحَلَّ من إحرامه، لأنه حَلَّ عقد الإحرام، وحلَّت عليه العقوبة، أي: وجبت لانحلال العقدة [المانعة من العذاب] ومن هذا: «تَحِلَّةُ اليمين» : لأن عقد اليمين تنحلُّ به.
والطَّيِّبُ [في اللغة: يكون بمعنى الطَّاهر، والحلال يوصف بأنَّه طيِّبٌح قال تعالى: ﴿قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب﴾ [المائدة: ١٠٠] والطَّيِّب في] الأصل: هو ما يستلدُّ به ويستطاب، ووصف به الطَّاهر، والحلال؛ على وجهة التشبيه؛ لأنَّ النَّجس تكرهه النَّفس؛ فلا تستلذُّه، والحرام غير مستلذٍّ، لأنَّ الشرع يزجر عنه.
وفي المراد بالطَّيِّب في الآية وجهان:
الأول: أنه المستلذُّ؛ لأنا لو حملناه على الحلال، لزم التكرار؛ فعلى هذا يكون إنما يكون طيِّباً، إذا كان من جنس ما يشتهى؛ لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه، عاد حراماً، وإن كان يبعد وقوع ذلك من العاقل إلاّ عند شبهة.
والثاني: أن يكون المراد ما يكون جنسه حلالاً، وقوله: «طَيِّباً» المراد منه: ألاَّ يكون متعلِّقاً به حقُّ الغير؛ فإنَّ أكل الحرام، وإن استطابه الآكل، فمن حيث يؤدِّي إلى العقاب: يصير مضرَّةً، ولا يكون مستطاباً؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ [النساء: ١٠].
قوله: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ : قرأ ابنُ عامِرٍ، والكسَائيُّ، وقُنْبُلٌ، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ، ويَعْقُوبُ: «خُطُوَاتِ» بضم الخاء، اولطاء، وباقي السَّبْعة بسكون الطاء.
أمّا من ضمَّ العين؛ فلأنَّ الواحدة «خُطْوَة» فإذا جمعت، حرِّكت العين؛ للجمع، كما فعلت في الأسماء التي على هذا الوزن؛ نحو: غُرْفَةٍ وغَرَفاتٍ، وتحريك العين على هذا الجمع؛ للفصل بين الاسم والصِّفة؛ لأن كلَّ ما كان اسماً، جمعته بتحريك العين؛ نحو: «تَمْرَة وتَمَرَات، وغَرْفَةٍ وغَرَفاتٍ، وشَهْوَةٍ وشَهَوَاتٍ» وما كان نعتاً، جمع بسكون العين؛ نحو: «ضَخْمَةٍ وَضَخْمَاتٍ، وعَبْلَةٍ وعَبْلاَتٍ»، والخُطْوَة: من الأسماء، لا من الصفات، فتجمع بتحريك العين.
وقرأ أبو السَّمَّال «خُطَوَات» بفتحها، ونقل ابن عطيَّة، وغيره عنه: أنه قرأ: «
152
خَطَوَات»، بفتح الخاء، والطاء، وقرأ عليٌّ وقتادة، والأعمش بضمِّها، والهمز
فأما قراءة الجمهور، والاولى من قراءتي أبي السَّمَّال، فلأن «فُعْلَة» الساكنة العين، السَّالِمَتَهَا، إذا كان اسماً، جاز في جمعها بالألف والتاء ثلاثة أوجهٍ، وهي لغاتٌ مسموعةً عن العرب: السُّكون، وهو الأصل، والإتباع، والفتح في العين، تخفيفاً.
وأما قراءة أبي السَّمَّال التي نقلها ابنُ عطيَّة، فهي جمع «خَطْوَة» بفتح الخاء، والفرق بين الخطوة بالضَّمَّ، والفتح: أنَّ المفتوح: مصدر دالًّ على المرَّة، من: خَطَا يَخْطُوا، إذا مشى، والمضموم: اسمٌ لما بين القدمين؛ كأنَّه اسم للمسافة؛ كالغرفة اسم للشيء المغترف.
وقيل: إنَّهما لغتان بمعنى واحدٍ ذكره أبُو البَقَاءِ.
وأمَّا قراءةُ عليٍّ، ففيها تأويلان:
أحدهما - وبه قال الأَخْفَشُ -: أنَّ الهمزة أصلٌ، وأنَّه من «الخَطَأ»، و «خُطُؤَات» جمع «خِطْأَة» إن سمع، وإلاَّ فتقديراً، وتفسير مجاهد إياه ب «الخَطَايَا» يؤيِّد هذا، ولكن يحتملُ أن يكون مجاهد فسَّره بالمرادف.
والثاني: أنه قلب الهمزة عن الواو؛ لأنَّها جاورة الضمّة قبلها؛ فكأنها عليها؛ لأنَّ حركة الحرف بين يديه على الصَّحيح، لا عليه.

فصل


قال ابن السَّكِّيتِ - فيما رواه عن اللِّحْيَانِيِّ - الخَطْوَة بمعنى واحدٍ، وحكى على الفرَّاء الخُطْوَة ما بين القدمين؛ كما يقال: حَثَوْتُ حُثْوَةً، والحُثْوَة: اسمٌ لما تَحَثَّيْتَ، وكذلك غَرَفْتُ غُرْفَةًن والغُرْفَة: هو الشيء المُغْتَرَفُ بالكَفِّ، فيكون المعنى: لا تتَّبعوا سبيله، ولا تسلكوا طريقه؛ لأنَّ الخُطْوَة اسم مكان.
قال الزَّجَّاج وابن قُتَيْبَة: خُطُوَاتُ الشَّيْطان طُرُقُهُ، وإن جعلت الخطوة مصدراً، فالتقدير: لا تَأَتَمُّوا به، ولا تَتَّبِعُوا أَثَرَهُ، والمعنى: أن الله تعالى، زجر المكلَّف عن تخطِّي الحلال إلى الشُّبه؛ كما زجره عن تخطِّيه إلى الحرام، وبيَّن العلَّة في هذا التحذير، وهو كونه عدوّاً مبيناً، أي: متظاهراً بالعداوة؛ وذلك لأنَّ الشيطان التزم أموراً سبعةً في العداوة:
أربعة منها في قوله تعالى: ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ [النساء: ١١٩].
153
وثلاثة منها في قوله: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾
[الأعراف: ١٦ - ١٧] فلمَّا التزم هذه الأمور، كان عدواً متظاهراً بالعداوة، وقد أظهر عداوته بإبائه السُّجود لآدم، وغروره إيّاه؛ حتَّى أخرجه من الجنَّة.
قوله: «إِنَّهُ لَكُمْ» قال أبُو البَقَاءِ: إنَّما كسر الهمزة؛ لأنَّه أراد الإعلام بحاله، وهو أبلغ من الفتح؛ لأنه إذا فتح الهمزة، صار التقدير: لا تتَّبعوه؛ لأنَّه عدوٌّ لكم، واتباعه ممنوعٌ، وإن لم يكن عدوّاً لنا، مثله: [منهوك الرجز]
٨٨٩ - أ - لَبَّيكَ، إنَّ الحَمْدُ لَكْ... كسر الهمزة أجود؛ لدلالة الكسر على استحقاقه الحمد في كلِّ حال، وكذلك التلبية. انتهى
يعني أن الكسر استئنافٌ محض فهو إخبار بذلك، وهذا الذي قاله في وجه الكسر لا يتعيَّن؛ لأنَّه يجوز أن يراد التعليل مع كسرة الهمزة؛ فإنَّهم نصُّوا على أنَّ «إنَّ» المكسورة تفيد العلَّة أيضاً، وقد ذكر ذلك في هذه الآية بعينها؛ كما تقدم أنفاً، فينبغي أن يقال: قراءة الكسر أولى؛ لأنَّها محتملة للإخبار المحض بحاله، وللعلَّيِّة؛ وممَّا يدلُّ على أنَّ المكسورة تفيد العلَّيَّة قوله - عليه السلام - في الرَّوثة «إنَّها رجسٌ» وقوله في الهرَّة:
«إنَّها لَيْسَتْ بِنَجِسٍ؛ إنَّها مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ»
وقوله: «لاَ تُنْكَحُ المَرأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا؛ إِنَّكُمْ إضّا فَعَلْتُمْ ذلك، قَطَّعْتُمْ أرْحَامَكُمْ»
وأما المفتوحة: فهي نصٌّ في العلِّيَّة، لأنَّ الكلام على تقدير لام العلَّة.
154
قوله: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ فهذه كالتَّفصيل لجملة عداوته، وهو مشتمل على أمور ثلاثةٍ:
أولها: السُّوء، وهو: متناول جميع المعاصي، سواءٌ كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح، أو من أفعال القلوب.
وسُمِّي السُّوء سوءاً؛ لأنَّه يسوء صاحبه بسوء عواقبه، وهو مصدر: «سَاءَهُ يَسُوءُهُ سُوءاً ومَسَاءَةً» إذا أحزنه، و «سُؤْتُهُ، فَسِيءَ» إذا أحزنته، فحزن؛ قال تعالى: ﴿سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ﴾ [الملك: ٢٧] ؛ قال الشَّاعر: [السريع]
٨٨٩ - ب - وإنْ يَكُ هَذَا الدَّهْرُ قَدْ سَاءَنِي فَطَالَمَا قَدْ سَرِّنِي الدَّهْرُ
أَلأَمْرُ عِنْدِي فِيهِمَا وَاحِدٌ لِذَاكَ شُكْرٌ وَلِذَا صَبْرُ
وثانيها: الفحشاء: وهو مصدر من الفحش؛ كالبأساء من البأس، والفحش: قبح المنظر.
قال امْرُؤ القَيْسِ: [الطويل]
٨٩٠ - وَجِيدٍ كَجِيدٍ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ إذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ وَلاَ بِمُعَطَّلِ
وتوسِّع فيه، حتَّى صار يعبر به عن كلِّ مستقبحٍ معنى كان أو عيناً.
والفَحْشَاءُ: نوعٌ من السُّوء، كأنَّها أقبح أنواعه، وهي: ما يستعظم، ويستفحش من المعاصي.
وثالثها: ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ فكأنَّه أقبح الأشياء؛ لأنَّ وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر، فهذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾.
فدلَّت الآية الكريمة على أنَّ الشيطان يدعو إلى الصَّغائر والكبائر، والكفر، والجهل بالله.
وروي عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - أنَّه قال: «الفَحْشَاءُ» من المعاصي: ما فيه حَدٌّ، والسُّوء من الذُّنوب ما لا حَدَّ فيه.
وقال السُّدِّيُّ: هي الزِّنا.
155
وقيل: هي البخل، ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ من تحريم الحرث والأنعام.
وقال مُقَاتِلٌ: كلُّ ما في القرآن من ذكر الفحشاء، فإنَّه الزِّنا، إلاَّ قوله: ﴿الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء﴾ [البقرة: ٣٦٨] فإنه منع الزكاة.
وقوله: «وَأَنْ تَقُولُوا» عطفٌ على قوله: «بالسُّوء»، تقديره: «وبِأَنْ تَقُولُوا» فيحتمل موضعها الجرَّ والنصب؛ بحسب قول الخليل، وسيبويه.
قال الطَّبَرِيُّ: يريد ما حرَّموا من البحيرة والسَّائبة ونحوهما، مما جعلوه شرعاً.

فصل في بيان أن الشطان لا يأمر إلا بالقبائح.


دلَّت الآية على أنَّ الشطان لا يأمر إلا بالقبائح؛ لأنَّ الله تعالى ذكره بكلمة «إنَّمَا» وهي للحصر.
وقد قال بعضهم: إن الشيطان قد يدعو إلى الخير؛ لكن لغرض أن يجره منه إلى الشَّرِّ؛ وذلك على أنواع: إمَّا أن يجرَّه من الأفضل إلى الفاضل، ليتمكَّن من أن يجره من الفاضل الشَّرِّ، وإمَّا أن يجرَّه من الفاضل السهل إلى الأفضل الأشقِّح ليصير ازدياد المشقَّة سبباً لحصول النُّفرة عن الطَّاعات بالكلِّيَّة.
وتناولت الآية الكريمة جمع المذاهب الفاسدة، بل تناولت مقلِّد الحقِّ؛ لأنَّ! هـ قال مالا يعلمه؛ فصار مستحقّاً للذَّمِّ؛ لاندراجاه تحتهذا الذَّمِّ.
وتمسَّك بهذه الآية نُفَاةُ القياس، [وجوابهم: أنه متى قامت الدَّلالة على أنَّ العمل بالقياس واجبٌ، كان العمل بالقياس] قولاً على الله بما يعلم لا بما لا يعلم.
156
قوله :﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ فهذه كالتَّفصيل لجملة عداوته، وهو مشتمل على أمور ثلاثةٍ :
أولها : السُّوء، وهو : متناول جميع المعاصي، سواءٌ كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح، أو من أفعال القلوب.
وسُمِّي السُّوء سوءاً ؛ لأنَّه يسوء صاحبه بسوء عواقبه، وهو مصدر :" سَاءَهُ يَسُوءُهُ سُوءاً ومَسَاءَةً " إذا أحزنه، و " سُؤْتُهُ، فَسِيءَ " إذا أحزنته، فحزن ؛ قال تعالى :﴿ سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ [ الملك : ٢٧ ] ؛ قال الشَّاعر :[ السريع ]
٨٨٩ ب - وإنْ يَكُ هَذَا الدَّهْرُ قَدْ سَاءَنِي***فَطَالَمَا قَدْ سَرِّنِي الدَّهْرُ
أَلأَمْرُ عِنْدِي فِيهِمَا وَاحِدٌ***لِذَاكَ شُكْرٌ وَلِذَا صَبْرُ٢٠
وثانيها : الفحشاء : وهو مصدر من الفحش ؛ كالبأساء من البأس، والفحش : قبح المنظر.
قال امْرُؤ القَيْسِ :[ الطويل ]
٨٩٠ - وَجِيدٍ كَجِيدٍ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِش إذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ بِمُعَطَّلِ٢١
وتوسِّع فيه، حتَّى صار يعبر به عن كلِّ مستقبحٍ معنى كان أو عيناً.
والفَحْشَاءُ : نوعٌ من السُّوء، كأنَّها أقبح أنواعه، وهي : ما يستعظم، ويستفحش من المعاصي.
وثالثها :﴿ أَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ فكأنَّه أقبح الأشياء ؛ لأنَّ وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر، فهذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾.
فدلَّت الآية الكريمة على أنَّ الشيطان يدعو إلى الصَّغائر والكبائر، والكفر، والجهل بالله.
وروي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنَّه قال :" الفَحْشَاءُ " من المعاصي : ما فيه حَدٌّ، والسُّوء من الذُّنوب ما لا حَدَّ فيه.
وقال السُّدِّيُّ : هي الزِّنا٢٢.
وقيل : هي البخل، ﴿ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ من تحريم الحرث والأنعام.
وقال مُقَاتِلٌ : كلُّ ما في القرآن من ذكر الفحشاء، فإنَّه الزِّنا، إلاَّ قوله :﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ ﴾ [ البقرة : ٣٦٨ ] فإنه منع الزكاة.
وقوله :" وَأَنْ تَقُولُوا " عطفٌ على قوله :" بالسُّوء "، تقديره :" وبِأَنْ تَقُولُوا " فيحتمل موضعها الجرَّ والنصب ؛ بحسب قول الخليل، وسيبويه٢٣.
قال الطَّبَرِيُّ : يريد ما حرَّموا من البحيرة والسَّائبة ونحوهما، مما جعلوه شرعاً.

فصل في بيان أن الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح.


دلَّت الآية على أنَّ الشطان لا يأمر إلا بالقبائح ؛ لأنَّ الله تعالى ذكره بكلمة " إنَّمَا " وهي للحصر.
وقد قال بعضهم : إن الشيطان قد يدعو إلى الخير ؛ لكن لغرض أن يجره منه إلى الشَّرِّ ؛ وذلك على أنواع : إمَّا أن يجرَّه من الأفضل إلى الفاضل، ليتمكَّن من أن يجره من الفاضل الشَّرِّ، وإمَّا أن يجرَّه من الفاضل الأسهل إلى الأفضل الأشقِّ ؛ ليصير ازدياد المشقَّة سبباً لحصول النُّفرة عن الطَّاعات بالكلِّيَّة.
وتناولت الآية الكريمة جميع المذاهب الفاسدة، بل تناولت مقلِّد الحقِّ ؛ لأنَّه قال مالا يعلمه ؛ فصار مستحقّاً للذَّمِّ ؛ لاندراجه تحت هذا الذَّمِّ.
وتمسَّك بهذه الآية نُفَاةُ القياس، [ وجوابهم : أنه متى قامت الدَّلالة على أنَّ العمل بالقياس واجبٌ، كان العمل بالقياس ]٢٤ قولاً على الله بما يعلم لا بما لا يعلم.
الضمير في «لَهُمْ» فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه يعود على «مَنْ في قوله ﴿مَن يَتَّخِذُ﴾ [البقرة: ١٦٥].
الثاني: قال بعض المفسِّرين: نزلت في مشركي العرب، فعلى هذا: الآية متَّصلة بما قبلها، ويعود الضمير عليهم؛ لأنَّ هذا حالهم.
الثالث: أنه يعود على اليهود؛ لأنَّهم أشدُّ الناس اتِّباعاً لأسلافهم.
روي عن ابن عبَّاس قال: دعا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اليهود إلى الإسلام، فقال رافع بن خارجة، ومالك بن عوفٍ:»
بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ فهم كانوا خيراً منَّا، وأَعْلَمُ منَّا «فأنزل الله هذه الآية الكريمة.
156
وقال بعضهم: هذه قصَّةٌ مستأنفةٌ، والهاء والميم في» لَهُمْ «كناية عن غير مذكور.
الرابع: أنه يعود على»
النَّاس «في قوله» يَأَيُّهَا النَّاسُ «قاله الطبريُّ، وهو ظاهرٌ إلاَّ أن ذلك من باب الالفتات من الخطاب إلى الغيبة، وحكمته: أنَّهم أبرزوا في صورة الغائب الذي يتعجَّب من فعله، حيث دعي إلى شريعة الله تعالى والنُّور والهدى، فأجاب باتِّباع شريعة أبيه.
قوله:»
بَلْ نَتَّبعُ «» بَلْ «ههنا: عاطفةٌ هذه الجملة على جملة محذوفةٍ قبلها، تقديره:
»
لا نَتَّبعُ ما أَنْزَلَ اللهُ، بل نَتَّبعُ كذا «ولا يجوز أن تكون معطوفةً على قوله:» اتَّبعوا «لفساده، وقال أبُو البَقَاءِ:» بل «هنا للإضراب [عن الأوَّل، أي:» لاَ نَتَّبعَ مَا أَنْزَلَ اللهُ «، وليس بخروج من قصَّة إلى قصَّة، يعني بذلك: أنه إضراب إبطال]، لا إضراب النتقالٍ؛ وعلى هذا، فيقال: كلُّ إضرابٍ في القرآن الكريم، فالمراد به الانتقال من قصًّةٍ إلى قصَّةٍ إلاَّ في هذه الآية، وإلاَّ في قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه بَلْ هُوَ الحق﴾ [السجدة: ٣]، كان إضراب انتقالٍ، وإذا اعتبرت» افْتَرَاهُ «وحده، كان إضراب إبطالٍ.
والكسائيُّ يدغم لام»
هُلْ «و» بَلْ «في ثمانية أحرفٍ:
التاء؛ كقوله: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ﴾ [الأعلى: ١٦] والنُّون:»
بَلْ نَتَّبعُ «والثَّاء» ﴿هَلْ ثُوِّبَ﴾ [المطففين: ٣٦] والسِّين: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ [يوسف: ١٨]، والزَّاي: ﴿بَلْ زُيِّنَ﴾ [الرعد: ٣٣]، والضَّاد: ﴿بَلْ ضَلُّواْ﴾ [الأحقاف: ٢٨] والظَّاء: ﴿بَلْ ظَنَنتُمْ﴾ [الفتح: ١٢] والطَّاء: ﴿بَلْ طَبَعَ الله﴾ [النساء: ١٥٥]، وأكثر القرَّاء على الإظهار، ووافقه حمزة في التاء والسين، والإظهار هوالأصل.
قوله: «أَلْفَيْنَا» في «أَلْفَى» هنا قولان:
أحدهما: أنَّها متعدِّية إلى مفعولٍ واحدٍ، لأنها بمعنى «وَجَدَ» التي بمعنى «أَصَابَ» ؛ بدليل قوله في آية أخرى: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا﴾ [لقمان: ٢١] وقوله: ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الباب﴾ [يوسف: ٣٥] وقولهم: ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ﴾ [الصافات: ٦٩]، فعلى هذا: يكون «عَلَيْهِ» متعلِّقاً بقوله: «أَلْفَيْنَا».
أولهما: «آبَاءَنَا»، والثاني: «عَلَيهِ»، فقُدِّم على الأول.
وقال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللهُ -: [ «هي محتملةٌ للأمرين - أعني كونها متعدِّية لواحد
157
أو لاثنين» -؛ قال أبو البقاء:] و «لامُ» أَلْفَيْنَا «واوٌ؛ لأن الأصل فيما جُهل من اللاَّمات أن تكون واواً، يعني: فإنه أوسع وأكثر؛ فالرَّدُّ إليه أولى.
ومعنى الآية: أنَّ الله - تبارك وتعالى - أمرهم بأن يتَّبعوا ما أنزل الله في تحليل ما حرَّموا على أنفسهم من الحرث، والأنعام، اولبحيرة، والسَّائبة. أو ما أنزل الله من الدَّلائل الباهرة، قالوا: لا نتَّبع ذلك، وإنما نتبع آباءنا، وأسلافنا، فعارضوه بالتَّقليد، فأجابهم الله تعالى بقوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ﴾، فالهمزة في»
أَوَلَوْ «للإنكار، وأما الواو، [ففيها قولان:
أحدهما - قاله الزمخشريُّ -: أنَّها واو الحال.
والثاني - قال به أبو البقاء، وابن عطيَّة -: أنَّاه للعطف، وقد تقدَّم الخلاف في هذه الهمزة الواقعة قبل»
الواو «و» الفاء «و» ثُمَّ «، هل] بعدها جملة مقدَّرةٌ، وهو رأي الزمخشري؛ ولذلك قدَّر ههنا:» أَيَتَّبِعُونَهُمْ، وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً مِنَ الدِّينِ، وَلاَ يَهْتَدُونَ لِلصَّوَابِ؟ «أو النية بها التأخير عن حرف العطف؟
وقد جمع أبو حيَّان بين قول الزمخشريِّ، وقول ابْنِ عَطيَّة، فقال: والجمع بينهما: أنَّ هذه الجملة المصحوبة ب»
لَوْ «في مثل هذا السِّياق جملةٌ شرطيةٌ، فإذا قال:» اضْرِبْ زَيْداً، وَلَوْ أَحْسَنَ إِلَيْكض «، فالمعنى:» وَإِنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ «وكذلك:» أَعْطُوا السَّائِلَ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَس «» رُدُّوا السَّائِلَ، وَلَوْ بِشِقَّ تَمْرَةٍ «، المعنى فيهما» وإِنْ «وتجيء» لَوْ «هنا؛ [تنبيهاً] على أنَّ ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها، لكنَّها جازت لاستقصاء الأَحوال التي يقع فيها الفعل، ولتدلَّ على أن المراد بذلك وجود الفعلفي كلِّ حالٍ؛ حتَّى في هذه الحال الَّتي لا تناسب الفعل؛ ولذلك لا يجوز:» اضْرِبْ زَيْداً، وَلَوْ أَسَاءَ إِلَيْكَ «، ولا» أَعْطُوا السَّائِلَ، وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجاً «فإذا تقرَّر هذا، فالواو في» وَلَوْ «في الأمثلة التي ذكرناها عاطفةٌ على حالٍ مقدَّرة، والمعطوف على الحال حالٌ؛ فصحَّ أن يقال: إنَّها
158
للحال من حيث عطفها جملةً حاليَّةً على حالٍ مقدَّرةٍ، وَصَحَّ أن يقال: إنَّها للعطف من حيث ذلك العطف، فالمعنى - والله أعلم -: أنها إنكارُ اتِّبَاعِ آبائهم في كلِّ حالٍ؛ حتى في الحالة الَّتي لا تناسب أن يتبعوهم فيها، وهي تلبُّسهم بعدم العقل والهداية؛ ولذلك لا يجوز حذف هذه الواو الداخلة على» لَوْ «إذا كانت تنبيهاً على أنَّ ما بعدها لم يكن مناسباً ما قبلها، وإن كانت الجملة الحاليَّةُ فيها ضميرٌ عائدٌ على ذي الحال؛ لأنَّ مجيئها عاريةً من هذه الواو مؤذنٌ بتقييد الجملة السَّابقة بهذه الحال، فهو ينافي استغراق الأحوال؛ حتى هذه الحال، فهما معنيان مختلفان؛ ولذلك ظهر الفرق بين:» أَكْرِمْ زَيْداً، لَوْ جَفَاكَ «، وبين:» أَكْرِمْ زَيْداً، وَلَوْ جَفَاكَ «.
انتهى. وهو كلامٌ حسنٌ.
وجواب «لو»
محذوفٌ، تقديره: «لاَتَبَعُوهُمْ» وقدره أبو البَقَاءِ: «أفكَانُوا يَتَّبِعُونَهُمْ؟» وهي تفسير معنًى لأن «لَوْ» لا تجاب بهمزة الاستفهام، قال بعضهم: ويقال لهذه الواو أيضاً واو التَّعَجُّب دخلت عليها ألأف الاستفهام للتوبيخ.

فصل في بيان «معنى التقليد»


قال القرطبيُّ: التقليد عند العلماء: «حقيقةُ قَبُولِ قَوْلٍ بلا حُجَّةٍ» ؛ وعلى هذا فمن قبل قول النبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من غير نظرٍ في معجزته، يكون مقلِّداً، وأمَّا من نظر فيها، فلا يكون مقلِّداً.
وقيل: «هو اعتقادُ صٍحَّة فُتْيَا مَنْ لا يَعْلَم صحَّة قوله»، وهو في اللُّغة مأخوذٌ من قلادة البعير، تقول العرب: قلَّدت البعير؛ إذا جعلت في عنقه حبلاً يقاد به؛ فكأنَّ المقلِّد يجعل أمره كلَّه لمن يقوده حيث شاء؛ ولذلك قال شاعرهم: [البسط]
٨٩١ - وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمُ ثَبْتَ الجَنَانِ بَأَمْرِ الحَرْبِ مُضْطَلِعا

فصل في المراد بالآية


والمعنى: «أَيَتَّبِعُونَ آباءَهُمْ، وإن كانوا جُهَّالاً لا يَعْقِلُون شيئاً»، لفظه عامٌّ، ومعناه الخصوص؛ لأنهم كانوا لا يعقلون كثيراً من أمور الدنيا؛ فدلَّ هذا على أنهم لا يعقلون شيئاً من الدِّين، ولا يهتدون إلى كيفيَّة اكتسابه.
وقوله «شيئاً» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به؛ فيعمُّ جميع المعقولات؛ لأنَّها نكرةٌ في سياق النفي، ولا يجوز أن يكون المراد نفي الوحدة، فيكون المعنى: لا يعقلون شيئاً «بَلْ أَشْيَاءً من العَقْلِ» وقدَّم نفي العقل على نفي الهداية؛ لأنَّه يصدرعنه جميع التصرُّفات.
159
الثاني: أن ينتصب على المصدريَّة، أي: «لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً».

فصل في تقرير هذا الجواب


في تقرير هذا الجواب وجوه:
الأوَّل: أنه يقال للمقلِّد: هل تعترف بأنَّ شرط جواز تقليد الإنسان: أن يعلم كونه مُحِقَّا، أم لا؟ فإن اعترفت بذلك، لم تعلم جواز تقليده، إلاَّ بعد أن تعلم كونه محقّاً، فكيف عرفت أنه محقٌّ؛ فإن عرفته بتقليدٍ آخر، لزم التسلسل، وإن عرفته بالعقل، فذاك كافٍ، ولا حاجة إلى التَّقليد، وإن قلت: ليس من شرط جواز تقليده: أن يعلم كونه محقّاً، فإذن: قد جوَّزت تقليده، وإن كان مبطلاً، فإذن: انت على تقليدك لا تعلم أنَّك محقٌّ، أم مبطل.
وثانيها: هب أن ذلك المتقدِّم كان عالماً بهذا إلاَّ أنَّا لو قدَّرنا أن ذلك المتقدِّم ما كان عالماً بذلك الشَّيء قطُّ، ولا اختار فيه ألبتة مذهباً، فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أنك لا تعلم ذلك المتقدِّم، [ولا مذهبه، كان لا بُدَ من العُدُول إلى النَّظَر فكذا ههنا.
وثالثها: أنك إذا قلَّدت من قبلك، فذلك المتقدِّم] : إن كان عرفه بالتقليد، لزم إما الدَّور،
160
وإمَّا التسلسل، وإن عرفه بالدليل، وجب أن تطلب اعلم بالدليل، لا بالتَّقليد، لأنَّك لو
161
طلبته بالتقليد، لا بالدَّليل، مع أنَّ ذلك المتقدِّم طلبه بالدليل لا بالتقليد، كنت مخالفاً له، فثبت أن القول بالقليد يفضي ثبوته إلى نيه، فيكون باطلاً، وإنَّما ذكرت هذه الآية الكريمة عقيب الرجز عن اتباع خطوات الشَّيطان؛ تنبيهاً على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان، وبين متابعة التَّقليد، وفيه أقوى دليلٍ على جوب النَّظَر، والاستدلال، وترك التَّعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليلٍ، أو على ما يقوله الغير من غير دليل.

فصل في بيان ما يستثنى من التَّقليد


قال القرطبيُّ: ذمَّ الله تعالى الكفَّار؛ باتباعهم لآبائهم في [الباطل] واقتدائهم بهم في الكفر، والمعصية، وهذا الذَّمُّ في الباطل صحيحٌ، وأما التقليد في الحقِّ، فأصل من «أصول الدِّين»، وعصمة من عصم المسلمين، يلجأ إليها الجاهل المقصِّر عن درك النَّظر، واختلف العلماء - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - في جوازه في مسائل الأصول، وأمَّا جوازه في مسائل الفروع، فصحيحٌ.

فصل في وجوب التَّقليد على العامِّي


قال القرطبيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: فرض العامِّيِّ الذي لا يستقلُّ باستنباط الأحكام من أصولها، لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه، ويحتاج إليه - أن يقصد أعلم من في زمانه ببلده؛ فيسأله عن نازلته، فيتمثَّل فيها فتواه؛ لقوله تعالى: ﴿فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣] وعليه الاجتهاد في أعلم أهل زمانه بالبحث عنه؛ حتى يتفق أكثر الناس عليه، وعلى العالم أيضاً أن يقلِّد عالماً مثله في نازلةٍ خفي عليه وجه الدليل فيها.
162
لما حكى عن الكفَّار أنَّهم عند الدُّعاء إلى اتِّباع ما أنزل الله تعالى، تركوا النَّظر،
162
وأخلدوا إلى التَّقليد، وقالوا: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ﴾ [البقرة: ١٧٠]- ضَرَبَ لهم هذا المثل؛ تنبيهاً للسَّامعين لهم: أنهم إنما وقعوا فيه؛ بسبب ترك الإصغان وقلة الاهتمام بالدِّين، فصيرهم من هذا الوجه بمنزلة الأنعام، وضر بمثل هذا المثل يزيد السَّامع اجتهاداً في معرفة أحوال نفسه، ويحقِّر إلى الكافر نفسه، إذا سمع ذلك، فيكون كسراً لقلبه، وتضييقاً لصدره؛ حيث صيَّره كالبهيمة، فكان ذلك ي نهاية الرَّدع والزَّجر لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقة التقليد.
وقد اختلف النَّاس في هذه الآية اختلافاً كثيراً، ولا سبيل إلى معرفة الإعراب إلاَّ بعد معرفتة المعنى المذكور في الآية الكريمة، وقد اختلفوا في ذلك:
فمنهم من قال: معناها: أنَّ المثل مضروبٌ بتشبيه الكافر بالنَّاعق، ومنهم من قال: هو مضروبٌ بتَشْبيه الكافر بالمَنْعوق به، ومنهم مَنْ قال: هو مضْروبٌ بتشبيه داعي الكفر بالنَّاعق، ومنهم مَنْ قال: هو مضروب بتشبيه الدَّاعي والكافر بالنَّاعق، والمنعوق به، فهذه أربعة أقوالٍ.
فعلى القول الأول: يكون التقدير: «وَمَثَلُ الَّذينَ كَفَرُوا في قِلَّة فَهْمِهِمْ، كَمَثَلِ الرُّعَاة يُكَلِّمُون البُهْمَ والبُهْمُ لا تَعْقِلُ شيئاً».
وقيل: يكون التقدير: «وَمَثَلُ الَّذين كَفَروا في دُعائهم آلِهَتَهُمْ التي لا تَفْقَهُ دُعَاءَهُم، كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِغَنَمِهِ؛ لا ينتفع من نَعِيقِهِ بشَيءٍ غير أنَّه في عناءٍ» ؛ وكذلك الكافرُ ليس له من دعائه آلهته إلاَّ العناء؛ كما قال تعالى: ﴿إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ﴾ [فاطر: ١٤].
قال الزَّمَخْشَرِيُّ لمَّا ذكر هذا القول: «إلاَّ أنَّ قوله:» إلاَّ دُعاءً وَنِدَاءً «، لا يساعد عليه؛ لأنَّ الأصنام لا تَسْمَعُ شيئاً».
قال أبُو حَيَّان - رَحِمَهُ اللهُ -: «ولحظ الزمخشريُّ في هذا القول تمام التشبيه من كُلِّ جهة، فكما أنَّ المنعوق به لا يَسْمَعُ إلاَّ دعاءً ونداءً، فكذلك مدعُوُّ الكافِرِ مِنَ الصَّنم، والصَّنَم لا يَسْمَعُ، فضَعُف عنده هذا القوْلُ» قال: «ونحْنُ نقولُ: التشْبيهُ وقَعَ في مُطْلَق الدُّعاء في خُصوصيَّات المدعُوِّ، فتَشْبِيهُ الكَافِر في دعائِهِ الصَّنَمَ بِالنَّاعِقِ بالبهيمة، لا في خصوصيَّات المنعُوق به»، وقال ابنُ زَيْدٍ في هذا القَوْلِ - أعني: قولَ مَنْ قال: التقديرُ: ومَثَلُ الذين كَفَرُوا في دُعَائِهِمْ آلهتَهُم -: إنَّ الناعق هنا ليس المراد به الناعق بالبهائم، وإنَّما المراد به الصائح في جوف الجبل، فيجيبه الصَّدى، فالمعنى: بما لا يسمع منه الناعقُ إلاَّ دعاء نفسه، ونداءها، فعلى هذا القول: يكون فاعل «يَسْمَعُ» ضميراً عائداً على «الَّذِي يَنْعِقُ» ويكون العائد على «مَا» الرابط للصِّلة بالموصُول محذوفاً؛ لفَهْم المعنى، تقديره: «بِمَا لاَ يَسْمَعُ مِنْهُ» وليس فيه شرط
163
جوازِ الحَذْف؛ فإنه جُرَّ بحرف غير ما جُرَّ به لموصول، وأيضاً: فقد اختلف متعلَّقاهما إلاَّ أنه قد ورد ذلك في كلامهم، وأمَّا على القولين الأوَّلين، فيكون فاعل «يَسْمَعُ» ضميراً يعود على «ما» الموصولة، وهو المنعوقُ به.
وقيل: المراد ب «الَّذِين كَفَرُوا» المتبُوعُون، لا التابعون، المعنى: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في دعائِهِمْ اتباعَهُمْ، وكوْنِ أتباعِهِمْ لا يَحْصُل لهم منهم إلاَّ الخَيْبَة، كمثل النَّاعق بالغَنَم، فعلى هذه الأقوال كلِّها: يكون» مَثَل «مبتدأً و» كَمَثَلِ «خبره، وليس في الكلام حذفٌ إلاَّ جهة التَّشبيه.
وعلى القول الثاني من الأقوال الأربعة المتقدِّمة: فقيل: معناه:»
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في دُعَائِهِمْ إلى الله تعالى، وعَدَمِ سماعِهِمْ إِيَّاه، كَمَثَلِ بَهَائم الَّذِي يَنْعِقُ «فهو على حذفِ قَيْدٍ في الأوَّل، وحَذْف مضافٍ في الثاني.
وقيل: التقدير:»
ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في عَدَم فَهْمهم عَنِ اللهِ ورسُولِهِ، كَمَثَلِ المنْعُوق بِهِ منَ البَهَائم الَّتي لا تَفْقَهُ من الأَمْر والنَّهْي غَيْر الصَّوْت «فيرادُ بالذي يَنْعِقُ: الذي يُنْعَقُ بِهِ، ويكون هذا من القَلْبِ، وقال قائلٌ:» هذا كما تقولون: «دَخَلَ الخَاتَمُ في يَدِي، والخُفُّ في رِجْلِي» وتقولون: «فُلاَنٌ يَخَافُكَ؛ كَخَوْفِ الأَسَدِ»، أي: كَخَوْفِهِ الأَسَدَ، وقال تعالى: ﴿مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة﴾ [القصص: ٧٦] وإنَّما العصبة تنوء بالمفاتح «. وإلى هذا ذهب الفرَّاء، وأبو عُبَيْدَة، وجماعةٌ إلاَّ أنَّ القلب لا يقع على الصَّحيح إلاَّ في ضرورة أو ندورٍ.
وأمَّا على القول الثَّالث، وهو قولُ الأخفش، والزَّجَّاج، وابْنِ قُتَيْبَة، فتقديره:»
ومَثَلُ داعي الَّذين كَمَثَلِ النَّاعق بغَنَمه؛ في كَوْن الكافِرِ لا يَفْهَمُ ممَّا يُخَاطِبُ به داعيَهُ إلاَّ دَوِيَّ الصَّوْت، دون إلقاءِ فكرٍ وذهنٍ؛ كما أنَّ البيهمةَ كذلك، فالكلامُ على حذف مضافٍ من الأوَّل.

فصل في المراد ب «مَا لاَ يَسْمَعُ»


قال الزَّمَخْشَرِيُّ: ويجوزُ أن يرادَ ب «مَا لاَ يَسْمَعُ» الأصمُّ الأصْلَج الذي لا يَسْمَعُ من كلام الرَّافِعِ صَوْتَهُ بِكَلاَمِهِ إلاَّ النِّداءَ والصَّوتَ، لا غير؛ من غير فهم للحرف، وهذا جنوح إلى جواز إطلاق «ما» على العقلاء، أو لما تنزَّل هذا امنزلة من لا يسمع من البهائم، أوقع عليه «مَا».
وأما على القول الرابع - وهو اختيار سيبويه في هذه الآية -: فتقديره عنده: «مَثَلُكَ يَا مُحَمَّدُ، ومَثَلُ الذين كَفَرُوا، كَمَثَل النَّاعق والمنْعُوقِ به»، واختلف النَّاس في
164
فهم كلام سيبويه، فقائل: هو تفسير معنى، وقيل: تفسير إعرابٍ، فيكون في الكلام حذفان: حذف من الأوَّل، وهو حذف «دَاعِيهم»، وقد أثبت نظيره في الثاني، وحذفٌ من الثَّاني، وهو حذف المنعوق، وقد أثبت نظيره في الأول؛ فشبَّه داعِيَ الكُفَّار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه، وشبَّه الكفَّار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه، إلاَّ أصواتاً لا يعرفون ما وراءها، وفي هذا الوجه حذف كثير؛ إذ فيه حذف معطوفين؛ إذ التقدير الصناعيُّ: «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ودَاعِيهِمْ كمثل الذي يَنْعِقُ بالمَنْعُوقِ به».
وقد ذهب إليه جماعةٌ، منهم: أبو بكر بن طاهر، وابن خروفٍ، والشَّلوبين؛ قالوا: العرب تستحسن هذا، وهو من بديع كلامها؛ ومثله قوله: [ ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء﴾ [النمل: ١٢]] تقديره: «وأَدْخِل يَدَكَ في جَيْبِكَ، تدْخُلْ، وأَخْرِجْها تَخْرُجْ» ؛ فحذف «تَدْخُل» ؛لدلالة «تَخْرُج» وحَذَف «وأَخْرجْهَا» ؛ لدلالة «وأَدْخِلْ»، قالوا: ومثله قوله:
٨٩٥ - وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ فَتْرَةٌ كَمَا انْتَفَضَ العُصْفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ
لم يرد أن يشبِّه فترته بانتفاض العصفور حين بلَّله القطر؛ لأنَّمها ضدَّان؛ إذ هما حركةٌ وسكونٌ، ولكنَّ تقديره: أنِّي إذا ذكرته، عراني انتفاضٌ، ثمَّ أفتر؛ كما أن العصفور إذا بلَّله القطر، عراه فترةٌ، ثم ينتفض، غير أنَّ وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة، وفترة العصفور قبل انتفاضه.
وهذه الأقوال كلُّهَا، إنَّما هي على القول بتشبيه مفرد بمفرد، ومقابلة جزء من الكلام السَّابق بجزء من الكلام المشبَّه به.
أمَّا إذا كان التشبيه من باب تشبيه جملةٍ بجملةٍ، فلا ينظر في ذلك إلى مقابلة الألفاظ المفردة، بل ينظر إلى المعنى، وإلى هذا نحا أبو القاسم الراغب؛ قال الرَّاغب: «فلمَّا شبَّه قصَّة الكافرين في إعراضهم عن الدَّاعي لهم إلى الحقِّ، بقصَّة النَّاعق قدَّم ذكر النَّاعق؛ لينبني عليه ما يكون منه، ومن المنعوق به».
165
والكاف ليست بزائدةٍ، خلافاً لبعضهم؛ فإنَّ الصِّفة ليست عين الصِّفة الأخرى، فلا بُدَّ من الكاف؛ حتى أنه لو جاء الكلام دون الكاف، اعتقدنا وجودها تقديراً تصحيحاً للمعنى.
وقد تلخَّص ممَّا تقدَّم: أنَّ «مَثَلُ الَّذِينَ» مبتأٌ، و «كَمَثَلِ الَّذِي» خبره: إمَّا من غير اعتقاد حذف، أو على حذف مضافٍ من الأوَّل، أي: «مثلُ:» داعي الَّذين «، أو من الثَّاني، أي:» كَمَثَلِ بَهَائِم الَّذِي «، أو على حذفين: حذف من الأوَّل ما أثبت نظيره في الثَّاني، ومن الثَّاني ما أثبتَ نظيره في الأوَّل؛ كما تقدَّم تحريره.
والنعيق دعاء الرَّاعي، وتصويته بالغنم؛ قال الأخطل في ذلك: [الكامل]
٨٩٦ - فَانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ فَإِنَّمَا مَنَّتْكَ نَفْسُكَ في الخَلاَءِ ضَلالاَ
قال القتيبيُّ: لم يكن جرير راعي ضأنٍ، وإنَّما أراد أنَّ بني كُلَيبٍ يُعَيَّرُونَ برعْيِ الضأن، وجرير منهم؛ فهو من جَهَلتهم، والعرب تضرب المثل في الجهل براعي الضَّأن، ويقولون: أجْهَلُ من رَاعِي ضَأْنٍ.
يقال: نَعَقَ، بفتح العَيْنِ، يَنْعِقُ، بكَسْرها، والمصدرُ النَّعيقُ والنُّعَاقُ، والنَّعْقُ، وأما «نَعَقَ الغُرَابُ»
، فبالمعجمة، وقيل: بالمهملة أيضاً في الغُرَاب، وهو غريبٌ.
قال بعضهم: إنَّ الياء والنُّون من قوله: «يَنْعِقُ» من نصف هذه السُّورة الأوَّل، والعَيْنَ والقَافَ من النصف الثَّاني.
«إلاَّ دعاء» : هذا استثناءٌ مفرَّغٌ؛ لأن قبله «يَسْمَعُ» ولم يأخذ مفعوله وزعم بعضهم أن «إلاَّ» زائدةٌ، فليس من الاستثناء في شيء، وهذا قولٌ مردودٌ، وإن كان الأصمعيُّ قد قال بزيادة «إلاَّ» في قوله: [الطويل]
٨٩٧ - حَرَجِيجُ لا تَنْفَكُّ إلاَّ مُنَاخةً عَلَى الخَسْفِ أو نَرْمِي بِهَا بَلَداً قَفْراً
فقد ردَّ النَّاسُ عليه، ولم يقْبَلُوا قوله، وفي البيت كلامٌ تقدَّم.
وأورد بعضهم هنا سؤالاً معنويّاً، وهو أن قوله ﴿لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً﴾ [البقرة: ١٧١] ليس المسموع إلا الدعاء والنداء، فكيف ذمَّهم بأنَّهم لا يسمعون إلا الدعاء؛ وكأنَّه قيل: لا يسمعون إلاَّ المسموع، وهذا لا يجوز؟
166
فالجواب: أن في الكلام إيجازاً، وإنَّما المعنى: لا تفهم معاني ما يقال لهم؛ كما لا تميِّز البهائم بين معاني الألفاظ التي يصوَّت بها، وإنَّما تفهم شيئاً يسيراً، قد أدركته بطول الممارسة، وكثرة المعاودة؛ فكأنه قيل لهم: إلاَّ سماع النِّداء دون إدراك المعاني، والأغراض.
قال شِهَابُ الدِّين: وهذا السُّؤال من أصله ليس بشيءٍ، ولولا أنَّ الشَّيخ ذكره، لم أذكره.
وهنا سؤالٌ ذكره عليُّ بن عيسى، وهو هل هذا من باب التَّكرار لمَّا اختلف اللَّفظ، فإنَّ الدعاء والنِّداء واحدٌ؟ والجواب: أنه ليس كذلك؛ فإن الدعاء طلب الفعل، والنداء إجابة الصَّوت.
وقال القرطبيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: النداء للبعيد، والدعاء للقريب، وكذلك قيل للأذان بالصلاة نداءٌ؛ لأنه للأباعد، وفي هذا نظر؛ لأنَّ النبيَّ - عليه السلام - قال: «الخِلافَةُ في قُرَيْشٍ، والحُكْمُ في الأَنْصَارِ، والدَّعْوَةُ في الحَبَشَةِ»
قال ابنُ الأثِير في «النَّهَايَة» : أراد بالدَّعوة الأذان، وجعله في الحبشة؛ تفضيلاً لمؤذِّنه بِلالٍ، وقال شاعر الجاهليَّة: [الوافر]
٨٩٨ - فَلَسْتُ بِصَائِمٍ رَمَضَانُ عُمْرِي وَلَسْتُ بِآكِلٍ لَحْمَ الأَضَاحِي
وَلَسْتُ بِقَائِمٍ كالعِيرِ يَدْعُوا قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ
أراد أذان الصُّبح، وقد تضمُّ النون في النِّداء، والأصل الكسر.
قوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٧١] لمَّا شبَّههم بالبهائم، زاد في تبكيتهم، فقال: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ ؛ لأنَّهم صارُوا بمنزلة الأصَمِّ؛ في أنَّ الذي سَمِعُوه، كأنَّهم لم يسمعوه، وبمنزلة البُكْم؛ في ألاَّ يستجيبوا لما دعوا إليه، ومن حيث العمي؛ من حيث إعراضهم عن الدَّلائل؛ فصاروا كأنَّهم لم يشاهدوها، قال النُّحاة: «صُمٌّ»، أي: هم صمٌّ، وهو رَفْع على الذَّمِّ.
167
وقوله: «فَهُمْ لاَ يَعْقِلُون» فالمراد: العقْلُ المكتَسَبُ هو الاستعانة بهذه القُوَى الثَّلاثة، فلمَّا أعرضوا عنهان فقد فقدوا العقل الكسبيَّ، ولهذا قيل: من فقد حسّاً، فَقَدْ فَقَدَ علماً، والله تعالى أعلم.
168
قال بعض المفسِّرين: إنَّ الله تبارك وتعالى ذكر من أوَّل السُّورة إلى هنا دلائل للتَّوحيد والنُّبُوَّة، واستقصى في الرَّدِّ على اليهود والنصارى، ومن هنا: شرع في بيان الأحكام، فقال: «كُلُوا» واعلم: أنَّ الأكل قد يكون واجباً، وذلك عند دفع الضرر عن النَّفس، وقد يكون مندوباً، وذلك عند امتناع الضيف من الأكل، غذا انفرد، وللبساطة في الأكل، غذا سوعد، فهذا الأكل مندوبٌ، وقد يكون مباحاً، إذا خلا عن هذه العوارض، فلا جرم كان مسمَّى الأكل مباحاً، وإذا كان كذلك، كان قوله في هذا الموضع «كُلُوا» لا يفيد الإيجاب، والنَّدب، [بل الإباحة، ومفعول «كُلُوا» محذوفٌ، أي: «كُلُوا رِزْقَكُمْ حَالَ كَوْنِهِ بَعْضَ طيِّباتِ ما رَزَقْنَاكُمْ» ويجوزُ في رأي الأخفش: أن تكون «مِنْ» زائدةً في المفعول به، أي: «كُلُوا طيِّبات ما رزَقْنَاكم».

فصل في بيان حقيقة الرِّزق


استدلُّوا على أنَّ الرزق قيد يكون حراماً؛ بقوله تعالى: «مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ» ؛ فإِنَّ الطَّيِّب هو الحلال، فلو كان كلُّ رزقٍ حلالاً؛ لكان قوله: «كُلُوا مِن] طَيِّبَاتَ مَا رَزَقْنَاكُمْ» معناه: من محلَّلات ما أحللنا لكم، فيكون تكراراً، وهو خلاف الأصل، وأجابوا عنه؛ بأن الطَّيِّب في أصل اللُّغة: عبارةٌ عن المستلذِّ المستطاب، فلعلَّ أقواماً ظنُّوا أنَّ التوسُّع في المطاعم، والاستكثار من طيِّباتها ممنوعٌ منه، فأباح الله تبارك وتعالى ذلك؛ لقوله تعالى: «كُلُوا» من لذائذ ما أحللناه لكم، فكان تخصيصه بالذِّكر لهذا المعنى.
فصل في الوجوه التي وردت عليها كلمة «الطَّيِّب» في القرآن قالوا: «والطَّيِّبُ» ورد في القرآن الكريم على أربعة أوجهٍ:
أحدها: الطَّيِّبات بمعنى الحلال؛ قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب﴾ [النساء: ٢]، أي: لا تتبدَّلوا الحرام بالحلال.
الثاني: الطيِّب بمعنى الطَّاهر؛ قال تبارك وتعالى: ﴿فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً﴾ [النساء: ٤٣]،
168
وقال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب﴾ [فاطر: ١٠].
الثالث: الطَّيِّب: معناه الحسن، أي: الكلام الحسن للمؤمنين.
وقوله: ﴿واشكروا للَّهِ﴾ أَمْرٌ، وليس بإباحةٍ، بمعنى أنه يجب اعتقاد مستحقّاً إلى التعظيم، وإظهار الشُّكْر باللِّسان، أو بالأفعال، إن وجدت هنا له تهمةٌ.
[الرابع: ذكر الله وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف، قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب﴾ [فاطر: ١٠].
قوله: «إِنْ كُنْتُمْ» شرطٌ، وجوابه محذوف، أي: فاشكروا له، وقول من قال من الكوفيِّين: إنَّها بمعنى «إذ» ضعيفٌ، و «إيَّاه» : مفعولٌ مقدَّم؛ ليفيد الاختصاص، أو لكون عامله رأس آية، وانفصاله واجبٌ، ولأنه متى تأخَّر، وجب اتصاله إلاَّ في ضرورة؛ كقوله: [الرجز]
٨٩٩ - إلَيْكَ حَتَّى بَلَغَتْ إِيَّاكَ... وفي قوله: ﴿واشكروا للَّهَ﴾ التفاتٌ من ضمير المتكلِّم إلى الغيبة إذْ لو جرى على الأسلوب الأوَّل، لقال: «واشْكُرُونَا».

فصل في المراد من الآية


في معنى الآية وجوه:
أحدها: «واشْكُرُوا الله، إنْ كُنْتُمْ عارفِينَ بالله ونِعَمِهِ» فعبَّر عن معرفة الله تعالى بعبادته إطلاقاً لاسم الأثر على المؤثر.
وثانيها: معناه: «إنْ كنتُمْ تريدون أن تَعْبُدوا الله، فاشكُرُوه فإنَّ الشُّكر رأسُ العبادات».
وثالثهما: «واشْكُرُوا الله الَّذي رَزَقَكُمْ هذه النِّعْمَة، إن كُنْتُمْ إيَّاه تعبُدُونَ»، أي: إن صحَّ أنَّكم تخصُّونَهُ بالعبادة، وتقرُّون أنَّه هو إلهُكُمْ لا غيره، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن الله -: «إنِّي والجنُّ والإنْسُ في نَبَأ عَظِيمٍ، أخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْري، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ غَيْري؟!»
169

فصل في أن الشيء المعلق ب «إن» لا يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء


احتجَّ من قال بأنَّ المعلَّق بلفظ «إنْ» لا يكون عدماً عند عدم ذلك الشَّيء؛ بهذه الآية، فإنَّه تعالى علَّق الأمر بالشُّكْر بكلمة «إنْ» على فعل العبادة، مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضاً.
170
لما أمر في الآية المتقدِّمة بأكل الحال، فصَّل في هذه الآية [أنواع] الحرام.
قوله: «إنَّمَا حَرَّمَ» : الجمهور قرءوا «حَرَّمَ» مشدَّداً مبنيّاً للفاعل «المَيْتَة» نصباً على أنَّ «مَا» كافَّةٌ مهيِّئة ل «إنَّ» في الدُّخول على هذه الجملة الفعليَّة، وفاعل «حَرَّمَ» ضمير الله تعالى، و «المَيْتَةَ» : مفعولٌ به، وابن أبي عَبْلَة برفع «المَيْتَةُ»، وما بعدها، وتخريج هذه القراءة سهل وهو أن تكون «مَا» موصولةً، و «حَرَّمَ» صلتها، والفاعل ضمير الله تعالى والعائد محذوفٌ؛ لاستكمال الشُّروط، تقديره: «حَرَّمَهُ»، والموصول وصلته في محلِّ نصب اسم «إنَّ»، و «الميتة» : خبرها.
وقرأ ابو جعفر، وحمزة مبنيّاً للمفعول، فتحتمل «ما» في هذه القراءة وجهين:
أحدهما: أن تكون «ما» مهيةً، و «المَيْتَةُ» مفعول ما لم يسمَّ فاعل.
والثاني: أن تكون موصولةً، فمفعول «حُرِّمَ» القائم مقام الفاعل ضميرٌ مستكنٌّ يعود على «ما» الموصولة، و «لميتة» خبر «إنَّ».
وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ، «حَرُمَ»، بضمِّ الراء مخفَّفة، و «المَيْتَةُ» رفعاً و «مَّا تحتمل الوجهين أيضاً، فتكون مهيِّئة، و» المَيْتَةُ «؛ فاعلٌ ب» حَرُمَ «، أو موصولةً، والفاعل ضميرٌ يعود على» مَا «وهي اسمُ» إنَّ «، و» المَيْتَة «: خبرها، والجمهور على تخفيف» المَيْتَة «في جميع القرآن، وأبو جعفر بالتَّشديد، وهو الأصل، وهذا كما تقدَّم في أنَّ» الميْت «مخفَّفٌ من» المَيِّت «، وأن أصله» مَيْوتٌ «، وهما لغتان، وسيأتي تحقيقه في سورة آل عمران عند قوله: ﴿وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت﴾ [آل عمران: ٢٧].
ونقل عن قدماء النحاة، أنَّ»
المَيْتَ «بالتَّخفيف: من فارقت روحه جسده،
170
وبالتشديد: من عاين أسباب الموت، ولم يمت، [وحكى ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللهُ - عن أبي حاتم: أنَّ ما قد مات فيقال ان فيه، وما لم يَمُتْ] بعد، لا يقال فيه بالتخفيف، ثم قال: ولم يقرأ أحدٌ بتخفيف ما لم يمت إلا ما روى البزِّيُّ عن ابن كثير: ﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ [إبراهيم: ١٧]، وأما قوله: [الوافر]
٩٠٠ - إذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمٍ فَسَرَّكَ أنْ يَعِيشَ فَجِىءْ بِزَادِ
فقد حمل على من شارف الموت، وحمله على الميِّت حقيقةً أبلغ في الهجاء.
وأصل» مَيْتَةٍ «مَيْوِتَةٌ، فأُعلَّت بقلب الواو ياء، وإدغام الياء فيها، وقال الكوفيُّون: أصله» مَوِيتٌ «، ووزنه» فَعِيلٌ «.
قال الواحديُّ: «المَيْتَة»
: ما فارقته الرُّوح من غير ذكاةٍ ممَّا يُذْبَح.

فصل في بيان أن الآية عامَّة مخصَّة بالسُّنَّة


هذه الآية الكريمة عامَّة دخلها التخصيص؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ: السَّمَكُ والجَرَادُ، ودَمَانِ: الكَبِدُ والطِّحَالُ» وكذلك حديث جابر في العنبر، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتَهُ» وهذا يدلُّ على تخصيص الكتاب بالسُّنّة.
171
وقال عبد الله بن أبي أوفى: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سَبْعَ غَزَوَاتِ، نأْكُلُ الجَرَاد» وظاهره أكل الجراد كيف ما مات [بعلاجٍ، أو حَتْفَ أنفِهِ]، والله أعلم.

فصل في بيان حكم وقوع الطائر ونحوه في القدر


إذا وقع طائرٌ ونحوه في قدرٍ، فمات، فقال مالكٌ: لا يُؤكل كل ما في القدر.
وقال ابن القاسم: يغسل اللَّحم ويؤكل، ويراق المرق، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما.

فصل في بيان حكم الدَّم


وأما الدَّم: فكانت العرب تجعل الدم في النَّار، وتشويها، ثم تأكلها، فحرَّم الله تعالى الدَّم، واتفق العلماء على أن الدم حرامٌ نجسٌ، لا يؤكل، ولا ينتفع به.
قال بعضهم: يحرمن إذا لم تعم به البلوى، ويعفى عنه، إذا عمَّت به البلوى، كالذي في اللَّحم والعروق، ولايسير في الثَّوب والبدن يصلَّى فيهن وأطلق الدَّم هنا، وقيَّده بالمسفوح في «الأنعام»، فيحمل المطلق على المقيَّد، وأمَّا لحم الخنزير، فاللَّحم معروف، وأراد الخنزير بجميع أجزائه، لكنه خصَّ اللحم؛ لأنه المقصود لذاته بالأكل، واللَّحم جمعه لحوم ولحمان، يقال: لحم الرَّجل، بالضم، لحامةً، فهو لحيمٌ، أي: غلظ، ولحم، بالكسر يلحم، بالفتح، فهو لحمٌ: اشتاق إلى اللَّحم، ولحم النَّاسَ، فهو لاحمٌ، أي: أطعمهم اللحم، وألحم: كثر عنده اللَّحم [والخنزير: حيوانٌ معروفٌ، وفي نونِهِ قولان:
أصحهما: أنَّها أصليَّة، ووزنه: «فِعْلِيلٌ» ؛ كغربيبٍ.
والثاني: أنها زائدةٌ، اشتقوه من خزر العين، أي: ضيقها؛ لأنه كذلك يَنْظُر، وقيل: الخَزَرُ: النَّظَرُ بمؤخِّر العين؛ يقالك هو أخزر، بيِّن الخزر].

فصل في بيان تحريم الخنزير


أجمعت الأُمَّة على تحريم لحم الخنزير، قال مالك: إن حلف لا يأكل الشَّحم، فأكل لحماً لم يحنث بأكل اللحم، ولا يدخل اللحم في اسم الشَّحم؛ لأنَّ اللحم مع الشَّحم يسمَّى لحماً، فقد دخل الشَّحم في اسم اللَّحم، واختلفوا في إباحة خنزير الماء؛
172
قال القُرْطُبِيُّ: لا خلاف في أنَّ جملة الخنزير محرَّمةٌ، إلاَّ الشَّعر، فإنَّه يجوز الخرازة به.
قوله: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ] :«مَا» موصولةٌ بمعنى «الَّذِي»، ومحلُّها: إمَّا النصبُ، وإمَّا الرفع؛ عطفاً على «المَيْتة» والرَّفع: إما خبر «إنّ»، وإما على الفاعلية؛ على حسب ما تقدم من القراءات؛ و «أُهِلَّ» مبنيٌّ للمفعول، والقائم مقام الفاعل هو الجار والمجرور في «بِهِ» والضمير يعود على «ما» والباء بمعنى «في» ولا بد من حذف مضافٍ، أي: «في ذبحه» ؛ لأن المعنى: «وما صِيحَ في ذَبْحِهِ لغير الله»، والإهلال: مصدر «أَهَلَّ»، أي: صَرَخَ.
قال الأصْمعِيُّ: أصله رفع لاصَّوت، وكلُّ رافعٍ صوته، فهو مهلٌّ. ومنه الهلالُ؛ لأنَّه يصرخ عند رؤيته، واستهلَّ الصبُّح قال ابن أحمر: [السريع]
٩٠١ - يُهِلُّ بِالغَرْقَدِ غَوَّاصُهَا كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ المُعْتَمِرْ
وقال النَّابِغَةُ: [الكامل]
٩٠٢ - أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلَّ وَيَسْجُدِ
وقال القائل: [المديد]
٩٠٣ - تَضْحَكُ الضَّبعُ لِقَتْلَى هُذَيْلٍ وَتَرَى الذِّئْبَ لَهَا يَسْتَهِلُّ
وقيل للمحرم: مُهِلٌّ؛ لرفع الصوت باتَّلبية، و «الذَّبح» مهلٌّ؛ لأنَّ العرب كانوا يسمُّون الأوثان عند الذَّبح، ويرفعون أصواتهم بذكرها، فمعنى قوله: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾
، يعني: ما ذبح للأصنام، والطَّواغيت، قاله مجاهد، والضَّحَّاك وقتادة، وقال الرَّبيع ابن أنسٍ، وابن زيد: يعني: ما ذكر عليه غير اسم الله.
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ -: وهذاالقول أولى؛ لأنَّه أشدُّ مطابقةً للَّفظ.
قال العلماء: لو ذبح مسلم ذبيحةً، وقصد بذبحها التقرُّب إلى [غير] الله تعالى، صار مرتدّاً، وذبيحته ذبيحة مرتدٍّ، وهذا الحكم في ذبائح غير أهل الكتاب.
173
أمَّا ذبائح أهل الكتاب، فتحلُّ لنا، لقوله تبارك وتعالى: ﴿وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ﴾ [المائدة: ٥].

فصل في اختلافهم في اقتضاء تحريم الأعيان الإجمال


اختلفوا في التَّحريم المضاف إلى الأعيان، [هل يقتضي الإجمال؟
فقال الكَرْخيُّ: إنَّه يقتضي الإجمال، لأنَّ الأعيان] لا يمكن وصفها بالحل والحرمة فلا بد من صرفها إلى فعل من الأفعال فيها، وهو غير محرَّم، فلا بُدَّ من صرف هذا التحريم إلى فعل خاصٍّ، وليس بعض الأفعال أولى من بعضٍ؛ فوجب صيرورة الآية الكريمة مجملةً.
وأمَّا أكثر العلماء، فقالوا: إنَّها ليست بمجلةٍ، بل هذه اللفظة تفيد في العرف حرمة التصرُّف؛ قياساً على هذه الأجسام؛ كما أنَّ الذوات لا تملك، وإنَّما تُمْلَكُ التصرُّفات فيها، فإذا قيل: «فلانٌ يَمْلِكُ جاريةً»، فهم كلُّ أحدٍ أنه يملك التصرُّف فيها؛ فكذا هاهنا.
فإن قيل: لم لا يجوز تخصيص هذا التَّحريم بالأكل؛ لأنَّه المتعارف من تحريم الميتة، ولأنَّه ورد عقيب قوله: ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: ١٧٢]، ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في خبر شاة ميمونة: «إِنَّمَا حُرِّمَ مِنَ المَيْتَةِ أَكْلُهُا»
فالجواب عن الأوَّل: لا نسلِّم أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم الأكل.
وعن الثَّاني: بأنَّ هذه الآية الكريمة مسألةٌ بنفسها؛ فلا يجب قصرها على ما تقدَّم، بل يجب إجراؤها على ظاهرها.
وعن الثَّالث: أنَّ ظاهر القرآن مقدَّم على خبر الواحد، هذا إذا لم نُجَوِّزْ تخصيص القرآن بخبر الواحد، فإن جوَّزناه، يمكن أن يجاب عنه؛ بأن المسلمين، إنَّما يرجعون في معرفة وجوه الحرمة إلى هذه الآية؛ فدلَّ انعقاد إجماعهم على أنَّها غير مختصَّة ببيان حرمة الأكل، وللسَّائل أن يمنع هذا الإجماع، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: كلمة «إنَّما» تفيد الحصر، فيقتصر على تحريم باقي الآية الكريمة، وقد ذكر في سورة المائدة هذه المحرمات، وزاد فيها: المنخنقة، والموقوذة، والمتردِّية، والنَّطيحة، وما أكل السَّبع، فما معنى هذا الحصر؟
فالجواب: أنَّ هذه الآية متروكة العمل بظاهرها، وإن قلنا: إنَّ كلمة «إنَّما لا تفيد الحصر، فالإشكال زائلٌ.
174

فصل في بيان مذاهب الفقهاء في الدباغ


للفقهاء سبعة مذاهب في أمر الدباغ:
فأولها: قول الزُّهريِّ: يجوز استعمال جلود الميتة بأسرها قبل الدِّباغ، ويليه داود، قال: تطهر كلُّها بالدِّباغ، ويليه مالكٌ؛ فإنه قال يطهر ظاهرها كلُّها دون باطنها، ويليه أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - قال: يطهر كلها بالدِّباغ غلا جلد الخنزير، ويليه قول الإمام الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْه - قال: تطهر كلُّها بالدِّباغ إلاَّ جلد الكلب والخنزير، ويليه الأوزاعي، وأبو ثور، قالا: يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط، ويليه أحمد بن حنبل، قال: لا يطهر منها شيء بالدباغ؛ واحتجَّ بالآية الكريمة، والخبر؛ أما الآية: فقوله تبارك وتعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة﴾ [المائدة: ٣] فأطلق التحريم، ولم يقيِّده بحالٍ دون حالٍ، وأمَّا الخبر: فقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في حديث عبد الله بن عُكَيم، لأنه قال:» أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَبْلَ وفَاتِهِ بِشَهْرٍ، أو شَهْرَيْنِ: أنِّي كَنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ في جُلُودِ المَيْتَةِ، فَإذَا أَتَاكُمْ كِتَابي هَذَا، فَلاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بإِهَابِ، وَلاَ عَصَبٍ «.
واختلفوا في أنَّه، هل يجوز الانتفاع بالميتة بإطعام البازيِّ، والبهيمة؟ فمنهم: من منع منه؛ وقال: لأنَّه انتفاعٌ بالميتة، والآية الكريمة دالَّةٌ على تحريم الانتفاع بالميتة، فأمَّا إذا أقدم البازيُّ من عند نفسه على أكل الميتة، فهل يجب عليه منعه، أم لا؟ فيه احتمالٌ:

فصل اختلافهم في حرمة الدِّماء غير المسفوحة


حرَّم جمهور العلماء الدَّم، سواءٌ كان مسفوحاً، أو غير مسفوحٍ، وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: [دمٌ السَّمك ليس بمحرَّم.
حجَّة الجمهور: ظاهر هذه الآية الكريمة، وتمسَّك أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -] بقوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً﴾ [الأنعام: ١٤٥] فصرَّح بأنَّه لم يجد من المحرمَّات شيئاً، إلاّ ما ذكر، فالدَّم الذي لا يكون مسفوحاً، وجب ألاَّ يكون محرَّماً؛ لأنَّ هذه الآية الكريمة خاصَّة، وتلك عامَّةٌ، والخاصُّ مُقدَّمٌ على العامِّ.
وأُجيب بأنَّ قوله «لا أجِدُ»
ليس فيه دلالةُ على تحليل غير هذه الأشياء المذكورة في
175
هذه الآية، بل على أنَّه تعالى ما بيَّن له إلاَّ تحريم هذه الأشياء، وهذا لا ينافي أن يبيِّن له بعد ذلك تحريم شيءٍ آخر، فلعلَّ قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة﴾ [المائدة: ٣] نزلت بعد ذلك، فكان ذلك بياناً لتحريم الدَّم مسفوحاً، أو غير مسفوح.
وإذا ثبت هذا، وجب الحكم بحرمة جميع الدِّماء، ونجاستها، فيجب إزالة الدَّم عن اللَّحم ما أمكن، وكذا في السَّمك، وأيُّ دمٍ وقع في الماء، أو الثَّوب، فإنه ينجس ذلك المورد.
واختلفوا في قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ»، هل تسمية الكبد والطِّحال دماً حقيقةٌ، أم تشببيه.

فصل في شراء الخنزير، وأكل خنزير الماء


أجمعت الأُمَّة على أنَّ الخنزير بجميع أجزائه محرم، وإنَّما ذكر الله تبارك وتعالى لحمه؛ لأن معظم الانتفاع متعلِّق به، واختلفوا في أنَّه هل يجوز أن يشترى؟
فقال أبو حنيفة، ومحمد: يجوز، وقال الشافعيُّ: لا يجوز، وكره أبو يوسف - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - الخزز به، وروي عنه الإباجة.
واختلفوا في خنزير الماء، فقال ابن أبي ليلى، ومالك، والشافعي، والأوزاعيُّ: لا بأس بأكل شيءٍ يكون في البحر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يؤكل.
حجَّة الشافعيِّ قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ﴾ [المائدة: ٩٦] وحجَّة أبي حنيفة: أنَّ هذا خنزير، فيدخل في آية التَّحريم.
قال الشَّافِعيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: إذا أطلق الخنزير، لم يتبادر إلى الفهم لحم السَّمك، بل غير السَّمك بالأتِّفاق، ولأنَّ خنزير الماء لا يسمَّى خنزيراً على الإطلاق، بل يسمَّى خنزير الماء.

فصل


من الناس: من زعم أنَّ المراد ب ﴿وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ ذبائحُ عَبَدَةِ الأوثان على النصب، قال ابن عطيَّة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: رأيتُ في أخبار الحسن بن أبي الحسن: أنه سئل عن امرأة مترفهة صنعت للعبها عرساً، فذبحت جزوراً، فقال الحسن - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: لا يحلُّ أكلها، فإنها نحرت لصنم، وأجازوا ذبيحة النَّصارى، إذا سمَّوا عليها باسم المسيح، وهو مذهب عطاء، ومحكول، والحسن، والشَّعبيِّ، وسعيد بن المسيِّب. وقال مالكٌ، الشافعيُّ وأحمد وأبو حنيفة لا يحل كل ذلك، لأنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فوجب أن يحرم.
176
قال عليُّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه -: إذا سمعتم اليهود والنصارى يلهُّون لغير الله، فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهمن فكلوا، فإنَّ الله تبارك وتعالى، قد أحلَّ ذبائحهم، وهو يعلم ما يقولون؛ واحتحَّ المخالف بقوله تبارك وتعالى: ﴿وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ﴾ [المائدة: ٥] وهذا عامٌّ، وبقوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ [المائدة: ٣] فدلَّت هذه الآية الكريمة على أنَّ المراد بقوله: ﴿وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ هو المراد ب ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾، ولأن النَّصارى، إذا سمَّوا الله تعالى، فإنَّما يريدون به المسيح، فإذا كانت إرادتهم لذلك، لم تمنع حلَّ ذبيحتهم، مع أنَّه يهلُّ به لغير الله تعالى، فكذلك ينبغي أن يكون حكمه، إذا ظهر ما يضمره عند ذكر الله تعالى في إرادته المسيح.
والجواب عن الأوَّل: أن قوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ﴾ [المائدة: ٥] عامٌ، وقوله: ﴿وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ خاصٌّ، والخاصُّ مقدَّم على العامِّ.
وعن الثاني أن قوله تعالى: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ لا يقتضي تخصيص قوله: ﴿وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ ؛ لأنهما آيتان متباينتان.
وعن الثالث: إنَّما كُلِّفنا بالظَّاهر، لا بالباطن، فإذا ذبحه على اسم الله تعالى، وجب أن يحلَّ، ولا سبيل لنا إلى الباطن.
قوله: «فَمَنِ اضْطُرَّ» في «مَنْ» وجدهان:
أحدهما: أن تكون شرطيةً.
والثاني: أن تكون موصُولةً بمعنى «الذي».
فعلى الأوَّل: يكون «اضطُرَّ» في محلِّ جزم بها، وقوله: ﴿فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ جواب الشرط، والفاء فيه لازمةٌ.
وعلى الثاني: لا محلَّ لقوله «اضْطُرَّ» من الإعراب، لوقوعه صلةً، ودخلت الفاء في الخبر؛ تشبيهاً للموصول بالشَّرط، ومحلُّ ﴿فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ الجزم على الأوَّل، والرفع على الثاني. والجمهور على «اضْطُرَّ» بضمِّ الطاء، وهي أصلها، وقرأ أبو جعفر بكسرها؛ لأنَّ الأصل «اضْطُرِرَ» بكسر الراء الأولى، فلمَّا أدغمت الراء في الرَّاء، نقلت حركتها إلى الطَّاء بعد سلبها حركتها، وقرأ ابن مُحَيْصِن: «اطُّرَّ» بإدغام الضَّاد في الطَّاء، وقد تقدَّم الكلام في المسألة هذه عند قوله: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ﴾ [البقرة: ١٢٦].
وقرأ أبو عَمْرٍو، وعاصمٌ، وحمزة بكسر نون «مَنِ» على أصل التقاء الساكنين، وضمَّها الباقون؛ إتباعاً لضمِّ الثالث.
177
وليس هذا الخلاف مقصور على هذه الكلمة، بل إذا التقى ساكنان من كلمتين؛ وضُمَّ الثالث ضمَّاً لازماً نحو: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ﴾ [الأنعام: ١٠] ﴿قُلِ ادعوا﴾ [الإسراء: ١١٠]، ﴿وَقَالَتِ اخرج﴾ [يوسف: ٣١]، جرى الخلاف المذكور، إلاَّ أنَّ أبا عمرو خرج عن أصله في ﴿أَو﴾ [المزمل: ٣] و ﴿قُلِ ادعوا﴾ [الإسراء: ١١٠] فضمَّهما، وابن ذكوان خرج عن أصله، فكسر التنوين خاصَّة؛ نحو ﴿مَحْظُوراً انظر﴾ [الإسراء: ٢٠ - ٢١] واختلف عنه في ﴿بِرَحْمَةٍ ادخلوا﴾ [الأعراف: ٤٩] ﴿خَبِيثَةٍ اجتثت﴾ [إبراهيم: ٢٦] فمن كسر، فعلى أصل التقاء الساكنين، ومن ضمَّ، فلإتباع، وسيأتي بيان الحكمة في ذلك. عند٠ ذكره، إن شاء الله - تعالى - والله أعلم.
قوله: «غَيْرَ باغٍ» :«غَيْرَ» : نصب على الحال، واختلف في صاحبها:
فالظاهر: أنه الضمير المستتر [في «اضْطُرَّ» ]، وجعله القاضي، وأبو بكر الرازيُّ من فاعل فعل محذوف بعد قوله «اضْطُرَّ» ؛ قالا: تقديره: «فَمَنَ اضْطُرَّ فَأَكَلَ غَيْرَ بَاغٍ» ؛ كأنهما قصَدَا بذلك أن يجعلاه قيداً في الأكل لا في الاضطرار.
قال أبو حيَّان: ولا يتعيَّن ما قالاه؛ إذ يحتمل أن يكون هذا المقدَّر بعد قوله ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾ بل هو الظاهر والأولى؛ لأنَّ في تقديره قبل «غَيْرَ بَاغٍ» فضْلاً بين ما ظاهره الاتصال فيما بعده، وليس ذلك في تقديره بعد قوله: «غَيْرَ بِاغٍ».
و «عَادٍ» : اسم فاعل من: عَدَا يَعْدُو، إذا تجاوز حدَّه، والأصل: «عَادِوٌ» فقلب الواو ياءً؛ لانكسار ما قبلها؛ كغاز من الغزو، وهذا هو الصحيح؛ وقيل: إنَّه مقلوب من، عاد يعود، فهو عائدٌ، فقدِّمت اللام على العين، فصار اللَّفظ «عَادِوٌ» فأعلَّ بما تقدَّم، ووزنه «فَالِعٌ» ؛ كقولهم: «شَاكٍ» في «شَائِكٍ» من الشَّوكة، و «هارٍ»، والأصل «هَائِر»، لأنَّه من: هَارَ يَهُورُ.
قال أبُو البَقَاءِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «ولو جاء في غير القرآن الكريم منصوباً، عطفاً على موضع» غَيْرَ «جاز»، يعني: فكان يقال: «وَلاَ عَادِياً».
قوله: «اضْطُرَّ» أُحْوِجَ وأُلْجِىءَ، فهو: «افْتُعِلَ» من الضَّرورة، وأصله: من الضَّرر، وهو الضِّيق، وهذه الضَّرورة لها سببان:
أحدهما: الجوع الشَّديد، وألاَّ يجد مأكولاً حلالاً يسدُ به الرَّمَق، فيكون عند ذلك مضطراً.
والثاني: إذا أكره على تناوله.
178
واعلم أنَّ الاضطرار ليس من فعل المكلَّف؛ حتى يقال: إنَّه لا إثم عليه، فلا بدَّ من إضمارٍ، والتقدير: «فَمَن اضْطُرَّ، فأكَلَ، فلا إِثْمٍ عَلَيْه» ونظيره: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤]، فحذف «فأَفْطَرَ»، وقوله تعالى ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ﴾ [البقرة: ١٩٦] وإنما جاز الحذف؛ لعلم المخاطب به، ودلالة الخطاب عليه.
والبغي: أصله في اللغة الفساد.
قال الأصمعيُّ: يقال: بغى الجرح بغياً: إذا بدأ في الفساد، وبغت السماء، إذا كثر مطرها، والبغي: الظلم، والخروج عن الإنصاف؛ ومنه قوله تبارك وتعالى ﴿والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ [الشورى: ٣٩] وأصل العدوان: الظُّلم، ومجاوزة الحد.

فصل


اختلفوا في معنى قوله «غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} فقال بعضهم:» غَيْرَ بَاغٍ «أي غير خارج على السُّلطان، و» لاَ عَادٍ «متعدٍّ بسفره، أعني: عاص بأن خرج لقطع الطَّريق، والفساد في الأرض، وهو قول ابن عباس، ومجاهدٍ، وسعيد بن جبير.
وقالوا: لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة، إذا اضطر إليها، ولا أن يترخَّص في السَّفر بشيءٍ من الرُّخص؛ حتى يتوب، وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل، واختلفوا في معناه.
فقال الحسن، وقتادة، والرَّبيع، ومجاهد، وابن زيد: أي: يأكل من غير ضرورة أي: بغي في أكله»
ولاَ عَادٍ «ن أي: ولا يعدو لشبعه.
وقيل: «غَيْرَ بِاغٍ»
أي: غير طالبها، وهو يجد غيرها، «وَلاَ عَادٍ»، أي: غير متعدٍّ ما حد له، فيأكل حتَّى يشبع، ولكن يأكل ما يسدُّ رمقه.
وقال مقاتل: «غَيْرَ بَاغٍ» أي: مستحلٌّ لها، «وَلاَ عَادٍ» أي: يتزوَّد منها، وقيل: «غَيْرَ بَاغٍ»، أي: مجاوز للحدٍّ الذي أُحِلَّ له، «وَلاَ عَادٍ» أي: لا يقصِّر فيما أبيح له فيدعه.
قال مسروقٌ: من اضطُرَّ إلى الميتة، والدم، ولحم الخنزيرن فلم يأكل، ولم يقرب، حتى مات، دخل النَّار.
وقال سهل بن عبد الله: «غَيْرَ بَاغٍ» : مفارقٍ للجماعة، «ولاَ عَادٍ»، أي: ولا مبتدعٍ مخالف السنة، ولم يرخِّص للمبتدع تناول المحرَّم عند الضرورة.
فإن قيل: الأكل في تلك الحالة واجبٌ، وقوله: ﴿فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أيضاً يفيد الإباحة.
179
وأيضاً: فإنَّ المضْطَرَّ كالمُلْجَأ إلى الفعل، والملجأ لا يوصف بأنَّه لا إثم عليه.
فالجواب: أنَّا قد بينَّا عند قوله ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: ١٥٨] : أنَّ نفي الإثم قدر مشترك بين الواجب، والمندوب، والمباح، وأيضاً: قوله تبارك وتعالى: ﴿فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ : معناه: رفع الحرج والضِّيق.
واعلم: أنَّ هذا الجائع، إن حصلت فيه شهوة الميتة، ولم يحصل له فيه النُّفرة الشَّديدة، فإنَّه يصير ملجأ إلى تناول ما يسد به الرَّمق، وكما يصير ملجأً إلى الهرب من السَّبع، إذا أمكنه ذلك، أمَّا إذا حصلت ألنُّفرة، فإنَّه بسبب تلك النُّفرة، يخرج عن أن يكون ملجأً، ولزمه تناول الميتة على ما هو عليه من النِّفار.
فإن قيل: قوله تبارك وتعالى: ﴿فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ يناسب أن يقال بعده: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فإنَّ الغفران، إنَّما يذكر عند حصول الإثم.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن المقتضي للحرمة قائم في الميتة والدَّم إلاَّ أنه زالت الحرمة؛ لقيام المعارض، فلمَّا كان تناوله تناولاً لما حصل فيه المقتضي للحرمة، عبَّر عنه بالمغفرة، ثم ذكر بعده أنَّه رحيم، يعني: لأجل الرحمة عليكم، أبحت لكم ذلك.
وثانيها: لعل المضطرَّ يزيد على تناول قدر الحاجة.
وثالثها: ان الله تعالى، لمَّا بيَّن هذه الأحكام، عقَّبها بقوله تعالى: «غَفُورٌ» للعصاة، إذا تابوا، «رَحِيمٌ» بالمطيعين المستمرِّين على منهج الحكمة

فصل في معنى المضطر


قال الشافعيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: قوله تعالى ﴿فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾ معناه: أن كل من كان مضطرّاً لا يكون موصوفاً بصفة البغي، ولا بصفة العدوان ألبتَّة، فأكل؛ فلا إثم عليه.
وقال أبو حنيفة: معناه: " فمن اضطر، فأكل غير باغ، ولا عاد في الأكل، فلا إثم عليه " فخصص صفة البغي والعدوان بالأكل، ويتفرع على هذا الخلاف هل يترخص العاصي بسفره، أم لا؟ فقال الشافعي: لا يترخص؛ لأنه يوصف بالعدوان؛ فلا يندرج تحت الآية الكريمة. وقال أبو حنيفة: يترخص؛ لأنه مضطر، وغير باغ، ولا عاد في الأكل، فيندرج تحت الآية.
180
احتجَّ الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْه - بأنَّ الله تعالى حرم هذه الأشياء على الكُلِّ، ثم أباحها للمضطرِّ الموصوف بأنَّه غير باغٍ، ولا عادٍ، والعاصي بسفره غير موصوفٍ بهذه الصفة؛ لأنَّ قولنا: طفلانٌ ليس بمتعدً «نقيضٌ لقولنا:» فلانٌ متعدٍّ «، وقولنا:» فُلاَنٌ متعدٍّ «يكفي في صدقه كونه متعدِّياً لأمر من الأمور، سواء كان في سفرٍ، أو أكلٍ، أو غيرهما، وإذا صدق عليه اسم التعدِّي بكونه متعدِّياً في شيء من الأشياء فإن قولنا» غَيْرَ بِاغٍ، وَلاَ عَادٍ «لا يصدق إلاَّ إذا انتفى عنه صفة التعدِّي من جميع الوجوه، والعاصي بسفره متعدٍّ بسفره، فلا يصدق عليه كونه» غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ «، فيجب بقاؤه تحت التَّحريم.
فإن قيلك يشكل بالمعاصي في سفره؛ فإنَّه يترخَّص مع أنَّه موصوف بالعدوان.
والجواب: أنَّه عامٌّ دخله التخصيص في هذه الصُّورة، ثم الفرق بينهما: أنَّ الرخصة إعانة على السَّفر، فإذا كان السَّفر معصيةً، كانت الرخصة إعانةً على المعصية، وإذا لم يكن السَّفر معصيةً في نفسه، لم تكن الإعانة عليه إعانةتً على المعصية، فافترقا.
فإن قيل: قوله تعالى «غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ»
شرطٌ، والشرط بمنزلة الاستثناء؛ في أنه لا يستقلُّ بنفسه، فلا بدَّ من تعلُّقه بمذكورٍ، ولا مذكور إلاَّ الأكل؛ لأنَّ بيَّنَّا أنَّ قوله تعالى: «غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ» لا يصدق عليه إلاَّ إذا انتفى عنه البغي والعدوان في كل الأمور، فيدخل فيه نفي العدوان بالسَّفر ضمناً، ولا نقول: اللفظ يدلُّ على التعيين.
وأمَّا تخصيصه بالأكل: فهو تخصيصٌ من غير ضرورةٍ، ثمَّ الذي يدلُّ على أنَّه لا يجوز صرفه إلى الأكل وجوهٌ:
أحدها: أنَّ قول «غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ» حالٌ من الاضطرار؛ فلا بدَّ وأن يكون وصف الاضطرار باقياً، مع بقاء كون: «غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ» حالاً من الاضطرار، فلو كان المرادُ بقوله: «غَيْرَ بَاغٍ، وَلاَ عَادٍ» كونه كذلك في الأكل - لاستحال أن يبقى وصف الاضطرار معه؛ لأنَّه حال الأكل، لا يبقى معه حال الاضطرار.
ثانيها: ان الإنسان ينفر بطبعه عن تناول الميتة والدم، وإذا كان كذلك لم يكن هناك حاجة إلى النهي، فصرف هذا الشرط إلى التعدي في الأكل يخرج الكلام عن الفائدة.
والثالثها: أن كونه غير باغ ولا عاد يفيد نفي ماهية البغي ونفي ماهية العدوان، وهذه الماهية إنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها، والعدوان في الأكل أحد أفراد هذه الماهية.
181
وكذلك العدوان بالسفر فرد آخر من أفرادها فإذن نفي العدوان يقتضي نفي العدوان من جميع هذه الجهات، فتخصيصه بالأكل غير جائز.
وثالثها: قوله تبارك وتعالى: ﴿فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة: ٣] فبيَّن في هذه أن المضطرَّ إنما يترخَّص، إذا لم يكن متجانفاً لإثم، وهذا يؤيِّد ما قلناه من أن الآية الكريمة تقتضي ألاَّ يكون موصوفاً بالبغي والعدوان في أمر من الأمور.
احتجَّ أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -، بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١١٩].
وهذا مضطرٌّ؛ فوجب أن يترخَّص.
وثانيها: قوله تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ [النساء: ٢٩] ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ [البقرة: ١٩٥]، والامتناع من الأكل سبب في قتل النَّفس، وإلقاء بها إلى التهلكة؛ فوجب أن يحرَّم.
وثالثها: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - رخَّص للمقيم يوماً وليلةً، وللمسافر ثلاثة أيَّامٍ ولياليهنَّ، ولم يفرق بين العاصي وغيره.
رابعها: أنَّ العاصي بسفره، إذا كان نائماً، فأشرف على غرقٍ، أو حرقٍ، يجب على الحاضر الَّذي يكون في الصلاة أن يقطع صلاته لإنجائه، فلأن يجب عليه في هذه الصورة: أن يسعى في إنقاذ مهجته أولى.
وخامسها: أن العاصي بسفره له أن يدفع عن نفسه أسباب الهلاك؛ من الحيوانات الصَّائلة عليه، والحيَّة، والعقرب، بل يجب عليه، فكذا ههنا.
سادسها: أَنَّ العَاصِي بسَفَرهِ، إذا اضطُرَّ، فلو أباح له رجُلٌ شيئاً من ماله، فله أَخذُهُ، بل يجب دفع الضَّرر عن النَّفْس.
[سابعها: أَنَّ التوبةَ أَعْظَمُ في الوُجُوب وما ذاكَ إِلا لدفع ضررِ النَّار عن النَّفس]، وهي أعظمُ من كُلِّ ما يدفع المؤمنُ من المضارِّ عن نفسه؛ فلذلك دفع ضرر الهلاكِ عن نفسه لهذا الأكلِ، وإن كان عاصياً.
وثامنها: أَنَّ الضرورة تبيحُ تناولَ طعامِ الغَيْر من دون رضَاهُ، بل على سَبيل القَهْر، وهذا التناوُلُ يَحْرُم لولا الاضطرارُ، فكذا ههنا.
وأُجيبُ عن التمسُّك بالعُمُومات؛ بأَنَّ دليلنا النَّافي للترخّص أخصُّ دلائِلِهِمْ
182
المرخِّصة والخاصُّ متقدَّم على العامِّ، وعن الوجوه القياسيَّة بأنه يمكنُه الوصُول إِلى استباحةِ هذه الرخص بالتَّوبة، فإذا لم يتُبْ، فهو الجانِي على نَفْسه، ثم تُعَارَضُ هذه الوجوهُ: بأنَّ الرخصة إِعَانَةٌ على السَّفَر، فإذا كان السَّفر معصيةً، كانت الرخصةُ إِعَانَةً على المعصية، والمعصية ممنوعٌ منها، والإعَانَةُ سعيٌ في تحصيلها؛ فالجمع بينهما مُتناقضٌ.

فصل في اختلافهم في اختيار المضطرِّين المحرَّمات


اختلفُوا في المضطرِّ، إذا وجد كلَّ ما يضطرُّ مِنَ المحرَّمات.
فالأكثرون على أنَّه مخيَّر بين الكُلِّ، ومنهم من قال: يتناوَلُ الميتة، دون لَحْم الخنزير ويعد لحم الخنزير أَعظَمَ في التَّحريم.
183
قال ابن عبَّاس: نزلَت في رؤوس اليهود: كعبِ بنِ الأَشْرفِ وكعْبِ بن أسدٍ، ومالك بنِ الصيف، وحُييِّ بن أخطَبَ، وأبي ياسرِ بنِ أخطَبَ؛ كانوا يأخذون من أتباعهم الهَدَايا، وكانُوا يَرجُون أن يكُونَ النبيُّ المَبْعُوثُ منهم، فلما بُعِثَ محمَّدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام من غيرهم خافُوا انقطَاع تلك المنافِع؛ فكتموا أمر مُحَمَّد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنْ غيَّروا صِفَتَه، ثم أخرَجُوها إليهم، فإذا ظَهَرت السفلة على النَّعتِ المغيَّر، وجدوه مخالفاً لصفتِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لا يتبعونَه، فأنزل الله تبارَكَ وتعالى هذه الآية.
قال القرطبيُّ: ومعنى «أَنْزَلَ» : أظْهَرَ؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله﴾ [الأنعام: ٩٣] أي: سأُظْهِر وقيل: هو على بابِهِ من النُّزول، أي: ما أَنْزَل به ملائكتَهُ على رُسُله.
قوله: «مِنَ الْكِتَابِ» : في محلِّ نصْبٍ، على الحال، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أَنَّهُ العائِدُ على الموصول، تقديره: «أَنْزَلَهُ اللهُ» حال كونه «مِنَ الكِتَابِ» فالعاملُ فيه «أَنْزَلَ».
والثاني: أنه المُوصول نَفسُه، فالعامل في الحال «يَكْتُمونَ».
قوله: «وَيَشْترونَ بِهِ» : الضميرُ في «بِهِ» يُحْتَمَل أن يعود على «ما» الموصولة، وأن يعودَ على الكَتْم المفهومِ من قوله: «يَكْتُمُونَ»، وأَنْ يعودَ على الكتابِ، والأَوَّلُ أَظهَرُ،
183
ويكونُ ذلك على حَذْف مضافٍ، أي: «يَشْتَرونَ بِكَتْم ما أَنْزَلَ».
قال ابنُ عَبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْه - وقتادَةُ والسُّدِّيُّ، والأصَمُّ وأبو مُسْلِمٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - كانوا يكتُمُونَ صفَةَ محمَّدٍ - عيله الصَّلاة والسَّلام - ونَعْتَهُ.
وقال الحسَنُ: كَتَمُوا الأَحْكَام، وهو قولهُ تبارَكَ وتعالى: ﴿إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ [التوبة: ٣٤].

فصل في حقيقة الكتمان


اختلفوا في كيفيَّة الكتمان.
فروي عن ابن عبَّاس أَنَّهُم كانُوا يحرِّفون ظاهِرَ التَّوراةِ، والإنجيلِ.
قال المتكلِّمون: وهذا ممتنعٌ؛ لأنَّ التوراة والإنجيل كتابانِ، وقد بلغا من الشهرة إلى حدِّ التواتر؛ بحيث يتعذّر ذلك فيهما، وإِنَّما كانوا يكتُمُونَ التأويلَ، لأنَّه قَدْ كان منهم مَنْ يعرف الآياتِ الدالَّةَ على نبوة محمَّد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وكانوا يذكُرُون لها تأويلاتٍ باطلةً، ويحرِّفونها عن محامِلها الصحيحة، والدَّالَّةِ على نبوَّة محمَّد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فهذا هو المرادُ من الكتْمَان، فيصير المعنى: الذين يكْتُمُون معاني ما أنزَلَ الله منَ الكتاب.
﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾ [البقرة: ٤١] لأنَّه في نفسه قليلٌ ولأنَّه بالإضافة إلى ما فيه من القدر قليلٌ، ولما ذكر عنهم هذه الحكاية، ذكر الوعيدَ عليهم؛ فقال: ﴿أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار﴾.
قال بعضُهُم: ذكْرُ البطْنِ هنا زيادةُ بيانٍ؛ كقوله: ﴿يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] وقال بعضهُم: بل فيه فائدةٌ؛ وقولُه «فِي بطُونِهِمْ»، يقالُ: أَكَلَ فُلاَنٌ فِي بَطْنِهِ وَأَكَلَ فِي بَعْضِ بَطْنِهِ.

فصل في أكلهم النَّار في الدنيا أم في الآخرة


قال الحسن، والرَّبيع، وجماعةٌ مِنْ أهلِ العلم إنَّ أكلَهُم في الدنيا وإن كان طيِّباً في الحال، فعاقبتُه النَّار؛ لأنَّه أكلُ ما يوجب النار؛ فكأنه أكْلُ النَّار؛ كما روي في حديث الشَّارب مِن آنيةِ الذَّهَب والفضَّة: «إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ»
وقوله تبارَكَ وتَعَالى: ﴿إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً﴾ [يوسف: ٣٦] أي: عِنباً؛ فهذا كلُّ من تسمية الشيء بما يؤولُ إلَيْه. وقال الأصمُّ إِنَّهم في الآخرةِ يَأكلُون النَّار؛ لأكلهم في الدنيا الحرامَ.
قوله: ﴿إِلاَّ النَّارَ﴾ استثناءٌ مفرَّغ؛ لأنَّ قبله عاملاً يطلبه، وهذا من مجازِ الكَلاَمِ،
184
جعل ما هُوَ سَبَبٌ للنَّار ناراً؛ كقولهم: «أَكَلَ فُلاَنٌ الدَّمَ»، يريدُون الدية الَّتي بِسَبَبها الدَّمُ؛ قال القائل في ذلك: [الطويل]
٩٠٤ - فَلَوْ أَنَّ حَبّاً يَقْبَلُ المَالَ فِدْيَةً لَسُقْنَا إِلَيْهِ المَالَ كَالسَّيْلِ مُفْعَما
وَلَكِنْ أَبَى قَوْمٌ أُصِيبَ أَخُوهُمُ رَضَا الْعَارَ وَاخْتَارُوا عَلَى اللَّبَنِ الدَّمَا
وقال القائلُ: [الطويل]
٩٠٥ - أَكَلْتُ دَماً إِنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ بِعِيدَةِ مَهْوَى القُرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ
وقال: [الرجز]
٩٠٦ - يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إِكَافَا... يريد: ثَمَنَ إكافٍ.
وقوله: «في بُطُونِهِم» يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أَن يتعلَّق بقوله «يَأْكُلُونَ» فهو ظرْفٌ له، قال أبو البقاء: وفيه حذفُ مضافٍ، أي «طَرِيقِ بُطُونِهِمْ» ولا حاجة غلى ما قاله من التَّقْدِير.
والثاني: أنْ يتعلَّق بمحذوفٍ، على أنَّهُ حالٌ من النَّار.
قال أبُو البقاء: والأجودُ: أن تكونُ الحال هُنّا مقدَّرة؛ لأنَّها وقت الأَكْلِ ليْسَتْ في بُطُونِهِمْ. وإنَّمَا تَؤول إلى ذلك، والتقديرُ: ثابتةٌ وكائنةٌ في بُطُونهم.
قال: ويلْزَمُ منْ هذا تقديمُ الحال على حرف الاستثناء.
وهو ضعيفٌ، إلاَّ أنْ يجعل المفعولَ محذوفاً و «فِي بُطُونِهِمْ» حالاً منه، أَو صفةً له، أي: في بطونِهِم شيئاً، يعني فيكون: «إلاَّ النَّارُ» منصوباً على الاستثناء التَّامِّ؛ لأنَّهُ مستثنىً من ذلك المحذوف إِلاَّ أَنَّه قال بَعْد ذلك: وهذا الكلامُ من المعنى على المجاز للإعْرَابِ حكْمُ اللفظ.
والثالث: أنْ يكون صفةً أو حالاً من مفعُول «كُلُوا» محذوفاً؛ كما تقدم تقديرُه.
قوله: في ذِكْرِ البُطُونِ تنبيهٌ على أَنَّهُم باعوا آخِرَتَهُم بدُنياهم، وهو حظُّهم من المَطْعَم الَّذي لا خَطَرَ له ومعنى «إلاَّ النَّار»، أي: أنَّهُ حرامٌ يعذِّبهم الله علَيْه، فسمّى ما
185
أَكَلُوه من الرُّشَا ناراً؛ لأَنَّهُ يؤدِّيهم إلى النار، قاله أكثر المفسِّرين.
وقيل: إِنَّهُ يعاقبهم على كتمانهم بأكل النَّار في جهنم حقيقةً فأَخْبَر عن المآل بالحالِ؛ كما قال تعالى
﴿إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً﴾ [النساء: ١٠]، أي عاقبتهم تئُولُ إلى ذلك، ومنْه قَوْلُ القائل: [الوافر]
٩٠٧ - لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ.................................
وقال القائِل [المتقارب]
٩٠٨ -............................ فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَهْ
وقال آخر: [البسيط]
٩٠٩ -........................... وَدُورُنَا لِخَرابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا
يةُ تدُلُّ على تحريم الرَّشْوَة على الباطل.
قوله: ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله﴾ ظَاهِرهُ: أَنَّهُ لا يكلِّمهم أصلاً، لكنه لما أوردَهُ مَوْرِدَ الوعيد، فهم منه ما يجري مَجْرَى العقوبة وذكَروُوا فيه ثلاثة أَوْجِهٍ:
الأوَّل: قد دَلَّ الدَّليلُ على أَنَّه سبحانَهُ وتعالى يكلِّمهم؛ وذلك قولُهُ ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٩٢].
وقوله ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين﴾ [الأعراف: ٦] فعرفنا أَنَّهُ يسأل كلُّ واحدٍ من المكلَّفين، والسؤال لا يكونُ إِلاَّ بكَلاَم، فقالوا: وجب أنْ يكُون المرادُ من الآية الكريمة أنه تعالى لا يكلِّمهم بتحيَّةٍ وسلام وخَيْرٍ، وإنما يكلِّمهم بما يعظم عندهم من الحَسْرة والغَمِّ؛ من المناقشة والمُسَاءلة كقوله تعالى ﴿اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨].
الثاني: أنَّه تبارك وتعالى لا يكلِّمهم أَصْلاً، وأَمَّا قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} إنما يكون السؤال من الملائكة بأمره تعالى، وإنَّما كان عدَمُ تكليمهم في مَعْرِضِ
186
التَّهْديد؛ لأَنَّ [يومَ القيامة هُو اليَوْمُ الذي يكلِّم الله تعالى فيه كلَّ الخلائق بلا واسطةٍ، فيظهر] عند كلامِهِ السُّرُورُ في أوليائه، وضده في أعدائِهِ ويتميَّز أهلُ الجَنَّة بذلك، من أهلِ النار. فلا جَرَم كان ذلك من أعظَمِ الوعيد.
الثالث: أن قوله: «وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ» استعارةٌ عن الغَضَب؛ لأنَّ عادةَ المُلُوك أنَّهُم عند الغَضَب يعرضُون عن المَغْضُوب عليه، ولا يكلِّموه؛ كما أنَّهُم عند الرضَا يُقْبِلُون علَيْه بالوجه والحديث.
وقوله «وَلاَ يُزكِّيهِم» فيه وجوه:
الأوَّل: لا يسنبهم إلى التَّزكية، ولا يُثْنِي عليهم.
الثاني: لا يقْبَل أعمالَهُمْ؛ كام يقبل أَعْمَال الأولياء.
الثالث: لا ينزلُهم منازل الأولياء.
وقيل: لا يُصْلِحُ عمالهم الخبيثة، فيطهرهم.
قولُهُ ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، اعْلَمْ: أنَ الفعيل قد يكون بمعنى المفعول؛ كالجريح والقتيل، بمعنى المجروح والمَقْتُول، وقد يكُونُ بمعنى «المُفعل» ؛ كالبصير بمعنى المُبْصِر والأليم بمعنى المُؤلم.
واعلم أَنَّ العبرةَ بعُمُوم اللَّفْظِ، لا بخُصُوص السَّبَب، فالآية الكريمة وإن نزلت في اليهود، لكنَّها عامَّة في حقِّ كلِّ مَنْ كَتَم شيئاً من باب الدِّين.
187
اعلم أنَّ أَحْسَنَ الأشياء في الدُّنيا الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضَّلال والجَهْل فَلَمَّا تركُوا الهُدَى في الدُّنيا، ورضُوا بالضَّلال والجهل، فلا شَكَّ أَنَّهُمْ في نهاية الخَسَارة في الدنيا، وَأَمَّا في الآخرة، فأحسن الأشياء المَغْفِرة، وأخْسَرُها العذَابُ، فَلَمَّا صرفوا المغفرة، ورضُوا بالعَذَاب، فلا جَرَم: أنهم في نهاية الخَسَارة، ومَنْ كانت هذه صفتَهُ، فهو أعْظَمُ النَّاس خسارةً في الدُّنيا والآخِرَة.
قولُهُ ﴿فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار﴾ في «ما» هذه خمسةُ أقْوالٍ:
أحدها: وهو قول سيبويه، والجُمهُور: أَنَّها نكرةُ تامَّةُ غير موصُولة، ولا
187
موصوفةٍ، وَأَنَّ معناها التعجُّب، فإذَا قُلْتَ: «مَا أَحْسَنَ زَيْداً»، فمعناهُ: شيءٌ صَيَّرَ زَيْداً حَسَناً.
الثاني: قولُ الفراء - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - أَنَّهَا استفهاميَّةٌ صَحِبَها معنى التعجُّب؛ نحو «كَيْف تَكْفُرُونَ بِاللهِ».
قال عطَاءٌ، والسُّدِّيُّ: هو «ما» الاستفهام، معناه: ما الَّذي صَبَّرهم على النَّار؟ وأيُّ شيء صَبَّرهم على النَّار؛ حتى تَرَكثوا الحَقَّ، واتبعوا البَاطِلَ.
قال الحَسَن، وقَتادة: «والله ما لهم عَلَيْها من صَبْر، ولكنْ ما أجرأهم على العمل الَّذي يقرِّبهم إلى النار» وهي لغة يَمَنية معروفةٌ.
قال الفراء: أخبرني الكسائيُّ قال: أخبرني قاضي «اليَمَنِ» أَنَّ خَصْمَينِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فوجَبَتِ اليمينُ على أحدهِمَا، فحلَفَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُك ما أصْبَرَكَ عَلَى اللهِ؟ أي: ما أجرأك عليه.
وحكي الزَّجَّاجُّ: ما أبقاهُمْ على النَّار، من قولِهِم: «مَا أَصْبَرَ فُلاَناً على الحَبْس»، أي: ما أبقاهُ فيه.
والثالث: ويُعْزَى له أيضاً: أنها نكرةٌ موصوفةٌ وهي على الأقوال الأربعة في مَحَلِّ رفع بالابتداءِ، وخبرها على القَوْلين الأولَيْن: الجملةُ الفعليَّة بعدَها، وعلى قوْلي الأخْفَش] : يكون الخبر مَحذوفاً فإنَّ الجملة بعدها إما أن تكون صلةً، أو صفةً وكذلك اختلفُوا في أفْعَل الواقع بعدها، أهو اسمٌ؟ وهو قول الكوفيِّن، أم فعل؟ وهو الصحيحُ، ويترتَّب على هذا الخلاَفِ خلافٌ في نصْب الاسْمِ بعده، هَلْ هو مفعولٌ به، أو مشبَّهة بالمعفول به، ولكلٍّ مِنَ المذْهَبَين دلائلُ، واعتراضات وأجوبةٌ ليس هذا موضعها.
ولمراد بالتعجُّب هنا، وفي سائر القُرْآن: الإعلامُ بحالهم؛ إنَّها ينبغي أنْ يتعجَّب منها، إلا فالتعجب مستحيلٌ في حقِّه تعالى، ومعنى عَلَى النَّارِ، أي: على عمل أهْل النار، قاله الكِسَائيُّ، وهذا من مجاز الكَلاَمِ.
الخامس: أنَّها نافيةٌ، أَي: ﴿فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار﴾. نقله أَبُوا البقاء
188
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الله﴾ : اختلفُوا في مَحَلِّ: «ذَلِكَ» من الإعراب فقيل: رفعٌ، وقيل: نَسْبٌ والقائلُونَ بأنَّه رفْعٌ، اختلفوا على ثلاثة أقْوَال.
أحدها: أَنَّهُ فاعلٌ بفعلٍ محذوف، أي: وجب لَهُمْ ذلك.
الثاني: أن «ذَلِكَ» مبتدأٌ، و «بِأَنَّ اللهَ» خبره، أي: ذلك العذابُ مستحقٌّ بما أنزل الله في القرآن من استحقاق عَذَاب الكَافِرِ.
والثالث: أنَّهُ خَبَرٌ، والمبتدأ محذوفٌ، أَي: الأمرُ ذلك، والإشارة إلى العَذَابِ، ومَنْ قال بأنَّه نصب، قدَّره: «فعلنا ذلك» [والباءُ متعلِّقة بذلك المَحْذُوف، ومَعْنَاها السببية.

فصل في اختلافهم في الإشارة ب «ذلك»


اختلفوا في الإشارة بقوله «ذلك» ] إلى ماذا؟ على قولين:
الأوَّل: أنَّهُ إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الوعيد على الكِتْمان، أي: إِنَّما كان لأَنَّ الله أنْزَلَ الكتابَ بالحَقِّ في صفَةِ محمَّد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وإنَّ هؤلاء اليَهُود والنصارى لأجْل مشاقَّة الرَّسُول عليه الصَّلاة والسَّلام يُخْفُونَه، ويوقِعُون التُّهمة فيه، فلا جَرَم، استحقُّو ذلك الوعيد الشديد، ثم تقدَّم في الوعيد أُمُورٌ:
أقربُها: أنَّهم اشتروا العذابَ بالمَغْفرة.
ثانيها: اشْتَرُوا الضَّلالة بالهُدى.
ثالثها: أَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أليماً.
رابعها: أَنَّ الله لا يزكِّيهم.
خامسها: أَنَّ الله لا يكلِّمهم.
فقوله: «ذَلِكَ» يصلُحُ أَنْ يكون إشارة إلى [كلِّ واحدٍ منها، وأن يكونَ إشارةً إلى المَجْمُوع.
والقول الثاني: أَنَّ ذلك إشارةٌ إلى] ما يفعلونه من جراءتهم على الله في مخالفَتَهِم أَمْرَ الله، وكتمانِهِمْ ما أَنْزَل الله فبيَّن تبارك وتعالى أَنَّ ذلك إِنَّما هُوَا من أَجلِ الكتابَ بالحَقِّ وقد نزل فيه أَنَّ هؤلاء الكُفَّارَ لا يؤمِنُون، ولا يَنْقَادُونَ، ولا يَكُون منهم إلاَّ الإصْرَار على الكُفْرِ؛ كقوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ﴾ [البقرة: ٦ - ٧] وقوله: «بالحَقِّ»، أَي: بالصِّدق، وقيل: ببيان الحقِّ، والمرادُ من «الكتاب» : يحتمل أن يكُونَ التَّوراة، والإنجيل، ويحتمل أن يكُون
189
القرآن، فإن كَانَ الأَوَّلَ، كان المعنى وإن الَّذين اخْتلَفُوا في تأويله، وتحريفه، لَفِي شِقَاقٍ بعيدٍ وإِنْ كان الثَّاني، كان المعنى: وإن الذين اختلَفُوا في كَونه حقّاً منزَّلاً من عند الله تعالى لَفِي شقَاقٍ بعيدٍ.

فصل في المراد باختلافهم


والمراد باختلافهم:
إِنْ قلنا المراد ب «الكَتِابِ» هو القُرْآن، كان اختلافُهُم فيه: أَنَّ بعضَهُ قال: هو كَهَانَةٌ، وقال آخرون هو سِحْرٌ، وآخرونَ قالُوا: هو رجْزٌ، ورابعٌ قال أساطيرُ الأَوَّلين وخامسٌ قال: إِنَّه كلامٌ مختلف. وإنْ قلنا: المراد ب «الكتَابِ» هو التوراةُ والإِنْجيلُ، فالمراد باختلافهم يحتلم وجُوهاً.
أحدها: اختلافُهُمْ في دَلاَلة التَّوراة على نُبُوَّة المسيح، فاليهود قالوا: إِنَّها دالَّةٌ على القَدْح في عيسى؛ والنصارَى قالوا: إِنَّها دالَّة على نبوَّته.
وثانيها: اختلافهُم في الآياتِ الدالَّة على نُبُوَّة محمَّد - عليه السلام - فَذَكَرَ كلُّ واحدٍ منهم له تأويلاً فاسداً.
وثالثها: قال أبو مُسْلِم: قوله: «اخْتَلَفُوا» من باب «افْتَعَلَ» الذي كون مكان «فَعَلَ»، كما يقال كَسَبَ واكْتَّسَبَ، وعَمِلَ واعْتَمَلَ، وكَتَبَ واكْتَتَبَ، وفَعَلَ وافْتَعَلَ، ويكون معنى قوله: ﴿إِنَّ الذين اختلفوا﴾ أي: توارَثُوه وصارُوا خُلَفَاء فيه؛ كقوله تبارك وتعالى
﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ [الأعراف: ١٦٩] وقوله ﴿إِنَّ فِي اختلاف الليل والنهار﴾ [يونس: ٦] أي: كل واحد منهما يأتِي خَلْف الآخر، [وقوله ﴿وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً﴾ [الفرقان: ٦٢]. أي كُلُّ واحدٍ منهما يخلفُ الآخر]، وفي الآية الكريمة تأويلاتٌ ثلاثٌ أُخَرُ.
أحدها: أن يكونَ المراد ب «الكِتَابِ» جنْسَ ما أنزل الله، والمراد ب ﴿الذين اختلفوا فِي الكتاب﴾ الذين اختلفَ قولهُمْ في الكتاب، فقلبوا بعضَ كُتُب الله، وهي التوراة والإنجيلُ؛ لأجل عداوتك، وهم فيما بينهم في شقاقٍ بعيدٍ، ومنازعة شديدةٍ، فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتَّفاقهم على العداوة؛ فإنه ليسَ بينهم مؤالَفَة وموافَقَةٌ.
وثانيها: كأنه تعالى يقُولُ: هؤلاءِ، وإن اختلفُوا فيما بينهم، فإنَّهم كالمتفقين على عَدَاوتك، وغاية المشاقَّة لك، فلهذا خَصَّهم الله بذلك الوَعِيدِ.
أن هؤلاء الذين اتفقوا على أصل التحريف، فإن كل واحد منهم يكذب
190
صاحبه، ويشاقُّه، وينازعه، وإذا كان كذلك، فقد عرفت كذبَهُمْ، بقولهم، فلا يكُونُ قدحُهُمْ فيك قَدْحاً ألبَتَّة.
191
قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ ﴾ : اختلفُوا في مَحَلِّ :" ذَلِكَ " من الإعراب فقيل : رفعٌ، وقيل : نَصْبٌ والقائلُونَ بأنَّه رفْعٌ، اختلفوا على ثلاثة أقْوَال :
أحدها : أَنَّهُ فاعلٌ بفعلٍ محذوف، أي : وجب لَهُمْ ذلك.
الثاني : أن " ذَلِكَ " مبتدأٌ، و " بِأَنَّ اللَّهَ " خبره، أي : ذلك العذابُ مستحقٌّ بما أنزل الله في القرآن من استحقاق عَذَاب الكَافِرِ.
والثالث : أنَّهُ خَبَرٌ، والمبتدأ محذوفٌ، أَي : الأمرُ ذلك، والإشارة إلى العَذَابِ، ومَنْ قال بأنَّه نصب، قدَّره :" فعلنا ذلك " [ والباءُ متعلِّقة بذلك المَحْذُوف، ومَعْنَاها السببية.

فصل في اختلافهم في الإشارة ب " ذلك "


اختلفوا في الإشارة بقوله " ذلك " ]١١ إلى ماذا ؟ على قولين :
الأوَّل : أنَّهُ إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الوعيد على الكِتْمان، أي : إِنَّما كان لأَنَّ الله أنْزَلَ الكتابَ بالحَقِّ في صفَةِ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وإنَّ هؤلاء اليَهُود والنصارى لأجْل مشاقَّة الرَّسُول عليه الصَّلاة والسَّلام يُخْفُونَه، ويوقِعُون التُّهمة فيه، فلا جَرَم، استحقُّوا ذلك الوعيد الشديد، ثم تقدَّم في الوعيد أُمُورٌ :
أقربُها : أنَّهم اشتروا العذابَ بالمَغْفرة.
ثانيها : اشْتَرَوُا الضَّلالة بالهُدى.
ثالثها : أَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أليماً.
رابعها : أَنَّ الله لا يزكِّيهم.
خامسها : أَنَّ الله لا يكلِّمهم.
فقوله :" ذَلِكَ " يصلُحُ أَنْ يكون إشارة إلى [ كلِّ واحدٍ منها، وأن يكونَ إشارةً إلى المَجْمُوع.
والقول الثاني : أَنَّ ذلك إشارةٌ إلى ]١٢ ما يفعلونه من جراءتهم على الله تعالى في مخالفَتَهِم أَمْرَ الله، وكتمانِهِمْ ما أَنْزَل الله فبيَّن تبارك وتعالى أَنَّ ذلك إِنَّما هُوَ من أَجلِ الكتابَ بالحَقِّ وقد نزل فيه أَنَّ هؤلاء الكُفَّارَ لا يؤمِنُون، ولا يَنْقَادُونَ، ولا يَكُون منهم إلاَّ الإصْرَار على الكُفْرِ ؛ كقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ ﴾ [ البقرة : ٦ - ٧ ] وقوله :" بالحَقِّ "، أَي : بالصِّدق، وقيل : ببيان الحقِّ، والمرادُ من " الكتاب " : يحتمل أن يكُونَ التَّوراة، والإنجيل، ويحتملُ أن يكُون القرآن، فإن كَانَ الأَوَّلَ، كان المعنى وإن الَّذين اخْتلَفُوا في تأويله، وتحريفه، لَفِي شِقَاقٍ بعيدٍ وإِنْ كان الثَّاني، كان المعنى : وإن الذين اختلَفُوا في كَونه حقّاً منزَّلاً من عند الله تعالى لَفِي شقَاقٍ بعيدٍ.

فصل في المراد باختلافهم


والمراد باختلافهم :
إِنْ قلنا المراد ب " الكَتِابِ " هو القُرْآن، كان اختلافُهُم فيه : أَنَّ بعضَهُم قال : هو كَهَانَةٌ، وقال آخرون هو سِحْرٌ، وآخرونَ قالُوا : هو رجْزٌ، ورابعٌ قال أساطيرُ الأَوَّلين وخامسٌ قال : إِنَّه كلامٌ مختلق. وإنْ قلنا : المراد ب " الكتَابِ " هو التوراةُ والإِنْجيلُ، فالمراد باختلافهم يحتمل وجُوهاً١٣.
أحدها : اختلافُهُمْ في دَلاَلة التَّوراة على نُبُوَّة المسيح١٤، فاليهود قالوا : إِنَّها دالَّةٌ على القَدْح في عيسى ؛ والنصارَى قالوا : إِنَّها دالَّة على نبوَّته.
وثانيها : اختلافهُم في الآياتِ الدالَّة على نُبُوَّة محمَّد - عليه السلام - فَذَكَرَ كلُّ واحدٍ منهم له تأويلاً فاسداً.
وثالثها : قال أبو مُسْلِم : قوله :" اخْتَلَفُوا " من باب " افْتَعَلَ " الذي كون مكان " فَعَلَ "، كما يقال كَسَبَ واكْتِّسَبَ، وعَمِلَ واعْتَمَلَ، وكَتَبَ واكْتَتَبَ، وفَعَلَ وافْتَعَلَ، ويكون معنى قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ ﴾ أي : توارَثُوه وصارُوا خُلَفَاء فيه ؛ كقوله تبارك وتعالى
﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾ [ الأعراف : ١٦٩ ] وقوله ﴿ إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ [ يونس : ٦ ] أي : كل واحد منهما يأتِي خَلْف الآخر، [ وقوله ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ﴾ [ الفرقان : ٦٢ ]، أي كُلُّ واحدٍ منهما يخلفُ الآخر ]١٥، وفي الآية الكريمة تأويلاتٌ ثلاثٌ أُخَرُ.
أحدها : أن يكونَ المراد ب " الكِتَابِ " جنْسَ ما أنزل الله، والمراد ب ﴿ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ ﴾ الذين اختلفَ قولهُمْ في الكتاب، فقلبوا بعضَ كُتُب الله، وهي التوراة والإنجيلُ ؛ لأجل عداوتك، وهم فيما بينهم في شقاقٍ بعيدٍ، ومنازعة شديدةٍ، فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتَّفاقهم على العداوة١٦ ؛ فإنه ليسَ بينهم مؤالَفَة وموافَقَةٌ.
وثانيها : كأنه تعالى يقُولُ : هؤلاءِ، وإن اختلفُوا فيما بينهم، فإنَّهم كالمتفقين على عَدَاوتك، وغاية المشاقَّة لك، فلهذا خَصَّهم الله بذلك الوَعِيدِ.
وثالثها : أَنَّ هؤلاء الَّذين اتَّفَقوا على أصلِ التَّحريف، فإن كلَّ واحد منْهُم يُكَذِّب صاحبه، ويشاقُّه، وينازعه، وإذا كان كذلك، فقد عرفت كذبَهُمْ، بقولهم، فلا يكُونُ قدحُهُمْ فيك قَدْحاً ألبَتَّة.
قرأ الجُمْهُور برفع «البِرُّ» وحمزة، وحفصٌ عن عاصم بنصبه، فقراءةُ الجُمْهُور على أنَّه اسمُ «لَيْسَ» و «أَنْ تُولُّوا» خبرها في تأويل مصدّرٍ، أي: ليس البِرُّ تَوْلِيَتكُمْ، ورجِّحت هذه القراءةُ مِنْ حيث إنَّه ولي الفعل مرفوعة قَبْل منصوبه، وأَمَّا قراءة حمزة وحَفْصٍ ف «البرُّ» الخبرٌ مقدَّمٌ، و «أَنْ تُوَلُّوا» اسمُها في تأويل مصدرٍ، ورجِّحت هذه القراءة بأنَّ المصدر المؤَوَّل أعرفُ من المحلَّى بالألف واللام؛ لأنَّهُ يشبه الضَّمير، من حيث إِنَّهُ لا يوصَفُ؛ ولا يوصف به، والأعْرَفُ ينبغي أنْ يُجْعَل الاسْمَ وغيْر الأعْرَفِ الخَبَرِ؛ وتقديمُ خَبَر «لَيْسَ» على اسمها قليلٌ؛ حتى زَعَم منْعَهُ جماعةٌ [منْهم ابنُ دَرَسْتَوَيْهِ، قال: لأنَّها تشبه «مَا» المجازيَّة ولأَنَّها حرفٌ على قول جماعةٍ، لكنه] محجوج بهذه القراءة المتواترة، وبقول الشاعر [الطويل]
٩١٠ - سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمْ فَلَيْسَ سَوَاءَ عَاِمٌ وَجَهُولُ
وقال آخر: [الطويل]
٩١١ - أَلَيْسَ عَظِيماً أَنْ تُلِمُ مُلِمَّةٌ وَلَيْسَ عَلَيْنَا فِي الخُطُوبِ مُعَوَّلُ
وفي مصحف أُبَيٍّ، وعبْد الله «بِأَنْ تُوَلُّوا» بزيادةِ الباء، وهي واضحة؛ فإن الباء تزادُ في خبر «لَيْسَ» كثيراً.
191

فصل في الاختلاف في أصل ليس


الجمهُور على أن «لَيْسَ» فعلٌ وقال بعضُهُمْ إنه حرفٌ حجَّة القائلين بأنَّها فعلٌ:
اتصالُ الضمائر بها الَّتي لا تتصلُ إلاَّ بالأَفْعال؛ كقَولك، «لَسْتُ، ولَسْنَا، ولَسْتُمْ»، و «القَوْمُ لَيْسُوا قَائِمِينَ»، وهذا منقوضٌ بقوله: «إِنَّنِي، ولَيْتَنِي، ولَعَلَّني».
وحجَّة مَنْ قال بأنَّهَا حرفٌ أمور:
الأوَّل: أنَّها لو كانت فعلاً، لكانت فعلاً ماضِياً ولا يجوزُ أن تكون فعلاً ماضياً؛ لاتفاق الجمهُور على أَنَّهُ لِنَفيِ الحالِ، والقائلُونَ بأَنَّه فعْلٌ قالوا: إنه فعْلٌ ماضٍ.
وثانيها: أَنَّهُ يدخلُ على الفعْلِ، فنقول: «لَيْسَ يَخْرُجُ زَيْدٌ»، والفعلُ لا يدخُلُ على الفعْل عَقْلاً ونقلاً.
وقولُ مَنْ قال: «إن لَيْسَ» داخلٌ على ضمير القصَّة، والشأن، وكونُ هذه الجملةِ تفسيراً لذلك الضَّمير ضعيفٌ؛ فإنَّهُ لو جاز ذلك، جاز مثلُه في «مَا».
وثالثها: أَنَّ الحرف «مَا» يظهرُ في معنَاهُ في هذه الكَلِمَة، فإنك لَو قُلْتَ: «لَيْسَ زَيْدُ» لم يتمَّ الكلام، لا بُدَّ أن تقول: «لَيْسَ زَيْدٌ قَائِماً».
ورابعُها: أن «لَيْسَ» لو كان فعْلاً، لكان «ما» فعلاً، وهذا باطلٌ، فذاك باطلٌ، بيان الملازمةِ: ان «لَيْسَ» لو كان فعْلاً لكان ذلك لدلالَتِهِ على حُصُول معنى السَّلْب مقترناً بزمان مخْصُوصٍ، وهو الحالُ، وهذا المعْنَى قائمٌ في «مَا» فيجبُ أن تكونَ «مَا» فعْلاً، فلَمَّا لم يكُنْ هذا فعْلاً، فكذلك القَوْل في ذلك أو تكون في عبارةٍ أُخْرَى: «لَيْسَ» كلمةٌ جامدةٌ، وضعت لنَفْي الحالِ، فأشبهت «مَا» في نفْي الفعليَّة بذلك.
وخامسُها: أنَّك تَصِلُ «مَا» بالأفْعَال الماضيةِ، فتقولُ: «مَا أَحْسَنَ زَيْداً»، ولا يجوزُ أنْ تصلَ «مَا» ب «لَيْسَ» فلا تَقُولُ: «مَا لَيْسَ زَيْدٌ يَذْكُرُكَ».
وسادسها: أَنَّه على غير أوزَانِ الفِعْل.
وأجابَ القَاضِي، والقائلُونَ بالفعليَّة عن الأَوَّل بأنَّ «لَيْسَ» قد يجيءُ لنفي المَاضِي بمعنَاه؛ كقولهم: «جَاءَنِي القَوْمُ لَيْسَ زَيْداً».
وعن الثَّاني أنه منقوضٌ بقولم: «أَخَذَ يَفْعَلُ كَذَا».
وعن الثَّالث: أنه منقوضٌ بسائر الأفعال النَّاقِصَة.
وعن الرَّابع: أنَّ المماثَلَة مِنْ بعض الوجوه لا تَقتضي المماثلة من كُلِّ الوُجُوه.
وعن الخَامِس: أَنَّ ذلك إِنَّمَا امتنع مِنْ قِبَلِ أَنَّ: «مَا» للحال و «لَيْسَ» للماضي، فلا يمكنُ الجَمْع بينهما.
192
وعن السَّادس: أن تغير البناءِ وإن كان على خلافِ الأَصل، لكنَّه يجبُ المصيرُ إِلَيْه؛ لدلالةِ العَمَل بما ذكر، وذكَرُوا وجوهاً أُخَرَ مخالفةً للنَّحْوِ.
قوله: «قِبَلَ» منصوبٌ على الظَّرْف المكانيِّ بقوله: «تُوَلُّوا»، وحقيقةُ قولِكَ: «زَيْدٌ قِبَلَكَ» أي في المكان الَّذي يقابلُكَ فيه وقد يُتَّسَعُ فيه، فيكون بمعنى «عِنْدَ» ؛ نحو قولك: «قِبَلَ زَيْدٍ دَيْنٌ»، أي «عِنْدَهُ ديْنٌ».

فصل في اختلافهم في عموم هذا الخطاب وخصوصه.


اختلفوا: هَلْ هذا الخطاب عَامٌّ، أو خاصٌّ؟ فقال قتادةُ، ومقاتلُ بْنُ حَيَّان: لمَّا شددوا أهل الكتاب بالثبات على التوجُّه نحو بيْت المَقْدِس، قال تعالى: ﴿لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ﴾ هذه الطريقة، ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله﴾.
وقال مجاهدٌ وعطاءٌ والضَّحَّاك - رضِيَ الله عنهم -: المرادُ مخاطبةُ المؤمنين، لَمَّا ظنُّوا هذا الكلام.
وقال بعضُهُم: هو خطابٌ للكلّ؛ لأنَّه لما حُوِّلت القبلةُ، حَصَلَ للمؤمنينَ الاغتباطُ بهذه القِبْلة، وحَصَلَ منْهم التشديدُ في هذه القِبْلَة؛ حتَّى ظنُّوا أنَّه الغرضُ الأكْبَر في الدِّين، فبعثهم الله تعالى بهذا الخِطَاب استيفاءَ جميع الطاعات والعبادات، ولَيْسَ البرَّ بأنْ تولُّوا وجوهَكُم شَرْقاً وغرباً، وإِنَّمَا البِرُّ كَيْتَ، وكَيْتَ، وكَيْتَ، فكأنَّه تبارك وتعالى قال: ليْس البرُّ المطلوبُ هو أمْرَ القِبْلة، بل البِرُّ المطلوبُ هذه الخصالُ الَّتي عدَّدتُّها.

فصل في المشار إليه بالضمير


قال القفَّال: والذي عندَنا أنَّه إشارةٌ إلى السُّفَهاء الذين طَعَنُوا في المُسْلِمين، وقالُوا: ما ولاَّهم عن قبلتهم الَّتي كانُوا علَيْها؟ مع أنَّ اليَهُود كانُوا يستَقْبلون المَغْرب، والنَّصَارَى كانُوا يستقْبِلُون المَشْرِق، فقال الله تعالى: إنَّ صَفَةَ البِرِّ لا تحصُلُ باستقبالِ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، بل البرُّ يحصُلُ بأُمُر.
منها: الإيمانُ بالله، وأهْلُ الكتابِ أخَلُّوا بذلك، فَأَمَّا اليهود، فلقولهم بالتَّجْسِيم، ولقَوْلِهِم بأنَّ عُزَيْراً ابْنُ اللهِ، وأَمَّا النصارَىح فلقولهم: المَسِيحُ ابْنُ الله، واليهودُ وصَفُوا الله تعالى بالبُخْل.
وثانيها: الإيمانُ باليَوْم الآخِر، واليهود أخلُّوا بذلك، وقالوا: ﴿لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] والنصارى أنْكَرُوا المعادَ الجِسْمانيَّ، وكلُّ ذلك تكذيبٌ باليوم الآخر.
193
وثالثها: الإيمانُ بالمَلاَئكة، واليهودُ أخلُّوا بذلك؛ حيْثُ أظْهَرُوا عداوة جِبْرِيلَ.
ورابعها: الإيمانُ بكُتُب الله تعالى، واليهودُ أخلُّوا بذلك، لأن مع قيام الدَّلائل على أنَّ القرآنَ كتابُ الله تعالى رَدُّوه ولم يقْبلُوه؛ قال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٨٥].
وخامسها: الإيمانُ بِالنَّبيِّين، واليَهُود أخلُّوا بذلك؛ حيث قتلوا الأنْبياءَ؛ على ما قال تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق﴾ [البقرة: ٦١] وطَعَنُوا في نبوَّة محمَّد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وسادسها: بَذْلُ الأمْوَالِ علَى وَفْقِ أمْرِ الله تعالى، واليهود أخلُّوا بذلك؛ لأنَّهم يُلْقُون الشُّبُهات؛ لِطَلَب المَال القَليلِح قال تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾.
وسابعها: إقَامة الصَّلاة، وإيتاءُ الزَّكاة، واليهودُ كانوا يمنَعُون النَّاسَ منها.
وثامنها: الوفَاءُ بالعَهْد، واليهودُ نَقَضُوا العَهْد؛ قال تبارك وتعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: ٤٠].
وتاسعها: قوله: ﴿فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس﴾ والمرادُ بذلك المحافظةُ على الجهادِ، واليهودُ أخلُّوا بذلك؛ حيْثُ كانُوا في غاية الخَوْف، والجبْنِ؛ قال تعالى: ﴿لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى﴾ [الحشر: ١٤].
فإن قيل: نفى تبارك وتعالى أنْ يكُون التوجُّه إلى القْلَلةِ بِرّاً، ثم حَكَم بأنَّ البِرَّ بمجموع أمُر: أحدُها: الصَّلواتُ، ولا بُدَّ فيها من الاستقبال، فيلزَمُ التناقضُ.
فالجوابُ: أنَّ المفسِّرين اختلفُوا على أقْوَال:
منها: أنَّ قوله تعالى: «لَيْسَ البِرّ» نَفْيٌ لكمالِ البِرِّ ولَيْسَ نَفْياً لأصْله؛ كأنه قال: «لَيْسَ البِرُّ كلُّه هو هذا» ؛ فإنَّ البِرَّ اسمٌ من أسماء الخصالِ الحَمِيدة، واستقبال القبلة واحِدٌ منها، فلا يكونُ ذلك تمامَ البِرِّ.
الثاني: أنْ يكُونَ هذا نفياً لأصْلِ كَوْنه بِرّاً؛ لأن استقبالَهُم للمشْرِق والمَغْرِب كان خَطَأً في وقُتِ النبيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحِينَمَا نَسَخ الله تباركَ وتعالى ذلك؛ بل كان ذلِكَ ممَّا لا يجُوز؛ لأَنَّهُ عمل بمَنْسُوخ قد نهى الله عَنءه، وَمَا كَانَ كذلك، فهو لا يُعَدُّ من البِرِّ.
الثالث: أنَّ استقبالَ القِبْلة لا يكُون بِرّاً، إذ البِرُّ يتقدَّمه معرفةُ الله تعَالى، وإنَّما يكون بِرّاً، إذا أتَى بها مع الإيمانِ بِالله ورسُوله، فالإتيانُ بها دُونَ هذا الشَّرْط، لا يكونُ مِنْ أَفْعَال البِرِّ، إلاَّ إذا أتِيَ بها مع شَرْطه، كما أنَّ السَّجْدة لا تكُونُ مِنْ أفْعال البِرِّ، إلاَّ إذا أَتَى بها مع الإيمَانِ بالله ورسُوله.
194
ورُوِيَ أنَّه لَمَّا حُوِّلَت القبْلة، كَثُرَ الخَوْضُ في نَسْخِهَا، كأنه لا يُرَاعَى بطاعة الله تعالى إلاَّ الاستقبالُ؛ فأنْزَلَ الله تعالَى هذه الآيَةَ؛ كأنه تبارك وتعالى قال: «ما هذا الخَوضُ الشَّديدُ في أَمْر القِبْلَةِ مع الإعْرَاضِ عَنْ كُلِّ أَرْكَانِ الدِّين».
قوله
﴿ولكن
البر مَنْ آمَنَ بالله﴾
في هذه الآية خَمْسَة أوجه:
أحدها: أن «البِرَّ» اسم فاعل من: بَرَّ يَبَرُّ، فهو «برُّ» والأصل: «بَرِرٌ» بكسر الراء الأولى بزنة «فطِنٍ» فلمَّا أريد الإدغام، نقلت كسرة الرَّاء إلى الباء بعد سكبها حركتها؛ فعلى هذه القراءة: لا يحتاج الكلام إلى حذف وتأويلٍ؛ لأنَّ البِرَّ من صفات الأعيان؛ كأنه قيل: «وَلكِنَّ الشخْصَ البِرَّ مَنْ آمن».
الثاني: انَّ في الكلام حذف مضافٍ من الأوَّل، تقديره: «ولكنَّ ذا البِرِّ من آمن» ؛ كقوله تعالى: ﴿والعاقبة للتقوى﴾ [طه: ١٣٢] أي: لذي التقوى؛ وقوله ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله والله﴾ [آل عمران: ١٦٣] أي: ذوو درجاتٍ، قاله الزَّجَّاج.
الثالث: أن يكون الحذف من الثاني: أي: «وَلكِنَّ البِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ» وهذا تخريجُ سيبويه، واختياره، وإنَّما اختاره؛ لأنَّ السابق، إنَّما هو نفي كون البِرِّ هو تولية الوجهِ قبل المشرق والمغرب، فالذي يستدركُ، إنَّما هو من جنس ما ينفى؛ ونظير ذلك: «لَيْسَ الكَرَمُ أنْ تَبْذُلَ دِرْهَماً، ولكَّن الكَرَمَ بذل الآلاَفِ» ولا يناسبُ: «ولكِنَّ الكَرِيمَ مَنْ يَبْذُلُ الآلاَفَ» وحذف المضاف كثيرٌ في الكلام، كقوله: ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل﴾ [البقرة: ٩٣]، أي: حُبَّ العجل، ويقولون: الجود حاتم، والشعير زهير، والشجاعة عنترة، [وقال الشاعر: [الطويل]
٩١٢ -.............................. فَإِنَّما هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
أي: ذات إقبالٍ، وذات إدبار.
وقال النَّابغة: [المتقارب]
195
أي: كخلالة أبي مرحب]، وهذا اختيار الفرَّاء، والزَّجَّاج، وقطرب.
وقال أبو عليٍّ: ومثل هذه الآية الكريمة قوله: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج﴾ [التوبة: ١٩]، ثم قال: ﴿كَمَنْ آمَنَ بالله﴾ [التوبة: ١٩] ؛ ليقع التمثيل بين مصدرين، أو بين فاعلين؛ إذ لا يقع التمثيل بين مصدرٍ، وفاعلٍ.
الرابع: أن يطلق المصدر على الشَّخص مبالغةً؛ نحو: رجل عدل.
ويحكى عن المبرِّد: «لو كنت ممَّن يقرأ القرآن، لقرأت» وَلَكِنَّ البَرَّ «بفتح الباء» وإنَّما قال ذلك؛ لأن «البَرَّ» اسم فاعل، نقول بَرَّ يَبَرُّ، فهو بَارٌّ، فتارة تأتي به على فاعل، وتارة على فعل.
الخامس: أن امصدر وقع موقع اسم الفاعل، نحو: رجل عدلٌ، أي: عادل، كما قد يقع اسم الفاعل موقعه، نحو: أقائماً، وقد قعد الناس؛ في قولٍ، هذا رأي الكوفيين، والأولى فيه ادِّعاء أنه محذوفٌ من فاعلٍ، وأن أصله: بارٌّ، فجعل «برّاً»، وأصله ك «سِرٍّ»، و «رَبٌّ» أصله «رابٌّ»، وقد تقدم.
وجعل الفراء «مَنْ آمَنَ» واقعاً موقع الإيمان، فأوقع اسم الشخص على المعنى كعكسه؛ كأنه قال: «وَلَكِنَّ البِرَّ الإيمانُ باللهِ» قال: والعَرَبُ تجعل الاسم خبراً للفعل، وأنشد في ذلك: [الطويل]
٩١٣ - وَكَيْفَ نُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ
٩١٤ - لَعَمْرُكَ مَا الفِتْيَانُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى وَلَكِنَّمَا الفِتْيَانُ كُلُّ فَتًى نَدِي
جعل نبات اللحية خبراً للفتيان، والمعنى: لعمرك ما الفتوَّة أن تنبت اللِّحى.
وقرأ نافعٌ، وابن عامر: «وَلَكِن البِرُّ» هنا وفيما بعد بتخفيف «لَكِنْ» وبرفع «البِرُّ»، والباقون بالتَّشديد، والنَّصب، وهما واضحتان ممَّا في قوله: ﴿ولكن الشياطين كَفَرُواْ﴾ [البقرة: ١٠٢].
وقرئ: «وَلِكنَّ البَارَّ» بالألف، وهي تقوِّي أنَّ «البِرَّ» بالكسر المراد به اسم الفاعل، لا المصدر.
قال أبو عُبَيْدَةَ: «البِرُ» هاهنا بمعنى البَارِّ، كقوله: ﴿والعاقبة للتقوى﴾ [طه: ١٣٢] أي: للمتَّقين، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً﴾ [الملك: ٣٠] أي: غائراً، وقالت الخنساء: [البسيط]
196
٩١٥ - وَإِنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ... أي: مقبلة ومدبرة والعمل لكل خير هو بر، وقيل: البر: كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ﴾ [الإنسان: ١٣].
ووحَّد الكتاب لفظاً، والمراد به الجمع؛ وحسَّن ذلك كونه مصدراً في الأصل، أو أراد به الجنس، أو أراد به القرآن، فإنَّ من آمن به، فقد آمن بكل الكتب، فإنه شاهدٌ لها بالصِّحَّة.

فصل فيما اعتبر الله تعالى في تحقيق البرِّ


اعلم أنَّ الله تعالى اعتبر في تحقيق البِرِّ أموراً:
أحدها: الإيمانُ بخمسة أشياء:
أولهاك الإيمان بالله، ولا يحصل ذلك إلاَّ باعلم بذاته المخصوصة، وبما يجب، ويجوز، ويستحيل عليه، ولا يحصل العلم بهذه الأمور إلاَّ بالعلم بالدلائل الدالَّة عليها، فيدخل فيه العلم بحدوث العالم، والعلم بالأصول التي يتفرَّع عليها حدوث العالمن ويدخل فيه العالم.
197
بوجوده، وقدرته، وبقائه، وكونه عالماً بكلِّ المعلومات قادراً على كلِّ الممكنات.
198
وثانيها: الإيمان باليوم الآخر، وهذا متفرِّع على الأوَّل؛ لأنَّا إن لم نعلم قدرته على جميع الممكنات، لا يمكننا أن نعلم صحَّة الحشر والنَّشر.
199
وثالثها: الإيمان بالملائكة.
200
ورابعها: الإيمان بالكتب.
201
وخامسها: الإيمان بالرسل.
202
فإن قيل: لا طريق لنا غلى العلم بوجود الملائكة، ولا إلى العلم بصدق الكتب، إلاَّ بواسطة صدق الرُّسل، فإذا كان قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب، فلم قدَّم الملائكة والكتب في الذِّكر على الرُّسل؟
فالجواب: أنَّ الأمر، إن كان كذلك في عقولنا، إلاَّ انَّ الترتيب على العطس؛ لأنَّ الملك يوجد أوَّلاً، ثم صحل بواسطة تبليغه نزول الكتب إلى الرسل، فالمراعى في هذه
203
الآية ترتيب الوجود الخارجيِّ، لا الترتيب الذهنيُّ؛ فدخل تحت الإيمان بالله معرفته، ودخل تحت الإيمان باليوم الآخر معرفة ما يلزم من أحكام العقاب، والثَّواب، والمعاد، ودخل تحت الإيمان بالملائكة ما يتَّصل بإتيانهم الرسالة إلى الأنبياء؛ ليؤدُّوها إلينا إلى غير ذلك ممَّا يجب أن يعلم من أحوال الملائكة، ودخل تحت الإيمان بالكتاب القرآن، وجميع ما أنزل الله على أنبيائه، ودخل تحت الإيمان بالنَّبِيِّين الإيمان بنبوِّتهم، وصحَّة شريعتهم، فلم يبق شيءٌ مما يجب الإيمان به، إلاَّ دخل تحت هذه الآية.
وتقرير آخر: وهو أنَّ للمكلَّف مبتدأً ووسطاً، ونهايةً، ومعرفة المبدأ والنهاية؛ هو المراد من الإيمان بالله تعالى، واليوم الآخر.
وأمَّا معرفة الوسط، فلا يتمُّ إلاَّ بالرِّسالة، وهي لا تتمُّ إلا بثلاثة أمور:
الملك الآتي بالوحي، ونفس الوحي، وهو الكتاب، والموحى إليه، وهو الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
وفي تقديمه الإيمان على أفعال الجوارح؛ من إيتاء المال، والصلاة، والزَّكاة - تنبيهٌ على أن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح.
الأمر الثاني من الأمور المعتبرة في تحقيق البرِّ قوله: ﴿وَآتَى المال على حُبِّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧]، فالجار والمجرور في محلِّ نصب على الحال اعامل في «آتي» أي: آتي المال حال محبَّته له، واختياره إيَّاه، والحُبُّ: مصدر «حَبَبْتُ»، لغةً في «أَحْبَبْتُ» ؛ كما تقدَّم، ويجوز أن يكون مصدر الرُّباعيِّ على حذف الزوائد، ويجوز أن يكون اسم مصدر، وهو الإحباب؛ كقوله: ﴿والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧] والضمير المضاف إليه هذا المصدر فيه أربعة أقوال:
أظهرها: أنه يعود على المال؛ لأنَّه أبلغ من غيره.
قال ابن عبَّاس، وابن مسعود: «هو أن تُؤْتيَهُ، وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تَأْمُلُ الغِنَى، وتخشَى الفَقْر، وَلاَ تُهْمِلْ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلاَنِ كَذَا، ولِفُلاَنِ كذا» وهذا بعيدٌ من حيث اللفظ ومن حيث المعنى.
أمَّا من حيث اللفظ: رواية أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النَّبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يَا رَسُولَ الله، أيُّ الصَّدَقةِ أعْظَمُ أجراً؟ قال: «أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ» وذكره.
204
الثاني: أنه يعود على الإيتاء المفهوم من قوله تعالى: «آتى»، أي: على حبِّ الإيتاء؛ كأنه قيل: يعطي، ويحبُّ الإعطاء؛ رغبةً في ثواب الله.
قال شهاب الدِّين: وهذا بعيدٌ من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى.
أما من حيث اللفظ: فإنَّ عود الضمير على غير مذكور، بل مدلولٍ عليه بشيء - خلاف الأصل.
وأمَّا من حيث المعنى: فإنَّ المدح لا يحسن على فعل شيء يحبه الإنسان، لأنَّ هواه يساعده على ذلك.
قال زهير: [الطويل]
٩١٦ - تَرَاهُ إذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً كأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهُ
الثالث: ان يعود على الله تعالى، يعني: «يُعْطُون المَال على حُبِّ الله» ؛ وعلى هذه الأقوال الثَّلاثة يكون المصدر مضافاً للمفعول، وعلى هذا، فالظاهر أنَّ فاعل هذا المصدر هو ضمير المؤتي، وقيل: هو ضمير المؤتون، أي: «حبِّهم له»، واحتياجهم إليه، وليس بذلك، و «ذَوِي القُرْبَى» على هذه الأقوال الثلاثة: منصوبٌ ب «أتى» فقط، لا بالمصدر؛ لأنَّه قد استوفى مفعوله.
الرابع: أن يعود على «مَنْ آمَنَ»، وهو المؤتي للمال، فيكون المصدر على هذا مضافاً للفاعل، وعلى هذا: فمفعول هذا المصدر يحتمل أن يكون محذوفاً، أي: «حُبِّه المَالَ»، وأن يكون ذَوِي القُرْبَى، إلا أنه لا يكون فيه تلك المبالغة التي فيما قبله.
قال ابْنُ عَطِيَّة: ويجيء قوله «عَلَى حُبِّهِ» اعتراضاً بليغاً في أثناء القول.
قال أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللهُ -: فإن أراد بالاعتراض المصطلح عليه، فليس بجيِّد، فإنَّ ذلك من خصوصيَّات الجملة الَّتي لا محلَّ لها، وهذا مفردٌ، وله محلٌّ، وإن أراد به الفصل بالحال بين المفعولين، وهما «المال»، و «ذَوِي»، فيصحُّ، إلا انه فيه إلباسٌ.

فصل في معنى الإيتاء


اختلفوا في المراد من هذا الإيتاء، فقال قومٌ: إنَّها الزكاة، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّه عطف الزكاة عليه، بقوله: ﴿وَأَقَامَ الصلاة﴾ [البقرة: ١٧٧] ومن حق المعطوف، والمعطوف عليه المغايرة، ثم لا يخلو: إمَّا أن يكون تطوُّعاً: أو واجباً، ولا
205
جائز أن يكون تطوُّعاً؛ لأنه قال في آخر الآية الكريمة: ﴿وأولئك هُمُ المتقون﴾ [البقرة: ١٧٧]، وقف التقوى عليه، ولو كانه تطوُّعاً، لما وقف التقوى عليه، وإذا ثبت أنَّه واجبٌ، وأنه غير الزكاة، ففيه أقوال:
أحدها: أنه عبارة عن دفع الحاجات الضَّروريَّة؛ مثل: إطعام المضطرِّ؛ ويدل عليه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لاَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ مَنْ بَاتَ شَبْعَاناً، وجَارُهُ طَاوٍ إلى جَنْبِهِ»
ورُوِيَ عن فاطمة بنت قيس: «إنَّ في المال حقّاً سوى الزَّكاة» ثم تلت «وآتى المَالَ عَلَى حُبِّهِ».
وحكي عن الشَّعْبِيِّ أنَّه سئل عمَّن له مال، فأدى زكاته، فهل عليه سواه؟ فقال: نعم، يصل القرابة، ويعطي السائل، ثم تلا هذه الآية الكريمة.
وأيضاً: فلا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضَّرورة، وجب على النَّاس أن يعطوه مقدار دفع الضَّرورة.
فإن قيل: الزَّكاة نسخت الحقوق الماليَّة.
فالجواب: أنَّه - عليه السَّلام - قال: «في المَالِ حٌقُوقٌ سِوَى الزَّكَاةِ» ؛ وقول الرسول أولى، وأجمعت الأمَّة على أنه يجب أن يدفع إلى المضطرِّ ما يدفع به الضَّرورة، وإن سلَّمنا أن الزكاة نسخت كلَّ حقٍّ، فالمراد أنَّها نسخت الحقوق المقدَّرة، أمَّا الذي لا يكون مقدَّراً، فغير منسوخ؛ بدليل أنه يلزم النفقة على الأقارب، والمماليك.
206
فإن قيل: إذا صحَّ هذا التأويل، فما الحكمة في هذا التَّرتيب؟!
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنه تبارك وتعالى قدَّم الأولى فالأولى؛ لأنَّ الفقير القريب أولى بالصَّدقة من غيره، لأنَّ يجمع فيه بين الصلة، والصَّدقة، ولأن القرابة من أوكد الوجوه ف صرف المال إليه، ولذلك يستحقُّ بها الإرث، ويحجر على ذي المال بسببه في الوصيَّة، حتى لا يتمكَّن من الوصية، إلا في الثُّلث، ولذلك كانت الوصيَّة للأقارب من الواجبات؛ لقوله تعالى:
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين بالمعروف﴾ [البقرة: ١٨٠].
وإن كانت نسخت عند بعضهم؛ فلهذه الوجوه، قدَّم ذوي القربى، ثم أتبعه باليتامى؛ لأنَّ الصغير الفقير الذي لا والد له، ولا كاسب، فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه، ثم أتبعهم بالمساكين؛ لأنَّ الحاجة قد تشتدُّ بهم، ثم ذكر السَّائلين، وفي الرقاب؛ لأن حاجتهما دون حاجة من تقدَّم.
وثانيها: أن علم المرء بشدَّة حاجة قريبه أقوى، ثم بحاجة الأيتام، ثم بحاجة المساكين ثم على هذا الَّسق.
وثالثها: أن ذا القربى مسكينٌ، وله صفةٌ زائدةٌ تخصُّه؛ لأن شدَّة حاجته تغمُّ صاحب المال، وتؤذيث قلبه، ودفع الضَّرر عن النَّفس مقدَّم على دفع الضرر عن الغير؛ فلذلك بدأ الله بذي القربى، ثم باليتامى؛ لأن الغمَّ الحاصل بسبب عجز الصِّغار عن الطَّعام والشَّراب أشدُّ من الغمٍّ الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما، ثم المساكين؛ لأنَّ الغمَّ الحاصل بسببهم أخفُّ من الغم الحاصل بسبب الصَّغار.
وأمَّا ابن السَّبيل، فقد يكون غنيّاً، وقد تشتدُّ حاجته في الوقت، والسَّائل قد يكون غنيّاً، ويظهر شدَّة الحاجة، وأخَّر المكاتب؛ لأنَّ إزالة الرق ليست في محلِّ الحاجة الشَّديد’.
القول الثاني: أنَّ المراد بإيتاء المال: ما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عند ذكره الإبل، قال: «إنَّ فِيهَا حَقّاً؛ وهو إطراق فحلها، وإعارة دَلْوها»، وهذا بعيدٌ؛ لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختصُّ به ابن السَّبيل، والسائل والمكاتب.
القول الثالث: أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجباً، ثم نسخ بالزَّكاة، وهذا أيضاً ضعيفٌ، لأنه تبارك وتعالى جمع في هذه الآية الكريمة بين هذا الإيتاء، وبين الزكاة.
وقال بعضهم: المراد صدقة التطوُّع.

فصل في الوجوه الإعرابية لقوله «ذَوِي»


قوله «ذَوَي» فيه وجهان:
207
أحدهما - وهو الظاهر - أنه مفعول ب «آتى» وهل هو الأول، و «المَالَ» هو الثاني؛ كما هو قول الجمهور، وقدِّم للاهتمام، أو هو الثاني: فلا تقديم، ولا تأخير؛ كما هو قول السُّهَيلِيِّ؟
والثاني: أنه منصوب ب «حُبِّهِ» ؛ على أن الضمير يعود على «مَنْ آمَنَ» ؛ كما تقدَّم.

فصل في المراد ب «ذَوِي القُرْبَى»


من النَّاس من حمل ذَوِي القُرْبَى على المذكور في آية النفل والغنيمة، وأكثر المفسِّرين على ذَوِي القُرْبَى للمعطين، وهو الصحيح؛ لأنَّهم به أخصُّ، وهم الذين يقربون منه بولادة الأوبين، أو بولادة الجدَّين، أو أبي الجدَّين، ولا يقتصر على ذوي الرَّحم المحرم كما حكي عن قوم؛ لأنَّ امحرميَّة حكم شرعيٌّ، والقرابة لفظةٌ لغويةٌ موضوعةٌ للقرابة في النَّسب، وأن تفاوتوا في القرب والبعد.
قوله «واليَتَامى» : ظاهره أنه مصوب، عطفاً على ذوي.
وقال بعضهم: هو عطف على «القرْبَى» أي: «آتى ذَوي اليَتَامى»، أي: أولياءهم؛ لأن الإيتاء إلى اليتامى لا يصحُّ؛ فإن دفع المال إلى اليتيم الذي لا يميِّز، ولا يعرف وجوه المنفعة يكون مخطئاً، ولا حاجة إلى هذا، فإنَّ الإيتاء يصدق، وإن لم لم يباشر من يؤتيه بالإيتاء، يقال: «آتيْتُ السُّلْطَانَ الخَرَاجَ»، وإنَّما أعطيت أعوانه.
وأيضاً: إذا كان اليتيم مراهقاً عارفاً بمواقع حظَّه، وتكون الصدقة من باب ما يؤكل، ويلبس، ولا يخفى على اليتيم وجه الانتفاع به، جاز دفعها إليه، هذا على قول من قال: إن اليتيم هو الذي لا أب له مع الصِّغر.
وقال بعضهم: أن هذا الاسم قد يقع على الصَّغير، وعلى البالغ؛ لقوله تعالى: ﴿وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: ٢] وهم لا يؤتون إلاَّ إذا بلغوا، وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسمَّى يتيم أبي طالب بعد بلوغه؛ فعلى هذا: إن كان اليتيم بالغاً، دفع إليه، وإلاَّ دفع إلى وليه، والمساكين أهل الحاجة، وهم ضربان: من يكفُّ عن السؤال، وهو المراد هاهنا، ومنهم من يسأل وينبسط، وهم السائلون، وإنما فرق يبنهما؛ من حيث يظهر على السماكين المسكنة ممَّا يظهر من حاله، وليس كذلك السائل لأنه يظهر حاله.
وابن السبيل اسم جنسٍ أو واحد أريد به الجمع، وسمِّي «ابن السَّبيل»، أي: الطريق، لملازمته إيَّاه في السَّفر، أو لأنَّ الطريق تبرزه، فكأنها ولدته.
208

فصل.


من جعل الآية الكريمة في غير الزَّكاة، أدخل في هذه الآية المسلم والكافر، روى الحسن بن علي بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: «للسَّائِل حَقٌّ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ»، وقال تعالى: ﴿وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم﴾ [الذاريات: ١٩].
الأمر الثالث في تحقيق مسمَّى البِرِّن قوله: ﴿وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة﴾ وقد تقدَّم: قوله ﴿وَفِي الرقاب﴾ متعلِّق ب «آتى» وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون ضمن «آتى» معنى فعل يتعدى لواحد؛ كأنه قال: وضع المال في الرِّقَاب.
والثاني: أن يكون مفعول «آتى» الثاني محذوفاً، أي: آتى المال أصحاب الرِّقاب في فكِّها، أو تخليصها؛ فإنَّ المراد بهم المكاتبون، أو الأسارى، أو الأرقَّاء يشترون، فيعتقون، وكلٌّ قد قيل به.
والرِّقَابُ: جمع «رَقَبَةٍ»، وهي من مؤخَّر أصل العنق، واشتقاقها من «المراقبة» ؛ وذلك أن مكانها من البدن مكان الرَّقِيب المشرف على القوم؛ وبهذا المعنى: يقال: «أَعْتَقَ اللهُ رَقَبَتَهُ»، ولا يقال: «أَعْتَقَ اللهُ عُنُقَهُ» ؛ لأنها لما سمِّيت رقبةً؛ كأنها تراقب العذاب، ومن هذا يقال للتي لا يعيش ولدها «رَقُوبٌ» ؛ لأجل مراقبة موت ولدها.
قوله: ﴿وَأَقَامَ الصلاة﴾ عطف على صلة «مَنْ»، وهي: «آمَن، وآتى» وإنما قدم الإيمان، لأنه رأس الأعمال الدينيَّة، وثنَّى بإيتاء المال؛ لأنه أجلُّ شيء عند العرب، وبه يمتدحون، ويفتخرون بفكِّ العاني: وقِرَى الضِّيفان، ينطق بذلك نظمهم ونثرهم.
قوله ﴿والموفون بِعَهْدِهِمْ... ﴾ في رفعة ثلاثة أوجه:
أحدها: ذكره الزمخشري: أنه عطف على «مَنْ آمَنَ» أي: ولكنَّ البرَّ المؤمنون والموفون.
والثاني: أن يرتفع على خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الموفون، وعلى هذين الوجهين: فنصب الصابرين على المدح؛ بإضمار فعل، وهو في المعنى عطف على «مَنْ آمَنَ»، ولكن لما تكرَّرت الصِّفات، خولف بين وجوه الإعراب.
قال الفارِسيُّ: وهو أبلغ؛ لأن الكلام يصير مشتملاً على جملٍ متعددةٍ، بخلاف اتّفاق الإعراب؛ فإنه يكون جملةً واحدةً، وليس فيها من المبالغة ما الجمل المتعدِّدة.
وقال أبو عبيدة: ومن شأن العرب، إذا طال الكلام: أن يغيِّروا الإعراب والنَّسق؛ كقوله تعالى في سورة النساء: ﴿والمقيمين الصلاة﴾ [النساء: ١٦٢] وفي المائدة: ﴿والصابئون﴾ [المائدة: ٦٩] وقال الفرَّاء: إنما رفع «المُوفُونَ»، ونصب «الصَّابِرِينَ» ؛
209
لطول الكلام بالمدح، والعرب تنصب الكلام على المدح والذَّمِّ، إذا طال الكلام في الشَّيء الواحد، وقالوا فيمن قرأ ﴿حَمَّالَةَ الحطب﴾ [المسد: ٣] بنصب «حَمَّالَةَ» : إنه نصب على الذَّمِّ.
فإن قيل: لم لا يجوز على هذين الوجهين: أن يكون معطوفاً على ذوي القربى، أي: وآتى المال الصابرين: قيل: لئلاَّ يلزم من ذلك محذورٌ، وهو الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه الذي هو في حكم الصِّلة بأجنبيٍّ، وهو «المُوفُونَ» فإن قيل: أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة؛ كقوله: ﴿وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ [الكهف: ٣٠] ثم قال «أُوْلَئِكَ» ففصل بين المبتدأ والخبر.
قلنا: لا يلزم من جواز الفصل بين المبتدأ والخبر جوازه بين الموصول والصِّلة.
التأكيد بالضمير المرفوع المنفصل، لأنَّ طول الكلام أغنى عن ذلك؛ وعلى هذا الوجه: يجوز في «الصَّابِرِينَ» وجهان:
أحدهما: النَّصيب؛ بإضمار فعْلٍ؛ لما تقدَّم، قال الخليل: المدح والذمُّ ينصبان على معنى «أَعْني الظريف» وأنكر الفراء ذلك لوجهين.
أحدهما: أنَّ «أَعْنِي» إنما يقع تفسيراً للمجهول، والمدح يأتي بعد المعروف «أعني أخاك»، وهذا مما لم تقله العرب أصلاً.
والثاني: العطف على ذَوِي القُرْبَى، ولا يمنع من ذلك ما تقدَّم من الفصل بالأجنبيِّ، لأن «المُفُونَ» على هذا الوجه داخلٌ في الصِّلة، فهو بعضها لا أجنبيٌّ منها.
قوله «إذَا عَاهَدُوا» إذا منصوبٌ ب «المُوفُونَ»، أي: الموفون وقت العهد، من غير تأخير الوفاء عن وقته، وقرأ الجحدريُّ: «بِعُهُودِهِمْ».

فصل في معنى قوله «بِعَهْدِهِمْ»


في هذا العهد قولان:
أحدهما: هو ما أخذه الله على عباده على ألسنة رسله من الإيمان، والقيام بحدوده، والعمل بطاعته؛ لما أخبر الله تبارك وتعالى عن أهل الكتاب: أنَّهم نقضوا العهود والمواثيق، فجحدوا أنبياءه، وقتلوهم، وكذَّبوا بكتابه. واعترض القاضي على هذا القول، وقال: إنَّ قوله تبارك وتعالى: «المُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ» صريحٌ في إضافة العهد
210
إليهم، ثم إنه تعالى أكَّد ذلك بقوله: «إذَا عَاهَدُوا»، فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداءً من قبله تعالى.
وأجيب: بأنه تعالى، وإن ألزمهم هذه الأشياءن لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام، والتزموه، فصحَّ إضافة العهد إليهم من هذا الوجه.
القول الثاني: أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلَّف ابتداءً من عند نفسه.
واعلم أنّ هذا العهد إمَّا أن يكون بين العبد وبين الله تعالى؛ كاليمين والنَّذر، وما أشبهه، أو بينه وين رسول الله؛ كالبيعة؛ من القيام بالنُّصرة والمجاهدة، والمظاهرة، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، او بينه وبين النَّاس، وقد يكون ذلك واجباً، مثل: ما يلتزمه في عقود المعاوضات من التَّسليم والتَّسلُّم، والشرائط التي يلتزمها في السَّلم، والرَّهن وغيره،
211
وقد يكون مندوباً؛ مثل: الوفاء بالعهد في بذل الماء، والإخلاص في المناصرة.
فقوله ﴿والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ﴾ يتناول كل هذه الأقسام؛ فلا تقتصر الآية على بعضها، وهذا هو الذي عبر عنه المفسِّرون، فقالوا: هم الذين إذا وعدوا، أنجزوا، وإذا حلفوا ونذروا، وفَّوا، وإذا قالوا، صدقوا، وإذا ائتمنوا، أدَّوا.

فصل في بلاغة قوله «والمُوفُونَ» دون «وأَوْفَى»


قال ارَّاغب: وإنَّما لم يقل «وأوْفَى» ؛ كما قال «وأَقَامَ» ؛ لأمرين:
أحدهما: اللفظ، وهو أن الصِّلة، متى طالت، كان الأحسن أن يعطف على الموصول، دون الصلة؛ لئلاَّ يطول ويقبح.
والثاني: أنَّه ذكر في الأول ما هو داخل في حيِّز الشريعة، وغير مستفاد إلا منها والحكمة العقليَّة تقتضي العدالة دون الجور، ولما ذكر وفاء العهد، وهو مما تقضي به العقول المجرَّدة، صارعطفه على الأوَّل أحسن، ولما كان الصَّبر من وجه مبدأ الفضائل، ومن وجه: جامعاً للفضائل؛ إذ لا فضيلة إلا وللصَّبر فيها أثر بليغ - غيَّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد؛ وهذا كلام حسن.
وحكى الزَّمخشريُّ قراءة «والمُوفِينَ»، «والصَّابِرِينَ» وقرأ الحسن، والأعمش، ويعقوب: «وَالمُوفُونَ»، «والصَّابِرُونَ».
212

فصل في الأحكام المستافدة من الآية


قال القرطبيُّ: تضمَّنت هذه الآية الكريمة ستَّ عشرة قاعدةً من أُمَّهات الأحكام:
الإيمان بالله وبأسمائه، وصفاته، والحشر، والنشر، والصراط، والحوض، والشَّفاعة، والجنة، والنار، والملائكة، والرُّسل، والكتب المنزلة، وأنَّها حقٌّ من عند الله؛ كما تقدم، والنَّبيين، وإنفاق المال فيما يعنُّ له من الواجب، والمندوب، وإيصال القرابة، وترك قطعهم، وتفقُّد اليتيم، وعدم إهماله المساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل، وهو: المسافر المنقطع به، وقيلك الضعيف، والسُّؤَّال، وفكّ الرقاب، والمحافظة على الصَّلوات، وإيتاء الزَّكاة، والوفاء بالعهود، والصَّبر في الشَّدائد، وكلُّ قاعدةٍ من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب.
وقوله ﴿فِي البأسآء والضراء﴾ : قال ابن عبَّاس: يريد الفقر بقوله: «البَأْسَاءِ»، والمرَضَ بقوله: «وَالضَّرَّاءِ»، وفيها قولان:
أحدهما: وهو المشهور أنَّهما اسمان مشتقَّان من البؤس والضُّرَّ وألفهما للتأنيث، فهما اسمان على «فَعْلاَء» ولا «أفْعَل» لهما؛ لأنَّهما ليسا بنعتين.
والثاني: أنهما وصفن قائمان مقام موصوف، والبؤس، والبأْساء: الفقر؛ يقال بئس يبأس، إذا افتقر؛ قال الشاعر: [الطويل]
٩١٧ - وَلَمْ يَكُ في بُؤْسٍ إذَا بَاتَ لَيْلَةً يُنَاغِي غَزَالاً سَاجِيَ الطَّرْفِ أَكْحَلاَ
قوله: «وَحِينَ البَأْس» منصوب بالصَّابِرِينَ، [أي] : الذين صَبَرُوا وقْتَ الشِّدَّة، والبأْسُ: شدَّة القتال خاصَّة، بؤس الرَّجل، أي: شجع. قال ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: يريد القتال في سبيل الله، وأصل البأس في اللغة: الشِّدَّة؛ يقال: لا بأس عليك في هذا، أي: لا شدَّة و ﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ [الأعراف: ١٦٥] أي: شديد، ثم يسمَّى الحرب بأساً، لما فيه من الشِّدَّة، والعذاب يسمَّى بأساً؛ لشدَّته، قال تبارك وتعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٤] ﴿فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ﴾ [الأنبياء: ١٢] ﴿فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا﴾ [غافر: ٢٩].
قوله: ﴿أولئك الذين صَدَقُوآ﴾ مبتدأ وخبر، وأتى بخبر «أُولَئِكَ» الأولى موصولاً بصلةٍ، وهي فعلٌ ماضٍ؛ لتحقُّ اتصافهم به، وأن ذلك قد وقع منهم، واستقرَّ، وأتى بخبر الثانية بموصولٍ صلته اسم فاعلٍ، ليدَّ على الثبوت، وأنه ليس متجدِّداً، بل صار كالسَّجيَّة لهم، وأيضاً: فلو أتى به فعلاً ماضياً، لما حسن وقوه فاصلةً.
قال الواحدي - رَحِمَهُ اللهُ -: إن الواوات في الأَوْصَاف في هذه الآية للجمع،
213
فمن شرائطِ البِرِّ، وتمام شَرْط البَارِّ: أن تجتمع فيه هذه الأوصاف، ومن قام بواحدٍ منها، لم يستحقَّ الوصف بالبِرِّ فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده أن يكون من جملة من قام بالبِرِّ، وكذا الصابر في البأساء، بل لا يكون قائماً بالبِرِّ إلاَّ عند استجماع هذه الخصال، ولذلك قال بعضهم: هذه الصفة خاصَّة للأنبياء؛ لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلُّها.
وقال آخرون: هي عامَّة في جميع المؤمنين، والله أعلم.
214
قوله «في القَتْلَى»، أي: بسبب القَتْلَى و «في تكون للسَّببية؛ كقوله - عليه السَّلام -» إنَّ امْرَأَةً َخَلَتِ النَّار في هِرَّةٍ «، أي: بسببها، و» فَعَلَى «يطَّردُ أن يكون جمعاً لفعيل، بمعنى مفعول، وقد تقدَّم شيءٌ من هذا عند قوله ﴿وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى﴾ [البقرة: ٨٥].

فصل في بيان سبب النزول


في سبب النزول وجوه:
أحدها: إزالة الأحكام التي كانت ثابتة قبل البعثة، وذلك أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط، والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط، والعرب تارةً كاناو يوجبون القتل، وتارة يوجبون الدِّية، ولكنَّهم كاناو يظهرون التعدِّي، فأما القتل؛ فكانوا إذا وقع القتل بين قبيلتين: أحدهما أشرف من الأخرى، فكان الأشراف يقولون:»
لنَقْتُلَنَّ بالعَبْدِ مِنَّا الحُرَّ مِنْهُمْ، وبالمَرْأَةِ مِنَّا الرَّجُلَ مِنْهُمْ، وَبِالرَّجُلِ مِنَّا الرَّجُلَيْنِ مِنْهُمْ «وربما زادوا على ذلك، وينكحون نساءهم بغير مهورٍ؛ قاله سعيد بن جُبَيْرٍ.
يروى أن واحداً من الأشراف قتل له ولد، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول، فقالوا له: ما تُرِيدُ؟ فقال: إحدى ثلاثٍ، فقالوا: ما هي؟ قال: إما تُحْيُونَ لِي وَلَدِي، أو تَمْلَئُونَ دَارِي من نُجُومِ السَّمَاءِ، أو تَدْفَعُونَ إليَّ جُملَةَ قَوْمِكُمْ؛ حَتَّى أقْتُلَهُمْ، ثم لا أَرَى أَنِّي أخذت عوضاً.
وأمَّا أمر الدِّية، فربمَّا جعلوا دية الشَّريف أضعاف دية الخسيس، فلما بعث الله
214
تعالى محمَّداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أوجب رعاية العدل، وسوَّى بين عباده في حكم القصاص، وأنزل الله هذه الآية.
الوجه الثاني: قال السُّدِّيّ: إن قريظة والنَّضير كانوا مع تديُّنهم بالكتاب، سلكوا طريقة العرب، فنزلت الآية.
الوجه الثالث: نزلت في واقعة قتل حمزة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -.
الوجه الرابع: روى محمَّد بن جرير الطبريُّ، عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْه -، وعن الحسن البصريِّ: أن المقصود من هذه الآية الكريمة التسوية بين الحُرَّين والعبدين والأُنثيين في القصاص، فأما إذا كان القاتل للعبد حرّاً، أو للحرِّ عبداً، فإنه يجب مع القصاص التراجع، وأما قتل عبداً، فهو قوده، فإن شاء أولياء العبد أن يقتلوا الحرَّ، قتلوه بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحر ويردوا إلى أولياء الحر بقيَّة ديته، وإن قتل عبد حراً، فهو به قودٌ، فإن شاء أولياء الحرِّ، قتلوا العبد، وأسقطوا قيمة العبد من دية الحُرِّ، وأدَّوا بعد ذلك إلى أولياء الحُرِّ بقيَّة ديته، وإن شاءوا أخذوا كلَّ الدية، وتركوا كل العبد، وغن قتل رجلٌ امرأة، فهو بها قودٌ، فإن شاء أولياء المرأة، قتلوه، وأدَّوا نصف الدية، وإن شاءوا، أعطوا كلَّ الدية، وتركوها، فالآية الكريمة نزلت لبيان أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرَّين، [والعبدين والأنثيين، والذكرين، فأما عند اختلاف الجنس، فالاكتفاء غير مشروع فيه].

فصل في اشتقاق كلمة «القصاص»


و «القِصَاصُ» : مصدر قَاصَّهُ يُقَاصُّهُ قِصَاصاَ، ومقَاصَّةً؛ نحو: قاتَلْتُهُ قِتَالاً، ومُقَاتَلَةً، وأصله من: قصصت الشيءن اتَّبعت أثره؛ لأنَّه اتباع دم المقتول.
قال تعالى: ﴿فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً﴾ [الكهف: ٦٤] ﴿وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: ١١]، أي: اتبعي أثره، وسمِّيت القصَّة قصَّةً؛ لتتبُّع الخبر المحكيِّ، والقصص تتبُّع أخبار النَّاس، وسمِّي المقصُّ مقصّاً، لتعادل جانبيه، هذا أصل المادَّة.
فمعنى القصاص: تتبُّع الدم بالقود، ومنه التقصيص، لما يتبع من الكلأ بعد رعيه، والقصُّ أيضاً: الجصُّ، ومنه «نهيه - عليه السلام - عن تقصيص القبور» أي: تجصيصها.

فصل


روى البخاريُّ، والنَّسائيُّ، والدَّارقطنيُّ، عن ابن عبَّاس، قال: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدِّية، فقال الله لهذه الأمَّة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ
215
بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف} [البقرة: ١٧٨].
والعفو: أن يقبل الدية في العبد: «فَاتبَاعٌ بِالمَعْرُوفٍ وأَداءٌ إلَيْهِ بِإحْسَانٍ» تتبع بالمعروف، وتؤدي بإِحْسَانٍ، «ذَلِكَ تخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ» مما كتب على من كان قبلكم، ﴿فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فمن قتل بعد قبول الدِّية، هذا لفظ البخاريِّ.
وقال الشَّعبيُّ في قوله تعالى: ﴿الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى﴾ قال: نزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقْتَتَلا قتال عمية، فقالوا: نقتلُ بِعَبْدِنَا فُلاَنَ، ابنَ فُلاَنٍ، وَبِأَمَتِنَا فُلانَةَ بِنْتَ فُلاَنٍ، ونحوه عن قتادة.

فصل في المراد بقوله «كتب عليكم»


قوله: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ» : معناه: «فُرِضُ عَلَيْكُمْ»، فهذه اللفظة تقتضي الوجوب من وجهين:
أحدهما: أن قوله كتب في عرف الشرع يفيد الوجوب. قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام﴾ [البقرة: ١٨٣] وقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية﴾ [البقرة: ١٨٠] وقد كانت الوصية واجبة، ومنه الصوات المكتوبات أي: المفروضات قال عليه السلام: «ثَلاَثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ»
والثاني: لفظة «عَلَيْكُمْ» مشعرة بالوجوب؛ لقوله ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ [آل عمران: ٩٧].
والقصاص: أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل، فهو عبارة عن التَّسوية، والمماثلة في الجراحاتن والدِّيات.
وقيل «كُتِبَ» هنا أخبار عمَّا كتب في اللَّوح المحفوظ، وقوله ﴿فِي القتلى﴾، أي: بسبب القتلى، كما تقدَّم؛ فدلَّ ظاهر الآية على وجوب القصاص على جميع المؤمني بسبب قتل جميع القتلى، إلاَّ إنَّهم أجعوا على أنَّ غير القاتل خارجٌ عن هذا الفارق، أمَّا القاتل، فقد دخله التخصيص أيضاً في صورٍ كثيرةٍ؛ وهي ما إذا قتل اوالد ولده، والسَّيَّد عبده، وفيما إذا قتل مسلم مسلماً خطأً، إلاَّ أنَّ العامَّ إذا دخله التخصيص، يبقى حجَّةً فيما عداه.
216
فإن قيل: قولكم: هذا الآية تقتضي وجوب القصاص، فيه إشكالان:
الإشكال الأول: لو وجب القصاص، لوجب إمَّا على القاتل، أو على وليِّ الدَّم، أو على ثالثٍ، والأقسام الثلاثة باطلةٌ؛ لأنَّ القاتل لا يجب عليه أن يقتل نفسه، بل يحرم عليه ذلك، وأمَّا وليُّ الدم، فلا يجب عليه؛ لأنَّ وليَّ الدم يخيَّر في الفعل، والتَّرك، بل هو مندوبٌ إلى التَّرك؛ كقوله
﴿أَقْرَبُ للتقوى﴾ [البقرة: ٢٣٧] وأمَّا الثالث: فإنه أجنبيٌّ عن القتيل والأجنبي عن الشيء لا تعلُّق له به.
الثاني: أنَّا بيَّنا أن القصاص عبارة عن التَّسوية، وكان مفهوم الآية إيجاب التَّسوية؛ وعلى هذا التقدير: لا تكون الآية دالَّة على إيجاب القتل ألبتَّة، بل تدلُّ على وجوب رعاية التَّسوية في القتل الذي كون مشروعاً بسبب القتل.
217
والجواب عن الأول من وجهين:
أحدهما: أن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام، ومن يجري مجراه؛ لأنَّ متى حصلت شرائط وجوب القود، فإنَّه لا يحلُّ للإمام أن يترك القود من المؤمنين، والتقدير: يا أيها الأئمَّة، كتب عليكم استيفاء القصاص، إن أراد وليُّ الدّمِ استفاءَه.
والثاني: أنه خطاب مع القاتل، التقدير: يا أيها القاتلون، كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الويِّ بالقصاص؛ وذلك لأنَّ القاتل ليس له أن يمتنع؛ خلاف الزَّاني والسارق، فإنَّ لهما الهرب من الحدود، ولهما أيضاً أن يستترا بستر الله، لا يعرفان، والفرق بينهما: أن ذلك حقٌّ لآدميٍّ.
والجواب عن الثاني: أن ظاهر الآية يقتضي التَّسوية في القتل، والتَّسوية في القتل صفة القتل، وإيجاب الصفة يقتضي إيحاب الذَّات، فكانت الآية تفيد إيجاب القتل من هذا الوجه.
قوله «الحُرُّ بالحُرِّ» مبتدأٌ وخبرٌ، والتقدير: الحُرُّ مأخوذٌ بالحُرِّ، أو مقتول بالحُرِّ، فتقدِّر كوناً خاصّاً، حُذِف؛ لدلالة الكالم عليه؛ فإنَّ الباء فيه للسَّبب، ولا يجوز ان تقدِّر كوناً مطلقاً؛ إذ لا فائدة فيه، لو قلت: «الحُرُّ كائنٌ بالحُرِّ» إلاَّ أن تقدِّر مضافاً، أي: قتل الحرِّ كائن بالحُرِّ، وأجاز أبو حيان: أن يكون الحُرُّ مرفوعاً بفعل محذوف، تقديره: «يُقْتَلُ الحُرُّ بالحُرِّ» ؛ يدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿القصاص فِي القتلى﴾ ؛ فإن القصاص يشعر بهذا الفعل المقدَّر، وفيه بعدٌ، والحر وصفٌ، و «فُعْلٌ» الوصف، جمعه على «أفْعَالٍ» لا يقاس، قالوا: حُرٌّ وأَحْرَارٌ، ومُرٌّ وأمرار، والمؤنَّثة حُرَّة، وجمعها على «حَرَائِر» محفوظٌ أيضاً، يقال: «حَرَّ الغُلاَمُ يَحَرُّ حُرِّيَّةً».

فصل في اختلافهم في اقتضاء الآية الحصر


قوله ﴿الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى﴾ فيه قولان:
الأولى: أنَّها تقتضي ألاَّ يكون القصاص مشروعاً إلاَّ بين الحُرَّين، وبين العبدين، وبين الأُنثيين.
واحتجَّ عليه بوجوه:
الأول: ان الألف واللام في «الحُرِّ» تفيد العموم؛ فقوله: ﴿الحر بِالْحُرِّ﴾ يفيد أن يقتل كلُّ حرِّ بالحر، فلو كان قتل حرٍّ بعبد مشروعاً، لكان ذلك الحُرُّ مقتولاً بغير حُرٍّ، وذلك ينافي إيجاب أن يكون كلُّ حرٍّ مقتولاً بالحُرِّ.
الثاني: أن «الباء» من حروف الجَرِّ، فتتعلَّق بفعلٍ، فيكون التقدير: يقتل بالحر والمبتدأ لا يكون أعمَّ من الخبر، بل إمَّا مساوياً له، أو أخص منه، وعلى هذا التقدير فهذا يقتضي أن يكون كلُّ حُرٍّ مقتولاً بالحُرِّ، وذلك ينافي كلَّ حُرٍّ مقتولاً بالعبد.
218
الثالث: أنه تبارك وتعالى أوجب في أول الآية الكريمة رعاية المماثلة، وهو قوله ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى..﴾، فلما ذكر عقيبة قوله: ﴿الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد﴾ دلَّ على أن رعاية التَّسوية في الحُرِّيَّة والعبوديَّة معتبرةٌ؛ لأن قوله: ﴿الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد﴾ خرج مخرج التَّفسير لقوله ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى..﴾، فإيجاب القصاص على الحُرِّ بقتل العبد إهمال لرعاية التَّسوية؛ فوجب ألاَّ يكون مشروعاً؛ ويؤيِّد ما ذكرنا قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لاَ يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَلاَ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ»، فإن أخذ الخصم بقوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس﴾ [المائدة: ٤٥]، فالجواب من وجهين:
أحدهما: هذه الآية شَرْعُ مَنْ قبلنا وليسَ شَرْعاً لَنا، والآيةُ التي نَحْنُ فيها شرْعُنا، فهذا أقوَى في الدَّلالة.
والثاني: أن هذه الآية الكريمة مشتملةٌ على أحْكَام النُّفُوس على التفصِيل والتَّخْصيص، وتلك عامَّةٌ، والخاصُّ متقدِّم على العامِّ، ثم قال أَصْحَابُ هذا القَوْل إِنَّ ظاهِر الآية يقتضِي ألاَّ يُقتل العبد بالحرّ ولا تقتل الأنثَى بالذَّكَر، إِلاَّ إِذَا خالَفْنا هذا الظاهر؛ للإجمَاع وللمعنى المستنبطِ من نَسقِ هذه الآية الكريمة، وذلك المعنَى غير موجُود في الحُرِّ بالعَبْد؛ فوجب أَنْ يبقَى هاهنا على ظاهر اللَّفظ، أَمَّا الإجمْمَاعُ فظاهرةٌ، وَأَمَّا المعنَى المستنبَطُ، فهو أنه لَمَّا قتل العبدُ بالعبدِ، فَلأَنَّ يقتَلَ بالحرِّ الذي هو فوقه أولى، بخلاف الحر، فإنَّ لمَّا قتل بالحرِّ، لا يلزم: أنْ يُقْتَل بالعبد الَّذي هو دونَهُ، وكذا القَوْل في قتل الأنثَى بالذَّكَر، وأَمَّا قتل الذَّكَر بالأُنْثَى، فليس فيه إِلاَّ الإجماعُ.
القول الثاني: أَنَّ قوله تعالى: ﴿الحر بِالْحُرِّ﴾ لا يفيدُ الحَصْر، بل يفيد شَرْع القِصَاص بيْن الذُّكُور من غير أن يكُون فيه دَلالَةٌ على سائر الأقسامِ؛ واحتجُّوا عليه بوجهين:
الأول: أنَّ قوله: ﴿والأنثى بالأنثى﴾ يقتضي قِصَاص المرأة الحُرَّة بالمرأة الرقيقَةِ، فلو كان قوله ﴿الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد..﴾ مانعاً من ذلك، لوقع التناقض.
الثاني: أنَّ قولَهُ تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى..﴾ جملةٌ تامّضة مستقلَّةٌ بنَفْسها.
وقوله: ﴿الحر بِالْحُرِّ﴾ تخصيصٌ لبعض الجزئيَّاتِ بالذِّكْرن وتخصيص بعض الجزئيَّات بالذِّكِر لا يمنع مِنْ ثُبُوت الحُكْم؛ كسَائِر الجزئيَّات، وذلك التخصيصُ يمكنُ أنْ يكُون لفائدةٍ سوى نَفْي الحُكْم عن سائِرِ الصُّور، ثم اختلَفُوا في تلك الفَائدة، فذكَرُوا فيها وجهين:
219
الأول: وعَليْه الأكْثَرُونَ: أَنَّ فائدته إِبطالُ ما كان علَيْه الجاهليَّةُ من أنهم كانوا يقتُلُون بِالَعَبْدِ منهم الحُرَّ من قبيل القَاتِل، ففائدةُ التخصيص زجْرُهُم عن ذلك، وللقائلين بالقَوْلِ الأَوَّل: أَنْ يقولُوا: قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى﴾ يمنَعُ مِنْ جواز قَتْل الحرِّ بالعبد، لأَنَّ القِصَاص عبارةٌ عن المُساواة، وقتل الحُرِّ بالعبد لم يحصُلْ فيه رعايةُ المُسَاواة، لأَنَّهُ زائدةٌ علَيْه في الشَّرف، وفي أهليَّة القضاء، والإِمامة، والشهادَة؛ فوجب ألاَّ يُشْرعَ، أقْصَى ما في البَاب أنه ترك العَمَل بهذا النَّصِّ في قتْل العَالِمِ بالجاهِل، والشَّريف بالخَسِيس بالإجْماع إِلاَّ أَنَّهُ يبقَى في غير محلِّ الإجماع على الأَصلِ، ثم إِنْ سلَّمنا أنَّ قوله ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى﴾ يوجِبُ قتْل الحر بالعَبْد، إِلاَّ أنَّا بَينَّا أنَّ قوله: ﴿الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد﴾ يمنَعُ مِنْ جواز قَتْل الحُرّ بالعبد؛ لأَنَّ هذا خاصٌّ، وما قبله عامٌّ، والخاصُ مقدَّم على العامِّ، ولا سيَّما إِذَا كان الخاصُّ متَّصلاً بالعامٌ في اللَّفْظِ، فإنه يكون بمنزلة الاستثناءِ، ولا شَكَّ في وُجُوب تقديمة على العامِّ.
الوجه الثاني: من بيان فائدَة التَّخصيص: نَقَلهُ محمَّد بنُ جَرِيرٍ، عن عليِّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْه - والحسَن البصرِّ: أنَّ هذه الصُّور هي التي يكْتَفي فيها بالقصاصِ، بل لا بُدَّ من التراجع، إلاَّ أَنَّ أَكْثَرَ المحقِّقين زعم أنَّ هذا النَّقل لم يصحَّ عن عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْه - وهو أيضاً ضعيفٌ عند النَّظَر لأَنَّه قد ثبت أَنَّ الجماعَةَ تُقْتَل بالواحِدِ، ولا تراجع، فكذلك يُقْتَل الذَّكَر بالأُنْثَى، ولا تَرَاجُع.
قوله «فَمَنْ عُفِيَ» يجوز في «مَنْ» وجهان:
أحدهما: أن تكون شرطيَّةً.
والثاني: أن تكون موصولةً، وعلى كلا التقديرين، فموضعها رفعٌ بالابتداء؛ وعلى الأَوَّل: يكون «عُفِيَ» في محلِّ جزم بالشَّرط؛ وعلى الثَّاني: لا محلَّ له، وتكون الفاء واجبةً في قوله: «فَاتِّبَاعٌ» على الأوَّل، ومحلُّها وما بعدها الجَزم وجائزةٌ في الثَّاني، ومحلُّها وما بعدها الرفع على الخبر، والظاهر أَنَّ «مَنْ» هو القاتِلُ، والضمير في «لَهُ وأخيه» عائدٌ على «مَنْ» و «شيء» هو القائِمُ مقام الفاعل، والمرادُ به المصدر، وبني «عُفِيَ» للمفعول، وإِنْ كان قاصراً؛ لأن القاصر يتعدَّى للمصدر؛ كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ [الحاقة: ١٣]، والأخ هو المقتولُ، أو وليُّ الدم، وسمَّاه أخاً للقاتِل؛ استعطافاً علَيْه، وهذا المصدر القائمُ مقام الفاعل المرادُ به الدَّمُ المعفُوُّ عنه، و «عُفِيَ» يتعدّى إلى الجاني، وإلى الجناية ب «عَنْ» ؛ تقول: «عَفَوْتُ عَنْ زَيْدٍ، وعَفَوْتُ عَنْ ذَنْبِ زَيْدٍ» فإذا عدي إليهما معاً، تعدَّى إلى الجاني ب «اللام»، وإلى الجناية ب «عَنْ» ؛ تقول «عَفَوْتُ لِزَيْدٍ عَنْ ذَنْبِهِ»، والآية من هذا الباب، أي: «فمَنْ عُفِيَ له عَنْ جنايتِهِ» وقيل: «مَنْ» هو وليُّ أي مَنْ جُعِلَ له من دم أخيهِ بدلُ الدمِ، وهو القِصَاص، أو الدِّيَةُ،
220
والمرادُ ب «شَيْءٌ» حينئذٍ: ذلك المستَحَقُّ، والمرادُ ب «الأخ» المقتولُ، ويحتمل أنْ يرادَ علَى هذا القول أيضاً: القاتِلُ، ويراد بالشيءِ الديةُ، و «عُفِيَ» بمعنى: [ «يُسِّرَ» على هذين القولَيْن، وقيل: بمعنى «تُرِكَ».
وشَنَّعَ الزَّمْخَشرِيُّ على مَنْ فَسَّر «عُفِيَ» ] بمعنى «تُرِكَ» قال: فإنْ قُلْتَ: هَلاَّ فسَّرْتَ «عُفِيَ» بمعنى «تُرِكَ» ؛ حتى يكون شَيْءٌ في معنى المفعُول به.
قلْتُ: لأنَّ: «عَفَا الشَّيْء» بمعنى تركَهُ، ليْس يثبُتُ، ولكنْ «أَعْفَاهُ»، ومنه: «وَأَعْفُوا اللِّحَى»، فإنْ قُلتَ: قد ثَبَتَ قولُهُمْ: «عَفَا أَثَرَه» إِذَا مَحَاهُ وأَزَالَهُ، فهلاَّ جَعْلتَ معْنَاه: «فَمَنْ مُحِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيء» قلْتُ: عبارةٌ قلقلةٌ في مكَانها، والعفُو في بابِ الجناياتِ عبارةٌ متداولَةٌ مشهُورة في الكتَاب والسُّنةِ، واستعمال النَّاس، فلا يُعْدَلُ عنها إلى أخرَى قلقةٍ نابيةٍ عنْ مكانها، وَتَرَى كثيراً ممن يتعاطَى هذا العلْمَ يجترىءُ إِذَا أعْضلَ علَيْه تخريجُ وجْهٍ للمشْكِلِ من كلام الله تعالى على اختراعٍ لُغةٍ، وإدِّعاءٍ عل العرب ما لَمْ تعرْفهُ، وهذا جُزأةٌ يستعاذ بالله منها.
قال أَبُو حَيَّان: إذا ثَبَتَ أنَّ «عَفَا» بمعنى «مَحَا» فَلاَ يَبْعُدُ حَمْلُ الآية علَيْه، ويكون إسناد «عَفَا» لمرفوعِهِ [إسناداً حقيقياً؛ لأنَّهُ إِذْ ذاكَ مفعولٌ به صريح، وإذا كان لا يتعدَّى كان إسناده لمرفوعِهِ] مجازاً؛ لأنَّه مَصْدَرٌ مشبَّهٌ بالمفعول به، فقد يتعادَلُ الوجْهَان؛ أَعْنِي: كوْنَ «عَفَا» اللاَّزم لشهرته في الجنايات، و «عَفَا» المتعدِّي بمعنى «مَحَا» لتعلُّقه بمرفوعِهِ تعلُّقاً حقيقياً.
فإن قيل: تضَمّن «عَفَا» معنى تَرَكَ.
فالجوابُ: أنَّ التَّمين لا يَنْقَاسُ، وقد أَجَازَ ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللهُ - أن يكون «عَفَا» بمعنى «تَرَكَ».
وقيل إِنَّ «عُفِيَ» بمعنى فُضِلَ، والمعنَى: فَمَنْ فضل له من الطائفَتَيْن على الأُخْرَى شيءٌ من تِلْك الدِّيات؛ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَفَاء الشَّيْءُ إِذَا كَثُرَ، وَأَظْهَرُ هَذه الأقْوَالِ أوَّلُهَا.
فصل اعلم أَنَّ الذَّين قالُوا: يوجب العَهْد أحدا أمرَين: إِمَّا القِصَاص، وَإِمَّا الدِّيَة: تمسكوا بهذه الآية، فقالوا: الآيةُ تدُلُّ على أَنَّ فيها عافياً ومَعفوّاً عَنْه، وليسَ هاهنا إلاَّ وَلِيُّ الدمِ،
221
والقاتلُ، فيكون العافِي أحدَهُما، ولا يجوزُ أن يكونَ القاتلَ لأَنَّ ظاهر العْفو هو إسقاطُ الحقِّ، وذلك إنَّما يتأتَّى من الوليِّ الذي له الحقُّ على القاتل، فصار تقديرُ الآية: فإذا عَفَى وَلِيُّ الدَّم عن شيءٍ يتعلَّق بالقاتِلِ، فليتبع القاتلُ ذلك العفو بمَعْروف.
وقوله «شيء» مبهمٌ، فلا بدَّ من حمله على المذكُور السَّابق، وهو وجوب القِصَاصِ؛ إزالةً للإبهام، فصار تقدير الآية: إِذَا حصَلَ العْفُو للقاتلِ عن شيءِ فلْيُتْبع القاتِلُ العَافِيَ بالمَعْروف، والأداء إِلَيْه بالإِحْسَان. وبالإجْماع لا يجبُ أداءُ غيْر الدِّية؛ فوجب أن يكُون ذلك الواجبُ، هو الدِّيةَ؛ وهذا يدلُّ على أنَّ موجِبَ العمد هو القَوَد، أو المال؛ إِذْ لو لم يكُنْ كذلك، لما كان واجباً عنْد العفو عن القَودِ، والله تعالى أعلَمُ.
ومما يؤكِّد هذا قولُه تعالى: ﴿ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾، أي أثبَتَ الخيارَ لَكُمْ في أخْذ الدية، والقِصَاص؛ رحمةً عَلَيْكُم، لأَنَّ الحُكم في اليَهُود حتْمُ القِصَاصِ، والحُكمَ في النَّصَارَى حتمُ العفوِ؛ فخفّف عن هذه الأمَّة، وشَرَع لهم التخييرَ بين القِصَاص، والعَفْوِ، وذلك تخفيفٌ من الله ورحمةٌ في حقِّ هذه الأمَّة؛ لأنَّ وليَّ الدم قد تكون الديةُ عنْده آثَرَ مِن القَوَدِ، إذا كان محتاجاً، وقد يكون القَوَدُ عنده آثَرَ، إذا كان راغباً في التشفِّي، ودفْع شر القاتلِ عنْ نَفْسهِ، فجعل الخِيَرةَ فيما أحبَّهُ؛ رحمةً من الله في حقِّه.
فَإِنْ قيل: لا نسلِّم أَنَّ العافِيَ هو وليُّ الدمِ، والعفو إسقاطُ الحقِّ، بل المراد من قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ﴾ أي فمَنْ سَهُلَ له مِنْ أخيه شيءٌ، يقال: أتَانِي هذا المالُ عَفْواً صَفْواً، أي: سهلاً، ويقال: خُذْ ما عُفِيَ، أي: ما سَهُلَ؛ قال تبارك وتعالى: ﴿خُذِ العفو﴾ [الأعراف: ١٩٩]، فتقديرُ الآيةِ: فمَنْ كان من أولياءِ الدَّم، وسَهُلَ له مِنْ أخيه الَّذي هو القاتِلُ شيءٌ من المالِ، أو سَهُلَ له من جهة أخِيه المَقْتُولِ، أي: بسب أخِيهِ المَقْتُولِ، فإِمَّا أن يكون أخَاه حقيقةً، وإِمَّا أن تكون قرابَتُهُ غيْر الأخوَّة، فسمَّاه أخاً مجازاً؛ كما سمَّى المقتول أخاً للقاتل، والمراد: فمن كان من أولياء الدم وسَهَّلَ، فليتبعْ وليُّ الدم ذلك القاتِلَ في مطالَبَةِ ذلك المالِ، وليؤدِّ القاتلُ إلى وَلِيِّ الدَّم ذلك المال بالإحْسَان؛ منْ غَيْر مطل، ولا مدافعة، فيكون معنَى الآيَةِ؛ على هذا التقدير: «إنَّ الله تعالى حَثَّ الأَوْلِيَاءَ، إِذَا دُعُوا إلى الصُّلْحِ من الدَّمِ على ديتهِ كُلِّها، أو بَعْضها: أَنْ يرضَوْا بِهِ؛ ويعْفُوا عن القَوَد.
سلَّمنا أن العَافِيَ هو وَلِيُّ الدم، لكن لا يجوز أن يقال: المرادُ هو أن يكون القِصَاصَ مشتركاً بين شريكَيْن؛ فيعفُو أحدهما فحينئذٍ ينقلب نصيبُ الآخَر إلى الدِّية، والله تعالى أَمَرَ الشريكَ السَّاكت باتِّباعَ القاتلِ بالمَعْروف، وأمر القاتل بالأداء إِلَيْه بإِحْسَان.
سلَّمنا أن العافِيَ هو وليُّ الدم، سواءٌ كان له شريكٌ، أوْ لمَ لكُنْ لِمَ لا يَجُوز أن يُقَالَ إن هذا مَشْروطٌ بِرضا القاتِلِ إِلاَ أَنَّه تبارك وتعالى لم يذكُر رضا القاتِل؛ لأنه ثابتٌ معروفٌ لا محالة، لأَنَّ الظاهر مِنْ كلِّ عاقلٍ أنَّه يبذلُ كلَّ الدنيا لَغَرَضِ دَفْع القَتْل عن
222
نَفْسه؛ لأَنَّهُ إِذَا قتل لا يبقَى له نفْسٌ ولا مالٌ، وبذلك المال فيه إحياءُ النَّفْسِ، فَلَمَّا كان هذا الرضا حاصلاً في الأَعَمِّ الأغلَبِ، لا جَرَمَ ترك ذكْره، وإن كان معتبراً في نَفْس الأَمْر.
فالجواب أَنَّ حمل لفظ «العفوِ» هنا على إسقاط القِصَاص أولىَ منْ حَمله على دَفع القاتل المالَ إلى وليِّ الدمِ؛ مِنْ وجهين:
الأوَّل: أنَّ حقيقة العفوِ إِسْقاط الحِّ؛ فوجب ألاَّ يكونَ حقيقةً في غيره؛ دفعاً للاشتراك، وحَمْلُ اللفظ هنا على إِسْقاط الحقِّ أَولى من حمْله على ما ذكَرتمِ؛ لأَنَّه لَمَّا قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى﴾، كان حمل قولِهِ: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ﴾ على إسقاط حقِّ القصاص أَوْلَى؛ لأنَّ قوله «شَيْءٌ» لفظ مبهمٌ، وحمل هذا المبْهَم علَى ذلك المعيَّن المذكور السَّابقِ أَوْلَى.
الثاني: لو كان المرادُ ب «العَفْو» ما ذكَرتم، لكان قوله ﴿فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ عبثاً؛ لأنَّ بَعْد وُصُول المالِ إِلَيْه في السُّهولة واللِّين، لا حاجة به إلَيْه، ولا حاجَةَ بذلك المُعْكَى أنْ يؤمر بأداء ذلك المَالِ بالإِحْسَان.
والجواب عن الثاني مِنْ وجهين:
الأَول: أنَّ ذلك الكلام: إِنَّمَا يتمشَّى بفَرض صُورةٍ مخْصُوصة، وهي ما إذا كان حَقُّ القِصَاصِ مشتركاً بين اثنين، فعفا أحدهما وسكت الآخرُ، والآيَةُ دالَّة على شرعيَّة هذا الحُكْمِ على الإِطْلاقَ، فَحَمْلُ اللَّفْظ المطْلَقِ علَى صُورة خاصَّة مقيَّدة خلافُ الظاَّهر.
الثاني: أن الهاء في قوله ﴿وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ ضميرٌ عائدٌ إلى مذكور سابقٍ، وهو العافِي، فوجَبَ أداء هذا المال إلى العَافِي، وعلى قولكم: يكون أداؤه إلى غيْر العافي فيكون باطلاً.
والجوابُ عن الثَّالث: أنَّ توقيفَ ثُبُوتِ أَخْذِ الدِّية وقبول ذلك لوليِّ الدم، على اعتبار رضا القاتلِ يُخَالِفُ الظَّاهر، وهو غَيْرُ جائزٍ.

فصل


قد تَقَدَّمَ أن تقدِيرَ الآية الكريمة يَقْتَضِي شَيْئاً من العَفو، وهذا يُشْكِلُ إِذَا كان الحقّ ليسَ إلا القَوَد فَقَط، فإنَّهُ يقال: القَوَدُ لا يتبعَّض، فما إذا كان مجموعُ حقِّه، إِمَّا القَودَ وَإِمَّا المَالَ؛ كان مجموعُ حقِّه متبعِّضاً؛ لأنَّ له أنْ يعفو عن القَود دون لمال وله أن يعفُو عن الكُلِّ. ؟
وتنكير الشَّيء يفيد فائدةً عظيمةً؛ لأَنَّهُ كان يجوز أن يتوهم أنَّ العفو لا يؤثِّر في سَقُوط القَوَدِ، وعفو بعض الأولياءَ عَنْ حقِّه؛ كعَفْو جميعهم عَنْ حقِّهم، فلو عرَّف الحقَّ، كان لا يفهم منْه ذلك، فَلَمَّا نكَّره، صار هذا المعْنَى مفهوماً منه.
223

فصل في دلالة الآية على كون الفاسق مؤمناً


نقل أابن عبَّاس تمسَّك بهذه الآية كَوْ الفاسِق مؤمناً مِنْ ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه تعالى سمَّاه مؤمناً، حال ما وجَبَ القِصَاص علَيْه: وإِنَّما وجب القِصَاصُ عليه إذا صدر القتل العمدُ العدوان، وهو بالإِجْماع من الكبائرِ؛ فدلَّ على أن صاحِبَ الكبيرةِ مؤمنٌ.
وثانيها: أنَّه أثْبَتَ الأخوَّة بيْن القاتل، وبيْن وليِّ الدم، ولا شَكَ أنَّ هذه الأخوَّة تكُون بسَبَب الدِّينِ، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠] فلولا أَنَّ الإيمَانَ باقٍ مع الفسقِ، وإلاَّ لما بقِيت الأخوَّة الحاصلةُ بسبب الدين.
وثالثها: أنه تبارك وتعالى نَدَبَ إلى العَفْو عن القاتِلِ، والندب إلى العَفْو، إِنَّما يليقُ بالمؤمن.
أجابت المعتزلة عن الأَوَّل: فقالوا: إِنْ قلْنا: المخاطبُ بقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى﴾ هم الأَئمَّةُ، فالسُّؤالُ زائلٌ: وإِنْ قلْنا: هُمُ القاتِلُون، فجوابُهُ مِنْ وجهين:
أحدهما: أن القاتل قبل إقدامِهِ على القَتْل، كان مؤمناً فسمَّاه الله تعالى مؤْمنا بهذا التأويل.
الثاني: أن القاتل قد يَتُوب، وعنْد ذلك يكُونُ مؤمناً، ثم إِنَّه تعالَى أَدْخَلَ فيه غير التائبِ تغليباً.
وأجابُوا عن الثَّاني بوجوه:
الأوَّل: أَنَّ الآية نزلَتْ قبل أن يقتل أحدٌ أحداً، ولا شكَّ أَنَّ المؤمنين إخوةٌ قبْل الإقدام على القَتْل.
والثاني: الظاهر أنَّ الفاسق يتوبُ، أو نَقُولك المرادُ الأخُوَّة بيْن وليِّ المقتول والقتيل؛ كما تقدَّم.
الثالث: يجوز أن يكون جعلُه أخاً له في الكتاب؛ كقوله: ﴿وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾ [الأعراف: ٦٥].
الرابع: أنَّه حصَلَ بيْن وليِّ الدمِ، وبيْن القاتل نوعٌ تعلّقُ واختصاصٍ، وهذا القَدْرُ يكْفي في إِطلاق اسْمِ الأُخُوَّة، كما نقول للرجُل: قلْ لصاحبك كذا، إِذَا كان بينهما أَدنَى تعلُّق.
الخامس: ذكر لفْظ الأخُوَّة؛ ليعْطِف أحدَهُما على صاحبه بِذِكْره ما هو ثابتٌ بينهما من الجنسيَّة.
224
وعن الثَّالث: أنَّه ندبه لما بينهما من أصل الإقرار والاعتقاد.
والجوابُ: أنَّ هذه الوجوه كُلَّها تقتضِي تقْييدَ الأخُوَّة بزمانٍ دون زمانٍ، وبصفَةٍ دون صفةٍ، والله تعالى أَثْبَتَ الأخوَّةَ على الإطْلاق، وهذا الجوابُ لا يردُّ ما ذكَرُوه في الوَجْه الثاني مِنْ قولهم: المرادُ بالأخُوَّة الَّتي بيْن وليِّ الدم والمقتولِ؛ كأنه قيل: «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ بسبب أخِيه المَقتُول شَيْء والمراد: الدِّيَةُ: فَلْيَتَّبعْ وليُّ الدَّم القاتلَ بالمعروف، وَلأْيُؤَدِ القاتلُ الديةَ إلى وَلِيِّ الدَّمِ بإحسان؛ وحينئذ يحتاجُ هذا إلى جوابٍ.
قوله: ﴿فاتباع بالمعروف﴾ في رفْع»
اتِّبَاعٌ «ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، فقدره ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - والواجبُ الاتباعُ وقدَّره الزمخشريُّ:»
فالأَمْر اتِّباعٌ «. ؟
قال ابن عطيَّة: وهذا سبيلُ الواجباتِ، وأَمَّا المندوبات، فتجيء منصوبةً؛ كقوله ﴿فَضَرْبَ الرقاب﴾ [محمد: ٤] قال أبو حيَّان: ولا أدري ما الفَرٌْ بين النَّصْب والرفع، إلاَّ ما ذكروه من أَنَّ الجملة الاسمية أثبَتُ وآكد؛ فيمكن أن يكُونَ مستند ابن عطيَّة هذا، كما قالوا في قوله: ﴿قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ﴾ [هود: ٦٩].
الثاني: أن يرتفع بإضمار فعل، وقدره الزمخشري:»
فليكن اتباعٌ «قال أبو حيَّان: هو ضعيفٌ؛ إِذْ» كَانَ «لا تضمَرُ غالباً إلاَّ بعد» إِن «الشَّرطيَّة و» لَوْ «؛ لدليلٍ يَدُلُّ عليه.
الثالث: أن يكُونَ مبتدأً محذوفَ الخبر، فمنهم: مَنْ قَدَّرَهُ متقدِّماً عليه، أي: «فعلَيْهِ اتباعٌ»
ومنهم: مَنْ قدَّره متأخِّراً عنه، أي: «فَاتِّباعٌ بالمَعْرُوفِ علَيْه».
قولُهُ «بِالمَعْرُوفِ» فيه ثلاةُ أوجُهٍ:
أحدها: أن يتعلَّق ب «اتِّبَاعٌ» فيكون منصوبَ المحلِّ.
الثاني: أن يكونَ وصْفاً لقوله «اتِّبَاعٌ» فيتعلَّق بمحذوف ويكون محلُّه الرفْعَ.
الثاللث: أَنْ يكون في محلِّ نصب على الحال مِنَ الهاء المحذُوفة، تقديرُهُ: «فعلَيْهِ اتِّباعُهُ عادلاً» والعاملُ في الحالِ معْنَى الاسْتِقْرار.
قولُهُ «وَأدَاء إِلَيْهِ بإحْسَانٍ» في رفعه أربعةُ أوجُه، الثلاثة المقولةُ في قوله: فاتِّبَاعٌ؛ لأنَّه معطوف علَيْه.
[والرابع: أنْ يكونَ مبتدأً خبره الجارُّ والمجرورُ بَعْده، وهو «بإِحْسَانٍ»، وهو بعيدٌ، و «إِلَيْهِ» في محلِّ نصْبٍ؛ لتعلُّقِهِ ب «أداءٌ»، ويجوز أن يكونَ في محلِّ رفْع؛ صفةً ل «أداءٌ» فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي: و «أَدَاءٌ كَائِنٌ إلَيْهِ».
225
و «بِإِحْسَانٍ» فيه أربعةُ أوجهٍ: الثلاثة المقولة في «بِالمَعْرُوفِ» ].
والرابع: أَنْ يكون خبر الأداء، كما تقدَّم في الوجه الرابع من رفع «أَدَاءٌ». والهاء في «إِلَيْهِ»، تعود إلى العافي، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكٌْ، لأَنَّ «عَفَا» يستلزمُ عافياً، فهو من باب تَفْسِير الضمير بمصاحب بوجْهٍ ما، ومنه ﴿حتى تَوَارَتْ بالحجاب﴾ [ص: ٣٢] أي: الشمس؛ لأن في ذكر «العَشِيِّ» دلالةً عليها؛ ومثله: [الطويل]
٩١٨ - فَإِنَّكَ وَالتَّأْبِينَ عُرْوَةَ بَعْدَمَا دَعَاكَ وَأَيْدينَا إِلَيْهِ شَوَارعُ
لَكَّالرَّجُلِ الْحَادِي وَقَدْ تَلَعَ الضُّحَى وَطَيْرُ المَنَايَا فَوْقَهُنَّ أَوَاقِعُ
فالضميرُ في «فَوْقَهُنَّ» للإِبِلِ؛ لدلالة لَفْظ «الحَادِي» عليها؛ لإِنَّهَا تصاحبُهُ بوجه مَّا.

فصل


قال ابنُ عبَّاس، والحَسَنُ وقتادةُ، ومجاهد: على العَافِي الاتباعُ بالمَعْروف، وعلى المَعْفُوِّ الأَدَاء إِلَيْه بإحسان.
وقيل هما على المَعْفُوِّ عنه، فإنَّه يُتْبع عفو العافِي بمعروفٍ، فهو أَداءٌ المعروفِ إليه بإحسان، والاتباعُ بالمعروف: ألاَّ يشتدَّ في المطالبة، بَلْ يجري فيها على العادَةِ المألُوفَة فإنْ كان مُعْسِراً، أنْظَرَه، وإن كان واجداً لغَيْر المالِن فلا يطالبه بزيادة على قدر الحَقِّ، وإن كان واحداً لغير المال الواجبِ، فيمهله إلى أن يبيع، وأن يستبدل وألاَّ يمنعه تقديم الأهمِّ من الواجبات، فأَمَّا الداء إلَيه بإحسان فالمراد به: ألاَّ يَدَّعِيَ الإِعدامَ في حال الإِمكانِ، ولا يؤخِّره مع الوجُود، ولا يقدِّم ما ليس بواجِبٍ عليه، وأن يؤدي المالَ ببشْرٍ، وطلاقةٍ، وقولٍ جميلٍ.
ومذْهبُ أكثر العُلَمَاءِ، والصحابةِ، والتابعين: أّنَّ وليَّ الدم، إِذَا عَفَا عن القصاصِ على الدِّية، فله أَخْذُ الدية، وإِنْ لم يرْضَ القَاتِلُ.
وقال الحَسَنُ، والنَّخَعِيُّ، وأصحاب الرأي: لا دِيَةَ له، إلاَّ برضى القاتل.
حجَّة القول الأَوَّل: قوله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ قُتِلَ له قَتِيل، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَقْتُلَ وَإِمَّا أَنْ يفدِي».
قولُهُ: «ذَلِكَ تَخْفِيف» الإِشارةُ بذلك إلى ما شَرَعه من العَفْو، والدية؛ لأنَّ العَفْو، وأَخذَ
226
الدِّيَةِ محرَّمان عَلى أهْل التَّوْراة، وفي شَرْع النَّصَارَى العفْو فقَطْ، ولم يكُنْ لهم القصاص، فخير الله تعالى هذه الأمَّة بيْن القصاص، وبيْن العَفْو على الدِّيَة تخفيفاً منه ورحمةً.
وقيل إِنَّ قولَهُ: «ذَلِكَ» راجعٌ إلى قوله ﴿فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ و «مِنْ رَبِّكُم» في محلِّ رفْعٍ؛ لأَنَّهُ صفةٌ لما قبله، فيتعلَّق بمحذوف.
ورَحْمَةٌ صفتُها محذوفةٌ أيضاً، أي: «رحْمَة مِنْ رَبِّكُمْ».
قوله «فَمَن اعْتَدَى» يجوز في «مَنِ» الوجهانِ الجائزانِ في قولِهِ «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ» من كونِها شرطيَّةً وموصولَةً، وجميعُ ما ذكر ثَمَّةَ يعودُ هنا.

فصل


قال ابنُ عبَّاس: «اعْتَدَى»، أي: داوز الحَدَّ غلى ما هو أكْثَرُ منْه، قال ابن عبَّاس، وقتادة، والحسن: هو أن يَقْتُلَ بَعْد العَفْوِ، وأخذ الدِّية، وذلك أنَّ الجاهليَّة كانوا إذا عَفَوْأ، وأَخَذُوا الدية، ثم ظَفِرُوا بالقاتل، قَتَلُوه، فنهى الله عن ذلك في قوله ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وفيه قولان:
أشهرهُما: أنه نوعٌ من العذابِ شديدٌ الألمِ في الآخِرةِ.
والثاني: روي عَنْ قتادَة، والحَسَن، وسعيد بن جبير: هو أن يقتل لا محالة، ولا يَعْفُو عَنْه، ولا يقبل منه الدِّية؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - «لاَ أُعَافِي أَحَداً قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ»
قال القرطبيُّ منْ قَتَلَ بَعْد أخْذ الدِّية؛ كَمَنْ قَتَلَ ابتداءً، إنْ شاء الوليُّ قَتَلَه وإِنْ شاءَ، عفا عنه، وعذابه في الآخر، وهذا قولُ مالكٍ، والشافعيِّ وجماعةٍ.
وقال قتادةُ وعكْرمةُ، والسُّدِّيُّ، وغيره: عذابُه أن يقتل الْبَتَّةَ، ولا يمكن الحاكمُ الوليَّ من العَفْو.
قال ابن الخَطِيب وهذا القَولُ ضعيفٌ؛ لأن المفهُوم من العذاب الأَليم عنْد الإطلاق هو عذابُ الآخرة، وأيْضاً: فإِنَّ القَوَدَ تارةً يكُونُ عذاباً؛ كما هو في حقِّ غير التائب، وتارةً يكُون امتحاناً؛ كما في حقِّ التائب، فلا يصحُّ إِطْلاٌقُ العذابِ علَيْه إلاَّ في وجه دُونَ وجْهٍ.
227
اعلم أن كيفية النظم أنه تعالى لما أوجب القصاص في الآية المتقدمة توجه أن يقال: كيف يليق برحمته إيلام العبد الضعيف، فذكر عقيبه حكمة شرع القصاص؛ دفعا لهذا السؤال. قوله " لكم ": يجوز أن يكون الخبر، و" في القصاص " متعلق بالاستقرار الذي تضمنه " لكم " ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من حياة، لأنه كان في الأصل صفة لها، فلما قدم عليها نصب حالا، ويجوز أن يكون " في القصاص " هو الخبر، و" لكم " متعلق بالاستقرار المتضمن له، وقد تقدم تحقيق ذلك في قوله ﴿ولكم في الأرض مستقر﴾ [البقرة: ٣٦] وهناك أشياء لا تجيء هنا.

فصل في معنى كَوْنِ القِصاصِ حياةً

228
في معنى كَوْنِ القِصاصِ حياةً وجوه:
أحدها: أَنَّهُ ليس المرادُ أَنَّ نَفْس القصاص حياةً؛ لأَنَّ القصاصَ إِزالةٌ للحياةِ، وإزالةُ الشيءِ يمتنع أَنَّ تكُون نفْسَ ذلك الشَّيءِ، بل المراد أَنَّ شَرْع القِصَاص يُفْضِي إلى الحياة.
أَمَّا في حقِّ منَ يريدٌ القَتَلَ فإنَّهُ إذا عَلِمَ أَنَّه إذا قَتِلَ تَرَكَ القَتْل؛ فلا يقتل، فيَبْقَى حَيّاً، وأمَّا في حقِّ المقتول: فإنَّ مَنْ أراد قتلَه، إذا خاف مِنَ القِصَاصِ؛ تَرَكَ قَتلهُ فيبقَى غير مقتول، وأمَّا في حِّ غيرهما: فَلأَنَّ في شرع القِصَاص بقاءَ من هَمَّ بالقَتْل ومن يهمّ به، وفي بقائهما بَقَاءُ مَنْ يتعصَّبُ لهما؛ لأَنَّ الفِتْنَة تعظُمُ بسبَب القَتْل فتؤدِّي إلى المُحاربة الَّتي تنتهي إلى قتل عالَمٍ من النَّاس، وفي شَرْعِ القِصَاص زوالٌ لِكُلِّ ذلك، فيصير حياةً للكُلِّ.
وثانيها: أَنَّ نفسَ القصاص سببُ الحياة؛ لأنَّ سَافِك الدَّم، إِذَا أُقِيدَ منْه، ارتدع مَنْ كان يهُمَّ بالقتل، فلم يقتل، فكان القصاص نفسُه سبباً للحياة مِنْ هذا الوجه.
وثالثها: معنى الحياة سلامتُهُ مِنْ قِصَاصِ الآخِرة، فإِنَّهُ إذا اقتصَّ منه في الدُّنْيا، حيي في الآخرة، وإذا لم يقتصّ منه في الدُّنيا اقْتُصَّ منه في الخرة وها الحُكْم غير مختصٍّ بالقِصَاصِ في النَّفْسِ، بل يدخل فيه القِصاص في الجِراح والشِّجَاج.
ورابعها: قال السُّدَّيُّ: ت المرادُ من القِصَاصِ إيجابُ التَّوبَة.
وقرأ أبو الجوزاء في القَصَصِ والمراد به القُرآن.
228
قال ابنُ عطيَّة ويحتمل أن يكون مَصْدراً كالقِصاصِ، أي أَنَّهُ إذا قُصَّ أثَرُ القاتلِ قَصَصاً، قُتِل.
ويحتمل أن يكون قوله: ﴿فِي القصاص حَيَاةٌ﴾ أي فيما أَقُصُّ عليكُمْ مِنْ حُكْم القَتْل والقِصَاصِ.

فصل في الردِّ على احتجاج المعتزلة بالآية


قالت المعتزلة: دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ القِصَاصِ سببٌ للحياة؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب﴾، فدَلَّ ذلك على أَنَّهُ لو لم يُشْرع القِصَاصُ، لكان ذلك سبباً للموت قبل حلول وَقْتِهِ، وكذلك كلُّ ما نتج من الحيوان، فإنَّ هلاكه قَبْلَ أجلِهِ؛ بدليل أنَّهُ يجب على القاتِلِ الضَّمانُ والدِّية.
وأجيب بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً﴾ [آل عمران: ١٤٥] وقوله: ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٤] ﴿إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ﴾ وح: ٤] ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ [الرعد: ٣٨] فمتى قتل العبد علمنا أَنَّ ذلك أجلُهُ، ولا يصحُّ أن يقال: إِنَّه لو لم يُقْتَلُ، لعاش؛ لما ذكرنا من الآيات.
أمَّا وجوب الضمان والدِّية، فللإقدام على القَتْل وللزجر عن الفِعْل.

فصل في كون الآية في أعلى درجات البلاغة


اتفق علماءُ البَيَانِ على أَنَّ هذه الآية في الإيجازِ مع جميع المعاني باللّغةٌ بالغةٌ أعلى
229
الدَّرجَات؛ فإنَّه قولَ العَرَبِ في هذا المعنى «القَتْلُ أَوْقَى لِلْقَتْلِ»، ويروى «أَنْفَى لِلْقَتْل»، ويروَى «أَكَفُّ لِلْقَتْلِ»، ويروى «قَتْلُ البَعْضِ أَحْيَا الجَمِيع»، ويروى: «أَكْثِروا القَتْلَ ليقلَّ القَتْلُ» فهذا وإن كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العُلماءُ بَيْنه وبيْنَ الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغة، وُجدت في الآية الكريمة دونه:
منْها: أَنَّ في قولِهِم تكرارَ الاسم في جُمْلةٍ واحدةٍ.
ومنها: أَنَّهُ لا بدَّ مِنْ تقدير حَذْفٍ؛ لأنَّ «أَنْفَى» و «أَوقَى» و «أَكَفُّ» أفعل تفضيل فلا بدَّ من تقدير المفضَّل عليه، أي: أنفى لِلْقتلِ مِنْ تركِ القتل.
ومنها: أنَّ القِصَاص أَعَمُّ؛ إِذ يوجد في النَّفْس وفي الطَّرف، والقتلُ لا يكون إلاَّ في النَّفسِ.
ومنها: أَنَّ ظاهر قولهم كونُ وجود الشيء سَبَباً في انتفاءِ نفسه.
ومنها: أَنَّ في الآية نَوعاً من البديع يُسمَّى الطبَاقَ، وهو مقابلةُ الشيءِ بضدِّه، فهو يُشبه قوله تعالى: ﴿أَضْحَكَ وأبكى﴾ ﴿النجم: ٤٣].
قوله: {ياأولي الألباب﴾
منادًى مضافٌ وعلامة نصبه الياءُ، واعلم أنَّ «أُولِي» اسمُ جَمع؛ لأَنَّ واحده، وهو «ذُو» من غَير لفظه، ويجري مَجرى جمع المذكَّر السَّالم في رفعه بالواو ونصبه وجرِّه بالياء المكسور ما قبلها، وحُكمه في لُزُوم الإضافة إلى اسم جنس حكمُ مفردِهِ، وقد تقَدَّمَ في قوله تعالى: ﴿ذَوِي القربى﴾ [البقرة: ١٧٧] ويقابلُهُ في المؤنث «أُولاَت» وكتباً في المُصْحف بواوٍ بعد الهمزة؛ قالوا: ليفرِّقوا بين «أُولِي كَذَا» في النَّصْب والجَرِّ، وبن «إِلَى» الَّتي هي حرفُ جرٍّ، ثم حمل باقي البَابِ علَيْه، وهذا كما تقدَّمَ في الفَرق بين «أُولَئِكَ» اسْمَ إشارةٍ، و «إِلَيْكَ» جاراً ومجروراً وقد تقدَّم، وإذا سَمَّيْتَ ب «أولى»، من «أُولِي كَذَا» قلت: «جَاءَ أُلُونَ، وَرَأَيْتَ أُلِينَ» بردِّ النُّون؛ لأَنَّها كالمقدَّرة حالة الإضافة، فهو نظيرُ «ضَارِبُوا زَيْجٍ وَضَارِبي زَيْدٍ».
والأَلبَابُ: جمع لُبٍّ، وهو العقلُ الخالي من الهوَى؛ سمِّي بذلك لأحَدِ وَجهين:
إما لبنائِهِ مِنْ لَبَّ بالمَكَانٍ: أَقَامَ به وإِمَّا من اللُّبَابِ، وهو الخَالِص؛ يقال: لَبُيْتَّ بالمكان، ولَببْتُ بضمِّ العين، وكسرها، ومجيء المضاعف على «فَعْلٍ» بضم العَين شاذٌّ، استغنَوْا عنه ب «فَعَلَ» مفتوح العين؛ وذلك في أَلفاظ محصورةٍ؛ نحو عَزُزْتُ، وسَرُرْتُ، ولَبُبْبُ، ودَمُمْتُ، ومَلُلْتُ فهذه بالضمِّ وبالفَتْح، إلاَّ «لَبُبُبُ» فبالضمِّ والكَسْر؛ كما تقدَّم.
قوله ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ : قال الحسن والأصمُّ: لعلَّكمْ تَتَّقُونَ نفْس القَتْل؛ بخَوف القِصَاصِ.
230
وقيل: المرادُ هو التقْوَى من كُلِّ الوُجُوه.
قال الجُبَّائِيُّ: هذا يَدُلُّ على أنَّهُ تعالى أراد التَّقْوى مِنَ الكُلِّ، سواءٌ كان في المعْلُوم أنهم يَتَّقُونَ أَوْ لاَ يَتَّقُون بخلاف قول المُجْبِرَةِ، وقد سَبَق جوابُه.
فإِن قيل «لَعلَّ» للتَّرَجِّي، وهو في حقِّ اللهِ تعالى محالٌ، فجوابهُ مَا سَبَقَ في قوله تعالى: ﴿والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١].
231
قال القُرطبيُّ في الكلام تقدير واو العطف، أي: ﴿وَكُتِبَ عَلَيْكُمْ﴾، فلما طال الكلامُ، سقطَت الواو، ومثله في بعض الأَقوال: ﴿لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى الذي كَذَّبَ وتولى﴾ [الليل: ١٥، ١٦]، أي: والذي تَوَلَّى فحذف.
قووله: «كُتِبَ» مبنيٌّ للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وهو الله تعالى وللاختصار.
وفي القائم مقام الفاعل ثلاثةُ أوجُه:
أحدها: أن يكون الوصيَّة، أي: «كتِبَ عَلَيْكُمْ الوصِيَّة» وجاز تذكير الفعل لوجهين:
أحدها: كونُ القائمِ مقامَ الفاعل مؤنَّثاً مجازياً.
والثاني: الفصل بيْنه وبيْن مَرْفُوعه.
والثاني: أنَّهُ الإيصاءُ المدلُول عليه بقوله: ﴿الوصية لِلْوَالِدَيْنِ﴾ أي: كُتِبَ هو أي: الإيصاءُ، وكذلك ذكرُ الضَّمير في قوله: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ﴾ [البقرة: ١٨١] وأيضاً: أنَّه ذكر الفِعلْل، وفصل بيْن الفِعل والوصيَّة؛ لأَنَّ الكلام، لمَّا طال، كان الفَاصِلُ بين المؤنَّث والفعْل، كالمعوَّض من تاءِ التَّأنيث، والعَرَبُ تَقُولُ: حَضَرَ القاضِيَ امرأَةٌ فيذكرون؛ لأنَّ القَاضِي فصَل بيْن الفعل وبيْن المرأة.
والثَّالِثُ: أنه الجارُّ والمجرُور، وهذا يتَّجِه على رأي الأخفش، والكوفيين، و «عَلَيْكُم» في محلِّ رفع على هذا القول، وفي محلِّ نَصبٍ على القولَين الأَوَّلين.
قوله تعالى: «إذَا حَضَر» العامل في «إِذَا» كُتِبَ «على أَنَّها ظَرف مَحْض وليس متضمِّناً للشَّرط، كَأَنَّهُ قيل:» كُتِبَ عَلَيْكُمْ الوَصِيَّةُ وَقْتَ حُضُورِ المَوْتِ «ولا يجوز أنْ يكُون العامل فيه لفظ» الوَصيَّة «؛ لأنَّها مصدرٌ، ومعمولُ المصدر لا يتقدَّم عليه لانحلاله لموصولٍ وصلةٍ، إلاَّ على مَذِهب منَ يَرَى التَّوسُّع في الظَّرف وعديله، وهو أبو الحسن؛ فإنَّه لا يَمْنعُ ذلك، فيكُون التَّقْديِرُ:» كُتِبَ عَلَيْكمْ أنْ توصوا وقت حضور الموت «.
231
وقال ابنُ عطيَّة ويتَّجِه في إعراب هذه الآية الكريمة: أن يكون» كُتِبَ «هو العامِلَ في» إِذَا «، والمعنى:» تَوَجَّه علَيْكم إيجابُ اللهِ، ومقتضى كتابِهِ، إذا حَضَر «فعبّر عن توجُّه الإيجاب ب» كُتِبَ «لينتظم إلى هذا المعنى: أَنَّهُ مكتوبٌ في الأَزَلِ، و» الوَصِيَّة «مفعولٌ لم يسمَّ فاعلُه ب» كُتِبَ «وجواب الشَّرطين» إِنْ «و» إِذْا «مقدَّر يدلُّ عليه ما تَقَدَّم مِنْ قوله» كُتِبَ «.
قال أبو حيان وفي هذا تناقصٌح لأنَّهُ جعل العَامِل في»
إِذَا «كُتِبَ»، وذلك يستلزمُ أن يكُون إذا ظرفاً محضاً غيرَ متضمِّن للشَّرطِ، وهذا يناقضُ قوله: «وجواب» إذا و «إن» محذوف؛ لأنَّ إذا الشَّرشطية لا يعملُ فيها إلاّ جوابُها، أو فعلُها الشرطيُّ، و «كُتِبَ» : ليْسَ أحدهُما، فإن قيل: قومٌ يُجِيزُون تقدِيم جوابِ الشَّرط، فيكُونُ «كُتِبَ» هو الجوابَ، ولكنَّهُ تَقَدَّم، وهو عاملٌ في «إِذَا» ن فيكون ابنُ عطيَّة يقُول بهذا القَوْل.
فالجواب: أَنَّ ذلك لا يجوزُ؛ لأنَّه صرَّح بأَنَّ جوابها محذوفٌ مدلولٌ عليه ب «كُتِبَ»، ولم يجعل «كُتِبَ» هو الجوابَ، ويجوزُ أن يكُونَ العَامِلُ في «إِذَا» الإيصاءَ المفهوم مِنْ لفظ «الوَصِيَّة»، وهو القائمُ مقام الفاعِل في «كُتِب» ؛ كما تقدَّم.
قال ابن عطيَّة في هذا الوجه: ويكُونُ هذا الإيصاءُ المُقدَّر الذي يَدُلُّ عليه ذكرُ الوصيَّة بعد هو العَاملَ في «إِذَا»، وترتفع «الوَصِيَّةُ» بالابتداء، وفيه جوابُ الشَّرطيْن؛ على نحو ما أنشَدَه سيبويه: [البسيط]
٩١٩ - مَنْ يَفْعَلِ الصَّالِحَاتِ اللهُ يَحْفَظُهُ.............................
ويكونُ رفْعُها بالابتداءِ، أي: فعليه الوصيَّة؛ بتقدير الفَاءِ فقط؛ كأنَّهُ قال: «فالوصِيَّةُ للوالدَيْنِ»، وناقشه أَبو حيَّان مِنْ وجوه:
أحدها: أَنَّهُ متناقض من حيثُ إنَّهُ إذا جعل «إِذَا» معمولةً للإيصاء المُقدر، تمحَّضت للظَّرْفية، فكيف يُقَدَّر لها جوابٌ؛ كما تقدَّم تحريره.
والثاني: أنَّ هذا الإيصاءَ إما أن تقدِّر لفظه محذوفاً، أو تضمره، وعلى كلا التَّقديرين، فلا يعمل؛ لأَنَّ المصدر شرطُ إعماله ألاَّ يُحذَف، ولا يضمر عند البصريِّين، وأيضاً: فهو قائمٌ مقام الفاعل؛ فلا يحذف.
الثَّالث: قوله «جَوَابُ الشَّرْطيْنِ» والشيء الواحد لا يكُون جواباً لاثَنَين، بل جواب كلِّ واحدٍ مستقلٌّ بقدره.
الرابع: جعلهُ حذفَ الفاءِ جائزاً في القُرآن، وهذا نصُّ سيبويه على أَنَّهُ لا يجوزُ إلا ضرورةً، وأنشد: [البسيط]
232
٩٢٠ - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا وَالشَّرُّ بالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ سِيّانِ
وإنشاده: «من يفعل الصالحات الله يحفظه» يجوز أَنْ يكون روايةً إلاَّ أنَّ سيبَويْه لم يُنْشِدْه كذا، بل كما تقدَّم، والمُبرِّد روى عنه: أنَّه لا يجيز حذف الفاء مطلقاً، لا في ضرورةٍ، ولا غيرها، ويرويه: «مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ، فالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ» وردَّ النَّاس عليه بأنَّ هذه ليست حجّةً على رواية سيبَويْهِ.
ويجوز أنَّ تكون «إِذَا» شرطيَّةً؛ فيكون جوابُها وجوابُ «إِنْ» محذوفَيْن، وتحقيقُه أَنَّ جوابَ «إِنْ» مقدرٌ، تقديرُه: «كُتِبَ الوصيَّةُ على أحدِكُمْ إذا حضره الموتُ، إنْ ترك خَيْراً، فَلْيُوصِ»، فقوله: «فَلْيُوصِ» جواب ل «إِنْ» ؛ حُذِفَ لدلالة الكلام عليه، ويكون هذا الجوابُ المقدَّر دالاًّ على جواب «إِذَا» فيكون المحذُوف دالاًّ على محذوف مثله.
وهذا أَوْلَى مِنْ قَوْل من يَقُولُ: إنَّ الشَّرط الثَّاني جواب الأَوَّل، وحُذِفَ جواب الثَّاني، وأولى أيضاً مِنْ تقدير مَنْ يقدِّره في معنى «كُتِبَ» ماضي المعنى، إلاَّ أن يؤوِّله بمعنَى: «يتوجَّه علَيْكُمْ الكَتْبُ، إن تَرَكَ خَيْراً».
قوله «الوَصِيّة» فيه ثلاثةُ أوجُهٍ:
أحدها: أن يكُونَ مبتدأً، وخبره «لِلْوَالِدَيْنِ».
والثاني: أنَّهُ مفعول «كُتِبَ»، وقد تقدَّم.
والثالث: أنَّهُ مبتدأٌ، خبره محذوف، أي: «فعلَيْهِ الوصيَّةُ»، وهذا عند مَنْ يجيزُ حذف فاء الجَوابِ، وهو الأخفشُ؛ وهو محجوجٌ بنقل سيبَوَيْهِ.

فصل في المراد من حضور الموت.


قوله ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت﴾ ليْس المرادُ منْه معاينةَ الموْتِ؛ لأَنَّ ذلك الوقْت يكُون عاجزاً عن الإيصاء، ثم ذكر في ذلك وجهَين:
أحداهم: وهو المَشهور أنَّ المرادَ حُضُور أمارةِ المَوت؛ كالمَرَض المَخُوف؛ كما يقال فيمن يخافُ علَيه المَوْت حَضَرهُ المَوْتُ ويقالُ لِمَنْ قارب البَلَد: «وَصَلَ» ؛ قال عنترة: [الوافر]
٩٢١ - وَإِنَّ المَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا ما وَصَلْتُ بَنَانَها بِالْهِنْدُوَانِي
وقال جَرِيرُ، يهْجُو الفَرَزدَق [الوافر]
233
والثاني: قال الأصمُّ: إِنَّ المُرَادَ: فَرَضْنَا عَليْكُم الوصِيَّة في حَالِ الصَّحَّة بأن تقُولُوا: «إِذا حَضَرَنا المَوْتُ، فافْعَلُوا كذا».

فصل في المراد بالخير في الآية


المرادُ بالخَير هنا المالُ؛ كقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ مِنْ خَيْرٍ﴾ [البقرة: ٢٧٢] ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: ٨] ﴿مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: ٢٤] قال أبو العبَّاس المُقرىءُ: وقد وَرَدَ لفظ «الخَيْر» في القرآن بإزاء ثمانية معان:
الأَوَّل: الخَيْرُ: المالُ؛ كهذه الآية.
الثاني: الإيمانُ، قال تعالى: ﴿إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً﴾ [الأنفال: ٢٣] أي: إيماناً، وقوله ﴿﴾ [الأنفال: ٧٠]، يعني: إيماناً.
الثالث: الخير الفضل؛ ومنه قوله: ﴿خَيْرُ الرازقين﴾ [المائدة: ١٤] [الحج: ٥٨] [المؤمنون: ٧٢] [سبأ: ٣٩] [الجمعة: ١١] ﴿خَيْرُ الراحمين﴾ [المؤمنون: ١٠٩، ١١٨] ﴿خَيْرُ الحاكمين﴾ [الأعراف: ٨٧] [يونس: ١٠٩] [يوسف: ٨٠].
الرابع: الخير: العافية؛ قال تعالى: ﴿إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً﴾ [يونس: ١٠٧]، أي: بعافية.
الخامس: الثَّواب قال تعالى: ﴿والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾ [الحج: ٣٦]، أي: ثواب وأجر.
السادس: الخير: الطَّعام؛ قال: ﴿إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: ٢٤].
السابع: الخير: الظَّفر والغنيمة؛ قال تعالى: ﴿وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً﴾ [الأحزاب: ٢٥].
الثامن: الخير: الخيل؛ قال تعالى: ﴿أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي﴾ [ص: ٣٢]، يعني: الخيل.
ثم اختلفوا هان على قولين:
فقال الزهريُّ: لا فرق بين القليل، والكثير، فالوصيَّة واجبة في الكلِّ، لأن المال القليل خير؛ لقوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧ - ٨] ﴿إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: ٢٤] والخير: ما ينتفع به، والمال القليل كذلك، وأيضاً: قوله تعالى في المواريث: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ﴾ [النساء: ٧] فتكون الوصية كذلك.
234
الثاني: أن الخير هو المال الكثير؛ لأن من ترك درهماً لا يقال ترك خيراً، ولا يقال: فلانٌ ذو مالٍ، إلاَّ أن يكون ماله مجاوزاً حدَّ الحاجة، ولو كان الوصيَّة واجبةً في كلِّ ما يترك، سواء كان قليلاً أو كثيراً، لما كان التقييد بقوله: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْراً﴾ كلاماً مفيداً؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ لا بُدَّ وأن يترك شيئاً، وأمَّا من يموت عرياناً، ولا يبقى منه كسرة خبزٍ فذلك في غاية النُّدرة، وإذا ثبت أن المراد بالخير هنا المال الكثير، فهل هو مقدَّر، أم لا؟ فيه قولان:
الأول: أنه مقدَّر، واختلفوا في مقداره؛ فروي عن عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: أنه دخل على مولى لهم في الموت، وله سبعمائة درهم، فقال أَوَلاً أوصي؟ فقال: لا؛ إنَّما قال الله: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْراً﴾ والخير: هو المال الكثير، وليس لك مالٌ.
وعن عائشة: أنَّ رجلاً قال لها: إنِّي أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلافٍ، قالت: كم عيالك؟ قال أربعٌ، قالت: قال الله تعالى: ﴿إِن تَرَكَ خَيْراً﴾ وإن هذا يسير، فاتركه لعائلتك، فهو أفضل.
وعن ابن عبَّاس: «إذا ترك سبعمائة درهم، فلا يوصي، فإن بلغ ثمانمائة درهمٍ، أوصى» وعن قتادة: ألف ردهمكٍ، وعن النَّعيِّ: من ألفٍ وخمسمائة درهم.
وقال قوم: إنه غير مقدَّر بمقدار معيَّن بل يختلف باختلاف حال الرجال.

فصل في تحرير معنى «الوصيَّة».


قال القُرْطُبيُّ: و «الوصيَّة» عبارةٌ عن كلِّ شيءٍ يؤمر بفعله، ويعهد به في
235
الحياة، وبعد الموت، وخصَّصها العرف بما يعهد بفعله، وتنفيذه بعد الموت، والجمع وصايا، كالقضايا جمع قضيَّة، والوصيُّ يكون الموصي، والموصى إليه؛ وأصله من وصى مخفَّفاً وتواصى النَّبت تواصياً، إذا اتصل، وأرض واصية: متَّصلة النّبات، وأوصيت له بشيءٍ، وأوصيت إليه، إذا جعلته وصيَّك، والاسم الوِصاة، وتواصى القومُ أوصى بعضهم بعضاً، وفي الحديث «استوصوا بالنِّساء خيراً؛ فإنهنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ» ووصَّيتُ الشيء بكذا، إذا وصَّلته به.

فصل في سبب كون الوصية للوالدين والأقربين


اعلم: أن الله تعالى بيَّن أن الصوية الواجبة للوالدين والأقربين. قال الأصم: وذلك أنَّهم كانوا يوصون للأبعدين طلباً للفخر والشَّرف، ويتركون الأقارب في الفقر، والمسكنة؛ فأوجب الله تعالى في أول الإسلام الوصيَّة لهؤلاء.
وقال ابن عبَّاس، وطاوسٌ، وقتادة، والحسن: إنَّ هذه الوصيَّة كانت واجبةٌ قبل آية المواريث للوالدين والأقربين من يرث منهم، ومن لا يرث، فلما نزلت آية المواريث، نسخت وجوبها في حِّ الوارث، وبقي وجوبها في حقِّ من لم يرث، قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»
وقال طاوس: من أوصى لقومٍ، وترك ذوي قرابة محتاجين، انتزعت منهم، وردت في ذوي قرابته.
وذهب الأكثرون إلى أن الوجوب صار منسوخاً في حقِّ الكافَّة، وهي مستحبَّة في حقِّ الذين لا يرثون.
روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«ما حَقُّ امرِىءِ مُسْلِمٍ
236
لَهُ شَيْءٌ يريد أن يُوصِيَ فيه، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»
وقال بعضهم: إن الوصيَّة لم تكن واجبةً، وإنما كانت مندوبةً، وهي على حالها لم تنسخ، وسيأتي الكلام عليه قريبا - إن شاء الله تعالى -.
قوله: «بالمعروف» : يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق بنفس الوصيَّة.
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الوصيَّة، أي: حال كونها ملتبسة بالمعروف، لا بالجور.

فصل


يحتمل أن يكون المراد منه قدر ما يوصى به، فيسوَّى بينهم في العطيَّة، ويحتمل ان يكون المراد من المعروف ألاَّ يعطي البعض، ويحرم البعض؛ كما إذا حرم الفقير، وأوصى للغنيِّ، لم يكن ذلك معروفاً، ولو سوَّى بين الوالدين مع عظم حقهما، وبين بني العمِّ، لم يكن معروفاً، فالله تعالى كلَّفه الوصيَّة؛ على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش، ونقل عن ابن مسعود: أنه جعل هذه الوصيَّة للأفقر فالأفقر من الأقربا.
وقال الحسن البصريُّ: هم والأغنياء سواء.
وروي عن الحسن أيضاً، وجابر بن زيدٍ، وعبد الملك بن يعلى: أنهم قالوا فيمن يوصى لغير قرابته، وله قرابةٌ لا ترثه، قالوا: نجعل ثُلثي الثُّلث لذوي قرابته، وثلث الثُّلث للموصى له، وتقدَّم النَّقل عند طاوس أنَّ الوصيَّة تنزع من الأجنبيِّ، وتعطى لذوي القرابة.
وقال بعضهم: قوله: «بالمعروف» : هو ألاَّ يزيد على الثُّلث، روي عن سعد بن مالك، قال: جاءني النبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعودني، فقلت: يا رسول الله، قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مالٍ، ولا يرثني إلاَّ ابنتي، فأوصي بثلثي مالي؟ وفي روايةٍ: «أُوصِي بِمَالِي كُلِّه» قال: «لا»، قُلْتُ: بالشَّطْر؛ قال: «لا»، قلت فالثُّلُث، قال: «الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كثير؛ إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكفَّفون الناس»
237
وقال [عليٌّ: لأن أوصي بالخمس أحبُّ إليَّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحبُّ إليَّ من أن أوصي بالثُّلثن فلم أوصي بالثُّلث، فلم يترك «].
وقال الحسن: نوصي بالسُّدس، أو الخمس، أو الرُّبع.
وقال الفارسيُّ: إنما كانوا يوصون بالخمس والرُّبع.
وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز أن يوصي بأكثر من الثُّلث، إلاَّ أصحاب الرأي، فإنهم قالوا: إن لم يترك الوصيُّ ورثةً، جاز له أن يوصي بماله كله.
وقالوا: إنَّما جاز الاقتصارعلى الثُّلث في الوصيَّة؛ لأجل أن يدع ورثته أغنياء.
قوله»
حَقّاً «في نصبه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، ذلك المصدر المحذوف: إما مصدر»
كُتِبَ «، أو مصدر» أَوْصَى «، أي:» كَتْباً حَقّاً «أو» إيصاءً حَقّاً «.
الثاني: أنه حالٌ من المصدر المعرَّف المحذوف، إما مصدر»
كُتِبَ «، أو» أوصى «؛ كما تقدَّم.
الثالث: ان ينتصب على أنَّه مؤكِّدٌ لمضمون الجملة؛ فيكون عاملة محذوفاً، أي: حُقَّ ذلك حَقّاً، قاله الزمَّخشرِيُّ، وابن عطيَّة، وأبو البَقَاء.
قال أبو حَيَّان: وهذا تَأْبَاهُ القَوَاعِدُ النَّحْوِيَّة؛ لأن ظاهر قوله «على المُتَّقِينَ»
أن يتعلَّق ب «حَقّاً، أو يكون في موضع الصفة له، وكلا التقديرين لا يجوز.
أما الأول؛ فلأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل، وأما الثاني؛ فلأنَّ الوصف يخرجه عن التَّأكيد.
قال شهاب الدِّين: وهذا لا يلزمهم؛ فإنهم، والحالة هذه، لا يقولون: إنَّ»
عَلَى المُتَّقِينَ «متعلِّق به، وقد نصَّ على ذلك أو بالبَقَاءِ - رَحِمَهُ اللهُ -؛ فإنه قال: وقيل: هو متعلِّق بنفس المصدر، وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل، وإنَّما يعمل المصدر المنتصب بالفعل المحذوف، إذا ناب عنه؛ كقولك» ضَرباً زيداً «، أي:» اضْرِبْ «إلاَّ أنه جعله صفة ل» حقّ «فهذا يرد عليه، وقال بعض المعربين: إنه مؤكد لما تضمَّنه معنى المتقين: كأنَّه قيل» عَلَى المُتَّقِينَ حَقّاً؛ كقوله: ﴿أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً﴾ [الأنفال: ٧٤]
238
وهذا ضعيف؛ لتقدمه على عاملة الموصول، ولأنه لا يتبادر إلى الذِّهن.
قال أبو حيَّان: والأولى عندي: أن يكون مصدراً من معنى «كُتِبَ» ؛ لأن معنى «كُتِبَ الوَصِيَّةُ»، أي: حقَّت ووجبت، فهو مصدر على غير الصدر، نحو: «قَعَدت جُلُوساً».
فإن قيل: ظاهر هذا لتَّكليف يقتضي تخصيص هذا التَّكليف بالمتَّقين، دون غيرهم؟
فالجواب أن المراد بقوله تعالى: ﴿حَقّاً عَلَى المتقين﴾ أنَّه لاَزِمٌ لمن آثر التقوى، وتحرَّاه، وجعله طريقةٌ له ومذهباً، فيدخل الكل فيه.
وأيضاً: فإن الآية الكريمة وإن دلَّت على وجوب هذا المعنى على المتقين، فالإجماع دلَّ على أنَّ الواجبات والتَّكاليف عامَّةٌ في حقِّ المتَّقين وغيرهم، فبهذا الطَّريق يدخل الكلُّ تحت هذا التَّكليف.

فصل في اختلافهم في تغيير المدبر وصيته


قال القُرْطُبيُّ: أجمعوا على أن للإنسان أن يغيِّر وصيَّته، ويرجع فيما شاء منها إلاَّ أنهم اختلفوا في المدبر.
فقال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا: أن الموصي، إذا أوصى في صحَّته، أو مرضه بوصيَّةٍ، فيها عتق رقيق، فإنه يغيِّر من ذلك ما بدا له، ويصنع من ذلك ما يشاء حتى يموت، وإن أحبَّ أن يطرح تلك الوصيَّة، ويسقطها فَعَل، إلاَّ أن يدبِّر، فإن دبَّر مملوكاً، فلا سبيل له إلى تغيير ما دبَّر.
قال أبو الفرج المالكيُّ: المدبِّر في القياس كالمعتق إلى شهر؛ لأنه أجلٌ آتٍ لا محالة، وأجمعوا على أنَّه لا يرجع في اليمين بالعتق، والعتق إلى أجلٍ؛ فكذلك المدبِّر، وبه قال أبو حنيفة، وقال الإمام الشافعيُّ وإسحاق وأحمد: هو وصيَّةٌ.

فصل


اختلفوا في الرَّجل، يقول لعبده: «أنْتَ حُرٌّ بَعْدَ موْتِي»، وأراد الوصيَّة، فله الرُّجوع عند مالك، وإن قال: «فُلاَنٌ مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي» لم يكن له الرُّجُوع فيه، فإن أراد التدبير لقوله الأول، لم يرجع أيضاً عند أكثر أصحاب مالك، وأما الشَّافِعيُّ، وأحمد، وإسحاق،
239
وأبو ثور، فهذا كلُّه عندهم وصيَّةٌ؛ لأنَّه في الثُّلث، وكلُّ ما كان في الثُّلث، فهو وصيَّة، إلا أن الشافعيَّ قال: لا يكون له ارُّجوع في المدبَّر إلاّض بأن يخرجه عن ملكه ببيعٍ أو هبةٍ، وليس قوله: «فَقَدْ رَجَعْتُ» رجوعاً.

فصل


اختلفوا في رجوع المجيزين للوصيَّة للوارث في حياة الموصي، وبعد وفاته.
فقالت طائفة: ذلك جائز عليهم، وليس لهم الرجوع، وهو قول عطاء بن أبي رباحٍ، وطاوسٍ، والحسن، وابن سيرين، وابن أبي لييلى، والزهريِّ، وربيعة، والأوزاعي، وقيل: لهم الرجوع، إن أحبُّوا، وهو قول ابن مسعود، وشريحٍ، ولاحكم، والثوريِّ، والحسن بن صالح، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد وأبي ثورٍ وابن المنذر.
وقال مالك: إن أذنوا في صحته، فلهم الرجوع، وإن أذنوا في مرضه، فذلك جائز عليهم، وهو قول إسحاق.

فصل في الحجر على المريض في ماله


وذهب الجمهور إلى أنَّه يحجر على المريض في ماله.
وقال أهل الظاهر: لا يحجر عليه، وهو كالصَّحيح.

فصل في توقُّف الوصيَّة على إجازة الورثة


إذا أوصى لبعض ورثته بمالٍ، وقال في وصيَّته: إن أجازها الورثة، فهي لك، وإن لم يجيزوها، فهو في سبيل الله، فلم يجزها الورثة، فقال مالك: مرجع ذلك إليهم.
وقال أبو حنيفة، ومعمر، والشافعي في أحد قوليه: يمضي في سبيل الله، والله أعلم.

فصل


من النَّاس من قال: إن الوصيَّة كانت واجبةً؛ واستدلَّ بقوله كتب وبقوله «عَلَيْكُمْ» وأكد الإيجاب بقوله: ﴿عَلَى المتقين﴾، وهؤلاء اختلفوا: فمنهم من قال صارت هذه الآية منسوخة.
وقال أبو مسلم: إنها لم تنسخ من وجوه.
أحدها: أن هذه الآية الكريمة ليست مخالفة لآية المواريث، ومعناه: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ ما وَصَّى به الله؛ من تواريث الوَالِدَيْن والأقْرَبِينَ، ومِنْ قوله: ﴿يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ﴾ [النساء: ١١] أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين؛ بتوفير ما وصَّى به الله عليهم، وألاَّ ينقص من أنصبائهم».
240
وثانيها: أنه لا منافاة بين ثبوت الميراث بحكم الآيتين.
وثالثها: لو قدرنا حصول المنافاة، لكان يمكن جعل آية المواريث لإخراج القريب الواريث، ويبقى القريب الذي لا يكون وارثاً داخلاً تحت هذه الآية؛ وذلك لأن من الوالدين من يرث، ومنهم من لا يرث بسبب اختلاف الدِّين أو الرِّقِّ، أو القتل، ومن الأقارب الذين لا يسقطون في فريضة: من لا يرث بهذه الأسباب الخارجية ومنهم: من يسقط في حال، ويثبت في حال، ومنهم: من يسقط في كل حالٍ.
فمن كان من هؤلاء وارثاً، لم يتجز الوصيَّة له، ومن كان منهم غير وارث، صحَّت الوصيَّة له، وقد أكَّد الله تعالى ذلك بقوله: ﴿واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام﴾ [النساء: ١]، وبقوله: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى﴾ [النحل: ٩٠]، والقائلون بالنسخ: اختلفوا بأي دليل صارت منسوخة، فقال بعضهم: بإعطاء الله أهل المواريث كل ذي حقٍّ حقَّه.
قال ابن الخطيب وهذا بعيد؛ لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث وجوبُ قدر آخر بالوصيَّة، وأكثر ما يوجبه ذلك التَّخصيص، والنَّسخ.
فإن قيل: لا بدَّ وأن تكون منسوخة في حقِّ من لم يخلف إلا الوالدين من حيث يصير كلُّ المال حقّاً لهم؛ بسبب الإرث، فلا يبقى للوصيَّة شيءٌ؟!
فالجواب: أن هذا تخصيص، لا نسخ.
وقال بعضهم أيضاً: إنها نسخت بقوله - عليه السَّلام -، «لا وَصِيَّةَ لَوَارِثٍ»، وفيه إشكالٌ؛ من حيث إنَّه خبر واحد، فلا يجوز نسخ القرآن به، فإن قيل: بأنه، وإن كان
241
خبر واحد، إلاَّ أن الأمَّة تلقَّته بالقبول، فالتحق بالمتواتر.
فالجواب: سلَّمنا أن الأمَّة تلقَّته بالقبول، لكن على وجه الظَّنِّ، أو على وجه القطع؟ فإن كان على وجه الظَّنِّ، فمسلَّم إلاَّ أن ذلك يكون إجماعاً منهم على انه خبر واحد، فلا يجوز نسخ القرآن به، وإن كان على وجه القطع فممنوع؛ لأنهم لو قطعوا بصحَّته، مع أنه من باب الآحاد، لكانوا قد أجمعوا على الخطأ، وإنه غير جائزٍ.
وقال آخرون: إنها نسخت بالإجماع، والإجماع يجوز أن ينسخ به القرآن؛ لأن الإجماع يدلُّ على أن الدَّليل النَّاسخ كان موجوداً إلاَّ أنهم اكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدَّليل، ولقائل أن يقول: لمَّا ثبت أن في الأمة من أنكر وقوع هذا النسخ؛ فحينئذٍ: لم يثبت الإجماع.
242
وقال قوم: نسخت بدليلٍ قياسٍّ، وهو أن نقول: هذه الوصية، لو كانت واجبةً، لكانت، إذا لم توجد هذه الوصيَّة، يجب ألاَّ يسقط حقُّ هؤلاء الأقربين، وقد رأيناهم سقطوا لقوله تعالى في آية المواريث ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: ١٢] فظاهره يقتضي أنه إذا لم يكن وصيَّةٌ أو دينٌ، فالمال أجمع للوارث.
ولقائل أن يقول: نسخ القرآن بالقياس غير جائزٍ.
قال القرطبيُّ: قوله تعالى «حَقًّا» أي: ثابتاً ثبوت نظرٍ، وتحصين، لا ثبوت فرضٍ ووجوبٍ؛ بدليل قوله: «عَلَى المتقين» وهذا يدل على كونه مندوباً؛ لأنه لوكان فرضاً، لكان على جميع المسلمين، فلما خصَّ الله تعالى المُتَّقِي، وهو من يخاف التَّقصير، دلَّ على أنه غير لازم لغيره.

فصل «في حقِّ من نسخت الآية»


قال أكثر المفسرين إنها نسخت في حقِّ من يرث ومن لا يرث.
وقال بعض المفسِّرين من الفقهاء: إنَّها نسخت في حقِّ من يرث، وثابتة في حقِّ من لا يرث، وهو مذهب ابن عبَّاس والحسن، ومسروق، وطاوسٍ، والضَّحَّاك، ومسلم بن يسارٍ، والعلاء بن زياد.
قال طاوس: إن من أوصى للأجانب، وترك الأقارب، نزع منهم، وردَّ إلى الأقارب؛ لوجوب الوصيَّة عند هؤلاء، والباقي للقريب الذي ليس بوارث.
واستدلُّوا بأنَّ هذه الآية دالَّة على وجوب الوصيَّة للقريب، سواء كان وارثاً، أو غير وارث، ترك العمل به في حقِّ القري الوارث، إما بآية الماوريث، أو بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لاَ وَصِيَّةَ لَوَارِثٍ»، وهاهنا الإجماع غير موجود، لأن الخالف فيه قديم وحديث؛ فوجب أن تبقى الآية دالَّةً على وجوب الوصيَّة للقريب الذي ليس بوارث.
واستدلوا أيضاً بقوله - عليه السلام -: «مَا حَقُّ امْرِىءٍ مُسْلِم لَهُ مُلْكٌ يَبِيتُ لَيْلَتَيْن، إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» وقد أجمعنا على أن الوصيَّة غير واجبةً لغير الأقارب؛ فوجب أن تكون هذه الوصيَّة واجبةً للأقراب، فأمَّا الجمهور، فأجود ما استدلُّوا به على أنها منسوخة في حقِّ الكلِّ قوله: ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: ١٢] وقد ذكرنا تقريره.
243
يجوز في «مَنْ» أن تكون شرطيَّةً وموصولةً، والفاء: إمَّا واجبةٌ، إن كانت شرطاً، وإمَّا جائزةٌ، إن كانت موصولةً، والهاء في «بَدَّلَهُ» يجوز أن تعود على الوصيَّة، وإن كان
243
بلفظ المؤنَّث؛ لأنَّها في معنى المذكَّر، وهو الإيصاء؛ كقوله تعالى: ﴿فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةً﴾ [البقرة: ٢٧٥] أي وعظٌ، أو تعود على نفس الإيصاء المدلول عليه بالوصيَّة، إلاَّ أنَّ اعتبار المذكَّر في المؤنَّث قليلُ، وإن كان مجازيّاً؛ ألا ترى أنه لا فرق بين قولك: «هْنْدٌ خَرَجَتْ، والشَّمْسُ طَلَعَتْ»، ولا يجوز: «الشّمْسُ طَلَعَ» كما لا يجوز: «هِنْدٌ خَرَجَ» إلا في ضرورة.
وقيل: تعود على الأمر، اولفرض الذي أمر الله به وفرضه.
وقيل: تعود إلى معنى الوصيَّة، وهو قولٌ، أو فعلٌ، وكذلك الضَّمير في «سَمِعَهُ» والضَّمير في «إثْمُهُ» يعود على الإيصاء المبدَّل، أو التَّبديل المفهوم من قوله: «بَدَّلَهُ»، وقد راعى المعنى في قوله: ﴿عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ﴾ ؛ إذ لو جرى على نسق اللفظ الأول، لقال ﴿ُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ﴾، وقيل: الضَّمير في «بَدَّلَهُ» يعود على الكتب، أو الحَقِّ، أو المعروفِ، فهذه ستَّة أقوال، و «مَا» في قوله: «بَعْدَمَا سَمِعَهُ» يجوز أن تكون مصدريَّةً، أي: بعد سماعه، وأن تكون موصولةً بمعنى «الذي»، فالهاء في «سَمِعَهُ» على الأول تعود على ما عاد عليه الهاء في «بَدَّلَهُ» ؛ وعلى الثاني: تعود على الموصول، أي «بَعْدَ الَّذي سَمِعَهُ مِنْ أَوَامِرِ اللهِ».

فصل في بيان المبدِّل


في المبدِّل قولان:
أحدهما: انه الوصيُّ، أو الشاهد، أو سائر النَّاس
أما الوصيُّ: فبأن يغيِّر الموصى به: إمَّا في الكتابة، أو في قسمة الحقوق، وأمَّا الشاهد: فبأن يغيِّر شهادته، أو يكتمها، وأما غير الوصي والشاهد؛ فبأن يمنعوا من وصول ذلك المال إلى مستحقِّه، فهؤلاء كلُّهم داخلون تحت قوله: «فَمَنْ بَدَّلَهُ».
الثاني: أن المبدِّل هو الموصي، نهي عن تغيير الوصيَّة عن موضعها التي بيَّن الله تعالى الوصية إليها؛ وذلك أنا بيَّنَّا أنهم كانوا في الجاهليَّة يوصون للأجانب، ويتركون الأقارب في الجوع والضَّر، فأمرهم الله تعالى بالوصيَّة إلى الأقربين، ثم زجر بقوله: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ﴾ أي: من أعرض عن هذا التَّكليف، وقوله: ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، أي سَمِيعٌ لما أوصى به النموصي، عليمٌ بنيَّتهن لا تخفى عليه خافيةٌ من التَّغيير الواقع فيها.

فصل في تبديل الوصيَّة بما لا يجوز


قال القرطبيُّ: لا خلاف أنه إذا أوصبى بما لا يجوز؛ مثل: أن يوصي بخمرٍ، أو
244
خنزير، أو شيءٍ من المعاصي، فإنه لا يجوز إمضاؤه، ويجوز تبديله.
245
يجوز في «مَنْ» الوجهان الجائزان في «مَنْ» قبلها، والفاء في «فَلاَ إِثْمَ» هي جوابُ شرطٍ، أو الدَّاخلة في الخبر.
و «مِنْ مُوصٍ» يجوز فيها ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون متعلِّقة ب «خَافَ» على أنها لابتداء الغاية.
الثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حال من «جَنَفاً»، قدمت عليه؛ لأنها كانت في الأصل صفةً له، فلما تقدَّمت، نُصِبَتْ حالاً، ونظيره: «أَخَذْت مِنْ زَيْدٍ مَالاً»، إنْ شئت، علَّقت «مِنْ زَيْدٍ» ب «أَخَذْتُ»، وإن شئت، جعلته حالاً من «مالاً» ؛ لأنه صفته في الأصل.
الثالث: أن تكون لبيان جنس الجانفين، وتتعلَّق أيضاً ب «خَافَ» فعلى القولين الأولين: لا يكون الجانف من الموصين، بل غيرهم، وعلى الثالث: يكون من الموصين، وقرأ أبو بكر، وحمزة والكسائي، ويعقوب «مُوصٍّ» بتشديد الصَّاد؛ كقوله: ﴿مَا وصى بِهِ نُوحاً﴾ [الشورى: ١٣] و ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان﴾ [لقمان: ١٤] والباقون يتخفيفها، وهما لغتان؛ من «أَوْصَى»، و «وَصَّى» ؛ كما قدَّمنا، إلا أن حمزة، والكسائيَّ، وأبا بكر من جملة من قرأ ﴿ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ﴾ [البقرة: ١٣٢] ونافعاً، وابن عامرٍ يقرءان «أَوْصَى» بالهمزة، فلو لم تكن القراءة سُنَّةً متبعة لا تجوز بالرَّأي، لكان قياس قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وحفص هناك: «وَوَصَّى» بالتضعيف - أن يقرءوا هنا «مُوَصٍّ» بالتَّعيف أيضاً، وأمَّا نافع، وابن عامر، فإنهما قراءا هنا: «مُوصٍ» مخفَّفاً؛ على قياس قِراءتهما هنا: ، و «أَوْصَى» على «أَفْعَلَ» وكذلك حمزة، والكسائيُّ، وأبو بكر قراءوا: «وَوَصَّى» - هناك بالتضعيف؛ على القياس.
و «الخَوْفُ» هنا بمعنى الخشية، وهو الأصل.
فإن قيل: الخوف إنما يصحُّ في أمر سيصير، والوصيَّة وقعت، فكيف يمكن تعليقها بالخوف؟!
والجواب من وجوهٍ:
أحدها: أن المراد منه أن المصلح، إذا شاهد الموصي، يوصي، وظهر منه أمارة
245
الحيف، عن طريق الحقِّ مع ضرب من الجهالة، أو مع التأويل، أو شاهد من التَّعمُّد في الميل، فعند ظهور الأمارة تحقيق الوصيَّة، يأخذ في الإصلاح؛ لأنَّ إصلاح الأمر عند ظهور أمارات فساده، وقبل تقرير فساده يكون أسهل؛ فلذلك علَّقه - تعالى - بالخوف دون العلم.
الثاني: الموصي له الرجوع عن الوصيَّة، وفسخها، وتغييرها بالزِّيادة والنُّقصان، ما لم يمت، وإذا كان كذلك، لم يصر الجنف والإثم معلومين؛ فلذلك علَّقه بالخوف.
الثالث: يجوز أن يصلح الورثة والموصى له بعد الموت على ترك الميل والجنف، وإذا كان ذلك منتظراً، لم يكن الجنف، والإثم مستقرّاً؛ فصحَّ تعليقه بالخوف.
وقيل: [الخَوْفُ] بمعنى العلم، وهو مجازٌ، والعلاقة بينهما هو أنَّ الإنسان لا يخاف شيئاً؛ حتى يعلم أنه ممَّا يُخاف منه، فهو من باب التعبير عن السَّبب بالمسبِّب؛ ومن مجيء الخوف بمعنى العلم قوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾ [البقرة: ٢٢٩]، وقول أبي محجن الثقفيَّ: [الطويل]
٩٢٢ - أَنَّا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مِنِّي نَجَاءٌ
٩٢٣ - إذَا مُتُّ فَادْفِنِّي إلى جَنْبِ كَرْمَةٍ تُرَوِّي عِظَامِي في المَمَاتِ عُرُوقَهُا
وَلاَ تَدْفِنَنِّي في الفَلاَةِ فَإِنَّنِي أَخَافُ إذَا مَا مُتُّ أَنْ لاَ أَذُوقُهَا
فعلى هذا يكون معنى الآية الكريمة أن الميِّت إذا أخطأ في وصيَّته، أو جنف فيها متعمِّداً، فلا حرج على من علم ذلك ان غيِّره، بعد موته، قاله ابن عباس، وقتادة، والرَّبيع، وأصل «خَافَ» «خَوَفَ» تحرَّكت الواو وانفتح ما قبلها؛ فقلبت ألفاً، وأهل الكوفة يميلون هذه الألف.
و «الجَنَفُ» فيه قولان:
أحدهما: الميل؛ قال الأعشى: [الطويل]
٩٢٤ - تَجَانَفُ عَنْ حُجْرِ اليمَامَةِ نَاقِتِي وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسوَائِكَا
وقال آخر: [الوافر]
246
٩٢٥ - هُمُ المَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا وَإِنَّا مِننْ لِقَائِهِمْ لَزُورُ
قال أبو عبيدة: المولى هاهنا في موضع الموالي، أي: ابن العمِّ؛ لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ [غافر: ٦٧]، وقيل: هو الجسور.
قال القائل: [الكامل]
٩٢٦ - إنِّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أَرُومَةَ عَامِرٍ ضَيْمِي وَقَدْ جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُومُ
يقال: جَنِفَ بِكَسْر النُّون، يَجْنَفُ، بفتحها، فهو جَنِفٌ، وجَانِفٌ، وأَجْنَفَ: جاء بالجَنَفِ، ك «أَلأَمَ» أي: أتى بما يلام عليه.
والفرق بين الجنف والإثم: أن الجنف هو الميل مع الخطأ، والثم: هو العمد.

فصل في سوء الخاتمة بالمضارة في الوصيَّة


روي عن أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «إنَّ الرَّجُلَ، أو المَرْأَةَ، لَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللهِ سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَحضُرُهُمَا المَوْتَ، فَيُضَّارَّانِ في الوَصِيَّةِ؛ فتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ»، ثم قرأ أبو هريرة: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّة» إلى قوله: ﴿غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّة﴾ [النساء: ١٢].

فصل


والضمير في «بَيْنَهُمْ» عائدٌ على الموصي، والورثة، أو على الموصى لهم، أو على الورثة والموصى لهم، والظاهر عوده على الموصى لهم، إذ يدلُّ على ذلك لفظ «الموصي»، وهو نظير «وأَدَاءٌ إلَيْهِ» في أنَّ الضَّمير يعود للعافي؛ لاستلزام «عُفِيَ» له؛ ومثله ما أنشد الفراء: [الوافر]
٩٢٧ - وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضاً أُرِيدُ الخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي
فالضمير في «أيُّهما» يعود على الخير والشَّرِّ، وإن لم يجر ذلك الشَّرِّ، لدلالة ضده عليه، والضمير في «عَلَيْهِ» وفي «خَافَ» وفي «أَصْلَحَ» يعود على «مَنْ».

فصل في بيان المراد من المصلح


هذا المصلح [من هو؟] الظاهر أنه الوصي، وقد يدل تحته الشاهد، وقد يكون
247
المراد منه من يتولَّى ذلك بعد موته؛ من والٍ، أو وليٍّ، أو من يأمر بمعروف، فلا وجه للتخصيص، بل الوصيُّ أو الشهد أولى بالدُّخول؛ لأن تعلقهم أشدُّ، وكيفيَّة الإصلاح أن يزيل ما وقع فيه الجنف، ويردَّ كلَّ حَقٍّ إلى مستحقه.
قال القُرْطُبِيُّ: الخطاب في قوله: ﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ﴾ لجميع المسلمين، أي: إن خفتم من موص جنفاً، أي: ميلاً في الوصيَّة، وعدولاً عن الحقِّ، ووقوعاً في إثم، ولم يخرجها بالمعروف بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته، أو لولد ابنته؛ لينصرف المال إلى ابنته [أو إلى ابن ابنه، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنِهِ، أو أوصى لبعيدٍ]، وترك القريب؛ فبادروا إلى السَّعي في الإصلاح بينهم، فإذا وقع الصُّلح، سقط الإثم عن المصلح، والإصلاح فرض على الكفاية، إذا قام أحدهم به، سقط عن الباقين، وإن لم يفعلوا، أثم الكل.
فإن قيل: هذا الإصلاح طاعةٌ عظيمةٌ، ويستحقُّ الثَّواب عليه، فكيف عبَّر عنه بقوله: ﴿فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ ؟
فالجواب: من وجوه:
أحدها: أنه تعالى، لما ذكر إثم المبدِّل في أوَّل الآية وهذا أيضاً من التَّبديل، بيَّن مخالفته للأوَّل، وأنه لا إثم عيه؛ لأنَّه ردَّ الوصيَّة إلى العدل.
وثانيها: أنه إذا أنقص الوصايا، فذلك يصعب على الموصى لهم، ويوهم أن فيه إثماً، فأزال ذلك الوهم، فقال: ﴿فَلاَ إِثْمَ عَلَيَهِ﴾.
وثالثها: أن مخالفة الموصي في وصيَّته، وصرفها عمن أحبَّ إلى من كره؛ فإن ذلك يوهم القبح فبيَّن تعالى أن ذلك حسنٌ؛ بقوله: ﴿فَلاَ إِثْمَ عَلَيَهِ﴾.
ورابعها: أن الإصلاح بين جماعةٍ يحتاج إلى إكثارٍ من القول، ويخاف أن يتخلَّله بعض ما لا ينبغي من القول والفعل؛ فبيَّن تعالى أنَّه لا ثم عليه في هذا الجنس، إذا كان قصده في الإصلاح جميلاً.
فإن قيل: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ إنما يليق بمن فعل فعلاً لا يجوز، وهذا الإصلاح من جملة الطَّاعات، فكيف يليق به هذا الكلام؟
فالجواب من وجوه:
أحدهما: ان هذا من باب التَّنبيه بالأدنى على الأعلى، فكأنه قال: انا الذي أغفر للذُّنوب، ثم أرحم المذنب؛ فبأن اوصل رحمتي وثوابي إليك، مع أنك تحمَّلت المحن الكثيرة في إصلاح هذا المهمِّ كان أولى.
248
وثانيها: يحتمل أن يكون المراد: أن ذلك الموصي الذي أقدم على الجنف والإثم، متى أصلحت وصيَّته؛ فإن الله غفور رحيم يغفر له، ويرحمه بفضله.
وثالثها: أن المصلح، ربما احتاج في الإصلاح إلى أفعال وأقوال، كان الأولى تركها، فإذا علم الله تعالى منه أنَّه ليس غرضه إلا الإصلاح، فإنه لا يؤاخذه بها؛ لأنه غفور رحيم.

فصل في أفضلية الصدقة حال الصحة


قال القرطبيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والصَّدقة في حال الصِّحَّة أفضل منها عند الموت؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقد سئل: أيُّ الصدقة أفضل؟ فقال: «أن تَصَّدَّقَ، وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ»
، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لأنْ يَتَصَدَّقَ المَرْءُ في حَيَاتِهِ بِدِرْهِم خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِمَائَةٍ» وقال - عليه السلام -: «مَثَلُ الَّذِي يُنْفِقُ، وَيَتَصَدَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ مَثَلُ الَّذِي يُهْدِي بَعْدَ مَا يَشْبَعُ»

فصل


ومن لم يضر في وصيته، كانت كفارة لما ترك من زكاته؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: " من حضرته الوفاة، فأوصى، فكانت وصيته على كتاب الله؛ كانت كفارة لما ترك من زكاته ".
249
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «الإِضْرَارُ في الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبَائِرِ» وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ أو المَرْأَةَ بِطَاعَةِ اللهِ سِتِّينَ سَنَةً، ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا المَوْتُ، فيُضارَّان في الوَصِيَّةِ، فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ» وروى عمران بن حصين، أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فغضب من ذلك، وقال: لقد هممت ألاَّ أصلي عليه [ثم دعى مملوكيه]، فجَزَّأهم ثلاثاً، وأقرع بينهم، وأعتق اثنين، وأرقَّ أربعة.
250
«الصِّيَام» : مفعولٌ لم يسمَّ فاعله، وقدَّم عليه هذه الفضلة، وإن كان الأصل تأخيرها عنه؛ لأن البداءة بذكر المكتوب عليه آكد من ذكر المكتوب لتعلُّق الكتب بمن يؤدي، والصِّيام مصدر صام يصوم صوماً، والأصل: «صِوَاماً»، فأبدلت الواو ياء، والصَّوم مصدر أيضاً، وهذان البناءان - أعني: فعل وفعال - كثيران في كلِّ فعل واويِّ العين صحيح اللام، وقد جاء منه شيءٌ قليلٌ على فعولٌ؛ قالوا: «غَارَ غُوُوراً»، وإنما استكرهوه؛ لاجتماع الواوين، ولذلك همزه بعضهم، فقال: «الغُئُور».
قال أبو العباس المقرئ: وقد ورد في القرآن «كَتَبَ» بإزاء أربعة معانٍ:
الأول: بمعنى فرض؛ قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام}، أي: فُرِضَ.
الثاني: بمعنى قضى؛ قال تعالى: ﴿كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي﴾ [المجادلة: ٢١]، ومثله: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا﴾ [التوبة: ٥١].
الثالثُ: بمعنى جَعَل؛ قال تعالى: ﴿ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٢١]، أي: جعَلَ لكم، ومثله: ﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان﴾ [المجادلة: ٢٢] أي: جعل.
الرابع: بمعنى أمر؛ قال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس﴾ [المائدة: ٤٥]، أي: أمرناهم.
والصيام لغةً: الإمساك عن الشيء مطلقاً، ومنه صامت الرَِّيح: أمسكت عن
250
الهبوب، والفرس: أمسكت عن العدو؛ قال: [البسيط]
٩٢٨ - وخَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ العَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا
وقال تعالى: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن﴾ [مريم: ٢٦]، أي: سكوتاً؛ لقوله: ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً﴾ [مريم: ٢٦] وصام النهار، اشتدَّ حرُّه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
٩٢٩ - فَدَعْهَا وَسَلِّ الهَمَّ عَنْهَا بِجَسْرَةٍ ذَمُولٍ إذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا
وقال: [الرجز]
٩٣٠ - حَتَّى إذَا صَامَ النَّهَارُ وَاعْتَدَلْ وَمَالَ لِلشِّمْسِ لُعَابٌ فَنَزَلْ
كأنهم توهَّموا ذلك الوقت إمساك الشمس عن المسير، ومصام النُّجوم: إمساكها عن السَّير؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
٩٣١ - كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ في مَصَامِهَا بَأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إلى صُمَّ جَنْدَلِ
قال الراجز: [الرجز]
٩٣٢ - وَالبَكَرَاتُ شَرُّهُنَّ الصَّائِمَهْ... وفي الشَّريعة: هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطرات؛ حال العلم بكونه صائماً، [مع اقترانه بالنِّيَّة].
قوله: «كَمَا كُتِبَ» فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن محلّها النصب على نعت مصدر محذوف، أي: كتب كتباً؛ مثل ما كتب.
الثاني: أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة، أي: كتب عليكم الصِّيام الكَتْبَ مشبهاً ما كتب، و «ما» على هذين الوجهين مصدريةٌ.
الثالث: أن يكون نعتاً لمصدر من لفظ الصيام، أي: صوماً مثل ما كتب، ف «ما» على هذا الوجه بمعنى «الذي»، أي: صوماً مماثلاً للصوم المكتوب على من قبلكم، و «صوماً» هنا مصدر مؤكِّد في المعنى؛ لأن الصِّيام بمعنى: «أنْ تَصُوموا صَوْماً» قال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللهُ -، وفيه أن المصدر المؤكِّد يوصف، وقد تقدَّم منعه عند قوله تعالى:
251
﴿بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين﴾ [البقرة: ١٨٠] قال أبو حيَّان - بعد أن حكى هذا عن ابن عطية -: وهذا فيه بعدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصَّوم بالكتابة لا يصحُّ، [هذا إن كانت «ما» مصدريَّةً، وأمَّا إن كانت موصولةً، ففيه أيضاً بعدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصَّوم بالصَّوم لا يصحُّ]، لا على تأويلٍ بعيدٍ.
الرابع: أن يكون في محل نصب على الحال من «الصِّيام» وتكون «ما» موصولةً، أي: مشبهاً الذي كتب، والعامل فيها «كُتِبَ» ؛ لأنَّه عاملٌ في صاحبها.
الخامس: أن يكون في محلِّ رفع؛ لأنه صفة للصيام، وهذا مردودٌ بأن الجارَّ والمجرور من قبيل النَّكرات، والصِّيام معرفةٌ؛ فكيف توصف المعرفة بالنكَّرة؟ وأجاب أبو البقاء عن ذلك؛ بأن الصَّيام غير معين؛ كأنَّه يعني أن «ألْ» فيه للجنس، والمعرَّف بأل الجنسيَّة عندهم قريبٌ من النَّكرة؛ ولذلك جاز أن يعتبر لفظه مرَّةً، ومعناه أخرى؛ قالوا «أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الحُمْرُ والدِرْهَمُ البِيضُ»، ومنه:
٩٣٣ - وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لاَ يَعْنِينِي
﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار﴾ [يس: ٣٧] وقد تقدّم الكلام على مثل قوله: ﴿والذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] كيف وصل الموصول بهذا؛ والجواب عنه في قوله: ﴿خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ٢١]

فصل في المراد بالتشبيه في الآية


في هذا التشبيه قولان:
أحدهما: أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم، يعني: هذه العبادة كانت مكتوبةً على الأنبياء والأمم من ولد آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى عهدكم لم تخل أمَّةٌ من وجوبها عليهم.
وفائدة هذا الكلام: أنَّ الشَّيء الشاقَّ إذا عمَّ، سهل عمله.
القول الثاني: أنه عائد إلى وقت الصَّوم، وإلى قدره، وذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: قال سعيد بن جبير «كَانَ صَومُ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ العَتَمَةِ إلى اللَّيْلة القَابِلَة؛ كما كان في ابتداءِ الإسْلاَمِ».
ثانيها: أن صوم رمضان كان واجباً على اليهود والنصارى، أما اليهود فإنها تركته
252
وصامت يوماً في السَّنة، زعموا أنه يوم أن غرق فيه فرعون، وكذبوا ي ذلك أيضاً؛ لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وأما النصارى، فإنهم صاموا رمضان زماناً طويلاً، فصادفوا فيه الحرَّ الشديد، فكان يشقُّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم، فاجتمع رأي علمائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السَّنة بين الشِّتاء والصِّيف، فجعلوه في الرَّبيع، وحوَّلوه إلى وقتٍ لا يتغيَّر، ثم قالوا عند التَّحويل: زيدوا فيه عشرة أيَّام كفَّارةً لما صنعوا؛ فصار أربعين يوماً، ثم إنَّ ملكاً منهم اشتكى، فجعل الله عليه، إن برىء من وجعه: أن يزيد في صومهم أسبوعاً، فبرىء، وهذا معنى قوله:
﴿اتخذوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله﴾
[التوبة: ٣١]. قاله الحسن.
وثالثها: قال مجاهدٌ: أصابهم موتان، فقالوا: زيدوا في صيامكم، فزاداو عشراً قبل وعشراً بعد.
ورابعها: قال الشعبي: إنهم أخذوا بالوثيقة، وصاموا قبل الثلاثين يوماً، وبعدها يوماً، ثم لم يزل الأخير يستسن بالقرآن الذي قبله، حتى صاروا إلى خمسين يوماً، ولهذا كُرِّه صوم يوم الشَّكِّ.
253
قال الشعبي: لو صمت السَّنة كلَّها، لأفطرت اليوم الذي يشك فيه، فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان.
وخامسها: أن وجه التَّشبيه أن يحرم الطَّعام والشَّراب والجماع بعد اليوم؛ كما كان قبل ذلك حراماً على سائر الأمم؛ لقوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧]. فإن هذا يفيد نسخ هذا الحكم، ولا دليل يدلُّ عليه إلاَّ هذا التَّشبيه، وهو قوله: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ ؛ فَوَجبَ أن يكُون هذا التَّشبيه دالاًّ على ثبوت هذا المعنى.
قال أصحاب القول الأول: إن تشبيه شيء بشيء لا يدلُّ على مشابهتهما من كلِّ الوجوه، فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصّاً برمضان، وأن يكون صومهم قدَّراً بثلاثين يوماً، ثم إنَّ مثل هذه الرِّواية منا ينفِّر من قبول الإسلام، إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك.
وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ يعني: بالصَّوم؛ لأنَّ الصَّوم وصلةٌ إلى التَّقوى؛ لما فيه من قهر النَّفسِ، وكسر الشَّهوات، وقيل: لعلَّكم تحذرون عن الشَّهوات من الأكل، والشُّرب، والجماع، وقيل: «لعلَّكم تتَّقون» إهمالها، وترك المحافظة عليها، بسبب عظم درجتها، وقيل: لعلَّكم تكونون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين، لأن الصوم شعارهم.
254
في نصب أيَّاماً أربعة أوجه:
أظهرها: أنَّهُ مَنصُوب بعاملٍ مقدَّرٍ يدُلُّ عليه سياقُ الكلام، تقديره صُومُوا أيَّاماً الخُرُوجَ يَوْمَ الجُمُعَةِ «، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأَنَّهُ يَلْزَمُ الفصل بيْن المصدر ومعمُوله بأجنبيٍّ، وهو قوله» كَمَا كُتبَ «؛ لأَنَّه ليس معمولاً للمصدر على أيِّ تقديره قدَّرته.
فإن قيل: يُجعلَ»
كَمَا كُتِبَ «صفةً للصّيام، وذلك على رأي من يجيزُ وصف المعرَّف» بأَل «الجنسيَّة بما يجرى مجرَى النَّكرة، فلا يكُونُ أجنبيّاً.
قيل: يلزمُ مِنْ ذلك وصفُ المصدر قَبل ذكر معموله، وهو ممتنعٌ.
254
الثالث: أنه منصوبٌ بالصِّيامِ على أنْ تقدَّر الكافُ نعتاً لمصدر من الصِّيام؛ كما قد قال به بعضُهُمْ، وإن كان ضعيفاً؛ فيكون التَّقدير:» الصِّيَامُ صَوْمَاً؛ كَمَا كُتِبَ «؛ فجاز أن يعمل في» أَيَّاماً «» الصِّيَامُ «؛ لأنه إذْ ذاك عاملٌ في» صوماً «الذي هو موصوفٌ ب» كمَ كُتِبَ «، فلا يقع الفصلُ بينهما بأجنبيٍّ، بل بمعمول المصدر.
الرابع: أن ينتصب ب»
كُتِبَ «إِمَّا على الظَّرف، وإمَّا على المَفعُول به تَوَسُّعاً، وإليه نحا الفرَّاء، وتبعه على ذلك أبو البَقَاء.
قال أبو حيَّان: وكلا القَولين خطأٌ: أَمَّا النَّصب على الظرفيَّة، فإِنَّهُ محلٌّ للفعلِ، والكِتابة لَيْسَت واقعةً في الأيَّام، لكنَّ متعلَّقها هو الواقع في الأَيّام، وأَمَّا [النَّصب على المفعول اتساعاً، فإِنَّ ذلك مبنيٌّ على كونه ظرفاً ل»
كُتِبَ «، وقد تقدَّم أَنَّهُ خطأٌ، وقيل: نصبٌ على] التَّفسير.
و»
مَعْدُدَاتٍ «صفةٌ، وجمعُ صفةِ ما لا يعقل بالألف والتَّاء مطَّردٌ؛ نحو هذا، وقوله: ﴿جِبَالٌ راسِيَاتٌ﴾، و ﴿أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: ٢٨].

فصل في اختلافهم في المراد بالأيَّام


اختلفوا في هذه الأيام على قولين:
أحدهما: أنها غير رمضان، قاله معاذ، وقتادة، وعطاء، ورواه عن ابن عبَّاس، ثم اختلفَ هؤلاءِ: فقيل ثلاثة أيَّامٍ من كلِّ شهر، وصوم يوم عاشُوراء، قاله قتادة، ثُمَّ اختلفوا أيضاً: هل كان تَطوعاً أو مَرضاً، واتفقُوا على أنَّه منسوخٌ برمضان.
واحتجُّ القائلُونَ بأنَّ المراد بهذه الأيَّام غيرُ رمضانَ بوجوه:
أحدها: قوله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:»
إِنَّ صَوْمَ رَمَضَان نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ «فدلّ هذا على أنَّ قبل رمضان كاصوماً آخر واجباً.
وثانيها: أنَّه تعالى ذكر حُكم المريض والمُسافر في هذه الآية، ثم ذكر حكمها أيضاً في الآيَة الَّتي بعدها الدالَّة على صوم رمضان، فلو كان هذا الصَّوم هو صومَ رمضان، لكان ذلك تكريراً محضاً مِنْ غير فائدة، وهو لا يجوز.
وثالثها: قوله تعالى هنا ﴿وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ [البقرة: ١٨٤] تدلُّ على أنَّ
255
هذا واجبٌ على التخيير، إن شاء صام، وَإِنْ شاء أعطى الفدية، وأَما صوم رمضان، فواجبٌ على العيين؛ فوجبَ أن يكون صَومُ هذه الأيام غير صوم رمضان.
القول الثاني وهو اختيارُ المحقِّقين، وبه قال ابنُ عبَّاس، والحسن، وأبو مُسلم أن المراد بهذه الأيَّام المعدُواتِ هو صومُ رمضان، لأَنَّهُ قال في أوَّل الآية الكريمة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ وهذا محتملٌ ليوم ويومين، وأيَّام، ثم بينه بقوله: ﴿أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ﴾ فزال بعضً الاحتمال، ثم بَيَّنه بقوله: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن﴾ [البقرة: ١٨٥] فعلى هذا التَّرتيب يمكنُ أَنْ نجعل الأيَّام المعدوداتٍ بعينها صومَ رمضان، وإذا أمكن ذلك، فلا وجه لحمله على غيره وإثبات النَّسخ فيه؛ لأنَّ كل ذلك زيادةٌ لا يدلُّ عليها اللَّفظُ، وأَمَّا تمسُّكهم بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - «صَوْمُ رَمَضَانَ نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ»، فليس فيه أَنَّه نَسَخَ عنه، وعن أُمَّته كلَّ صوْمٍ، بل يجوز أَنَّه نَسَخَ كلَّ صوم وجَبَ في الشّرائع المتقدِّمة؛ فكما يصحُّ أن يكون بعض شرعه ناسخاً للبعض، فيجوز أن يكون شَرْعهُ ناسخاً لشَرع غيره.
سلَّمنا أَنَّ صومَ رمضان نسخ صوماً ثبت في شرعه، فلِمَ لا يجوز أن يكونَ نسخ صوماً وجب غَيْرَ هذه الأيام.
وأمَّا تمسُّكُهم بحكم المريضِ والمُسَافر وتكَرُّرِه فجوابُه: أَنَّ صوم رمضان كان في ابتداءِ الإسلام غير واجِبٍ، وكان التَّخيير فيه ثابتاً بين الصِّيام والفدية، لَّما رُخصَ للمسَافر الفطرُ، كان من الجائز أَنْ يصير الواجبُ عليه افدية، ويجوز أَنْ لا فديَة علَيْه، ولا قضاء؛ للمشقَّة. وإذا ان ذلك جائزاً، بيَّن تعالى أَنَّ إفطار المُسافِر والمريض في الحُكْم خلافُ [التخيير في المقيم؛ فإِنَّهُ يجبُ عليهما القَضَاء من عدَّةِ أيَّام أُخر، فلما نَسَخَ اللهُ تعالى ذلك التَّخييرَ عن] المقيم الصَّحيحِ، وأَلْزَمَهُ الصَّومَ حتماً، كان من الجائزِ أَنْ يظن أنَّ حكم الصَّوم، كمَّا انتقلَ عن التخيير إلى التَّضييق في حَقِّ المقيم الصَّحيح أن يتغيَّر حكمُ المريضِ والمسافر عن حكم الصَّحيح، كما كان قبل النَّسْخِ، فبيَّن تعالى في الآية الثَّانية: أنَّ حال المريض والمُسافر كحالها الأُولى لم يتغيَّر بالنَّسخ في حق المقيم الصَّحيح، فهذه هي الفائدةُ في الإعادة، وإنَّمَا تمسُّكُهم بأنَّ صَوْمَ هذه الأيَّام على التَّخير وصومَ رمضانَ واجِبٌ على التَّعيين، فتقدَّم جوابهُ من أَنَّ رمضان كان واجِباً مخيَّراً، ثم صَارَ مُعَّيناً، وعلى كِلا القَوْلَين، فلا بُدَّ من تَطَرُّق النسخ إلى الأيَّام أمَّا على القول الأوَّل فظاهر، وأما على الثاني: فلأَنَّ هذه الآية تقتضي أن يكون صَوم رمضان واجباً مخيَّراً، والآية الكريمة التي بعدها تدُلُّ على التَّضييق؛ فكانت ناسخة للأولى.
فإن قيل: كَيْفَ يصحُّ أنْ يكونَ قوله: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥]
256
ناسخاً للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ وذلك لا يصحُّ.
والجواب: أنَّ الاتِّصال في التَّلاوة لا يوجب الاتِّصال في النُّزول؛ وهذا كما قيل في عدَّة المتوفَّى عنها زوجها؛ أنّ الْمقدَّم في التلاوة هو النَّاسخُ والمَنْسُخ متأَخِّر، وهذا عكسُ ما يجبُ أن يكُونَ عليه حالُ النَّاسخ والمَنْسوخ، فقالُوا: إنَّ ذلك في التِّلاوة، أمَّا في الإنزال، فكان الاعتِدادُ بالحَولِ هو المتقدِّمَ، والآية الدَّالَّةُ على أربعة أشْهرٍ وعَشْرٍ هي المُتأخِّرَة، وكذلك في القُرآن آيات كثيرةٌ مكِّيِّةٌ متأخِّرة في التَّلاوة عن الآياتِ المدنيَّة، والله أعْلَمْ.

فصل في أول ما نسخ بعد الهجرة


قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - أوَّلُ ما نُسخ بعد الهجرة أَمْرُ القِبلة والصَّوْم، ويقالُ نزل صَوْمُ شهر رمضان قَبْل بَدرٍ بشهرٍ وأيام، وعن عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْها - قالت: كان يَوْمُ عاشُورَاء تصومُهُ قُرَيش في الجاهلِيَّة، وكان رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَصُومُهُ في الجَاهِليَّة فلمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - المدِينَةَ، صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانَ كَانَ هُوَ الفريضة، وتُرِكَ يَوْمُ عاشُوراء، فَمنْ شَاءَ صاَمَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ.

فصل في المراد بقوله «مَعْدُودات»


في قوله تعالى: «مَعْدودَاتٍ» وجهانِ:
أحدهما: أنها مُقّدَّراتٌ بِعَدَدٍ مَعْلُومٍ.
والثاني: قَلائِل؛ كقوله تعالى: ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ [يوسف: ٢٠].
وقوله: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾.
فالمرادُ أَنَّ فَرْضَ الصَّوم في الأَيَّامِ المعْدُودَاتِ، إنما يَلْزَمُ الأصِحَّاءَ المُقيمينَ، فأَمَّا مَنْ كَان مُسَافراً، أو مريضاً، فله تأخير الصَّومِ عنْ هذه الأيَّام إلى أيَّامٍ أُخَرَ.
قال القفَّالُ رَحِمَهُ اللهُ: انْظُرُوا إلى عجيب ما نبَّهَ اللهُ تعالى مِنْ سعة فضلِهِ وَرَحمتِهِ في هذا التَّكليف، وأَنَّهُ تعالى بَيَّنَ فِي أوَّلِ الآيَةِ أن لهذه الأُمَّةِ في هذا التكليف أَسْوَةً بالأُمَمِ المُتقدِّمةِ، والغَرضُ منهُ ما ذكرناهُ مِنْ أَنَّ الأمر الشَّاقَّ، إذ عَمَّ خفَّ، ثم بَيَّن ثانياً وجه الحكمة في إيجابِ الصَّوم، وهو أَنَّهُ سببٌ لحُصُول التَّقوَى، ثُمَّ بَيَّنَ ثالثاً: أنَّهُ
257
مُخْتصُّ بأيَّامٍ معدوداتٍ، فلو جعلهُ أبداً، أو في أكثر الأوقات، لَحَصَلتِ المشَقَّةُ العظيمة، ثُمَّ بيَّن رابعاً: أنه خَصَّهُ من الأوقات بالشَّهر الذي أُنزل فيه القرآن؛ لكونه أَشرَف الشُّهُور؛ بسبب هذه الفَضيلةِ؛ ثم بيَّ خامِساً: إزالة المشقَّة في إلزَامه، فَأَباح تأخيره لِمَنْ به مَرَضٌ، أو سَفَرٌ غلى أن يصيرَ إلى الرَّفاهية والسُّكُون، فراعى سبحانه وتعالى في إيجاب هذا الصَّوم هذه الوجوه من الرحمة، فله الحمدُ على نعمه.
قوله: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً﴾ : فيه معنَى الشَّرْط والجَزاءِ، أي: مَنْ يَكُنْ مرِيضاً، أو مُسَافراً، فَأَفْطَر، فَلْيَقْضِ، إذا قَدَّرْتَ فيه الشَّرط، كَانَ المرادُ بقوله: كَانَ الاسْتِقبَالُ لاَ الماضي؛ كما تقولُ: مَنْ أَتَانِي، أَتَيْتُهُ.
قوله: ﴿أَوْ على سَفَرٍ﴾ في مَحَلِّ نَصبٍ؛ عطفاً على خبر كان، و «أوْ» هُنَا للتَّنويع، وعَدَل عن اسمِ الفاعِل، فَلَمْ يَقْل: أَوْ مُسَافِراً، إشعارً بالاسْتِعلاء على السَّفر، لِما فيه مِنَ الاختيار للسفر؛ بخلافِ المرض، فإنه قَهْرِيٌّ،

فصل في المرض المبيح للفطر


اختلفُوا في المَرَضِ المُبيح للفطر؛ فقال الحَسَنُ، وابنُ سيرين: أيُّ مَرَضٍ كان، وأيُّ سَفَرٍ كان؛ تنزيلاً لِلَّفظ المطلق على أقلِّ الأحوال، وروي أنَّهم دخَلُوا على ابن سيرين في رمَضَان، وهو يأْكُلُ فاعتلَّ بِوَجَعِ أُصْبعِهِ، وقال الأصمُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: هذه الرخصةُ مختصَّةٌ بالمرضِ الَّذي لو صَامَ فيه، لَوقَع في مشقَّة، ونزَّل اللَّفظ المُطلق على أكْملِ أحوالِه.
وقال أكثَرُ الفقهاءِ: المرضُ المبيحُ للفطر الَّذي يؤدِّي إلى ضررٍ في النفسِ، أو زيادةِ في العلَّة.
قالوا: وكيفَ يمكنُ أنْ يقالَ: كُلُّ مرضٍ مرخِّصٌ، مع علمنا أنَّ في الأَمْرَاض ما ينقصه الصَّوم.
258

فصل في أصل السَّفر واشتقاقه


أصلُ السَّفر من الكَشف، وذلك أنه يَكشفُ عن أحوال الرِّجال وأخلاقهم،
259
والمِسفرة: المِكْنَسَة؛ لأنَّها تكشِفُ التُّراب عن الأَرْض، والسَّفير: الدَّاخل بين اثْنَيْن للصلح؛ لأنَّه يكشِفُ الَّذي اتَّصل بهما، والمُسْفِر المُضِيء؛ لأنه قد انْكَشَف وظَهَر، ومنه: أَسْفَر الصُّبح، والسِّفر: الكتَابُ؛ لأنه يكشِف عن المعاني ببيانهِ. وسَفَرتِ المرأَةُ عن وجهها، إذا كشَفَت النقابِ.
قال الأزهري: وسُمِّي المسافرُ مُسِافراً؛ لكشف قناع الكنِّ عن وجهه، وبُرُوزه إلى الأرضِ الفَضَاءِ، وسُمِّي السَّفَر سَفَراً أيضاً؛ لأنَّه يسفر عن وجُوه المُسَافرين، وأخْلاَقهم، ويظهر ما كان خافياً منهُم، والله أعْلَم.

فصل في السفر المبيح للقصر والفطر


اختلفُوا في السَّفر المُبيح للقَصر والفِطْر بعد إِجماعهم على سَفَر الطَّاعة؛ كالحَجِّ والجهاد، ويتصلُ بهذين سفرُ صلةِ الرَّحِمِ، وطَلَبِ المعاشِ الضروريِّ، وأمَّا سَفَر التجاراتِ والمُبَاحات، فمختلَفٌ فيه، والأرجح الجوازُ، وأمَّا سَفَر المعاصِي؛ فمختلفٌ فيه، والمنع فيه أرجحُ.

فصل


قال القرطبيُّ: اتَّفق العلماء على أنَّ المُسَافر في رَمَضان لا يجوزُ له أنْ يُبَيِّتَ الفِطْر؛ لأنَّ المُسَافِرَ لا يكُونُ مُسَافراً بالنِّيَةِ؛ بخلاف المقيم، وإِنما يكونُ مسافراً العَمَل، والنُّهُوض، والمقيمُ لا يفتقر إِلى عَمَل؛ لأنه إذا نوى الإقامة، كان مقيماً في الحين؛ لأن الإقامة لا تفتقر إلى عَمَلٍ، فافترقا.

فصل في قدر السَّفر المبيح للرُّخص


اختلفُوا في قَدر السَّفر المُبيح للرُّخص، فقال داود: كُلُّ سفر، ولو كان فَرْسَخاً، وتخصيص عمومِ القرآن بخَبَر الواحِدِ غيرُ جائزٌ.
260
وقال الأوزاعيُّ: السَّفر المبيحُ للفِطر هو مسافةٌ القصر، ومذهبُ الشافعيِّ ومالكٍ،
261
وأحمد، وإسحاق؛ أنه مقدَّرٌ بستة عَشَرَ فرسخاً، وهي أربعةُ بُرُدٍ كلُّ فرسخٍ ثلاثة أَمْيالٍ
262
بأَمْيَال هاشم جَدِّ الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو الَّذي قدَّر أميال البادية كُلُّ ميلٍ اثْنَا عَشَر ألفَ قَدَمٍ، وهي أربعة آلافٍ خطوةٍ، كلُّ خَطوَةٍ ثلاثةُ أقدَام.
وقال أبُو حَنِيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - والثوريُّ: مَسَافَةُ القَصْرِ ثلاثة أيامٍ.
قوله ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾
الجمهور على رفع «عدَّةٌ»، وفيه وجوهٌ:
أحدها: أنَّه مبتدأٌ وخبره محذوفٌ، إما قبله، تقديره: «فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ» أو بعده، أي فعدَّةٌ أَمْثَالُ به.
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، اي: فالواجبُ عدَّةٌ.
الثالث: ان يرتفع بفعل محذوفٍن أي: «تُجْزِئُهُ عِدَّةٌ».
وقرىء «فَعِدَّةٌ» ؛ نصباً محذوفاٍ، تقديره: «فَلْيَصُمْ عِدَّةً»، وكأنَّ أبا البقاء - رَحِمَهُ اللهُ - لم يَطَّلِعْ على هذه القراءةِ؛ فإنَّه قال: لو قرىء بالنَّصب، لكان مُسْتقيماً، ولا بُدَّ مِنْ حذف مضافٍ، تقديره: «فَصَوْمَ عِدَّة» وَمِنْ حذف جملة بعد الفعلية؛ ليصحَّ
263
الكلامُ، تقديره: «فَأَفْطَرَ، فَعِدَّةً» ؛ ونظيرهُ ﴿اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت﴾ [البقرة: ٦٠] وقوله ﴿اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق﴾ [الشعراء: ٦٣]، أي: «فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ».
و «عِدَّة» «فِعْلَةٌ» من العدد، بمعنى: مَعْدُودَة، كالطِّحْنِ والذِّبْح، ومنه يقال للجماعة المعدودة مِنَ النَّاس عِدَّة، وعِدَّة المرأة مِنْ هذا، ونَكَّر «عِدَّة»، ولم يقل: «فعدّتها» ؛ اتّكالاً على المعنى؛ فإنَّا بيَّنَّا أنَّ العدَّة بمعنى المعدُودة، فأمر بأن يصوم أيَّاماً معدودةً والظَّاهر: أنَّه لا يأتي إلاَّ بمثل ذلك العَدَ، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة.
و «مِنْ أَيَّام» : في مَحلِّ رفع، أو نصبٍ على حَسَب القراءتين صفة ل «عِدَّة».
قوله «أُخَر» صفةٌ ل «أيَّام» ؛ فيكون في محلِّ خفضٍ، و «أُخَرَ» على ضربَيْن.
أحدهما: جمع «أُخْرَى» تأنيث «أخَرَ» الَّذي هو أفعَلُ تَفضيل.
والثاني: جمع «أُخْرَى» بمعنى «آخِرَةِ» تأنيث «آخِرٍ» المقابل لأوَّل؛ ومنه قوله تبارك وتعالى: ﴿وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ﴾ [الأعراف: ٣٩] فالضربُ الأَوَّل لا ينصرفُ للوَصف والعَدْل، واختلفُوا في كيفيَّة العَدْل: فقال الجمهورُ: إنه عَدلٌ عن الألف واللاَّم؛ وذلك أنَّ «أُخَرَ» جمعُ «أُخْرَى»، و «أُخْرَى» تأنيث «آخَرَ» و «آخَرُ» أفعلُ تفضيلٍ لا يخْلُو عن أحدِ ثلاثةِ استعمالاتٍ.
إما مع «ألْ» وإمَّا مع «مَنْ»، وإما مع «الإضَافَةِ»، لكن مِنْ ممتنعةٌ؛ لأن معها يلزمُ الإفرادُ والتذكير والإضافة في اللفظِ؛ فقدَّرنا عدلَهُ عن الأَلِفِ واللاَّم، وهذا كما قالُوا في «سَحَرَ» إنَّه عدلٌ عن الألِفِ واللام، إِلاَّ أنَّ هذا مع العلميَّة، ومذهَبُ سيبويه: أنه عدل من صيغة إلى صيغةٍ؛ لأنه كان حقُّ الكلام في قولك: «مَرَرْتُ بِنِسْوَةِ أَخَرَ» على وزن «فُعَلَ» أنْ يكون «بنِسْوَةٍ آخَرَ» على وزن «أَفْعَلَ» ؛ لأن المعنى على تقدي «مِنْ» فعُدِل عن المفرد إلى الجمع.
وأمَّا الضربُ الثَّاني: فهو منصرفٌ؛ لِفُقْدَانِ العلَّة المذكورة، والفرقُ بين «أُخْرَى» التي للتفضيلِ، و «أُخْرَى» التي بمعنى متأخِّرة - أنَّ معنى الَّتي للتفضيل معنى «غَيْرَ»، ومعنى تِيكَ معنى «متأخِّرة» ؛ ولكونِ الأُولى بمعنى «غَيْر» لا يجوز أن يكونَ ما اتَّصلَ بها إلاَّ [منْ جنس ما قبلها؛ نحو: «مررتُ بِكَ، وبرَجُلٍ آخر» ولا يجوز «اشْتَرَيْتُ هَذَا الجَمَلَ وَفَرَساً آخَرَ» ؛ لأنه من] غير الجنْسِ، فأما قوله في ذلك البيت: [البسط]
٩٣٤ - صَلَّى عَلَى عَزَّةَ الرَّحْمنُ وَابْنَتِهَا لَيْلَى وَصَلَّى عَلَى جَارَاتِها الأُخَرِ
فإنَّه جعل ابنتها جارة لها، ولولا ذلك، لَمْ يَجُزْ، ومعنَى التفضيل في «آخر» و «أَوَّل»، وما تصرَّف منها قلِقٌ مذكورٌ في كُتُب النَّحْو، وإنَّما وصفت الأيّام ب «أُخَرَ»
264
مِنْ حيثُ إنَّها جمعٌ ما لا يعقلُ، وجَمْعُ ما لا يعقلُ يجوز أنْ يُعَامَلُ معاملةً الواحدة المؤنَّثة، ومعاملةَ جمع الإنَاثِ، فمن الأول ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى﴾ [طه: ١٨] وفي الثاني هذه الآية اكريمة، ونظائرها، فإنما أوثر هنا معاملتُهُ معاملةَ الجمع؛ لأنه لو جيء به مُفْرَداً، فقيل: ﴿عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامُ أُخْرَى﴾ لأهم أنَّه وصف فيفوت المقصُود.

فصل


ذهب بعضُ العلماء - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - إلى أنَّه يجبُ على المريض والمُسَافر: أن يُفْطِرا أوْ يصُوما عدَّة أَيامٍ أَخَرَ وهو قولُ ابن عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - وابن عمر، ونقل الخَطَّابيُّ في «أَعْلاَم التَّنزيل» عن ابنِ عمر، أنَّه قال: «إنْ صَامَ في السَّفِرِ، قَضَى في الحَضَرِ» وهذا اختيار داود بنِ عليٍّ الأصفهانيِّ، وأكثر الفقهاءِ على أنَّ هذا الإفطار رخصةٌ، فإنْ شاء أفْطَر، وإن شاء صام.
حُجَّةُ الأوَّلين ما تقدَّم من القراءتين أنَّا إن قرأنا «عِدَّةً»، فالتقديرُ: «فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» والأمر للوجوب، وأنا إن قرأنا بالرَّفع، فالتقديرُ: «فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ» وكلمة «عَلَى» للوجوب، وإذا كان ظاهرُ القُرآن الكريم يقتضي إيجابَ صَوْم أيامٍ أُخَرَ، فوجب أَنْ يكُونَ فطرُ هذه الأيامِ واجباً؛ ضرورةَ أنَّ لا قائل بالجمع.
وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» ولا يقالُ: هذا الخَبَر ورد على سَبَبٍ خاصٍّ، وهو أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ، جَلسَ تحت مِظلَّةٍ، فَسَأَلَ عَنهُ، فقالُوا: هذا صائِمٌ أجْهَدَهُ العطَشُ، فَقال: «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»، فإنا نقولُ: العِبرة بعُمُوم اللَّفظ لا بخُصُوص السَّبَبِ، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «الصَّائِمُ في السَّفر كالمُفطِرِ في الحَضَرِ»
وحجَّة الجمهور: أنَّ في هذه الآية إضماراً؛ لأنَّ التَّقدير: «فأَفْطَرَ فعدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» والإضمارُ في كلام الله تعالى جائزٌ؛ كما في قول الله تعالى: ﴿اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت﴾ [البقرة: ٦٠]، أي: «فَضَرَبَ، فَانْفَجَرَتْ»، وقوله
﴿اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق﴾ [
265
الشعراء: ٦٣]، أي: «فَضَرَبَ فَانْفَلَقَتَ»، وقوله: ﴿وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٦] إلى قوله: ﴿أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٦]، أي: «فَحَلَقَ».
قال القفَّال - رَحِمَهُ اللهُ -: قوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] يدلُّ على وجُوُب الصَّوم.
قال ابن الخطيب: ولقِائِلٍ أنْ يقَولَ: هذا ضعيفٌ من وجهين:
الأول: أنَّا إنْ أجرينا ظاهر قوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥] على العُمُوم، لزمنا الإضمارُ في قوله: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، وإن أجرينا هذه الآيَةَ على ظاهرهان لَزمنا تخصيصُ عُمُوم قوله: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، وقد ثبت في أصُولِ الفقه أنَّه متى وقع التعارُضُ بيْن التخصيص، وبيْن الإضمار، كان الحملُ على التَّخصيص أَولى.
الثَّاني: أنَّ ظاهر قَوله تعالى: «فَلْيَصُمْهُ» يقتضي الوُجوب عَيْناً، وهذا الوُجُوب منتفٍ في حقِّ المريضِ والمُسافر، فالآيةُ مخصوصةٌ في حقِّهما على كلِّ تقدير، سواءٌ أجرَينا قولَهُ تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ على ظاهره أَوْ لاَ، وإذا كان كذلك، وجب إجراء هذه الآية على ظاهِرِهَا مِنْ غير إضمارٍ.
الوجه الثاني: ذكره الواحدي في «البَسِيطِ» قال: وقَال القاضي: إنَّما يجبُ القَضَاء بالإفْطَار، لا بالمَرَض والسَّفر، فلمَا أوجب اللهُ القَضَاءَ، والقَضَاءُ مسَبوقٌ بالفطْر، دَلَّ على أنَّه لا بُدَّ مِنْ إضمارِ الإفطار.
قال ابنُ الخطيب وهذا ساقط؛ لأنه لم يَقُل: فعلَيَهِ قضاءُ ما مَضَى، بل قال: «فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ»، وإيجابُ الصَّوم عليه في أيَّامٍ أُخَرَ لا يستَدعي أن يكون مَسبُوقاً بالإفطار.
الوجه الثالث: رَوَى أبو داود عن هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة: أن حمزة الأسلميَّ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَال: يا رَسُولَ اللهِ، هَل أَصُوم في السَّفر؟ قال «إِنْ شِئْتَ صُمْ، وإنْ شِئْتَ فَأفْطِرْ»
266
ولقائل أنْ يقول: هذا يقتضي نَسْخَ القُرآن بخبر الواحد؛ لأن ظاهر القُرآن يقتضي وجُوبَ الصَّوم، فرفعُ هذا الحُكم بهذا الخَبر غيرُ جائِز، وإذا ضُعِّفَتْ هذه الوجوه، فالاعتماد على قوله تعالى: ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ ؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى.

فصل في هل صوم المسافر أفضل أم فطره


اختلفُوا هَل الصَّوم للمُسافرِ أفْضَلُ أمِ الفِطر؟
فقال أنسُ بنُ مالك، وعثمان بنُ أبي أوفى: الصَّوم أفضلُ، وبه قال الشافعيُّ، وأبو حنيفة، ومالكٌ، والثوريُّ، وأبو يوسُفَ، ومحمَّد.
وقال سعيدُ بنُ المُسيَّب، والشَّعبيُّ، والاوزاعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، الفطرُ أفضلُ.
وقالت طائفةٌ: أفضل الأمرين أيسرهما على المرء. حجَّة الأوَّلين: قوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وقوله ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.
حجَّة الفرقة الثانية: قوله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إنَّ الله يحبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ؛ كما تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - «لَيْسَ من البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»
، وأيضاً: فالقَصر أفضلُ؛ فيجب أنْ يكُون الفطرُ أفضل.
وفرَّق بعضهم بين القَصر والفِطْر مِنْ وجهين:
الأوَّل: أنَّ الصَّلاة المقصُورة تبرأ الذمَّة بها، والفِطر تبقى الذِّمَّة فيه مشغُولةٌ.
الثاني: أنّ فضيلة الوقت تَفُوتُ بالفِطْرِ، ولا تَفُوت بالقَصر.
حجَّةُ الفرقة الثالثة: قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾ [البقرة: ١٨٥].

فصل في حكم ما إذا أفطر كيف يقضي؟


مذهب عليٍّ، وابن عُمر، والشَّعبيِّ: أنَّه يقضيه متتابعاً؛ لوجهين:
267
الأوَّل: قراءة أُبي «فعدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ مُتتابعاتٍ» فكذا القضاءُ.
وقال بعضهم: التَّتابع مستحبٌّ، وإن فرق، جاز؛ فيكون أمراً بصَوم أيامٍ على عدد تِلْكَ الأيَّام مطلقاً، فالتقديرُ بالتتابع مخالفٌ لهذا التَّعميم، ويُروى عن أبي عُبيدة بن الجرَّاح أنه قال: «إِنَّ الله لَمْ يُرَخِّصْ لَكُمْ في فِطرهِ، وهو يريد أنْ يشُقَّ عليكم في قَضَائِهِ؛ إنْ شئْتَ فَواتِرْ، وإنْ شِئْتَ فَفَرِّقْ»، ورُوِي أنَّ رجلاً قال للنبيَّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: عَلَيَّ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ، أَفَيُجْزيني أَنْ أقضيها مُتفرقاً فقال لهُ: «لَوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ، فَقَضَيْتَهُ الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْن، أَمَا كَانَ يُجْزِيكَ؟» فقال: نَعَمَ، قَالَ «فَاللهُ أحقُّ أَنْ يَعفُو ويصفح»
قوله «يُطِيقُونَهُ» الجمهور على «يُطِيقُونَهُ» من أطَاقَ يُطِيقُ، مثلُ أقَامَ يٌقِيمُ، وقرأ حُمَيدٌ «يُطْوِقُونَهُ» من «أَطْوَقَ» كقولِهم أَطْوَال في أطالَ، وأغْوَال في أغال، وهذا تصحيحٌ شاذٌ، ومثله في الشُّذُوذ من ضوات الواو أجودَ بمعنى أجادَ، ومن ضوات الياء أَغْيَمَتِ السَّماءُ، وأَجبَلَتْ، وأَغْيَلَت المَرْأَةُ وأَطْيَبَتْ، وقد جاء الإعلالُ في الكُلِّ، وهو القياس، ولم يقل بقياسِ نحو أَغيَمَتْ المَرْأَةُ وَأَطْيَبَتْ، وقد جاء الإعلالُ في الكُلِّ، وهو القياس، ولم يقل بقياسِ نحو أَغيَمَتْ وَأَطوَلَ إِلا أبو زَيدٍ. وقرأ ابن عبَّاسٍ وابن مَسعُودٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، ومجاهد، وعكرمةُ، وأيُّوب السَّختياني، وعطاءٌ «يُطوَّقونَهُ» مبنيّاً للمعفول من «طوَّقَ» مُضعَّفاً، على وزن «قَطَّعَ»، وقرأ عائشةُ، وابن دينارٍ: «يَطَّوَّقُونَهُ» بتشديد الطاء والواو من «أَطْوَقَ»، وأصله «تَطَوَّقَ»، فلما أُرِيدَ إدغامُ التَّاء في الطاء، قُلِبت طاء واجتلبت همزةُ الوَصل؛ ليمكن الابتداءُ بالسَّاكن، وقد تقدَّم تقرير ذلك في قوله تعالى: ﴿أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: ١٥٨] وقرأ عكرمةُ وطائفة «يَطَّيَّقُونه» بفتح الياء، وتشديد الطَّاء، والياء، وتُروى عن مجاهد أيضاً، وقرىء أيضاً هكذا لكن ببناء الفعل للمفعُول.
وقد ردَّ بعضهم هذه القراءة، وقال ابنُ عطيَّة تشديدُ الياءِ في هذه اللَّفظة ضعفٌ وإنَّما قالُوا ببُطْلان هذه؛ لأنَّها عندَهُم من ذوات الواو، وهو الطَّوق، فمِنْ أين تجيء الياء، وهذه القراءةُ لَيْسَت باطلةً، ولا ضعيفةً، ولها تخريجٌ حسنٌ، وهو أن هذه القراءة لَيستْ من «تَفَعَّلَ» ؛ حتى يلزم ما قالوه من الإشكال، وإنما هي من «تَفَيْعَل»، والأصلُ «تَطَيْوَقَ» مِنَ «الطَّوْقِ» ك «تَدَيَّرَ» و «تَحَيَّرَ» من «الدَّوَرَانِ» و «الحَوْر»، والأصل «تَدَيْوَرَ»، و «تَحَيْورَ» فاجتمعت الواوُ والياءُ، وسبَقَتْ إحداهما بالسُّكُون، فقلبت الواو ياءً، وأُدغمت الياء في الياء، فكان الأصلُ «يَتَطَيْوَقُونَهُ»، ثم أُدغم بعد القلبِ، فمن قرأ «
268
تَطَّيَّقُونَهُ» بفتح الياء بناه للفاعل، ومن ضمَّها بناه للمفعول، ويحتمل قراءة التشديد في الواو، أو الياء أن تكون للتكلُّف، أي: يَتَكَلَّفُونَ إطاقَتَهُ وذلك مجازٌ من الطَّوقِ الذي هو القلادةُ في أعْناقهم، وأبعد من زعم أنَّ «لاَ» محذوفةٌ قبل «ويطيقُونَهُ»، وأنَّ التقديرَ، لاَ يُطِيقُونَهُ، ونَظَّرَهُ بقوله: [الطويل]
٩٣٥ - فَخَالِفْ فَلاَ واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً من الأَرْضِ إِلاَّ أَنْتَ لِلذُلِّ عَارفُ
وقوله: [الكامل]
٩٣٦ - آلَيْتُ أَمْدَحُ مُغْرماً أَبَداً يَبْقَى الْمَدِيحُ ويَذْهَبُ الرِّفْدُ
وقوله: [الطويل]
٩٣٧ - فَقُلْتُ:
يَمِينَ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِداً وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالي
المعنى: لاَ تَهْبِطُ، ولاَ أَمْدَحُ، وَلاَ أَبْرَحُ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ حذفها مُلتبسٌ، وأما الأبياتُ المذكورة؛ فلدلالة القسم على النَّفي.
والهاء في «يَطِيقُونَهُ» للصَّومِ، وقيل: للفداء؛ قاله الفراء.
و «فِدْيَة» مبتدأٌ خبره في الجَارِّ والمجرور قَبْله، والجُمْهُورُ على تَنْوين «فِدْيَةٌ» ورفع «طَعَام» وتوحيد «مسكين» وهشام كذلك إلاَّ أنه قرأ «مَسَاكينَ» جمعاً، ونافعٌ وابنُ ذكوان بإضافة «فِدْيَة» إلى «مَسَاكِين» جمعاً، فالقراءة الأولى يكون «طَعَاماً» بَدَلاً من «فِدْيَةٌ» بَيَّنَ بهذا البَدَل المراد بالفدْية، وأجاز أبو البقاء - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: «هي طعامٌ»، وأما إضافة القدية للطَّعام، فمِن باب إضافة الشيء إلى جنْسِه، والمقصُود به البيانُ؛ كقولك: «خَاتَمُ حَدِيدٍ، وثَوبُ خَزٍّ، وبابُ ساجٍ» لأنَّ الفدية تكونُ طعاماً وغيره، وقال بعضهم: يجوز أنْ تكُون هذه الإضافة من باب إضافة الموصُوف إلى الصِّفة، قال: لأنَّ افِدْية لها ذاتٌ وصفَتُها أنَّها طعام، وهذا فاسِدٌ؛ لأنَّه إمَّا أن يريد ب «طَعَام» المصدرَ بمعنى لاإطعام؛ كالعطاء بمعنى الإعطاء، أو يُريدَ به المفعُول؛ وعلى كلا التَّقديرين، فلا يُوصفُ به؛ لأنَّ المصدر لا يُوصَف عند المُبالغة إلاَّ المفعُول؛ وعلى كلا التَّقديرين، فلا يُوصفُ به؛ لأنَّ المصدر لا يُوصَف عند المُبالغة إلاَّ المفعُول؛ وعلى كلا التَّقديرين، فلا يُوصفُ به؛ لأنَّ المصدر لا يُوصَف عند المُبالغة إلاَّ به وليست مُرادةً هنا، والذي بمعنى المفعولِ ليس جَارياً على فِعْلٍ، ولا ينقاسُ، لا
269
تقُول: ضِرَاب بمعنى مَضْرُوبِ، ولا قِتَال بمعنى مَقْتُولٍ، ولكونها غير جاريةٍ على فِعْلِ، لم تَعَمْلْ عَمَله، ولا تَقُولُ: «مَرَرْتُ بِرَجُلٍ طَعَامٍ خُبْزُهُ» وإذا كانَ غيرَ صفةٍ، فكيفَ يقال: أُضِيفَ المَوْصُوفُ لصفَتِهِ؟
وإنِّما أُفْرِدَت «فِدْيَةٌ» ؛ لوجهين:
أحدهما: أنَّها مصدرٌّ، والمصدرُ يُفْرَدُ، والتاء فيها ليست للمَرَّة، بل لِمُجَرَّدِ التأنيث.
والثاني: انه لَمَّا أضافَها إلى مضافٍ إلى الجمع، أفَهْمَتِ الجَمْعَ، وهذا في قراءةِ «مَسَاكين» بالجمع، ومَنْ جمع «مَسَاكِين»، فلمقابلةِ الجمع بالجمع، ومَنْ أَفْرَدَ، فعلى مراعاة إفراد العُمُوم، أي: وعلى كلِّ واحدٍ مِمَّن يُطيقُ الصَّوْم؛ لكُلِّ يوم يُفْطِرُهُ إطعامُ مسكين؛ ونظيرهُ: ﴿والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤].
وتَبَيَّن مِنْ إفراد «المِسْكِين» أنَّ الحُكم لِكلِّ يومٍ يُفْطر فيه مِسْكِينٌ، لوا يُفْهَمُ ذلك من الجَمع، والطَّعَام: المرادُ به الإِطْعَامُ، فهو مصدرٌ، ويَضْعُفُ أنْ يُراد به المفعولُ، قال أبو البقاء: «لأنَّه أضافه إلى المِسْكِين، وليْسَ الطعامُ للمسْكِين قَبْل تمليكِه إياه، فلو حُمِلَ على ذلك، لكان مجازاً؛ لأنه يصير تقديرُه: فعلَيهِ إخراجُ طعام يَصِيرُ للمَسَاكِين، فهو من باب تسمية الشيءِ بما يؤول إليه، وهو وإنْ كان جائزاً، إلا أنِّه مجازٌ، والحقيقة أَوْلى منه».
قوله: ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً﴾ قد تقدَّم نظيرهُ عنْد قوله تعالى: ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٥٨] فَلْيُلْتَفتْ إليه، والضميرُ في قوله: «فَهُوَ» ضميرُ المصدرِ المدْلُول عليه بقوله: «فَمَنْ تَطَوَّعَ»، فالتَّطُّوعُ خيرٌ له، و «لَهُ» في مَحَلِّ رفعٍ؛ لأنه صفةً ل «خَيْرٌ» ؛ فيتعلٌَُّ بمحذوف، أيْ: خَيْرٌ كَائِنٌ لَهُ.

فصل في نسخ الآية.


ذهب أكثَر العُلماء إلى أنَّ الآية منسُوخةٌ، وهو قَوْل ابن عُمَر، وسلمة بن الأكوع، وغيرهما؛ وذلك أنَّهم كانُوا في ابتداءِ الإٍلام مُخيَّرين بين أن يَصُوموا، وبين أن يُفْطِروا، ويفتدوا، خَيَّرهم الله تعالى؛ لئلاَّ يشقّ عليهم؛ لأنَّهم كانُوا لم يتعودُّوا لاصَّوم، ثم نُسِخ التَّخيير، ونزلت العزيمةُ بقوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وقال قتادة هي خاصَّة بالشَّيخ الكبير الَّذي يُطيقُ الصَّوم، ولكن يشقُّ عليه، رُخِّص له أن يُفطِر ويفيد [ثُمَّ نسخ.
وقال الحسن: هذا في المريض الَّذي به ما يقع عليه اسم المرضِ، وهو يَسْتطيع،
270
خُيِّر بين أنْ يَصُوم وبيْن أن يُفطْر ويفدي] ثم نُسخ بقوله: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وتثبت الرُّخصة للَّذين لا يُطِيقونه، وذهب جماعةٌ إلى أنَّ الآية الكريمة محكمةٌ غير مَنسوخةٍ، معناه: وعلى الَّذين كانوا يُطيقُونه في حال الشَّباب، فَعَجِزُوا عنه بعد الكِبَرِ، فعليهم الفدية بَدَل الصَّوم، وقراءة ابن عباس «يَطَوَّقُونَهُ» بضم الياء، وفتح الطَّاء مخففةً، وتشديد الواو، أي: يُكَلَّفُون الصوم، فتأوَّله على الشَّيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصَّوم، والمريض الذي لا يرجى برؤه، فهم يكلَّفُون الصَّوم، ولا يُطيقونه، فلم أن يُفطروا، ويُطعموا مكان كُلِّ يومٍ مِسكيناً، وهو قول سعيد بن جبير، وجعل الآية محكمةً.

فصل في المراد بالفدية ومقدارها


«الفِدْيةُ» في معنى الجزاء، وهو عبارةٌ عن البَدَل القائم عن الشيءِ وهي عن دأبي حنيفة نصفُ صاعٍ من بُرٍّ، أو صاعاً من غيره وهو مُدَّانِ، وعن الشَّافعي «مُدٌ» بمُدِّ النبي -
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو رَطْلٌ وثُلُثٌ من غالب أقوات البَلَد، وهو قول فقهاء الحجاز.
وقال بعضُ فقهاء العراق: نصف صاعٍ لكُلِّ يومٍ يُفطِر.
وقال بعض الفقهاء: ما كان المُفْطِرُ يتقوَّته يَومَه الَّذي أفْطَره.
وقال ابنُ عباسٍ: يُعطِي كلَّ مسكين عشاءَهُ وسَحُوره.

فصل في احتجاج الجبائي بالآية


احتجَّ الجُبَّائيُّ بقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ على أن الاستطاعة قبل الفعل؛ فقال: الضميرُ في قوله: ﴿وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ﴾ عائدٌ إلى الصَّوم، فأثبت القُدرة على الصَّوم حال عدم الصَّومِ؛ لأنَّه أوجب عليه الفِدية، وإنَّما تجب عليه الفديةُ إذا لم يَصُمْ؛ فَدَلَّ هذا على أن القدرةَ على الصَّوم حاصلةٌ قبل حُصُول الصَّوم.
فإنْ قيل: لمَ لا يجُوز أنْ يكُون الضميرُ عائداً إلى الفِدية؟
قُلنا: لا يَصحُّ لوجهين:
أحدهما: أن الفدْيَةَ متأخِّرةٌ، فلا يَعُود الضَّمير إليها.
والثاني: أنَّ الضَّمير مُذَكَّر، والفدية مؤنَّثة.
فإنْ قيل: هذه الآية مسنوخةٌ، فكَيْفَ يجوز الاستدلالُ بها؟!
271
قلنا: إنَّما كانت قبل أن صارتْ منسُوخةً دالَّة على أنَّ القُدرة حاصلةً قبل الفعل، والحقائقُ لا تتغيَّر.
قوله: ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ﴾ فيه ثلاثة أوجُهٍ:
أحدها: قال مجاهد وعطاء، وطاوس: أي: زاد على مسكين واحدٍ؛ فأطعم مكان كل يومٍ مسكينين، فأكثر.
الثاني: أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب.
الثالث: قاله الزُّهريُّ: من صام مع الفدية، فهو خير له.
قوله: «وَأَنْ تَصُومُوا» في تأويل مصدر مرفوع بالابتداء، تقديره: «صَوْمُكُمْ»، و «خَيْرٌ» خَبَرُهُ، ونظيره: ﴿وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى﴾ [البقرة: ٢٣٧].
وقوله: «إنْ كُنْتُم تَعْلَمُونَ» شرطٌ حذف جوابه، تقديره: فالصَّوم خيرٌ لكم، وحذف مفعول العلم؛ إما اقتصاراً، أي: إن كنتم من ذوي العلم والتمييز، أو اختصاراً، أي: تعلمون ما شرعيته وتبيينه، أو فضل ما علمتم.
من ذهب إلى النَّسخ، قال: معناه: الصَّوم خيرٌ له من الفدية، وقيل: هذا في الشَّيخ الكبير، لو تكلَّف الصَّوم، وإن شقَّ عليه، فهو خيرٌ له من أن يفطر ويفدي.
وقيل: هذا خطابٌ مع كل من تقدَّم ذكره، أعني: المريض، والمسافر، والذين يطيقونه.
قال ابن الخطيب: وهذا أولى؛ لأنَّ اللفظ عامٌّ، ولا يلزم من اتِّصاله بقوله ﴿وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ﴾ أن يكون حكمه مختصّاً بهم، لأنَّ اللفظ عامٌّ، ولا منافاة في رجوعه إلى الكُلِّ، فوجب الحكم بذلك، واعلم أنه لا رخصة لمؤمن مكلَّف في إفطار شهر رمضان، إلاَّ لثلاثةٍ:
أحدهم - يجب عليه القضاء والكفَّارة: هو الحامل والمرضع، إذا خافتا على ولديهما يفطران، ويقضيان، وعليهما مع القضاء الفدية، وهو قول ابن عمر، وابن عبَّاس، وبه قال مجاهد، وإليه ذهب الشافعيُّ وأحمد.
وقال قومٌ: لا فدية عليهما، وبه قال الحسن، وعطاء، والنَّخعيُّ، والزُّهريُّ، وإليه ذهب الأوزاعيُّ والثوريُّ وأصحاب الرَّأي.
الثاني - عليه القضاء دون الكفَّارة: وهو المريض والمسافر.
272
الثالث - عليه الكفَّارة دون القضاء: الشَّيخ الكبير، والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه.
273
قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ : فيه قراءتان:
المشهور الرفع، وفيه أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، وفي خبره حينئذ قولان:
الأول: أنه قوله ﴿الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن﴾ ويكون قد ذَكَرَ هذه الجملة مُنَبِّهَةً على فضله ومنزلته، يعني أن هذا الشهر الذي أنزل فيه القرآن هو الذي فرض عليكم صومه.
قال أبو عليٍّ: والأشبه أن يكون «الَّذِي» وصفاً؛ ليكون لفظ القرآن نصّاً في الأمر بصوم شهر رمضان؛ لأنَّك إن جعلته خبراً، لم يكن شهر رمضان منصوصاً على صومه بهذا اللفظ، وإنما يكون مكبراً عنه بإنزال القرآن الكريم فيه، وإذا جعلنا «الَّذِي» وصفاً، كان حقُّ النظم أن يكني عن الشَّهر لا أن يظهر؛ كقولك: «شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ مَنْ شَهِدَهُ فَلْيَصُمْهُ».
والقول الثاني: أنه قوله ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وتكون الفاء زائدة على رأي الأخفش، وليست هذه الفاء التي تزاد في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط، وإن كان بعضهم زعم أنها مثل قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ﴾ [الجمعة: ٨] وليس كذلك؛ لأن قوله: ﴿الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ﴾ يُتَوَهَّمُ فيه عمومٌ؛ بخلاف شهر رمضان، فإن قيل: أين الرابط بين هذه الجملة وبين المبتدأ؟ قيل: تكرار المبتدأ بلفظه؛ كقوله: [الخفيف]
٩٣٨ - لاَ أَرَى المضوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْء............................
وهذا الإعراب - أعني كون «شَهْرُ رَمَضَانَ» مبتدأً - على قولنا: إن الأيام المعدودات هي غير شهر رمضان، أمَّا إذا قلنا: إنها نفس رمضان، ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ.
فقدَّره الفرَّاء: ذَلِكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، وقدَّره الخفش: المكتوب شهر رمضان.
273
والثاني: أن يكون بدلاً من قوله «الصِّيَامُ»، أي: كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْرُ رمَضَانَ، وهذا الوجه، وإن كان ذهب إليه الكسائيٌّ بعيدٌ جدّاً؛ لوجهين:
أحدهما: كثرة الفصل بين البدل والمبدل منه.
والثاني: أنَّه لا يكون إذا ذاك إلاَّ من بدل الإشمال، وهو عكس بدل الاشتمال، لأنَّ بدل الاشتمال غالباً بالمصادر؛ كقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٧]، وقول الأعشى: [الطويل]
لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ تَقَضِّي لُبَانَاتٍ وَيَسْأمُ سَائِمُ
وهذا قد أُبْدِلَ فيه الظرفُ من المصْدَرِ، ويمكن أن يُوَجَّهَ قوله بأنَّ الكلامَ على حذفِ مضافٍ، تقديره: صيامُ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ وحينئذٍ: يكون من باب بَدَلِ الشَّيء من الشَّيْءِ، وهما لعين واحدة، ويجوزُ أن يكون الرَّفع على البدلِ من قوله «أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» في قراءة من رَفَعَ «أيَّامً»، وهي قراءة عبد الله، وفيه بُعْدٌ.
والقراءة الثانية: النصْبُ، وفيه أوجهٌ:
أجودها: النصبُ بإضمار فعلٍ، أي: صُوموا شَهْر رَمَضَانَ.
الثاني - وذكره الأخفشُ والرُّمَّانِيُّ -: أن يكون بدلاً من قوله «أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ»، وهذا يُقَوِّي كون الأيام المعدُودَاتِ هي رمضان، إلا أن فيه بُعْداً من حيث كثرةُ الفَصْلِ.
الثالث: نَصْبُه على الإغراء؛ ذكره أبو عُبَيْدة والحُوفِيُّ.
الرابع: أن ينتصبَ بقوله: «وأنْ تَصُومُوا» ؛ حكاه ابن عطية، وجوَّزه الزمخشريُّ، واعترض عليه؛ بأن قال: فَعَلى هذا التقدير يصير النَّظم: «ْ تَصُومُوا رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ خَيْرٌ لَكُمْ»
فهذا يقتضي وقوعَ الفَصْل بين المبتدأ والخَبَر بهذا الكَلامَ الكثير، وهو غَيْرُ جائزٍ؛ لأنَّ المبتدأ والخَبَر جاريان مَجْرَى شيءٍ واحدٍ، وإيقاع الفضْلِ بين الشَّيءِ الواحد غيرُ جائزٍ. وغلَّطَهُما أبو حيان: بأنَّه يَلْزَمُ منه الفصلُ بين الموصول وصلته بأجنبيٍّ، لأنَّ الخبر، وهو «خَيْرٌ» أَجْنَبِيٌّ من الموصول، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول، إلاَّ بعد
274
تمام صلتِهِ، و «شَهْر رَمَضَانَ» على رأيهم من تمام صلة «أَنْ»، فامتنع ما قالوه، وليس لقائل أن يقول: يتخرَّجُ ذلك على الخلاف في الظَّرف، وحرف الجَرِّ، فإنه يُغْتضفَرُ فيه ذلك عند بعضهم؛ لأنَّ الظاهر من نصبه هنا أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ «.
الخامس: أنه منصوبٌ ب»
تَعْلَمُونَ «؛ على حذف مضافٍ، تقديره: تعلمونَ شرفَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ في الإعراب.
وأدغم ابو عمرو رَاءَ»
شَهْر «في راء» رَمَضَان «، ولا يُلْتَفَتُ إلى من استضعفها؛ من حيث إنَّه جمع بين ساكنين على غير حدَّيهما، وقول ابن عطيَّة:» وذلك لا تقتضيه الأصول «غير مقبولٍ منه؛ فإنَّه إذا صَحَّ النقل، لا يُعارضُ بالقِياس.
والشهر لأهْلِ اللُّغة فيه قولان:
أشهرهما: أنه اسمٌ لمُدَّة الزمان التي يكون مَبْدَأَها الهلالُ خافياً إلى أن يَسْتَسْرَّ؛ سُمِّيَ بذلك لشُهْرَتِهِ في حاجة الناس إليه من المعاملات، والصوم، والحجِّ، وقضاء الدُّيُون، وغيرها.
والشَّهر مأخذوذٌ من الشُّهْرَة، يُقَالُ: شَهَر الشَّيْءَ يَشْهَرُهُ شَهْراً: إذا أظهره، ويسمَّى الشَّهْرُ: شَهْراً، لشُهْرَة أمره، والشُّهْرَة: ظهورُ الشيءِ، وسمي الهلال شهراً؛ لشُهْرته.
والثاني - قاله الزَّجَّاج -: أنه اسمٌ للهلال نفسه؛ قال: [الكامل]
٩٤٠ -...................... وَالشَّهْرُ مِثْلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ
ذلك؛ لبيانه؛ قال ذو الرُّمَّةِ: [الطويل]
٩٤١ -..................... يَرَى الشَّهْرَ قَبْلَ النَّاسِ وَهْوَ نَحِيلُ
يقولون: رأيتُ الشهْرَ، أي هِلاَلَهُ، ثم أُطلِقَ على الزمان؛ لطلوعه فيه، ويقال: أشْهَرْنَا، أي: أتى علينا شَهْرٌ، قال الفَرَّاءُ:»
لَمْ أَسْمَعْ فَعْلاً إلاَّ هذا «.
275

فصل


قال الثَّعلبي:» يُقَالُ: شَهَرَ الهِلاَلُ، إذَا طَلَعَ «، ويُجْمَعُ في القلَّة على أشهرٍ، وفي الكثرة على شُهُورٍ، وهما مقيسان.
ورَمَضَانُ: عَلَمٌ لهذا الشَّهر المْصُوص، وهو علم جنسٍ، وفي تسميته برمضان أقوالٌ:
أحدها: أنَّه وافق مجيئه في الرَّمضاء - وهي شِدَّةُ الحَرِّ - فَسُمِّيَ هذا الشَّهْرَ بهذا الاسم: إما لارتماضهم فيه من حَرِّ الجوع، أو مقاساة شدَّته؛ كما سمَّوه تابعاً؛ لأنه يتبعهم فيه إلى الصَّوم، أي: يزعجهم لشدَّته عليهم، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -:
«صَلاَةُ الأَوَّابِينَ، إذَا رَمِضَتِ الفِصَالُ»
أخرجه مسلم، ورَمَضَ الفِصَالُ، ذا حرَّق الرَّمْضَاء أحقافها، فتبْرُكُ من شدَّة الحَرِّ.
يقال: إنَّهم لما نقلوا أسماء الشُّهُور عن اللُّغَةِ القديمةِ، سمَّوها بالأزمنة الَّتي وقعت فيها، فوافق هذا الشَّهْرُ أيَّام رَمَضِ الحَرِّ، [فسُمِّيَ به؛ كَرَبِيع؛ لموافقته الربيعَ، وجُمَادى؛ لموافقته جُمُودَ الماء، وقيل: لأنه يُرْمِضُ الذنوب، أي: يَحْرِقُها، بمعنى يَمْحُها].
روي عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه قال: «إنَّما سُمِّيَ رَمَضَانَ، لأنَّهُ يُرْمِضُ ذُنُوبَ عِبَادِ اللَّهِ»
وقيل: لأنَّ القلوبَ تَحْتَرِقُ فيه من الموعظة، وقيل: من رَمَضْتُ النَّصْلَ أَرْمُضُهُ رمضان إذا دققته بين حجرين، ليرقَّ يقال: نَصْلٌ رَمِيضٌ ومَرْمُوضٌ.
وسُمِّيَ هذا الشَّهْرُ رَمَضَانَ؛ لأنهم كانوا يَرْمُضُون فيه أسلحتَهُمْ؛ ليقضوا منها أوطارهم؛ قاله الأزهريُّ.
قال الجوهريُّ: وَرَمَضَانُ: يُجمع على «رَمَضَانَات» و «أَرْمِضَاء» وكان اسمه في الجاهلية نَاتِقاً، أنشد المُفَضَّل: [الطويل]
٩٤٢ - أ - وَفي نَاتِقٍ أَجْلَتْ لَدَى حَوْمَةِ الوَغَى وَوَلَّتْ عَلَى الأَدْبَارِ فُرْسَانُ خَثْعَمَا
وقال الزمخشي: «الرَّمَضَانُ مَصْدَرُ رَمِضَ، إذَا احترَقَ من الرَّمْضَاءِ» قال أبو حيَّان: «وَيَحْتَاجُ في تحقيقِ أنَّه مصدرٌ إلى صِحَّةِ نَقْلٍ، فإن فَعَلاَناً ليس مصدر فَعِلَ اللازم، بل إن جاء منه شَيْءٌ كان شاذاً»، وقيل: هو مشتقٌّ من الرَّمِض - بكسر الميم - وهو مَطَرٌ
276
يأتي قبل الخريف يُطَهِّر الأرض من الغُبَار، فكذلك هذا الشهرُ يُطَهِّر القلوبَ من الذُّنُوب ويغسلها.
وقال مجاهدٌ: إنه اسم الله تعالى، ومعنى قول لقائل: «شَهْرُ رَمَضَانَ»، أي: شَهْرُ اللَّهِ، وروي عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه قال: «لا تَقُولُوا: جَاءَ رَمَضَانُ، وذَهَبَ رَمَضَانُ، ولَكِنْ قُولُوا: جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ؛ وَذَهَبَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فإنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى»
قال القُرْطُبِيُّ: «قال أهْلُ التَّاريخِ: إنَّ أوَّلَ مَنْ صَامَ رمَضَانَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلام - لمَّا خَرَجَ من السَّفينة»، وقد تقدَّم قوم مجاهدٍ: «كَتَبَ اللَّه رمَضَانَ عَلَى كُلِّ أمَّة» ومعلومٌ أنَّه كان قبل نوحٍ - عليه السَّلام - أُمَمٌ؛ فالله أعلم.
والقرآن في الأًل مصدر «قَرَأْتُ»، ثم صار علماً لما بين الدَّفَّتَيْنِ؛ ويُدلُّ على كونه مصدراً في الأصل قول حسَّانٍ في عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: [البسيط]
٩٤٢ - ب - ضَحَّوْا بأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحاً وقُرْآنا
وقيل: القرآن من المصادر، مثل: الرُّجْحَان، والنُّقْصَان، والخُسْرَان، والغُفْرَان، وهو من قرأ بالهمزة، أي: جمع؛ لأنه يجمع السُّور، والآيات، والحكم، والمواعظ، والجمهورُ على همزه، وقرأ ابن كثيرٍ من غير همزٍ، واختلف في تخريج قراءته على وجهين:
أظهرهما: أنه من باب النَّقل؛ كما يَنْقُل وَرْشٌ حركة الهمزة إلى السَّاكن قبلها، ثم يحذفها في نحو: ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ [المؤمنون: ١]، وهو وإن لم يكن أصله النَّقْلَ، إلا أنَّه نَقَلَ هنا لكثرة الدَّوْرِ، وجمعاً بين اللُّغَتَيْنِ.
277
والثاني: أنه مشتقٌّ عنده من قَرَنْتُ بين الشيئين، فكون وزنه على هذا «فُعَالاً»
وعلى الأول «فُعْلاَناً» وذلك أنه قد قُرِنَ فيه بين السُّوَر، والآياتِ، والحِكَمِ، والمواعِظِ.
وقال الفَرَّاء: أَظُنَّ أنَّ القرآن سُمِّي من القرائن، وذلك أنَّ الآيات يُصَدِّقُ بعضها بعضاً على ما قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾ [النساء: ٨٢].
وأما قول من قال: إنَّه مشتقُّ من قَرَيْتُ الماء في الحوض، أي: جمعته، فغلطٌ؛ لأنَّهما مادَّتان متغايرتان.
وروى الواحدُّ في «البسيط» عن محمَّد بن عبد الله بن الحكم، أنَّ الشافعيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان يقول القُرْآنُ اسْمٌ، ولَيْسَ بمهموزٍ، ولم يُؤْخَض من «قَرَأْتُ»، وإنما هو اسمٌ لكتاب الله؛ مثل التوراة والإنجيل، قال: ويهمز قراءة، ولا يهمزة القرآن، كما يقول: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن﴾ [الإسرء: ٤٥] قال الواحدُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقول الشافعيِّ - رضى الله عنه - أَّنه اسمٌ لكتاب الله تعالى، يشبه أنه ذهب إلى أنه غير مشتقٍّ، والذي قال بأنَّه مشتقٌّ من القرء، وهو الجمع، أي: جمعته، هو الزَّجَّاج وأبو عُبَيْدة، قالا: إنَّه مأخوذٌ من القُرْء وهو الجمع.
قال عَمْرُ بْنُ كُلْثُومٍ:
٩٤٣ - أ -......................... هِجَانِ اللَّوْن لَمْ تَقْرَأْ جَنِينا
أي: لم تجمع في رحمها ولداً، ومن هذا الأصل: قُرْءُ المرأة، وهو أيَّام اجتماع الدَّم في رحمها، فسُمِّي القرآن قُرْآناً، لأنه يجمع السُّور وينظمها.
وقال قُطْرُب: سُمِّيَ قرآناً؛ لأنَّ القارئ يكتبه، وعند القراءة كأنَّه يلقيه من فيه أخذاً من قول العرب: ما قرأ النَّاقة سلى قطُّ، أي: ما رَمَتْ بِوَلَدٍ، وما أسْقَطَتْ ولداً قَطُّ، وما طَرَحَتْ، وسُمَّيَ الحَيْضُ قراءاً بهذا التَّأويل، فالقرآن [يلفظه القارئ] من فيه، ويلقيه، فسُمِّيَ قُرْآناً.
و «القُرآنُ» مفعول لم يُسَمَّ فاعله؛ ثم إنَّ المقروء يُسَمَّى قرآناً؛ لأن المفعول يسمَّى بالمصدر؛ كما قالوا للمَشْرُوبِ شَرَابٌ، وللمكْتُوب كِتَابٌ. واشتهر هذا الاسمُ في العُرْف؛ حتَّى جعلوه اسماً لكتاب الله تعالى على ما قاله الشَّافِعيُّ - رض الله عنه.
ومعنى ﴿أُنْزِلَ فِيهِ القرآن﴾، أي: ظَرْفٌ لإنزاله.
قيل: «نَزَلَتْ صُحُف غبراهيم في أوَّل يومٍ من رمَضَانَ، وأُنزلت التوراة لستٍّ مَضَيْنَ،
278
والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين.
فإن قيل: إنَّ القرآن نَزَلَ عَلَى محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مُدَّة ثلاثٍ وعشرين سَنَةً مُنَجَّماً مُبَعَّضاً، فما معنى تخصيص إنزاله برَمَضَان؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّ القرآن أُنزل في ليلة القدر جملةً إلى سماء الدنيا، ثُمَّ نَزَل إلى الأرض نُجُوماً.
روى مقسّم عن ابن عبَّاسٍ أنه سُئِلَ عن قوله عزَّ وجلَّ: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن﴾ وقوله ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾ [القدر: ١]، وقوله ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ [الدخان: ٣] وقد نزل في سائر الشُّهُور، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ﴾ [الإسراء: ١٠٦] فقال: أُنْزِلَ القرآن جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزَّة في السماء الدُّنيا، ثم نزل به جبريل - عليه السَّلام - على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نجوماً في ثلاث وعشرين سنة، فذلك قوله: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم﴾ [الواقعة: ٧٥] وقال داود بن أبي هندٍ: قلت للشَّعبيِّ: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن﴾ أما كان ينزل في سائر السنَّة؟ قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في رمضان ما أنزل الله إليه فيحكم الله ما يشاء، ويثبت ما يشاء، وينسيه ما يشاء.
وروي عن أبي ذرٍّ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أُنْزِلَتْ صُحُفُ إبْرَاهيمَ في ثَلاَثِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرَ رَمَضَانَ» ويُروى: «في أَوّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ» وأُنْزِلَتْ تَوْرَاةُ مُوسَى في سِتِّ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ إنْجِيلُ عِيسَى في ثَلاَثِ عَشَرَةَ ليلة مِنْ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ زَبُورُ دَاوُدَ في ثَمانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ الفُرْقَانُ عَلَى محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأرْبَع وعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، ولستٍّ بَقِينَ بَعْدَهَا، وسنذكر الحكمة في إنزاله منجماً مفرَّقاً في سورة «الفُرْقَان» عند قوله: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢].
279
والجواب الثاني: أن المراد منه: أنَّ ابتداء نزوله ليلة القدر من شَهْر رمَضَانَ، وهو قول محمّضد بن إسحاق؛ وذلك لأنَّ مبادئ الملل والدُّول هي الَّتي يؤرَّخ بها؛ لكونها أشرف الأوقات، ولأنَّها أيضاً أوقاتٌ مضبوطةٌ.
واعلم أن الجواب الأول حمل للكلام على الحقيقة، وفي الثاني: لا بُدَ من حمله على المجاز؛ لأنًّث حمل للقرآن على بعض أجزائه.
روي أن [عبد الله بن] عمر بن الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - استدلَّ بهذه الآية الكريمة، وبقوله ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾ [القدر: ١] على أن ليلة القدر لا تكون إلاَّ في رمضان، وذلك لأنَّ ليلة القدر، إذا كانت في رمضان، وكان إنزاله في ليلة القدر إنزالاً في رمضان، وهذا كمن يقول: «لَقِيتُ فُلاناً في هَذَا الشَّهْرِ»، فيقال له: في أيِّ يوم منه؟ فيقول: في يوم كذا، فيكون ذلك تفسيراً لكلامه الأول وقال سفيان بن عُيَيْنَةَ: «أُنْزلَ فِيهِ القُرآنُ»، معناه: أُنْزِلَ، في فضله القرآن، وهذا اختيار الحسين بن الفضل؛ قال: وهذا كما يقال: «أُنْزِلَ في الصِّدِّيق كَذَا آيةً» يُرِيدُونَ في فضله.
قال ابن الأنباريِّ: أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن الكريم؛ كما يُقَالُ أنزل الله في الزَّكَاة آية كَذَا؛ يريدون في إيجابها وأنزل في الخمر، يريدون في تحريمها.

فصل


قد تقدَّم في قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا﴾ [البقرة: ٢٣] أنَّ التنزيل مختصٌّ بالنُّزُول على سبيل التَّدريح، والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة ولهذا قال تبارك وتعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل﴾ [آل عمران: ٣] ذا ثبت هذا، فنقول: لَمَّا كان المراد ها هنا من قوله «شَهْرُ رَمَضَان الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ» إنزاله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدُّنيا - لا جرم ذكره بلفظ «الإنزال» دون «التَّنزيل»، وهذا يدلُّ على أن هذا القول راححٌ على سائر الأقوال.
قوله «هُدًى» في محلِّ نصبٍ على الحالِ من القرآن، والعامل فيه «أُنزِلَ» وهُدىً مصدرٌ، فإمَّا أن يكون على حذفٍ مضافٍ، أي: ذا هدىص، أو على وقوعه موقع اسم الفاعِلِ، أي: هادِياً، أو على جعله نفس الهُدَى مبالغةً.
قوله: «لِلنَّاسِ» يحوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق ب «هُدىً» على قولنا بأنه وقى موقع «هَادٍ»، أي: هادياً للناس.
والثاني: أن يتلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ للنكرة قبله، ويكون محلُّه النصَّب على والثاني: أن يتعلَّ بمحذوفٍ؛ لأنه صفة للنكرة قبله، ويكون محلُّ النَّصب على
280
الصفة، ولا يجوز أن يكون «هُدَى» خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره: «هُوَ هَدىً» ؛ لأنه عطف عليه منصوبٌ صريحٌ، وهو: «بَيَّنَاتٍ» ؛ و «بَيِّنَاتٍ» عطفٌ على الحال، فهي حالٌ أيضاً وكلا الحالين لازمةٌ؛ فإنَّ القرآن لا يكون إلا هُدىً وبيناتٍ، وهذا من باب عطف الخاصِّ على العامِّ، لأنَّ الهدى يكون بالاشياء الخفيَّة والجليَّة، والبَيِّنَاتُ من الأشياء الجَليَّة.
فإن قيل: ما معنى قوله ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان﴾ بعد قوله: «هُدىً».
فالجواب من وجوه:
الأول: أنه تبارك وتعالى ذكر أولاَّ أنه هُدىً، ثمَّ الهُدَى على قسمين:
تارةً: يكون هدىً للنَّاس بيِّناً جَليَّاً.
وتارةً: لا يكون كذلك.
والقسم الأول: لا شكَّ أنَّه أفضل؛ فكأنه قيل: هو هدىً؛ لأنه هو البيِّن من الهدى، والفارق بين الحقِّ والباطل، فهذا مِنْ باب ما يُذكَر الجنْسُ، ويعطف نوعه عليه؛ لكونه أشرف أنواعه، والتقدير: كأنه قيل: هذا هُدىً، وهذا بَيِّنٌ من الهدى، وهذا بيِّناتٌ من الهُدَى، وهذا غاية المبالغة.
الثاني: أن يقالك القرآن هدىً في فنسه، ومع كونه كذلك، فهو أيضاً بيِّناتٌ من الهُدَى والفرقان، والمراد: ب «الهُدَى والفُرْقَانِ» التوراة والإنجيل؛ قال تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الفرقان﴾
[آل عمران ٣ - ٤] وقال ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٨] فبيَّن تعالى أنَّ القرآن مع كونه هُدىً في نفسه، ففيه أيضاً هدىً من الكتب المتقدِّمة التي هي هدىً وفرقانٌ.
الثالث: أن يحمل الأوَّل على أصول الدِّين، والهُدى الثاني على فروع الدِّين؛ حتَّى يزول التَّكْرَار.
قوله: ﴿مِّنَ الهدى والفرقان﴾ هذا الجارُّ والمجرورُ صفة لقوله: «هُدىً وبَيِّناتٍ» فمحلُّه النصب، ويتعلَّق بمحذوفٍ، أي: إنَّ كون القرآن هُدىً وبيَّنات هو من جملة هُدَى الله وبَيِّنَاتِهِ؛ وعَبَّر عن البيِّنات بالفُرْقان، ولم يأت «مِنْ الهَدَى وَالبَيِّنَاتِ» فيطالب قالعجزُ الصَّدْرَح لأنّ فيه مزيد معنىً لازم للبيان، وهو كونه يُفَرِّقُ بين الحقِّ والباطل، ومتى كان الشيءُ جَلِيّاً واضحاً، حصل به الفرقُ، ولأنَّ في لفظ الفرقان تَوَاخِيَ الفواصل قبله؛ فلذلك عبَّر عن البينات بالفرقان، وقال بعضهم: «المرادُ بالهُدَى الأوَّلِ ما ذكرنا من أنَّ المراد به أصول الديانات وبالثاني فروعها». وقال ابن عطية: «اللامُ في الهُدَى للعهد، والمرادُ الأوَّلُ، يعني أنه تقدَّم نكرةٌ، ثم أُعيد لفظها معرَّفاً ب» أَلْ «، وما كان كذلك كان الثاني فيه هو الأول؛ نحو قوله: ﴿إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول﴾ [
281
المزمل: ١٥ - ١٦]، ومن هنا قال ابن عبَّاس:» لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ «وضابطُ هذا أن يَحُلَّ محلَّ الثاني ضمير النكرة الأولى؛ ألا ترى أنه لو قيل: فعصاه، لكان كلاماً صحيحاً» ؟
قال أبو حيان: «وما قاله ابن عطية لا يتأتّضى هنا؛ لأنه ذكر هو والمعربون أن» هُدىً «منصوبٌ على الحال، والحال وصفٌ في ذي الحال، وعطف عليه» وبيّنات «، فلا يخلو قول» مِنَ الهُدَى «- المراد به الهدى الأول - من أن يكون صفةً لقوله» هُدَى «أو لقوله» وَبَيِّنَاتِ «أو لهما، أو متعلِّقاً بلفظ» بَيِّنَاتِ «، لا جايزٌ أن يكون صفةً ل» هُدىً «؛ لأنه من حيث هو وصفٌ، لزم أن يكون بعضاً، ومن حيث هو الأول، لزم أن يكون إياه، والشيء الواحد لا يكون بعضاً كُلاًّ بالنسبة لماهيَّته، ولا جائزٌ أن يكون صفة لبيناتٍ فقط؛ لأنَّ» وَبَيِّنَاتٍ «معطوفٌ على» هُدىً «و» هُدىً «حال، والمعطوف على الحال حالٌ، والحالان وصفٌ في ذي الحال، فمن حيث كونهما حالين تخصَّص بهما ذو الحال؛ إذ هما وصفان، ومن حيث وصفت» بَيِّنَات «بقوله:» مِنَ الهُدَى «خصصناها به، فتوقَّف تخصيص القرآن على قوله:» هُدىً وبَيِّنَاتٍ «معاً، ومن حيث جعلت» مِنَ الهُدَى «صفةً ل» بَيِّنَاتٍ «، وتوقَّف تخصيص» بَيِّنَاتٍ «على هُدَى، فلزم ن ذلك تخصيص الشيء بنفسه، وهو محالٌ، ولا جائزٌ أن يكون صفةً لهما؛ لأنه يفسد من الوجهين المذكورين من كونه وصف الهُدَى فقط، أو بينات فقط.
ولا جائزٌ أن يتعلَّق بلفظ «بَيِّنَاتٍ»
؛ لأنَّ المتعلِّق قيدٌ في المتقلَّق به؛ فهو كالوصفِ؛ فيمتنع من حيث يمتنع الوصف، وأيضاً: فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميراً، فقلت: منه - أي: من ذلك الهُدَى - لم يصحَّ؛ فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامَّين، حتى يكون هُدى وبينات بعضهاً منهما «.
قوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ إلى قوله: ﴿تَشْكُرُونَ﴾ نقل الواحدِيُّ في»
البسيط «عن الأخفش والمازنيِّ أنما قالا: الفاء في قوله ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ﴾ زائدةٌ قالا: وذلك لأنَّ الفاء قد تدخل للعطف، أو للجزاء، أو تكون زائدةً، وليس لكونها للعطف، ولا للجزاء هاهنا وجهٌ؛ ومن زيادة الفاء قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ﴾ [الجمعة: ٨].
قال: وأقول: يمكن أن تكون»
الفاء «هاهنا للجزاء؛ فإنه تعالى لما بيَّن رمضان مختصّاً بالفضيلة العظيمة التي لا يشاركه سار الشُّهور فيها، فبيَّن أنَّ اختصاصه بتلك الفضيلة يُنَاسِب اختصاصه بهذه العبادة، ولولا ذلك، لما كان لتقديم بيان تلك الفضيلة هاهنا وجه، كأنه قيل: لما علم الختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة، فأنتم أيضاً خصصتموه بهذه الفضيلة أي العبادة، وأما قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ﴾ [الجمعة: ٨] الفاء فيه غير زائدة أيضاً، بل هذا من باب مقابلة الضِّدِّ بالضدِّ؛ كأنه قيل: لمَّا فرُّوا من
282
الموت، فجزاؤهم أن يقرب الموت منهم؛ ليعلموا أنَّه لا يغني الحذر عن القدر. و» مَنْ «فيها الوجهان: أعني كونها موصولةً، أو شرطيةً، وهو الأظهر، و» مِنْكُم «في محلِّ نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في» شَهِدَ «فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائِناً منكم، وقال أبو البقاء:» مِنْكُم «حالٌ من الفاعل، وهي متعلقةٌ ب» شَهِدَ «، قال أبو حيان:» فَنَاقَضَ؛ لأنَّ جَعْلَها حالاً يوجب أن يكون عاملها محذوفاً، وجعلها متعلِّقة ب «شَهِدَ» يوجب ألاَّ تكون حالاً «ويمكن أن يجاب عن اعتراض أبي حيَّان عليه بأنَّ مراده التعلُّ المعنويُّ، فإنَّ» كائناً «الذي هو عامل في قوله» مِنْكُم «هو متلِّقٌ ب» شَهِدَ «وهو الحالُ حقيقةً. ؟
وفي نَصْبِ»
الشَّهْرِ «قولان:
أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرف، والمراد بشَهِدَ: حَضَر، ويكون مفعولُ»
شَهِدَ «محذوفاً، تقديره: فمن شَهِدَ منكُم المِصْرَ أو البلد في الشَّهْرِ.
والثاني: أنه منصوب على المفعول به، وهو على حذف مضافٍ، ثم اختلفوا في تقدير ذلك المضاف: فالصحيح أنَّ تقديره:»
دُخُولَ الشَّهْرِ «، وقال بعضهم:» هِلاَلَ الشَّهْرِ «قال شهاب الدين: وهذا ضعيفٌ؛ لوجهين:
أحدهما: أنك لا تقول: شَهِدْتُ الهِلاَلَ، إنما تقول: شاهَدْتُ الهِلاَلَ.
ويمكن أن يجاب بأنَّ المراد من الشُّهود: الحضُور.
والثاني: أنه كان يلزم الصوم كل من شَهِدَ الهِلاَلَ، وليس كذلك، قال: ويجاب بأن يقال: نعم، الآية تدلُّ على وجوب الصوم على عموم المكلَّفين، فإن خرج بعضهم بدليل، فيبقى الباقي على العموم.
قال الزمخشريُّ: «الشَّهْرَ»
منصوبٌ على الظرف، وكذلك الهاء في «فَلْيَصُمْهُ» ولا يكون مفعولاً به؛ كقولك: شَهِدْتُ الجُمُعَةَ؛ لأنَّ المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشَّهْرِ «وفي قوله:» الهاء منصوبةٌ على الظرف «نظرٌ لا يخفى؛ لأن الفعل لا يتعدَّى لضمير الظرف إلاَّ ب» فِي «، اللهم إلاَّ أن يتوسَّع فيه، فينصب نصب المفعول به، وهو قد نصَّ على أنَّ نصب الهاء أيضاً على الظرف.
والفاء في قوله:»
فَلْيَصَمْهُ «: إمَّا جواب الشَّرط، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حسب ما تقدَّم في» مَنْ «.
واللام لام الأمر، وقرأ الجمهور بسكونها، وإن كان أصلها الكسر، وإنما
283
سكَّنوها؛ تشبيهاً لها مع الواو والفاء ب» كَتِف «؛ إجراءً للمنفصل مجرى المتصل. وقرأ السُّلَمِيُّ وأبو حيوة وغيرهما بالأصل، أعني كسر لام الأمر في جميع القرآن. وفتح هذه اللام لغة سليمٍ فيما حكاه الفراء، وقيَّد بعضهم هذا عن الفراء، فقال:» مِنَ العَرَبِ مَنْ يَفتحُ اللام؛ لفتحةِ الياء بعدها «، قال:» فلا يكونُ على هذا الفتحُ إن انكسَرَ ما بعدها أو ضُمَّ: نحو: لِيُنْذِرْ، ولِتُكْرِمُ أنتَ خالداً «.
والألف واللام في قوله: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ﴾ للعهد، إذ لو أتى بدله بضميرٍ، فقال:»
فَمَنْ شَهِدَه منْكُمْ «لصَحَّ غلا أنَّه أبرزه ظاهراً؛ تنويهاً به.

فصل بي بناء القولين على مخالفة الظاهر


قال ابن الخطيب واعلم أن كلا القولين أعني: كون مفعول»
شَهِدَ «محذوفاً أو هو الشَّهر لا يتم إلاَّ بمخالفة الظاهر.
أما الأوَّل: فإنَّما يتم بإضمار زائدٍ، وأمَّا الثاني: فيوجب دخول التخصيص في الآية الكريمة وذلك لأنَّ شهود الشَّهْر حاصلٌ في حقِّ الصبيِّ والمجنون والمسافر، مع أنَّ لم يجل على واحدٍ منهم الصَّوم إلاَّ أنا بيَّنا في»
أُصُول الفِقْه «أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإضمار، فالتخصيص أولى، وأيضاً، فلأنَّا على القول الأول، لما التزمنا الإضمار لا بُدَّ أيضاً من التزام التَّخْصيص؛ لأنَّ الصبيَّ والمجنون والمريض كلُّ واحدٍ منهم شهد الشَّهْرَ مع أنه لا يجبُ عليهم الصَّوم.
فالقول الأول: لا يتمشى إلاَّ مع التزام الإضمار والتَّخصيص.
والقول الثاني: يتمشى بمجرَّد التخصيص؛ فكان القول الثاني أولى، هذا ما عندي فيه، مع أن أكثر المُحَقِّقين كالواحديّ وصاحب الكشَّاف ذهبوا إلى الأوَّل.

فصل


قال ابن الخطيب قوله تعالى ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ جملة مركِّبةٌ من شرطٍ وجزاءٍ، فالشَّرط هو ﴿مَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾، والجوءا هو الأمر بالصَّوم وما لم يوجد الشرط بتمامه، لم يترتَّب عليه الجزاء، والشهر اسمٌ للزمان المخصوص من أوَّله إلى آخره، وشهودُ الشَّهر إنما يحصُلُ عند الجزء الأخير من الشَّهر، فظاهر الآية الكريمة يقتضي أنَّ عند شهود الجزء الأخير من الشَّهر يجب عليه صوم كل الشهر، وهذا محالٌ، لأنه يقتضي إيقاع الفعل في آخر الزَّمان المنقضي؛ وهو ممتنعٌ، وبهذا الدليل علمنا أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها، وأنه لا بُدَّ من صرفها إلى التأويل، وطيرقه: أن يحمل لفظُ الشهر على جزء من أجزاء الشهر؛ فيصير تقديره: من شَهِدَ جزءاً من أجزاء
284
الشَّهر، فليصم كلَّ الشهر، فعلى هذا: من شَهِدَ هِلاَل رمَضَان، فقد شهد جُزءاً من أجزاء الشَّهر، وعلى هذا التقدير، يستقيم معنى الآية، وليس فيه إلاَّ حَمُْ لفظ الكل على الجزء، وهو مجازٌ مشهور.
ولقائلٍ أن يقولك إنَّ الزجَّاج قال: إنَّ الشَّهْر اسمٌ للهلال نفسه؛ كما تقدَّم عنه، وإذا كان كذلك، فقد زال كُلُّ ما ذكره من ارتكاب المجاز وغيره.
قال القرطبيُّ: وأعيد ذكر الشَّهر؛ تعظيماً له؛ كقوله ﴿الحاقة مَا الحآقة﴾ [الحاقة: ١ - ٢] ؛ وأنشد على أنَّه اسمٌ للهلا قول الشاعر: [الكامل]
٩٤٣ - ب - أَخَوَانِ مِنْ نَجْدٍ عَلَى ثِقَةٍ وَالشِّهْرُ مِثْلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ
حتَّى تكامل في اسْتِدَارَتِهِ في أرْبَعٍ زَادَتْ عَلَى عَشْر

فصل


روي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ من دخل عليه الشهر، وهو مقيمٌ ثم سافر فالواجب عليه الصَّوم، ولا يجوز له الفطر؛ لأنه شهد الشهر.
وأما سائر الفُقَهَاء من الصَّحَابة وغيرهم، فقد ذهبوا إلى أنه إذا أنشأ السَّفَر في رمضان، جاز له الفطر، ويقولون: قوله ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، وإن كان عامّاً يدخل فيه الحاضر والمسافر، إلاَّ أن قوله بعد ذلك: ﴿فَمَنْ كَانَ مَرِيضاً، أوْ عَلَى سَفَرٍ، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامُ أُخَرَ﴾ خاصٌّ، والخاصُّ مقدَّم على العامِّ.
ذهب أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إلى أنَّ المجنون، إذا أفاق في أثناء الشهر يلزمه قضاء ما مضى.
قال: لأنَّا دللنا على أنَّ الآية دلَّت على أنَّ من أدرك جزءاً من رمضان، لزمه صوم رمضان؛ فيكون صوم ما تقدَّم منه واجباً؛ فيجب قضاؤه

فصل في كيفية شهود الشَّهْر


شهود الشَّهر: إما بالرُّؤية أو بالسَّماع.
أما الرؤية: فنقول: إذا رأى إنسانٌ هلال رمضان وحده، فإما أن يرد الإما شهادته أولا؛ فإن ردَّت شهادته، وجب عليه الصَّوم؛ لأنَّه شهد الشَّهر، وإن قبل شهادته أو لم ينفرد بالرؤُية، فلا شك في وجوب الصَّوم.
285
وأما السماع: فنقول: إذا شهد عدلا، على رسة الهلا، حكم به في الصَّوم والفطر جميعاً، وإذا شهد عدلٌ واحدٌ عللٌ واحدٌ على رؤية هلال شوَّال، لا يحكم به، وإذا شَهِدَ على رؤية هلال رمضان يحكم به؛ احتياطاً لأمر الصَّوم، والفرق بينه وبين هلال شوَّال: أنَّ هلال رمضان للدُّخول في العبادة، وهلال شوالٍ للخروج من العبادة، وقول الواحد في إثبات العبادة يقبل، أما في الخروج من العبادة لا يقبل إلا اثنان.
قال ابن الخطيب وعندي: أنه لا فرق بينهما في الحقيقة، لأنا إنما قبلنا قول الواحد في هلال رمضان؛ لكي يصوموا، ولا يفطروا؛ احتياطاً؛ فكذلك يقبل قول الواحد في هلال شوَّال؛ لكي يفطروا ولا يصوموا احتياطاً.

فصل في حدِّ الصوم


الصَّوم: هو الإمساك عن المفطرات مع العلم بكونه صائماً من أوَّل الفجر الصَّادق إلى غروب الشَّمس مع النِّيَّة.
فقولنا: «إمساك» هو الاحتراز عن شيئين:
أحدهما: لو طارت ذبابةٌ إلى حلقه، أو وصل غبارُ الطريق إلى باطنه، لا يبطل صومه؛ لأنَّ الاحتراز عنه شاقٌّ، وقد قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾.
والثاني: لو صُبَّ الطعام أو الشراب في حلقه كرهاً، أو حال النوم - لا يبطل صومه، والإكراه لا ينافي الإمساك.
وقولنا «عَنِ المُفطرَاتِ» وهي ثلاثة: دخول داخلٍ، أو خروج خارجٍ، والجماعُ.
وحدُّ الدخول: كلُّ عينٍ وصل من الظَّاهر إلى الباطن من مَنفَذٍ مفتوح إلى الباطن، إما إلى الدماغُ، وإما إلى البطن وما فيها من الأمعاء والمثانة، أما الدِّماغ فيحصل الفطر بالسّعُوط، وأما البطن، فيحصل الفطر بالحقنة؛ وأما الخروج، فالقيء [بالاختيار]، والاستمناء [يُبْطلانَ الصوم]، وأما الجماع فمبطلٌ للصَّوم بالإجماع.
وقولنا «مَعَ العِلْمِ بِكَوْنِهِ صَائِماً» فلو أكل أو شرب ناسياً، لم يبطُل صومه عند أبي حنيفة، والشَّافعيِّ، وأحمد، وعند مالك يبطُلُ.
وقولنا: «مِنْ أَوَّولِ طُلُوعِ الفَجْرِ الصَّادِقِ» ؛ لقوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر﴾ [البقرة: ١٨٧] وكلمة «حَتَّى» ؛ لانتهاء الغاية.
286
وكان الأعمش يقول: أول وقته إذا طلعت الشمس، وكان يبيحُ الأكل والشرب بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس؛ ويحتج بأنَّ انتهاء الصَّوم [من وقت] غروب الشمس، فكذا ابتداؤه يجب أن يكون بطلوعها، وهذا باطلٌ بالنضِّ الذي ذكرناه.
وحكي أن أبا حنيفة دخل على الأعمش يعوده، فقال له الأعمش: إنَّك لثقيلٌ على قلبي، وأنت في بيتك، فيكيف إذا زرتني، فسكت عنه أبو حنيفة، فلمَّا خرج من عنده، قيل له: لم سكتَّ عنه؟ قال: فماذا أقول في رجلٍ ما صام ولا صَلَّى عمره، وذلك لأنه كان يأكل بعد الجر الثَّاني قبل طلوع الشمس، فلا صوم له، وكان لا يغتسل من الإنزال، فلا صلاة له.
وقولنا: «إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ» ؛ قوله عليه السلام:
«إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ من هَا هُنَا وَأَدَبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» ومن الناس من يقول: وقت الإفطار عند غروب ضوء الشَّمس، قَاسَ الطَّرَف الثاني على الطَّرف الأوَّل من النهار؛ فإن طلوع الفجر الثاني هو طلوع ضوء الشَّمس، كذلك غروبه يكون بغروب ضوئها، وهو مغيب الشمس.
وقولنا «مَعَ النِّيِّةِ» ؛ لأنَّ الصوم عملٌ؛ لقوله عليه السَّلام: «الصَّوْمُ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ، والعلم لا بُدَّ فيه من النيَّة»، لقوله - عليه السَّلام -: «إنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، ومن الناس من قال: لا حاجة لصوم رمضان إلى النيَّة؛ لأن الله تعالى امر بالصَّوم بقوله: «فَلْيَصُمْهُ» والصَّوم هو الإمساك، وقد وجد، فيخرج عن العهدة، وهذا مردودٌ بقوله - عليه السلام - «إنَّما الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ» والصوم عملٌ.
وقوله ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ قد تقدَّم الكلامُ عليها، وبيانُ السبب في تكريرها.
قوله: ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر﴾ تقدَّم معنى الإرادة واشتقاقها عند قوله تعالى: ﴿مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا﴾ [البقرة: ٢٦]. و «أَرَادَ» يتعدَّى في الغالب إلى الأجرام بالباء وإلى المصادر بنفسه، وقد ينعكس الأمر؛ قال الشاعر: [الطويل]
287
والباء في «بِكُمْ» قال أبو البقاء: لِلإلْصَاقِ، أي: يُلْصِقُ بكم اليُسْرَ، وهو من مجاز الكلام، أي: يريد الله بفِطْرِكُمْ في حال العذر اليُسْرَ، وفي قوله: ﴿وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾ تأكيدٌ؛ لأنَّ قبله ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر﴾ وهو كافٍ عنه. وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثَّاب وابن هُرْمُز: «اليُسُر، والعُسُر» بضمّ السين، والضمُّ للإتباع؟ والظهر الأول؛ لأنه المعهود في كلامهم.
و «اليُسْرُ» في اللغة السُّهُولة، ومنه يقال للغنى والسَّعة: اليسار؛ لأنه يتسهل به الأمور واليد اليُسْرَى، قيل: تلي الفعال باليسر، وقيل إنه يتسهَّل الأمر بمعاونتها اليمنى.

فصل في دحق شبهة للمعتزلة


استدلُّوا بهذا الآية على أنَّ تكليف ما لا يطاق غير واقعٍ؛ لأنه تعالى لمَّا بيَّن أنه يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر، فكيف يكلِّفهم ما لا يقدرون عليه.
وأُجيبوا: بأنَّ اللفظ المفرد، إذا دخل عليه الألف واللام لا يفيد العموم، ولو سلَّمناذلكح لكنَّه قد ينصرف إلى المعهود السَّابق في هذا الموضع.

فصل في دحض شبهة أخرى للمعتزلة


قالت المعتزلة: هذه الآية تدلُّ على أنَّه قد يقع من العبد ما لا يريده الله تعالى؛ وذلك لأنَّ المريض لو تحمَّل الصَّوم حتى أجهده، لكان يجب أن يكون قد فعل مالا يريده الله تعالى منه، إذْ كان لا يريد غيره.
وأُجيبوا بحمل اللَّفظ على أنَّه تعالى لا يريدُ أنْ يأمر بما فيه عسر، وإن كان قد يريدُ منه العُسر؛ وذلك لأن الأمر قد يثبت بدون الإرادة.
قالت المعتزلة: هذه الآيةُ دالَّة على أنه تعالى لا يريدُ بهم الكُفر فيصيرون إلى النَّار، فلو خلق فيهم ذلك الكُفر، لم يكن لائقاً به أنْ يقول ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾ وجوابه: أنه معارضٌ بمسألة العلم.
قوله: ﴿وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ﴾ في هذه اللام ثلاثةُ أقوال:
أحدها: أنها زائدةُ في المفعول به؛ كالتي في قولك: ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ، و «أَنْ» مُقَدَّرةً بعدها، تقديرهُ: ﴿وَيُرِيدُ أَنْ تُكْمِلُوا العِدَّةَ﴾، أي: تكميل، فهو معطوفٌ على اليُسْر؛ ونحوهُ قولُ أبي صَخْرٍ: [الطويل]
288
٩٤٤ - أَرَادَتْ عَرَاراً بِالهَوَانِ وَمَنْ يُرِدُ عَرَاراً لعَمْرِي بِالهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ
٩٤٥ - أُرِيدَ لاأَنسَى ذِكرَهَا فَكَأَنَّمَا تَخَيَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ طَرِيقِ
وهذا قولُ ابن عطية والزمخشري وأبي البقاء وإنَّما حَسُنَتْ زيادةُ هذه اللام في المَفعولِ - وإنْ كان ذلك إنَّما يكونُ إذا كان العاملُ فَرْعاً، أو تقدَّمَ المعمولُ - من حيث إنه لمَّا طال الفصلُ بين الفعلِ وبين ما عُطِفَ على مفعوله، ضَعُفَ بذلك تَعَدِّيه إليه، فَعُدِّيَ بزيادة اللام؛ قياساً لِضَعْفه بطولِ الفصلِ ضَعْفِه بالتقديم.
الثاني: إنَّها لامُ التعليل، وليست بزائدةٍ، واختلف القائلون بذلك على ستةِ أوجه:
أحدها: أن يكونَ بعد الواوِ فعلٌ محذوفٌ وهو المُعَلَّل، تقدير: «وَلِتُكْمِلُوا العِدّضةَ فَعَلَ هَذَا»، وهو قولُ الفراء. الثاني - وقاله الزَّجَّاج - أن تكون معطوفةً على علَّة محذوفةٍ حُذِف معلولُها أيضاً تقديره: فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ؛ ليسهّل عليكم، ولِتُكْمِلُوا.
الثالث: أن يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقَّراً بعد هذه العلةِ تقديرُه: «ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ رَخَّصَ لكُمْْ فِي ذَلِكَ» ونسبه ابن عطيَّة لبعض الكوفيين.
الرابع: أنَّ الواو زائدةٌ، تقديرُه: يُرِيدُ اللَّه بِكُمْ كَذَا لِتُكْمِلُوا، وهذا ضَعِيفٌ جِداً.
الخامس: أنْ يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدَّراً بعد قوله: «وَلَعَلَّكُمْ تُشْكُرُونَ»، تقديرُه: شَرَعَ ذلك، قاله الزمخشري، وهذا نصُّ كلامه قال: «شَرَعَ ذَلِكَ، يعني جُملة ما ذلك من أمر الشاهد بصَوم الشَّهر، وأمر المُرَخَّص لهُ بمراعاة عدَّة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطرِن فقولهُ:» وَلِتُكْمِلُوا «علَّةُ الأمر بمراعاة العدَّةن و» لِتُكَبِّرُوا «علةُ ما عُلِمَ من كيفية القضاءِ والخروج عن عُهْدةٍ الفِطْر و» لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «علةُ الترخيص ولاتيسير، وهذا نوعٌ من اللَّفِّ لطيفُ المَسْلَكِ، لا يهتدي إلى تبيُّنه إلا النُقَّابُ من علماء البَيَانِ».
السادس: أن تكون الواوُ عاطفةً على علَّةٍ محذوفةٍ، التقديرُ: لتعملوا ما تعملو، ، ولِتُكْمِلُوا، قاله الزمخشريُّ؛ وعلى هذا، فالمعلَّلُ هو إرادةُ التيسير
واختصارُ هذه الأوجه: أنْ تكون هذه اللامُ علةً لمحذوفٍ: إمَّا قبلها، وإمَّا بعدها، أو تكونَ علةً للفعل المذكور قبلها، وهو «يُرِيدُ». القول الثالث: أنهَّا لام الأمر وتكونُ الواوُ قد عطفت جملةً أمريةً على جملةٍ خبريَّةٍ؛ فعلى هذا يكونُ من بابِ عطفِ الجملِ؛ وعلى ما قبلَهك يكونُ من عطف المفردات؛ كما تقدَّم تقريرُه، وهذا قولُ ابن عطيَّة، وضَعَّفه أبو حيان بوجهين:
289
أحدهما: أَنَّ أمرَ المخاطبِ بالمضارع مع لامِهِ لغةٌ قليلةٌ، نحو: لِتَقُمْ يَا زَيْدُ، وقد قرئ شَاذَاً:
﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨] بتاء الخطاب.
والثاني: أن القُرَّاء أجمعُوا على كسر هذه اللام، ولو كانت للأمر، لجاز فيها الوجهان: الكسرُ والإسكانُ كأخواتها.
وقرأ الجمهورُ «وَلِتُكْمِلُوا» مخفَّفاً من «أكْمَلَ»، والهمزةُ فيه للتعدية، وقرأ أبو بكرٍ بتشديدِ الميم، والتضعيفُ للتعدية أيضاً؛ لأنَّ الهمزة والتضعيف يتعاقبان في التعدية غالباً، والألفُ واللاَمُ في «العِدَّةِ» تَحْتَملُ وجهين:
أحدهما أنها للعهدِ، فيكونُ ذلك راجعاً على قوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ وهذا هو الظاهرُ.
والثاني: أنْ تكونَ للجنس، ويكونُ ذلك راجعاً على شهرِ رمضانَ المأمورِ بصَومهِ، ولامعنى: أنكم تأتُون ببدلِ رمضان كاملاً في عِدَّته، سواءً كان ثلاثين أم تسعةً وعشرين.
قال ابن الخطيب: إنما قال: «وَلِتُكْمِلُوا العِدّةَ» ولم يقل: «ولِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ» ؛ لأنه لما قال: «وَلِتُكْمِلُوا العِدَّة» دخل تحته عدة أيَّام الشهر، وأيام القضاء، لتقدُّم ذكرهما جميعاً؛ ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلاً لعدد المضي، ولو قال: «وَلِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ» لدل على حكم الأداء فقط، ولم يدخل حكم القضاء.
واللامُ في «وَلِتُكَبِّرُوا» كهي في «وَلِتُكْمِلُوا» فالكلامُ فيها كالكلام فيها، إلا أن القول الرابع لا يتأتَّى هنا.
قوله: «عَلَى مَا هَدَاكُمْ» هذا الجارُّ متعلِّقٌ ب «تُكَبِّرُوا» وفي «عَلَى» قولان:
أحدهما: أنها على بابها من الاستعلاءِ، وإنما تَعَدَّى فعلُ التكبير بها؛ لتضمُّنِهِ معنى الحمدِ. قال الزَّمخشري: «كأنَّه قيل: ولِتكَبِّروا اللَّهَ حَامِدِينَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ» قال أبو حيان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وهذا منه تفسيرُ معنىً، لا إعراب؛ إذ لو كان كذلك، لكان تعلُّقُ» عَلَى: «ب» حَامِدِينَ «التي قَدَّرها، لا ب» تُكَبِّرُوا «، وتقديرُ الإعراب في هذا هو:» وَلِتَحْمدُوا الله بالتكْبِيرِ على ما هَدَاكُم «؛ كما قدَّره الناسُ في قوله: [الراجز]
٩٤٦ - قَدْ قَتَلَ اللَّهُ زِيَاداً عَنِّي...
290
أي: صَرَفَه بالقتلِ عني، وفي قوله: [الطويل]
٩٤٧ - وَيَرْكَبُ يَوْمَ الرَّوْعِ مِنَّا فَوَارِسٌ بَصِيرُونَ فِي طَعْنِ الكُلَى وَالأَبَاهِرِ
أي: متحكِّمُونَ بالبصيرةٍ في طعنِ الكُلَى».
والثاني: أنهى بمعنى لام العلَّة والأوَّل أولى لأنَّ المجازَ في الحرفِ ضعيفٌ.
و «ما» في قوله: «عَلَى مَا هَدَاكُمْ» فيها وجهان:
أظهرهُما: أنها مصدرية، أي: على هدايته إيَّاكم.
والثاني: أنَّها بمعنى «الذي» قال أبو حيان «وَفِيهِ بَعْدٌ مِنْ وَجْهَيْن:
أحدهما: حذفُ العائد، تقديرُه، هَدَاكُمُوهُ، وقدَّره منصوباً، لا مجروراً باللام، ولا ب»
إِلَى «لأنَّ حذفَ المنصوبِ أسهلُ.
والثاني: حذفُ مضافٍ يصحُّ به معنى الكلامِ على إتْباعِ الذي هَدَاكُم أو ما أشبَهَهُ «.:
وخُتِمَت هذه الآية الكريمة بترجِّي الشُّكر، لأنَّ قبلها تيسيراً وترخيصاً، فناسب خَتمَها بذلك، وخُتمت الآيتان قبلها بترجِّي التقوى، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩] وقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام﴾ [البقرة: ١٧٨] لأنَّ القصاصَ والصومَ من أشقِّ التكاليف، فناسب خَتْمَها بذلك، وهذا أسلوبٌ مطَّردٌ، حيث وَرَدَ ترخيصٌ عقَّبَ بترجِّي الشكر غالباً، وحيث جاء عَدَمُ ترخيصٍ عَقَّب بترجِّي التقوى وشبهها، وهذا من محاسن عِلْم البيان والله أعلم.

فصل في المراد بالتكبير في الآية


في المراد بهذا التكبير قولان:
أحدهما: المراد منه التَّكبير لَيلَةَ الفطر.
قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - حقٌّ على المسلمين، إذا رأوا هلالَ شَوَّالِ أنْ يكبِّروا.
قال مالكٌ والشَّافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد وإسحاقُ وأبو يُوسفُ ومحمَّد: سُنَّ التكبيرُ في لَيْلَتي العيدين.
وقال أبو حنيفة: يكرَهُ في غداة الفِطر.
واحتجَّ الأوَّلُون بقوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ﴾ [قالوا:
291
معناه] ولتكملوا عدَّة صوم رمضان، ولتكبّروا الله على ما هداكم إلى أجر الطَّاعة.
واختلفُوا في أي العيدين أوكدُ في التَّكبير؟ فقال الشَّافعيُّ في» القديم «: ليلة النَّحرِ أوكد؛ لإجماع السَّلف عليها، وقال في» الجديد «ليلةُ الفطر أوكَدُ؛ لورود النصِّ فيها، وقال مالكٌ: لا يكَبَّر في ليلة الفطرِ، ولكنه يكَبَّر في يومه، وهو مرويٌّ عن أحمد.
وقال إسحاق: إذا غدا على المُصَلَّى.
واستدَلَّ الشافعيُّ بقوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ﴾ تدلُّ على أن الأمر بهذا التَّكبير وقع معلَّلاً بحصول الهداية، وهي إنما حصلت بعد غُرُوب الشَّمس؛ فلزم التَّكبير من ذلك الوقت، واختلفُوا في انقضاء وقتِهِ، فقيل: يمتدُّ إلى تحريم الإحرام بالصَّلاة.
وقيل: إلى خروج الإمام.
وقيل: إلى انصراف الإمام، وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - إذا أتى المصلَّى ترك التَّكبير.
القول الثاني في المراد بهذا التَّكبير: هو العظيم للَّه تعالى؛ شكراً على توفيقه لهذا الطَّاعة.
قال القرطبي:»
عَلَى مَا هَدَاكُمْ «قيل: لما ضَلَّ فيه النصارَى من تبديل صيامهم.
وقيل: بدلاً عمَّا كانت الجاهليَّة تفعله بالتَّفَاخُر بالآباء، والتَّظاهر بالأحساب، وتعديد المناقب.
وقيل: لتعظّموه على ما أرشدكُم إليه من الشَّرَائع.
292
في اتصال هذه الآية بما قبلَها وجوه:
أحدها: أنَّه لما قال بعد إيجاب شهر رمضان وتبيين أحكامه: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا
292
هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: ١٨٥] فأمر العبد بالتَّكبير الذي هو الذِّكر وبالشكر، أعلم العبد أنه سبحانه بلُطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشُكره، فيسمع نداءه ويجيبُ دعاءه.
الثاني: أنه أمره بالتَّكبير أولاً، ثم رغبه في الدعاء ثانياً تنبيهاً على أن الدعاء لا بُدَّ وأن يكون مسبُوقاً بالثناء الجميل؛ ألا ترى أن الخليل - عليه السَّلام - لمَّا أراد الدعاء قَدَّم أولاً الثناء؛ فقال: ﴿الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨] إلى قوله: ﴿والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين﴾ [الشعراء: ٨٢] فلما فرغ من هذا الثناء، شرع في الدُّعاء، فقال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً﴾ [الشعراء: ٨٣] فكذا هاهنا.
الثالث: أنَّه لما فرض عليهم الصِّيام، كما فُرض على الذين من قبلهم؛ وكانوا إذا ناموا، حرم عليهم ما حرم على الصَّائم، فشَقَّ ذلك على بعضهم؛ حتَّى عصوا في ذلك التكليف، ثم نَدِمُوا وسألوا النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن توبتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة مُخبراً لهم بقبول توبتهم، وبنسخ ذلك التَّشديد؛ بسب دعائهم وتضرُّعهم.

فصل في بيان سبب النزول


ذُكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة وجوهٌ:
أحدها: ما قدّمناه.
الثاني: قال ابن عبَّاس: إنَّ يهُود المدينة قالوا: يا محمَّد، كيف يسمع ربُّك دعاءنا، وأنت تزعم أنَّ بيننا وبينَ السَّماء مسيرة خمسمائة عامٍ، وأنَّ غِلَظَ كلِّ سماءٍ مثلُ ذلك؟ فنزلت الآية الكريمة
الثالث: قال الضَّحَّاك: إنَّ أعربيّاً سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: أرقيبٌ ربُّنا فنناجيه أم بعيدٌ فنناديه؟ فأنزل الله تعالى الآية.
الرابع: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان في غزاة خيبر، وقد رفع أصحابُهُ أصواتهُم بالتكبير والتَّهليل والدُّعاء، فقال رسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اربعون على أنفسكم فإنَّما لا تدعون أصمّ ولا غائباً، إِنَّما تدعون سمعياً قريباً وهُو معكُم.
293
الخامس: قال قتادةُ وغيره: إنَّ الصحابة قالوا: كيف ندعُو ربنا، يا رَسُول الله، فنزلت الآية.
السادس: قال عطاءٌ وغيره: إن الصحابة سألوا في أي ساعة ندعوا ربنا فأنزل الله الآية.
السابع: قال الحسن: سأل أصحابُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالوا: أين رَبُّنا؟ فأنزل الله الآية.

فصل


واعلم أنَّ المراد من الآية الكريمة ليس هو القُرب بالجهة؛ لأنَّه تبارك وتعالى، لو كان في مكانٍ، لما كان قريباً من الكُلِّ، بل كان يكون قريباً من حملة العرش، وبعيداً غيرهم، ولكان إذا كان قريباً من زيدٍ الذي بالشَّرق، كان بعيداً من عمرو الذي بالمغرب، فلَمَّا دلَّت الآية الكريمة على كونه تعالى قريباً من الكُلِّ، علمنا أنَّ القرب المذكُور في الآية الكريمة ليس قرباً بجهة، فثبت أن المراد منه أنهقريبٌ بمعنى أنه يسمع دعاءهم.
والمرادُ من هذا القُرب العلمُ والحفظُ؛ على ما قال: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: ٤] وقال ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ [ق: ١٦] وقال تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] ونظيره: وهو بينكُمْ وبَيْنَ أعناق رواحلكم.
قال ابن الخطيب: وإذا عرف هذا فنقُول: لا يبعدُ أن يقال: إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلاً بالتَّشبيه، فقد كان من مشركي العرب، وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته، فإذا سألوه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أين ربُّنا؟ صحَّ أن يكون الجوابُ: فإنِّي قريبٌ، فإنَّ القريبَ مِنَ المتكلَّم يسمعُ كلامَهُ، وإن سألوه كيف يدعُون؛ برفع الصَّوت أو بإخفائه؟ صحَّ أن يجيبَ بقوله: «فإِنِّي قَرِيبٌ»، وإن سألوه أنه هل يعطينا مطلوبنا بالدُّعاء؟ صحَّ هذا الجوابُ، وإن سألوه: إنا إذا أذنبنا ثم تُبنا، فهل يقبلُ الله توبتَنَا؟ صحَّ أن يجيبَ بقوله «فَإِنِّي قَرِيبٌ» أي: فأنا القريبُ بالنظر إليهم، والتجاوز عنهم، وقبُول التَّوبة منهم؛ فثبت أنَّ هذا الجواب مطابقٌ للسُّؤَالِ على كُلِّ تقدير.
قوله تعالى: «أُجِيبُ» فيها وجهان:
أحدهما: أنها جملةٌ في محلِّ رفع صفةً ل «قَريبٌ».
والثاني: أنها خبرٌ ثانٍ ل «إنِّي» ؛ لأنَّ «قَرِيبٌ» خبرٌ أوَّلُ.
294
ولا بُدَّ من إضمارِ قولٍ بعد فاء الجزاء، تقديرُه: فَقُلْ لهم إِنِّ قريبٌ، وإنما احتَجْنَا إلى هذا التقدير؛ لأنَّ المرتِّب على الشَّرط الإخبارُ بالقُرب، وجاء قوله «أُجِيبُ» ؛ مراعاةً للضمير السابقِ على الخبر، ولم يُراعَ الخبرُ، فيقالُ: «يُجِيبُ» بالغَيْبَة؛ مراعاةً لقوله: «قَرِيبٌ» ؛ لأنَّ الأشْهَرَ من طريقتي العرب هو الأولُ؛ كقوله تعالى: ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [النمل: ٥٥] وفي أخرى ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ [النمل: ٤٧]، وقول الشاعر: [الطويل]
٩٤٨ - وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً إِذَا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وسَلُولُ
ولو راعى الخبر، لقال: «مَا يَرَوْنَ القَتْلَ».
وفي قوله: «عَنِّي» و «إِنِّي» التفاتٌ من غيبة إلى تكلُّم؛ لأنَّ قبله: «وِلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ» والاسمُ الظاهرُ في ذلك كالضميرِ الغائبِ، والكافُ في «سَأَلَكَ» للنبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وإنْ لم يجر له ذكرٌ، إلاَّ أنَّ قوله: ﴿أُنْزِلَ فِيهِ القرآن﴾ [البقرة: ١٨٥] يَدُلُّ عليه؛ لأنَّ تقديره: «أُنْزِلَ فيه القرآنُ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -» وفي قوله: فَإِنِّي قَريبٌ «مجازٌ عن سرعةِ أجابته لدعوةِ داعيه، وإلاَّ فهو متعالٍ عن القُرْبِ الحِسِّيِّ، لتعاليه عن المَكَان.
قال أبو حَيَّان: والعامِل في»
إِذَا «قوله:» أُجِيبُ «يعني» إِذَا «الثانية، فيكون التقديرُ: أُجِيبُ دعوَتهُ وقتَ دعائِه، فيُحْتَملُ أنْ تكونَ لمُجَرَّد الظرفية، وأَنْ تكونَ شرطيةً، وحذف جوابها؛ لدلالةِ» أُجِيبُ «عليه؛ وحينئذٍ لا يكونُ» أُجِيبُ «هذا الملفوظ به هو العامل فيها، بل ذلك المحذوفَ، أو يكونُ هو الجوابَ عند مَنْ يُجِيزُ تقديمهُ على الشَّرط، وأمَّا» إِذَا «الأولى، فإنَّ العاملَ فيها ذلك القولُ المقدَّرُ، والهاء في» دَعْوَة «ليست الدالَّة على المَرَّة، نحو: ضَرْبَةٍ وقَتْلَةٍ، بل التي بُنِيَ عليها المصدرُ، نحو: رحمة ونجدة؛ فلذلك لم تَدُلَّ على الوَحْدَة.
والياءان من قوله: «الدَّاع - دَعَان»
من الزوائد عند القُرَّاءِ، ومعنى ذلك أنَّ الصحابة لم تُثْبِت لها صورةً في المُصحَف، فمن القُرَّاءِ مَنْ أَسْقَطَها تَبَعاً للرسل وَقْفاً ووَصْلاً. ومنهم مَنْ يُثْبِتُها في الحالَين، ومنهم مَنْ يُثْبِتُها وَصْلاً ويحذِفُها وَقْفاً، وجملةُ هذه الزوائد اثنتان وستُّون ياءً، فأثبَتَ أبو عمرو وقَالُونُ هاتَينِ الياءَيْنِ وَصْلاً وحَذَفَاهَا وَقْفاً.

فصل في بيان حقيقة الدُّعاء


قال أبو سليمان الخطَّابيُّ: والدُّعاء مصدر من قولك: دعَوتُ الشَّيءَ أَدعوه دُعاءً، ثم أقامُوا المَصدرَ مقام الاسم؛ تقول: سمعتُ الدعاء؛ كما تقولُ: سمعتُ الصَّوتَ، وقد
295
يوضعُ المصدر موضع الاسم؛ كقولك: رَجُلٌ عدلُ، وحقيقةُ الدعاء: استدعاءُ العبدِ ربَّهُ جلَّ جلالهُ العناية، واستمدادُهُ إيَّاه المعونَةَ.
والإجابةُ في اللُّغة: الطاعةُ وإعطاءُ ما سُئِلَ، فالإجابةُ من الله العطاءُ، ومن العبدِ الطاعةُ.
وقال ابنُ الأنبياريِّ «أُجِيبَ» ههنا بمعنى «أَسْمَعُ؛ لأنَّ بين السماع والإجابةِ نَوْعَ ملازمةٍ.

فصل في الجواب على من ادَّعى أن لا فائدة في الدُّعاء


قال بعضهم: الدعاء لا فائدة فيه لوجوهٍ:
أحدها: أنَّ المطلوب بالدُّعاء، إنْ كان معلوم الوقُوع عند الله تعالى، كان وقوعهُ واجباً؛ فلا حاجة إلى الدُّعاء، وإن كان معلوم الانتفاءِ واجبَ العَدَمِ، فلا حاجة إلى الدُّعاء.
وثانيها: أنَّ وقوع الحَوَادِث في هذا العالم إنْ كان لا بُدَّ لها منْ مُؤَثِّر قديم اقتضى وجودَها اقتضاءً قديماً، كانت واجبةً الوُقُوع، وكلُّ ما لم يقتض المؤثِّرُ القديمُّ وجودَهُ اقتضاءً أزليّاً، كان ممتنعَ الوقُوع، وإذا كانت هذه المقدِّمة ثابتةً في الأَزَلِ، لم يكُن للدعاءِ ألبتَّة أثر، وربَّما عبَّروا عن هذا الكلام بأنْ قالوا: الأقدَارُ سابقةٌ، والأقضيةُ متقدِّمةٌ، فالإِلحاح في الدُّعاء لا يزيد فيها وتركُه لاَ ينقُصُ منها شيئاً، فأيُّ فائدةٍ في الدعاء، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:»
أَرْبَعٌ قَدْ فُرِغَ منها: الخَلْقُ والخُلُقُ وَالرِّزْقُ وَالأَجَلُ «
وثالثها: أنَّه سبحانه وتعالى قال: ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور﴾ [غافر: ١٩] وإذا كان يعلمُ ما في الضمير، فأيُّ حاجةٍ إلى الدُّعاء.
ورابعها: أنَّ المطلوب بالدعاء، إنْ كان من مصالح العَبْد، فالجواد المطلق لا يهملُهُ، وإن لم يكُنْ من مصالحه، لم يَجُزْ طلبه.
وخامسها: أنَّه ثبت أنَّ أجلَّ مقامات الصِّدِّيقين وأعلاها الرِّضا بقضاء الله تعالى والدعاءُ ينافي ذلك؛ لأنه اشتغالٌ بالاتماس، وترجيحٌ لمراد النَّفسِ على مُرَاد الله.
وسادسها: أنَّ الدعاء يُشبهُ الأمر والنَّهي، وذلك من العبد في حقِّ المولى الكريم سُوءُ أَدَب.
296
وسابعها: قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - عن الله تعالى: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي»
وقال الجمهور: الدعاء أفضَلُ مقاماتِ العبُوديَّة، واحتجُّوا بأدلَّة:
الأول: هذه الآية الكريمة.
الثاني: قوله تعالى: ﴿ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠] الثالث: قوله ﴿فلولاا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٤٣] بين أنه تعالى، إِذَا لَمْ يُسْألْ يَغْضب، وقال - عليه السَّلام - «لاَ يَنْبَغِي لأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ يَجْزِمُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ» وقرأ «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»، فقوله «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ» معناه أنه مُعْظَم العبادة، وأفضل العبادة؛ كقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «الحَجُّ عَرَفة»، أي: الوقوف بِعَرَفَةَ هو الرُّكْن الأَعْظَم.
الرابع: قوله: ﴿ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: ٥٥] وقال: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ﴾ [الفرقان: ٧٧] والآياتُ في هذا الباب كثيرةٌ، فمن أبطل الدعاء، فقد أنكَرَ القرآن، وأمَّا الأحاديث فكثيرةٌ.
والجوابُ عن شبهتهم الأولى بالمناقضة؛ فنقُول: إقدامُ الإنسان على الدعاء، إن
297
كان معلوم الوقوع، فلا فائدة باشتغالكم بإبطال الدُّعاء، وإن كان معلوم العدم، لم يكُنْ إلى إنكاركُم حاجة.
والجوابُ عن الثَّانية: علم الله تعالى وكيفيَّةُ قضائه وقدره غائبةٌ عن العُقُول والحكمة الإلهيَّة تقتضي أن يكُون العَبد معلَّقاً بين الرَّجاء والخَوف اللّذين بهما يتمُّ العبودية، ولهذا صَحَّحنا القَول بالتَّكاليف مع الاعرتاف بإحاطة علم الله تعالى بالكُلِّ وجريان قضائِهِ وقدره في الكُلِّ، ولهذا الإشكال سألت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - رسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالوا: أرأيت أعمالنا هذه أشيء فرغَ منهُ، أم أمرٌ يستأنِفُهُ؟ فقال: «بَلْ أَمْرٌ فُرغَ مِنْهُ» فقالوا: فَفِيمَ العَمَلُ إذَنْ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ لَهُ» فانظُر إلى لطائف هذا الحديث، فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - علَّقهم بين أمرين، فرهَّبهم سابقَ القَدَر المفروغ منه، ثم ألزمهم العمل لاذي هو مدرجةُ التعبُّد، فلم يبطل ظاهر العَمَل بما يفيد من القضاء والقدر، ولم يترك أحد الأمرين للآخر، وأبخر أنَّ فائدة العمل هو المقدَّر المفروغُ، فقال: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» يريد أنَّه ميسَّر في أيَّام حياته للعَمَل الذي سَبَقَ له القَدَر قَبْل وجوده وكذا القولُ في باب الكسب والرِّزق فإنه مفروغٌ منه في الأصل لا يزيده الطَّلَبُ، ولا ينقصه التَّرك.
والجوابُ عن الثالث: أنه ليس المقصودُ من الدعاءُ الإعلام بالمطلوب، بل إظهار العُبُوديَّة والذلَّة والانكِسار والرُّجُوع إلى الله تعالى بالكُلِّيَّة.
والجواب عن الرابعة: أنه يجوزُ أنْ يصير ما ليسَ بمصلحَةٍ بحسب سَبق الدعاء.
والجواب عن الخامس: إذا كان مقصُوده من الدُّعاء إظهار الذلَّة والمسكنة، ثم بعده الرضا بما قدَّره الله تعالى وقاضه، فذلك من أعظم المقامات، وهذا الجوابُ أيضاً بقيَّة الشُّبَهِ.
فإن قيل: إنَّه تعالى قال ﴿ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، وقال هنا ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ﴾، وقال ﴿أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ﴾ [النمل: ٦٢] ثم إنا نرى الداعي يبالغ في الدَّعَواتِ والتضرُّع، فلا يجاب.
فالجوابُ من وجوه:
أحدها: أن هذه الآيات، وإن كانت مطلقةً إلاَّ أنه وردت في آية أخرى مقيَّدة، وهو قوله تعالى: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ﴾ [الأنعام: ٤١] والمطلق يحمل على المقيَّد.
وثانيها: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «دَعْوَةُ المُسْلم لاَ تُرَدُّ إلاَّ لإحْدى ثَلاث: مَا لَمْ يَدْعُ بإثْمِ، أَوْ
298
قِطيعَة رَحِمٍ، أَوْ يَسْتَعْجلْ»، قَالُوا: وَمَا الاسْتِعْجَالُ، يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دَعوْتُكَ يَا رَبِّن قَد دَعَوتُكَ يَا رَبِّ، قَدْ دَعَوْتُكَ يَا رَبِّن فَلاَ أَرَاكَ تستجيبُ لي، فيستَحْسِرُ عند ذلك فيدع الدُّعاء
وثالثها: أنَّ قوله ﴿أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ يقتضي أنَّ الداعي عارفٌ بربِّه، ومِنْ صفاتِ الربِّ سبحانه وتعالى أنه لا يَفْعَلُ إلاَّ ما وافَقَ قضاءه وقدره، وعلمه وحكمته، فإذا علم العبدُ أنَّ صفة ربِّه هكذا، استحَالَ منه أن يقول بقلبه أو بعقله يا ربِّ، أفعل الشَّيء الفُلانِيَّ، بل لا بدَّ وأن يقول: أفعل هذا الفعل، إن كان موافقاً لقضائك وقدرك؛ وعند هذا يصيرُ الدُّعاء المجابُ مشروطاً بهذه الشرائط، فزال السؤال.
ورابها: أن لفظ الدعاء والإجابة يحتمل وجوهاً كثيرة:
فقيل: الدعاء عبارةٌ عن: التوحيد والثَّناء على الله تعالى؛ لقول العبد يا الله الذي لا إله إلا أنتَ، فدعَوتَهن ثم وحَّدتَه وأثنيت عليه فهذا يسمَّ دعاءً بهذا التأويل، فسمي قبوله إجابةً للتجانس، ولهذا قال ابن الأنباريِّ: «أُجِيبُ» ههنا بمعنى «أًسْمَعُ» ؛ لأن بيهن السماع والإجابة نوع ملازمةٍ، فلهذا السبب يقام كلُّ واحدٍ منهما مُقام الآخر، فقولنا: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»، أي: أجاب الله، فكذا هاهنا قوله: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع﴾، أي: أَسْمَعُ تلكَ الدَّعوة، فإذا حَمَلنا قوله تعالى ﴿ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ على هذا الوجه، زال الإشكال.
وقيل: المرادُ من الدعاءِ التَّوْبة مِنَ الذُّنُوب؛ وذلك لأنَّ التائب يدعُو الله تعالى بتوبته، فيقْبَلُ توبته، فإجابته قبول توبته إجابة الدُّعَاء، فعلى هذا الوجه أيضاً يزول الإشكال.
وقيل: المرادُ من الدُّعاء العبادةُ، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: الدعاءُ هو العبَادةُ ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: ٦٠] فالدُّعاء هاهنا هو العبادة.
وإذا ثَبَتَ ذلك، فإجابة الله للدُّعاء عبارةٌ عن الوفاءِ بالثَّواب للمُطيع؛ كما قال
﴿وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ [الشورى: ٢٦] روى شهرُ بنُ حوشبٍ عن عبادة بن الصامت، قال: سمعتُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقولُ: «أعطيت أُمَّتي ثلاثاً، لم تُعطَ إِلاَّ للأنبياء: كان الله إِذَا بَعَثَ النَّبِيَّ، قَالَ:» ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ «، وقال لهذه الأُمَّة:» ادعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «وكان الله إذا بعث النَّبيَّ، قال له:» مَا جَعَلَ عَلَيْكَ في
299
الدِّين مِنْ حَرَجٍ وقال لهذه الأُمَّة: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨] وكان الله تبارك وتعالى إذا بعث النَّبيِّ جعلهُ شهِيداً على قومه، وجعل هذه الأمَّة شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس «
وخامسها: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع﴾ إنْ وافقَ القضاء وأُجيب إن كانت الإجابةُ خَيْراً لهُ، أو أجيبه إن لم يسأَلْ مُحَالاً.
وسادسها: روى عُبادةُ بن الصَّامت؛ أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:»
مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمِ يَدْعُوا الله عَزَّ وَجَلَّ بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بإِثْمٍ أَوْ قَطيعَةِ رَحِمٍ «
وسابعها: إِنَّ الله يجيب دعاء المؤمِنِ في الوقت، ويؤخِّر إعطاءَ مَنْ يجيب مراده، ليدعوه فيسمع صوته، ويعجِّل إعطاء من لا يُحِبُّه؛ لأنه يبغض صوته.

فصل


قال سفيان بن عيينة: لا يمنعنَّ أحداً من الدُّعاء ما يعلمه من نفسه، فإنَّ الله تبارك وتعالى قد أجاب دعاء شرِّ الخلق إبليس، لَعَنَةُ اللَّهُ؛ قال: ﴿قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ﴾ [الأعراف: ١٤ - ١٥].
وللدُّعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة، كالسَّحرِ، ووقت الفطِر، وما بين الأذانِ والإقامة، وما بين الظُّهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الإضرار وحالة السَّفر والمرض، وعند نزول المطر، والصَّفّ في سبيل الله تعالى كُلُّ هذا جاءت به الآثارُ.
وروى شهرُ بن حوشب؛ أنَّ أُمَّ الدرداءِ قالت لهُ: يا شهرُ، ألا تجدُ القشعريرة؟ قلت: نعم قالت فادعُ الله فإنَّ الدُّعاء يُستجابُ عند ذلك.
قوله: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي﴾ في الاستفعالِ هنا قولان:
أحدهما: أنَّه للطلب على بابه، والمعنى: فَلْيَطْلُبُوا إِجَابَتِي، قاله ثعلبٌ.
الطَّاعة والعَمَل، كما قال تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٤].
300
والثاني: أنه بمعنى الإفعال، فيكون استفعل وأفعل بمعنى، وقد جاءَت منه ألفاظ، نحو: أقرَّ واستقرَّ؛ وأبلَّ المريضُ واستبلَّ وأحصدَ الزَّرع واستحْصَدَ، واسْتَثَارَ الشَّيْء وَأَثَارَهُ، وَاسْتَعْجَلَهُ وأَعْجَلَهُ، ومنه اسْتَجَابَةُ وَأَدَابَهُ، وإذا كان اسْتَفْعَلَ بمعنى أَفْعَلَ، فقد جاء متعدّياً بنفسه، وبحرف الجَرِّ، إلا أنه لم يَردْ في القرآن إلاَّ مُعَدّىً بحرف الجرِّ نحو: ﴿فاستجبنا لَهُ﴾ [الأنبياء: ٨٤] ﴿فاستجاب لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٩٥] ومِنْ تَعدِّيه بنفسه قول كعب الغنوي: [الطويل]
٩٤٩ - وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
ولقائل أنْ يقُول: يحتملُ هذا البيت: إنْ يكون مِمَّا حُذف منه حرفُ الجرِّ.
واللامُ لامُ الأمر، وفرٌَّ الرُّمَّانيُّ بين أجاب واستَجَابَ: بأنَّ «اسْتَجَابَ» لا يكون إلا فيما فيه قَبُولٌ لما دُعي إليه؛ نحو: ﴿فاستجبنا لَهُ﴾ ﴿فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُم﴾، وأمَّا «أَجَابَ» فأعمُّ، لأنه قد يُجيبُ بالمخالفة، فجعل بينهما عموماً وخصوصاً.
والجمهورُ على «يَرشُدُونَ» بفتح الياءِ وضمِّ الشينِ، وماضيه: رَشَدَ بالفتح، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بخلافٍ عنهما بكسر الشين، وقُرئ بفتحها، وماضيه رشِد بالكسر، وقرئ: «يُرْشَدُونَ» مبنيّاً للمفعول، وقرئ: «يُرْشِدُونَ» بضم الياء وكسر الشين من «أَرْشَدَ»، والمفعولُ على هذا محذوفٌ، تقديرُه: يُرْشِدُونَ غيرهم «والرُّشْدُ» هو الاهتداء لمصالح الدِّين والدُّنيا؛ قال تبارك وتعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً﴾ [النساء: ٦] وقال ﴿أولئك هُمُ الراشدون فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً﴾ [الحجرات: ٧ - ٨].
قال القرطبي: و «الرُّشْدُ» خلاف الغيِّ، وقد رشد يرشُدُ رُشداً ورشِدَ - بالكَسْر - يَرْشَدُ رَشَداً لغةٌ فيه وأرشدهُ اللَّهُ والمراشِد: مقاصد الطُّرق والطريقُ الأرشَدُ نحو الأقصد وأُمُّ راشدٍ كُنية للفأرة، وبنو رشدان بطنٌ من العرب عن الجوهريِّ.
وقال الهرويُّ: الرُّشْدُ والرَّشد والرَّشَادُ: الهدى والاستقامة؛ ومنه قوله تعالى: «يَرْشُدُونَ».
فإنْ قيل: إجابةُ العبد للَّه تعالى إنْ كانت إجابةً بالقَلْب واللِّسان، فذاك هو الإيمانُ، وعلى هذا، فيكونُ قوله: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي﴾ تكراراً محضاً، وإن كانت إجابةُ العبد للَّه تعالى عبارةً عن الطاعات كان الإيمان مقدَّماً على الطاعات، وكان حقُ النَّظم أن يقول: «فَلْيُؤْمِنُوا بِي وَلْيَسْتَجيبُوا لِي» فلم جاء على العكس.
301
فالجواب: أن الإيمان عبارةُ عن صفة القلب، وهذا يدلُّ على أنَّ العبد لا يصلُ إلى نُور الإيمان، إلاَّ بتقديم الطَّاعات والعبادات.
302
قوله تعالى: ﴿لَيْلَةَ الصيام﴾ منصوبٌ على الظرف، وفي الناصب له ثلاثةُ أقوالٍ:
أحدها - وهو المشهورُ عند المُعْربين -: «أُحِلَّ»، وليس بشيءٍ؛ لأنَّ الإحلال ثابتٌ قبل ذلك الوقت.
الثاني: أنه مقدرٌ مدلولٌ عليه بلفظ «الرَّفَث»، تقديرُه: أُحِلَّ لكُمْ أن ترفُثُوا ليلة الصِّيام؛ كما خرَّجوا قول الشاعر: [الهزج]
٩٥٠ - وَبَعْضُ الحِلْم عِنْدَ الْجَه لِ لِللذِّلَّةِ إِذْعَانُ
أي: إِذْعانٌ لِلذِّلَّةِ إِذْعانٌ، وإنما لم يَجُزْ أَنْ ينتصب بالرَّفث؛ لأنه مصدرٌ مقدَّرٌ بموصولٍ، ومعمولُ الصلة لا يتقدَّمُ على المَوصُولِ، فلذلك احْتَجْنَا إلى إضمار عاملٍ منْ لفظ المذكُور.
الثالث: أنه متلِّق بالرَّفثِ، وذلك على رأي منْ يرى الاتساع في الظروف والمجْرُوراتِ، وقد تقدَّم تحقيقه.
وأضيفت اللِّيلةُ للصيام؛ اتِّساعاً، لأنَّ شرط صحته، وهو النيةُ، موجودةً فيها، والإضافة تحدُثُ بأدنى ملابسةٍ، وإلاَّ فمِنْ حقِّ الظَّرف المضاف إلى حدثٍ أن يُوجَدَ ذلك الحدث في جزءٍ من ذلك الظَّرف، والصومُ في اللَّيل غيرُ معتَبَرٍ، ولكنَّ المُسَوِّغ لذلك ما ذكرتُ لك أو تقول: الليلة: عبارةٌ عمَّا بين غروب الشَّمس إلى طلوعها، ولمَّا كان الصَّيام من طلوع الفجر، فكان بعضُهُ واقعاً في اللِّيل فساغ ذلك.
والجمهورُ على «أُحِلَّ» مبنيّاً للمفعول للعلمِ به، وهو اللَّهُ تعالى، وقرئ مبنياً للفاعل، وفيه حينئذٍ احتمالان:
302
أحدهما: أن يكونّ من باب الإضمار؛ لفَهْمِ المعنى، أي أَحَلَّ اللَّهُ؛ لأنَّ من المعلومِ أنه هو المُحَلِّلُ والمحرِّم.
والثاني: أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عاد عليه من قوله: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي﴾ وهو المتكلِّم، ويكونُ ذلك التفاتاً، وكذلك في قوله: «لَكُمْ» التفاتٌ من ضمير الغَيْبة في: «فَلْيَسْتَجِيبُوا، وَلْيُؤْمِنُوا»، وعُدِّي «الرَّفث» ب «إِلَى»، وإنما يتعدَّى بالباء؛ لما ضُمِّن مِنْ معنى الإفضاء مِنْ قوله ﴿وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٢١] كأنه قيل: أُحِلَّ لَكُمْ الإفْضَاءُ إلى نسائِكُمْ بِالرَّفَثِ. قال الواحديّ: أراد بليلة الصِّيام ليالي الصِّيام، فأوقَعَ الواحد موقع الجماعة؛ ومنه قولُ العبَّاس بن مرداسٍ: [الوافر]
٩٥١ - فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ
قال ابن الخطيب: وأقولُ: فيه وجهٌ آخرُ، وهو أنَّه ليس المراد من «لَيْلَةَ الصِّيَامِ» ليلةً واحدةً، بل المراد الإشارةُ إلى اللِّيلة المضافة إلى هذه الحقيقة.
وقرأ عبد الله «الرَّفُوثُ» قال اللَّيْث وأصل الرَّفث قول الفحش، والرَّفثُ لغةً مصدرُ: رَفَثَ يَرْفِثُ بكسر الفاء وضمها، إذا تكلم بالفُحشِ، وأرْفَثَ أَتَى بالرَّفثِ؛ قال العجاج: [الرجز]
٩٥٢ - وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّم
وقال الزَّجَّاج: - ويُروى عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «إِنَّ الرَّفثَ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجُلُ من المَرْأَةِ»، وقيل: الرَّفث: الجِمَاعُ نفسُهُ، وأنشد: [الكامل]
٩٥٣ - وَيُرَيْنَ مِنْ أَنَسِ الْحَدِيثِ زَوَانِياً وَلَهُنَّ عَنْ رَفَثِ الرِّجَالِ نِفَارُ
وقول الآخر: [المتقارب]
٩٥٤ - فَظِلْنَا هَنَالِكَ فِي نِعْمَةٍ وَكُلِّ اللَّذَاذَةِ غَيْرَ الرَّفَثْ
ولا دليل؛ لاحتمالِ إرادة مقدِّمات الجماع؛ كالمداعَبَةِ والقُبْلَة، وأنشد ابنُ عبَّاسٍ، وهو مُحْرِمٌ: [الرجز]
303
٩٥٥ - وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَاهَمِيسَا إِنْ يَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا
فقيل له: رَفَثْتَن فقال: إنَّما الرَّفَثُ عند النساء.
فثبت أنَّ الأصل في الرَّفَثِ هو قول الفحش، ثم جعل ذلك اسماً لما يتكلَّم به عند النِّسَاء من معاني الإفضاء، ثم جعل كنايةً عن الجماع، وعن توابعه.
فإن قيل: لِمَ كَنَّى هاهنا عن الجماع بلفظ «الرَّفَث» الدَّالِّ على معنى القبح بخلاف قوله ﴿وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٢١] وقوله تعالى: ﴿فَلَماَّ تَغَشَّاهَا﴾ [الأعراف: ١٨٩]، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء﴾ [النساء: ٤٣] وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء: ٢٣]، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧] وقوله تعالى: ﴿فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ﴾ [النساء: ٢٤] ﴿وَلاَ تَقْرَبُوهَنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٢].
فالجواب: أنَّ السبب فيه استهجان ما وجد منهم قبل الإجابة؛ كما سمَّاه اختياناً لأنفسهم؛ قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - إنَّ الله سبحانه وتعالى حَيِيٌّ كريمٌ يُكَنِّي، كُلُّ ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدُّخول والرَّفث، فإنما عنى به الجماع.

فصل في بيان سبب النزول


ذكروا في سبب نزول هذه الآية: أنه كان في أوَّل الشَّريعة يحلُّ الأكل والشُّرب والجِماع ليلة الصِّيامن ما لم يرقُدِ الرجل ويصلِّي العشاء الأخيرة، فإن فعل أحدهما: حرم عليه هذه الأشياء إلى اللَّيلة الآتية، فجاء رجُلٌ من الأنصار عشيَّةً، وقد أجهده الصَّوم، واختلفوا في اسمه؛ فقال معاذٌ: اسمه أبو صرمة بن قيس بن صرمة، وقال عكرمة: أبو قيس بن صرمة، وقيل صرمة بن أنس.
فسأله النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم وبجَّل وعظَّم عن سبب ضَعْفِهِ، فقال: يا رسول الله، عملت في النَّخل نهاري أَجْمَعَ: حتَّى أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ أَهْلِي لتطعمني شَيْئاً، فَأَبْطَأتْ، فنمت فَأَيْقَظُونِي، وَقَدْ حَرُمَ الأَكْلُ؛ فَقَامَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقال: يا رسول الله أنِّيأعتذر إلى الله وإليك من نفس هذه الخاطية؛ إنِّي رجعت إلى أهلي بعد ما صلِّيت العشاء، فوجدت رائحةً طيِّبةً فسوَّلت لي نفس، فجامعت أهلي، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف،
304
وكرَّم ومجَّد وبجَّل، وعظَّم: ما كنت جديراً بذلك يا عمر، فقام رجالٌ، فاعترفوا بمثله، فنزل قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ﴾.
فصل ذهب جمهور المفسِّرين أنَّه كان في أوَّل شرعنا، إذا أفطر الصَّائم، حلَّ له الأكل والشُّرب والجماع، ما لم ينم أو يُصَلِّ العشاء الآخرة، فإذا فعل أحدهما، حرم عليه هذه الأشياء، ثم إنَّ الله تعالى، نسخ ذلك بهذه الآية الكريمة.
وقال أبو مسلم: هذه الحرمة ما كانت ثابتةً في شرعنا ألبتَّة، بل كانت ثابتةً في شرع النصارى، فنسخ الله تعالى بهذه الآية ما كان ثابتاً في شرعهم.
واحتجَّ الجمهور بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٣] يقتضي تشبيه صومنا بصومهم، وقد كانت هذه الحرمة ثابتةً في صومهم؛ فوجب أن يكون التشبيه ثابتاً في صومنا، لقصد أن يكون منسوخاً بهذه الآية الكريمة.
الثانيك قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ﴾ ولو كان هذا الحلُّ ثابتاً لهذه الأُمَّة من أول الأمر، لم يكن لقوله: «أُحِلَ لَكُمْ» فائدةٌ.
الثالث: قوله سبحانه: ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ ولو كان ذلك حلالاً لهم، لما احتاجوا إلى أن يختانوا أنفسهم.
الرابع: قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ [وَلَوْلاَ أنَّ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّماً عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَقْدَمُوا على المعصِيَةِ؛ بِسَبَبِ الإقْدام على ذلك الفعل، لما صحَّ قوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ ].
الخامس: قوله تعالى: «فالآنَ بَاشِرُهُنَّ» ولو كان الحلُّ ثابتاً قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله تعالى: «فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ» فائدةٌ.
السادس: ما رويناه في سبب النُّزُول.
305
وأجاب أبو مُسْلمٍ عن الأوَّل: بأنَّ التشبيه يكفي في صدقه المشابهة في أصل الوجوب.
وعن الثَّاني: بأنَّا لا نسلِّم أنَّ هذه الحرمة كانت ثابتةً في شرع من قبلنا، فقوله: «أُحِلَّ لَكُمْ» معناه: أُحِلَّ لَكُمْ ما كان مُحَرَّماً على غيركم.
وعن الثالث: بأنَّ تلك الحرمة كانت ثابتةً في شرع عيسى - عليه السلام - ثم إن الله تعالى أوجب الصيام علينا، ولم ينقل زوال تلك الحرمة، فكان يخطر ببالهم أنَّ تلك الحرمة باقيةُ علينا، لأنَّه لم يوجد في شرعنا ما دلَّ على زوالها، وممَّا يزيد هذا الوهم قوله سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ وكان مما كتب على لاذين من قبلنا هذه الحرمة؛ فلهذا كانوا يعتقدون بقاء تلك الحرمة في شرعنا، فشدَّدوا وأمسكوا عن هذه الأمور، فقال تبارك وتعالى: ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ فيكون المراد من الآية الكريمة أنه لو لم أُبَيِّنْ لكم إحلال الأكل والشُّرب والمباشرة طوال اللِّيل، لكنتم تنقصون أنفسكم شهواتها وتمنعونها لذَّاتها ومصلحتهاح بالإمساك عن ذلك بعد النَّوم؛ كسُنَّة النصارى، وأصل الخيانة: النَّقصُ.
وعن الرابع: أن التوبة من العبد: الرُّجُوع إلى الله تعالى بالعبادة، ومن الله سبحانه: الرُّجُوع إلى العبد بالرحمة والإحسان، وأما العفو فهو التجاوز، فبيَّن الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما كان ثقيلاً على من قبلنا، والعفو قد يستعمل في التوسعة والتخفيف؛ قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ وَالرَّقِيقِ» وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «فِي أَوَّلِ الوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَفِي آخِرِهِ عَفْوُ اللَّهِ»
والمراد منه التخفيف بتأخير الصَّلاة إلى آخر الوقت؛ ويقال أتاني هذا المال عفواً، أي: سهلاً.
وعن الخامس: بأنَّهم كانوا بسبب تلك الشُّبهة ممتنعين عن المباشرة، فبيَّن الله
306
تعالى ذلك، وأزال الشُّبهة بقوله: «: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ».
وعن السادس: بأنَّ في الآية الكريمة ما يدلُّ على ضعف هذه الرِّواية؛ لأن الرواية أنَّ القوم اعترفوا بما فعلوا عند الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وذلك خلاف قوله تعالى: ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ ؛ لأنَّ ظاهره المباشرة، لأنَّه افتعالٌ من الخيانة.
وقوله: «كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ» في محلِّ رفعٍ خبرٌ ل «أَنَّ». و «تَخْتَانُونَ» في محلِّ نصبٍ خبرٌ ل «كَانَ».
قال أبو البقاء: و «كُنْتُمْ» هنا لفظها لفظ الماضي، ومعناها أيضاً، والمعنى: أنَّ الاخْتِيَانَ كان يقع منهم، فتاب عليهم منه، وقيل: إنَّهُ أرَاد الاختيان في الاستقبال، وذكر «كَانَ» ليحكي بها الحال؛ كما تقول: إن فعلت، كنت ظالماً «وفي هذا نظرٌ لا يخفى.
و»
تَخْتَانُونَ «تَفْتَعِلُونَ من الخيانة، وعينُ الخيانة واوٌ؛ لقولهم: خَانَ يَخُونُ، وفي الجمع: خَوَنَة، يقال: خَانَ يَخُونُ خَوْناً، وخِيَانَةَ، وهي ضدُّ الأمانة، وتَخَوَّنْتُ الشَّيْءَ تَنَقَّصْتُهُ؛ قال زُهَيْر في ذلك البيت: [الوافر]
٩٥٦ - بِآرِزَةِ الفَقَارَةِ لَمْ يَخُنْهَا قِطَافٌ في الرِّكَابِ وَلاَ خِلاَءُ
وخَانَ السَّيفُ إذا نَبَا عن الضَّرْبَةِ، وخَانَهُ الدَّهْرُ، إذا تغيَّر حاله إلى الشَّرِّ، وخَانَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، إذا لَمْ يُؤَدِّ الأمانَةَ، ونَاقِضُ العَهْدِ خائِنٌ، إذا لم يف، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً﴾ [الأنفال: ٥٨] والمدين خائنٌ؛ لأنَّه لم يف بما يليقُ بدينه؛ ومنه قوله تعالى: ﴿لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٧] وقال تعالى: ﴿وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ﴾ [الأنفال: ٧١] فسُمِّيت المعصية بالخيانة.
وقال الزمخشريُّ:»
والخْتِيَانُ: من الخيانة؛ كالاكْتِسَاب من الكَسْبِ، فيه زيادةٌ وشِدَّة «؛ يعني من حيث إنَّ الزيادة في اللفظ تُنْبِىءُ عن زيادةٍ في المعنى، كما قدَمَهُ في قوله تعالى: ﴿الرحمن الرَّحِيمِ﴾ وقيل هنا: تختانُونَ أَنْفُسَكُمْ، أي: تتعهَّدُونها بإتيان النِّسَاء، وهذا يكون بمعنى التَّخْويل، يقال: تَخَوَّنَهُ وتَخَوَّلَهُ بالنون واللامِ، بمعنى تَعَهَّدَهُ، إلا أنَّ النون بدلٌ من اللاَّم؛ لأنه باللام أِهر.
و»
عَلِمَ «إن كانت المتعدية لواحدٍ، تَكُونُ بمعنى عَرَفَ، فتكونُ» أَنَّ «وما في حيِّزها سادَّةً مَسَدَّ مفعولٍ واحدٍ، وإن كطانت المتعدية لاثنين، كانت سادةً مَسَدَّ المفعولين على رأي سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومَسَدَّ أحدهما، والآخر محذوفٌ على مذهب الأخفش.
307
وقوله: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ لا محلَّ له من الإعراب؛ لأنه بيانٌ للإحلال، فهو استئنافٌ وتفسيرٌ.
يعني إذا حصلت بينكم وبينهنَّ مثل هذه المخالطة والملابسة، قلَّ صبركم عنهنَّ، وضعف عليكم اجتنابهنَّح فلذلك رخَّص لكم في مباشرتهنَّ.
وقدَّم قوله: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ على ﴿وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ ؛ تنبيهاً على ظهور احتياج الرجل للمرأة وعدم صبره عنها؛ ولأنَّه هوالبادىءُ بطلب ذلك، وكنى باللباس عن شِدَّةِ المخالطة؛ كقوله - هو النابغة الجَعْدِيُّ -: [المتقارب]
٩٥٧ - إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاساَ
وفيها أيضاً: [المتقارب]
٩٥٨ - لَبِسْتُ أُنَاساً فَأَفْنَيْتُهُمْ وَأَفْنَيْتُ بَعْدَ أُنَاسِ أُنَاسَا
قال القرطبيُّ: وشُدِّدتُ النُّون من «هُنَّ» لأنها بمنزلة الميم والواو ف المذكَّر.
وورد لفظ «اللِّبَاسِ» على أربعة أوجهٍ:
الأول: بمعنى السَّكَن؛ كهذه الآية.
الثاني: الخلط؛ قال تبارك وتعالى: ﴿الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ٨٢]، أي: لم يخلطوا.
الثالثك العمل الصالح؛ قال تعالى: ﴿وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى﴾ [الأعراف: ٢٦]، أي: عمل التقوى.
الرابع: اللِّباس بعينه؛ قال تعالى: ﴿يا بني آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً﴾ [الأعراف: ٢٦].

فصل في وجوه تشبيه الزوجين باللِّباس


في تشبه الزَّوجين باللِّباس وجوه:
أحدها: أنه لمَّا انضمَّ جسد كلِّ واحدٍ منهما إلى الآخر؛ كالثَّوب الذي لبس، سُمِّي كلُّ واحدٍ منهما لباساً.
قال الرَّبيعُ: هُنَّ فراشٌ لكم، وأَنْتُمْ لِحَافٌ لهُنَّ.
308
وقال ابن زَيْدٍ: إنَّ كلَّ واحِدٍ منها يَسْتُرُ صاحبَهُ عند الجماع عن أبْصَارِ النَّاسِ.
وقال أبو عُبَيْدَةَ وغيره: يقال للمَرْأةِ: هِيَ لِبَاسُكَ وَفِرَاشُكَ وَإِزَارُكَ، وقيل: اللِّبَاسُ اسمٌ لما يُواري الشَّيء، فيجوز أن يَكُونَ كُلُّ واحد منهما سِتْراً لصاحبه عمَّا لا يَحِلُّ؛ كما ورد في الحديث: «مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ سَتَرَ ثُلُثَيْ دِينِهِ».
الثاني: أن كلَّ واحدٍ منهما يخصُّ نفسه بالآخر؛ كما يخصُّ لباسه بنصيبه.
قال الوَاحِديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما وحَّد «اللِّباس» بعد قوله تعالى: «هُنَّ» ؛ لأنه يجري مجرى المصدر، و «فِعَالٌ» من مصادر «فَاعَلَ»، وتأويله: وهُنَّ ملابساتٌ لكم.

فصل في معنى «تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ»


قال القرطبيُّ: معنى ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: يستأمر بعضكم بعضاً في مواقعه المحظور من الجماع والأكل بعد النَّوم في ليالي الصَّوم؛ كقوله تعالى: ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] أي: يقتل بعضكم بعضاً، ويحتمل أن يريد به كلَّ واحد منهم في نفسه؛ بأنه يخونها وسمَّاه خائناً لنفسه من حث كان ضرره عائداً عليه؛ كما تقدَّم.

فصل


قال ابن الخطيب: إنَّه تعالى ذكر هاهنا أنَّهم كانوا يختانون أنفسهم، ولم يبيِّن تلك الخيانة فيماذا، فلا بُدَّ من حملها على شيءٍ له تعلُّق بما تقدَّم وما تأخَّر، والذي تقدَّم هو ذكر الجماع، والذي تأخَّر هو قوله تعالى: «فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ» فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع وهاهنا قولان:
الأول: عَلَمَ اللَّه أنَّكم كنتم تستَتِرُون بالمَعْصيَة بالجَماع بَعْد العتمة، والأكْل بَعْد النَّوم، وترتكبون المحرَّم من ذلك وكلُّ من عصى الله، فقد خانَ نفسه؛ وعلى هذا القول: يجب أن يقطع بأنَّ ذلك وقع من بعضهم؛ فدلَّ على تحريم سابقٍ، لأنَّه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم للعادة والإخبار، وإذا صحَّ وقوعه من بعضهم، دلَّ على تحريم سابقٍ، ولأبي مسلم أن يقول: قد بيَّنَّا أنَّ الخيانة عبارةٌ عن عدم الوفاء بما يجب عليهم، فأنتم حملتموه على عدم الوفاء بما هو أحقُّ بطاعة الله، ونحن حملناه على عدم الوفاء بما هو حقٌّ للنفس، وهذا أولى؛ لأنَّ الله تعالى لم يقُلْ: علمك [الله] أنَّكم كنْتُمْ تختانونَهُ [أنفُسكم]، وإنما قال: تَخْتَانثونَ أنْفُسَكُمْ، وكان حمل اللفظ على ما ذكرنا، إن لم يكن أولى، فلا أقلَّ من التساوي، وبهذا التقدير: لا يثبت النَّسخ.
309
القول الثاني: أنَّ المراد ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ لو دامت تلك الحرمة، فمعناه: أنَّ الله يعلم أنَّه لو دام ذلك التكليف الشَّاقُّ، لوقعوا في الخيانة، وعلى هذا التقدير: ما وقعت الخيانة، فيمكن أن يقال: التفسير الأوَّل أولى؛ لأنَّ لا حاجة فيه إلى اضمار الشَّرط، وأن يقالك بل الثاني أولى؛ لأنَّه على الأوَّل يصير إقدامهم على المعصية سبباً لنسخ التكليف، وعلى الثاني: علم الله أنه لو دام ذلك التكليف، لحصلت الخيانة، فنسخ التكليف رحمةً من الله على عباده، حتى لا يقعوا في الخيانة.
وأمَّا قوله تعالى «فَتَابَ عَلَيْكُمْ» فمعناه على قول أبي مُسلم: فرجع عليكم بالإذن في هذا الفعل والتَّوسعة عليكم، وعلى قول مثبتي النَّسخ لا بُدَّ فيه من إضمار، تقديره: تبتم، فتاب عليكم، وقوله «وَعَفَا عَنْكُمْ» على قول أبي مسلم: أَوْسَعَ عَلَيْكُمْ بإباحة الأكل والشُّرب والمباشرة في طول اللَّيل، ولفظ «العَفْ» يستعمل في التوسعة والتخفيف؛ كما قدَّمناه، وعلى قول مثبتي النَّسخ، لا بد وأن يكون تقديره: عَفَا عَنْ ذُنُوبكُمْ، وهذا مما يقَوِّي قول أبي مسلم؛ لأن تفسيره لا يحتاج إلى إضمارٍ، وتفسيرُ مثبتي النَّسخ يحتاج إلى إضمارٍ وتفسيرٍ.
قوله: «فالآنَ بَاشِرُوهُنَّ» قد تقدَّم الكلام على «الآنَ» وفي وقوعه ظرفاً للأمر تأويلٌ، وذلك أنه للزمن الحاضر، والأمر مستقبلٌ أبداً، وتأويله ما قاله أبو البقاء؛ قال: «وَالآنَ: حقيقته الوقت الذي أنت فيه، وقد يقع على الماضي القريب منك، وعلى المستقبل القريب، تنزيلاً للقريب منزلة الحاضر، وهو المراد هنا، لأنَّ قوله:» فَالآنَ بَاشِرُوهِنَّ «، أي: فالوقتُ الذي كان يُحَرَّمُ عليكُمْ فيه الجماع من اللَّيلِ»، وقيل: هذا كلامٌ محمولٌ على معناه، والتقدير: فالآن قد أبَحْنَا لَكُمْ مُبَاشَرَتَهُنَّ، ودَلَّ على هذا المحذوف لفظ الأمر، فالآن على حَقِيقَتِهِ. وسمِّي الوِقَاعُ مباشرةً، لتلاصق البَشَرَتَيْنِ فيه:
قال ابن العَرَبِيِّ: وهذا يدُلُّ على أنَّ سبب الآية جماعُ عمر، لا جوع قيس، لأنه لو كان السَّبب جوع قيسٍن لقال: «فَالآن كُلُوا» ابتداءً به؛ لأنه المهمُّ الذي نزلت الآية لأجله.
وقرأ ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «وَاتَّبِعُوا» من «الاتّباع» وتروى عن معاوية بن قرة والحسن البصريِّ، وفسَّروا ﴿مَا كَتَبَ الله﴾ بليلةِ القدر، أي اتَّبِعوا ثوابها، قال الزمخشريُّ: «وهو قريبٌ مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ».
وقرأ الأعمش «وَابْغُوا».
310

فصل


دلَّت الآية على أنَّ الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة، ومن قال بأنَّ مطلق الأمر للوجوب، قالوا: إنما تركنا الظَّاهر هنا للإجماع، وفي المباشرة قولان:
أحدهما - وهو قول الجمهور: أنَّها الجماع، سمِّي بهذا الاسم؛ لتلاصق البَشَرَتَيْنِ.
والثاني - قول الأصمِّ: أنه محمولٌ على المباشرات، ولم يقصره على الجماع، وهذا هو الأقرب إلى لفظ المباشرة، لأنها مشتقَّةٌ من تلاصق البَشَرَتَيْن، إلاَّ أنَّهم اتفقوا على أنَّ المراد بالمباشرة في هذه الآية الكريمة الجماع؛ لأنَّ السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم، وأمَّا اختلافهم في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد﴾ فحمله بعضهم على كلِّ المباشرات؛ لأنَّ المعتكف، لمَّا مُنِعَ من الجماع، فلا بُدَّ وأن يمنع مما دونه.

فصل


في قوله تعالى: ﴿وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ﴾ وجوهٌ:
أحدها: الولد، أي: لا تباشِرُوا لقضاءِ الشَّهوة وحدها؛ ولكن لابتغاء ما وضع له النِّكاح من التَّناسل.
قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلثوا؛ تَكْثُرُوا»
والثاني: أنَّه نهيٌّ عن العزل.
311
الثالث: ابتغوا المحلَّ الذي كتبه الله لكم وحلَّله؛ ونظيره ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾ [البقرة: ٢٢٢].
الرابع: أنه للتأكيد، تقديره: الآن بَاشرُوهُنَّ وابْتغوا هذه المباشرة التي كتبها الله لكم بعد أن كانت محرَّمةً عليكم.
الخامس: قال أبو مُسْلَمٍ: فالآنَ باشرُوهُنَّ، وابتغوا هذه المباشرة التي ان كان الله كتبها لكم، وإن كنتم تظنونها محرَّمة عليكم.
السادس: أن مباشرة الزوجة قد تحرم في بعض الأوقات؛ بسبب الحيض والنِّفاس والعِدَّة والرِّدَّة؛ فقوله: ﴿وابتغوا مَا كَتَبَ الله﴾ يعني: لا تباشِرُوهنَّ إلاَّ في الأوقاتِ المأذونِ لكم فيها.
السابع: «فَالآنَّ بَاشِرُوهُنَّ» إذن في المباشرة، وقوله: ﴿وابتغوا مَا كَتَبَ الله﴾ [يعني: لا تبتغوا هذه المباشرة إلاَّ من الزَّوجة والمملوكة] بقوله: ﴿إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [المؤمنون: ٦].
الثامن: قال معاذ بن جبلٍ، وابن عبَّاسٍ في رواية أبي الجوزاء: يعني اطلبوا ليلةَ القدر، وما كتب الله لكم من الثَّواب فيها إن وجدتُمُوها.
وقال ابن عبَّاس: ما كتب الله لنا هو القرآن.
قال الزَّجَّاج: أي: ابتغوا القرآ بما أبيح لكم فيه، وأمرتم به. وقيل: ابتغوا الرخصة والتوسعة.
قال قتادة: وقيل: ابتغوا ما كتب الله لكم من الإماء والزَّوجات.

فصل في معاني «كَتَبَ»


في «كَتَبَ» وجوه:
أحدها: أنَّها هنا بمعنى جَعَل؛ كقوله
﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان﴾ [المجادلة: ٢٢] أي: جَعَل، وقوله تعالى: ﴿فاكتبنا مَعَ الشاهدين﴾ [آل عمران: ٥٣]، وقوله سبحانه ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٦].
312
الثاني: معناه قضى الله لكم؛ كقوله عزَّ وجلَّ: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا﴾ [التوبة: ٥١]، أي: قضاه.
الثالث: ما كتب الله في اللَّوح المحفوظ ممَّا هو كائنٌ.
الرابع: ما كتب الله في القرآن ما إباحة هذه الأفعال.
قوله: ﴿وَكُلُواْ واشربوا﴾ الفائدةُ في ذكرهما: أنَّه لو اقتصر على قوله: «فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ» لم يعلم بذلك زوال تحريم الأكل والشُّرْب، فذكرهما لتتمَّ الدلالةُ على إباحتهما وهذا جوابُ نازلةِ قيسٍ، والأول جواب نازلةِ عمر، وبدأ بجواب نازلَةِ عُمر لأنه المُهِمُّ.
قوله: «حَتَّى يَتَبَيَنَّ» «حَتَّى» هنا غايةٌ لقوله: ﴿وَكُلُواْ واشربوا﴾ بمعنى «إلى»، ويقال: تَبَيَّنَ الشَّيْءُ، وَأَبَانَ، واسْتَبَانَ، وَبَانَ كُلُّه بمعنّى، وكلُّها تكون متعديةً ولازمةً، إلاَّ «بَانَ» فلازمٌ ليس إلاَّ، و «مِنَ الخَيْطِ» لابتداء الغاية، وهي ومجرورها في محلِّ نصبٍ ب «يَتَبَيَّنَ» ؛ لأنَّ المعنى: حتى يُبَايِنَ الخَيْطُ الأبيضُ الأسود.
و ﴿مِنَ الفجر﴾ يجوزُ فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون تبعيضيةً؛ فتتعلَّق أيضاً ب «يَتَبيَّنَ» ؛ لأنَّ الخيطَ الأبيضَ هو بعضُ الفجر وأوله، ولا يَضُرُّ تعلُّق حرفين بلفظٍ واحدٍ؛ لاختلاف معناهما.
والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنها حال من الضمير في الأبيض، أي: الخيط الذي هو أبيض كائناً من الفجر، وعلى هذا يجوز أن تكون «مِنْ» لبيان الجنس؛ كأنه قيل الخيطُ الأبيضُ الَّذي هو الفجرُ.
والثالثك أن يكون تمييزاً، وهو ليس بشيء، وإنما بَيَّن قوله ﴿الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ﴾ بقوله: ﴿مِنَ الفجر﴾ ولم يُبَيِّنِ الخيطَ الأسود؛ فيقول: مِنَ اللَّيْلِ؛ اكتفاءً بذلك، وإنما ذَكَرَ هذا دونَ ذاكَ؛ لأنَّه هو المَنُوطُ به الأحكام المذكورة في المباشرة والأكْلِ والشُّرْبِ.
وهذا من أحسن التَّشْبيهات، حيث شبَّه بياضَ النَّهار بخيطٍ أبيضَ، وسوادَ الليل بخيطٍ أسودَ، حتى إنه لما ذكر عَدِيُّ بن حاتم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه فهم من الآية الكريمة حقيقة الخيط، تعجَّب منه، وقال: «إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ» ويُروى: «إنَّكَ لَعَرِيضُ القَفَا»
وقد رُوِيَ أنَّ بعض الصحابة فَعَلَ كَفِعْلِ عَدِيٍّ، ويروى أن بين قوله ﴿الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود﴾ وبين قوله: ﴿مِنَ الفجر﴾ عاماً كاملاً في النزول.
روي عن سَهْل بْنِ سَعْدٍ، قال: أُنْزِلَتْ ﴿وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود﴾ ولم ينزل قوله: ﴿مِنَ الفجر﴾ وكان رجالٌ إذا أرادوا الصَّوم، ربط أحدهم في رجليه الخَيْطَ الأبْيَض، والخَيْط الأَسْود، ولا يزال يأكل حتى يتبيَّن له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى ﴿مِنَ الفجر﴾، فعلموا أنَّه إنما عني اللَّيل والنَّهار، وسُمِّي الفجر
313
خَيطاً؛ لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدّاً؛ كالخيط.
قال الشَّاعر: [البسيط]
٩٥٩ - أَلْخَيْطُ الأَبْيَضُ ضَوْءُ الصُّبْحِ مُنْفَلِقٌ وَالخَيْطُ الأسْوَدُ جُنَحُ اللَّيْلِ مَكْتُومُ
والخَيطُ في كلامهم عبارةٌ عن اللون، قاله القرطبيُّ، وأنشد لأبي دؤاد الإياديِّ في ذلك فقال: [المتقارب]
٩٦٠ - فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُ سُدْفَةٌ وَلاَحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا
وقد تُسمِّيه العرب أيضاً الصَّديع، ومنه قولهم: انْصَدَعَ الفجْرُ؛ قال بِشْرُ بْنْ أبي خازمٍ، أو عَمْرُوا بن مَعْدِيكرِبَ: [الوافر]
٩٦١ - تَرَى السِّرْحَانَ مُفْتَرِشاً يَدَيْهِ كَأَنَّ بَيَاضَ لَبَّتِهِ صَدِيعُ
وهذا النوع من باب التشبيه لا من الاستعارة؛ لأنَّ الاستعارة هي أن يُطْوَى فيها ذكر المشبَّه، وهنا قد ذكر وهو قوله: ﴿مِنَ الفجر﴾، ونظيره قولك: «رَأَيْتُ أَسَداً مِنْ زَيْد»، لو لم تَذْكُر: «مِنْ زَيْدٍ» لكان استعارةٌ، ولكنَّ التشبيه هنا أبلغُ؛ لأنَّ الاستعارة لا بُدَّ فيها من دلالةٍ حاليةٍ، وهنا ليس ثمَّ دلالةٌ، ولذلك مَكَثَ بعضُ الصحابة يَحْمِلَ ذلك على الحقيقة مدةً، حتَّى نزل «مِنَ الفَجْرِ» فتركت الاستعارة، وإن كانت أبلغ لما ذكرنا.
فإن قيل: إنَّ بياضَ الصُّبح المشبه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذبُ؛ لأنَّ مستطيلٌ كشبه الخيط، وأما الصُّبْحُ الصادق، فهو بياضٌ مستديرٌ مستطيلٌ في الأفق، فلزم على مقتضى الآية كون أوَّل النهار من طلوع الصُّبحِ الكاذب، وليس كذلك بالإجماع.
فالجواب: أنَّ قوله ﴿مِنَ الفجر﴾ بيَّن أن المراد به الصُّبح الصادق، لا يكون منتشراً، بل يكون صغيراً دقيقاً، فالصادق أيضاً يبدو دقيقاً، ويرفع مستطيلاً. والفجر مصرد قولك فَجَرْتُ المَاءَ أَفْجُرُه فَجْراً وفجَّرْتُهُ تَفْجِيراً، قال الأزهريُّ: الفَجْرُ أصله الشَّقُّ، فعلى هذا هو انشقاقُ ظُلْمَة اللَّيل بنُورِ الصُّبح.

فصل


زعم أبو مسلم الأصفهاني: أنه لا شيء من المفطِّرات إلاَّ أحد هذه الثَّلاث، وما ذكره الفقهاء من تكلُّف القيءِ والحقنة والسَّعوط، فلا يفطر شيءٌ منها.
قال: لأنَّ كلَّ هذه الأشياء كانت مباحةً ثم دلَّت هذه الآية الكريمة على حرمة هذه الثلاثة على الصَّائم بعد الفجر، وبقي ما سواها عل الإباحة الأصليَّة، والفقهاء قالوا: خصوا هؤلاء بالذِّكْر؛ لأنَّ النَّفس تميل إليها.
314

فصل في صوم الجنب


مذهب أبي هريرة والحسن بن صالح؛ أنَّ الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال، لم يكن له صوم، وهذه الآية تبطل قولهم؛ لأنَّ المباشرة، إذا أبيحت إلى انفجار الصُّبح، لم يمكنه الاغتسال إلاَّ بعد الصُّبح.
ويؤيِّده ما ورد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أنه كان يدركه الفجر، وهو جنبٌ من أهله، ثم يغتسل ويصوم، والله أعلم.

فصل


زعم الأعمش أنه يحل الأكل والشُّرب والجماع بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس؛ قياساً لأوَّل النهار على آخره؛ فكما أن آخره بغروب الشَّمس، وجب أن يكون أوله بطلوع الشَّمس، قال: إن المراد بالخيط الأبيض، والخيط الأسود في الآية الكريمة هو اللَّيلُ والنَّهار، قال: ووجْه التشبيه ليس إلاَّ في البياض والسَّوَاد؛ لأن ظلمة الأفق حال طلوع
315
الصُّبح لا يمكن تشبيهها الأسود في الشَّكل ألبتة؛ فثبت أنَّ المراد بالخيط الأسود في الآية هو اللَّيل والنهار.
ثم لو بحثنا عن حقيقة اللَّيل في قوله: ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل﴾ لوجدناها عبارةً عن زمن غيبة الشَّمس؛ بدليل أنَّ الله تعالى سمَّاها بعد المغرب ليلاً مع بقاء الضَّوء فيه؛ فثبت أنه يكون الأمر في الطَّرف الأوَّل من النهار كذلك؛ فيكون قبل طلوع الشمس أيضاً ليلاً، وألا يوجد النَّهار إلاَّ عند طلوع الشمس، وإلاَّ يلزم أن يكون آخر النَّهار على زعمهم غياب الشَّفق الأحمر؛ لأنَّه آخر آثر الشمس؛ كما أن طلوع الفجر هو أوَّل طلوع آثار الشَّمس، وإذا بطل هذا، بَطَل ذاك، ومن النَّاس من قال: آخر النهار غيابُ الشَّفَق، ولا يجوز الإفطار إلاَّ عند طلوع الكواكب، وكلُّها مذاهب باطلةٌ.
قوله «إلى اللَّيلِ» في هذا الجارِّ وجهان:
أحدهما: أنه متعلِّق بالإتما، فهو غايةٌ له.
والثاني: أنه في محلِّ نصب على الحال من الصيام، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً إلى اللَّيل، و «إلَى» إذا كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها، لم يدخل فيه، والآية من هذا القبيل.

فصل في اختلافهم في ماهيَّة اللِّيل


اختلفوا في اللِّيل ما هو؟ فمنهم: من قاس آخر النهار على أوله، فاعتبروا في حصول الليل زوال آثار الشَّمس؛ كما حصل اعتبار زوال الليل عند ظهور النهار بظهور آثار الشَّمس.
ثم هؤلاء منهم من اكتفى بزوال الحمرة، ومنهم من اعتبر ظهور الظَّلام التَّامْ وظهور الكواكب والحديث يبطل كلَّ ذلك، وهو قوله - عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام -: «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» وهذا الحديث مع الآية يدلُّ على المنع من الوصال.

فصل


الحنفيَّة تمسَّكوا بهذه الآية الكريمة في أنَّ صوم النَّفل يجب إتمامه بقوله تعالى
316
﴿أَتِمُّواْ الصِّيَامَ﴾ والأمر للوجوب فيتناول كُلَّ صيام.
وأجيبوا بأنَّ هذا إنما ورد في بيان أحكام صوم الفرض؛ بدليل أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال: «الصائم المتطوِّع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر»
وعن أمِّ هانىء: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بِشَرَابِ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهَا، فَشَرِبَتْ، فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أن أرُدَّ سُؤْرَكَ، فقال: «إنْ كَانَ قَضَاءً مِنْ رَمَضَانَ، فاقْضي مَكَانَهَُ، وإنْ كَانَ تَطَوُّعاً، فإن شِئْتِ فاقْضي، وإنْ شِئْتِ فَلاَ تَقْضِي»
317
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد﴾ جملةٌ حاليةٌ من فاعل «تُبَاشِرُوهُنَّ»، والمعنى: «لاَ تُبَاشِرُوهُنَّ»، وقد نَوَيْتُم الاعتكافَ في المسجد، وليس المراد النهي عن مباشرتهنَّ في المسجد بقيد الاعتكاف؛ لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضاً.
والعُكُوفُ: الإقامة والملازمة له وهو في الشَّرع: لزوم المَسْجِد لطَاعَةِ الله تعالى فيه، يقال: عَكَفَ بالفتح يَعْكِفُ بالضم والكسر، وقد قرئ: ﴿يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ﴾ [الأعراف: ١٣٨] بالوجهين، وقال الفَرَزْدَقُ: [الطويل]
٩٦٢ - تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِينَ كَأَنَّهُمْ عَلَى صَنَمٍ في الجَاهِلِيَّةِ عُكَّفُ
وقال الطِّرمَّاحُ: [الطويل]
٩٦٣ - فَبَاتَتْ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكَّفاً عُكُوفُ البَوَاكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ
ويقال: الافتعال منه في الخير، والانفعال في الشَّرِّ، وأمَّا الاعتكاف في الشرع. فهو إقامة مخصوصةٌ بشرائط، والكلام فيه بالنسبة إلى الحقيقة الشرعية كالكلام في الصلاة، وقرأ قتادة: «عَكِفُونَ» كأنه يقال: عَاكِفٌ وعَكِفٌ؛ نحو: «بَارٌّ وَبَرٌّ ورَابٌّ
318
وَرَبٌّ»، وقرأ الأعمش: «في المَسْجِدِ» بالإفراد؛ كأنه يريد الجنس.

فصل


لما بين حكم تحريم المباشرة في الصيام، كان يجوز أن يظن بأنَّ الاعتكاف حاله كحال الصَّوم في أنَّ الجماع يحرم فيه نهاراً أو ليلاً.

فصل


لو لمس المعتكف المرأة بغير شهوة، جاز؛ لحديث عائشة، وإن لمسها بشهوة، أو قبَّلها أو باشرها فيما دون الفرج، فهو حرام، وهل يبطل به اعتكافه؛ فيه خلافٌ.

فصل


اتفقوا على أنَّ شرط الاعتكاف الجلوس في المسجد، ثم اختلفوا، فنقل عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه قال: لا يجوز إلاَّ في المسجد الحرام ومسجد المدينة.
قال حُذَيْفَةُ: يجوز في هذين المسجدين، وفي مسجد بيت المقدس؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ إلى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ»
وقال الزُّهْرِيُّ: لا يصحُّ إلاَّ في الجامِعِ.
وقال أبو حنيفة: لا يصحُّ إلاَّ في مسجدٍ له إمامٌ راتبٌ، ومؤذِّن راتب.
وقال الشفعيُّ وأحمد: يصحُّ في جميع المساجد إلاَّ أن المسجد الجامع أفضل؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج إلى الجمعة، فإن اعتكف في مسجد غير الجامع، لاحتاج إلى الخروج إلى الجمعة، فيشهدها ويرجع مكانه، ويصحُّ اعتكافه؛ لأنه خرج إلى فرض، وهو من الشَّرائع القديمة.

فصل في الاعتكاف بدون الصوم


يجوز الاعتكاف بغير صومٍ، وبالصَّوم أفضل؛ وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لا يجوز إلاَّ بالصَّوم.
واحتجَّ الأوَّلون: بأنَّ الاعتكاف لو أوجب الصَّوم، لما صحَّ في رمضان؛ لأنَّ
319
الصَّوم الذي أوجبه الاعتكاف، إمَّا صومٌ آخر غير صوم رمضان، وهو باطلٌ؛ لأن رمضان لا يصحُّ فيه غيره، وأيضاً ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: يا رسول الله، إنِّي نَذَرْتُ في الجاهِلِيَّةِ أن أَعْتَكِفَ لَيْلَةً، فَقَالَ - عليه الصَّلاَة والسَّلام -: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ» والصَّوم لا يجوز في اللَّيل.

فصل


روى مسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالت: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أراد أن يعتكف صلَّى الفجر ثم دخل معتكفه.
وقال مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - إذا نذر اعتكاف شهرٍ دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم.

فصل في أقل مدة الاعتكاف


لا تقدير لزمان الاعتكاف فلو نذر اعتكاف ساعة، انعقد، ولو نذر الاعتكاف مطلقاً، لخرج من نذره باعتكاف ساعة؛ كما لو نذر أن يتصدَّق مطلقاً، فإنه يتصدق بما شاء من قليلٍ أو كثيرٍ، والأفضل أن يعتكف يوماً للخروج من الخلاف، فإنَّ أبا حنيفة لا يجوِّز اعتكاف أقلَّ من يومٍ، بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر، ويخرج بعد غروب الشمس.

فصل


قال القرطبيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: إذا أتى المعتكف كبيرةً، بطل اعتكافه؛ لأنَّ الكبيرة ضدَّ العبادة، كما أنَّ الحدث ضدَّ الطهارة والصَّلاة.
قوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾ مبتدأٌ وخبرٌ، واسمُ الإشارة أخبر عنه بجمع، فلا جائز أن يشار به إلى ما نهي عنه في الاعتكاف، لأنه شيءٌ واحدٌ، بل هو إشارةٌ إلى ما تضمَّنته آية الصيام من أوَّلها إلى هنا، وآية الصيام قد تضمَّنت عدة أوامر، والأمر بالشَّيءِ نَهِيٌّ عن
320
ضدِّه، فبهذا الاعتبار كانت عدَّة مناهٍ، ثم جاء آخرها صريح النهي، وهو: «وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ» فأطلق على الكل «حُدُوداً» ؛ تغليباً للمنطوق به، واعتباراً بتلك المناهي الَّتي تضمَّنتها الأوامر، فقيل فيها حدودٌ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل؛ لأنَّ المأمور به لا يقال فيه «فَلاَ تَقْرَبُوهَا».
وقال أبو مسلم الأصفهانيُّ: «لاَ تَقْرَبُوهَا» أي: لاَ تَتَعَرَّضُوا لها بالتغيير؛ لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٣٤].
قال أبو البقاء: دُخُولُ الفاء هنا عاطفةٌ على شيء محذوفٍ، تقديره: «تَنَبَّهُوا فَلاَ تَقْرَبُوهَا»، ولا يجوز في هذه الفاء أن تكون زائدةً كالتي في قوله تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠] على أحد القولين؛ لأنه كان ينبغي أن ينتصب «حُدُودُ اللَّهِ» على الاشتغال؛ لأنه الفصيح فيما وقع قبل أمر أو نهيٍ، نحو: «زَيْداً فَاضْرِبْهُ، وعَمْراً فَلاَ تُهنْهُ» فلمَّا أجمعت القرَّاء هنا على الرفع، علمنا أنَّ هذه الجملة التي هي «فَلاَ تَقْرَبُوهَا» منقطعةٌ عمَّا قبلها، وإلا يلزم وجود غير الفصيح في القرآن.
والحُدُودُ: جمع حدٍّ، وهو المنع، ومنه قيل للبوَّابِ: حدَّاد، لأنَّه يمنع من العبور قال اللَّيثُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: وحَدُّ الشَيْءِ منتهاه ومنقطعه، ولهذا يقال: الحَدُّ مانعٌ جامِعٌ، أي: يمنع غير المحدودِ الدُّخُول في المَحْدُودِ.
وقال الأزهريُّ ومنه يقال للمحروم، محدودٌ؛ لأنَّه ممنوعٌ عن ارِّزق، وحدود الله ما يمنع مخالفتها، وسمِّي الحديد حديداً؛ لما فيه من المنع، وكذلك: إحداد المرأة؛ لأنَّها تمتنع من الزينة.
والنَّهيُّ عن القُرْبَانِ أَبْلَغُ من النَّهْيِ عن الالتباس بالشيء؛ فلذلك جاءت الآية الكريمة.
وقال هنا: «فَلاَ تَقْرَبُوهَا» وفي مواضع أُخر: ﴿فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ [البقرة: ٢٢٩] ومثله ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله﴾ [البقرة: ٢٢٩] ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ [النساء: ١٤] لأنه غلَّب هنا جهة النهي؛ إذ هو المعقَّب بقوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾ وما كان منهيّاً عن فعله، كان النهيُّ عن قُرْبِانِهِ أبلغ، وأمَّا الآياتُ الأُخَرُ، فجاء «فَلاَ تَعْتَدُوهَا» عَقِيبَ بيان أحكام ذُكِرَتْ قبلُ؛ كالطلاق، والعدَّة، والإيلاء، والحيض، والمواريث؛ فناسب أن ينهى عن التعدِّي فيها، وهو مجاوزة الحدِّ الذي حدَّه الله تعالى فيها.
قال السُّدِّيُّ: المراد بحدود الله شروط الله وقال شَهْرُ بن حَوْشَبٍ: فرائضُ الله.
321
قوله: ﴿كذلك يُبَيِّنُ الله﴾ الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ: أي: بياناً مثل هذا البيان.
فإنَّه لما بيَّن أحكام الصَّوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بياناً شافياً وافياً - قال بعده: ﴿كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ﴾ أي مثل هذا البيان الوافي الواضح.
أو حالاً من المصدر المحذوف؛ كما هو مذهب سيبويه.
قال أبو مُسْلِم: أراد بالآيات الفرائض الَّتي بيَّنها؛ كما قال سبحانه ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [النور: ١] ثم فسَّر الآيات بقوله: ﴿الزانية والزاني﴾ [النور: ٢] إلى سائر ما بيَّنه من أحكام الزِّنا، فكأنه تعالى قال: كذلك يبيِّن اللَّهُ آياتِهِ للنَّاس ما شَرَعَه لَهُمْح ليتَّقُوه، فَيَنْجُوا مِنْ عَذَاب الله.
322
قوله: ﴿بَيْنَكُ﴾ : في هذا الظرف وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق ب «تَأْكُلُوا» بمعنى: لا تَتَنَاقَلُوهَا فيما بينكم بالأكل.
والثاني: أنه متعلِّق بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من «أمْوَالِكُمْ» أي: لا تأْكُلُوهَا كائنةً بينكم، وقدَّره أبو البقاء أيضاً بكائنةٍ بينكم، أو دائرةً بينكم؛ وهو في المعنى كقوله: ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وفي تقدير «دَائِرَةً» - وهو كونٌ مقيَّدٌ - نظرٌ، إلاَّ أن يقال: دلَّت الحال عليه.
قوله: «بالبَاطِلِ» فيه وجهان:
أحدهما: تعلُّقه بالفعل، أي: لا تأخذوها بالسبب الباطل.
الثاني: أن يكون حالاً؛ فيتعلَّق بمحذوفٍ، ولكن في صاحبها احتمالان.
وأحدهما: أه المال؛ كأنَّ المعنى: لا تَأْكُلُوهَا ملتبسَةً بالباطِل.
والثاني: أن يكون الضمير في «تَأْكُلُوا» كأنَّ المعنى: لا تَأْكُلُوها مُبْطِلِينَ، أي: مُلْتَبِسينَ بالبَاطِلِ.

فصل في سبب نزول الآية


قيل: نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عابس الكندي، ادعي عليه ربيعة بن عَبْدَان الحَضْرَميُّ عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرضاً، فقال: إنه غلبني عليها، فقال النَّبيُّ - صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً - للحضرميِّ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ» ؟ قال: لا؛ قال: «فَلَكَ يَمِينُهُ» فانطلق
322
ليحلف، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أَمَا إنْ يَحْلِفْ عَلَى مَالِهِ، ليَأْكُلَهُ ظُلْماً، ليَلْقَيَنَّ اللَّهَ، وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ» فأنزل الله ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل﴾ أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، أي: من غير الوجه الذي أباحه الله، و «البَاطِلُ» في اللغة الذَّاهِبُ الزائل، يقال: بَطَل الشَّيْءُ بُطُولاً وبُطْلاناً، فهو باطلٌ، وجمع الباطل: بَوَاطِلُ، وأَبَاطِيلُ جمع أُبْطُولَة، يقال: بَطَل الأجير يَبْطُل بطالةً، إذا تعطَّل، وتَبَطَّل: اتَّبع اللَّهو، وأبْطَلَ فلانٌ، إذا جاء بالبَاطِل، وقوله تعالى: ﴿لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن﴾ [فصلت: ٤٢] قال قتادة: هو إبليسُ؛ لا يزيد في القرآن، ولا ينقص، وقوله عزَّ وجلَّ ﴿وَيَمْحُ الله الباطل﴾ [الشورى: ٢٤] يعني: الشِّرك، والبَطَلَةُ، والبَطَلَةُ: السَّحَرةُ.
قوله: «لاَ تَأْكُلُوا» ليس المراد منه الأكل خاصَّة؛ لأنَّ غير الأكل من التصرّفات؛ كالأكل في هذا الباب، لكنَّه لمَّا كان المقصود الأعظم من المال، إنَّما هو الأكل، وصار العرف فيمن أنفق ماله، أن يقالك أكله؛ فلهذا عبَّر عنه بالأكل.

فصل فيما يحل ويحرم من الأموال


قال الغزاليُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - في كتاب «الإحياء» : المال إنَّما يحرم إما لمعنًى في عينه، أو لخللٍ في جهة اكتسابه.
فالقسم الأول: الحرام لمعنىً في عينه.
اعلم أنَ الأموال: إمَّا أن تكون من المعادن، أو من النبات، أو من الحيوانات.
أما المعادن وهي أجزاء الأرض فلا يحرم شيءٌ منها، إلاَّ من حيث يضر بالأكل وبعضها ما يجري مجرى السَّمِّ.
وأما النباتُ: فلا يحرم منه إلاَّ ما يزيل الحياة، أو الصِّحَّة، أو العقل.
فمزيل الحياة: كالسُّموم، ومزيل الصِّحَّة: الأدوية في غير وقتها، ومزيل العقل: الخمر، والبنج، وسائر المسكرات.
وأما الحيوانات: فتقسم إلى ما يؤكل، وإلى ما لا يؤكل.
وما يؤكل: إنَّما يحلُّ، إذا ذكِّي ذكاته الشَّرعيَّة، ثم إذا ذُكِّيت، فلا تحلُّ جميع أجزائها، بل يحرمُ منها الدَّم، والفَرْثُ.
القسم الثاني: ما يحرم لخللٍ في جهة إثبات اليد عليه، فنقول:
أخذ المال: إما أن يكون باختيار المالك أو بغير اختياره؛ كالإرث، والذي باخيتاره: إما أن يكون مأخوذاً بأمر مالكه، وإمَّا أن يكون قهراً، أو بالتَّراضي.
323
والمأخوذ قهراً: إما أن يكون لسقوط عصمة المالك؛ كالغنائم، أو باستحقاق الأخذ؛ كزكاة الممتنعين، والنفقات الواجبة عليهم.
والمأخوذ تراضياً: إما أن يؤخذ بعوضٍن كالبيع، والصَّداق، والأُجرة، وإما أن يؤخذ بغير عوض؛ كالهبة، والوصيَّة.
فحصل من هذا التَّقسيم أقسامٌ ستةٌ:
الأول: ما يؤخذ من غير ملكٍ؛ كنيل المعادن، وإحياء الموات، والاصطياد، والاحتطاب، والاستقاء من الأنهار، والاحتشاش؛ فهذا حلالٌ، لا يكون المأخوذ مختصَّاً بذي حرمة من الآدميِّين.
الثانيك المأخوذ قهراً ممَّن لا حرمة له، وهو الفيءُن والغنيمة وسائر أموال الكُفَّار والمحاربين، فذلك حلالٌ للمسلمين، إذا أخرجوا منه الخمس، وقسّموه بين المستحقِّين بالعدل، ولم يأخذوه ممَّن كان له حرمةٌ بأمانٍ، أو عهدٍ.
الثالث: ما يؤخذ قهراً باستحقاق عند امتناع من هو عليه فيؤخذ دون عطائه؛ وذلك حلالٌ؛ إذا تَمَّ سبب الاستحقاق، وتَمَّ وصف المستحقِّ، واقتصر على قدر المستحقِّ.
الرابع: ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة، فهو حلالٌ، إذا روعِيَ شرط العوضين، وشرط العاقدين، وشرط اللَّفظين، أعني: الإيجاب والقبول عند من يشترطهما، مع ما قيَّد الشَّرع به من اجتناب الشُّروط المفسدة.
الخامس: ما يؤخذ بالرِّضَا من غير عوضٍ؛ كما في الهبة، والوصيَّة، والصَّدقة، إذا روعيَ شرط المعفود عليه، وشرط العاقدين، ولم يؤدِّ إلى ضرر.
السادس: ما يحصل بغير اختياره؛ كالميراث، وهو حلالٌ، إذا كان المورِّث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه الحلال، ثم كان ذلك بعد قضاء الدِّين، وتنفيذ الوصايا، وتعديل القسمة من الورثة، وإخراج الزَّكاة، والحجِّ والكفَّارة الواجبة، فهذه مجامع مداخل الحلال، وكُلُّ ما كان بخلاف ذلك كان حراماً.
إذا عرفت ذلك، فنقول: المال: إما أن يكون له، أو لغيره.
فإن كان لغيره: كان حرمته لأجل الوجوه السِّتَّة المذكورة، وإن كان له، فأكله بالحرام: إما بأن يصرفه في شرب الخمر، أو الزِّنا، أو اللِّواط، أو القمار، أو الشُّرب المحرَّم؛ وكلُّ هذه الأقسام داخلةٌ تحت قوله ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا﴾.
قوله: وَتُدْلُوا بِهَا «في» تُدْلُوا «ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مجزومٌ عطفاً على ما قبله؛ ويؤيِّدجه قراءة أُبيٍّ:»
وَلاَ تُدْلُوا «بإعادة لا الناهية.
324
والثاني: أنه منصوبٌ على الصَّرف، وقد تقدَّم معنى ذلك، وأنه مذهب الكوفِيِّين، وأنه لم يثبت بدليل.
والثالث: أنه منصوبٌ بإضمار «أنْ» في جواب النهي، وهذا مذهب الأخفش، وجوَّزه ابن عطيَّة والزَّمخشريُّ، ومَكِّيٌّ، وأبو البقاء، قال أبو حيَّان: «وأمَّا إعراب الأَخْفَشِ، وتجويزُ الزمخشريِّ ذلك هنا، فتلك مسألة:» لاَ تَأْكُلِ السَّمَكَ، وتَشْرَب اللَّبَنَ «قال النحويُّون: إذا نصب، كان الكلام نهياً عن الجمع بينهما، وهذا المعنى: لا يصحُّ في الآية لوجهين:
أحدهما: أنَّ النهي عن الجمع لا يستلزم النَّهي عن كلِّ واحدٍ منهما على انفراده، والنَّهي عن كلِّ واحدٍ منهما يستلزم النَّهي عن الجمع بينهما؛ لأن الجمع بينهما حصول كلِّ واحدٍ منهما، وكلُّ واحدٍ منهما منهيٌّ عنه ضرورةً؛ إلا ترى أنَّ أكل المال بالباطل حرامٌ سواءٌ أفرد أم جمع مغ غيره من المحرَّمات؟
والثاني - وهو أقوى -: أنَّ قوله»
لِتَأْكُلُوا «علَّةٌ لما قبلها، فلو كان النهيُ عن الجمع، لم تيصحَّ العلّةُ له؛ لأنَّه مركَّبٌ من شيئين، لا تصحُّ العلَّة أن تترتَّب على وجودهما، بل إنما تترتَّب على وجود أحدهما: وهو الإدلالء بالأموال إلى الحكام».
والإدلاء مأخوذٌ من إدلاء الدَّلو، وهو إرساله إلى البئر؛ للاستقاء؛ يقال: «أدْلَى دَلْوَهُ» إذا أرسلها، ودَلاَهَا: إذا أخْرَجَها، ثم جُعِلَ كُلُّ إلقاء قول أو فعل إدلاء؛ ومنه يقال للمحتجِّ أدْلَى بِحُجَّتِهِ، كأنه يرسلها، ليصل إلى مراده؛ كإدلاء المستقي الدلو؛ ليصل إلى مطلوبه من الماء، وفلانٌ يدلي إلى الميِّت بقرابة، أو رحم؛ إذا كان منتسباً، فيطلب الميراث بتلك النِّسبة.
و «بِهَا» متعلِّقٌ ب «تُدْلُوا» وفي الباء قولان:
أحدهما: أنها للتعدية، أي لترسلوا بها إلى الحكَّام.
والثاني: أنَّها للسبب؛ بمعنى أن المراد بالإدلاء الإسراع بالخصومة في الأموال؛ إمَّ لعدم بيِّنةٍ عليها، أو بكونها أمانةً؛ كمال الأيتام، والضمير في «بِهَا» : الظاهر أنه للأموال: وقيل: إنه لشهادة الزُّور؛ لدلالة السِّياق عليها، وليس بشيء.
و «مِنْ أَمْوَال» في محلّ نصبٍ صفةً ل «فَرِيقاً» أي: فريقاً كائناً من أمْوَالِ النَّاس.
قوله: «بالإِثْم» تحتمل هذه الباء: أن تكون للسَّبب، فتتعلَّق بقوله: «لِتَأْكُلُوا» وأن تكون للمصاحبة، فتكون حالاً من الفاعل في «لتَأْكُلُوا وتتعلق بمحذوفٍ أي: لِتَأْكُلُوا ملتبسين بالإثم.
325

فصل في سبب تسمية الرشوة بالإدلاء


في تسمية الرَّشوة بالإدلاء وجهان:
326
أحدهما: أن الرَّشوة تقرِّب البعيد من الحاجة؛ كما أنَّ الدَّلو المملوء يصل من
327
البعيد إلى القريب بواسطة الرِّشاء، فالمقصود البعيد يصير قريباً، بسبب الرَّشوة.
والثاني: أن الحاكم بسبب أخذ الرّشوة يمضي في ذلك الحكم من غير تثبُّت؛ كمضيِّ الدَّلو في الرِّشاء، ثم المفسِّرون ذكروا وجوهاً؟
أحدها: قال ابن عبَّاس، والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وقتادة: المراد منه الودائعُ، وما لا يقوم عليه البيِّنة.
وثانيها: أن المراد هو مال اليتيم في يد الأوصياء يدفعون بعضه إلى الحاكم، ليبقى لهم بعضه.
وثالثها: قال الكلبيُّ: المراد بالإدلاء إلى الحكَّام: هو شهادة الزُّور
ورابعها: قال الحسن: هو أن يحلف؛ ليذهب حقَّه؛ كما تقدَّم في سبب النُّزول.
وخامسها: وهو أن يدفع إلى الحاكم رشوة، وهذا أقرب إلى الظاهر، ولا يبعد حمل اللفظ على الكُلِّ؛ لأنها بأسرها أكلٌ للمال بالباطل.
328
وقوله «فَريقاً» أي: طائفةً من أموال النَّاس، والمراد «بالإثْمِ» الظلمُ، وقال ابن عبَّاس - رضي الله عهنما - «الإثْمُ» هنا هو اليمين الكاذبة

فصل في الفسق بأخذ ما يطلق عليه اسم مال


قال الرقطبيُّ: اتَّفق أهل السُّنَّة على أنَّ من أخذ ما وقع عليه اسم مالٍ، قلَّ أو كثر، فإنَّه يفسَّق بذلك، وأنه يحرم عليه أخذه؛ خلافاً لبشر من المعتمر، ومن تابعه من المعتزلة؛ حيث قالوا: إنَّ المكلَّف لا يفسَّق إلاَّ بأخذ مائتي درهمٍ، ولا يفسَّق بدون ذلك. وقال ابن الجُبَّائيِّ: لا يفسَّق إلاَّ بأخذ عشرة دراهم، ولا يفسَّق بما دونهم.
وقال أبو الهُذَيْلِ: يفسَّق بأخذ خمسة دراهم، فما فوقه، ولا يفسَّق بما دونها، وهذا كلّه مردودٌ بالقرآن، اولسُّنَّة، وباتفاق علماء الأمَّة بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «إنَّ دمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»
وقوله تعالى: «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «لِتَأْكُلُوا» وذلك على رأي من يجيز تعدُّد الحال، وأمَّا من لا يجيز ذلك، فيجعل «بالإثْمِ» غير حالٍ.
والمعنى: وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّكُمْ مُبْطِلُون، ولا شكَّ أن الإقدامَ على القبيح، مع العلم بقبحه أقبح، وصاحبه بالتَّوبيخ أحقُّ، وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: اختصَمَ رَجُلاَن إلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، عالمٌ بالخُصُومة، وجاهلٌ بها، فقضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للعالم، فقال مَنْ قَضِيَ عليه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، والَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ، إنِّي مُحِقٌّ بحَقٍّ فقال: إن شِئْتَ أُعَاوِدُهُ، فَعَاوَدَهُ، فَقَضَى لِلعَالِم، فقال المَقْضِيُّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلاً، ثُمَ عَاوَدَهُ ثَالِثاً، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئ مُسْلِم بخصومته، فإنَّما اقتطع قطعةً من النَّارِ» فقال العالمُ المقضِيُّ له: يا رَسُولَ الله، إنَّ الحقَّ حقُّه، فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَنِ اقْتَطَعَ بِخُصُومَتِهِ وجَدَلِهِ حَقَّ غَيْرِهِ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»
329
وعن أمِّ سلمة زوج النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وشرَّف، وكرَّم، وبجَّل، ومجَّد، وعظَّم: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إليَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْو مَا أَسْمَع مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلاَ يَأْخُذَنَّهُ؛ فإنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»
330
نقل عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: مَا كَانَ قَوْمٌ أَقَلَّ سُؤَالاً مِنْ أُمَّةِ محمَّدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - دائماً وأبداً - سأَلُوهُ عَنْ أَرْبَعةَ عَشَرَ حَرْفاً، فَأْجِيبُوا.
قال ابن الخَطِيبِ: ثمانيةٌ منها في سورة البقرة أولُها: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ [البقرة: ١٨٦]. وثانيها: هذه الآية، ثم الباقية بعد في سورة البقرة. فالمجموع ثمانية في هذه السُّورة، والتَّاسع: في المائدة، قوله تبارك وتعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ﴾ [المائدة: ٤] والعاشر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال﴾ [الأنفال: ١] والحادي عشر: في بني إسرائيل ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح﴾ [الإسراء: ٨٥] والثاني عشر في الكهف ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين﴾ [الكهف: ٨٣] والثالث عشر في طه ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال﴾ [طه: ١٠٥] والرابع عشر في النَّازعات ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة﴾ [النازعات: ٤٢].
ولهذه الأسئلة ترتيبٌ عجيبٌ: آيتان:
الأول: منها في شرح المبدأ، وهو قول تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ وهذا سؤالٌ عن الذَّاتِ.
والثاني: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة﴾ وهذا سؤالٌ عن حقيقة الخلاَّقيَّة، والحكمة في جعل الهلال على هذا الوجه.
والآيتان الأخيرتان في شرح المعاد، وهو قوله ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال﴾ [طه: ١٠٥] و ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة﴾ [النازعات: ٤٢].
330
ونظير هذا أنَّه ورد في القرآن الكريم سورتان: أوّلهما «يَا أَيَهَا النَّاسُ» فالأولى: هي السُّورة الرابعة من النِّصْف الأوَّل؛ فإن الأولى هي «الفَاتِحَةُ» ثم «البَقَرَةُ» ثم «آلُ عِمْرَانَ» ثم «النِّسَاءُ» وهي مشتملةٌ على شرح المبدأ ﴿اأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [النساء: ١] والسُّورة الثَّانية: هي الرابعة أيضاً من النِّصف الثاني: فإن أوله «مَرْيَم» ثم «طَه» ثم «الأَنْبيَاء» ثم «الحَجُّ» وهذه مشتملةٌ على شرح الميعاد ﴿ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: ١] فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفيَّةٌ، وحِكَمٌ مطويَّة [لا يَعْرِفُها إلاَّ الخواصُّ مِن عَبِيدِه].

فصل في اختلافهم في السائل عن الأهلَّة


روي عن معاذ بن جبلٍ، وثعلبة بن غنمٍ الأنصاريين قالا: يا رسول الله، ما بالُ الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيطِ، ثُمَّ يزيد؛ حتَّى يمتلىءَ ويَسْتَوِي، ثُمَّ لا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ، لاَ يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ كالشَّمْسِ، فَنَزِلَتْ هذه الآية.
وروي أنَّ معاذ بن جبلٍ قال: إنَّ اليَهُودَ سَأَلُوهُ عَنِ الأهَلَّةِ.
واعلم أنَّ قوله تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة﴾ ليْسَ فيه بيان أنَّهم عن أيِّ شيءٍ سأَلُوا، إلاَّ أنَّ الجواب كالدَّالِّ على موضع السُّؤال؛ لأنَّه قوله: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج﴾ يدلُّ على أنَّ سؤالهم كان على وجه الفائدة والحكمة في تغيُّر حال الأهلَّة في الزيادة والنُّقصان.
قوله تعالى: ﴿عَنِ الأهلة﴾ : متعلِّقٌ بالسؤال قبله، يقال: «سَأَلَ بِهِ وَعَنْهُ» بمعنّى، والضمير في «يَسْأَلُونَكَ» ضمير جماعة.
فإن كانت القصَّة كما روي عن معاذٍ: أنَّ اليهودَ سألُوهُ، فلا كلام، وإن كانت القصَّة أنَّ السائل اثنان؛ كما روي أن معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنمٍ، سألوا، فيحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أن يقال: إن أقلّ الجمع اثنان.
والثاني: من نسبة الشيء إلى جمعٍ، وإن لم يصدر إلاَّ من واحدٍ منهم أو اثنين، وهو كثيرٌ في كلامهم.

فصل


قال الزَّجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «هلال» يُجمع في أقلِّ العدد على «أَفْعِلَةٍ» نحو: مثالٍ
331
وأَمْثِلَةٍ، وحِمَارِ وأَحْمِرَةٍ، وفي أكثر العدد يجمع على «فُعُلٍ» نحو حُمُرٍ، لأنهم كرهوا في التضعيف «فُعُلٍ»، نحو هُلُل وخُلُل، فاتصروا على جمع أدنى العدد.
والجمهور على إظهار نون «عَنْ» قبل لام «الأَهِلَّة» وورشٌ على أصله من نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وقرئ شاذَاً: «عَلَّ هِلَّةِ» ؛ وتوجيهها: أنه نقل حركة همزة «أَهِلَّة» إلى لام التَّعريف، وأدغم نون «عَنْ» في لام التعريف؛ لسقوط همزة الوصل في الدَّرج، وفي ذلك اعتدادٌ بحركة الهمزة المنقولة، وهي لغة من يقول: «لَحْمَرُ» من غير همزة وصلٍ.
وإنما جُمِعَ الهلالُ، وإن كان مفرداً؛ اعتباراً باختلاف أَزمانه؛ قالوا من حيث كونه هلالاً في شهر غير كونه هلالً في آخر، والهل: هذا الكوكبُ المعروف.
واختلف اللُّغَوِيُّون: إلى متى يُسَمَّى هِلاَلاً؟
فقال الجمهور: يُقَالُ له «هِلاَلٌ» لِلَيْلَتَيْنِ، وقيل: لِثَلاَثٍ، ثم يكون «قَمَراً» وقال أبو الهيثم: يُقال له: «هِلاَلٌ» لِلَيْلَتَيْن من أوَّل الشهر، ولَيْلَتَيْنِ من آخره، وما بينهما «قَمَرٌ». وقال الأصمعيُّ: يُقَالُ له «هِلاَلٌ» إلى أن يُحَجِّرُ، وتحجيره: أن يستدير له؛ كالخيط الرقيق «، ويقال له:» بَدْرٌ «من الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة، وقيل: يُسَمَّى» هِلالاً «إلى أن يَبْهَرَ ضَوءُهُ سَوادَ اللَّيْلِ، وذلك إنما يكونُ في سَبْعِ لَيَالٍ».
واعلم أنَّ الشَّهر ينقسم عشرة أقسامٍ، كلُّ قسمٍ: ثلاثُ ليالٍ، ولكلِّ ثلاثِ ليالٍ اسمٌ، فالثلاثة الأولى: تسمَّى غرر، والثانية نقل، والثالثة تسع، والرابعة عشر، والخامسة بيض والسادسة درع، والسابعة ظلم، والثامنة مسادس والتاسعة فرادى والعاشر محاق.
والهلا: يكون اسماً لهذا الكوكب، ويكون مصدراً؛ يقال: هلَّ الشَّهر هلالاً، ويقال: أُهِلَّ الهلالُ، واسْتُهِلَّ مبنيّاً للمفعول وأهْلَلْنَاه اسْتَهْلَلْنَاهُ، وقيل: يقال: أَهَلَّ واسْتَهَلَّ للفاعل؛ وأنْشَدَ: [الوافر]
٩٦٤ - وَشَهْرٌ مُسْتَهِلٌّ بَعْدَ شَهْرٍ وَحَوْلٌ بَعْدَةُ حَوْلٌ جَدِيدٌ
وسُمِّي هذا الكوكب هلالاً؛ لارتفاع الأصوات عن رؤيته، وقيل: لأنه من البيان، والظهور، أي: لظهوره وقت رؤيته بعد خفائه، ولذلك يقال: تهلَّل وجهه: ظهر فيه بشرٌ وسُرُورٌ، وأنْ لم يكُنْ رفع صَوْتَهُ، ومنه قول تَأَبَّطَ شَرّاً: [الكامل]
332
٩٦٥ - وَإِذَا نَظَرْتَ إلى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ بَرَقَتْ كَبَرْقِ العَارِضِ المُتَهَلِّلِ
وقد تقدم أنَّ الإهْلاَلَ: الصُّرَاخُ عند قوله ﴿وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ [البقرة: ١٧٢]. «وفِعَالٌ» المضعَّف يطَّرد في تكسيره «أَفْعِلَة» كأَهِلَّةٍ، وشذَّ فيه فِعَلٌّ؛ كقوله: عِنَنٌ، وحِجَجٌ، في عِنَان، وحِجَاج.
وقدَّر بعضهم مضافاً قبل «الأَهِلَّة» أي: عن حكم اختلاف الأهلَّة، لأنَّ السؤال عن ذاتها غير مفيدٍ؛ ولذلك أُجيبوا بقوله: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج﴾ وقيلك إنهم لمَّا سألُوا عن شيء قليل الجدوى، أُجيبوا بما فيه فائدةٌ، وعدل عن سؤالهم، إذ لا فائدة فيه، وعلى هذا، فلا يحتاج إلى تقدير مضافٍ.
و «لِلنَّاسِ» متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل «مَوَاقِيتُ» أي: مواقيتُ كائنةٌ للنَّاسِ. ولا يجوزُ تعلُّقُه بنَفْس المواقيتِ؛ لما فيها من معنى النقل؛ إذ لا معنى لذلك. والمَوَاقِيتُ: جمع ميقَاتٍ؛ رَجَعَتِ الواوُ إلى أصلها؛ إذ الأصل: موقاتٌ من الوَقْتِ، وإنَّما قلبت ياءً؛ لكسر ما قبلها، فلمَّا زال موجبه في الجمع، رُدَّت واواً، ولا ينصرف؛ لأنه بزنة منتهى الجموع.
فإن قيل: لم صرفت قوارير؟ قيل لأنَّها فاصلةٌ وقعت في رأس الآية الكريمة فنوِّن، ليجري على طريقة الآيات كام تنوَّن القوافي في مثل قوله: [الوافر]
٩٦٦ - أَقِلِّي اللَّوْمَ، عَاذِلَ، والعتَابَنْ...............................
و «المِيقَات» : منتهى الوقت؛ قال تبارك وتعالى: ﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ﴾ [الأعراف: ١٤٢] والهلال: ميقات الشَّهر؛ أي: منتهاه، ومواضع الإحرام: مواقيت الحجِّ؛ لأنَّها مواضع ينتهى إليها، وقيل: الميقات: الوقت؛ كالميعاد بمعنى الوعد.

فصل في تخصيص المواقيت بالهلال دون الشمس


فإن قيل: لم خصَّ المواقيت بالأهلَّة وأشهرها دون الشمس وأشهرها؟
333
فالجواب: أنَّ الأهلَّة وأشهرها، إنَّما جعلت مواقيت للنَّاس، دون الشمس وأشهرها؛ لأنَّ الأشهر الهلاليَّة يعرفها كُلُّ أحدٍ من الخاصِّ والعامِّ برؤية الهلال ومحاقه؛ ولذلك عُلِّقت الأحكام الشَّرعيَّة بالشُّهور العربيَّة، كصوم رمضان، وأشهر الحجِّ، وهي شوَّال، وذُو القعدة وذو الحجَّة. والأشهر المنذورة، والكفَّارات، وحول الزَّكاة وأشهر الإجارات والمداينات والسل، وأشهر الإيلاء، وأشهر العدد، ومدَّة الرَّضاع وما تتحمَّله العاقلة في ثلاث سنين، وغير ذلك؛ بخلاف الشَّمس، وأشهرها؛ فإن الشَّمس لا يتغيَّر شكلها بزيادةٍٍ، ولا نقصٍ، ولا يعرف أوَّله وآخره، ولا تختلِفُ رؤيتها، وكذلك أشهرها لا يعرف أوَّلها وآخرها، إلاَّ الخواصُّ من الحُسَّاب، وليس لها مواقيت غير الفصول الأربعة؛ وهي الصَّيف، والشِّتاء، والرَّبيع، والخريف؛ ولذلك لا يتعلَّق به حكم شرعيٌّ؛ فلذلك جعلت الأهلَّة وأشهرها مواقيت للنَّاس، دون الشَّمس.

فصل


اعلم أنَّ الله سبحانه ذكر وجه الحكمة في خلق الأهلَّة؛ فقال تعالى: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج﴾ وذكر هذا المعنى في آية أخرى، وهي قوله تعالى: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب﴾ [يونس: ٥] واعلم أنَّ تقدير الزمان بالشُّهور فيه منافع دينيةٌ، ودنيويةٌ.
فالدينية: كالصَّوم، والحَجِّ، وعدَّة المتوفَّى عنها زوجها، والنذور المتعلِّقة بالأوقات، وقضاء الصَّوم في أيامٍ لا تُعْلَمُ إلاَّ بالأهلَّة.
والدنيويَّة: كالمداينات، والإجارات، والمواعيد، ولمدَّة الحمل والرَّضاع.
قوله: «والحَجِّ» عطفٌ على «النَّاس» قوالوا: تقديره: ومواقيتُ الحَجِّ، فحذف الثاني؛ اكتفاءً بالأوَّل.
وقيل: فيه إضمارٌ، تقديره: وللحَجَّ كقوله ﴿وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٣] أي: لأولادكم.
ولمَّا كان الحجُّ من أعظم ما تُطْلَبُ مواقيته وأشهره بالأهلَّة، أُفْرِدَ بالذِّكْرِ.
قال تعالى: ﴿الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: ١٩٧].
فإن قيل: الصَّوم أيضاً يطلب هلاله؛ قال عليه الصَّلاة والسَّلام -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»
334
قلنا: نعم، ولكنَّ الصوم قد يسقط فعله عن الحائض، والنُّفَسَاء، والمُسَافر، ويوقعون قضاءه في غيره من الأشهر؛ بخلاف الحجِّح فإنَّه إذا لم يصحَّ فعله في وقته، لا يقضى في غيره من الأشهر.
واحتجَّ مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وأبو حنيفة بهذا الآية على أنَّ الإحرام بالحجِّ في غير أشهر يصحُّ، فإن الله تعالى جعل الأهلَّة كلها ظرفاً لذلك.
قال القَفَّال: إفراد الحجِّ بالذِّكر إنَّما كان لبيان أن الحجَّ مقصورٌ على الأشهر التي عيَّنها الله تعالى لفرضه؛ وأنه لا يجوز نقل الحجِّ من تلك الأشهر إلى شهر آخر؛ كما كانت العربُ تفعلُ ذلك في النسيء؛ فأفرد بالذِّكر، وكأنه تخصيص بعد تعميم؛ إذ قوله تعالى: مَوَاقِيتُ لِلنَّاس «ليس المعنى لذوات الناس، بل لا بُدَّ من مضافٍ، أي: مواقيتُ لمقاصد النَّاس المحتاج فيها للتأقيت، ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناس، بل على المضاف المحذوف الذي ناب» النَّاسِ «منابه في الإعراب.
وقرأ الجمهور»
الحَج «بالفتح في جميع القرآن الكريم إلا حمزة والكسائيَّ وحفصاً عن عاصم، فقرءوا ﴿حِجُّ البيت﴾ [آل عمران: ٩٧] بالكسر، وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وهل هما بمعنىً واحدٍ، أو مختلفان؟ قال سيبويه:» هما مَصْدَرَانِ «؛ فالمفتوح كالرَّدِّ والشَّدِّ، والمكسورُ كالذِّكر، وقيل: بالفتح: مصدرٌ، وبالكسر: اسمٌ.

فصل في الرد على أهل الظَّاهر


قال القرطبيُّ: هذه الآية الكريمة تَرُدُّ على أهل الظَّاهر، ومن وافقهم في أنَّ المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غيرِ معلومة؛ واحتجُّوا بأنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم، عَامَلَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَلَى شَطْرِ الزَّرْعِ والنَّخْل بما بَدَا لرسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وشرَّف، وكَرَّم، ومجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - من غير توقيت، وقال: وهذا لا دليل فيه؛ لأنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال لليهود:»
أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ «
335
وهذا يدلُّ على أنَّ ذلك مخصوصٌ به، وأنَّه كان في ذلك ينتظر القضاء من رِّبه، وليس كذلك غيره.
قوله: ﴿وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ﴾ كقوله: ﴿لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ﴾ [البقرة: ١٧٧] وقد تقدم؛ إلا أنه لم يختلف هنا في رفع» البِ ﴿ِّ «؛ لأنَّ زيادة الباء في الثاني عيَّنت كونه خبراً، وقد تقدَّم لان أنَّها قد تزاد في الاسم.
وقرأ أبو عمرو، وحفصٌ، وورشٌ «البُيُوت»
و «بَيُوت» و «الغُيُوب» و «شُيَوخاً» بضمِّ أوَّلها؛ وهو الأصل، وقرأ الباقون بالكسر؛ لأجل الياء، وكذلك في تصغيره، ولا يبالى بالخروج من كسر إلى ضم؛ لأنَّ الضمة في الياء، والياء بمنزلة كسرتين؛ فكانت الكسرة التي في الباء كأنها وليت كسرةً، قاله أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
و «مِنْ» قوله: «مِنْ ظُهُورِهَا» و «مِنْ أَبْوَابِهَا» متعلقةٌ بالإتيان، ومعناها ابتداءُ الغاية، والضميرُ في «ظُهُورِهَا» و «أَبْوَابِهَا» للبُيُوت، وجيء به كضمير المؤنثة الواحدة؛ لأنه يجوز فيه ذلك.
وقوله: {ولكن البر مَنِ اتقى﴾
كقوله - تبارك وتعالى -: ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ﴾ [البقرة: ١٧٧] يعني: تقديره: بِرُّ مَنْ آمَنَ كَمَا مَضَى؛ ولمَّا تقدَّم جملتان خبريتان، وهما: «وَلَيْسَ البِرُّ» «وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى» عطف عليهما جملتان أمريتان، الأولى للأولى، والثانية للثانية، وهما: «وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» «واتَّقُوا اللَّهَ» وفي التصريح بالمفعول في قوله: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» دلالةٌ على أنه محذوفٌ من اتَّقَى، أي اتَّقَى الله.

فصل في سبب نزول الآية


قال الحسن، والصمُّ: كان الرَّجُلُ في الجاهليَّة، إذا همَّ بشيءٍ، فتعسَّر عليه مطلوبه، لم يدخل بيته من بابه، بل يأتيه من خلفه، ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً فنهاهم الله؛ لأنَّهم كانوا يفعلونه تطيُّراً، وعلى هذا: تأويل الآية الكريمة ﴿وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا﴾ على وجه التطيُّر ولَكِنَّ البِرَّ من يتَّقِي اللَّهَ، ولَمْ يَتَّقِ غيْرَهُ، ولم يَخَفْ شَيْئاً مِمَّا كان يتطيَّر به، بل توكَّل على الله تعالى، واتَّقَاه «ثمَّ قال: ﴿واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي: لِتَفُوزُوا بالخَيْر في الدِّين والدُّنيا؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٢ - ٣] ﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾ [الطلاق: ٤] وتحقيقه: أن من رجع خائباً يقال: ما أفلح، فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في الآية هو أنَّ الواجب عليكم أن تتَّقوا الله؛ حتَّى تصيروا مفلحين، وقد وردت
336
الأخبار بالنَّهي عن التَّطَيُّر، قال:» لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ «وقال:» مَنْ رَدَّهُ عَنْ سَفَرٍ تَطَيُّرٌ، فَقَدَ أَشْرَكَ «و» كَانَ يَكْرَهُ الطِّيَرَةَ، ويُحِبُّ الفَأْلَ الحَسَنَ «وقَدْ عَابَ الله قوماً تطيَّروا بموسى ومن معه، فقالوا: ﴿قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله﴾ [النمل: ٤٧].
وقال المفسِّرون: سَبَبُ نُزُول الآية الكريمة: كان الناس في أوَّل الإسلام، إذا أحرم الرَّجُلُ منهم، فإن كان من أهل المدن، نقب نقباً في ظهر بيته يدخل منه، ويخرج، أو يتَّخِذ سُلَّماً يصعد منه إلى سطح داره، ثم ينحدر، وإن كان من أهل الوبر، خرج من خلف الخيمة والفسطاط، ولا يخرج ولا يدخل من الباب؛ حتى يحلَّ من إحرامه، ويرون ذلك برّاً إلا أن يكون من الحمس، وهم قريشٌ، وكنانة، وخزاعة، وخيثمٌ، وبنوا عامر بْنِ صَعْصَعَةَ، وبنو نَصْر بنِ معاويةَ، وهؤلاء سُمُّوا حمساً؛ لتشديدهم في دينهم، والحماسة الشِّدَّة.
قال العجَّاجُ: [الرجز]
٩٦٧ - وَكَمْ قَطَعْنَا مِنْ قِفَافٍ حُمْسِ... وهؤلاء متى أحرموا، لم يدخلوا بيوتهم ألأبتَّة، ولا يستظلُّون الوبر، ولا يأكلون السمن، والأقط، ثم إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم، دخل، وهو محرمٌ، بيتاً لبعض الأنصار، فاتَّبَعَهُ رَجلٌ مُحْرِمٌ مِنَ الأَنْصَارِ، يقال له رفاعةُ ابن تابُوتَ، فدخل على أثره من الباب، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ دائماً وابداً -: «تَنَحَّ عَنَّي»
فقال: ولمَ، يا رسول الله؟ قال: «دخلت الباب، وأنت مُحْرِمٌ»، فقال: رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ، فدَخَلْتُ على أُثَرِكَ، فقال رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، شرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل،
337
وعظَّم: «إنِّي أحْمَسُ» فقال الرَّجُلُ: «إن كنت أحمسياً، فإني أحمسي، رضيت بهديك، وسمتك، ودينك»، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة.
قال الزُّهريُّ: كان ناسٌ من الأنصار، فإذا أهلُّوا بالعمرةِ، لم يحل بينهم وبين السَّمَاء شيءٌ، وكان الرَّجُل يخرجُ مُهِلاًّ بالعمرة، فتبدوا له الحاجة بعد ام يخرج من بيته؛ فيرجع، ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السَّماء، فيفتح الجدار من ورائه، ثُمَّ يقوم في حجرته فيأمر بحاجته؛ حتى بلغنا أنَّ رسول الله صلى الله علنه وسلم، وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم، أهلَّ زمن الحديبية بالعمرة، فدخل حجرة، فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّلأ، وعظَّم: «لِمَ فَعلْتَ ذَلِكَ؟» قال: «لأنِّي رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم:» إني أحمسي «فقال الأنصاريُّ: وأنا أحمسي، وأنا على دينك، فأنزل الله تعالى الآية الكريمة.

فصل في اخلافهم في تفسير الآية


ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه:
أحدها: - وهو قول أكثر المفسرين - وهو حمل الآية الكريمة على ما قدَّمناه في سبب النُّزول، ويصعب نظم الآية الكريمة عليه؛ فإنَّ القوم سألوا عن الحكمة في تغيير لون القمر، فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك، وهي قوله: ﴿مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج﴾ فأيُّ تعلُّق بي بيان الحكمة في اختلاف نور القمر، وبين هذه القصَّة، فذكروا وجوهاً:
أحدها: أنَّ الله - تبارك وتعالى - لمَّا ذكر أنَّ الحكمة في اختلاف أحوال الأهلَّة جَعْلُها مواقِيتَ للنَّاسِ والحَجِّ، وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبرها في الحجِّ، لا جَرَمَ ذكرها الله تعالى.
وثانيها: أنه تعالى إنَّما وصل قوله: ﴿وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا﴾ بقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة﴾ ؛ لأنَّه إنما اتَّفَقَ وقوع القصَّتين في وقت واحدٍ، فنزلت الآية الكريمة فيهما معاً في وقت واحدٍ، ووصل أحد الأمرين بالآخر.
وثالثها: كأنَّهم لمَّا سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلَّة، فقيل لهم: اتركوا السُّؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم، وارجعوا إلى البحث، عمَّا هو أهمُّ لكم، فإنَّكم تظنُّون أنَّ إتيان البيوت من ظُهُورها بِرٌّ؛ وليس الأمر كذلك.
الوجه الثاني من تفسير الآية: أنَّ قوله تعالى: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن
338
ظُهُورِهَا} مثل ضربه الله تعالى، ولَيْسَ المرادُ ظاهره وتفسيرُ أنّ الطريقَ المستقيم هو الطريق المعلومُ، وهو أنْ يُستدلَّ بالمعلوم على المظنون، ولا ينعكس.
وإذا عرف هذا، فنقولُ: ثبت بالدلائل أن للعالم صانعاً، مختاراً، حكيماً، وثبت أنَّ الحكيمَ لا يفعلُ إلاَّ الصَّواب البريء عن البعث والسَّفه.
وإذا عرفنا ذلك، وعرفنا أنَّ اختلاف أحوال القَمَر في النُّور مِنْ فعله علمنا أنَّ فيه حكمةً ومصلحةً، لأنَّا علمنا أنَّ الحكيم لا يفعلُ إلاَّ الحكمة، واستدلَّلْنَا بالمَعلُوم على المجهول، فأمَّا أن يُستدلَّ بعدم علمنا بالحكمة فيه على أنَّ فاعلهُ ليس بحكيم، فهو استدلالٌ باطلٌ؛ لأنَّه استدلالٌ بِالمجهول على القدح في المعلوم، وإذا عُرف هذا، فالمرادُ من قوله تعالى: ﴿لَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا﴾ يعني: أنَّكم لَمَّا لم تعلمُوا الحكمةَ في اختلاف نُورِ القمرِ، صِرْتُم شاكِّينَ في حِكمة الخالِقِ، وقدأَتَيْتُمُ الشيءَ مِنْ غير طريقه «إنَّما البرُّ بأنْ تأتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» وتستدلُّوا بالمعلوم المتيقَّن، لا تعلمونَها، فجعل إتيانَ البُيُوت من ظُهُورها كنايةً عن العُدُول عن الطَّريق الصحيح؛ وإتيانَها من أبوابِها كنايةً عن التَّمَسُّك بالطَّريق المُستقيم، وهذا طريقٌ مشهورٌ في الكناية؛ فإنَّ مَنْ أرشد غيرهُ إلى الصَّواب، يقولُ له: ينبغِي أنْ تأتي الأمر مِنْ بابه، وفي ضِدَّه قالُوا: ذهبإل لاشيءِ من غير بابه، قال تعالى: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [آل عمراان: ١٨٧] وقال عزَّ مِنْ قَائل: ﴿واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً﴾ [هود: ٩٢] وهذا تأويل المتكلِّمين.
قال ابن الخطيب: ولا يصحُّ تفسير هذه الآية؛ لأنَّ الوجه الأوَّلَ يغيِّر نسقَ الترتيب، وكلام الله تعالى منزَّهٌ عن ذلك.
الوجه الثالث: قال أبو مسلم: إن المراد مِنْ هذه الآية ما كَانُوا يعملونه من النسيء؛ فإنهم كانُوا يخرجون الحجَّ عن وقته الَّذي عينه الله تعالى لهم، فيحرِّمون الحلال، ويحلُّون الحرام، فذَكَرَ إتيانَ البُيُوت من ظُهُورها مثلاً لمخالفة الواجب في الحجِّ وشهوره.
339
قوله تعالى: ﴿فِي سَبِيلِ الله﴾ متعلَّقٌ ب «قاتلوا» على أحد معنيين: إمَّا أن تقدِّر
339
مضافاً، أي: في نصرةِ سبيلِ الله تعالى، والمرادُ بالسبيلِ: دينُ الله، لأنَّ السبيلَ في الأصل هو الطريقُ، فُتُجوِّزَ به عن الدِّين، لمَّا كان طريقاً إلى الله تعالى روى أبو موسى: أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، ومجَّد، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم - سُئِلَ عمَّن يُقاتِلُ في سبيل الله تعالى، فقال: «مَنْ قاتل؛ لتكون كلمةُ الله هي العُليا، ولا يُقاتل رياءً ولا سمعةً؛ وهو في سبيل الله»
وإمَّا أن تُضَمِّن «قَاتِلُوا» معنى بالِغوا في القتالِ في نصرةِ دِينِ اللِه تعالى، «والَّذِيِنَ يُقَاتِلُونَكُم» مفعول «قاتلوا».

فصل في سياق الآيات


اعلم، أنَّه لمَّا أمر بالتقوى في الآية المتقدِّمة أمر في هذه الآية الكريمة بأشدِّ أقسامِ التقوى، وأشقها على النَّفس، وهو قتلُ أعداء الله تعالى.
قال الربيع بن أنس: هذه أوَّل آية نزلت في القتال، وكان رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وشرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعظَّم - يُقاتلُ مَنْ قاتلهُ، ويَكُفُّ عن قتال منْ لمْ يقاتله إلى أن نزل قوله تعالى: ﴿فاقتلوا المشركين﴾ [التوبة: ٥] قاتلوا، أو لم يقاتلوا فصارت الآية منسوخةً بها.
وقيل: نُسخَ بقوله: ﴿اقتلوا المشركين﴾ قريبٌ من سبعين آيةً، وعلى هذا، فقوله: «وَلاَ تَعْتَدُوا» أي: لا تَبْدُءوهم بالقتال، وروي عن أبي بكر الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ أوَّل آيةٍ نزلت في القتال قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ﴾ الحج: ٣٩] والأوَّل أكثر.
وقال ابن عبَّاس وعمر بن عبد العزيز، ومجاهدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - هذه الآية محكمةٌ غير منسوخة؛ أُمِر النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، ومَجَّد، وعَظَّم - بقتال المُقاتلين.
340
ومعنى قوله: «وَلاَ تَعْتَدُوا» أي: لا تقتُلُوا النِّسَاء والصِّبيانَ، والشيخَ الكبير والرُّهبان، ولا من ألقى إليكم السَّلَمَ؛ قاله ابن عبَّاس ومجاهد وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبَّاس: نزلت هذه الآية في صلح الحديبية؛ وذلك أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - خرج مع أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - إلى العُمرة وكانوا ألفاً وأربعمائة، فنزَلُوا الحُديبة، وهو موضعٌ كثيرُ الشَّجر، والماء، فصدَّهم المُشركون عن دخول البيت الحرام، فأقامَ شهراً، لا يقدرعلى ذلك، ثم صالَحُوهُ على أنْ يَرجع ذلك العام، ويرجع إليهم في العام الثَّاني، ويَتْرُكون له مكَّة ثلاثَ أيامٍ، حتَّى يَطوفَ، وَيْحَرَ الهَدْي، ويَفْعَل مَا يَشَاءُ، فرضي الرَّسُولُ - صلواتُ الله وسلامُهُ عليه دائماً أبداً - بذلك، فلمَّا كان العامُ المقبل، تجهَّز رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، ومَجَّد، وعَظَّم - وأصحابه لُعْمرة القضاء وخافوا ألاَّ تَفِي قريشٌ بما قالوا، وأن يَصُدُّوهم عن البيت، وكره أصحابُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتالَهُمْ في الشهر الحرام، وفي الحرَم، فأنزل الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ يعنى محرمين ﴿الذين يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ يعني قُرَيْشاً «وَلاَ تَعْتَدُوا» فتَبْدَءوا بالقتالِ في الحَرَمِ محرمين.
فصل في اختلافهم في المراد من قوله ﴿الذين يُقَاتِلُونَكُمْ﴾
اختلفُوا في المراد بقوله: ﴿الذين يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ : إمَّا على وجه الدَّفع عن الحجِّ، أو على وجه المقاتلة ابتداءً.
وقيل: قاتلوا كُلَّ مَنْ فيه أهليةٌ للقتالِ سوى جُنحٍ للسَّلم؛ قال تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا﴾ [الأنفال: ٦١].
فإن قيل: هب أنه لا نسخ في الآية؛ فما السَّبب في أنَّ الله تبارك وتعالى أمر أوَّلاً بقتال من يقاتل، ثُمَّ في آخر الأمر، أذن في قتالهم، سواءٌ قاتلوا، أو لم يقاتلوا؟
فالجواب: أنَّ في أوَّل الأمر كان المسلمون قليلين، وكانت المصحلة تقتضي استعمال الرِّفق، والمجاملة، فلمَّا قوي الإسلام، وكَثُر الجمع، وأقام مَنْ أقام منهم على الشِّرك بعد ظهور المعجزات، وتكرُّرها عليهم، وحصل اليأس من إسلامهم، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق.
قوله تعالى: ﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم﴾ [البقرة: ١٩١] «حيث» منصوبٌ بقوله: «اقْتُلُوهُم»
341
و «ثِقِفْتُمُوهُم» في محلِّ خفضٍ بالظرف، و «ثَقِفْتُمُوهُمْ» أي: ظَفِرْتُمْ بهم، ومنه: «رَجُلٌ ثَقِيفٌ» : أي سريعُ الأخذ لأقرانه، قال [الوافر]
٩٦٨ - فَإِمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي فَمَنْ أَثْقَفْ فَلَيْسَ إِلَى خُلُودِ
وثَقِفَ الشَّيْء ثقافةً، إذا حذقهُ، ومنه الثَّقافةُ بالسَّيف، وثَقِفْتُ الشَّيْء قومَّتُه، ومنه الرماحُ المثقَّفة؛ قال القائلُ: [الطويل]
٩٦٩ - ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا وَقَدْ نَهِلَتْ مِنَّا الْمُثَقَّفَةُ السُّمْرُ
ويقالُ: ثَقِف يَثْقَفُ ثَقْفاً وثَقَفاً ورجلٌ ثَقِف لَقفٌ، إذا كان محكِماً لما يتناوله من الأمور.
قال القرطبي: وفي هذا دليلٌ على قتل الأسير.
قوله: «مِنْ حَيْثُ» متعلِّقٌ بما قبله، وقد تُصُرِّفَ في «حَيْثُ» بجَرِّها ب «مِنْ» كما جُرَّت ب «اليَاءِ» و «في» وبإضافة «لَدَى» إليها، و «أَخْرَجُوكُمْ» في محلِّ جرٍّ بإضافتها إليه، ولم يذكر «لِلْفِتْنَة» ولا «لِلْقَتْلِ» - وهُما مصدران - فاعلاً ولا مفعولاً؛ إذ المرادُ إذا وُجِدَ هذان، من أيِّ شخص كان بأَيِّ شخصٍ كان، وقد تقدَّم أنه يجوز حذف الفاعل مع المصدر.

فصل فيما قيل في النسخ بهذه الآية


هذا الخطابُ للنَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - وأصحابه يعني اقتلوهم، حيثُ أبصَرْتُم مقاتِلَتَهُمْ وتمكَّنْتُم منْ قتلهم، حيث كانوا في الحلِّ، أو الحرم، وفي الشَّهر الحرام ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ وذلك أنَّهم أخرجوا المسلمين من مكّة؛ فقال: أخروجهم مِنْ ديارهم كما أخرجوكم من دياركم، ويحتمل أنَّه أراد كما أخرجوكم مِنْ مَنَازِلكُم، ففي الآية الأولى: أمرٌ بقتالهم؛ بشرط إقادامهم على المقاتلة، وفي هذه الآية.
زاد في التكليف، وأَمَرَ بقتالهم، سواءٌ قاتَلُوا، أو لم يُقَاتِلُوا، واستثنى [عنه] المقاتلة عند المَسْجد الحَرَام، ونقل عن مقاتل أنه قال: إنَّ قولهُ ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ منسوخ بقوله ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٣] قال ابن الخطيب
342
وهذا ضعيفٌ، فإنَّ الآية الأولى دالَّةٌ على الأمر بقتال مَنْ يقاتلنا، وهذا الحُكمُ لم ينسخ، وأمَّا أنَّها دالَّةٌ على المَنْع من قتال مَنْ لم يقاتل، فهذا غير مسلَّم، مع ما نقل عن الرَّبيع بن أنس. وأما قوله: إنَّ هذه الآية، هي قوله تبارك وتعالى ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام﴾ منسوخة بقوله تعالى ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ فهو خطأ أيضاً؛ لأنَّه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكمُ غير منسوخ.
قوله ﴿والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل﴾ فيه وجوه:
أحدها: نقل ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنّ الفتنة هي الكُفر.
وروي أنَّ بعض الصحابة قتل رجُلاً من الكُفَّار في الشَّهر الحَرَام، فعابه المؤمِنُون على ذكل، فنزلت هذه الآية الكريمة، والمعنى: أنَّ كفرهم أشدُّ من قتلهم في الحرم والإحرام.
وثانيها: أن الفتنة أصلها عرض الذَّهب على النَّار؛ لاستخلاصه من الغِشِّ، ثُمَّ صار اسماً لكُلِّ ما كان سبَباً للامتحان؛ تشبيهاً بهذا الأصل، والمعنى: أنَّ إقْدَامَ الكُفَّار على الكُفْر، وعلى تخويف المؤمنين، وإلجائهم إلى ترك الأهلِ، والوَطن؛ هرباً من إضلال الكُفَّار، فإنَّ هذه الفتنة الَّتي جُعِلت للمؤمنين أشَدُّ من القتل الذي يقتضي التَّخليص من غموم الدُّنيا وآفاتها.
وثالثها: أنَّ الفتنة هي العذاب الدَّائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم، فكأنه قيل: اقتُلُوهُم حيثُ ثَقِفْتُمُوهم، واعلَمُوا أن وراءَ ذلك مِنَ العذابِ ما هو أشدُّ منه وإطلاقُ اسم الفتنة على العذاب جائزٌ؛ وذلك من باب إطلاق اسم السَّبب على المُسَبَّب، قال تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ﴾ [الذاريات: ١٣] ثم قال عقبيه ﴿ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ﴾ [الذاريات: ١٤] أي عذابكم ﴿إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات﴾ [البروج: ١٠] أي عذّبوهم وقال ﴿فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله﴾ [العنكبوت: ١٠] أي: عذابهم كعذابه.
ورابعها: أنَّ المراد: «فتنتهم إيَّاكُمْ بَصدِّكُمْ عن المسجد الحرام أشدُّ من قتلِكُمْ إيَّاهُمْ في الحرم».
وخامسها: أن الردَّة أشدُ من يُقْتَلُوا بحقٍّ، والمعنى: أخروجهم منْ حيثُ أخرجوكُمْ، ولَو قُتِلْتُمْ، فإنَّكم إن قُتِلْتُم، وأنتم على الحقِّ، كان ذلك أسهل عليكُم من أنْ ترتدُّوا عن دِينكُمْ، أو تتكاسلوا عن طاعة ربِّكم.
343
قوله: «وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ» قرأ الجمهورُ الأفعالَ الثلاثة: «ولا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ، فإنْ قَاتَلُوكُمْ» بالألف من القتال، وقرأها حمزة، والكسائيُّ من غير ألف من القَتل وهو المُصحف بغير ألف، وإنما كُتِبَت كذلك؛ للإيجاز؛ كما كَتَبُوا الرَّحمن بغير ألف، وما أشبه ذلك مِنْ حروف المَدِّ واللِّين.
فأما قراءة الجمْهُور فواضحةٌ؛ لأنها نَهْيٌ عن مقدِّمات القتل؛ فدلالتها على النَّهي عن القَتْل بطريقِ الأَولى، وأمَّا قراءةُ الأخوين، ففيها تأويلان:
أحدهما: أن يكون المجازُ في الفعل، أي: ولا تَقْتلُوا بَعْضَهُمْ؛ حَتَّى يَقْتُلُوا بَعْضَكُمْ؛ ومن ﴿قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ [آل عمران: ١٤٦] ثم قال «فَمَا وَهَنُوا» أي ما وَهَن مَنْ بَقِيَ منْهُمْ، وقال الشاعر: [المتقارب]
٩٧٠ - فَإِنْ تَقْتُلُونَا نُقَتِّلْكُمُ وإن تَقْصِدُوا لِدَمٍ نَقْصِدِ
أي: فإنْ تَقْتُلُوا بعضنا. يروى أن الأعمش قال لحمزة، أرأيت قراءتك، إذا صار الرجُلُ مَقْتُولاً، فبعد ذلك كيف يصير قاتلاً لغيره؟!
قال حمزة: إنَّ العَرَبَ، إذا قُتِلَ منهُم رجلٌ قالوا: قتلنا، وإذا ضَرِبَ منهُم رجلٌ، قالُوا ضُرِبنا وأجمعوا على «فَاقْتُلُوهُمْ» أنَّه من القتل، وفيه بشارةٌ بأنَّهم، إذا فعلوا ذلك، فإنهم مُتَمَكِّنون منهُمْ بحيثُ إنكم أُمِرْتُم بقتلهم، لا بقتالهم؛ لنُصْرتِكُمْ عليهم، وخذْلانِهِمْ؛ وهي تؤيِّدُ قراءةَ الأخوينِ، ويؤيِّدُ قراءة الجمهور: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾.
و «عِنْدَ» منصوبٌ بالفعل قبله، و «حَتَّى» متعلقةٌ به أيضاً غايةٌ له، بمعنى «إلى» والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار «أَنْ» والضميرُ في «فِيهِ» يعودُ على «عِنْدَ» إذ ضميرُ الظرفِ لا يتعدَّى غليه الفعلُ إلاَّ ب «فِي» ؛ لأنَّ الضميرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها، وأصلُ الظرفِ على إضمار «في» اللهم إلا أَنْ يُتَوَسَّعُ في الظرفِ، فيتعدَّى الفعلُ غلى ضميره مِنْ غير «في» ولا يُقالُ: «الظَّرْف غيْرُ المُتَصرِّف لا يتوسَّع فيه»، فيتعدَّى إليه الفعلُ، فضميرُهُ بطريق الأولى؛ لأنَّ ضمير الظَّرف ليس حكمه حكمَ ظاهره؛ ألا ترى أنَّ ضميره يُجَرُّ ب «في» وإن كان ظاهرُه لا يجوزُ ذلك فيه، ولا بدَّ مِنْ حذفٍ في قوله: ﴿فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم﴾ أي: فإنْ قاتلُوكُم فيه، فاقتلوهم فيه، فَحَذَفَ لدلالةِ السِّيَاق عليه.
344

فصل


وهذا بيان بشرط كيفيَّة قتالهم في هذه البقعة خاصَّة، وكان مِنْ قبلُ شرطاً في كلِّ قتالٍ وفي الأشهر الحرم؛ وقد تمسَّك به الحنفيَّةُ في قتل الملتجيئ إلى الحرم، وقالوا: لمَّا لم يجز القتل عند المسجد الحرام؛ بسبب جناية الكفر فبأن لا يجوز القتلُ في المسجد الحرام بسبب الذَّنب الذي هو دون الكُفر أولى.
قوله: «كَذَلِكَ جَزَاءُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ الكافر في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «جَزَاءُ الكَافِرِينَ» خبرُه، أي: مِثْلُ ذَلِكَ الجَزَاءِ جَزَاؤُهُمْ، وهذا عند مَنْ يرى أن الكاف اسمٌ مطلقاً، وهو مذهبُ الأخفش.
والثاني: أن يكونَ «كَذَلَكَ» خبراً مقدَّماً، و «جَزَاءٌ» مبتدأً مؤخَّراً، والمعنى: جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجَزَاءِ، وهو القتلُ، و «جَزَاءُ» مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، أي: جزاءُ اللَّهِ الكافرين، وأجاز أبو البقاء أان يكونَ «الكَافِرِينَ» مرفوع المحلِّ على أن المصدر مقدَّرٌ من فِعْل مبنيٍّ للمفعول، تقديرُه: كذلك يُجْزَى الكافِرُون، وقد تقدَّم لنا الخلافُ في ذلك.
قوله تعالى: ﴿فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي: لهم. ومتعلق الانتهاء محذوفٌ أي: عن القتال، و «انْتَهَى» «افْتَعَلَ» من النَّهي، وأصلُ «انْتَهَوا» «انْتَهَيُوا» فاسْتُثْقَلَت الضَّمةُ على الياء؛ فحُذِفَتْ فالتقى ساكنان؛ فَحُذِفت الياءُ؛ لالتقاء الساكنين، أو تقول: تَحَرَّكَتِ الياء، وانفتحَ ما قبلها؛ فَقُلِبَتْ ألفاً؛ فالتقى ساكنان؛ فَحُذِفَتِ الألفُ، وبقِيت الفتحة تَدُلُّ عليها.

فصل في اختلافهم في متعلِّق الانتهاء


هذا البيانُ لبقاء هذا الشَّرط في قتالهم قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فإن انتهوا عن القتال؛ لأنَّ المقصُود من الإذان في القتال منعُ الكُفّار عن المُقاتلة.
وقال الحسنُ: فإن انتهوا عن الشِّرك؛ لأنَّ الكَافِرَ لا يَنَالُ المغفرة والرِّحمة بترك القتال، بل بترك الكُفرِ.

فصل في دلالة الآية على قبول التَّوبة من كلِّ ذنب


دلَّت الآية على أنَّ التوبة مِنْ كُلِّ ذنبٍ مقبولةٌ ومَنْ قال: إنَّ التوبة عن قتل العَمْد غيرُ مقبولةٍ، فقد أخطأ؛ لأنَّ الشرك أشدُّ من القتل، فإذا قَبِلَ الله تبوة الكافِرِ، فقبُولُ توبة
345
القاتل أولى، وأيضاً فقد يكُونُ الكافِرُ قاتلاً، فقد انضمَّ إلى كُفره قَتْلُ العَمْد والآيَةُ دلَّت على قبُول توبة كلِّ كافِرِ، فدلَّ على أنَّ توبتَهُ، إذا كان قاتِلاً مقبولةٌ؛ قال تعالى: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨].
قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ يجوزُ في «حَتَّى» أن تكونَ بمعنى «كَيْ» وهو الظاهرُ، وأن تكونَ بمعنى «إِلَى» و «أَنْ» مضمرةٌ بعدَها في الحالين، و «تَكُونَ» هنا تامةٌ، و «فِتْنَةٌ» فاعلٌ بها، وأمَّا ﴿وَيَكُونَ الدين للَّهِ﴾ فيجوزُ أن تكون تامَّةً أيضاً، وهو الظاهرُ، ويتعلَّقُ «اللَّهِ» بها، وأن تكونَ ناقصةً و «لِلَّهِ» الخبَر؛ فيتعلَّق بمحذوف أي: كائناً لله تعالى

فصل في المراد بالفتنة


قيل: المراد بالتفنة الشِّرك والكُفر؛ قالوا: كانت فتنتهُم أنَّهُم كانوا يُرهِبُون أصحاب النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - بمكة، حتى ذهبوا إلى الحبشة، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء؛ حتى ذهبوا إلى المدينة، وكان غرضَهُمُ من إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهُم، ويرجِعُوا كُفَّاراً، فإنزل الله - تبارك وتعالى - هذه الآية، والمعنى:
قاتِلُوهُم حتَّى تَظهروا عليهم؛ فلا يفتِنُوكُم عن دِينِكُمْ، ولا تَقَعوا في الشِّركَ ﴿وَيَكُونَ الدين للَّهِ﴾ أي: الطَّاعة، والعبادةُ للَّه وحده؛ لا يُعبدُ شيءٌ دونه ونظيره قوله تعالى:
﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ [الفتح: ١٦] قال نافع: جاء رجلٌ إلى ابن عُمَرَ في فتنةِ ابن الزُّبير فقال ما يمنعُكَ أنْ تخرج؟ فقال: يَمنعُني أنَّ اللَّهَ حرَّمَ دم أخِي؛ ألاَّ تَسْمَعُ ما ذكر اللَّهُ تعالى: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا﴾ [الحجرات: ٩] قال: يا ابن أخي ولأن أعتبر بهذه الآية، ولا أقاتل أحبُّ لي من أن أعتبر بالآية الأخرى الَّتي يقُولُ الله - عزَّ وجلَّ - فيها ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً﴾ [النساء: ٩٣] قال ألم يقُل الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ ؟ قال: قَدْ فعلنا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، ومَجَّد، وعَظَّم - إذْ كان الإسلامُ قليلاً، وكان الرَّجُلُ يُفْتَنُ عن دينه، إما يقتُلُونه، أو يُعَذِّبونه، حى كثُر الإسلام، فلن تكُن فتنة وكان الدِّينُ للَّه، وأنُتُم تُرِيدُون أنْ تُقَاتِلُوهم، حتَّى تكُون فتنَة، ويَكُونُ الدِّين لغيْرِ الله.
وعن سعيد بن جبير، قال: قال رجلٌ لابن عمر كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال: هل تدري ما الفتنة؟! كان محمَّدٌ صلواتُ الله وسلامُهُ عَلْيهِ يُقاتل المُشرِكين، وكانَ الدُّخُولُ عليهم فِتْنَةً، وليس قتالكُم كقتالهم على المُلكِ.
346

فصل في معاني الفتنة في القرآن


قال أبو العبَّاس المُقِري: ورد لفظ الفتنَة في القرآن بإزاء سبعة معانٍ:
الأول: الفتنة: الكُفر؛ قال تعالى: ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة﴾ [آل عمران: ٧] يعني: طلب الكُفْر.
الثاني: الفتنة الصرف قال تعالى: ﴿واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ﴾ [المائدة: ٤٩].
الثالث: الفتنة: البلاء؛ قال تعالى ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٣].
الرابع: الفتنةُ: الإحْرَاقُ؛ قال تعالى ﴿إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين﴾ [البروج: ١٠]، أي: حَرَّقُوهم؛ ومثله ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ﴾ [الذاريات: ١٣].
الخامس: الفتنة الاعتذارُ قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ [الأنعام: ٢٣].
السادس: الفتنة: القَتل، قال تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا﴾ [النساء: ١٠١]، أي: يَقْتُلُوكم.
السابع: الفتنَة: العذَابُ؛ قال تعالى: ﴿جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله﴾ [العنكبوت: ١٠].
قوله «فَإِن انْتَهوا»، أي: عن الكُفر وأسلَمُوا، «فَلاَ عُدوَانَ» أي: فلا سبيل ﴿إِلاَّ عَلَى الظالمين﴾ قاله ابن عبَّاس، ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ [القصص: ٢٨]، أي: فلا سبيل عليَّ، وقال أهلُ المعاني العدوان: الظُّلم، أي: فإنْ أسْلَمُوا، فلا نهب، ولا أسر، ولا قتْل إلاَّ على الظالمين الَّذين بَقُوا على الشِّرك؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] وسَمَّى قتل الكُفَّار عُدواناً، وهو في نفسه حقٌّ، لأنَّه جزاءٌ عن العُدْوان؛ على طريق المجاز، والمقابلة؛ لقوله ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٩٤]، و ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله﴾ [آل عمران: ٥٤] ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ﴾ [التوبة: ٧٩].
وقيل: معنى الآية الكريمة إن تَعَرَّضْتم لهُمْ بعد انتهائهم عن الشِّرك والقتال، كنتم أنْتُم ظالمينَ، فنسلِّط عليكم مَنْ يَعتِدي عليْكُم.
قوله: ﴿إِلاَّ عَلَى الظالمين﴾ في محلِّ رفع خبر «لا» التبرئة، ويجوزُ أن يكون خبرُها محذوفاً، تقديرُه: لا عُدْوَانَ على أحد؛ فيكونُ ﴿إِلاَّ عَلَى الظالمين﴾ بدلاً على إعادةِ العامل، وهذا الجملةُ، وإنْ كانَت بصورة النَّفي، فهي في معنى النَّهي؛ لئلا يلزَم الخُلْفَ في خبره تعالى والعربُ إذا بالَغَتْ في النهي عن الشيء، أبْرَزَتْهُ في صورةٍ النفي المَحْضِ؛ كأنه ينبغي ألاَّ يوجدَ البتة؛ فَدَلُّوا على هذا المعنى بما ذكرْتُ لك، وعكسُه في الإِثبات،
347
إذا بَالَغُوا في الأمرِ بالشَّيْء، أبرزُوهُ في صُورة الخَبَر؛ نحو: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٣] على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى -.
348
قوله تعالى :﴿ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم ﴾ [ البقرة : ١٩١ ] " حيث " منصوبٌ بقوله :" اقْتُلُوهُم " و " ثِقِفْتُمُوهُم " في محلِّ خفضٍ بالظرف، و " ثَقِفْتُمُوهُمْ " أي : ظَفِرْتُمْ بهم، ومنه :" رَجُلٌ ثَقِيفٌ " : أي سريعُ الأخذ لأقرانه، قال [ الوافر ]
٩٦٨ - فَإِمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي فَمَنْ أَثْقَفْ فَلَيْسَ إِلَى خُلُودِ٧
وثَقِفَ الشَّيْء ثقافةً، إذا حذقهُ، ومنه الثَّقافةُ بالسَّيف، وثَقِفْتُ الشَّيْء قومَّتُه، ومنه الرماحُ المثقَّفة ؛ قال القائلُ :[ الطويل ]
٩٦٩ - ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا وَقَدْ نَهِلَتْ مِنَّا الْمُثَقَّفَةُ السُّمْرُ٨
ويقالُ : ثَقِف يَثْقَفُ ثَقْفاً وثَقَفاً ورجلٌ ثَقِف لَقفٌ، إذا كان محكِماً لما يتناوله من الأمور.
قال القرطبي٩ : وفي هذا دليلٌ على قتل الأسير.
قوله :" مِنْ حَيْثُ " متعلِّقٌ بما قبله، وقد تُصُرِّفَ في " حَيْثُ " بجَرِّها ب " مِنْ " كما جُرَّت ب " اليَاءِ " و " في " وبإضافة " لَدَى " إليها، و " أَخْرَجُوكُمْ " في محلِّ جرٍّ بإضافتها إليه، ولم يذكر " لِلْفِتْنَة " ولا " لِلْقَتْلِ " - وهُما مصدران - فاعلاً ولا مفعولاً ؛ إذ المرادُ إذا وُجِدَ هذان، من أيِّ شخص كان بأَيِّ شخصٍ كان، وقد تقدَّم أنه يجوز حذف الفاعل مع المصدر.

فصل فيما قيل في النسخ بهذه الآية


هذا الخطابُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم وشرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - وأصحابه يعني اقتلوهم، حيثُ أبصَرْتُم مقاتِلَتَهُمْ وتمكَّنْتُم منْ قتلهم، حيث كانوا في الحلِّ، أو الحرم، وفي الشَّهر الحرام ﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾ وذلك أنَّهم أخرجوا المسلمين من مكّة ؛ فقال : أخرجوهم مِنْ ديارهم كما أخرجوكم من دياركم، ويحتمل أنَّه أراد كما أخرجوكم من موضعكم الذي كنتم فيه وهو " مكة " ويحتمل أنه أراد كما أخرجوكم مِنْ مَنَازِلكُم، ففي الآية الأولى : أمرٌ بقتالهم ؛ بشرط إقدامهم على المقاتلة، وفي هذه الآية : زاد في التكليف، وأَمَرَ بقتالهم، سواءٌ قاتَلُوا، أو لم يُقَاتِلُوا، واستثنى [ عنه ] المقاتلة عند المَسْجد الحَرَام، ونقل عن مقاتل١٠ أنه قال : إنَّ قولهُ ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ منسوخٌ بقوله ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ] قال ابن الخطيب١١ : وهذا ضعيفٌ، فإنَّ الآية الأولى دالَّةٌ على الأمر بقتال مَنْ يقاتلنا، وهذا الحُكمُ لم ينسخ، وأمَّا أنَّها دالَّةٌ على المَنْع من قتال مَنْ لم يقاتل، فهذا غير مسلَّم، مع ما نقل عن الرَّبيع بن أنس. وأما قوله : إنَّ هذه الآية، هي قوله تبارك وتعالى ﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ منسوخة بقوله تعالى ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ فهو خطأ أيضاً ؛ لأنَّه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكمُ غير منسوخ.
قوله ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ فيه وجوه :
أحدها : نقل ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنّ الفتنة هي الكُفر١٢.
وروي أنَّ بعض الصحابة قتل رجُلاً من الكُفَّار في الشَّهر الحَرَام، فعابه المؤمِنُون على ذلك، فنزلت هذه الآية الكريمة، والمعنى١٣ : أنَّ كفرهم أشدُّ من قتلهم في الحرم والإحرام.
وثانيها : أن الفتنة أصلها عرض الذَّهب على النَّار ؛ لاستخلاصه من الغِشِّ، ثُمَّ صار اسماً لكُلِّ ما كان سبَباً للامتحان ؛ تشبيهاً بهذا الأصل، والمعنى : أنَّ إقْدَامَ الكُفَّار على الكُفْر، وعلى تخويف المؤمنين، وإلجائهم إلى ترك الأهلِ، والوَطن ؛ هرباً من إضلال الكُفَّار، فإنَّ هذه الفتنة الَّتي جُعِلت للمؤمنين أشَدُّ من القتل الذي يقتضي التَّخليص من غموم الدُّنيا وآفاتها.
وثالثها : أنَّ الفتنة هي العذاب الدَّائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم، فكأنه قيل : اقتُلُوهُم حيثُ ثَقِفْتُمُوهم، واعلَمُوا أن وراءَ ذلك مِنَ العذابِ ما هو أشدُّ منه وإطلاقُ اسم الفتنة على العذاب جائزٌ ؛ وذلك من باب إطلاق اسم السَّبب على المُسَبَّب، قال تبارك وتعالى :﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ﴾ [ الذاريات : ١٣ ] ثم قال عقيبه
﴿ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ ﴾ [ الذاريات : ١٤ ] أي عذابكم ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [ البروج : ١٠ ] أي عذّبوهم وقال ﴿ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾ [ العنكبوت : ١٠ ] أي : عذابهم كعذابه.
ورابعها : أنَّ المراد :" فتنتهم إيَّاكُمْ بَصدِّكُمْ عن المسجد الحرام أشدُّ من قتلِكُمْ إيَّاهُمْ في الحرم ".
وخامسها : أن الردَّة أشدُ من أن يُقْتَلُوا بحقٍّ، والمعنى : أخروجهم منْ حيثُ أخرجوكُمْ، ولَو قُتِلْتُمْ، فإنَّكم إن قُتِلْتُم، وأنتم على الحقِّ، كان ذلك أسهل عليكُم من أنْ ترتدُّوا عن دِينكُمْ، أو تتكاسلوا عن طاعة ربِّكم.
قوله :" وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ " قرأ الجمهورُ الأفعالَ الثلاثة :" ولا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ، فإنْ قَاتَلُوكُمْ " بالألف من القتال، وقرأها١٤ حمزة، والكسائيُّ من غير ألف من القَتل وهو المُصحف بغير ألف، وإنما كُتِبَت كذلك ؛ للإيجاز ؛ كما كَتَبُوا الرَّحمن بغير ألف، وما أشبه ذلك مِنْ حروف المَدِّ واللِّين.
فأما قراءة الجمْهُور فواضحةٌ ؛ لأنها نَهْيٌ عن مقدِّمات القتل ؛ فدلالتها على النَّهي عن القَتْل بطريقِ الأَولى، وأمَّا قراءةُ الأخوين، ففيها تأويلان :
أحدهما : أن يكون المجازُ في الفعل، أي : ولا تَقْتلُوا بَعْضَهُمْ ؛ حَتَّى يَقْتُلُوا بَعْضَكُمْ ؛ ومنه ﴿ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ ﴾ [ آل عمران : ١٤٦ ] ثم قال " فَمَا وَهَنُوا " أي ما وَهَن مَنْ بَقِيَ منْهُمْ، وقال الشاعر :[ المتقارب ]
٩٧٠ - فَإِنْ تَقْتُلُونَا نُقَتِّلْكُمُ وإن تَقْصِدُوا لِدَمٍ نَقْصِدِ١٥
أي : فإنْ تَقْتُلُوا بعضنا. يروى أن الأعمش قال لحمزة، أرأيت قراءتك، إذا صار الرجُلُ مَقْتُولاً، فبعد ذلك كيف يصير قاتلاً لغيره ؟ !
قال حمزة : إنَّ العَرَبَ، إذا قُتِلَ منهُم رجلٌ قالوا : قتلنا، وإذا ضَرِبَ منهُم رجلٌ، قالُوا ضُرِبنا١٦ وأجمعوا على " فَاقْتُلُوهُمْ " أنَّه من القتل، وفيه بشارةٌ بأنَّهم، إذا فعلوا ذلك، فإنهم مُتَمَكِّنون منهُمْ بحيثُ إنكم أُمِرْتُم بقتلهم، لا بقتالهم ؛ لنُصْرتِكُمْ عليهم، وخذْلانِهِمْ ؛ وهي تؤيِّدُ قراءةَ الأخوينِ، ويؤيِّدُ قراءة الجمهور :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.
و " عِنْدَ " منصوبٌ بالفعل قبله، و " حَتَّى " متعلقةٌ به أيضاً غايةٌ له، بمعنى " إلى " والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار " أَنْ " والضميرُ في " فِيهِ " يعودُ على " عِنْدَ " إذ ضميرُ الظرفِ لا يتعدَّى إليه الفعلُ إلاَّ ب " فِي " ؛ لأنَّ الضميرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها، وأصلُ الظرفِ على إضمارِ " في " اللهم إلا أَنْ يُتَوَسَّعَ في الظرفِ، فيتعدَّى الفعلُ إلى ضميره مِنْ غير " في " ولا يُقالُ :" الظَّرْف غيْرُ المُتَصرِّف لا يتوسَّع فيه "، فيتعدَّى إليه الفعلُ، فضميرُهُ بطريق الأولى ؛ لأنَّ ضمير الظَّرف ليس حكمه حكمَ ظاهره ؛ ألا ترى أنَّ ضميره يُجَرُّ ب " في " وإن كان ظاهرُه لا يجوزُ ذلك فيه، ولا بدَّ مِنْ حذفٍ في قوله :﴿ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ أي : فإنْ قاتلُوكُم فيه، فاقتلوهم فيه، فَحَذَفَ لدلالةِ السِّيَاق عليه.

فصل


وهذا بيان بشرط كيفيَّة قتالهم في هذه البقعة خاصَّة، وكان مِنْ قبلُ شرطاً في كلِّ قتالٍ وفي الأشهر الحرم ؛ وقد تمسَّك به الحنفيَّةُ في قتل الملتجئ إلى الحرم، وقالوا : لمَّا لم يجز القتل عند المسجد الحرام ؛ بسبب جناية الكفر فبأن لا يجوز القتلُ في المسجد الحرام بسبب الذَّنب الذي هو دون الكُفر أولى.
قوله :" كَذَلِكَ جَزَاءُ " فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ الكافر في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و " جَزَاءُ الكَافِرِينَ " خبرُه، أي : مِثْلُ ذَلِكَ الجَزَاءِ جَزَاؤُهُمْ، وهذا عند مَنْ يرى أن الكاف اسمٌ مطلقاً، وهو مذهبُ الأخفش.
والثاني : أن يكونَ " كَذَلَكَ " خبراً مقدَّماً، و " جَزَاءٌ " مبتدأً مؤخَّراً، والمعنى : جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجَزَاءِ، وهو القتلُ، و " جَزَاءُ " مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، أي : جزاءُ اللَّهِ الكافرين، وأجاز أبو البقاء١٧ أان يكونَ " الكَافِرِينَ " مرفوع المحلِّ على أن المصدر مقدَّرٌ من فِعْل مبنيٍّ للمفعول، تقديرُه : كذلك يُجْزَى الكافِرُون، وقد تقدَّم لنا الخلافُ في ذلك.
قوله تعالى :﴿ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي : لهم. ومتعلق الانتهاء محذوفٌ أي : عن القتال، و " انْتَهَى " " افْتَعَلَ " من النَّهي، وأصلُ " انْتَهَوا " " انْتَهَيُوا " فاسْتُثْقِلَت الضَّمةُ على الياء ؛ فحُذِفَتْ فالتقى ساكنان ؛ فَحُذِفت الياءُ ؛ لالتقاء الساكنين، أو تقول : تَحَرَّكَتِ الياء، وانفتحَ ما قبلها ؛ فَقُلِبَتْ ألفاً ؛ فالتقى ساكنان ؛ فَحُذِفَتِ الألفُ، وبقِيت الفتحة تَدُلُّ عليها.

فصل في اختلافهم في متعلِّق الانتهاء


هذا البيانُ لبقاء هذا الشَّرط في قتالهم قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - فإن انتهوا عن القتال١٨ ؛ لأنَّ المقصُود من الإذن في القتال منعُ الكُفّار عن المُقاتلة.
وقال الحسنُ : فإن انتهوا عن الشِّرك١٩ ؛ لأنَّ الكَافِرَ لا يَنَالُ المغفرة والرَّحمة بترك القتال، بل بترك الكُفرِ.

فصل في دلالة الآية على قبول التَّوبة من كلِّ ذنب


دلَّت الآية على أنَّ التوبة مِنْ كُلِّ ذنبٍ مقبولةٌ ومَنْ قال : إنَّ التوبة عن قتل العَمْد غيرُ مقبولةٍ، فقد أخطأ ؛ لأنَّ الشركَ أشدُّ من القتل، فإذا قَبِلَ الله توبة الكافِرِ، فقبُولُ توبة القاتل أولى، وأيضاً فقد يكُونُ الكافِرُ قاتلاً، فقد انضمَّ إلى كُفره قَتْلُ العَمْد والآيَةُ دلَّت على قبُول توبة كلِّ كافِرٍ، فدلَّ على أنَّ توبتَهُ، إذا كان قاتِلاً مقبولةٌ ؛ قال تعالى :﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ].
قوله تعالى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ يجوزُ في " حَتَّى " أن تكونَ بمعنى " كَيْ " وهو الظاهرُ، وأن تكونَ بمعنى " إِلَى " و " أَنْ " مضمرةٌ بعدَها في الحالين، و " تَكُونَ " هنا تامةٌ، و " فِتْنَةٌ " فاعلٌ بها، وأمَّا ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ ﴾ فيجوزُ أن تكون تامَّةً أيضاً، وهو الظاهرُ، ويتعلَّقُ " اللَّهِ " بها، وأن تكونَ ناقصةً و " لِلَّهِ " الخبَر ؛ فيتعلَّق بمحذوف أي : كائناً لله تعالى.

فصل في المراد بالفتنة


قيل : المراد بالفتنة الشِّرك والكُفر ؛ قالوا : كانت فتنتهُم أنَّهُم كانوا يُرهِبُون أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - بمكة، حتى ذهبوا إلى الحبشة، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء ؛ حتى ذهبوا إلى المدينة، وكان غرضَهُمُ من إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهُم، ويرجِعُوا كُفَّاراً، فأنزل الله - تبارك وتعالى - هذه الآية٢٠، والمعنى : قاتِلُوهُم حتَّى تَظهروا عليهم ؛ فلا يفتِنُوكُم عن دِينِكُمْ، ولا تَقَعوا في الشِّرك ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ ﴾ أي : الطَّاعة، والعبادةُ للَّه وحده ؛ لا يُعبدُ شيءٌ دونه ونظيره قوله تعالى :﴿ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ﴾ [ الفتح : ١٦ ] قال نافع : جاء رجلٌ إلى ابن عُمَرَ في فتنةِ ابن الزُّبير فقال ما يمنعُكَ أنْ تخرج ؟ فقال : يَمنعُني أنَّ اللَّهَ حرَّمَ دم أخِي ؛ ألاَّ تَسْمَعُ ما ذكر اللَّهُ تعالى :
﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ﴾ [ الحجرات : ٩ ] قال : يا ابن أخي ولأن أعتبر بهذه الآية، ولا أقاتل أحبُّ لي من أن أعتبر بالآية الأخرى الَّتي يقُولُ الله - عزَّ وجلَّ – فيها ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً ﴾ [ النساء : ٩٣ ] قال ألم يقُل الله تعالى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ ؟ قال : قَدْ فعلنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، ومَجَّد، وعَظَّم - إذْ كان الإسلامُ قليلاً، وكان الرَّجُلُ يُفْتَنُ عن دينه، إما يقتُلُونه، أو يُعَذِّبونه، حى كثُر الإسلام، فلن تكُن فتنة وكان الدِّينُ للَّه، وأنُتُم تُرِيدُون أنْ تُقَاتِلُوهم، حتَّى تكُون فتنَة، ويَكُونُ الدِّين لغيْرِ الله٢١.
وعن سعيد بن جبير، قال : قال رجلٌ لابن عمر كيف ترى في قتال الفتنة ؟ فقال : هل تدري ما الفتنة ؟ ! كان محمَّدٌ صلواتُ الله وسلامُهُ عَلْيهِ يُقاتل المُشرِكين، وكانَ الدُّخُولُ عليهم فِتْنَةً، وليس قتالكُم كقتالهم على المُلكِ.

فصل في معاني الفتنة في القرآن


قال أبو العبَّاس المُقِري : ورد لفظ الفتنَة في القرآن بإزاء سبعة معانٍ : الأول : الفتنة : الكُفر ؛ قال تعالى :﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ﴾ [ آل عمران : ٧ ] يعني : طلب الكُفْر.
الثاني : الفتنة الصرف قال تعالى :﴿ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ ﴾
[ المائدة : ٤٩ ].
الثالث : الفتنة : البلاء ؛ قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾
[ العنكبوت : ٣ ].
الرابع : الفتنةُ : الإحْرَاقُ ؛ قال تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
[ البروج : ١٠ ]، أي : حَرَّقُوهم ؛ ومثله ﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ﴾
[ الذاريات : ١٣ ].
الخامس : الفتنة الاعتذارُ قال تعالى :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ﴾
[ الأنعام : ٢٣ ].
السادس : الفتنة : القَتل، قال تعالى :﴿ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ [ النساء : ١٠١ ]، أي : يَقْتُلُوكم.
السابع : الفتنَة : العذَابُ ؛ قال تعالى :﴿ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾
[ العنكبوت : ١٠ ].
قوله " فَإِن انْتَهوا "، أي : عن الكُفر وأسلَمُوا، " فَلاَ عُدوَانَ " أي : فلا سبيل ﴿ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ قاله ابن عبَّاس، ويدلُّ عليه قوله تعالى :﴿ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [ القصص : ٢٨ ]، أي : فلا سبيل٢٢ عليَّ، وقال أهلُ المعاني العدوان : الظُّلم، أي : فإنْ أسْلَمُوا، فلا نهب، ولا أسر، ولا قتْل إلاَّ على الظالمين الَّذين بَقُوا على الشِّرك ؛ قال تعالى :﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ] وسَمَّى قتل الكُفَّار عُدواناً، وهو في نفسه حقٌّ، لأنَّه جزاءٌ عن العُدْوان ؛ على طريق المجاز، والمقابلة ؛ لقوله ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ ﴾
[ البقرة : ١٩٤ ]، و﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]
﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ] ﴿ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [ التوبة : ٧٩ ].
وقيل : معنى الآية الكريمة إن تَعَرَّضْتم لهُمْ بعد انتهائهم عن الشِّرك والقتال، كنتم أنْتُم ظالمينَ، فنسلِّط عليكم مَنْ يَعتدِي عليْكُم.
قوله :﴿ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ في محلِّ رفع خبر " لا " التبرئة، ويجوزُ أن يكون خبرُها محذوفاً، تقديرُه : لا عُدْوَانَ على أحد ؛ فيكونُ ﴿ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ بدلاً على إعادةِ العامل، وهذا الجملةُ، وإنْ كانَت بصورة النَّفي، فهي في معنى النَّهي ؛ لئلا يلزَم الخُلْفُ في خبره تعالى والعربُ إذا بالَغَتْ في النهي عن الشيء، أبْرَزَتْهُ في صورةِ النفي المَحْضِ ؛ كأنه ينبغي ألاَّ يوجدَ البتة ؛ فَدَلُّوا على هذا المعنى بما ذكرْتُ لك، وعكسُه في الإِثبات، إذا بَالَغُوا في الأمرِ بالشَّيْء، أبرزُوهُ في صُورة الخَبَر ؛ نحو :﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ] على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى -.
قوله تعالى: ﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام﴾ مبتدأ، خبرُه الجارُّ بعده، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ، تقديرُه: انتهاكُ حُرْمة الشَّهْر الحرامِ بانتهاكِ حرمةِ الشهرِ، والألفُ واللامُ في الشَّهْر الأوَّل والثَّاني لِلْعهَد؛ أنَّهما معلومان عند المخاطبين؛ فإنَّ الأولَ ذُو القَعْدَةِ من سنة سَبْع، والثاني من سنة سَتٍّ.
وقرئ. «والحُرْمَات» بسكون الراء، ويُعْزَى للحسن وقد تقدَّم عند قوله ﴿فِي ظُلُمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٧] أنَّ جمعَ «فُعْلَةٍ» بشروطِها يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجه: هذان الاثنانِ، وفَتْحُ العين.

فصل في بيان سبب النُّزول


في سبب نزول الآية ثلاثة أوجه:
أحدها: قال ابنُ عبَّاس ومجاهدٌ، والضَّحَّاك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أنَّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وشَرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - خرج عام الحُديبية لِلْعُمرة، وذلك في ذي القعدة سنة ستٍّ مِنَ الهجرة، فصدَّه أهلُ مكة عَنْ ذلك ثُمَّ صالحُوه أنْ ينصرف، ويعودَ في العام القابل؛ ويتركُوا له «مكَّةَ» ثلاثة أيَّام؛ حتَّى يقضي عُمْرَتَهُ فانصرَفَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - عامهُ ذلك، ورجع في العام القابل في ذي القعدة سنَة سبعٍ، ودَخَل مَكَّة، واعتَمر؛ فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية الكريمة يعني إنَّك دخلت مكَّة في الشهر الحرام، والقومُ كانُوا صَدُّوكَ في السنةِ الماضية في هذا الشَّهر؛ فهذا الشهر الحرامُ؛ بذلك الشهرِ الحرامِ.
وثانيها: قال الحسن: إنَّ الكُفَّار سَمِعُوا أنَّ الله تعلاى نهى الرسُولَ - عليه الصَّلاة والسَّلأم - عن المقاتلة في الأشهر الحُرُم؛ وهو قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله﴾ [البقرة: ٢١٧] فأرادوا مقاتلته، وظنُّوا أنَّهُ لا يُقاتلهم في الأشهر الحُرُم؛ فأنزل اللَّهُ
348
تعالى في هذه الآية؛ لبيان الحُكم في هذه الواقعة فقال: ﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام﴾ أي من استحلَّ قتالكم من المشركين من الشَّهر الحرام، فاستحلّوه أنتم فيه.
وثالثها: قال بعضُ المتكلِّمين: هو أنَّ الشهر الحرام لما لم يمنعكم عن الكفر بالله، فكيف يمنعنا عن قتالكم؟ فالشهر الحرام من جانبنا مقابل الشهر الحرام جانبكم؛ والحاصل في هذه الوجوه: أنَّ رحمة الشَّهر الحرام لما لم تمنعهُم عن الكفر، والأفعالِ القبيحة، فكيف جعلوه سبباً في منع القتالِ على الكفر والفساد؟!
قوله: «والحرمات قصاصٌ» الحرماتُ: جمع حرمة؛ كظلمات جمع ظلمة، وحجرات جمع حجرة، الحرمة ما منع من انتهاكه، وجمعها؛ لأنَّه أراد حُرمة الشَّهر الحرامِ والبلد الحرام، وحرمة الإحرام. و «القصاص» : المُساوَاةُ والمُمَاثلة.
والمعنى على الوجه الأوَّل في النُّزول لمَّا أضاعوا هذه الحُرمات في سنة ستٍّ، فقد قضيتموها على زعمكم في سنة سبع.
وأما على الثَّاني: فالمراد إن أقدمُوا على مقاتلتكم في الشَّهر الحرام، فقاتلوهم أنتم أيضاً فيه.
قال الزَّجَاج: وعلم الله بهذه الآية: أنه ليس على المسلمين: أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء، بل على سبيل القصاص والمماثلة، وهذا القول أشبه بما قبل هذه الآية الكريمة، وهو قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ [البقرة: ١٩١] وبما بعدها؛ وهو قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ﴾.
وأما على القول الثالث: فقوله «والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ» يعني: حُرمَةُ كلِّ واحدٍ من الشهرين كحرْمة الآخر، وهما مثلان، والقِصاصُ هو المثلُ، ولَمَّا لم يمنعكُم حرمةُ الشَّهر من الكُفْر، والفِتنة، والقِتال، فكيف يمنعُنا عن القتال؛ فعلى هذا، فقوله: «والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ» متَّصلٌ بما قبله.
وقيل: هو مقطوعٌ منه، وهو ابتداء أمرٍ كان في أوَّل الإسلام: أن من انتهك حُرمتك، نِلتَ منه بمثل ما اعتدى عليك، ثم نُسِخً ذلك بالقتال.
وقالت طائفةٌ: ما تناولت الآية الكريمة من التعدِّي بين أمة محمَّد - عليه الصَّلاة والسَّلام - والجنايات ونحوها - لم يُنسَخْ، وجاز لمن تُعُدِّيَ عليه من مال، أو جرح أن يتعدَّى بمثل ما تُعُدِّي به عليه.
349
وقوله ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ﴾ يجوزُ في «مَنْ» وجهان:
أحدهما: أن تكون شرطيةً، وهو الظاهرُ؛ فتكونَ الفاء جواباً.
والثاني: أن تكونَ موصولةً؛ فتكونَ الفاءُ زائدةً في الخبر، وقد تقدَّم نظيره.
قوله: ﴿بِمِثْلِ مَا اعتدى﴾ في الباء قولان:
أحدهما: أن تكون غير زائدةٍ، بل تكون معلِّقةً ب «اعْتَدُوا» والمعنى: بعقوبةٍ مثْل جنايةٍ اعتدائه.
والثاني: أنها زائدةٌ، أي: مثل ما اعَْدى به؛ فتكون: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوف، أي: اعتداءً مماثلاً لاعتدائه، وإمَّا حالاً من المصدر المحذوف، كما هو مذهبُ سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - أي: فاعتدوا الاعتداء مُشبِهاً اعتداءُه، و «مَا» يجوزُ أن تكوَ مصدريةً، فلا تفتقر إلى عائدٍ، وأن تكون موصولةً؛ فيكون العائدُ محذوفاً، أي: بمثل ما اعتدى عليكُم به، وجاز حذفه؛ لأنَّ المُضاف إلى الموصول قد جُرَّ بحرفٍ قد جرَّ به العائدُ، واتَّحد المتعلِّقان وقد تقدَّم معنى تسمية المجازاة بالاعتداء.

فصل في اختلافهم في تسيمة المكافأة عدواناً


قال القرطبيُّ: اختلف النَّاس في المكافأة، هل تُسمَّى عدواناً، أم لا؟ فمن قال: ليس في القرآن مجازٌ، قال: المقابلة عدوانٌ، وهو عدوانٌ مباحٌ، كما أنَّ المجاز في كلام العرب كذبٌ مباحٌ؛ لأن قوله: [الطويل]
٧١٩ - فَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعاً وَطَاعَةً....................................
وقولَهُ: [الرجز]
٩٧٢ - إِمْتَلأَ الحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي... وقوله: [الرجز]
٩٧٣ - شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى...
350
ومعلوم أنَّ هذه الأشياء لا تنطق، وحدُ الكَذِب الإخبارُ عن الشَّيء بخلاف ما هو به.
ومن قال: في القُرآن مجازٌ: سمَّى هذا عُدواناً مجازاً على طريق المُقابلة كقوله عمرو بن كلثومٍ: [الوافر]
٩٧٤ - أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا
وقول الآخر: [الطويل]
٩٧٥ - ولِي فَرَسٌ لِلْحِلْمِ بِالْحِلْمِ مُلْجَمٌ وَلِي فَرَسٌ لِلْجَهْلِ بِالجَهْلِ مُسْرَجُ
وَمَنْ رَامَ تَقْوِيمي فَإِنِّي مُقَوَّمٌ وَمَنْ رَامَ تَعْوِيجي فَإِنِّي مُعَوَّجُ
يريد أُكافىءُ الجاهل والمُعوجَّ لا أنَّه امتدح بالجهل والاعوجاج.
قولُهُ «وَاتَّقُوا» قد تقدَّم معنى «التَّقْوَى».
وقولُهُ: ﴿واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين﴾، أي: بالمعونَةِ، والنُّصرة، والحِفظ، وهذا من أقوى الدَّلائل على أنَّه ليس بجسمٍ، ولا في مكانٍ، إذ لو كان جسماً، لكان في مكانٍ معيَّن؛ فكان إمَّا أن يكون مع أحدٍ منهم، ولم يكن مع الآخر، أو يكون مع كُلِّ واحدٍ من المُتَّقين جزءُ من أجزائهِ، تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً.
351
اعلم أنَّ تعلُّق هذه الآية الكريمة بما قبلها من وجهين:
الأول: أنَّه تعالى، لمَّا أمرهُ بالقتالِ وهو لا يتيسَّر إلاَّ بآلاتٍ وأدواتٍ يحتاجُ فيها إلى المال، وربَّما كان ذو المالِ عاجزاً عن القتال، وكان الشُّجاع القادرُ على القتال عديم المال فقيراً، فلهذا أمر اللَّهُ تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفُقراء الَّذين يقدرون على القتال.
والثاني: يروى أنَّه لمَّا نزَلَ قولُهُ تعالى: ﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات﴾ [البقرة: ١٩٤] قال رجلٌ من الحاضرين: واللَّهِ، يا رسول الله ما لَنَا زادٌ، وليس أحدُ يُطْعمنَا؛ فأمر رسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم - أن ينفقوا في سبيل الله، وأن يتصدَّقوا وألاَّ يكفُّوا أيديهم عن الصَّدقة، ولو بشقِّ تمرةٍ تُحملُ في سبيل الله فيهلكوا، فنزلت الآية الكريمة على وفق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم -.
351
والعلم: أنَّ الإنفاقَ هو صرفُ المالِ إلى وجوه المصالح؛ فلذلك لا يُقالُ في المُضَيِّع: إنَّه مُنفقٌ، وإذا قُيِّد الإنفاقُ بذكر «سَبِيلِ اللَّهِ»، فالمرادُ به في طريق الدِّين؛ لأنَّ السَّبيل هو الطريقُ، وسبيلُ الله هو دينُهُ، فكلُّ ما أمر الله تعالى به من الإنفاق في دينِهِ، فهُوَ داخِلٌ في الآية الكريمة، سواءٌ كان في حجٍّ، أو عُمرةٍ، أو كان جهاداً بالنَّفس أو تجهيزاً للغير أو كان إنفاقاً في صلة الرَّحم، أو في الصَّدقات، أو على القتالِ، أو في الزَّكاةِ، أو الكَفَّارة، أو في عمارة السَّبيل، وغير ذلك، إلاَّ أنَّ الأقربَ في هذه الآية الكريمة ذكرُ الجهاد، فالمرادُ هاهنا الإنفاقُ في الجهاد؛ لأنَّ هذه الآية الكريمة، إنَّما نزلت وقت ذهاب رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم - لعُمرة القضاء، وكانت تلك العُمرةُ لا بُدَّ مِنْ أن تُفضي إلى القتالِ، إنْ منَعَهم المُشركُونَ، فكانَتْ عمرةً وجهاداً، فاجتمعَ فيها المعنيانِ؛ فلا جَرَم، قال تعالى ﴿وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ﴾.
في هذه الباء ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها زائدةٌ في المفعول به؛ لأن «أَلْقَى» يتعدَّى بنفسه؛ قال تبارك وتعالى ﴿فألقى موسى عَصَاهُ﴾ [الشعراء: ٤٥]، وقال القائل: [الكامل]
٩٧٦ - حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَداً فِي كَافِرٍ وَأَجَنَّ عَوْرَاتٍ الثُّغُورِ ظَلاَمُهَا
فزيدت الباءُ في المفعول، كما زيدَت في قوله: [الطويل]
٩٧٧ - وَأَلْقَى بِكَفَّيْهِ الْفَتَى اسْتِكَانَةً مِنَ الْجُوعِ وَهْنَاً مَا يُمِرُّ وَمَا يَحْلُو
وهذا قولُ أبي عبيدة، وإليه ميلُ الزمخشري، قال: «والمعنى: ولا تُقْبِضُوا التهلُكَةَ أيدِيكُمْ، أي لا تَجْعَلُوها آخِذَةً بأيديكُمْ مالكةً لكُمْ»، إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادة الباء في المفعول به لا تَنقاسُ، إنما جاءت في الضَّرورة؛ كقوله: [البسيط]
٩٧٨ -.................... سُودُ المَحَجِرِ لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ
الثاني: أنها متعلقةٌ بالفعل غيرُ زائدةٍ، والفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: ولا تُلْقُوا أنْفُسَكُمْ بأيديكُم، ويكُونُ معناها السَّبَبَ؛ كقولك: لا تُفْسِد حالك برأيك.
الثالث: أن يُضمَّن «أَلْقَى» معنى ما يتعدَّى بالباء؛ فيُعدَّى تعديته، فيكون المفعولُ به
352
في الحقيقة هو المجرور بالباء، تقديره: ولا تُفْضُوا بأيديكُم إلى التَّهْلُكة؛ كقولك: أَفْضَيْتُ بِجَنْبِي إلى الأرض، أي: طرحتُهُ على الأرض، ويكونُ قد عَبَّرَ بالأيدي عن الأنفس كقوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: ١٠] ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠] لأنَّ بها البَطشَ والحركة، وظاهرُ كلام أبي البقاء فيما حكاهُ عن المُبرِّد: أن «ألْقَى» يتعدَّى بالباء أصلاً ك «مَرَرْتُ بزيدٍ»، والأولى حملُهُ على ما ذكرناه.
والهمزة في «أَلْقَى» لِلْجعل على صفةٍ، نحو: أطْرَدْتُهُ، أي: جعلتُهُ طريداً، الهمزة فيه: ليست للتعدية؛ لأنَّ الفعل متعدٍّ قبلها، فمعنى «ألقَيْتُ الشيْءَ» : جَعَلْتُه لُقى، فهو «فُعَلٌ» بمعنى «مَفْعُول» ؛ كما أن الطريد «فَعِيلٌ» بمعنى «مَفْعُول» ؛ كأنه قيل: لا تَجْعَلُوا أنفسَكُم لُقى إلى التَّهْلُكَة. والتَّهْلُكَةُ: مصدرٌ بمعنى «الهلاكِ، يُقَالُ: هَلَكَ يَهْلِكُ هُلْكاً، وهَلاكاً، وهَلْكَاءَ، على وزن فعلاء، ومَهْلِكاً ومَهْلُكَةً، مثلَّث العين، وتَهْلُكَةً، وقال الزمخشري:» ويجوزُ أن يقال: أصلُها التَّهْلِكَةُ؛ بكسر اللام، كالتَّجْرِبة؛ على أنه مصدرٌ من هلَّك - يعني بتشديد اللامِ - فَأُبْدلتِ الكسرةُ ضَمَّةً؛ كالجِوار والجُوار «، وردَّ أبو حيَّان بأنَّ فيه حَمْلاً على شاذٍّ ودَعوى إبدال، لا دليلَ عليها؛ وذلك أنه انه جعلَهُ تَفعلةً بالكسر، مصدرَ» فَعَّلَ «بالتشديد، ومصدرُه، إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ على» تَفْعِيل «و» تَفْعِلَةٌ «فيه شاذٌّ، وأمَّا تنظيره له بالجِوَار والجُوَار، فليس بشيء، لأنَّ الضمَّ فيه شاذٌّ، فالأولى أنْ يُقال: إنَّ الضَّمَّ أصلٌ غيرُ مبدلٍ من كسرٍ، وقد حكى سيبويه ممَّا جاء من المصادر على ذلك التَّضُرَّة والتَّسُرَّة.
قال ابن عطيَّة:»
وقرأ الخليلُ التَّهْلِكَةَ، بكسر اللام، وهي تَفْعِلَةٌ، من هَلَّكَ بتشديد اللام «وهذا يُقَوِّي قول الزمشخري.
وزعم ثعلبٌ والجارزنجي أنَّ»
تَهْلُكَةً «لا نظير لها، وليس كثيراً من تكلُّفات هؤلاء النُّحاة في أمثال هذه المواضع، وذلك أنَّهُم وجدوا نَقلاً عن أعرابيٍّ مجهولٍ يكونُ حجتَّهُم فيه، ففرحثوا به، واتّخَذُوه حجَّةً قويَّةً، ودليلاً قاطِعاً، وقالُوا: قد نُقِلَ هذا عن العرب؛ فكيف، وقد وَرَدَ هذا في كَلاَمِ الله تعالى المشهُور له مِنْ كُلِّ واحدٍ من المُوافِق والمُخَالف
353
بالفصاحة، وأعجز البُلَغَاء والفُصَحاء، وتحدَّاهم» بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ «و» بِعَشْرِ سُوَرٍ «و» بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ « [فقال تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾
[الإسراء: ٨٨] وقال: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود: ١٣] وقال في موضع آخر: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] كيف لا يدلُّ ذلك على صحَّة هذه اللَّفظة، وفصاحتها، واستقامتها.
والمشهور: أنه لا فرق بين التَّهْلُكَة، والهلاك، وقال قومٌ: التَّهْلُكَةُ: ما أمكن التحرُّز منه، والهلاكُ: ما لا يمكن التحرُّز منه، وقيل: هي نفسُ الشَّيْءِ المُهْلِكِ، وقيل: هي ما تضضُرُّ عاقبته.

فصل في اختلافهم في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة


اختلفوا في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التَّهلكة.
فقال قومٌ: إنَّه راجعٌ إلى نفس النَّفقة.
وقال آخرون: إنَّه راجعٌ إلى غيرها، فالأوَّلون ذكروا وجوهاً:
أحدها: قال ابن عبَّاس، وحذيفة، وعطاءٌ، وعكرمةٌ، ومجاهدٌ، والجمهور، وإليه ذهب البُخَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - ولم يذْكُروا غيره: ألاَّ ينفقوا في مهمَّات الجهاد أموالهم؛ فستولي العَدُوُّ عليهم، ويهلكهم؛ فكأنَّه قيل: إن كنت من رجال الدِّين فأنفق مالك في سبيل الله، وفي طلب مرضاته، وإن كانت من رجالِ الدُّنيا، فأنفق مالك في دفع الهلاكِ، والضَّرَر عن نفسِكَ.
وثانيها: أنه تبارك وتعالى لمَّا أمر بالإنفاق نهى عن نفقة جمع المال؛ لأنَّ إنفاق الجميع يفضي إلى التَّهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول، والمشروب، والملبوسِ، فيكون المراد منه ما ذكره في قوله سبحانه: ﴿والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ [الفرقان: ٦٧]، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط﴾ [الإسراء: ٢٩].
وقيل: الإلقاءُ في التَّهْلُكَة: هو السَّفر إلى الجهاد بغَيْر زادٍ، نقله القُرْطُبيُّ عن زَيْد ابْنِ أَسْلَمَ، وقد فعل ذلك قومٌ، فانقطعوا في الطَّريق.
وأما القائلون: بأنَّ المراد منه غير النَّفقة، فذكروا وجوهاً:
أحدها: أن يخلُّوا بالجهاد، فيتعرَّضوا للهَلاَكِ الذي هو عذابُ النار.
354
ثانيها: لا تقتحموا في الحَرْبِ بحَيْثُ لا تَرْجُونَ إلاَّ قَتْلَ أنْفُسِكُمْ، فإنَّ قَتْلَ الإنْسانِ نَفْسَه لا يَحِلُّ، وإنما يجب الاقتحام إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل، فأمَّا إذا كان آيساً من النِّكاية، وكان الأغلب أنَّه مقتولٌ، فليس له الإقدام عليه، وهذا منقولٌ عن البَرَاءِ ابن عازب، ونقل عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه قال في هذا: هو رجُلٌ ينتقّل بين الصفينِ. وطعن بعضهم في هذا التَّأوِيل؛ وقال: هذا القتلُ غير محرمٍ، واحتجَّ بأَحَادِيثَ.
الول: روي أنَّ رجلاً من المهاجرين حمل على صَفِّ العدوِّ؛ فصاح به الناس؛ فألقى بيده إلى التَّهلكة؛ فقال أبو أيُّوبٍ الأنصاريّ: نحنُ أعلم بهذه الآية الكريمة، وإنما نزلت فينا: صحبنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنصرناه وشهدنا المشاهد، فلما قويَ الإسلام؛ وكثر أهله؛ رجعنا إلى إهالينا، وأموالنا، ومصالحنا؛ فنزلت الآية، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل، والمال، وترك الجهاد. فما زال أبو أيوبٍ مجاهداً في سبيل الله؛ حتَّى كان آخر غزاة غزاها بقسطنطينيّة في زمن معاوية، فتوفِّي هناك، ودُفن في أصل سور القسطنطينية، وهم يُسْتَسْقَوْنَ به.
ورُوِيَ أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك الجنَّة؛ فقال له رجل من الأنصار: أرأيت يا رسول الله، إن قتلت صابراً محتسباً؟ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - «لك الجنة» ؛ فانغمس في العدوِّ؛ فقتلوه بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وأنَّ رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كان عليه، حين ذكر رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً - الجنة.
ورُوِيَ أنَّ رجلاً من الأنصار تخلَّف عن بني معاوية، فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه؛ فقال لبعض من معه: سأتقدم إلى العدوِّح فيقتلونني، ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي، ففعل ذلك؛ فذكروا ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال فيه قولاً حسناً.
وروي أنَّ قوماً حاصروا حصناً؛ فقاتل رجلٌ حتى قتل؛ فقيل: ألقى بيده إلى
355
التَّهلكة، فبلغ عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ذلك؛ فقال: كذبوا قال الله تعالى: ﴿مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله﴾ [البقرة: ٢٠٧].
ولقائلٍ أن يجيب عن هذه الآية؛ فيقول: إنَّما حرمنا إلقاء النفس في صفِّ العدوِّ، إذا لم يتوقع إيقاع النكاية فيهم، فأما إذا توقع، فنحن نجوز ذلك، فلم قلتم إنَّه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع؟
الوجه الثالث من تأويل الآية: أن يكون هذا متَّصلاً بقوله سبحانه: ﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ﴾ [البقرة: ١٩٤] أي: فلا تحملنَّكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم، فتهلكوا بترككم القتال، فإنَّكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة.
الوجه الرابع: أنَّ المعنى: أنفقوا في سبيل الله، ولا تقولوا: إنَّا نخاف الفقر، فنهلك إن أنفقنا، ولا يبقى معنا شيءٌ، فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق، والمراد من هذا الفعل والإلقاء الحكم بذلك؛ كما يقال جعل فلانٌ فلاناً هلاكاً، وألقاه في الهلاك؛ إذا حكم عليه بذلك.
الوجه الخامس: قال محمد بن سيرين، وعبيدة السَّلمانيُّ: هو أنَّ الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل؛ فيستهلك في المعاصي، فذلك هو إلقاء النفس إلى التهلكة؛ فحاصله أنَّ معناه النَّهيُ عن القنوط من رحمة الله تعالى؛ لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية، والإصرار على الذنب.
الوجه السادس: يحتمل أن يكون المراد ﴿وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة، والإحباط؛ وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلاً يحبط ثوابه، إما بذكر المنَّة، أو بذكر وجوه الرياء، والسُّمعة؛ ونظيره قوله تعالى: ﴿وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٣].
وروي عن عكرمة: الإلقاء في التهلكة، قال تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢٦٧].
وقال الطَّبَرِيُّ: هو عامٌّ في جميع ما ذُكر، لأن اللفظ يحتمله.
قوله «وَأَحْسِنُوا» اختلفوا في اشتقاق «المحْسِنِ»، فقيل: مشتقٍّ من فعل الحسن،
356
وإنما كثر استعماله في من نفع غيره بنفع حسنٍ، من حيث إنَّ الإحسان حسنٍ في نفسه، وعلى هذا [التَّقْدِير] فالضربُ، والقتلُ إذاً حَسُنَا، كان فاعلهما محسناً.
وقيلك مشتقٌّ من الإحسان؛ ففاعل الحسن لا يوصف بكونه محسناً؛ إلاَّ إذا كان فعله حسناً، وإحساناً معاً؛ فهذا الاشتقاق إنَّما يحصل من مجموع الأمرين.
قال الأصَمُّ: أَحْسِنُوا في فَرَائضِ اللَّهِ.
وقيل: أسحنوا في الإنفاق على من يلزمكم نفقته، والمقصود منه أن يكن، ذلك الإنفاق وسطاً من غير إسراف، ولا تقتير، وهذا أقرب لاتصاله بما قبله، ويمكن حمل الآية على الجميع.
357
الحجُّ: في اللغة عبارةُ عن القصد، وإنما يقال حجَّ فلانٌ الشيء، إذا قصده مرَّةً بعد أخرى، وأدام الاختلاف إليه، و «الحِجَّةُ» بكسر الحاء: السَّنة، وإنما قيل لها حِجَّةٌ؛ لأن الناس يحجُّون في كل سنةٍ، وفي الشرع: هو اسمٌ لأفعال مخصوصة يشتمل على أركانٍ، وواجباتٍ، وسُننٍ.
فالركن: ما لا يحصل التحلُّل إلاَّ بالإتيان به، والواجب هو الذي إذا تركه يجبر بالدم، والسُّنن: ما لا يجب بتركها شيءٌ، وكذلك أفعال العمرة.
وقرأ نافعٌ، وأبو عَمْرٍو، وابنُ كثير، وأبو بكر، عن عاصمٍ رحمة الله تعالى عليهم: «الحَجُّ» بفتحِ الحاءِ في كلِّ القرآن الكريم، وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ حمزة، والكسائيُّ، وحفصٌ، عن عاصمٍ: بالكسر في كلِّ القرآن.
قال الكسائيُّ: وهما لغتان بمعنى واحدٍ؛ كرِطلٍ ورَطلٍ، وكِسر البيت، وكَسره، وقيل: بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم.
وقرأ علقمة، وإبراهيم النَّخعيُّ: «وأقِيمُوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» وفي مصحف ابن
357
مسعودٍ: «وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ إلى البَيت» وروي عنه: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت، وفائدة التخصيص بقوله: «لِلَّهِ» - هنا - أنَّ العرب كانت تقصد الحج للاجتماع، والتظاهر، وحضور الأسواق؛ وكلُّ ذلك ليس لِلَه فيه طاعةٌ، ولا قربةٌ؛ فأمر الله تعالى بالقصد إليه لأداء فرضه، وقضاء حقِّه.
والجمهور على نصب «العُمْرَةَ» على العطف على ما قبلها، و «لِلَّهِ» متعلقٌ بأتِمُّوا، واللام لام المفعول من أجله. ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الحجِّ والعمرة، تقديره: أتمُّوها كائنين لله. وقرأ عليٌّ وابن مسعودٍ، وزيد بن ثابت، والشعبيّ: «والعُمْرَةُ» بالرفع عل الابتداء. و «لله» الخبر، على أنها جملة مستأنفةٌ.
قال ابن عباسٍ، وعلقمة، وإبراهيم، والنخعي: إتمام الحجِّ والعمرة: أن يتمَّهما بمناسكهما وحدودهما وسننهما.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ، وطاوس: تمام الحجِّ والعمرة: أن تحرم بهما مفردين مستأنفين من دويرية أهلك.
ويروى عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مرفوعاً.
وقال عليُّ بن أبي طالبٍ، وابن مسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: تمام الحجِّ والعمرة: أن تحرم بهما من دويرية أهلك. فإن فعلها في أشهر الحج، ثم أقام حتى حجَّ؛ فهي متعة، وعليه فيها الهدي إن وجده، أو الصيام إن لم يجد الهدي، وتمام الحج أن يأتي بمناسكه كلِّها بحيث لا يلزمه دمٌ، بسبب قرنٍ، ولا متعةٍ.
وقال الضحاك: إتمامها: أن تكون النفقة حلالاً، وينتهي عما نهى الله عنه.
358
وقال سفيان الثوري: إتمامها: أن تخرج من أهلك لهما؛ لا لتجارةٍ، ولا لحاجةٍ أخرى.
قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - الوفد كثيرٌ، والحاجُ قليلٌ.

فصل في اختلافهم في وجوب العمرة


اتَّفقت الأُمَّة على وجوب الحج، على من استطاع إليه سبيلاً، واختلفوا في وجوب العمرة؛ فذهب أكثر العلماء إلى وجوبها؛ وهو قول عمر، وعليّ، وابن عمر، ورواه عكرمة عن ابن عباسٍ، قال: والله إنَّ العمرة لقرينة الحجِّ في كتاب الله تعالى: ﴿وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ﴾ وبه قال عطاءٌ، وطاوس، ومجاهد، والحسن، وقتادة وسعيد بن جبير، وإليه ذهب الثوريُّ، وأحمد، والشافعيُّ، في أصحِّ قوليه.
وذهب قومٌ إلى أنها سُنَّةٌ، وهو قول جابرٍن وبه قال الشعبيُّ، وإليه ذهب مالكٌ، وأبو حنيفة، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجميعن.
حجةُ القولٍ الأوَّلِ أدلةٌ منها: قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ﴾ والإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملً تاماً؛ بدليل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤] أي: فعلهنَّ على التمام، والكمال، وقوله: ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل﴾ [البقرة: ١٨٧]، أي: فافعلوا لاصيام تاماً إلى الليل.
فإن قيل يحتمل أن يكون المراد أنكم إذا شرعتم فيهما، فأتموهما؛ لأنَّها تدلُّ على أصل الوجوب؛ لأنَّا إنما استفدنا الوجوب من قوله تعالى: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ [آل عمران: ٩٧]، لا من هذه الآية، وكذا قوله: ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل﴾ [البقرة: ١٨٧] إنَّما استفدنا وجوب الصوم من قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام﴾ [البقرة: ١٨٣] لا من قوله: ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ «والحجُّ والعمرةُ يجب إتمامهما بالشروع فيهما، سواءٌ أكانا فرضاً، أو تطوُّعاً، وتقول: الصوم خرج بدليلٍ، أو تقول: وجب
359
إتمامه بالشروع، فيكون الأمر بالإتمام، مشروطاً بالشروع فيهما.
فالجواب: أنَّ ما ذكرناه أولى؛ لأن على تقديركم يحتاج إلى إضمارٍ، وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى إضمار؛ فكان الاحتمال الذي ذكرناه أولى، ويدلُّ عليه: أنَّ أهل التفسير ذكروا أنَّ هذه الآية أول آيةٍ نزلت في الحجِّ، فحملها على إيجاب الحجِّ، أولى من حملها على وجوب الإتمام بشرط الشُّروع.
وأيضاً يؤيّده ما ذكرناه من قراءة من قرأ» وأقِيمُوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ «وإن كانت شاذَّةً، لكنَّها تجري مجرى خبر الواحد.
فإن قيل: قراءة عليٍّ، وابن مسعودٍ، والشَّعبي:»
والعُمْرَةُ لِلَّهِ «بالرفع يدلُ على أنهم قصدوا إفراد العمرة عن حكم الحجِّ، في الوجوب؛ فالجواب من وجوه:
أحدها: أنها شاذَّةٌح فلا تعارض المتواترة.
فإن قيل: قد استدللتم أنتم بالشاذَّة أيضاً؟
قلنا: استدللنا بها حيث هي موافقةٌ؛ فتكون تقويةً للاستدلال، لا أنها نفس الدَّلِيل،
360
واستدلالكم بالشاذَّة؛ نفس الدليل، وهو معارضٌ بها؛ فتساقط الاستدلالان، وسلمت المتواترة عن المعارض.
وثانيها: أن قوله:» وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ «معناها: أنَّ العمرة عبادةٌ الله، وذلك لا ينافي وجوبها.
وثالثها: أنَّ في هذه القراءة ضعفاً في العربية؛ لأنَّها تقتضي عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية.
الدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿يَوْمَ الحج الأكبر﴾ [التوبة: ٣]، يدلُّ على وجود حجٌّ أصغر، وهو العمرة بالاتفاق.
وإذا ثبت أن العمرة حجٌّ، فتكون واجبةٌ؛ لقوله تعالى:
﴿عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ [آل عمران: ٩٧].
الدليل الثالث: ما ورد في الصَّحيح: أنَّ جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - سأل النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - عن الإسلام، فقال: «أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأَنَّ مُحمداً رَسُولُ اللَّهِ، وأَنْ تٌقِيمَ الصَّلاَةَ، وتُؤْتِي الزكاةَن وتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ»

وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجلَّ وعظَّم - لأبي رزين، لمَّا سأله، فقال: إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ أدرك الإسلام، ولا يستطيع الحجَّ والعمرة، ولا الظَّعْنَة، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «حُجَّ عن أبِيكَ وَاعْتَمْرْ» وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - «إنَّ الحجَّ والعُمْرَةَ فَرِيضَتَانِ، لا يَضُرُّكَ بأيهما بَدَأْت»
361
وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالت: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - «عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لاَ قِتَالَ فِيهِ: الحَجُّ وَالعُمْرَةُ»
وقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ليس أحد من خلق الله إلاَّ وعليه حجةٌ وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وقال الشافعيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: اعتمر النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجَّل وعظَّم قبل الحجِّ، ولو لم تكن العمرة واجبةً، لكان الأشبه أن يبادر إلى الحجِّ الواجب.
القول الثالث: في قصة الأعرابِّي حين سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أركان الإسلام، فعلَّمه الصلاة، والزكاة، والصوم، والحجَّ، فقال الأعرابيُّ: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا إلاَّ أن تطَّوع»، فقال: والله لا أزيد على هذا، ولا أنقض، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أفلح إن صدق»
وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وحَجِّ الْبَيْتِ»
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «صَلُّوا خَمْسَكُمْ، وزَكُّوا أَمْوَالَكُمْ، وَحُجُّا بَيْنَكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّة رَبِّكُمْ»
وعن محمد المنكدر، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه سئل عن العمرة، واجبةٌ هي أم لا؟ فقال: «لاَ، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ»
362
وعن معاوية الضَّرير، عن أبي صالحٍ الحنفي عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجَّل وعظَّم - قال: «الحَجُّ جِهَادٌ، وَالعُمْرَةُ تَطَوَّعٌ»
والجوابُ من وجوهٍ:
أحدها: أن هذه أخبارُ آحادٍ؛ فلا تعارض القرآن.
وثانيها: أنَّ هذه الآية الكريمة نزلت في السَّنة السابعة من الهجرة، فيحتمل أنَّ هذه الأحاديث حيث وردت، لم تكن العمرة واجبةً، ثم نزل بعدها: ﴿وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ﴾، وهذا هو الأقرب لما ذكرناه.
وثالثها: أن قصة الأعرابي، والحديثين اللذين بعده، ذكر فيهم الحجَّ، وليس فيها بيان تفصيل الحج، وقد بينَّا أن العمرة حجٌّ، فلا تنافي وجوب العمرة، وأمَّا حديث ابن المنكدر، فرواه الحجاج بن أرطاة؛ وهو ضعيفٌ.

فصل


واتفقت الأمة على أنَّه يجوز أداء الحجِّ والعمرة على ثلاثة أوجهٍ: الإفراد، والتمتع، والقران.
فالإفراد: أن يُحرم بالحجِّ منفرداً، ثم بعد الفراغ منه، يعتمر من أدنى الحلِّ.
والتمتع: أن يعتمر في أشهر الحجِّ، فإذا فرغ من العمرة، يحرم بالحجِّ من مكة المشرقة في عامه.
والقران: أن يحرم بالحج والمرة معاً، أو يحرم بالعمرة، ثم يدخل عليها الحجَّ قبل أن يفتتح الطواف؛ فيصير قارناً، ولو أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، لم ينعقد غحرامه بالعمرة.
واختلفوا في أيِّ هذه الثَّلاثة أفضل؟ وتفاصيل هذه الأقوال مذكورةٌ في كتب الفقه.
قوله: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ [البقرة: ١٩٦] قال أحمد بن يحيى: أصل الحصر، والإحصار: المنع والحبس.
363
ومنه قيل للملك: الحصير؛ لأنه ممنوع من الناس.
قال لبيدٌ: [الكامل]
٩٧٩ -........................ جِنٌّ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ
وهل حُصِر وأُحْصِر بمعنى، أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ. فقال الفراء، والزجاج، والشيباني؛ إنهما بمعنى، يقالان في المرض، والعدوِّ جميعاً؛ وأنشدوا على ذلك [الطويل]
٩٨٠ - وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ عَلَيْكَ وَلاَ أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ
وهو قولٌ أبي عُبَيْدَة، وابن السِّكِّيتِ، وابن قتيبة. وفرقَّ بعضهم، فقال الزمخشري، وثعلبٌ: في فصيح الكلام: يقال: أُحْصِر فلانٌ: إذا منعه أمرٌ من خوفٍ، أو مرض، أو عجز؛ قال تعالى: ﴿الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ [البقرة: ٢٧٣]، وحُصِر: إذا حبسه عدوٌّ، أو سجنٌّ، هذا هو الأكثر في كلامهم، وهما بمعنى في كل شيءٍ، مثل: صدَّه وأصدَّه، وكذلك الفراء والشيباني، ووافقه ابن عطية أيضاً؛ فإنه قال: والمشهورُ مِنَ اللُّغَةِ: أُحْصِر بالمرضِ، وحُصِر بالعَدُوِّ. وعكس أبن فارسٍ في «مُجْمَلِه»، فقال: «حُصِر بالمرضِ، وأُحْصِر بالعَدُوّ» وقال ثعلب: «حُصِر في الحَبْسِ، أَقْوى مِنْ أُحْصِر»، ويقال: حَصِرَ صَدْرُه، أي: ضاق؛ ورجلٌ حَصِرٌ: لاَ يُبُوحُ بسرِّه، قال جرير في ذلك المعنى [الطويل]
364
٩٨١ - وَلَقَدْ تَكَنَّفَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا حَصِراً بِسِرِّكِ يَا أُمَيْمَ حَصُوراً
والحَصِيرُ: معروفٌ؛ لامتناعِ بعضه ببعض، وانضمامُ بعضه غلى بعضٍ، تشبيهاً باحتباس الشَّيء مع غيره، والحصر: احتباس البول، والغائط.
وقيل: إنَّ الحَصْرَ مختصٌّ بالمنع الحال من جهة العدوِّ؛ وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس، وابن عمر، وابن الزُّبير، قالوا: لا حصر إلاَّ حصر العدوِّ، وهو قول سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيِّب، وإليه ذهب إسحاق، وأحمد، والشافعيُّ - رحمهم الله تعالى؛ وأكثر أهل اللغة يردُّون هذا القول.
وفائدة هذا الخلاف في أنَّه: هل يثبت للمحصر بالمرض ويغره من الموانع حكم المحصر بالعدوِّ؟
فقال الشافعيُّ: لا يثبت، وقال غيره: يثبت، والقائلون بأنه يثبت، قال بعضهم: أنَّه ثابتٌ بالنصِّ، وقال آخرون: بالقياس الجلي.
حجَّة القائلين بالثبوت: مذهب أهل اللغة؛ لأن أهل اللغة قائلان:
أحدهما: القائلون بأن الإحصار مختصٌّ بالحبس الحاصل بسبب المرض، فتكون الآية الكريمة نصاً صريحاً فيه.
والثاني: القائلون بأن الإحصار المطلق الحبس، سواءٌ كان مرضٌ أو عدوٌّ؛ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرجَ، فَقَدْ حَلَّ، وعليه الحَجُّ مِنْ قَابِل»
قال عكرمة: فسألتُ ابن عباسٍ، وأبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - عن ذلك؛
365
فقالا: صَدَق. فدلَّ ظاهر الآية، والحديث عليه أيضاً.
وعلى القول الثَّالث: فهو أنَّ الإحصار اسمٌ لمنع العدوِّ، فنقول: هذا باطلٌ باتفاق أهل اللغة، وبتقدير ثبوته، يقيس المرض على العدوِّ بجامع دفع الحرج، وهو قياسٌ جَلِيٌّ ظاهرٌ.
وأمّا بتقدير مذهب ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، فلا شكَّ أنَّ قولهم أقوى؛ لتقدمهم على هؤلاء الأدباء، في معرفة اللغة، ومعرفة تفسير القرآن. والحديث ضعيف، ويمكن تأويله بأنَّه إنّما يحل بالكسر، والعرج، إذا كان مشروطاً في عقد الإحرام.
كما روي: أنَّ ضباعة بنت الزبير كانت وجعةً؛ فقال لها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف، وكرَّم، وبجَّل، وعظَّم: «حِجّي واشْتَرِطي، وَقُولي اللَّهُمَّ مَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتَني» ويؤكد هذا القول وجوهٌ:
أحدها: أنَّ الإحصار: إفعالٌ من الحصر، والإفعال تارةً يجيء بمعنى التعدية، نحو: ذهب زَيْدٌ، وأذْهَبْتُه انا، ويجيءُ بمعنى: صار ذا كذا؛ نحو: أَغَدَّ البعيرُ، أي: صار ذا غُدَّةٍ، وأجبر الرجل، إذا صار ذا إبل جربى، ويجيء بمعنى: وجدته بصفة كذا؛ نوحو: أَحْمدْتُ الرجل، أي وجدته محموداً.
والغحصار لا يمكن أن يكون للتعدية؛ فوجب إمَّا حمله على الصيرورة، أو على الوجدان، والمعنى أنَّهم صاروا محصورين ووجدوا محصورين.
واتفق أهل اللُّغة على أنَّ المحصور هو الممنوع بالعدو، لا بالمرض، فوجب أن يكون معنى الإحصار: هو أنهم صاروا ممنوعين بالعدوِّ، وذلك يؤكِّد ما قاله الشافعيُّ.
وثانيها: أنَّ الحصر عبارة عن المنع، وإنما يقال للإنسان: أنَّه ممنوعٌ من فعله، ومحبوسٌ عن مراده؛ غذا كان الغي هو فاعل ذلك المنع والحبس.
فالحصر: عبارة عن الكيفية الحاصلة عند اعتدال المزاج، وسلامة الأعضاء، وذلك مفقودٌ في حقّ المريض؛ لأنَّه غير قادر على الفعل ألبتة؛ فلا يحكم عليه بأنه ممنوع، لأن إحالة الحكم على المانع تستدعي حصول المقتضي.
أمَّا إذا كان ممنوعاً بالعدو، - فها هنا - القدرة حاصلة إلاَّ أنه تعذْر الفعل؛ لأجل
366
مدافعة العدوِّ فصح ها هنا أن يقال: إنه ممنوعٌ من الفعل؛ فوجب أن يكون الإحصار حقيقة في العدو، لا في المرض.
وثالثها: أن قوله: «أُحْصِرْتُمْ» أي: حبستم ومنعتم، والحبس لا بدَّ له من حابسٍ، والمنع لا بدَّ له من مانعٍ؛ لأنَّ الحبس، والمنع فعلٌ، وإضافة الفعل إلى المرض محالٌ عقلاً، لأن المرض عرضٌ لا يبقى زمانين، فكيف يكون فاعلاً، وحابساً، ومانعاً.
وأمَّا وصف العدوِّ بأنه حابسٌ، ومانعٌ؛ فهو وصفٌ حقيقيٌّ، وحمل الكلام على الحقيقة، أولى من حمله على المجاز.
ورابعها: أنَّ الإحصار مشتقٌ من الحصر، ولفظ الحصر لا إشعار فيه بالمرض؛ فوجب أن يكون خالياً عن المرض قياساً على جميع الألفاظ المشتقة.
وخامسها: أنَّه تعالى قال بعده: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ﴾ فعطل عليه المرض، فلو كان المحصر، هو المرض، أو من يكون المرض داخلاً فيه، لكان عطفاً للشيء على نفسه.
فإن قيل: إنما خصَّ المريض بالذكر؛ لأنَّ له حكماً خاصاً، وهو حلق الرأس، فصار تقدير الآية الكريمة: إن منعتم بمرض، تحللتم بدمٍ، وإن تأذَّى رأسكم بمرض، حلقتم، وكفَّرتم.
قلنا: هذا وإن كان حسناً لهذا الغرض، إلاَّ أنه مع ذلك يلزم منه عطف الشيء على نفسه، وحمل المحصر على غير المريض يوجب خلوَّ الكلام عن هذا الاستدلال، فكان أولى.
وسادسها: قوله تعالى: ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج﴾ ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدوِّ، لا في المرض، فإنَّه يقال في المرض: شُفِي، وعُفِيَ ولا يقال أمِنَ.
فإن قيل: لا نسلِّم أنَّ لفظ الأمن لا يستعمل إلاَّ في الخوف، فإنه يقال: أمن المرض من الهلاك، وأيضاً خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أوَّلها.
قلنا: لفظ الأمن إذا كان مطلقاً غير مقيَّد، فإنَّه لا يفيد إلاَّ الأمن من العدوِّ.
وقوله: خصوص آخر الآية الكريمة لا يقدح في عموم أوَّلها.
قلنا: بل يوجب؛ لأن قوله: ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾ ليس فيه بيان أنَّه حصل الأمن عن ماذا، فلا بدَّ وأن يكون المراد حصول الأمن عن شيءٍ تقدَّم ذكره، وليس إلاَّ الإحصار، فكان التقدير: فإذا أمنتم من ذلك الإحصار.
وإذا ثبت أنَّ لفظ الأمن لا يطلق إلاَّ في العدوّ، وجب أن يكون المراد من هذا الإحصار، منع العدوِّ.
367
وسابعها: إجماع المفسرين على أن سبب نزول هذه الآية الكريمة، أن الكفَّار أحصروا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحديبية، واختلف العلماء في الآية النازلة في سببه؛ هل تتناول غير ذلك السبب؟ إلاّ أنهم اتفقوا على أنَّه لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجاً عنه، فكان الإحصار في هذه الآية الكريمة عبارة عن العدوِّ، وأمّا قياس منع المرض عليه، فلا يمكن لوجهين:
الاول: أنَّ كلمة «إِنْ» شرطٌ، وحكم الشرط انتفاء المشروط عند انتفائه ظاهراً، فيقتضي ألاَّ يثبت الحكم إلاَّ في الإحصار الذي دلَّت الآية عليه، فلو أثبتنا هذا الحكم في غيره قياساً، كان ذلك نسخاً للنصِّ بالقياس، وهو غير جائز.
الثاني: أنَّ الإحرام شرعٌ الزمٌن لا يحتمل النسخ قصداً؛ ألا ترى أنَّه لو جامع، فسد حجُّه ولم يخرج من الإحرام؛ وكذا لو فاته الحجُّ حتى لزمه القضاء، والمريض ليس كالعدوّ؛ لأن المريض لا يستفيد بتحلّله ورجوعه أمناً من مرضه، وأمَّا المحصر بالعدو، فإنّه خائفٌ من القتل إذا أقام، فإذا رجع، فقد أمن، وتخلص من خوف القتل، والله أعلم.

فصل


قال القرطبيُّ: «الحَاصِرُ لاَ يَخْلُوا مِنْ أَنْ يكونَ كَافِراً أَوْ مُسْلِمَاً، فإن كان كافراً، لم يَجُزْ قِتَالُه، ولو وثق بالظهور عليه، ويتحلل بموْضِعه؛ قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام﴾ [البقرة: ١٩١] ولو سأل الكافر جعلاً، لم يجز؛ لأن ذلك وهن في الإسلام، وإن كان مسلماً لم يجز قتاله بحال، ووجب التحلل، فإن طلب جعلاً ويتخلّى عن الطريق، جاز دفعه، ولم يجز القتال؛ لما فيه من إتلاف المهج، وذلك لا يلزم في أداء العبادات، فإنّ الدِّين أسمح، وأمّا بذل الجعل، فلما فيه من دفع أعظم الضَّررين بالأسهل منهما: ولأن الحجَّ ممَّا ينفق فيه المال، فيعدُّ هذا من النَّفقة».

فصل


العدوُّ الحاصر: لا يخلو إمّا أن يتيقَّن بقاؤه، واستيطانه، لقوته وكثرته، أولا، فإن كان الأول، حلَّ المحصر مكانه من ساعته، وإن كان الثاني، فهو مما يرجى زواله، فهذا لا يكون محصوراً؛ حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنَّه إن زال العدو، لا يدرك الحج؛ فيحلّ حينئذٍ.
وقال أشهب: من حصر عن الحج بعدو، فلا يقطع التَّلبية، حتى يروح الناس إلى عرفة.
368

فصل في الإحصار


الإحصار: إنما يكون عن البيت، أو عن عرفة. فأمَّا عن الواجبات التي تجبر بالدم كالرَّمي والمبيت بمزدلفة، ، ونحوها، فلا إحصار فيها؛ لأن المحرم يتمكن من إتمام حجَّه بجبرها بالدَّم، وإذا إحصر عن طريق، وله طريق غيرها، يتمكَّن في الوصل إلى مكَّة، ويدرك الحجَّ من غير زيادةٍ في النفقة، أو ميرة لا تجحف بهن فليس بمحصر، إذا كانت تلك الطُّرق أمناً، [فإن لم تكن أمناً]، أو كانت زيادة النَّفقة تجحف بماله. فهو محصر

فصل في قضاء المحصر


إذا أُحصر، فلا قضاء عليه بالإحصار؛ لأنه إن كان محرماً بحجّ الفرض، أو النَّذر، وكان ذلك في العام الذي وجب عليه الحجُّ فيه، لم يجب القضاء؛ لأن شروط وجوب الحجِّ لم تكمل؛ لوجود الإحصار، وإن كان ذلك في العام الثاني: وجب عليه الحجُّ للوجوب السَّابق، لا للإحصار؛ وإن كان الحجُّ تطوُّعا، فلا قضاء؛ لأنَّه لم يجب عليه ابتداءً.
قوله: ﴿فَمَا استيسر﴾، «مَا» موصولة، بمعنى: الذي، ويضعف جعلها نكرة موصوفة، وفيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّها في محل نصب، أي: فليُهدِ، أو فلينحر، وهذا مذهب ثعلب.
والثاني: ويعزى للأخفش: أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره: فعليه ما استيسر.
والثالث: أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالواجب ما استيسر، واستيسر هنا بمعنى يسر المجرّد كصعب، واستصعب، وغني واستغنى، ويجوز أن يكون بمعنى: تفعَّل نحو: تَكَبَّر واسْتَكْبَرَ، وتعظَّم واسْتَعْظَمَ، وقد تقدَّم ذلك.
قوله: «مِنَ الهَدْي» فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون «مِنْ» تبعيضية، ويكون محلها النَّصب على الحال من الضَّمير المستتر في «اسْتَيْسَر» العائد على «مَا»، أي: حال كونه بعض الهدي.
والثاني: أن تكون «مِنْ» لبيان الجنس، فتتعلق بمحذوف أيضا.
وَفي الهَدْي قولان:
أحدهما: أنه. جَمْعَ هَدْيَةَ كَجَدْي جمع جَدْيَةِ السَّرْج.
369
والثاني: أن يكُون مصدراً واقعاً موقع المَفْعُول، أي: المُهْدَى، ولذلك يقعُ للأفرادِ والجَمْعِ. قال أبو عَمْر بنُ العلاء: لا أعْرف لهذه اللَّفْظَةِ نَظِيراً.
وقرأ مُجاهد والزُّهريُّ: «الهَديُّ» بتشديد اليَاء، وفيها وجهان:
أحدهما: أن يَكُون جمع هَدِيَّة كمطيَّة ومطايا وركيَّة ورَكايا.
قال أحمدُ بنُ يحيى: أهلُ الحِجَاز يُخَفِفُون «الهَدْي»، وتميم يثقِّلُونَهُ؛ قال الشَّاعر: [الوافر]
٩٨٢ - حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ وَالْمُصَلَّى وَأَعْنَاقِ الهَدِيِّ مُقَلَّدَاتِ
وَيُقالُ في جمع الهَدْي: «أَهْدَاءُ».
والثاني: أنْ يكون فعيلاً بمعنى مَفْعُولٍ، نحو: قتيلٍ بمعنى: مَقْتُول.

فصل


قال القَفَّال: في الآية الكريمة إِضْمَارٌ، والتَّقدير: فَتَحَلَّلْتُم فما استيسر، وهو كقوله ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ﴾ [البقرة: ١٨٤] أي: فَأَفْطَرَ فِعِدَّة، وفيها إضمارٌ آخر، هو ما تَقَدَّم، أي: فَلْيَهْدِ أو فلينحر ما اسْتَيْسَرَ، فالواجِبُ ما استيسر، ومعنى الهَدي: ما يهدى إلى بيت الله، عزَّ وجلَّ، تقرباً إليه بمنزلة الهَديَّة.
قال عليٌّ وابنُ عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - والحسنُ وقتادة: أعلاه بدنه، وأوسطه بقرةٌ، وأخسه شاةٌ، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس.

فصل


إذا عدم المُحْصَرَ الهَدْي، هل ينتقل إلى البَدَل؟ فيه خلافٌ قال أبو حنيفة: لا بَدَلَ لَهُ، ويكونُ الهَدْيُ في ذمِته أبداً؛ لأنه تعالى أوجَبَ على المحصرِ الهَدْيَ على التَّعْيين، ولم يثبت له بَدَلاً.
وقال أحمدُ: له بدلٌ؛ فعلى الأوَّل: هل له أنْ يَتَحلَّلَ في الحالِ، أو يقيم على إحرامه؟
فقال أبو حنيفة: يقيمُ على إحرامه؛ حتى يجدهُ للآية.
370
وقال غيرهُ: له أَنْ يَتَحلَّل في الحال للمشقَّة، وهؤلاء قالُوا يقوِّم الهدي بالدَّرَاهِمِ، ويشتري بها طعاماً، ويُؤدِّي؛ لأنَّهُ أقربُ إلى الهَدْي، وفيه اختلافاتٌ كثيرةٌ، ثم المُحْصَرُ إِنْ كانَ إجرامه بفرضٍ، قد استقرَّ عليه، فذلك الفَرْضُ في ذِمَّتِه، وإن كان حَجّ تَطَوُّعٍ، هل عليه القَضَاءُ؟! فيه خلاف: فذهب جماعةٌ إلى أَّنَّه لا قَضَاء عليه، وهو قَوْلُ مالكٍ، والشَّافعي، وقال مجاهدٌ والشَّعبي والنَّخعيُّ، وأصحابُ الرَّأي: عليه القَضَاءُ.
قال القُرطبيُّ: قال مالكٌ وأصحابُهُ: لا يَمْنَعُ المُحرم الاشتراطُ في الحَجِّ، إذا خاف الحَصْر بمرضٍ، أو عَدُوٍّ، وهو قول الثَّورِيِّ، وأبي حنيفة، وأصحابه - رَحِمَهُ اللَّهُ - والاشتراط أنْ يَقُولَ في إحرامه، إنْ حَبَسَنِي حابِسٌ فمحَلِّي حيثُ حَبَسَني.
وقال أَحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور لا بأس أنْ يَشْتَرِطَ، وله شَرْطُهُ، وهو قولُ جماعةً من الصَّحَابة والتابعين، واحتجُّوا بقوله عليه السَّلام لِضُباعَة حين سألتهُ عن كيفيَّة الإحرام فقال:
«قُولِي: محلِّي حَيْث حَبَسْتَنِي»

فصل


اختلَفُوا في العُمْرة، فأكثر الفُقَهاءِ قالوا: حُكْمُهَا في الإحْصار كَحُكُم الحَجِّ، وعن ابن سيرين أَنَّهُ لا إحصار فيها؛ لأَنَّهَا غير مؤقّتة، ويرده قوله تعالى: ﴿فإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ عَقِيبَ ذكر الحَجِّ والعُمْرَةِ، فيكونُ عَائِداً إليهما.

فصل


إذا أراد المحصر التحلّل وذبح، وجب أن يَنْوِيَ التَّحلل عند الذَّبْحِ، ولا يَتَحَلَّل أَلْبَتَّةَ قبل الذَّبْحِ.
قوله: ﴿وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ﴾ في الآية حَذْفٌ؛ لأنَّ الرَّجُلَ لا يَتَحَلَّلُ ببلوغ الهَدْي مَحِلَّه، حتى يَنْحَر؛ فتقدير الآية الكريمة: حتَّى يَبْلُغَ الهَدْي مَحِلَّه، فينحر فإذا نَحَرض فاحلقوا و «مَحِلَّه» يجوز أَنْ يكونَ ظرفَ مَكَانٍ، أو زمانٍ، ولم يُقْرأ إلاَّ بِكَسر الحاءِ فيما علمنا إلاَّ أّنَّهُ يَجُوزُ لغةً فتحُ حائِه، إذا كانَ مكاناً. وفَرَّق الكسائيّ بينهما، فقال: «المَكْسُورُ هو الإحْلاَلُ من الإحْرَامِ، والمفتوحُ هو مَكَانُ الحُلُولِ من الإِحصار».

فصل


قال أبو حنيفة: لا يَجُوزُ إِراقَهُ دم الإحصار إلاَّ في الحرم وقال أحمدُ والشَّافعيُّ - رحمهما اللَّهُ - حيث حبس والخلافُ مبنيٌّ على البَحْثِ في المَحَلِّ؛ فقال أبو حنيفة: هو اسمٌ للمكان. وقال غيره: هو اسمٌ للزَّمانِ الذي حصل فيه الحل. وحجّتهم وجوه.
371
منها: أنَّه - عليه السَّلامُ - أحصر بالحُديبيةِ ونحر فيها، وليست من الحَرَمِ.
قال أصحابُ أبى حنيفة: إِنَّما أحصر فى طرف الحثدَيبية، الّذى أسفل مَكَّةَ، وهو من الحَرَمِ.
قال الوَاقِدِيُّ: الحديبيةُ على طرف مكَّةَ على تِسْعَةِ أَمْيِالِ من مكَّةَ.
قال القَفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الدَّليل على [أنَّ نحر ذلك الهدي ما وقع فى الحرم قوله تعالى: ﴿هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: ٢٥].
ومنها: أَّنَّ المحصَر سواء كان فى المحلّ، أو الحرم، فهو مأمورٌ بنحر الهدي بقوله: ﴿فَمَا استيسر مِنَ الهدي﴾، فأوجب على المُحْصَرِ، سواء كان فى الحلّ أو الحرمِ، وإذا ثَبَتَ ذلك؛ وَجَبَ أن يجوز له الذَّبحُ، حيث كَانَ قادراً على إراقة الدَّمِ.
ومنها: أنَّه تعالى إنَّما مكن المحصر من التَّحلل بالذَّبح؛ ليتمكن من تخليص نفسه فى الحال عند خَوْفِ العدوِّ، فلم يَجُزِ النَّحْرُ إلاَّ فى الحرم وَمَا لم يحصلُ النَّحر لا يحصل له التَّحلل فى الحالِ، وذلك يُنَاقِضُ المَقْصُودَ من مشروعيّة هذا الحكم؛ لأن الموصل، للنَّحر إلى الحرم، إن كان هو فالْخَوْفُ، باقٍ، وكيفَ يؤمر بهذا الفعل مع قيام الخَوْفِ، وإن كَانَ غيره، فقد لا يَجِدُ ذلك الغَيْرَ، فماذا يفعل؟ حجَّةُ أبى حنيفة وجوه:
الأَوَّل: أَنَّ المحِلَّ - بكسر الحاء - عبارة عن المكان كالمسجدِ والمَجْلِس، فقوله ﴿حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ﴾ يَدُلُّ على أَنَّهُ غير بالغٍ فى الحَالِ إلى مكان الحِلِّ، وهو عندكم بَالِغٌ مَحَلَّهُ فى الحال.
وجوابه: أنَّ المحلَّ عبارة عن الزَّمان كمحل الدّين.
الثَّاني: أن لفظ «المَحِلّ» يحتمل الزَّمانَ والمَكَانَ إلاَّ أن الله - تعالى - أَزَلَ هذا الاحتمال بقوله: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق﴾ [الحج: ٢٣].
وجوابه بأَنَّ كُلَّ ما وجب على المحرم فى ماله من بَدنَةٍ، وجزاء هَدْي، فَلاَ يُجْزِي إلاَّ فى الحَرَمِ لمساكين أهْلِهِ إلاَّ فى مَوْضعَين:
أحدهما: مَنْ سَاقَ هَدْياً، فعطب فى طريقه ذبحه، وخلَّى بين المَسَاكِين وَبَيْنَه.
والثَّاني: دم المُحْصَرِ بالعَدُوِّ فينحر حيثُ حبس، فالأَدِلَّةُ المذكورةُ فى باقي الدّماءِ فلم قلتم إِنَّها تَتَنَاوَلُ هذه الصَّورَةَ؟
الثَّالث: قالوا إِنَّما سُمِّيَ هَدْياً؛ لأنه جارٍ مَجْرَى الهَدِيَّةِ التى يَبْعَثُهَا العَبْدُ إلى رَبِّهِ
372
والهديّةُ لا تكونُ هَدِيَّةً إلاَّ إذا بَعَثَها المهَدي إلى دَارِ المهدى إليه، وهذا المعنى لا يُتَصَّورُ إلاَّ بجعلِ موضعِ الهَدْي هو الحَرَمُ.
وجوابه: هذا تَمَسُّكٌ بالاسم، ثم هُوَ مَحْمُولٌ على الأصلِ عند القُدْرَة.
الرابع: أَنَّ سَائِر دماء الحَجّ سواء كانت قربة، أو كَفَّارة، لا تَصِحُ إلاَّ فى الحرم، فكذا هذا.
وجوابُهُ أنَّ هذا الدَّم إِنَّما وَجَبَ لإزالة الخَوْفِ، وزوال الخوف إِنْما يَحْصُلُ إذا قدر عليه حَيْثُ أُحصر، فلو وَجَبَ إِرْسَالَه إلى الحرم، لم يحصل هذا المَقْصُود، وهذا المَعْنَى غير موجود فى سائِرِ الدِّمَاءِ، فَظَهَر الفَرْقُ.
والقَائِلُونَ بأَنَّ مَحلَّه الحَرَم قالوا: إن كان المُحْصَر حَاجّاً، فمحله يوم النَّحْرِ، وإِنْ كَانَ معتمراً، فمحله يَوم يبلغ هديه الحرم.
قوله ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً﴾ [البقرة: ١٩٦].
فى «مِنْكُمْ» وجهان:
أحدهُما: أن يَكُونَ فى مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال من «مَرِيضاً» ؛ لأنه فى الأصل صفةٌ لهن فلمَّا قُدِّم عليه انتَصَبَ حالاً. وتَكُونَ «مِنْ» تبعيضيةٌ، أي: فَمَنْ كانَ مريضاً منكم.
والثَّاني: أجازه أبو البقاء أن يكونَ متعلِّقاً بمريضاً.
قال أبو حيان: «وهو لا يَكَادُ يُعْقَلُ». و «مَنْ» يَجُوزُ أنْ تكونَ شرطيةً، وأَنْ تكونَ موصولةً.
قوله: ﴿أَوْ بِهِ أَذًى﴾ يجوزُ أَنْ يكُونَ هذا مِنْ بابِ عَطْفِ المُفْرَدَاتِ، وأن يَكُونَ من باب عَطْفِ الجُمَلِ. أما الأولُ، فيكونُ الجَارُّ وَالمجرورُ فى قوله: «به» معطوفاً على «مريضاً» الّذي هو خبرُ كانَن فَيَكُونُ فى مَحَلِّ نَصْبٍ. ويكونُ «أذىً» مرفوعاً به على سبيل الفَاعِلِيِّة؛ لأَنَّ إِذَا اعْتمد رَفَع الفاعل عند الكُلَ فيصيرُ التقديرُ: فَمَنْ كان كائناً به أَذىً من رَأْسِهِ. وأما الثاَّاني فَيَكُونُ «به» خبراً مقدَّماً، ومحلُّه على هذا رَفْعٌ، وفى الوجهِ الأَوَّلِ كان نصباً، و «أذىً» مبتدأٌ مؤخَّر، وَتَكُونُ هذه فى مَحَلِّ نَصْبٍ؛ لأنَّها عَطفٌ على «مَريضاً» الواقع خبراً لكَان، فهى وإنْ كانَتْ جُمْلَةً لفظاً، فهي فى مَحَلِّ مُفْرَدٍ؛ إذ المَعْطُوفُ على المَفْرَدِ مفردٌ، لا يُقَالُ: إنه عَادَ إلى عَطْفٍ المُفْرَدَاتِ، فيتَّحِدُ الوجهانِ لوضوحِ الفَرق.
وأجازوا أن يَكُونَ «أَذىً» مَعْطُوفاً على إِضْمارِ «كان» لدلالةِ «كانَ» الأولى عليها، وفى اسْمِ «كَانَ» المَحْذُوفَةِ حينئذٍ احْتِمَالانَ.
أحدهما: أن يَكُونَ ضميرَ «مَنْ» المتقدِّمَةِ، فيَكُونُ «به» خبراً مقدماً، و «أذى» مبتدأ مؤخراً، والجُمْلَةُ فى مَحَلِّ نَصْبٍ خبراً لكان المضمرةِ.
والثَّاني: أن يكونَ «أَذىً» اسمها و «به» خبرَها، قُدِّم على اسمها.
373
وأجَازَ أَبُو البَقَاءِ أن يَكُونَ «أَوْ بِهِ أَذَىً» معطوفاً على «كَانَ»، وأَعْرَب «به» خبراً مقدّماً متعلِّقاً بالاستقرار، و «أَذىً» مبتدأ مُوَخَراً، والهاءُ فى «بِهِ» عائدةٌ على «مَنْ». وخَطَّأَهُ أبو حيان فيه، قال: لأَنَّهُ كَانَ قد قَدَّمَ أن «مَنْ» شَرْطيةٌ، وعلى هذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ خطأن لأَنَّ المَعْطُوف على جُمْلةِ الشَّرْطِ شَرْطٌ، والجُمْلَةُ الشَّرْطيةُ لا تَكُونُ إلا فِعْلِيَّةً، وهذه كما ترى جملةٌ اسْميّةٌ على ما قَرَّرَهُ. فَكَيْفَ تَكُونُ معطوفة على جملةٍ الشَّرطِ التِي يَجِبُ أن تكونَ فعليةً؟ فإنْ قيل: فإذا جَعَلْنَا «مَنْ» موصولةٌ، فهل يَصِحُّ ما قاله من كَوْنِ «بِهِ أَذىً» معطوفاً على «كَانَ» ؟ فالجَوَابُ أنه لا يَصِحُّ أيضاً؛ لأنَّ «مَنْ» الموصولةَ إذا ضُمِّنَتْ معنى اسْم الشَّرْطِ لزِمَ أن تكونَ صلتُها جُمْلَةً فِعْليةً، أو ما هي فى قُوَّتِهَا، وَالبَاءُ فى «به» يجوزُ فيها وجهَان.
أحدُهما: أن تَكُونَ للإلصاق.
والثاني: ان تكونَ ظرفيةً.
والأذى مَصدر بمعنى الإيذاءِ، وهو الأَلَمُ يُقالُ آذاه يُؤْذِيه إيذَاءً وأذى، فكان الأَذَى مصدر على حذف الزَّوائد، أو اسم مصدر كالعَطَاءِ اسم للإِعْطاءِ، والنَّبَاتِ للإِنْبَاتِ. قال ابنُ عَبَّاسِ - رضي اللَّهُ عنهما «فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رأْسِهِ» أي برأسه قروح، ﴿أَوْ بِهِ أَذًى﴾، أي: قَمْلٌ «.
قولُهُ:»
مِنْ رَأْسِهِ «فى وجهان.
أحدهما: أنَّه فى مَحَلِّ رَفْع؛ لأنَّهُ صِفَةٌ لأَذَى، أي: أذى كَائنٌ من رَأْسِهِ.
واثَّاني: أَنْ يَتَعَلَّق بما يَتَعلَّقُ»
بِهِ «من الاستقرارِ، وعلى كلا التَّقْدِيرَين تكُونُ» مِنْ «لابتداءِ الغَايَةِ.
قوله:»
فَفِدْيَةٌ «فى رفعها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدُها: أن تكُونُ مُبْتَدَأً والخبرُ مَحْذُوفٌ، أي: فعليه فِدْيَةٌ.
والثَّاني: أن تَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدأ محذوف، أي: فالواجبُ عليه فِدْيَةٌ.
والثَّالث: أن تكُونَ فاعل فعلٍ مقدَّر، أي فَتَجِبُ عليه فديةٌ. وقُرئ شَاذَاً:»
فَفِدْيَةً «نصباً، وهي على إضْمَار فعل، أي: فَلْيَفْدِ فديةً. و» مِنْ صِيَام «فى مَحَلِّ رفعٍ، أو نَصْبٍ على حسب القِرَاءَتَيْن صفةً ل» فِدْيَة «، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و» أو «للتَّخيير، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ فعلٍ قبلَ الفَاءِ تقديرهُ: فَحَلَقَ فَفِدْيَة.
وقرأ الحَسَنُ والزُّهريُّ «نُسْك»
بسكون السِّينِ، وهو تخفيفُ المضموم. وفى النَّسُك قولان.
374
أحدهما: أَنَّهُ مَصْدَرٌ يُقَالُ: نَسَكَ ينسُك نُسْكاً ونُسُكاً بالضَّمِّ والإِسكان، كما قرأهُ الحَسَنُ.
والثَّاني: أنه جَمْعُ نَسِيكة، قال ابنُ الأَعْرَابيّ: «النَّسيكَةُ فى الأَصْلِ سَبيكة الفِضَّةِ، وتُسَمَى العبادةُ بها؛ لأَنَّ العِبَادَة مُشْبهةٌ سبيكة الفِضَّة فى صَفَائِهَا وخُلوصِها من الآثام ويُقَالُ للمتعبد» نَاسِكٌ «، لأَنَّهُ يُخلص نفسه من الآثام وصغارِها كالسَّبِيكةِ المخلَصة من الخَبَثِ وقيل للذَّبيحة» نَسيكة «لذلك لأنها أشرف العبادات التى يُتَقرَّبُ بها إلى اللَّهِ تعالى.

فصل في سبب نزول الآية


قال ابنُ عبَّاس: نزلت هذه الآية الكريمة فى كَعْب بنِ عجزة،»
قال كعبٌ: مَرّبي رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زمن الحُدَيْبَةِ، وكان شعر رأسي كثير القَمْلِ والصَّئبان، وهو يتناثرُ وَأنَا أطيح، فرآني فَقَال - عليه السَّلامُ -: «أَتُؤْذِيك هَوَامٌّ رَأْسِكَ» قُلْتُ: نعم يا رَسُول اللَّهِ، قال: «احْلِقْ رَأْسَكَ»، فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية الكريمة.
والمقصود منها أَنَّ المحرم إِذَا تَأَذَّى بالمرض، أو بهوامّ رأسه؛ أُبيح له المُدَاوَةُ في الحَلْقِ بِشَرْطِ الفِدْيَةِ، وهو على التَّخْيير بينَ أن يذبح، أو يَصُومَ، أو يَتَصَدَّق، فَأَقَلّ النُّسُكِ شَاةٌ، وَأَوْسَطُهُ بَقَرَةٌ، وأعلاه بَدَنَةٌ. وأمَّا الصِّيامُ، فليس فى الآية كمِّيته، وفيه قولان:
أحدهما: أنَّه ثَلاَثَةُ أَيَّام؛ لما رَوَى أَبو دَاودَ أنَّه - عليه السَّلامُ - «لمّا مرَّ بكعب بنِ عجْرة، وَرَأَى كثرةَ هَوَامّ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: احْلِقْ، ثُمَّ اذْبَحْ شَاةٌ نُسُكاً، أَو صُم ثَلاَثَةَ أَيَّامِ أَوِ أَطْعِم ثَلاَثَة آصعِ مِنْ تَمْرٍ على سِتَّة مساكِينَ»
والثَّاني: قال ابنُ عبّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - والحَسَنُ: الصِّيام كصيام المتمع عَشْرَة أَيَّامٍ، والإطعام مِثْلُ ذلك فى العَدَدِ؛ لأَنَّ الصِّيَامَ والإطعام لمّا كان مُجْمَلَيْنِ فى هَذَا
375
المَوْضِعِ؛ وَجب حَمْلُهُ على المبيَّنِ فيما جاء بعد ذلك، وهو الَّذي يلزمُ المتمتِّعَ إذا لم يجد الهدي.

فصل


اختلفوا: هَلْ يقدّم الفدية ثمّ يترخّص، أو يُؤَخِّر الفدِية عن الترخّص، والّضي يقتضيه ظاهر الآية الكريمة؛ أنَّهُ يؤخر الفِدْيَةَ عن الترخص، لأن الإقْدَامَ على التّرخص كالعِلَّة فى وُجُوبِ الفِدْيَة، فكان مُقَدَّماً عليه، وأيضاً فقد بينَّا أنَّ تقدير الآية الكريمة: فَحَلَقَ فعليه فِدْيةٌ.

فصل


قال بَعْضُهُم هذه الآية الكريمة مختصّة بالحَصْرِ؛ وذلك إِنْ قيل أي بلوغ الهَدْي محلَّه، ربما لحقه مرض، وأذى فى رأْسِهِ، فأذن الله تعالى له فى إِزَالَة ذلك المُؤْذِي بشرط أن يَفْدِي.
وقال آخرون: بل الكَلاَمُ مستأنفٌ فى كُلِّ محرم لحقه مرض، أو أذى فى رَأْسِهِ، فاحْتَاج إلى العلاج والحلق، فبيَّن اللَّهُ تعالى أّنَّ لهُ ذلك، وبين ما يجبُ عليه من الفِدْية، وقد يَكُونُ المَرَضُ محوجاً إلى اللِّبَاسِ، من شدَّة البَرْدِ أو غيره، وقد يحتاج فى الأَمْرَاضِ إلى استِعْمَالِ الطّيب كثيراً، وبالجملة فهذا الحُكمُ عامٌّ فى جميع مَحظورات الإِحْرامِ.

فصل


فَأَمّا من حق رأسه عامِداً من غير عُذْرٍ، فقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ يجب عليه الدَّمُ.
وقال مالكٌ: حكمه حكم من فعل ذلك بعذر؛ لأَنَّ وجوبه على المَعْذُور تنبيه على وجوبه على غير المَعْذُورِ.
وقال ابنُ الخطيب: هذا ضَعيفٌ؛ لأَنَّ قوله: «فَمَنْ كَانَ منْكُمْ مَريضاً أَوْ بِهِ أَذَى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ» يدل على اشْتِراط هذا الحُكْم بهذه الأَعذارِ، والمَشْرُوط بالشيء عدم عند عدم الشَّرْط.
قوله: «» الفاءُ عَاطفةٌ على ما تَقَدَّم، و «إِذَا» مَنْصُوبَةٌ بالاستقرار المحذوفِ؛ لأنَّ التَّقْدِير: فعليه ما اسْتَيْسَرَ، أي: فاستقرَّ عليه ما اسْتَيْسَرَ «.
وقوله:»
فَمَنْ تَمَتَّعَ «الفاءُ جوابُ الشَّرْطِ بإذا، والفَاءُ فى قوله: ﴿فَمَا استيسر﴾ جوابُ الشَّرط والثاني. ولا نَعْلَمُ خلافاً أَنَّهُ يَقَعُ الشَّرْطكُ وجوابُهُ جواباً لشرطٍ آخرَ مع الفاءِ. وقد تَقَدَّم الكَلاَمُ على ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ﴾.
376

فصل


تقدير الكَلاَمِ، فإذا أمنتم الإحصار الخَوْفِ أو المرض، ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج﴾ واختلفوا فى هذه المُتْعَةِ: فقال عَبدُ اللَّهِ بنُ الزُّبير: معناه فمن أُحْصِرَ حَتّى فَاتَهُ الحَجُّ، ولم يَتَحَلَّل، فَقَدِمَّ مَكَّةَ، فخرج من إِحرامهِ بعَمَلِ عُمرة، أَو اسْتَمْتَعَ بإِحْلاَلِهِ ذلك بتلك العمرة إلى السَّنَةِ المقبلة، ثم حَجَّ فيَكُونُ متمتعاً بذلك الإحلال إلى إِحْرَامِهِ الثَّانِي فى العَام القَابِلِ، وقيل معناه: فإذا أمنتم، وقد حَلَلْتُم من إحرامِكُم بعد الإحصارِ، ولم تقضوا عمرتكم، وأخرتم العُمرَةَ إلى السَّنَةِ القَابِلة، فاعْتَمَرتُم فى ما اسْتَيْسَرَ من الهَدْي، وهو قول علْقَمَة، وإبراهيم النَّخعيِّ، وسعيد بن جبير.
ومعنى التَّمَتُّع: التَّلَذُّذ، يقالُ تمتَّعَ بالشَّيءِ، أي: تَلَذَّذَ به، والمتاع: كُلُّ شَيءٍ يُتمتع به، وأصلُهُ من قولهم:» حَبْلٌ ماتِعٌ «أي: طويلٌ، وكل ما طالت صحبته بالشَّيء، فهو مُتَمتِّعٌ به، والتمتع بالعمرة إلى الحَجّ هو أن يَقدُم مكَّة مُعْتمِراً فى أشهرِ الحجِّ وينزع منها، ثم يقيمُ بمكَّةَ حلالاً، حتَّى يُنشىء منها الحَجَّ من عَامِهِ ذلك، وإنَّما سُمِّي متمتعاً لأنَّهُ يكُونُ مستمتعاً بمحظورات الحج فيما بين تحلله من العمرة إلى إحرامِهِ بالحَجِّ، وهذا التمتع الَّذي ليس بمكروهٍ، بل هو الأفضلُ عند أحمد، وإتمامِ التَّمتُّع المكروه، وهو الَّذي خطب به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقال:» مُتْعَتَانِ كَانَتَا على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأنا أنهى عنهما، وأُعاقِبُ عليهما، مُتْعَةُ النِّسَاءِ، ومتعة الحَجِّ «، والمراد بهذه المتعة أن يجمع بين الإحرامين، ثُمَّ يفسخ الحجَّ إلى العمرة، ويتمتَّعُ بها إلى الحَجِّ، روي أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذن لأصحابه فى ذلك ثُمَّ نسخ.
روي عن أبي ذَرِّ أنَّه قال: ما كانت متعة الحج إلاّ لي خاصة، وكان السَّبَبُ فيه أنَّهم كانُوا لا يَرَونَ العُمرةَ فى أشهر الحَجِّ، ويعدُّونَهَا مِنْ أَفْجَرِ الفجُور، فلما أراد - عليه السَّلام - إبطال ذلك الاعتقاد عليهم بالغ فيه، بأنْ نقلهم فى أشهرِ الحَجِّ من الحَجِّ إلى العُمرَةِ، وهذا سَبَبٌ لا يشاركهم فيه غيرهم، فلهذا المعنى كان فسخ الحَجِّ خاصّاً بهم.
377
قال القُرطبيُّ: وزعَمَ مَنْ صَحَّحَ نَهي عُمر عن التَّمَتُّعِ: أنّما نهى لينتجع إلى البيت مرَّتَيْنِ أو أكثر فى العام حتى يُكْثر عمارته بكثرة الزِّيارة فى غير المَوْسِمِ، وأراد إدخال الرّفق على أهل الحَرَمِ بدخول النَّاس، تحقيقاً لِدَعوة إبراهيم - عليه السَّلامُ - ﴿فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ﴾ [إبراهيم: ٣٧].
وقيل: إنَّما نهى عنهما؛ لأَنَّهُ رأى النَّاسَ مالوا إلى التَّمتُّع ليسارته، وخفِّتِهِ؛ فخشي أن يضيع الإفراد والقران، وهما مسنُونانِ.

فصل


التَّمتُّع لا يحصُلُ إلاَّ بمحظورات الإحرامِ لكِنَّهُ لما كان بسبب إتيانِهِ بالعُمْرَة سَمَّاهُ تمتعاً بالعُمرة إلى الحَجِّ. ؟

فصل في شروط وجوب دم التَمتُّع


يشترط لوجوب دم التَّمَتُّع خمسة شروطٍ:
أحدها: أن يُقَدم العُمرة على الحَجِّ.
والثاني: أن يُحرم بالعُمرة في أشهر الحَجِّ، فلو أحرمَ لها قبل أشهر الحَجِّ، وأتى بشيء من الطَّوَافِ، ولو شوطاً واحِداً، ثم أكمل بقيه في أشهر الحَجِّ فى هذه السَّنة، لم يلزمه الدَّمُ؛ لأنَّهُ لم يجمع بينَ النُّسُكَيْنِ فى أشهر الحَجِّ.
378
وقال أبو حنيفة: إذا أتى بأكثر الطَّوَافِ فى أشهر الحَجِّ، فهو مُتَمَتِّعٌ، وإذا أتى بالأكثر قبل أشهر الحَجِّ فلا.
الثالث: أن يَحِجُّ فى هذه السَّنَة، فإن حَجَّ فى سَنَةٍ أخرى لم يَلْزَمْهُ دَمٌ؛ لأَنَّه لم يوجد مُزَاحمة الحَجُّ والعمرة فى عامٍ واحدٍ، ولم يحصل الترفُّه بترك أحد السّفرين، إلاَّ على قول ابن الزُّبير فيما قَدَّمناه.
الرابع: ألا يكُون من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى: ﴿ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام﴾، وهومَنْ كان أهلُهُ على أقلّ منمسافة القَصْرِ، وهل تُعْتَبَرُ هذه المَسَافَةُ من مَكَّة، أو من الحرمِ فيه وجهان.
الخامس: أن يُحْرِم بالحَجِّ من مَكَّةَ بعد الفَرَاغ من العُمرة، فلو رجع إلى الميقاتِ، وأحرمَ بالحَجِّ منه، لا يلزمُهُ دَمُ التَّمَتُّعِ.

فصل


قال القُرطبيُّ: التَّمَتُّع بالعمرة إلى الحَجِّ على أربعةِ أوجهٍ:
أحدها مجمع عليه، والثَّلاثةُ مختلفٌ فيها فالمجمعُ عليه هو المراد بقوله تبارك وتعالى: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي﴾، وذلك أَنْ يُحْرَمُ بالعُمْرَةِ في أشهر الحَجِّ، ويكون آفاقيّاً، ويفرغ منها، ويقيم حلالاً بمكَّة إلى أن يحرم بالحجِّ من عامِهِ قبل رجوعه إلى بلدِهِ.
ولها ثَمَانيةٌ شروطٍ:
الأول: أن يجمع بين الحجّ والعمرة.
الثاني: فى عامٍ واحدٍ.
الثالث: فى سفر واحد.
الرابع: فى أشهر الحَجِّ.
الخامس: مقدِّماً الحج.
السادس: غير مخلط لها بالحَجِّ.
السابع: وأن تكُونَ العُمرةُ والحج عن شخصٍ واحدٍ.
الثامن: ويكون آفاقيّاً.
الوجه الثَّاني من وجوه التَّمتُّع بالعُمْرَة: هو القِرَانُ، وهو أنْ يَجْمَعَ بينهما فى إحرامٍ واحدٍ، قيُهِلّ بهما جميعاً فى أشهر الحَجِّ، يتمتع القارن بترك السّفر إلى العُمْرَةِ، مرَّة، وإلى
379
الحَجِّ أخرى، ولا يحرم لكلِّ واحد من ميقاتِهِ، فيدخل تحت قوله تعالى: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج﴾.
الوجه الثالث الَّذي نهى عنه عمر - رضي اللَّهُ عنه -: وهو أنْ يُحْرِمَ بالحَجِّ فإذا دخل مَكَّةَ فسخ حجّه إلى عمرة، ثم يحلّ إلى أن يُهِلَّ بالحج يَوْم التَّرْوية، فاختلف فى ذلك، فالجمْهُورُ على تَرْكِ العَمَل بها.
قال أبو ذرِّ كانت المتعة لنا فى الحَجِّ خاصّة.
الوجهُ الرَّابع من التمتع: متعة المُحصر، ومن صُدَّ عن البيت.

فصل


دم التمتع دم جبران، فلا يجوزُ له الأكل منه.
وقال أبو حنيفة دم نسك، ويأكُلُ منه.
حُجَّةُ الأَوَّلِ وجوهٌ:
أحدهما: أنَّ التمتع حصل فيه خَلَلٌ فيكون دم جبران.
وبيان الخَلَلِ أنَّ عُمَرَ كان ينهى عن المتعةِ، فقال له عثمانُ - رضي اللَّهُ عنهما - عَمَدْتُ إلى رُخْصَةٍ بسبب الحاجة؛ فَدلّ على حُصُولِ نقص فيها.
وأيضاً سمَّاها تَمَتُّعاً، والتمتع التَّلَذُّذ، وبمنى العبادة على المَشَقَّةِ.
وأيضاً ففي التَّمَتُّع صار السَّفَرُ للعمرة، وكان من حَقِّه أن يكُون للحج؛ لأَنَّهُ الحج الأكبر، وأيضاً حصل التَّرفه بالإحلال بينهما، وأيضاً كان من حَقّه جعل الميقات للحجِّ، فإنَّه الأَكبَرُ، وكل هذه أنواع خَلَلٍ، فوجب أن يَكُونَ الدَّم دم جبران.
وثانيها: أنَّ الدّم ليس بنسك أصلي من مناسك الحَجّ، أو العمرة، كما لو أفردها وكما في حقّ المَكِّي، والجمعُ بين العبادَتين لا يوجب الدَّم، بدليل أنَّ من جمع الصَّلاة، والصّوم، والاعتكاف لا يَلْزَمُهُ دم، وإذا ثبت ذلك فليس الدَّم دم نسك، بل دم جبران.
وثالثهما: أنَّ هدي التمتع ليس مُؤَقّتاً، والمناسِكُ كلّها مؤقتة، فيكُونُ دم جُبرانٍ.
ورابعها: أنَّه يُبَدَّلُ بالصَّوم، ودم النُّسك لا النُّسُك لا يُبَدَّلُ بالصَّوم.
380

فصل


والمجزي فيها جذعة من الضأن، أو ثنية من المَعْزِ، أو شركُ ستَّةٍ فى بدنةٍ، أو بقرةٍ، ووقت وجوبه بعد الإحرام بالحجِّ؛ لأنَّ قوله: ﴿فَمَا استيسر مِنَ الهدي﴾ يدلُّ على أنَّه عقيب التَّمَتع، ويستحب ذبحه يوم النَّحرِ فلو ذبح بعد الإحرام بالحجِّ جاز؛ لأَنَّ التمتع قد تَحَقَّقَ. وعن أبى حنيفة لا يجوز إلاَّ يوم النَّحر؛ لأَنَّهُ نسك عنده.
قوله: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ﴾ ؛ يعنى: أنَّ المتمتع إذا لم يجد الهَدْيَ، فعليه أنْ يصُومَ، وهل الهدي أفضلُ أم الصِّيَامُ؟ قال ابنُ الخطيب: الظَّاهِرُ أنَّ المبدل أفْضَلُ من البدل؛ لكنَّهُ تعالى بيَّن فى هذا البدل أنَّه فى الكمال والثَّوابِ كالهَدْي وهو كقوله «تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ».
قوله: «فَصِيَامُ» فى رفعه الأَوجه الثَّلاَثَة المّذكُورةُ فى قولِهِ: «فَفِدْيَةٌ» وقرئ نصباً، على تقدير فَلْيَصُمْ، وأُضيف المَصْدَرُ إلى ظَرْفِهِ معنىً، وهو فى اللَّفظِ مَفْعُولٌ به على السَّعَةِ. و «فِي الحَجِّ» مُتَعَلّقٌ بِصِيَامٍ وقَدَّر بعضهم مُضافاً، أي: في وقتِ الحَجِّ، ومنهم مَنْ قَدَّر مُضَافَيْن، أي: وقتَ أفعالِ الحَجِّ، ومنهم مَنْ قَدَّره ظَرْفَ مكانٍ، أي: صَوْمُهُ، بعد إحرام العُمرة، وقبل إحرام الحَجِّ.
وقال أبو حنيفة: يصحُّ.
حجَّةُ الأَوَّل وجوه:
أحدها: أنَّه صيامٌ قبل وقته؛ فلا يجُوزُ كمن صَامَ رَمَضانَ قبلهُ، وكما لو صام السَّبعة قبل الرُّجوع، وذلك لأَنَّ الله تعالى قال: ﴿فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج﴾، والمراد إحرام الحج، لأنَّ سَائِرَ أفعال الحجِّ لا تصلح ظرفاً للصَّومِ، والإحرامُ يَصلُحُ، فوجب حمله عليه.
وثانيها: أنَّ ما قبل الإحرام بالحجِّ ليس بوقت لِلْهَدي الذى هو أصلٌ، ولا يكُونُ وقتاً لبدله، كسائر الأُصُول فى الأبدال.
وإذا ثبتَ ذلك، فَنَقُولُ: اتَّفَقُوا على أَنَّه يجُوز بعد الشُّرُوع فى الحَجِّ إلى يوم النَّحْرِ، وثبت أنَّهُ لا يجوز يوم النحر ولا أيّام التَّشريق لقوله عليه السَّلام: «لا تَصُوْمُوْا فى هَذِهِ الأَيَّامِ»، والمستحبُّ أنْ يَصُومَ فى أيّام الحج حيثُ يكُونُ يوم عرفة مفطراً.
381
وقال بعضهم: يصوم ثَلاَثة أيّام آخرها يومُ عرَفَةَ والثَّامِن، والتَّاسع، ولو صَامَ ثَلاَثَة أيَّامٍ آخرها يومُ التَّرْوِية، ويكُونُ قد أحرمَ بالحجِّ قبله جاز، ولا يجُوزُ يوم النحر، ولا أيام التَّشْريق. وهو قول مالكٍ والأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق.

فصل


اختلفوا فيمن اعْتَمرَ فى أشهر الحَجِّ، ثُمَّ رجع إلى بَلَدِه، ثمَّ رجَعَ في عامه فقال الجمهورُ: ليس بمتمتع، ولا هدي عليه، ولا صِيَام. وقال الحسن: هو مُتَمَتِّعٌ.
وأحمعوا على أَنَّ الآفاقي إذا قدم معتمراً فى أشهر الحج عازِماً على الإقامة، ثم أنشأ الحج من عامه فحج، آنّه متمتع عليه ما على المُتَمَتِّع.
قوله: «وَسَبْعَةٍ» الجمهورُ على جَرِّ «سَبْعَةٍ» عطفاً على ثلاثة. وقرأ زيدُ بنُ عَليٍّ، وابن أبي عَبْلَة: «وَسَبْعَةً» بالنَّصب. وفيها تخريجان:
أحدهما: قاله الزَّمخشَرِيُّ، وهو: أن يكُونَ عطفاً على مَحَلِّ «ثَلاَثَة» كأنه قيل: فصيامُ ثلاثةٍ، كقوله: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً﴾ [البلد: ١٤، ١٥]، يعني: أنَّ المُضاف إليه المصدرُ مَنْصُوب معنى بدليل ظُهُورِ النَّصب فى «يَتيماً».
والثاني: أنْ يَنْتَصِبَ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: «فَلْيَصُومُوا»، قال أبو حيان «وهذا مُتَعَيِّنٌ؛ لأنَّ العَطْفَ على المَوضع يُشْتَرَطُ فيه وجُودُ المُحْرِزِ» يني: على مذهب سيبويه.
قوله: «إِذَا رَجَعْتُمْ» : مَنْصُوبٌ بِصيام أيضاً، وهي هُنَا لِمَحضِ الظَّرفِ، وليس فيها مَعْنَى الشَّرْط. لا يُقَالُ: يَلْزَمُ أن يَعْمَلَ عامِلٌ واحدٌ فى ظَرْفَي زَمان، لأنَّ ذلك جائزٌ مع العطف والبَدلِ، وهنا يكُونُ عَطَفَ شيئين على شيئين، فَعَطَفَ «سَبْعَةٍ» على «ثَلاَثَةٍ»، وعطف «إذ رَجَعْتُم» على «فِي الحَجّ».
وفي قوله: «رَجَعْتُمْ» شيئان:
أحدهما التفاتٌ، والآخَرُ الحَمْلُ على المعنى، أمَّا الالتفاتُ: فإنَّ قبله ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾، فجاء بضمير الغَيْبَة عائداً على «مَنْ»، فلو سيق هذا على نَظْمِ الأَوَّل لقيل: «إِذَا رَجَعَ» بضمير الغَيْبَةِ. وأمَّا الحَمْلُ فلأَنَّهُ أتى بضمير جمعٍ؛ اعتباراً بمعنى «منْ»، ولو رَاعى اللَّفظ لأفردَ، فقال: «رَجَعَ».
382

فصل


اختلفوا فى المراد من الرُّجوع، فقيل: هو الرُّجوع إلى الأهلِ والوَطَنِ وقال أبو حينفة المرادُ من الرُّجوع: هو الفراغُ من أعمال الحَجّ، والأخذ فى الرُّجوع، ويتفرّعُ عليه أنَّهُ لو صام السَّبْعَةَ بعدَ الفراغ من الحَجِّ، وقبل الوصول إلى بيته، لا تُجزيه على الأوَّل. وعن أبى حنيفة: تجزيه.
حجّةُ الأَوَّل: أَنَّهُ تعالى جعل الرُّجُوعُ إلى الوَطَنِ شَرْطاً، وما لم يُوجَدِ الشَّرْطُ لم يوجد المَشْرُوط، ويُؤَكِّدُ ذلك أَنَّه لو ماتَ قَبْلَ وصُوله إلى الوَطَنِ، لم يلزمه شيءٌ. وروَى ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: «لَمّا قَدِمْنَا مَكَّةَ المشرفة قال النَّبيُّ - عليه السَّلام - اجْعَلُوا إِهْلاَلَكم بِالحَجِّ عُمْرَةً إِلاَّ مَنْ قَلَّدَ الهَدْي. فطُفْنَا بالبَيْتِ، وبالصَّفَا، والمروة، وأَتَيْنَا النِّسَاءَ، ولبسنا الثِّيَابَ، ثُمّ أمرنا عشية التَّرْوية أنْ نُهِلّ بالحجّ فإذا فرغنا قال - عليه الصلاة والسَّلام - عَلَيْكُمْ الْهَديَ، فإِنْ لَمْ تَجِدُوا؛ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فى الحَجِّ، وسَبْعَة إِذَا رَجْعَتُم إِلَى أَمْصَارِكُمْ»، وأيضاً فإنَّ الله - تعالى - أسقطَ صَوْمَ رَمَضَانَ عَن المُسَافِرِ، فصوم التَّمَتُّع أخفّ شأناً منه.
وقوله: «تِلْكَ عَشَرَةٌ» مبتدأ وخبرٌ، والمشار إليه هي السَّبعة والثَّلاثة، ومُمَيِّزُ السَّبعة والعشرة محذوف للعلم به. وقد أثبت تاء التأنيث فى العدد مع حذف التَّميز، وهو أحسن الاستعمالين، ويجوز إسقاط التَّاء حينئذٍ، وفي الحديث: «وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ»، وحكى الكسائيُّ: «ثُمْنَا من الشَّهْرِ خَمْساً».
وفي قوله: «تِلْكَ عَشَرَةٌ» - مع أنَّ المعلوم أنَّ الثَّلاثة والسَّبعة عشرة - أقوال كثيرة لأهل المعاني، منها قول ابن عرفة: «إن العَرَبَ إذا ذكرت عددين، فمذهبهم أن يُجْمِلُوهُمَا»، وحسَّن هذا القول الزَّمخشري بأن قال: «فائدةُ الفَذْلَكَةِ فى كُلِّ حساب: أن يُعْلَمَ العَدَدُ جُمْلَةً كما يُعْلَمُ تَفْصِيلاً، لِيُحْتَاط به من جِهَتَيْنِ، فيتأكَّد العِلمُ»، وفي أمثالهم «
383
عَلَمَانِ خَيْرٌ مِنْ عَلَمِ». قال ابن عرفة: «وإنما تَفْعَلُ العَرَبُ ذلك؛ لأنَّها قليلةُ المَعْرِفَةِ بِالحِسَابِ»، وقد جاء: «لا نَحْسُب، وَلاَ نَكْتُب»، وورد ذلك في أشعارهم، قال النَّابغة: [الطويل]
٩٨٣ - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أَيَّامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
وقال الفرزدق: [الوافر]
٩٨٤ - ثَلاَثٌ واثْنَتَانِ فَهُنَّ خَمْسٌ وَسَادِسَةٌ تَمِيلُ إِلَى شَمَامِ
وقال الأعشى: [الوافر]
٩٨٥ - ثَلاَثٌ بِالْغَدَاةِ فَهُنَّ حَسْبِي وَسِتٌّ حِينَ يُدْرِكُنِي العِشَاءُ
فَذَلِكَ تِسْعَةٌ فِي الْيَوْمِ رِيِّي وَشُرْبُ الْمَرْءِ فَوْقَ الرِّيِّ دَاءُ
وقال آخرك [الوافر]
٩٦٨ - فَسِرْتُ إِلَيْهِمُ عِشْرِينَ شَهْراً وَأَرْبَعَةً فَذَلِكَ حِجَّتَانِ
وقال عليه السَّلام: «الشهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وهَكَذَا»، ثمَّ أَشَارَ بِيَديه ثَلاَثاً، وأمسك إبهامه فى الثالثة، منبهاً بالإشارة الأولى على الثلاثين، وبالأخرى على تسعة وعشرين.
ومنها قال المبرد: طفتلك عشَرَةٌ: ثلاثةٌ فى الحَجّ وسبعةٌ إذا رَجَعْتُمْ فَقَدَّمَ وأخَّر «، ومنها قال ابن الباذش: جيء بعشرة توطئةً للخبرِ بعدها، لا أنَّها هي الخَبَرُ المستقلُّ بفائدةِ الإسناد كما تقول: زيدٌ رَجُلٌ صَالِحٌ» يعني أن المقصود الإخبار بالصَّلاح، وجيء برجلٍ توطئةً، إذ معلومٌ أنه رجلٌ. ومنها قال الزَّجاج: «جَمَعَ العدَدَيْنِ لجوازٍ أن يُظَنَّ أنَّ عليه ثَلاَثَةً أو سبعةً» ؛ لأنَّ الواو قد تقوم مقام أو، ومنه: ﴿مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: ٣] فأزال احتمال التَّخيير، وهذا إنَّما يتمشَّى عند الكوفيِّين؛ فإنَّهم يقيمون الواو مقام أو. وقال الزمخشريُّ: «الواو قد تجيءُ للإباحة فى قولك:» جَالِسِ الحَسَنَ وابْنَ سِيرينَ «ألا ترى أنَّه لو جالسهما معاً، أو أحدهما كان ممتثلاُ فجمع نفياً لتوهُّمِ الإبَاحَة» قال أبو حيان: «وفيه نَظَرٌ، لأنَّهُ لا تُتَوَهَّمُ الإِبَاحَة؛ فإنَّ السِّيَاقَ سياقُ إيجَاب، فهو يُنَافِي الإبَاحَةَ، ولا يُنَافي
384
التَّخْيِيرَ، فإنَّ التَّخيِيرَ يَكُونُ فى الوَاجِبَاتِ، وقد ذكر النَّحْوِيُّونَ الفَرْقَ بينَ التَّخْيِير، والإباحَةِ».
وقد ذكر ابن الخطيب قول الزَّمخشري هذا المقتدّم، وذكر وجوهاً أخُر:
منها: أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالاً من المبدّل، فبيَّن الله تعالى أنَّ هذا البدل ليس كذلك، بل هو كامل فى كونه قائماً مقام المبدّل، فيكون الصائم ساكن النَّفس إلى حصول الأجر الكامل من عند الله، وذكر العشرة ليتوصل به إلى قوله «كَامِلَة» ؛ لأنَّه لو قال: «تِلْكَ كَامِلَةٌ» ؛ لجاز أن يراد به الثَّلاثة المفردة عن السَّبعة والسّبعة المفردة عن الثَّلاثة، فلا بدّ من ذكر العشرة.
وقوله: «كَامِلَةٌ» يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجهٍ: إمَّا أن تكون كاملة فى البدل عن الهدي قائمة مقامه لا تنقص عنه، أو أنَّ ثوابها مثل ثواب القادر على الهدي، أو أنّ حجّ المتمتع الصّائم كاملاً كحج من لم يتمتَّع.
ومنها أنّ الله تبارك وتعالى لو قال أوجب عليكم صيام عشرة أيّام، لم يبعد أن يكون دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيّام، فإنّ تخصيص العام كثير في الشَّرع، فلما قال «تِلْكَ عشرة» كانَ ذلك تنصيصاً على أنَّ المخصص لم يوجد البتَّة، فيكون أقوى دلالة، وأبعد من احتمال التَّخصيص والنَّسخ.
ومنها أنَّ التَّوكيد طريقة مشهورة فى كلام العرب كقوله ﴿ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور﴾ [الحج: ٤٦]، وقوله: ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] وفائدة التوكيد أنَّ الكلام المعبَّر عنه بالعبارات الكثيرة الشّريفة وبالصِّفات الكثيرة، أبعد عن السَّهو والنّسيان من الكلام المعبَّر عنه بعبارة واحدة، وكونه معبراً عنه بعبارات كثيرة يدلُّ على كونه مشتملاً على مصالح عظيمة، لا يجوز الإخلال بها، فإذا كان التّوكيد مشتملاً على هذه الحكمة كان ذكره هنا دالاًّ على رعاية هذا العدد فى هذا الصَّوم، فإنَّه من المهمّات التي لا يجوز إهمالها ألبتَّة.
ومنها أنَّ هذا الكلام يزيل الإبهام الذي في تصحيف الخطّ، فإنَّ سبعة، وتسعة متشابهان فى الخطِّ، فلمَّا قال بعده: «تِلْكَ عِشَرَةٌ كَامِلَةٌ» ؛ أزال هذا الاشتباه.
ومنها: أنَّ قوله ﴿فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ يحتمل أن يكون المراد، أن يكون الواجب بعد الرُّجوع أن يكمل صيام سبعة أيّام، على أنَّه يحسب الثَّلاثة المتقدِّمة منها، ويكمل عيلها أربعةً، فلما قال «تِلْكَ عَشَرَة» ؛ أزال هذا الاحتمال.
ومنها: أن هذا خبر، ومعناه الأمر، أي: تلك عشرة فأكملوها ولا تنقصوها.
385
ومنها: أنَّه تعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيَّام فى الحجِّ وسبعة بعد الرُّجوع، فليس فيه بيان أنَّه طاعةٌ عظيمة كاملة، فلمَّا قال بعده: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ دلَّ ذلك على أنَّ هذه الطَّاعة فى غاية الكمال؛ وذلك لأنَّ الصَّوم مضافٌ إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال: «الصَّوْمُ لي»، والحجُّ أيضاً مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال «الصَّوْمُ لي»، فَكَمَا دَلَّ النَّصُّ على مَزِيدِ اختصاص هاتين العبادتين بالله - سبحانه وتعالى -، فالفعل دلَّ أيضاً على ذلك.
أمّا فى الصَّوم فلأنَّه عبادة لا يطّلع العقل على وجه الحكمة فيها ألبتَّة، وهو مع ذلك شاقٌّ على النَّفس جدّاً، فلا جرم لا يؤتى به إلاَّ لمحص مرضاة الله - تعالى - ثمَّ إنَّ صوم هذه تعني الانقياد له.
وكذا الحجّ عبادة لا يطَّلع العقل على وجه الحكمة في ألبتَّة، وهو مع ذلك شاقٌ جداً؛ لأنَّه يوجب مفارقة الأهل، والولد والتَّباعد عن أكثر اللَّذَّات، فلا جرم لا يؤتى به إلاّ لمحض مرضاة الله تعالى، ثمَّ إنَّ صوم هذه الأيّام العشرة بعضه واقعٌ في زمن الحج، فيكون جمعاً بين شيئين شاقَّين جدّاً، وبعضه واقعٌ بعد الفراغ من الحجِّ، وهو انتقالٌ من شاقِّ إلى شاقٍّ، ومعلوم أنَّ ذلك سبب لكثرة الثَّواب، وعلوِّ الدَّرجة، فلا جرم لمَّا أوجب الله - تعالى - صيام هذه الأيَّام العشرة، شهد سبحانه على أنَّها عبادة كاملة فى غاية الكمال والعلوّ، فقال تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرةٌ كَامِلَةٌ﴾، أي: وإنها كاملة.
قوله: «ذَلِكَ لِمَنْ» «ذَلِكَ» مبتدأ، والجارُّ بعده الخبر. وفي اللاَّم قولان:
أحدهما: أنَّها على بابها، أي: ذلك لازمٌ لمن.
والثاني: أنها بمعنى على، كقوله: ﴿أولئك لَهُمُ اللعنة﴾ [الرعد: ٢٥]، وقال عليه السَّلام: «اشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاَءَ»، أي: عليهم، وقوله: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: ٧] أي: فعلهيا، وذلك إشارة إلى التَّمتُّع، والقران للغريب [ولا حاجة إلى هذا. و «مَنْ» يجوز أن تكون موصولة، وموصوفة. و «حَاضِرِي» خبر «يَكُن»، وحذفت نونه للإضافة].

فصل


قوله: «ذلك» إشارة إلى أمرٍ تقدَّم، وأقرب الأمور المذكورة، ذكر ما يلزم المتمتع من الهدي وبدله.
وقال بعض العلماء: لزوم الهدي وبدله للمتمتّع مشروطٌ بألاّ يكون من حاضري المسجد الحرام، فإن كان من أهل الحرم، فلا يلزمه هدي المتمتّع، وإنَّما لزم الآفاقي،
386
لأنه كان يجب عيله أن يحرم بالحجِّ من الميقات، فلمّا أحرم بالعمرة من الميقات، ثم أحرم بالحجِّ من غير الميقات، فقد حصل هناك خللٌ، فجبر بالدَّم، بدليل أنّه لو رجع، فأحرم بالحجِّ أيضاً من الميقات؛ لما يلزمه دمٌ، والمكيُّ ميقاته موضعه، فلا يقع فى حجِّه خللٌ من جهة الإحرام، فلا هدي عليه.
وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قوله «ذَلِكَ» إشارةٌ إلى الأبعد وهو ذكر التّمتع، وعنده لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام، ومن تمتع أو قرن، كان عليه دم جنايةٍ لا يأكل منه.
حجَّة القول الأوَّل وجوه:
أحدها: قوله تعالى ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج﴾ عامٌّ يدخل فيه الحرمي، وغيره.
وثانيهما: أنَّ الإشارة يجب عودها إلى أقرب مذكور، وهو جوب الهدي، فإذا خصَّ وجوب الهدي بالمتمتع الآفاقي؛ لزم القطع بأن غير الآفاقي قد يكون أيضاً متمتعاً.
وثالثها: أنَّ الله تعالى شرع القران والمتعة تبييناً لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحجِّ، والنسخ ثبت فى حقّ النَّاس كافَّةً.
حجَّة أبي حنيفة: أنَّ قوله: «ذَلِكَ» كنايةٌ؛ فوجب عودها إلى كلِّ ما تقدم، لأنَّه ليس البعض أولى من البعض.
والجواب أنَّ عوده إلى الأقرب أولى، لأنَّ القرب سببٌ للرُّجحان، ومذهبكم أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل مختصٌّ بالجملة الأخيرة، وإنَّما تميزت تلك
387
الجملة عن سائر الجمل بسبب القرب، فكذا ها هنا.

فصل


اختلفوا فى حاضري المسجد الحرام، فذهب قوم إلى أنَّهم أهل مكَّة، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال ابن جريج: أهل عرفة والرجيع وضجنان.
388
وقال الشَّافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كلُّ من كان وطنه من مكَّة على أقلّ من مسافة القصر، فهو من حاضري المسجد الحرام.
وقال عكرمة: من كان دون الميقات.
وقيل هم أهل الميقات فما دونه، وهو قول أصحاب الرَّأي.
وقال طاوسٌ: الحرم كلُّه، وهو قول الشَّافعيِّ، وأحمد لقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى﴾ [الإسراء: ١] وإنما أسرى به من الحرم من بيت أمِّ هانئ لا من المسجد، وقال ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق﴾ [الحج: ٣٣]، والمراد الحرم؛ لأن الدماء لا تراق في البيت، والمسجد الحرام إنَّما وصف بهذا؛ لأن أصل الحرام المنع، والمحرم: ممنوعٌ من المكاسب، والمسجد الحرام ممنوعٌ أن يفعل فيه ما منع من فعله.
قال الفرَّاء: يقال حرامٌ، وحرمٌ مثل: زمانٍ وزمنٍ، وذكر حضور الأهل، والمراد حضور المحرم، لا حضور الأهل، لأنَّ الغالب على الرَّجل أنّه يسكن حيث أهله ساكنون فلو خرج المكيٌّ إلى الآفاق، وأهله بمكَّة، ثمَّ عاد متمتعاً؛ لزمه هدي التمتع، ولا أثر لحضور أهل فى المسجد الحرام.
وقيل المراد بقوله: ﴿لمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ﴾، أي يكون أهلاً لهذه العبادة.

فصل


ودم القرآن كدم التَّمتُّع، فالمكيُّ إذا قرن، أو تمتع، فلا هدي عليه.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قوله: يريد فيما فرضه عليكم، ﴿واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ لمن تهاون بحدوده.
وقال أبو مسلمٍ: العقاب والمعاقبة سيَّان، وهو مجازاة المسيء على إساءته، وهو مشتقٌّ من العاقبة، كأنّه يراد عاقبة فعل المسيء، كقول القائل: لتذوقن ما ذوّقت، و «شَدِيدُ العِقَابِ» من باب إضافة الصِّفة المشبَّهة إلى مرفوعها، وقد تقدَّم أنَّ الإضافة لا تكون إلا من نصب، والنَّصب والإضافة أبلغ من الرَّفع؛ لأنَّ فيها إسناد الصِّفة للموصوف، ثم ذكر من هي له حقيقة، والرَّفع إنَّما فيه إسنادها، دون إسناد إلى موصوف لمن هي له حقيقة.
389
«الحَجُّ» مبتدأ، و «أشْهُرٌ» خبره، والمبتدأ والخبر لا بدّ أن يصدقا على ذاتٍ واحدٍ، و «الحَجُّ» فعلٌ من الإفعال، و «أشْهُرٌ» زمانٌ، فيهما غيران، فلا بدَّ من تأويل، وفيه ثلاثة احتمالات:
أحدها: أنَّه على حذف مضافٍ من الأوَّل، تقديره: أشهر الحج أشهر معلوماتٌ. أي: لا حجَّ إلاَّ في هذه الأشهر ولا يجوز في غيرها، كما كان يفعله أهل الجاهيلَّة في غيرها، كقوله البرد شهران، وقت البرد شهران.
الثاني: الحذف من الثاني تقديره: الحجّ حجّ أشهرٍ، فيكون حذف من كل واحدٍ ما أثبت نظيره.
الثالث: أن تجعل الحدث نفس الزَّمان مبالغةً، ووجه المجاز كونه حالاًّ فيه، فلما اتُّسع في الظَّرف جعل نفس الحدث، ونظيره: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾ [الأحقاف: ١٥] وإذا كان ظرف الزمان نكرةً مخبراً به عن حدثٍ، جاز فيه الرفع والنَّصب مطلقاً، أي: سواءً كان الحدث مستوعباً للظَّرف، أم لا، هذا مذهب البصريين.
وأمَّا الكوفيُّون فقالوا: إن كان الحدث مستوعباً، فالرَّفع فقط نحو: «الصَّوْمُ يومٌ» وإن لم يكن مستوعباً، فهشامٌ يلتزم رفعه أيضاً نحو: «مِيَعَادُكَ يَوْمٌ» والفرَّاء يجيز نصبه مثل البصريّين، وقد نقل عنه أنَّه منع نصب «أشْهُر»، يعني: في الآية الكريمة، لأنها نكرةٌ، فيكون له في المسألة قولان، وهذه مسألةٌ طويلةٌ.
قال ابن عطيَّ: «ومنْ قَدَّر الكَلاَم: الحج في أشهر، فيلزَمُهُ مع سقوطِ حَرْفِ الجَرّ نصبُ الأَشْهُر، ولم يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ» قال أبَو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ: ولا يَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّ الرَّفْع على جِهة الاتِّساع، وإن كان أصلُهُ الجرَّ ب «في».

فصل


أجمع المفسِّرون على أنَّ شوَّالاً، وذا القعدة، من أشهر الحج، واختلفوا فى ذي الحَّجة فقال عروة بن الزُّبير: إنها بكليتها من أشهر الحج وهو قول مالك، وداود.
وقال أبو حنيفة: العشر الأول من ذي الحجَّة من أشهر الحجِّ؛ وهو قول ابن عبَّاسٍ، وابن عمر، والنخعي، والشعبي، ومجاهد، والحسن.
390
وقال الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التسعة الأول، مع ليلة النَّحر من أشهر الحج.
حجَّة الأوَّل: أن الأشهر جمعٌ، وأقلُّه ثلاثةٌ، وأيضاً فإنَّ أيَّام النَّحر يفعل فيها بعض ما يتَّصل بالحج: من رمي الجمار، والذَّبح، والحلق، وطواف الزِّيارة، والبيتوتة يعني ليالي منى، وإذا حاضت المرأة، فقد تؤخِّر الطَّواف الذي لا بدَّ منه إلى انقضاء أيَّامٍ بعد العشرة. ومذهب عروة تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر.
والجواب أنَّ لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد؛ بدليل قوله: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٤]. وقال - عليه السَّلام: «الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وأيضاً فإنَّه نزَّل بعض الشَّهر منزلة كلِّه، فإنّ العرب تسميِّ الوقت تامّاً بقليله، وكثيره، يقال زرتك سنة كذا، وأتيتك يوم الخميس، وإنما زاره، وأتاه في بعضه، وأيضاً فإنَّ الجمع ضمُّ شيءٍ إلى شيءٍ، فإذا جاز أن يسمَّى الاثنان جماعةً، جاز أن يسمَّى الاثنان، وبعض الثَّالث جماعةً، وأمَّا رمي الجمار، فإنما يفعله الإنسان، وقد حلّ بالحلق والطَّواف، والنَّحر، فكأنه ليس من أعمال الحجِّ، والحائضُ إذا طافت بعده، فكأنه في حكم القضاء، لا في حكم الأداء.
حجَّة الثاني: أنَّ المفسرين قالوا: أنّ يوم الحجِّ الأكبر، هو يوم النَّحر، لأنَّ معظم
391
أفعال الحج يفعل فيه: من طواف الزيارة؛ الذي هو ركنٌ في الحج، والرَّمي، والذَّبح، والحلق، فدخوله في أيام الحج أولى.
حجَّة الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: أنَّ الحجَّ يفوت بطلوع الفجر يوم النَّحر، والعبادة لا تفوت مع بقاء وقتها.

فصل


قال بعض العلماء: لا يجوز أن يُهِلَّ بالحج قيل أشهر الحج، وهو قول ابن عباس، وجابر، وبه قال عطاء، وطاوس، ومجاهد، إليه ذهب الأوزاعي، والشافعيُّ، وأحمد فى رواية، وإسحاقٌ.
وقال مالكٌ، والثوريُّ وأبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يجوز.
حجَّة الأول: قوله: ﴿الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾.
جمع الأشهر جمع تقليلٍ، على سبيل التَّنكير؛ لا يتناول الكلَّ، وأكثر الجمع إلى عشرةٍ، وأدناه إلى ثلاثةٍ، وعند التنكير ينصرف إلى الأدنى، واتفق المفسِّرون على أنّ تلك الثَّلاثة، شوَّال وذو القعدة، وبعض ذي الحجَّة.
وإذا تقرَّر، وجب ألاَّ يجوز الإحرام بالحجِّ قبل الوقت؛ لأنَّ الإحرام بالعبادة قبل وقت أدائها لا يصحّ؛ كالصَّلاة، وخطبة الجمعة قبل الوقت.
حجَّة الثاني: قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج﴾ [البقرة: ١٨٩]، فجعل الأهلَّة كلَّها مواقيت الحجِّ، وليس مواقيتاً للأداء، فثبت أنها مواقيت لصحَّة الإحرام، ويجوز أن يسمَّى الإحرام حجّاً؛ مجازاً، كما سمّيَ الوقت حجّاً في قوله: «الحَجُّ أَشْهُرٌ» بل هنا أولى؛ لأن الإحرام أقرب إلى الحج من الوقت. وقد اشتهر بين أكابر الصّحابة أنَّهم قالوا: إتمام الحجِّ والعمرة أن يحرم بهما من دويرة أهله، ومن يكن منزله بعيداً يجب أن يكون في المشرق أو في المغرب، فلا بدَّ وأن يحرم بالحج قبل أشهرٍ، وأيضاً فإنَّ الإحرام التزامٌ بالحجِّ، فجاز تقديمه على الوقت؛ كالنَّذر.
وأجاب الأوَّلون عن قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة﴾ بأنَّ قوله «الحجُّ أَشْهُرٌ» أخصُّ منها، وفرَّقوا بين النَّذر، والإحرام: بأنَّ الوقت معتبرٌ للأداء، ولا اتِّصال للنذر بالأداء، بدليل أنّ الأداء لا يتصور إلاَّ بعقد مبتدأ، والإحرام مع كونه التزاماً، فهو شروعٌ في الأداء، وعقدٌ عليه؛ فلا جرم افتقر إلى الوقت.

فصل


قوله: «مَعْلُومَاتٌ» أي: معلومات عندهم، مقررة لبيان الشرع، بخلاف مرادهم
392
بها. أو معلوماتٌ ببيان الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام وأنها مؤقتةٌ في أوقات معينة، لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها، كما فعلوه في النَّسيء.
قوله: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج﴾.
يجوز في «مَنْ» أن تكون شرطيةً، وأن تكون موصولةً، كما تقدَّم في نظايرها، و «فِيهنَّ» متعلِّقٌ ب «فَرَضَ». والضَّمير في «فِيهِنَّ» يعود على «أَشْهُر» وجيء به كضمير الإناث، لما تقدم من أنَّ جمع غير العاقل في القلَّة يعامل معاملة جمع الإناث على الأفصح؛ فلذلك جاء «فِيهِنَّ» دون «فِيهَا»، وهذا بخلاف قوله: ﴿مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [التوبة: ٣٦] لأنه هناك جمع كثرة.
وفرض في اللُّغة: ألزم وأوجب، يقال فرضت عليك كذا، أي: أوجبته، وأصل الفرض في اللغة: التَأثير والحزُّ والقطع.
قال ابن الأعرابي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: الفرض الحزُّ في القدح، [وفي الوتد، وفي غيره]، وفرضة القوس: الحزُّ الذي فيه الوتر، وفرضه الوتد الحزُّ الذي فيه، ومنه فرض الصلاة؛ لأنها لازمةٌ للعبد كلزوم الحزّ لقدح، ففرض ها هنا - بمعنى: أوجب، وقد جاء في القرآن «فَرَضَ» بمعنى أبان؛ قال تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾ [النور: ١] بالتخفيف، وقوله: ﴿قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [التحريم: ٢]. راجع إلى معنى القطع؛ لأنَّ من قطع شيئاً، فقد أبانه من غيره، والله تعالى إذا فرض شيئاً، أبانه عن غيره، ففرض بمعنى: أوجب: وفرض: بمعنى أبان؛ كلاهما راجعٌ إلى أصل واحدٍ؛ ومن ها هنا فرَّق بعضهم بين الفرض والواجب، فقالوا:
393
الفرضُ ما ثبت بدليل قطعيّ؛ لأن أصله القطع، وسمَّاه بالركن.
394
والواجب ما ثبت بدليل ظنِّي، وجعل الفرض لا يسامح به، عمداً ولا سهواً، وليس له جابر، والواجب ما يجبر ويسامح فيه العباد لسهوة، قال أبو العباس المقرىء: ورد لفظ «فَرَضَ» في القرآن خمسة معان: الأول: فرض بمعنى أوجب، كهذه الآية الكريمة، ومثله: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧] أي أوجبتم.
الثاني: فرض بمعنى بيَّن، قال تعالى: ﴿قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [التحريم: ٢] ومثله ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾ [النور: ١].
الثالث: فرض: بمعنى أنزل؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ﴾ [القصص: ٨٥] أي: أنزل.
امس: الفرض: الفريضة في قسمة المواريث؛ كما قال تبارك وتعالى: ﴿فَرِيضَةً مِّنَ الله﴾ [النساء: ١١].

فصل


قوله: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج﴾ يدلُّ على أنّه لا بدَّ للمحرم من فعل يفعله؛ يصير به محرماً وحاجاً، واختلفوا في ذلك الفعل.
فقال الشَّافعيُّ، وأحمد: ينعقد الإحرام بمجرد النِّية، من غير حاجةٍ إلى التَّلبية.
وقال أبو حنيفة: لا يصحُّ الشُّروع في الإحرام بمجرد النية؛ حتى يضمَّ إليه التَّلبية أو سوق الهدي.
وقال القفَّال في تفسيره: ويروى عن جماعةٍ من العلماء؛ أنّ من أشعر هديه أو قلَّده، فقد أحرم، وروى نافع عن ابن عمر أنّه قال: إذا قلَّد أو أشعر، فقد أحرم، وعن ابن عباسٍ: إذا قلَّد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو الحجَّ، فقد أحرم.
قوله: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾ إمَّا جواب الشَّرط، وإمَّا زائدةٌ في
395
الخبر على حسب القولين المتقدِّمين. وقرأ أبو عمرٍ وابن كثير: بتنوين «رَفَثَ» و «فُسُوقَ»، ورفعهما، وفتح «جِدَالَ».
والباقون: بفتح الثَّلاثة.
وأبو جعفر - ويروى عن عاصم - برفع الثلاثة والتنوين.
فأمَّا قراءة الرفع ففيها وجهان:
أظهرهما: أنَّ «لا» ملغاةٌ، وما بعدها رفع بالابتداء، وسوَّغ الابتداء بالنكرة؛ تقدُّم النفي عليها، و «في الحج» خبر الأول، وحُذِفَ خبرُ الثاني، والثالث؛ لدلالةِ خبرِ الأولِ عليهما، ويجوزُ أنْ يكونَ «في الحج» خبرَ الثلاثة، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ «في الحجِّ» خبرَ الثاني، وحُذِفَ خبرُ الأولِ، والثالث؛ لقبح مثل هذا التركيب، ولتأديته إلى الفصل.
والثاني: أن تكون «لاَ» عاملةً عمل ليس، ولعملها عمل ليس شروطٌ: تنكير الاسم، وألاَّ يتقدَّم الخبر، ولا ينتقض النفيُّ؛ فيكونُ «رَفَثَ» اسمَها، وما بعده عطْفٌ عليه، و «في الحجِّ» الخبرُ على حسب ما تقدَّم من التقادير فيما قبله.
وخرَّجه ابن عطية بهذا الوجه، وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ إعمال «لا» عمل ليس لم يقم عليه دليل صريحٌ، وإنما أنشدوا أشياء محتملةً، أنشد سيبويه: [مجزوء الكامل]
396
وأنشد غيره: [الطويل]
٩٨٧ - مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرَانِهَا فَأَنَّا ابْنُ قَيْسٍ لاَ بَرَاحُ
٩٨٨ - تَعَزَّ فَلاَ عَلَى الأَرْضِ باقيَا وَلاَ وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا
وقول الآخر: [البسيط]
٩٨٩ - أَنْكَرْتُها بَعْدَ أَعْوَامِ مَضيْنَ لَهَا لاَ الدَّارُ دَاراً وَلاَ الجِيرَانُ جَيرَانَا
وأنشد ابن الشَّجري: [الطويل]
٩٩٠ - وحَلَّتْ سَوادَ القَلْبِ لاَ أَنَا بِاغِياً سِوَاهَا وَلاَ فِي حُبِّها مُتَرَاخِيَا
وللكلام على الأبيات موضعٌ غير هذا.
397
وأمَّا من نصب الثلاثة منونةً فتخريجها على أن تكون منصوبةً على المصدر بأفعال مقدرةٍ من لفظها، تقديره: فلا يَرْفُثُ رَفَثاً، ولا يَفُسُقُ فُسُوقاً ولا يُجَادِلُ جِدَالاً، وحينئذٍ فلا عمل ل «لا» فيما بعدها، وإنَّما هي نافيةٌ للجمل المقدرة، و «في الحجِّ» متعِّلقٌ بأيِّ المصادر الثَّلاثة شئت، على أنَّ المسألة من التنازع، ويكون هذا دليلاً على تنازع أكثر من عاملين، وقد يمكن أن يقال: إنَّ «لا» هذه هي التي للتَّبرئة على مذهب من يرى أنَّ اسمها معربٌ منصوب، وإنما حذف تنوينه؛ تخفيفاً، فرجع الأصل في هذه القراءة الشاذة كما رجع في قوله: [الوافر]
٩٩١ - أَلاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً.................................
وقد تقدَّم تحريره.
وأمَّا قراءة الفتح فى الثَّلاثة فهي «لا» التي للتَّبرئة. وهل فتحة الاسم فتحة إعراب أم بناءٍ؟ فيه قولان، الجمهور على أنَّها فتحة بناءٍ، وإذا بني معها، فهل المجموع منها، ومن اسمها في موضع رفع بالابتداء، وإن كانت عاملة فى الاسم النصب على الموضع وما بعدها، ولا خبر لها؟ أو ليس المجموع فى موضع مبتدأ، بل «لاَ» عاملةٌ في الاسم النَّصب على الموضع، وما بعدها خبرٌ ل «لاَ» ؛ لأنَّها اجريت مجرى «أنَّ» فى نصب الاسم، ورفع الخبر؛ قولان:
الأول: قول سيبويه.
والثاني: قول الأخفش. وعلى هذين المذهبين، يترتَّب الخلاف فى قوله: «فِي الحَجِّ»، فعلى مذهب سيبويه: يكون فى موضع خبر المبتدأ، وعلى رأي الأخفش: يكون فى موضع خبر «لا»، وقد تقدَّم شيء من هذا أول الكتاب.
وأمَّا من رفع الأولين، وفتح الثالث: فالرفع على ما تقدَّم، وكذلك الفتح، إلا أنه ينبغي أن ينبَّه على شيءٍ: وهو أنَّا قلنا بمذهب سيبويه من كون «لا» وما بني معها في موضع المبتدأ، على مذهب الأخفش، فلا يجوز أن يكون «في الحجِّ» إلا خبراً للمبتدأين، أو خبراً ل «لاَ». لا يجوز أن يكون خبراً للكلِّ؛ لاختلاف الطالب؛ لأنَّ المبتدأ يطلبه خبراً له، ولا يطلبه خبراً لها.
وإنَّما قرئ كذلك، قال الزمخشري: «لأنَّهما حَمَلا الأوَّلَيْنِ على معنى النَّهي، كأنه قيلَ: فلا يكوننَّ رَفَثٌ ولا فُسُوقٌ، والثالثُ على معنى الإخبارِ بانتفاء الجِدالِ، كأنه قِيلَ: ولا شكَّ ولا خلاف فى الحجِّ»، واستدلَّ على أنّ المنهيَّ عنه هو
398
الرفث والفسوق دون الجدال، بقوله عليه السلام: «مَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ... » وأنه لم يذكر الجدال. وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ سبقه إليه صاحب هذه القراءة؛ إلاَّ أنه أفصح عن مراده، قال أبو عمرو بن العلاء - أحد قارئيها -: الرفع بمعنى فَلاَ يَكُونُ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ، أي شيء يخرج من الحجِّ، ثم ابتدأ النفي فقال: «ولا جدال»، فأبوا عمرو لم يجعل النفيين الأوَّلين نهياً، بل تركهما على النَّفي الحقيقي.
فمن ثم، كان فى قوله هذا نظيرٌ؛ فإنَّ جملة النفي بلا التبرئة، قد يراد بها النهي أيضاً، وقيل ذلك فى قوله تعالى: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢]. والذي يظهر فى الجواب عن ذلك، ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال: «وقيل: الحُجَّةُ لِمَنْ رَفَعَهُمَا أنَّ النفيَ فيهما ليس بعامٍّ؛ إذ قد يقعُ الرفَثُ، والفُسُوقُ فى الحَجِّ من بعض الناسِ، بخِلاَفِ نفي الجِدَالِ في أَمْرِ الحجِّ؛ فإنه عامٌّ؛ لاسْتِقْرَارِ قَوَاعِدِهِ». قال شهاب الدِّين. وهذا يتمشَّى على عُرف النَّحويين، فإنهم يقولون: «لا» العاملة عمل «لَيْسَ» لنفي الوحدة، والعاملة عمل «إنَّ» لنفي الجنس، قالوا: ولذلك يقال: لا رجل فيها، بل رجلان، أو رجالٌ؛ إذا رفعت، ولا يحسن ذلك إذا بنيت اسمها أو نصبت بها.
وتوسَّط بعضهم فقال: التي للتبرئة نصٌّ في العموم، وتلك ليس نصَّاً.
والظاهر أنَّ النكرة في سياق النفي مطلقاً للعموم، وقد تقدَّم معنى الرَّفث فى قوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧] قال ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر: هو الجماع، وهو قول الحسن، ومجاهد، وعمرو بن دينار، وقتادة، وعكرمة، والنخعي، والربيع.
وروي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: الرَّفث: غشيان النساء، والتَّقبيل، والغمز، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام.
وقال طاوسٌ: هو التَّعريض للنساء الجماع، وذكره بين أيديهنَّ.
وقال عطاءٌ: الرَّفث: هو قول الرجل للمرأة فى حال الإحرام: إذا حللت، أَصَبْتُكِ.
399
وقيل الرَّفث: الفحش، والفسق وقد تقدم فى قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين﴾ [البقرة: ٢٦]. وقرأ عبد الله «الرَّفُوث» وهو مصدر بمعنى الرَّفث.
وقوله: «فَلاَ رَفَثَ» وما في حيِّزه فى محلِّ جزمٍ، إن كانت «مَنْ» شرطيةً، ورفع، إن كانت موصولةً، وعلى كلا التقديرين، فلا بدَّ من رابطٍ يرجع إلى «مَنْ» ؛ لأنها إن كانت شرطيةً، فقد تقدَّم أنه لا بدَّ من ضمير يعود على اسم الشرط، وإن كانت موصولة، فهي مبتدأ والجملة خبرها، ولا رابط فى اللَّفظ، فلا بدَّ من تقديره، وفيه احتمالان:
أحدهما: أن تقديره: ولا جدال منه، ويكون «منه» صفَّة ل «جِدَال»، فيتعلَّق بمحذوف، فيصير نظيره قولهم: «السَّمْنُ مَنَوانِ بِدِرْهَمٍ» تقديره: منوان منه.
والثانيك أن يقدَّر بعد «الحج» تقديره: ولا جدال في الحجِّ منه، أو: له. ويكون هذا الجارُّ في محلِّ نصب على الحال من «الحج».
وللكوفيِّين في هذا تأويل آخر: وهو أنَّ الألف واللام نابت مناب الضمير، والأصل: في حجِّه، كقوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ [النازعات: ٤٠] ثم قال: ﴿فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى﴾ [النازعات: ٤١] أي: مأواه.
وكرَّر الحجَّ؛ وضعاً للظاهر موضع المضمر تفخيماً، كقوله: [الخفيف]
٩٩٢ - لاَ أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ.............................
وكأنَّ نظم الكلام يقتضي: «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحجَّ فَلاَ رَفَث فيه»، وحسَّن ذلك في الآية الكريمة الفصل بخلاف البيت.
والجدال مصدر «جَادَل». والجدال: أشدُّ الخصام، مشتقٌّ من الجدالة، وهي الأرض؛ كأن كلَّ واحد من المتجادلين يرمي صاحبه بالجدالة.
قال القائل: [الراجز]
٩٩٣ - قَدْ أَرْكَبُ الآلَةَ بَعْدَ الآلهْ واتْرُكُ العَاجِزَ بالْجَدَالَهْ
ومنه «الأَجْدَالُ» للصَّقر؛ لشدَّته.
وقال القائل: [الكامل]
٩٩٤ -..........................
400
يَهْوِي مُحَارِبُهَا هُوِيَّ الأجْدَلِ
والجدل: فَتْلُ الحبل، ومنه زمامٌ مجدولٌ، أي: محكم الفتل.

فصل


قد تقدَّم أنّ الفسق: هو الخروج عن الطَّاعة، واختلف المفسرون فيه، فحمله أكثر المحقِّقين على كلِّ المعاصي، وهذا قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -، وطاوس، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، والزهري، والربيع، والقرظي، قالوا: لأنَّ اللفظ صالحٌ للكلِّ، والنَّهي عن الشَّيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه؛ ويؤكده قوله تعالى
﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: ٥٠]، وقوله: ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان﴾ [الحجرات: ٧].
وذهب بعضهم إلى أنَّ المراد منه بعض أنواعه، ثم ذكروا وجوهاً.
أحدها: قال الضحّاك: المراد التنابز بالألقاب؛ لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان﴾ [الحجرات: ١١]. والثاني: قال عطاء، ومجاهد، وإبراهيم النخعي: المراد السّباب، لقوله - عليه السلام - «سِبَابُ المؤْمِن فُسُوقٌ، وقِتَالُه كُفْرٌ»
الثالث: أنَّ المراد منه الإيذاء، والإفحاش؛ قال تعالى: ﴿وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢].
الرابع: قال ابن زيد: هو الذَّبح للأصنام؛ فإنّهم كانوا فى حجِّهم يذبحون لأجل الأصنام قال تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: ١٢١]، وقوله: ﴿أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ [الأنعام: ١٤٥].
401
الخامس: قال ابن عمر: هو قتل الصَّيد، وسائر محظورات الإحرام.
وأمّا الجدال: فهو «فِعَالٌ» من المجادلة، الذي هو الفَتْلُ، يقال: زمامٌ مجدولٌ وجديلٌ، أي: مفتولٌ، والجديل: اسم للزِّمان؛ لأنه لا يكون إلاَّ مفتولاً، وسميت المخاصمة مجادلة لأنّ كلَّ واحدٍ من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه. وذكر المفسرون فيه وجوهاً:
أحدها: قال ابن مسعود، وابنُ عباس، والحسنُ: هو الجدالُ الذي يخافُ معه الخروجُ إلى السِّباب، والتكذيب، والتجهيل. وهو قولُ عمرو بن دينار، وسعيد بن جُبَيرٍ، وعِكْرمة، والزهريِّ، وعطاءٍ، وقتادة.
الثاني: قال محمد بن كعب القُرظيُّ: إِنَّ قُريشاً كانوا إذا اجتمعوا بِمنَى قال بعضهُم: حجُّنا أَتَمُّ. وقال آخرون: بل حَجُّنَا أَتَم، فَنَهَاهُمَّ اللَّهُ عن ذلك.
الثالثك قال القاسِمُ بن محمد: هو أنْ يقولَ بعضهُم: الحَجُّ اليَوْمَ، ويقول بعضُهم: الحج غداً، وذلك بأنهم أُمِرُوا بأن يَجْعَلُوا حِسَابَ الشهور على الأهِلَّةِ، فكان بعضُهم يجعلُ الشهورَ على الأَهِلّةِ، وآخرون يجعلونها بالعدد فلهذا السبب؛ كانوا يختلفون.
الرابع: قال مقاتِلٌ، والقفّال: هو ما جادلُوا فيه النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين أمرهُم بنسخ الحج إلى العُمْرَة، إلاَّ مَنْ قَلّدَ الهَدْيَ، قالُوا: كيف نجعلُها عُمْرَةً، وقد سمينا الحج؟! فهذا جِدَالُهم.
الخامس: قال مَالِكٌ في «الموطأ» : الجدالُ في الحج أنَّ قريشاً كانوا يقفون عن المشعَرِ الحَرَامِ في المُزْدَلِفة بقزح وغيرها يقفُ بعرفاتٍ، وكُلٌّ منهم يزعَمُ أنّ موقفهُ
402
موقف إبراهيم، ويقولُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ نحن أصْوَبُ؛ فقال الله تعالى: ﴿لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر وادع إلى رَبِّكَ إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحج: ٦٧ - ٦٨] قال مالكٌ: هذا هو الجِدالُ فيما يُروى والله أعلم.
السَّادس: قال ابنُ زيْدٍ: كانوا يَقِفُون مَواقِف مختلقة، فبعضهم يقفُ بعرفة، وبعضهم بالزدلفة، وبعضُهم حجَّ في ذي القَعْدة، وبعضُهم في ذي الحَجَّةِ، وكُلٌّ يقول: ما فعلتُه هو الصَّوَابُ؛ فقال تعالى: ﴿وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾، أَي: اسْتَقَرَّ أَمرُ الحج على ما فعلهُ الرسولُ - عليه السلام - فلا اختلاف فيه مِنْ بعدِ ذلك، وذلك معنى قول النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
«أَلاَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوات والأَرْضَ».
قال مجاهدٌ: معناه: لا شَكَّ في الحجِّ أنّه في ذي الحجةِ، فأَبْطَلَ اللَّهُ النَّسِيءَ.
قال أهلُ المعاني: ظَاهِرُ الآية الكريمة نفيٌ ومعناه نَهْيٌ، أي لا ترفُثُوا، ولا تَفسقوا ولا تُجَادِلُوا؛ كقوله تعالى ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٣] أي: لا ترتابُوا.
قال القاضي: قوله تعالى: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾ يحتملُ أن يكونَ خبراً، وأنْ يكونَ نَهْياً، كقوله: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾، أي: لا تَرْتَابُوا فيه، وظاهرُ اللفظِ للخبر، فإذا حَمَلناهُ على الخبر كان معناه: أنّ الحجة لا تثبتُ مع واحدةٍ من هذه الخِلالِ، بل تَفْسُدُ؛ كالضدِّ لها وهي مانعةٌ من صحَّته، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى؛ إلاَّ أَنْ يُراد بالرفَثِ، الجماعُ [المفسِدُ للحج، ويُحْملُ الفسوقُ على الزِّنا؛ لأنه يُفسِدُ الحجَّ، ويُحملُ الجِدالُ على الشَّكِّ في وجوب الحجِّ] ؛ لأن ذلك يكون كُفْراً، فلا يَصِحَّ معه الحج، وإنَّما حَمَلْنَا هذه الألفاظ على هذه المعاني؛ حتَّى يصحَّ خبرُ اللَّهِ بأنَّ هذه الأشياء لا تُوجَدُ مع الحج.

فصل


قال ابنُ العَرَبيِّ: المرادُ بقوله: «فَلاَ رَفَثَ» نَفْيُهُ مَشْرُوعاً لا مَوجُوداً، فإِنَّا نَجِدُ
403
الرفثَ فيه حِسَاً، وخبرُ اللَّهِ تعالى لا يجُوزُ أَنْ يَقَعَ بخلاف مخبره، وإنما يرجعُ النفيُ إلى وجوده مَشْرُوعاً لا إلى وجوده مَحْسُوساً؛ كقوله تعالى: ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء﴾ [البقرة: ٢٢٨] أي: مشروعاً لا حسّاً، فإنَّ نجدُ المطلقاتِ لا يتربصْنَ؛ فعاد النَّفْيُ إلى الحكم الشَّرعيِّ لا إلى الوجود الحِسّيّ؛ وهو كقوله تعالى: ﴿لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون﴾ [الواقعة: ٧٩] إذا قلنا: إنّه واردٌ فى الآدَمِيِّينٍ؛ وهو الصَّحيحُ، فإنَّ معناه لا يَمَسُّه أَحَدٌ منهم شَرْعاً، فإن وجد المَسُّ، فعلى خلاف حُكْم الشرع، وهذه الدَّقِيقةً فاتت العُلماء فقالوا: إِنّ الخبرَ يكونُ بمعنى النَّهْي، وما وجِدَ ذَلك قَطُّ، ولا يصح أَنْ يُوجَدَ؛ فإنهما مُخْتَلِفَان حقيقةً، ومُتَضَادان وَصْفاً.

فصل


قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - فإن قيل أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحجُّ فَاسِداً ويجبُ على صاحبه المضيّ فيه، وإذا كان الحجُّ باقِياً معها، لم يصدق الخبرُ لأَنَّ هذه الأشياء لا توجدُ مع الحجة؟
قلنا المرادُ من الآية الكريمة حصولُ المضادةِ بين هذه الأشياء، وبَيْن الحجة المأمُورِ بها ابتداءً، وتلك الحجةُ الصحيحةُ لا تَبْقَى مع هذه الأشياء؛ بدليل أنّه يجبُ قضاؤُهَا، والحجةُ الفاسِدَةُ التي يجبُ عليه المضِيُّ فيها شيءٌ آخر سوى تلك الحجةِ المأمُورِ بها ابتداءً، وأَمَّا الجِدَالُ الحَاصِلُ بسبب الشَّكِّ في وجوب الحج، فظاهره أنَّه لا يبْقَى معه عملُ الحج؛ لأنَّ ذلك كُفْرٌ وعملُ الحج مشروطٌ بالإسلام، فثبت أَنَّا إِذَا حملنا اللفظ على الخبر، وجب حَمْلُ الرَّفث والفُسُوق والجِدَالِ على ما ذكرنا، وأمَّا إِذَا حملناه على النَّهي، وهو في الحقيقة عُدُولٌ عن الظَّاهِر، فقد يَصِحُّ أنْ يرادَ بالرفثِ الجماعُ ومقدماتُه، وقولُ الفُحْشِ، وأَنْ يرُادَ بالفِسْقِ جميعُ أنْواعه، وبالجدالِ جميعُ أَنواعه؛، لأَنَّ اللفْظَ مُطْلَقٌ ومتناولٌ لكل هذه الأقسامِ، فيكون النهي عنها نَهْياً عن جميع أقسامها.
فإن قيل: ما الحكمةُ في أنّ الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة: وهي الرَّفث، والفُسُوق، والجدَال في الحج، مِنْ غير زِيَادَةٍ ولا نَقْصٍ؟
فالجواب: لأنه ثَبَتَ في العلوم العقلية أنّ للإنسان أربَعَ قُوىً: قوّة شَهْوَانيةٌ بهيميَّةٌ، وقُوَّةٌ غَضَبيَّةٌ سبعيَّةٌ، وقُوَّةٌ وهمِيَّةٌ شيطانيَّةٌ، وقُوة عقليةٌ مَلكيَّةٌ، والمقصود من جميع العبادات قَهْرُ القُوَى الثلاث، أعْنِي: الشهوانية والغضبية والوهْمية.
فقوله: «فَلاَ رَفَثَ» إشارةٌ إلى قَهْرِ الشهوانية.
وقوله: «ولا فُسُوقَ» إشارةٌ إلى قَهْرِ القُوةِ الغضبيةِ التي توجِبُ المعصية والتمردَ.
404
وقوله: ﴿وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾ إشارةٌ إلى قَهْرِ القوةِ الوهْمية، التي تحملُ الإنسانَ على الجدال في ذاتِ الله، وصفاتِهِ، وأفعاله، وأحكامه، وأسمائِهِ، وهي البَاعِثَةُ على مُنَازعِةِ الناسِ، ومُمَاراتِهِم، والمخاصَمَةِ مَعَهُم في كل شَيْءٍ، فلمّا كان سَبَبُ الشَّرِّ مَحْصُوراً في هذه الأمور الثلاثة؛ لا جرم لا يَذْكُرْ معَها غيرَها.

فصل


من الناس مَنْ عاب الاستدلالَ، والبَحْثَ، والنَّظر، والجِدال؛ واحْتَجَّ بقوله تعالى: ﴿وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾، وهذا يَقْتَضِي نَفْيَ جميع أنواعِ الجدال، ولو كان الجِدَالُ في الدين طَاعَةٌ، لما نُهِيَ عَنْهُ في الحج، بل على ذلك التقدير، يكونُ الاشتغالُ بالجِدَالِ ضَمَّ طاعَةٍ إلى طَاعَةٍ، فيكون أَوْلَى بالترغيب فيه. وأيضاً قال تبارك وتعالى: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: ٥٨]، عابهم بكونِهم مِنْ أَهْل الجَدَلِ، فدلّ على الجدل مَذْمُومٌ، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٦] فنهى عن المنازعة.
وأمّا جمهور المتكلِّمين فقالوا: الجدَالُ في الدين طاعةٌ عظيمةٌ؛ لقوله تعالى: ﴿ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥]، وحكى قول الكفَّار لنوح - عليه السلام - ﴿قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ [هود: ٣٢]، ومعلومٌ أَنَّ ذلك الجِدال، إنما كان لتقريرِ أُصُولِ الدين، فيُحملُ الجدالُ المذمومُ على الجدل في تقرير الباطل، وطلب المالِ، والجَاهِ، والجدالُ الممدوحُ على الجَدَلِ في تقرير الحقِّ، ودعوةِ الخَلْقِ إلى سبيل اللِّهِ، والذَّبِّ عن دين الله.
قولُه: ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾ تقدَّمَ الكلامُ على نَظِيرتِهَا، وهي: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ [البقرة: ١٠٦] فَكُلُّ ما قيلَ ثَمَّ، يُقالُ هُنَا. قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ «وَنَزِيدُ هنا وَجْهاً آخرَ: وهو أَنْ يَكُونَ» مِنْ خَيْر «في مَحلِّ نصبٍ نَعْتاً لمَصْدرٍ مَحْذُوفٍ، تقديرُه: وَمَا تَفْعَلُوا فِعْلاً كَائِناً مِنْ خَيْرٍ».
و «يَعْلَمْه» جَزْمٌ على جوابِ الشَّرط، ولاَ بُدَّ مِنْ مَجَازٍ فِي الكَلامَ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبَّر بالعِلْم عن المُجازاة على فعل الخَيْر، كأنّهُ قِيل: يُجازِيكم، وإِمَّا أَنْ تُقَدَّر المُجازاة بعد العِلم، أي: فيثيبُه عَلَيْه.
وفي قوله: «وَمَا تَفْعَلُوا» التفَاتٌ؛ إذْ هو خُرُوج مِنْ غَيْبَةٍ في قوله: فَمَنْ فَرَضَ «وحُمِلَ على َمَعْنَى» مَنْ «إذ جَمَعَ الضميرَ ولم يُفْرده. وقد خَبَطَ بعضُ المُعْربين، فقال:» مِنْ خَيْر «مُتعَلِّق بتَفْعلوا، وهو في مَوضع
405
نصب؛ لمصدّر محذوفٍ، تقديرُه:» وَمَا تَفْعَلُوا فِعْلاً مِنْ خَيْر «والهاءُ في» يَعْلَمْه «تَعُودُ إلى خير. قال شهابُ الدِّين: وهذا غَلَطٌ فاحِشٌ؛ لأَنَّه مِنْ حَيْثُ عَلَّقه بالفعلِ قبله كيف يَجْعَلُه نَعْتَ مصدرٍ مَحذوفٍ؟ ولأنَّ جَعْلَه الهاءَ تعودُ إلى» خَيْر «يلزمُ منه خلوُّ جملة الجواب مِنْ ضمير يَعُودُ اسم الشَّرْطِ، وذلك لا يجوزُ، أَمَّا لَوْ كانَتْ أَداةُ الشَّرْطِ حَرْفاً، فلا يُشْترطُ فيه ذلك، فالصَوابُ ما تقدَّم. وإنما ذكرت لك هذا لِئَّلا تراه فَتَتَوهَّمَ صِحَّتَه. والهاءُ عائِدةٌ على» ما «الَّتي هي اسمُ الشَّرْطِ.

فصل


اعلم أنَّ اللَّهَ تعالى يعلمُ كُلَّ شَيْءٍ وإذا خَصَّ هُنا الخير بأنه يعلمُه لفوائِد.
أحدها: إذا علمتُ منك الخير، ذكرتُه وشَهَرْتُه، وإذا علمتُ مِنْك الشرَّ، سترتُه وأخفَيْتُه؛ لِتَعلم أنّه إذا كانت رَحْمَتي بك في الدنيا هكذا فكيف في العُقْبَى؟
وثانيها: قال بعضُ المفسرين في قوله: ﴿إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ [طه: ١٥] معناه: لَو أمكَنَنِي أن أُخْفيها عن نفسي، لَفَعلتُ، فكذا - هاهنا - كأنَّه قيل لِلْعَبْدِ: ما تَفْعَلْه مِن الشَّرِّ، فَلَوْ أَمْكنِني أَنْ أُخْفيهُ عن نَفْسي لَفَعلتُ ذلك.
وثالثها: أنّ السُّلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع: كُلّ ما تتحمله من المشقَّة والخِدْمة في حَقِّي، فأنا عالِمٌ به، ومُطَّلِعٌ عليه، كان هذا وَعْداً له بالثَّواب العظيم، ولَو قال ذلك لعبده المذنِبِ، كان تَوَعُّداً له بالعِقابِ الشَّديد، ولَمَّا كان سبحانه أكرمَ الأَكرَمِينَ؛ لا جرمَ ذَكرَ ما يَدُلُّ على الثَّوابِ، ولم يذكرْ ما يدلُّ على العِقَابِ.
ورابعها: أَنَّ جبريل - عليه السلام - لمَّا قال:»
ما الإحسان «؟ فقال:» الإحْسَانُ: أَنْ تَعْبُد اللَّهُ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ «، فهاهنا بيَّن للعبدِ أنَّه يَرَاهُ، ويعلمُ ما يفعلهُ من الخيراتِ لتكون طاعةُ العَبْدِ للربِّ من الإحسانِ، الذي هُو أَعْلَى دَرَجاتِ العِبَادِةِ، فإن الخادِمَ مَتَى علم أَنَّ مخدومه مُطَّلِعٌ عليه، ليس بغافلٍ عن أَحوالِهِ - كان أَحْرصَ على العَمَلِ.

فصل


قال القُرطبيُّ: هذا شرط وجوابه، والمعنى أنَّ اللَّهَ يُجَازيكُم على أعمالكُم؛ لأنَّ المجازاة إنما تقعُ من العَالِمِ بالشَّيءِ.
وقيل: هو تحريضٌ وحَثٌّ على حُسنِ الكَلاَمِ مَكَانَ الفُحشِ، وعلى البِرِّ والتَّقْوَى في الأخلاقِ مكان الفُسُوقِ والجِدَالِ.
406
وقيل: جعل الخير عبارةً عن ضبط أَنفُسِهم؛ حتى لا يوجد ما نهُوا عنه.
قوله: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى﴾ فيه قولان:
أحدهما: أن المراد تزوّدوا من التَّقْوَى؛ لقولهِ ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى﴾ فتحقيقٌ [الكلام فيه: أَنَّ] الإنسان له سَفَرانِ، سفرٌ فى الدنيا، وسَفَرٌ مِنَ الدُّنيا.
فالسَّفَرُ في الدنيا، لا بُدَّ له مِنْ زَادٍ، وهو الطَّعامُ، والشَّرَابُ، والمركبُ، والمالُ والإعراضُ عمّا سِوَاهُ، وهذا الزادُ خيرٌ مِنَ الزَّادِ الأوَّلِ لوجوه:
أحدها: أنّ زادَ الدُّنيا [يخلصُكَ مِنْ عَذَابِ مُنْقَطِعٍ، وزادَ الآخرة يُخَلِّصُك مِنْ عذاب دائمٍ، وزادُ الدُّنيا] يوصلك إلى لذَّةٍ مَمزُوجةٍ بالآلامِ، والبلايَا، وزادَ الآخرةِ يُوصِلكّ إلى لذَّاتِ باقيةٍ خالصةٍ عن شوائب المضَرَّةِ، وزادُ الدنيَا يُوصِلُك إلى دُنيا مُنقضيةٍ، وزادُ الآخرة يُوصِلُكَ إلى الآخرة، وهي كل ساعةٍ من الإِقبالِ، والقُرْبِ، والوُصُول غير منقضية وزادُ الدنيا يُوصِلُكُ إلى منصة الشَّهوة والنَّفْس وزادُ الآخرة يُوصِلُكَ إلى حضرة الجلالِ والقُدُس؛ فلهذا قال: ﴿خَيْرَ الزاد التقوى﴾ فَاشْتغلوا بتقواي يا أولي الألباب، يعني: إِن كُنتُم من أُولي الألباب الَّذين يعلمون حقائق الأمور فاشتغلوا بتحصيل هذا الزادِ؛ لما فيه من كثرةِ المَنافع؛ وفي هذا المعنى قال الأعشى: [الطويل]
٩٩٥ - إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزادٍ مِنَ التُّقَى وَلاَقَيْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدْمِتَ عَلَى أَلاَّ تَكُونَ كَمِثْلِهِ وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصْدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا
والقولُ الثَّانِي: أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في أُناسٍ مِنْ أهل اليمن، كانوا يحجُّونَ بغير زادٍ، ويقُولُونَ إِنّا مُتَوكِّلُونَ وكانوا يَسْأَلُونَ وربما ظَلَمُوا الناس وغصبُوهُم، فأمرهم اللَّهُ تعالى أَنْ يَتَزوَّدُوا ما يَبْلُغُون به، فإنّ خير الزادِ ما تكفون به وجوهكم عن السُّؤال، وأنْفُسَكُم عن الظلم.
وعن ابن زيدٍ، أنّ بعض قبائِلِ العربِ كانوا يحرّمُون الزادَ على الحج، والعمرة؛ فنزلت الآية.
407
قال ابنُ الجَوزيّ: قد لَبَسَ إِبْلِيسُ على قومٍ يَدعُون التوكُّل؛ فخرجوا بِلاَ زادٍ، وظنُّوا أن هذا هو التوكُّلُ وهُم على غاية الخطأَ، قال رَجلٌ لأحمد بن حَنْبلٍ: أُرِيد أَنْ أَخْرُجَ إلى مكَّةَ المشرفة على التوكُّلِ بِغَير زادٍ، فقال له أَحْمَدُ: اخرج في غير القَافِلَةِ. فقال: لا إِلاَّ معهُم، فقال: على جُرُب النَّاسِ تَوكلت.
وروى محمد بنُ جرير الطبري عن ابن عمر قال: كانوا إذا أَحْرَموا، ومعهم أزودةٌ رَمَوْا به؛ فنهوا عن ذلك بهذه الآية الكريمة.
قال القاضي: فإن أرادنا تصحيح هذا القول ففيه وجهان:
الأوَّل: أنّ القادر على أنْ يستصحِبَ المالَ في السفر إذا لم يستصحبه، عَصَى اللَّهُ تعالى في ذلك، فبهذا الطَّرِيق يصحُ دُخُولُه تحتَ الآية الكريمة.
والثاني: أَنْ يكونَ في الكلام حَذْفٌ، والمرادُ تَزَوَّدوا لعاجل سفركم، ولآجِلِ، فإِنَّ خير الزادِ التقوَى. وقيل: المعنى فإنّ خَيْرَ الزادِ ما اتقى به المسافر من الهَلَكة، والحاجة إلى السؤال، والتكفُّفِ، وأَلِفُ «الزَّادِ» مُنقلبَةٌ عَنْ «واوٍ» لقولهم تَزَوَّدَ.
قولهُ: «واتَقُونِي» أَثبتَ أبو عمر «الياءَ» في قوله: «وَاتَّقُونِي» على الأصل، وحذف الآخرون؛ للتخفيف، ودلالة الكسرةِ عليه، وفيه تَنْبيهٌ على كمالِ عظمةِ اللَّهِ وجلالِهِ؛ وهو كقول الشَّاعر: [الرجز]
408
قال النَّحاسُ: سمعت أبا إسحاق يقول: قال لي أحمدُ بن يحيى ثعلبٌ: أتعرف في كَلام العرب شيْئاً من المُضاعَفِ جاء على فَعُلَ؟ قلت: نعم، حكى سيبويه عن يونس: لَيُبْتَ تَلُبّ؛ فاسْتَحْسَنُه، وقال: ما أَعْرفُ له نظيراً.
واختلفوا فيه فقال بعضهم: إنّه للعقلِ؛ لأنه أشرفُ ما في الإنسان، وبه تميز عن البهائِمِ، وقَرُبَ مِنْ درجةِ الملائكة.
وقال آخرون: إنّه في الأَصْلِ اسمٌ للقَلْبِ الذي هو محل للعقلِ، والقَلْبُ قد يُجعل كنايةً عن العَقلِ، فقوله: ﴿ياأولي الألباب﴾ أي: يا أُولِي العُقُولِ، وإطلاق اسم المحلِّ على الحال مجازٌ مشهُورٌ.
فإن قيل: إذا كان لا يصِحُّ إِلاَّ خِطَابٌ العقل؛ فما فائدة قوله: ﴿ياأولي الألباب﴾ ؟!
فالجواب: معناهُ أنّكم لمّا كنتُم مِنْ أُولِي الألباب، تمكنتُم مِنْ معرفة هذه الأشياء، والعَمَلِ بها، فَكَانَ وجوبها عليكم أَثبت، وإعراضُكم عنها أقبحَ؛ ولهذا قال الشاعر: [الوافر]
٩٩٦ - أَنَا أَبُوا النَّجْمِ وَشْعْرِي شِعْرِي قولُه ﴿واتقون ياأولي الألباب﴾ اعلم أَنَّ لُبَّ الشيءٍ ولُبَابَهُ هو الخَالِصُ منه.
٩٩٧ - وَلَمْ أَرَ في عُيُوب النَّاسِ شَيْئاً كَنَقْص الْقَادِرِيْن عَلَى التَّمَامِ
وقال تبَاركَ وتعالى: ﴿أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف: ١٧٩] يعني: أَنَّ الأنعامَ مَعْذُورةٌ بسبب العَجزِ، وأَمَّا هؤلاء فقادِرُون فكان إعراضهم أفحش، فلا جرم كانُوا أَضَلَّ.
409
قوله ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ﴾ «أَنْ» في محلِّ نَصْبٍ في مَوْضعين عند سيبويه والفراء، وجَرٍّ عند شَيْخَيْهما والأَخْفِشِ؛ لأنَّها على إضمارِ حَرْفِ الجَرِّ، أي: في أَنْ، وهذا الجارُّ متعلِّقٌ: إمَّا بجُناح؛ لما فيه مِنْ مَعْنَى الفِعْلِ وهو الميلُ والإِثمُ، وما كانَ في معناهُمَا، وإمَّا بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل «جُناح» فيكونُ مرفوعَ المحلِّ، أي: جناحٌ كائنٌ في كذا.
ونقل أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى عن بعضهم، أنه متعلقٌ ب «ليس»، واسْتضْغَفُه. قال شهاب الدِّين: بل يُحْكَمُ بتخطئته ألبتة.
قوله: «مِنْ رَبِّكُمْ» يجوزُ أَنْ يتعلَّق بتبتغوا فيكون مفعولاً له، وأَنْ يكون صِفَةٌ
409
ل «فضلاً»، فيكون منصوب المَحَلِّن مُتَعَلِّقاً، بمحذوفٍ. و «منْ» في الوجهين لابْتِدَاء الغاية، لكن فى الوجهِ الثاني تحتاجُ إلى حَذْفِ مُضافٍ أي: كَائناً مِنْ فُضولِ ربكم.

فصل


قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ﴾ يدلُّ على أنّ شُبْهَةً قَامَتْ عندهم في تحريم التجارة من وجوهٍ:
أحدها: أنَّه تبارك وتعالى منع الجِدَال في الحجِّ، والتِّجَارةُ كثيرةُ الإفضاءِ إلى المُنازعَةِ في قلَّة القِيمَةِ وكثرتِهَا؛ فوجَبَ أَنْ تكونَ التجارة مُحَرَّمةً.
ثانيها: أنّ التجارة كانت مُحرمةً في وقت الحج في الجاهليةِ، وذلك شيءٌ، حسَنٌ؛ لأن المشتغل بالحج مشتغلٌ بخدمةِ الله تعالى، فوجب ألاَّ يَشُوبَ هذا العملَ بالأطماعِ الدُّنيويَّةِ.
وثالثها: أنّ المسلمين عَلِمُوا أنّ كثيراً من المباحاتِ صارت مُحرمةً عليهم في الحج: كاللّبسِ، والاصْطِيَادِ، والطِّيبِ، والمباشرة، فغلب على ظنِّهم أنَّ الحجَّ لمَّا صار سبباً لحرمةِ اللبسِ مع الحاجَةِ إليه، فأَوْلَى منه تحريمُ التجارةِ؛ لقلة الاحتياج إليها.
ورابعها: عند الاشتغال بالصلاةِ يَحْرُمُ الاشتغالُ بالتجارةِ؛ قال تعالى: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع﴾ [الجمعة: ٩] فلهذا السبب، بيّن اللَّهُ تعالى - هاهنا - أنَّ التجارةَ جائزةٌ غير مُحَرَّمةٍ.
فإذا عُرِفَ هذا، فذكر المفَسِّرُونَ في قوله: ﴿أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وجهين:
الأوَّل: أَنَّ المراد هو التجارة؛ نظيره قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله﴾ [المزمل: ٢] وقوله: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ﴾ [القصص: ٧٣] ويدُلُّ عليه ما رَوَى عَطاءٌ عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ وابن الزُّبير أنّهم قرأوا: «أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَواسِمِ الحَجِّ».
وقال ابن عباسٍ: كان ناسٌ من العرب يَحْتَرِزُونَ مِنَ التجارةِ في أيَّامِ الحَجِّ، وإذا دَخَلَ العَشْرُ، بالغوا في تَرْك البيع والشِّراء بالكية، وكانوا يُسَمّون التاجر في الحج الدَّاجَّ، ويقُولون: هؤلاء الدَّاجُّ، وليسوا بالحاجِّ. ومعنى الدَّاجّ: المُكتسب الملْتَقِط، وهو مشتقٌّ من الدَّجاجة وبلغُوا في الاحتراز عن الأعمال إلى أن امتَنَعُوا من إِغاثةِ الملهُوفِ والضعيفِ وإِطعام الجائع؛ فأزال اللَّهُ هذا الوَهْمُ وبيّن أنّه لا جُناح في التجارة، ولما كان ما قَبْل هذه الآية في أحكامِ الحج، وما بعدها في الحج، وهو قوله تعالى: ﴿فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ﴾
410
دَلّ ذلك على أَنَّ هذا الحكمَ واقِعٌ في زمان الحجِّ؛ فلهذا السبب استغني عن ذكره.
وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنّ رجلاً قال له: إنَّا قَوْمٌ نكري، وإنَّ قَوماً يَزْعُمونَ أنّه لا حَجَّ لنا، فقال: أَلَسْتُم تُحْرِمُونَ كما يُحْرِمون، وتَطُوفُونَ كما يَطُوفُونَ، وتَرْمُونَ كما يَرْمُونَ؟ قلتُ: بَلَى، قال: أنْتُم حُجَّاجٌ؛ وجاء رجلٌ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسأله عمَّا سَأَلتني، فلم يَرُدُّ عليه؛ حَتَّى نزل قوله تعالى ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ فَدَعَاهُ، وقال: أَنْتُم حُجَّاجٌ.
وبالجملة فهذه الآية الكريمة نزلت رَدّاً على مَنْ يقول: لا حجَّ لِلتَّاجِرِ، والأَجِيرِ، والجَمَّالِ.
ورَوَى عمرو بن دِينارٍ، عن ابن عباسٍ: أنَّ عُكَاظَ ومِجَنَّةَ، وذا المجاز كانت أسواقاً في الجاهليِّة، يتَّجرون فيها في أيَّام الموسِم، وكانت مَعَايشُهم مِنْهَا، فلمّا جاء الإسلامُ، كرهوا أنْ يَتّجروا في الحج بغير إذنٍ، فسألَوا رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنزلت الآيةُ.
وقال مجاهدٌ: إنهم كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بِعَرفة، ولا مِنَى، فنزلت هذه الآيةُ، فلهذا حمل أكثرُ المفسرين الآية على التجارةِ في أيام الحجِّ، وحَمَلَ أبُو مُسْلم الآية على ما بعد الحج، قال: والتقديرُ: واتقوني في كل أفعالِ الحج، وبعد ذلك ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ونظيره قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله﴾ [الجمعة: ١٠].
قال ابن الخطيب: وهذا القولُ ضعيفٌ من وجوه، لأَنَّ قوله: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُم مِن عَرَفَاتٍ﴾ يدلُّ على أنّ هذه الإفاضة حَصَلَتْ بعد ابتغاء الفَضْلِ؛ لأن الفاءَ للتَّعْقيب، وذلك يَدُلُّ على وُقُوع التجارة فيى زَمَانِ الحج.
وأيضاً فَحَملُ الآية على موضع الشُبْهَة، أَوْلَى مِنْ حَمْلِها على مَوْضع لا شُبْهَةَ فيه، ومَحلُّ الشبهةِ، هو التجارةُ في زمان الحجِّ، وأَمَّا بعدَ فراغ الحجِّ، فكُلُّ أَحَدٍ يعلمُ حلَّ التجارة.
فإن قيل: وكذلك أيضاً كل أَحَدٍ يعلمُ أَنَّ الصلاةَ إذا قُضِيت، يُبَاحُ البيعُ والشِّرَاء؛
411
فلماذا قال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله﴾.
قلنا لأنه أمَر قبله بالسَّعي، ونهى عن البيع، فقال: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع﴾ فَنَهى عن البيع بعد النِّدَاءِ، فلمَّا قال بعده: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله﴾، كأنّه قال: إِنَّ المانعَ الذي مَنَعَكُمْ من البَيْعِ قد زال؛ فانْتَشِرُوا في الأرض، وابتغُوا من فضل الله.
وأمَّا قِياسُ الحجِّ على الصلاةِ، فالفرقُ بينهما: أنّ الصلاة أعمالُها مُتَّصِلَةٌ، فلا يَحِلُّ في أثنائِهَا التشاغلُ بغيرها، وأَمّا أعمال الحج، فهي مُتَفرِّقَةٌ بعضها عن بعضٍ، ففي خلالها لا يبقى المرءُ على الحكم الأول، فتصيرُ الصلاةُ عملاً واحداً من أعمالِ الحج، لا مَجْمُوعَ الأَعْمَالِ، وأيضاً فقوله: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة﴾ تَصريحٌ بأَنّ الابتغاء بعد انقضاء الحج.
فإن قيل: حُكمْ باقٍ في كل تلك الأَوقاتِ؛ بدليل حُرْمَةِ التطيب واللَّبسِ.
فالجوابُ: هذا قياسٌ في مقابلة النص.
القولُ الثاني: قال أبو جعفرٍ محمد بن علي الباقر: المرادُ بقوله تعالى: ﴿أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ﴾ هو أَنْ يبتغي الإنسانُ حال كونه حاجّاً أعمالاً أخَرَ، تكونُ مُوجِبةً لاستحقاقِ فضْلِ الله ورحمته مِثْلَ إِعانَةِ الضَّعيف، وإغَاثَةِ الملهوف، وإطعام الجَائِعِ، واعترضَ عليه القاضي: بأَنّ هذا واجبٌ، أو مَنْدُوبٌ، ولا يُقالُ في مِثله: لا جَنَاحَ عَليكُم فيه، إِنَّما يُذكر هذا اللفظ في المُبَاحَاتِ.
والجوابُ: لا نُسَلِّمُ أَنَّ هذا اللفظَ لا يُذكرُ إلاّ في المُبَاحَاتِ لقوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة﴾ [النساء: ١٠١] والقصْرُ مندوبٌ وكما قال تعالى: ﴿إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: ١٥٨] والطوافُ ركنٌ في الحج، وإنّما أهلُ الجاهلية كانوا يعتقدون أنّ ضَمَّ سَائِرِ الطاعَاتِ إلى الحجِّ، يُوقِعُ خَلَلاً في الحج، ونَقْصاً؛ فبيَّن اللَّهُ تعالى بقوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جَنَاحٌ﴾ أنّ الأمر ليس كذلك.

فصل


اتفقُوا على أنّ التجارة إنْ أوْقعت نَقْصاً في الطاعة، لم تَكُنْ مباحةً، وإِنْ لم تُوقِعْ نقصاً في الطاعةِ، كانت مُبَاحةً، وتركها أَوْلَى؛ بقوله تعالى: ﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ [البينة: ٥]، والإخلاصُ هو ألاَّ يكونَ له حَامِلٌ على الفِعْل سِوى كونهِ عبادةً، والحاصِلُ أنّ الإِذْنَ في هذه التجارة جَار مَجْرَى الرُّخَصِ.
412
قوله: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ﴾ العامُ فيها جَوَابُها، وهو «فَاذْكُرُوا» قال أبُوا البقاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ «ولا تمنَعُ الفاءُ مِنْ عَمَل ما بعدَها، فيما قَبْلَها؛ لأنه شَرْطٌ».
ومَنَعَ أبُو حَيَّان مِنْ ذلك بما معناه: أنَّ مكانَ إنشاءِ الإِفَاضَةِ غيرُ مكانِ الذكْرِ؛ لأنَّ ذلك عَرَفَاتٌ، وهذا المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاقِعاً عند إِنْشاء الإِفَاضَة.
قوله: «مِنْ عَرَفَاتٍ» مُتَعلِّقٌ ب «أَفَضْتُم» والإِفَاضَةُ في الأَصْلِ: الصبُّ، يُقالُ، فَاضَ الإِناءُ، إذا امْتَلأَ حَتَّى ينصبَّ عن نواحيه. ورجلٌ فيَّاضٌ، أي: مندفقٌ بالعطاءِ؛ قال زُهيرٌ: [الطويل]
٩٩٨ - وَأَبْيَضَ فَيَّاضٍ يَدَاهُ غَمَامَةٌ عَلَى مُعْتَفِيهِ مَا تُغِبُّ فَوَاضِلُهُ
وحديثٌ مستقيضٌ، أي شائِعٌ.
ويقالُ: فاضَ الماءُ وأَفَضْتُه، ثم يُستعملُ في الإِحْرامِ مَجَازاً. والهَمْزَةُ في «أَفَضْتُم» فيها وجهان:
أحدُهما: أنها للتعدية، فيكون مفعولُه مَحْذُوفاً، تقديره: أَفَضْتُم أنفسكم، وهذا مَذْهب الزجاج، وتبعَهُ الزَّمَخْشَريُّ، وقَدَّره الزجاجُ فقال: معناه: دَفَعَ بعضُكم بَعْضاً والإِفَاضَةُ: الاندفاعُ في السَّيْرِ بكثيرةٍ، ومنه يُقالُ: أَفَاضَ البَعِيرُ بجرِته، إذا وقع بها فألقاها منبثة، وكذلك أَفَاضَ القِداحَ في المَيْسِر، ومعناه: جمعها، ثم أَلقاها مُتَفَرِّقَةً، وإِفَاضَة الماءِ من هذا؛ لأنه إذا صُبَّ، تَفَرَّق، والإِفَاضَةُ في الحديث، إِنَّما هو الاندفاعُ فيه بإكثارٍ، وتصرُّفٍ في وُجُوهِهِ؛ قال تعالى:
﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [يونس: ٦١]، قال بعضُهم: ولَيْسَ كذلك؛ لما يأتي، ومنه يُقال للناس: فَوْض، ومثلهم فَوْضَى، ويُقال: أَفَاضَت العينُ دَمْعَها، فأصلُ هذه الكلمة: الدفعُ للشيءِ حتى يتفرقَ، فقوله تعالى: «أَفَضْتُم»، أي: دَفَعْتُم بكثرة، وأصلُه: أَفَضْتُم أَنْفُسَكُم، فتُرِك ذِكْرُ المفعول كما تُركَ في قولهم: دَفَعُوا مِنْ مَوضِعِ كَذَا، وَصَبُّوا.
والوجه الثاني: أَنّ أَفْعَل هنا، بمعنى «فَعَلَ» المجردِ فلا مفعول له. قال أبو حيَّان: لأنه لا يحفّظُ: أَفَضْتُ زيداً بهذا المعنى الذي شرحناه آنفاً وأَصلُ أَفَضْتُم: أفْيَضْتُم فأُعلَِّ؛ كنظائره، بأَنْ نُقِلَتْ حَركَةُ حَرفِ العِلَّةِ على السَّاكِن قبلهُ فتحرَّك حرفُ العِلَّة في الأصل، وانْفَتَحَ ما قبله؛ فَقُلِب ألفاً، وهو مِنْ ذواتِ الياءِ من الفَيْض، كما تقدَّمَ، وليس مِنْ ذواتِ الواوِ من قولهم: فَوْضَى الناسِ، وهم أخلاطُ الناسِ بلا سائِسٍِ.
413
وعَرَفات اسمُ مكانٍ مَخْصُوصٍ، وهل هو مشقٌّ أو مُرْتَجَلٌ؟ قولان:
أحدهما: أنه مرتجلٌ، وإليه ذهب الزمخشريُّ، قال: «لأنَّ العَرَفَةَ لا تُعْرَفُ في أسماءِ الأجناس؛ إلا أنْ تكونَ جمعَ عارفٍ».
والثَّاني: أنه مُشتقٌّ، واختُلِف في اشتقاقه، فقيل: مِنَ المَعْرِفة؛ لأنَّ إبراهيم - عليه السلام - لَمَّا عرَّفه جبريلُ هذه البقعة بالنَّعْتِ، والصِّفَةِ؛ فَسُمِّيَتْ «عَرَفَاتٍ» قاله عليٌ، وابنُ عبَّاسٍ وعطاءٌ والسُّدّيُّ.
قال السُّدِّيُّ: لمّا أَذَّنَ إبراهيم في الناس بالحجِّ، فأجابوه: بالتَّلبية، وأتاهُ مَنْ أَتَاهُ - أمَرَهُ اللَّهُ أنْ يَخْرُجَ إلى عَرَفاتٍ، ونعتها له، فخرج، فلمَّا بَلَغَ الشجرة عند العقبةِ، استقبلَهُ الشيطانُ؛ يَرُدُّهُ؛ فرماه بسبع حَصَيَاتٍ، يُكَبّرُ مع كُلِّ حَصَاة، فَطَار، فَوقَعَ على الجمرة الثَّانية؛ فرمَاهُ وكبِّر [فطار، فَوقع على الجَمْرة الثالثة؛ فرماه وكبّر]، فلمّا رأى الشَّيطانُ أنَّه لا يُطيعُهُ؛ ذهب، فانطلق إبراهيم حتَّى أتى ذا المجازِ، فلمّا نظر إليه، لم يَعْرِفه، فجاز فسُمِّي ذا المجاز، ثمَّ انطلق حتَّى وقَفَ بعرفاتٍ فعرفها بالنَّعْت؛ فسُمِّي الموقف «عَرَفَة» والموضعُ «عَرَفَاتٍ»، حتى إذا أَمْسَى ازْدَلَف أي قَرُبَ إلى جَمع فسُمِّي المُزْدَلَفَة.
وقال عطاء: إنّ جبريل - عليه السلام - علّم إبراهيم - عليه السّلام - المَنَاسِك، وأوْصَلَه إلى عَرَفاتٍ، وقال له: أعَرَفْتَ كيف تَطُوفُ، وفي أي مَوْضعٍ تَقِف؟ قال: نعم.
وقيل: إن إبراهيم - عليه السلام - وضَعَ ابنهُ إسماعيل وأمَّه هاجر بمكَّة، ورجع إلى الشَّام ولم يَلْتَقِيا سِنين، ثم الْتَقَيَا يوم عَرَفَة بِعَرَفَات.
وقال الضَّحَّاكِ: إنّ آدم وحَوَّاء - عليهما السلام - التَقَيَا بعرَفة، فعرَفَ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما صاحِبُه؛ فسُمِّي اليوم عَرَفَة والمَوْضِع بعَرَفَاتٍ؛ وذلك أنَّهما لمّا أُهْبِطا من الجَنَّة، وقع آدم بسَرَنْدِيب، وحوّاء بجَدَّة، وإبليس ببيسان والحية ب «أصْفهان» فلمّا أَمَر الله - تعالى - آدم - عليه السّلام - بالحجِّ، لقي حواء بعَرَفَاتٍ فتعارفا، قاله ابن عبَّاس.
414
وقيل: إنّ آدم - عليه السّلام - علّمهُ جبريل مَنَاسِك الحَجِّ، فلمّا وقَفَ بعَرَفَاتٍ قال له: أَعَرفتَ؟ قال: نعم، فسُمِّي عَرَفَاتٍ.
وقيل: إن الحجاج يتعارَفُون بعَرَفَاتٍ إذا وَقَفُوا.
وقيل: إنّه - تبارك وتعالى - يتعرّف فيه إلى الحُجَّاجِ بالمَغْفِرة والرَّحْمة.
وروى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ؛ أنّ إبراهيم - عليه السّلام - رأى ليلة التَّروية في منامه، أنَّه يؤمر بذبح ولده، فلما أصبح روَّى يومه أجمع، أي: فكّر أمنَ الله هذه الرُّؤيا أم من الشَّيطان؟ فسمِّي اليوم يوم التَّروية. ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانياً، فلمّا أصبح عرف أنّ ذلك من الله، فسمي اليوم عرفة.
[وقيل: مشتقَّة من العرف، وهو الرائحة الطيبة].
قال تعالى: ﴿وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ [محمد: ٦] أي طيَّبها لهم، فيكون المعنى: أن المذنبين لمّا تابوا في عرفات، فقد تخلَّصوا من نجاسات الذُّنوب، واكتسبوا عند الله رائحةً طيِّبة.
وقيل: أصله من الصَّبر: يقال: رجل عارفٌ؛ إذا كان صابراً خاشعاً؛ قال ذو الرُّمَّة في ذلك: [الطويل]
٩٩٩ -................................ عَرُوفٌ لَمَا خَطَّتْ عَلَيْهِ عَلَيْهِ المَقَادِرُ
أي: صبورٌ على قضاء الله - تعالى - فسمِّي بهذا الاسم؛ لخضوع الحاجِّ وتذللِّهم وصبرهم على الدُّعاء، واحتمال الشَّدائد لإقامة هذه العبادة.
وقيل: مشتقَّة من الاعتراف؛ لأن الحاجَّ إذا وقف اعترف للحقِّ بالربوبيَّة والجلال والاستغناء، ولنفسه بالفقر والذِّلَّة والمسْكَنَة والحاجة.
وقيل: إنّ آدم وحوّاء - عليهما السّلام - لمّا وقفا بعرفاتٍ، قالا: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ [الأعراف: ٢٣] قال الله - سبحانه وتعالى -: «الآن عَرَفْتُمَا أَنْفُسَكُما»
وقيل: من العرف، وهو الارتفاع، ومنه عرف الدّيك، وعرفات جمع عرفة في الأصل.
415
ثم سمّي به بقعة واحدة كقولهم: ثوبٌ أخلاقٌ، وبرمةٌ أعشار، وأرضٌ سباسب، والتَّقدير، كان كلُّ قطعة من تلك الأرض عرفة، فسمِّي مجموع تلك القطع بعرفاتٍ.
والمشهورُ: أنَّ عرفات وعرفة واحدٌ، وقيل: عرفة اسم اليوم، وعرفات اسم مكان، وعرفة هي نعمان الأراك؛ قال الشَّاعر: [الطويل]
١٠٠٠ - تَزَوَّدْتُ مِنْ نَعْمَانَ عُودِ أَرَاكَةٍ لِهِنْدٍ وَلَكِنْ مَنْ يُبْلِّغُهُ هِنْدَا
والتنوين في عرفاتٍ وبابه فيه ثلاثة أقوال:
أظهرها: أنه تنوين مقابلةٍ، يعنون بهذا أنَّ تنوين هذا الجمع مقابلٌ لنون جمع الذكور، فتنوين مسلماتٍ مقابلٌ لنون مسلمين، ثم جعل كلُّ تنوين في جمع الإناث - وإن لم يكن لهنّ جمعٌ مذكرٌ - طرداً للباب.
والثاني: أنه تنوين صرف، وهو ظاهر قول الزمخشريِّ؛ فإنه قال: «فإن قلتَ: فَهَلاَّ مُنِعَتِ الصَّرْفَ، وفيها السببان: التعريف والتأنيث؛ قلت: لا يخلو التأنيث: إما أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدَّرة؛ كما هي في» سُعاد «، فالتي في لفظها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنَّث، ولا يصحُّ تقدير التاء فيها؛ لأنَّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعةٌ من تقديرها، كما لا تقدَّر تاء التأنيث في» بِنْتٍ «؛ لأنَّ التاء التي هي بدلٌ من الواو؛ سبباً فيها، فصار التنوين عنده للصَّرف.
وأجاب غيره من عدم امتناع صرفها: فأنَّ هذه اللَّفظة في الأصل اسمٌ لقطع كثيرة من الأرض، كلُّ واحدة منها تسمى بعرفة، وعلى هذا التَّقدير لم يكن علماً، ثم جعلت علماً لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف.
والثالثك أنَّ جمع المؤنث، إن كان مذكرٌ؛ كمسلمات ومسلمين، فلتنوين للمقابلة، وإلاَّ فللصَّرف؛ كعرفاتٍ.
والمشهور - حال التسمية به - إن يُنوَّن ويعرب بالحركتين: الضمة والكسرة؛ كما لو كان جمعاً، وفيه لغةٌ ثانيةٌ: وهو حذف التنوين تخفيفاً، وإعرابه بالكسرة نصباً، والثالثة: أعرابه غير منصرف بالفتحة جرّاً، وحكاها الكوفيُّون والأخفش، وأنشد قول امرئ القيس: [الطويل]
416
١٠٠١ - تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرَعَاتَ وَأَهْلَهَا بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِي
بالفتح.

فصل


اعلم أنَّ اليوم الثَّامن من ذي الحجَّة يسمَّى يوم التَّروية، والتَّاسع: يوم عرفة، وقد تقدَّم تعليل يوم عرفة، وأمَّا التَّريوة ففيه قولان:
أحدهما: ما تقدَّم من تروِّي إبراهيم - عليه السَّلام - في منامه، من روَّى يروِّي تروية؛ إذا تفكَّر وأعمل فكره ورؤيَّته.
وقيل: إن آدم - عليه السلام - أمر ببناء البيت، فلمَّا بناه تفكَّر فقال: رب، إنَّ لكلِّ عاملٍ أجراً، فما أجري على هذا العلم؟ قال: إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك. قال: رب زدني، قال: لأغفرنّ لأولادك إذا طافوا به، قال: رب زدني، قال: أغفر لكلِّ من استغفر له الطَّائفون من موحدي أولادك. قال: حسبي يا ربِّ حسبي.
وقيل: إنَّ أهل مَّة يخرجون يوم التَّروية إلى منى فيروُّون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في الغد بعرفات.
الثاني: من رواه بالماء يرويه؛ إذا سقاه من عطشٍ، فقيل: إن أهل مكَّة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق، وكان الحاجُّ يستريحون في هذا اليوم من مشاقِّ السَّفر، ويتسعون في الماء، ويروون بهائمهم بعد قلَّة الماء في الطَّريق.
417
وقيل: إنهم يتزوَّدون الماء إلى عرفة.
وقيل: إنَّ المذنبين كالعطاش الَّذين وردوا بحار رحمة الله - تعالى -، فشربوا منها حتى رووا.

فصل في فضل هذين اليومين


دلّ عليه قوله تعالى: ﴿والشفع والوتر﴾ [الفجر: ٣]، قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «الشَّفْعُ» ؛ يوم التَّروية وعرفة، والوتر يوم النَّحر.
وعن عبادة؛ أنه - عليه السّلام - قال: «صِيَامُ عَشْر الأضْحَى كُلُّ يومٍ مِنْها كالشَّهْرِ، ولِمَن يَصُوم يَوْم التَّروية سَنَة، وبصَوْم يوم عَرَفَة سَنَتَانِ»
وروى أنس عنه - عليه السلام -؛ قال: «مَنْ صَامَ يَوْمَ التَّرويَةِ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَثْلَ ثَوَابِ عِيسَى ابْنِ مَريمَ»
، وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء خمسة منها مختصَّة به، وخمسة يشترك فيها مع غيره، فالخمسة الأول:
أحدها: عرفة وتقدَّم اشتقاقه.
الثاني: يوم إياس الكفَّار من دين الإسلام؛ قال - تبارك وتعالى -: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً﴾ [المائدة: ٣].
قال عمر، وابن عبَّاس: نزلت هذه الآية الكريمة عشيَّة عرفة، والنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واقف بعرفة في موقف إبراهيم - عليه السلام -: ، وذلك في حجَّة الوداع وقد اضمحلَّ الكفر وهدم شأن الجاهليَّة، فقال النبيُّ - عليه السلام -: «لو يَعْلَمُ النَّاسُ ما لَهُم في هذه الآية، لقَّرَّت أَعْيُنُهُم» فقال يهوديُّ لعمر: لو أنَّ هذه الآية نَزَلَت عَلَيْنَا لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْم عِيداً، فقال عُمَر: أمَّا نَحْنُ فَجَعَلْنَاهُ عيدين «؛ كان يوم عَرَفَة ويَوم الجُمَعَة، ومعنى إياس المشركين بأنَّهم يئسوا من قوم محمَّد - عليه السَّلام - أن يرتَدّوا [راجعين] إلى دينهم.
الثالث: يوم إكمال الدِّين؛ نزل فيه قول تعالى: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣] فلم يأمرهم بعد ذلك بشيءٍ من الشَّرائع.
418
الرابع: يوم إتمام النِّعمة؛ لقوله فيه: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: ٣] وأعظم النِّعم نعمة الدِّين.
الخامس: يوم الرِّضوان؛ لقوله تعالى في ذلك اليوم: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً﴾ [المائدة: ٣].
أما الخمسة الأُخر.
فأحدها: يوم الحجِّ الأكبر؛ قال تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ﴾ [التوبة: ٣] وهذا الاسم مشترك بينه وبين يوم النَّحر، واختلف فيه الصَّحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - والتابعون.
فمنهم من قالك إنَّه عرفة؛ لأنَّ فيه الوقوف بعرفة» والحَجُّ عَرَفَة «فإنَّه لو أدركه وفاته سائر مناسك الحجِّ، أجزاء عنها الدَّم، فلهذا سمِّي بالحَجِّ الأكبر.
وقال الحَسَن: سمِّي به؛ لأنه اجتمع فيه الكفَّار والمسلمون، ونودي فيه على ألاَّ يحجَّ بعده مشرك.
وقال ابن سيرين: إنما سمِّي به؛ لأنَّه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلِّها؛ من اليهود والنَّصارى وحجِّ المسلمين، ولم يجتمع قبله ولا بعده.
ومنهم من قالك إِنَّه يوم النَّحر؛ لأن فيه أكثر مناسك الحجِّ، فأمَّا الوقوف فلا يجب في اليوم بل يجزئ باللَّيل.
وثانيها: الشَّفع.
وثالثهما: الوتر.
ورابعها: الشَّاهد.
وخامسها: المشهود في قوله تعالى: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ [البروج: ٣].

فصل» في ترتيب أعمال الحج «


من دخل مكَّة محرماً في ذي الحجَّة أو قبله، فإن كان مفرداً أو قارناً طاف طواف القدوم، وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات وإن كان متمتِّعاً طاف وسعي وحلق، وتحلَّل من عمرته، وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفاتٍ، وحينئذٍ يحرم من مكَّة بالحجِّ ويخرج، وكذلك من أراد الحجَّ من أهل مكَّة، والسُّنَّة أن يخطب الإمام بمكَّة يوم السَّابع من ذي الحجَّة، بعد أن يصلِّي الظُّهر خطبة واحدة، يأمرهم فيها بالذِّهاب غداً بعد صلاة الصُّبح إلى منى، ويعلمهم تلك الأعمال، ثم يذهبون يوم التَّروية وهو اليوم الثَّامن من ذي
419
الحجَّة إلى منى، بحيث يوافون الظُّهر بها، ويصلُّون بها الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء والصُّبح من يوم عرفة، فإذا طلعت الشَّمس على ثبيرٍ يتوجَّهون إلى عرفات، فإذا دنوا منها فالسُّنَّة ألاَّ يدخلوها، بل يضرب فيه الإمام بنمرة، وهي قريبة من عرفة، فينزلون هناك حتَّى نزول الشَّمس، فيخطب الإمام خطبتين، يبيِّن لهم مناسك الحجِّ، ويُحرِّضهم على كثرة الدُّعاء والتَّهليل بالموقف، فإذا فرغ من الخطبة الاولى، جلس ثم قال، وافتتح الخطبة الثَّانية والمؤذِّنون يأخذون في الأذان معه، ويخفِّف بحيث يكون فراغه من الخطبة، مع فراغ المؤذِّنين من الأذان، ثم ينزل فيقيم المؤذِّنون فيصلِّي بهم الظُّهر، ثم يقيمون في الحال ويصلِّي بهم العصر، وهذا الجمع متفقٌ عليه، فإذا فرغوا في الصَّلاة توجَّهوا إلى عرفاتٍ، فيقفون عند الصَّخرات موقف النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويستقبلون القبلة ويذكرون الله - تعالى - ويدعونه إلى غروب الشَّمس.
وهنا الوقوف ركنٌ لا يدرك الحجُّ إلاّ به، فمن فاته في وقته وموضعه، فقد فاته الحجُّ، ووقت الوقوف يدخل بزوال الشَّمس من يوم عرفة، ويمتدُّ إلى طلوع الفجر من ليوم النَّحر، وذلك نصف يوم وليلة كاملة، فإذا حضر الحاجُّ هناك في هذا الموقف لحظة واحدة من ليل أو نهار، كفاه.
قال القرطبيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: أجمع أهل العلم على أنَّ من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزَّوال، ثم أفاض منها قبل الزَّوال أنّه لا يعتدّ بوقوفه ذلك، وأجمعوا على تمام حجِّ من وقف بعرفة بعد الزَّوال، وأفاض نهاراً قبل اللِّيل إلاَّ مالك؛ فإنَّه قال: لا بدَّ أن
420
يأخذ من اللَّيل شيئاً، وأمَّا من وقف بعرفة باللَّيل، فإنّه لا خلاف بين الأئمَّة في تمام حجِّه، [فإذا غربت الشَّمس، دفع الإمام من عرفات وأخّر صلاة المغرب] وعند أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقت الوقوف من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر.

فصل


قال القرطبيّ: لا خلاف بين العلماء أنَّ الوقوف بعرفة راكباً لمن قدر عليه أفضل؛ لفعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك، وعرفة كلها موقف إلاّ بطن عُرنَة.
قال: ولا بأس بالتَّعريف في المساجد يوم عرفة؛ تشبيهاً بأهل عرفة.

فصل


فإذا غربت الشَّمس دفع الإمام من عرفات، وأخَّر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة.
وفي تسميتها بالمزدلفة أقوال:
أحدها: أنّهم يقربون فيها من منى، والأزدلاف: القرب.
والثاني: أنّ النَّاس يجتمعون فيها، والاجتماع الازدلاف.
والثالث: يزدلفون إلى الله - تعالى -، أي: يتقربَّبون بالوقوف، ويقال للمزدلفة: جمع؛ لأنَّه يجمع فيها بين المغرب والعشاء؛ قاله قتادة.
وقيل: إنّ آدم - عليه السلام - اجتمع فيها مع حوَّاء، وازدلف إليها، أي: دنى
421
منها، فإذا أتى الإمام المزدلفة، جمع المغرب والعشاء بإقامتين، ثم يبيتون بها، فإن لم يبت بها فعليه دم [شاة]، فإذا طلع الفجر، صلُّوا الصُّبح بغلس، والتَّغليس هنا أشدُّ استحباباً منه في غيره بالاتَّفاق، فإذا صلُّوا الصبح، أخذوا منها حصى الرَّمي، كُلُّ إنسانِ سبعين حصاة، ثم يذهبون إلى المشعر الحرام، وهو جبل يقال له: «قزح»، وسُمِّي مشعراًً؛ لأنَّه من الشِّعار وهو العلامة؛ لأنه معلم الحجِّ، والصَّلاة والمبيت به، والدعاء عنده من شعائر الحجِّ، وسمِّي بالحرام لحرمته وهو أقصى المزدلفة مما يلي منى، فيرقى عليه إن أمكنه، أو يقف قريباً منه إن لم يمكنه، وبحمده الله - تعالى - ويهلِّله ويكبّره إلى أن يسفر جداً، ثم يدفع قبل طلوع الشَّمس، ويكفي المرور كام في عرفة، ثم يذهبون منه إلى وادي محسر، فإذا بلغوا بطن محسر فمن كان راكباً، حَرَّك دابته، ومن كان ماشياً، أسرع قدر رمية بحجر، فإذا أتوا منى رموا جمرة العقبة في بطن الوادي بسبع حصيات، يقطع التَّلبية مع ابتداء الرَّمي، فإذا ذبح حلق رأسه، أو قصَّر شعره بأن يقطع طرفه، ثم يأتي إلى مكَّة بعد الحلق، فيطوف بالبيت طواف الإفاضة، ويسمّى طواف الزِّيارة، ويصلي ركعتي الطَّواف، ويسعى بين الصَّفا والمروة، ثم يعود إلى منى في بقيَّة يوم النَّحر، وعليه المبيت بمنى ليالي التَّشريق لأجل الرَّمي، وسمِّيت «منى» لأنه يمنى فيه الدَّم، أي: يراق، فذا حصل الرَّمي والحلق والطَّواف، فقد حلّ.

فصل


اعلم أنّ أهل الجاهليَّة كانوا قد غيَّروا مناسك الحجِّ عن سنَّة إبراهيم - عليه السلام - وذلك أنّ قريشاً وقوماً آخرين سمُّوا أنفسهم بالحمس، وهم أهل الشَّدَّة في دينهم، والحماسة الشِّدَّة، يقال: رجل أحمس وقوم حمسٌ، ثم إن هؤلاء كانوا لا يقفون في عرفاتٍ، ويقولون: لا نخرج من الحرم، ولا نتركه وقت الطَّاعة، وكان غيرهم يقفون بعرفاتٍ والَّذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل غروب الشِّمس، والذين يقفون بالزدلفة يفيضون إذا طلعت الشَّمس، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير، ومعناه: أشرق يا ثبير بالشَّمس، كيما نندفع من مزدلفة، فيدخلون في غور من الأرض، فأمر الله - تعالى - محمَّداً - عيله السَّلام - بمخالفة القوم في الدُّفعتين، فأمره بأن يفيض من عرفة بعد المغرب، وبأن يفيض من مزدلفة قبل طلوع الشَّمس، فالسُّنَّة بيَّنت المراد من الآية الكريمة.
422

فصل


الآية دلَّت على وجوب ذكر الله عند المشعر الحرام، عند الإفاضة من عرفات، والإفاضة من عرفة مشروطة بالحصول في عرفة، ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به وكان مقدوراً للمكلَّف، فهو واجبٌ، فدلَّت الآية الكريمة على أنَّ الحصول في عرفاتٍ واجبٌ في الحجِّ، فإذا لم يأت به لم يكن آتياً بالحجِّ المأمور؛ فوجب ألاَّ يخرج عن العهدة، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطاً.
أقصى ما في الباب: أنّ الحجَّ يحصل عند ترك بعض المأمورات بدليل منفصل، إلاّ أنّ الأصل ما ذكرنا، وذهب كثير من العلماء إلى أنّ الآية لا دلالة فيها على أنّ الوقوف شرطٌ، ونقل عن الحسن أن الوقوف بعرفة واجبٌ، إلاَّ أنه إن فاته ذلك، قام الوقوف بجميع الحرم مقامه، واتَّفق الفقهاء على أنّ الحجَّ لا يحصل إلاّ بالوقوف بعرفة.
قوله: ﴿عِندَ المشعر الحرام﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق ب «اذْكُرُوا».
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حالٌ من فاعل «اذْكُرُوا» أي: اذكروه كائنين عند المشعر.
والمشعر: المعلم من الشِّعار وهو العلامة؛ لأنّه من معالم الحجِّ، وأصله قولك: شعرت بالشَّيء إذا علمته، وليت شعري ما فعل فلانٌ، أي: ليت بلغه وأحاط به، وشعار الشَّيء علامته، واختلفوا:
فقال بعضهم: هو المزدلفة، لأن الصَّلاة والمقام والمبيت بها، والدُّعاء عنده، قال الواحدي في البسيط.
وقال الزَّمخشري: الأصحُّ أنه قزح وهو آخر المزدلفة.
وقال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: والأول أقرب؛ لأنَّ الفاء في قوله: ﴿فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام﴾ تدلُّ على أنّ الذِّكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات، وما ذاك إلاّ البيتوتة بالمزدلفة.

فصل


قوله: ﴿فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام﴾ يدلُّ على أن الحصول عند المشعر الحرام واجبٌ، ويكفي فيه المرور به، كما في عرفة، فأمَّا الوقوف هناك فمسنون.
وروي عن علقمة والنَّخعي؛ أنّهما قالا: الوقوف بالمزدلفة ركنٌ بمنزلة الوقوف
423
بعرفة، لقوله تعالى: ﴿فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام﴾، فإذا قلنا: بأن الوقوف بعرفة ركن وليس ذكره صريحاً في الكتاب، وإنَّما وجب بإشارة الآية الكريمة أو بالسُّنَّة - فالمشعر الحرام فيه أمر جزمٌ.
وقال جمهور الفقهاء: ليس برِكن؛ لقوله - عليه السلام -: «الحَجُّ عَرَفَةُ، فمن وقف بعرفة، فقد تم حجُّه» وقوله «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَة فَقَدْ أَدْرَك الحَجَّ، ومن فاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الحَجُّ»، وأيضاً فقوله تعالى: ﴿فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام﴾ أمر بالذِّكر لا بالوقوف فالوقوف بالمشعر الحرام يقع للذِّكر، وليس بأصلٍ، وأمّا الوقوفَ بعرفة فهو أصلٌ؛ لأنه قال: ﴿فإِذَآ أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ﴾ ولم يقل عند الذكر بعرفاتٍ.

فصل


اختلفوا في الذِّكر المأمور به عند المشعر الحرام.
فقال بعضهم: هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء، والصَّلاة تسمَّى ذكراً؛ قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصلاة لذكريا﴾ [طه: ١٤]، وأيضاً فإنه أمر بالذِّكر هناك، والأمر للوجوب، ولا ذكر هناك يجب إلاَّ هذا.
وقال الجمهور: هو ذكر الله بالتَّسبيح والتَّحميد والتَّهليل.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كان النّاس إذا أدركوا هذه اللَّيلة لا ينامون.
قوله: «كَمَا هَدَاكُمْ» فيه خمسة أقوال:
أحدها: أن تكون «الكَافُ» في محلّ نصبٍ نعتاً لمصدر محذوفٍ.
والثاني: أن تكون في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المقدَّر، وهو مذهب سيبويه.
والثالثك أن يكون في محلِّ نصب على الحال من فاعل «اذْكُرثوا» تقديره: مشبهين لكم حين هداكم، قال أبو البقاء: «ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ؛ لأنَّ الجُثَّة لا تشبه الحدث».
ومثله: «كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ» الكاف نعت لمصدر محذوف.
424
قال القرطبيّ: والمعنى: «اذْكُرُوه ذكْراً حسناً كما هَدَاكُمْ هَدَاية حَسنَة».
الثالث: أن يكون حالاً، تقديره: فاذكروا الله مبالغين.
والرابع: للتعليل بمعنى اللام، أي: اذكروه لأجل هدايته إيَّاكم، حكى سيبويه رَحِمَهُ اللَّهُ: «كَمَا أنَّهُ لاَ يَعْلَمُ، فتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ». وممَّن قال بكونها للعلِّيَّة الأخفش وجماعةٌ.
و «مَا» في «كَمَا» يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون مصدريةً، فتكون مع ما بعدها في محلِّ جر بالكاف، أي: كهدايته.
والثاني - وبه قال الزمخشريُّ وابن عطية - أن تكون كافَّةً للكاف عن العمل، فلا يكون للجملة التي بعدها محلٌّ من الإعراب، بل إن وقع بعدها اسم، رفع على الابتداء كقول القائل: [الطويل]
١٠٠٢ - وَنَنْصًرُ مَوْلاَنَا ونَعْلَمُ أَنَّهُ كَمَا النَّاسُ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ
وقال آخر: [الوافر]
١٠٠٣ - لَعَمْرُكَش إنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ كَمَا النَّشْوَانُ والرَّجُلُ الْحَلِيمُ
أُرِيدُ هِجَاءَهُ وَأَخَافُ رَبِّي وَأَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ لَئِيمٌ
وقد منع صاحب «المُسْتَوْفى» كون «مَا» كافةً للكاف، وهو محجوجٌ بما تقدّم.
والخامس: أن تكون الكاف بمعنى «عَلَى» ؛ كقوله: ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٥].
فإن قيل: قوله تعالى: ﴿واذكروا الله عِندَ المشعر الحرام﴾ ثم قال: «وَاذْكُرُوهُ» فما فائدة هذا التَّكرار؟
فالجواب من وجوهٍ:
أحدها: أنّ أسماء الله - تعالى - توقيفيَّة؛ فقوله أولاً: ﴿واذكروا الله﴾ أمر بالذِّكر،
425
وقوله تعالى: ﴿واذكروه كَمَا هَدَاكُم﴾ أمر بأن نذكره بالأسماء والصِّفات التي بيَّنها لنا وهدانا إليها، لا بأسماء تذكر بحسب الرَّأي والقياس.
وقيل: أمر بالذِّكر أولاً، ثم قال: ﴿واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ﴾، أي: وافعلوا ما أمركم به من الذِّكر كما هداكم لدين الإسلام، كأنّه قال: إنَّما أمرتكم بهذا الذِّكر؛ لتكونوا شاكرين لتلك النِّعمة، ونظيره ما أمرهم به من التكبير عند فراغ رمضان، فقال: ﴿وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وقال في الأضاحي: ﴿كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ﴾ [الحج: ٣٧].
وقيل: أمر أولاً بالذِّكر باللِّسان، وثانياً بالذِّكر بالقلب، فإن الذكر في كلام العرب ضربان:
أحدهما: الذِّكر ضد النِّسيان.
والثاني: الذِّكر بالقول.
فالأول: كقوله: ﴿وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ [الكهف: ٦٣].
والثاني: كقوله: ﴿فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٠٠]،
و ﴿واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: ٢٠٣] فالأول محمول على الذِّكر باللِّسان، والثاني على الذكر بالقلب.
وقال ابن الأنباري: معنى قوله: ﴿واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ﴾ أي: اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته.
وقيل: المراد مواصلة الذكر بالذِّكر؛ كأنه قيل لهم: اذكروا الله واذكروه، أي: اذكروه ذكراً بعد ذكر؛ كما هداكم هداية بعد هداية، نظيره قوله: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً﴾ [الأحزاب: ٤١].
وقيل: المراد بالذكر الأول: ذكر الله بأسمائه وصفاته الحسنى، والمراد بالثاني: الاشتغال بشكر نعمائه والشُّكر مشتمل أيضاً على الذِّكر.

فصل


قال بعضهم: إن هذه الهداية خاصَّة، والمراد: كما هداكم في مناسك حجِّكم إلى سنَّة إبراهيم - عليه السلام -.
وقال بعضهم: بل هي عامَّة متناولة لكل أنواع الهدايات.
قوله: ﴿وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين﴾ :«إنْ» هذه هي المخفَّفة من الثقيلة، واللام
426
بعدها للفرق بينهما وبين النافية، وجاز دخول «إنْ» على الفعل؛ لأنه ناسخٌ، وهل هذه اللام لام الابتداء التي كانت تصحب «إنَّ»، أو لامٌ أخرى غيرها؛ اجتلبت للفرق؟ قولان هذا رأيُ البصريِّين.
وأمَّا الكوفيون فعندهم فيها خلاف: فزعم الفرّاء أنها بمعنى «إنْ» النافية، واللام بمعنى «لاَّ»، أي: ما كنتم من قبله إلاَّ من الضالِّين، ومذهب الكسائيِّ التفصيل: بين أن تدخل على جملةٍ فعليَّة، فتكون «إنْ» بمعنى «قَدْ»، واللاَّم زائدةً للتوكيد؛ كقوله: ﴿وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين﴾ [الشعراء: ١٨٦]، وبين أن تدخل على جملةٍ، كقوله: ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق: ٤] ؛ فتكون كقول الفرَّاء.
و «مِنْ قَبْلِهِ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ يدلُّ عليه «لَمِنَ الضَّالِّينَ»، تقديره: كنتم من قبله ضالِّين لمن الضَّالِّين، ولا يتعلَّق بالضالِّينَ بعده؛ لأنَّ ما بعد «أَلِ» الموصولةِ، لا يعمل فيما قبلها، إلا على رأي من يتوسَّع في الظرف، والهاء في «قَبْلِهِ» عائدةٌ على «الهُدَى» المفهوم من قوله «كَمَا هَدَاكُمْ».
وقيل: تعود إلى القرآن، والتقدير: واذكروه كما هداكم، بكتابه الذي بيَّن لكم معالم دينه، وإن كنتم من قبل إنزاله عليكم من الضَّالِّين.
وقيل: إلى الرَّسول.
427
استشكل الناس مجي «ثُمَّ» هنا؛ من حيث إنَّ الإفاضة الثانية هي الإفاضة الأولى؛ لأنَّ قريشاً كانت تقف بمزدلفة، وسائر الناس بعرفة، فأمروا أن يفيضوا من عرفة كسائر الناس، فكيف يجاء ب «ثُمَّ» التي تقتضي الترتيب والتراخي؟ والجواب من وجوهٍ:
أحدها: أنَّ الترتيب في الذِّكر، لا في الزمان الواقع فيه الأفعال، وحسَّن ذلك؛ أن الإفاضة الأولى غير مأمور بها، إنما المأمور به ذكر الله، إذا فعلت الإفاضة.
ثانيها: أن تكون هذه الجملة معطوفةً على قوله: ﴿واتقون ياأولي الألباب﴾ ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وهو بعيدٌ.
ثالثها: أن تكون «ثُمَّ» بمعنى الواو، قال بعض النُّحَاةِ: فهي لعطف كلامٍ منقطع من الأول.
قال بعضهم: وهي نظير قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ [البلد: ١٢، ١٣] إلى قوله: ﴿ثُّمَّ كّانَ﴾ [البلد: ١٧]، أي: كان مع هذا من المؤمنين، وفائدة «ثُمَّ» ههنا: تأخُّر أحد الخبرين عن الآخر، لا تأخّر المخبر عنه [عن ذلك المخبر عنه].
رابعها: أن الإفاضة الثانية هي من جمع إلى منى، والمخاطبون بها جميع الناس،
427
قاله الضَّحَّاك، ورجَّحه الطبريُّ، وهو الذي يقتضيه ظاهر القرآن، فتكون «ثُمَّ» على بابها، قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: كيف موقعُ» ثُمَّ «؟ قلتُ: نحو موقِعها في قولك: أَحْسِنْ إلَى النَّاسِ، ثُمَّ لاَ تُحْسِنْ إلَى غَيْرِ كَريمٍ» تأتي ب «ثُمَّ» ؛ لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم، والإحسان إلى غيره، وبُعد ما بينهما، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات، قال: ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ﴾ لتفاوت ما بين الإفاضتين، وأنَّ إحداهما صواب والثانية خطأ «قال أبو حيَّان:» وليستِ الآية نظيرَ المثال الذي مَثَّلَهُ، وخاصل ما ذكر أن «ثُمَّ» تسلب الترتيب، وأنَّ لها معنى غيره سمَّاه بالتفاوت، والبعد لما بعدها عمَّا قبلها، ولم يذكر في الآية إفاضة الخطأ حتَّى تجيء «ثُمَّ» لتفاوت ما بينهما، ولا نعلم أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى ل «ثُمَّ» قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: وهذا الذي ناقش الزمخشريَّ به تحاملٌ عليه، فإنه يعني بالتفاوت والبعد التراخي الواقع بين الرتبتين، وسيأتي له نظائر، وبمثل هذه الأشياء لا يردُّ بها على مثل هذا الرجل.
و «مِنْ حَيْثُ» متعلِّقٌ ب «أَفِيضُوا»، و «مِنْ» لابتداء الغاية، و «حَيْثُ» هنا على بابها من كونها ظرف مكانٍ، وقال القفَّال: «هي هنا لزمان الإفاضة» وقد تقدَّم أن هذا قول الأخفش، وتقدَّم دليله، وكأن القفال رام بذلك التغاير بين الإفاضتين؛ ليقع الجواب عن مجيء «ثُم» هنا، ولا يفيد ذلك؛ لأن الزَّمان يستلزم مكان الفعل الواقع فيه.
و ﴿أَفَاضَ الناس﴾ في محلِّ جرِّ بإضافة «حَيْثُ» إليها، والجمهور على رفع السِّين من «النَّاسُ». وقرأ سعيد بن جبيرٍ: «النَّاسِي» وفيها تأويلان:
أحدهما: أنه يراد به آدم - عليه السَّلام - بقوله: «فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً».
والثاني: أنيراد به التارك للوقوف بمزدلفة، وهم جمع النَّاس، فيكون المراد ب «النَّاسِي» جنس الناسين، قال ابن عطيَّة: «ويجوز عند بعضهم حذف الياء، فيقول:» النَّاسِ «بكسر السِّين، فاكتفى بالكسرة عن الياء، وبها قرأ الزُّهريُّ؛ كالقاص والهاد؛ قال: أمّا جوازه في العربية، فذكره سيبويه وأمّا جوازه قراءةً، فلا أحفظه. قال أَبو حيان: لم يجز سيبويه ذلك إلا في الشِّعر، وأجازه الفرَّاء في اكلام، وأمَّا قوله:» لَمْ أَحْفَظْهُ «، فقد حفظه غيره، حكاها المهدويُّ قراءةً عن سعيد بن جبير أيضاً.

فصل في المراد بالإفاضة


في الآية الكريمة قولان:
428
الأول: أنّ المراد بهذه الإفاضة من عرفات.
قال المفسِّرون: كانت قريش وحلفاؤها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة، ويقولون: نحن أهل الله وقطَّان حرمه، فلا نخرج من الحرم، ويستعظمون أن يقفوا مع النَّاس بعرفاتٍ، وسائر العرب كانوا يقفون بعرفاتٍ، فإذا أفاض النَّاس من عرفات، أفاض الحمس من المزدلفة، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية الكريمة، وأمرهم أن يقفوا بعرفات وأن يفيضوا منها كما يفعله سائر النَّاس، والمراد بالنَّاس: العرب كلُّهم غير الحمس.
وقال الكلبي: هم أهل اليمن وربيعة، وروي أنَّه - عليه السلام - لمّا جعل أبا بكرٍ أميراً في الحجِّ، أمره بإخراج النَّاس إلى عرفتٍ، فلمّا ذهب مرّ على الحمس وتركهم، فقالوا له: إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب، فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر رسول الله إلى عرافتٍ، ووقف بها وأمر سائر النَّاس بالوقوف بها، وقال بعضهم:» أفِيضُوا «أمر عامٌّ لكلِّ النَّاس.
وقوله: ﴿حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾ المراد: إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - كان يقف في الجاهليَّة بعرفة كسائر النَّاس ويخالف الحمس.
وقال الضَّحَّاك: النَّاس ههنا إبراهيم وحده، وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً يقتدى به، وهو كقوله - تبارك وتعالى -: ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس﴾ [آل عمران: ١٧٣] يعني به: نعيم ابن مسعود، ﴿إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٣] يعني أبا سفيان، وهو مجاز مشهور؛ ومنه قوله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾ [القدر: ١].
وقال القفَّال: قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾ [عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفاتٍ، وأنَّه هو الأمر القديم وما سواه فهو مبتدع محدث؛ كما يقال: هذا ممَّا فعله النَّاس قديماً.
وقال الزَّهريّ: إنّ المراد من النَّاس في هذه الآية: آدم - عليه السلام -؛ واحتج بقراءة سعيد بن جبير المتقدِّمة.
القول الثاني - وهو اختيار الضحَّاك ورجَّحه الطَّبري -: أنّ المراد بهذه الإفاضة، هي الإفاضة من مزدلفة إلى منى يوم النَّحر، قبل طلوع الشمس للرَّمي والنَّحر.
429
وقوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾ ] المراد: إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما.
قوله: ﴿واستغفروا الله﴾ اسْتَغْفَرَ «يتعدَّى لاثنين، ولهما بنفسه، والثاني ب» مِنْ «؛ نحو: استغفرت الله من ذنبي، وقد يحذف حرف الجر؛ كقول القائل: [البسيط]
١٠٠٤ - أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ رَبَّ العِبَادِ إِلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ
هذا مذهب سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور النَّاس.
وقال ابن الطَّراوة: إنه يتعدَّى إليهما بنفسه أصالة، وإنما يتعدَّى ب»
مِنْ «؛ لتضمنه معنى ما يتعدَّى بها، فعنده» اسْتَغْفَرْتُ اللَّهُ مِنْ كَذَا «بمعنى تبت إليه من كذا، ولم يجىء:» اسْتَغْفَرَ «في القرآن الكريم متعدِّياً إلاَّ للأول فقط، فأمَّا قوله تعالى: ﴿واستغفر لِذَنبِكَ﴾ [غافر: ٥٥] ﴿واستغفر لِذَنبِكَ﴾ [يوسف: ٢٩] ﴿فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٣٥] فالظاهر أنَّ هذه اللام لام العلَّة، لا لام التعدية، ومجرورها مفعول من أجله، لا مفعول به. وأمَّا» غَفَر «فذكر مفعوله في القرآن تارةً: ﴿وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله﴾ [آل عمران: ١٣٥]، وحذف أخرى: ﴿وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ﴾ [المائدة: ٤٠]. والسين في» اسْتَغْفَرَ «للطلب على بابها، والمفعول الثاني هنا محذوف للعلم به، أي: من ذنوبكم التي فرطت منكم.
فإن قيل: أمرٌ بالاستْغفارِ مطلقاً، وربما كان فيهم من لم يُذِنبْ، فحينذٍ لا يحتاجُ إلى الاسْتِغْفار.
فالجواب: أنّه غن كان مُذْنِباً، فالاستِغْفار واجِب، وإم لم يُذْنِب، فيجوز من نفْسِه صدور التَّقْصِير في أداء الواجِبات، والحتِراز عن المَحْظُوراتِ؛ فيجب عليه الاسْتِغْفار تَدَارُكاً لذلك لخَلَلِ المُجَوَّز، وهذا كالمُمْتَنِنِع في حَقِّ البَشَر.

فصل


واختلف العلماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم - في هذه المَغْفرة الموعُودة.
فقال بعضهم: إنّها عند الدَّفع من عَرَفَاتِ إلى جمع.
وقال آخرون: إنها عند الدَّفْع من جَمْع إلى مِنىً، وهذا مَبْنِيٌّ على الخِلاَف المُتَقَدِّم في قوله:»
ثُمَّ أَفِيضُوا «على أيّ الأَمْرَين يحمل.
430
قال القفّال - رحمه اللَّهُ - ويتأكَّد الثَّانِي بما رَوَى نَافِعٌ عن ابن عُمَر؛ قال:» خَطَبنا رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عشِيَّة عَرَفَة؛ فقال: «يا أيُّها النَّاسُ إن يَطَّلعُ الله عَلَيْكُم في مَقَامِكُم هذا، فَقَبِل من مُحْسِنِكُم، ووهب مُسِيئَكُم لمُحْسِنِكُم، والتَّبِعَاتُ عوَّضهَا من عنده، أفيضُوا على اسْم الله تعالى» قال أصحابُه: يا رسُول الله، أَفَضْتَ بنا بالأَمْسِ كَئِيباً حزِيناً، وأَفضتَ بنا اليَوْمَ فَرِحاً مَسْرُوراً، فقال عليه السَّلام - «إنّي سَأَلْت ربِّي - عزَّ وجل - بالأمْس شَيئاً لم يَجُدْ لي به: سأَلْتُه التَّبِعَات فَأَبَى عَلَيَّ، فلمّا كَانَ اليَوْم أَتَى جِبْرِيلُ - عليه السّلام - فقال: إنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلام ويقول: التبِعَات ضَمِنْتُ عِوَضَهَا من عِنْدِي» والله أعلم.
431
اعلم أن «قَضَى» إذا عُلِّق بفعل النَّفْس، فالمرادُ منه الإِتْمَام والفَرَاغ؛ كقوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: ١٢] ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة﴾ [الجمعة: ١٠]، وقوله - عليه السلام -: «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا»، ويقال للحَاكِم عند فصل الخُصُومَةِ، قَضَى بينهما. وإذا عُلِّق على فِعْل الغَيْر، فالمراد به الإِلْزَام، كقوله: ﴿وقضى رَبُّكَ﴾ [الإسراء: ٢٣] وإذا اسْتُعْمِل في الإعلامِ، فالمراد أيضاً كذلك؛ كقوله: ﴿وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الإسراء: ٤]، أي: أعْلَمْنَاهُم، وهذه الآية الكريمة من القِسم الأوَّل.
وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المُرَادُ: اذكُرُوا الله عِنْد المَنَاسِك، ويكون المُرَادُ من هذا الذَّكرِ: ما أُمروا به من الدُّعَاءِ بعَرَفاتٍ والمشعر الحَرَام والطَّواف والسَّعي؛ كقول القائل: إذا حَجَجْتَ فَطُف وقف بعرَفَة، ولا يُريد الفراغ من الحَجِّ، بل الدُّخُول فيه، وحَمَلهُم التَّأْويل صيغة الأَمر.
431
والمَنَاسِكُ، جمعُ «مَنْسِكٍ» بفتح السين وكسرِها، وسيأتي تحقيقُها، وقد تقدَّم اشتقاقها قريباً، والقُرَّاء على إظهار هذا، ورُوِي عن أبي عمرو الإِدغامُ، قالوا: شَبَّه حركة الإِعرابِ بحركةٍ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام، وأدغم أيضاً «مَنَاسِككمْ» ولم يُدْغِمْ ما يُشْبِهُهُ من نحو: ﴿جِبَاهُهُمْ﴾ [التوبة: ٣٥] و ﴿وُجُوهُهُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦].
قال بعض المُفسِّرين: إن جعلها جمع «مَنْسَك» الذي هو المَصْدَر بمنزلة النُّسُك، فالمراد: إذا قضيتم عبادتكُم الَّتِي أُمِرْتُمْ بها في الحَجِّ، وإن جَعَلْتَها جمع «مَنْسَك» الذي هو مَوْضع العِبادة، فالتَّقدير: فإذا قَضَيْتُم أعمال مناسِكِكُم، فيكون من باب حَذْفِ المُضَاف.
إذا عُرِفَ هذا؛ فنقول: قال بعضهم: المراد بالمَنَاسِكِ ما أَمَر الله - تعالى - به في الحَجِّ من العِبَادَاتِ، وقال مُجاهد: قضاء المَنَاسِكِ: إراقَةُ الدِّمَاء، يقال: أنسَك الرجل يَنْسُك نُسْكاً، إذا ذبح نسِيكته بعد رَمْي جمرة العقبة والاستقرار بمِنىً، والفَاءُ في قوله: ﴿اذكروا الله﴾ تدلُّ على أنَّ الذَّكْر يجب عقيب الفراغ من المَنَاسِك؛ فلذلك اخْتَلَفُوا.
فمنهم من حمله على التكبير بعد الصَّلاَة يَوْم النَّحْر وأَيَّام التَّشْريق - على حسبِ اختِلاَفهم في وقته - أن بعد الفراغ من الحَجَّ لا ذِكْر مَخْصُوص إلاَّ التكبِير.
ومنهم من قال: بل المُراد تحويلُ القَوْم عمّا اعتَادُوهُ بعد الحَجِّ من التَّفَاخُر بالآباء؛ لأنه تعالى لم يم يَنءه عنه بهذه الآية الكريمة، لم يَعْدلُوا عن هذه الطَّرِيقة.
ومنهم من قال: بل المُراد منه أنّ الفَراغَ من الحَجِّ يوجِبُ الإِقبَال على الدَّعاء والاستغفار؛ كما أن الإِنْسَان بعد الفَراغ من الصَّلاة يُسَنُّ أن يشتغل بالذِّكر والدُّعاء.
قوله: ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ﴾ الكافُ كالكاف في قوله ﴿كَمَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨] إلاَّ في كونها بمعنى «عَلَى» أو بمعنى اللام، فَلْيُلتفتْ إليه، والجمهورُ على نصب «آبَاءَكُمْ» مفعولاً به، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل، وقرأ محمدُ بنُ كعبٍ: «آبَاؤكُمْ» رفعاً، على أنَّ المصدرّ مضافٌ للمفعولِ، والمعنى: كما يَلْهَجُ الابنُ بذكر أبيه، ورُوِيَ عنه أيضاً: «أَبَاكُمْ» بالإِفراد على إرادة الجنسِ، وهي توافِقُ قراةَ الجماعة في كونِ
432
المصدر مضافاً لفاعله، ويَبْعُدُ أن يقال: هو مرفوعٌ على لغةِ مَنء يُجْرِي «أَبَاكَ» ونحوَهُ مُجْرَى المقْصورِ.

فصل


قال جمهور المُفسِّرين: إن القوم كانوا بعد الفراغ من الحَجِّ يبالِغُوا في الثَّنَاءِ على آبَائِهِم وفي ذكر مَناقِبهم، فقال تعالى: ﴿فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ﴾، أي: فاجهَدُوا في الثَّنَاء على الله وشرح الآية، كما بذلتم جَهْدَكم في الثَّناء على آبَائِكم.
وقال الضَّحَّاك والرَّبيع: اذكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم وأمَّهَاتكم، واكتفى بذكر الآباءِ، كقوله تعالى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] قالوا: وهو قول الصَّبيِّ أول ما يُفصح للكلام أَبَه أَبَه أُمَّه أُمَّه، أي: كونوا مُوَاظِبين على ذِكْرِ الله؛ كمواظَبَة الصَّغير على ذِكْر أ [يه وأمِّه.
وقال أبو ملسم: أجرى ذِكر الآباء مثلاً لدوام الذكْرِ، أي: كما أنّ الرَّجُل لا يَنْسَى ذكر أبيه، فكذلك يَجِبُ ألاّ يَغْفَل عن ذِكْر الله - تعالى -.
وقال ابن الأَنْباري: كانت العرب في الجَاهِليَّة تكثِر من القَسَم بالآباءِ والأَجْدَادِ؛ فقال تعالى: عَظِّمُوا الله كَتَعْظِيم آبَائكُم.
وقيل: كما أنّ الطِّفْل يرجع إلى أبِيه في طَلَبِ جميع مُهِمَّاتِه، ويكون ذَاكِراً له بالتَّعظِيم فكُونُوا أنتم في ذِكْر الله كذلك.
وقيل: يُحْتَمل أنّهم كَانُوا يّذْكُرون آباءَهُم؛ ليتَوسَّلُوا بذكرهم إلى إجابة الدُّعَاء، فعرَّفَهُم الله - تعالى - أنّ آباءَهُمْ لَيْسَوا في هذه الدَّرَجَة؛ إذ أَفْعَالُهم الحَسَنة مُحْبَطة بشِرْكِهِم.
وسُئِل ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - عن قوله تعالى: ﴿فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً﴾، فقيل: يأتي على الرَّجُل اليَوْم لا يذكُر فيه أَبَاهُ.
قال ابن عبَّاس: ليس كذلك؛ ولكن هو أن تَغْضَب لله إذا عُصِيَ، أَشَدَّ من غَضَبِك لوَالِدَيْك إذا ذُكِرا بِسوءٍ.
قوله: ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً﴾ يجوزُ في «أَشَدَّ» أن يكونَ مجروراً، وأَنْ يكونَ منصوباً: فأمّا جَرُّه، فذكروا فيه وجهين:
433
أحدهما: أن يكونَ مجروراً عطفاً على «ذِكْركم» المجرورِ بكافِ التشبيه، تقديرُهُ: أو كَذِكْر أَشَدَّ ذِكْراً، فتجعلُ للذكر ذِكْراً مجازاً، وإليه ذهب الزَّجَّاج، وتبعه أبو البقاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وابن عَطيَّة.
والثَّاني: أنه مجرورٌ عطفاً على المخْفُوض بإضافة المَصْدر إليه، وهو ضميرُ المخاطبين، قال الزمخشريُّ: أَوْ أَشَدَّ ذكِراً في موضِع جرٍّ عَطْفاً على ما أُضيفَ إليه الذكْرُ في قوله: ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً﴾ ؛ كما تقول: «كَذِكْرِ قُرَيْش آباءَهُمْ أو قَوْم أَشَدَّ منْهُمْ ذِكْراً» وهو حَسَنٌ، وليس فيه تَجَوُّزٌ بأَنْ يُجْعَلَ لِلذكرِ ذِكْرٌ؛ لأنه جَعَلَ «أَشَدٌّ» من صفات الذَّاكرِينَ، إلا أن فيه العَطْفَ على الضَّميرِ المجْرُورِ من غير إعادة الجارِّ، وهو ممنوعٌ عند البَصْريين، ومَحَلُّ ضرورة.
وأمَّا نصبُه فمن أوجهٍ:
أحدُها: أن يكونَ معطوفاً على «آباءَكُمْ» قال الزمخشريُّ، فإنه قال: «بمعنى أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً مِنْ آبَائِكُم» ؛ إلى أنَّ «ذِكْراً» من فِعْلِ المذكور هو كلامٌ يَحْتاجُ إلى تفسير، فقولُه: «هو معطُوفً على آبَاءَكُمْ» : معناه أنك إذا عَطَفْتَ «أَشَدَّ» على «آبَاءَكُمْ»، كان التقديرُ: أو قوماً أشدَّ ذِكْراً من آبائِكُمْ، فكان القومُ مذكورِينَ، والذكرُ الذي هو تمييزٌ بعد «أَشَدَّ» هو من فِعْلهم، أي: من فعلِ القوم المذكُرِين؛ لأنه جاء بعد «أَفْعَلَ» الذي هو صفةٌ للقوم، ومعنى «مِنْ آبَائِكُمْ» أي من ذكرِكم لآبائِكُمْ، وهذا أيضاً ليس فيه تجوزٌّ بأنْ جُعِل الذِّكْرُ ذَاكِراً.
الثاني: أن يكونَ مَعْطُوفاً على محلِّ الكاف في «كَذِكْرِكُم» ؛ لأنها عندهم نعتٌ لمصدر محذوف، تقديرُه: «ذِكْراً كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ» وجَعَلُوا الذِّكْرَ ذاكراً مجازاً؛ كقولهم: شِعْرٌ شَاعِرٌ، وهذا تخريج أبي عَلِيٍّ وابن جنِّي.
الثالث: قاله مَكّيٌّ: أن يكونَ منصوباً بإضمار فِعْلٍ، قال: تقديرُه: «فاذْكرُوهُ ذِكْراً أَشَدَّ من ذِكرِكُمْ لآبائكم» ؛ فيكونَ نعتاً لمصدر في موضع الحالِ، أي: اذكُرُوهُ بَالِغِينَ في الذِكْرِ.
الرابع: أن يكونَ مَنْصُوباً بإضمار فعْلِ الكَوْن، قال أبو البقاء: «وعِنْدِي أنَّ الكلاَمَ محمولٌ على المَعْنى، والتقدير: أو كُونُوا أَشَدَّ لِلَّهِ ذِكْراً منكم لآبائِكُمْ، ودلَّ على هذا المعنى قولُه: ﴿فاذكروا الله﴾ أي: كونوا ذَاكِريهِ، وهذا أسهلُ مِنْ حَمْلِه على المَجَاز» يعنى المجازَ الذي تقدَّم ذِكْرُهُ عن الفارسيِّ وتلميذه.
434
الخامس: أن يكون «أَشَدَّ» نَصْباً على الحال مِنْ «ذِكْراً» ؛ لأنه لو تأخَّرَ عنه، لكان صفةٌ له؛ كقوله: [مجزوء الوافر]
١٠٠٥ - لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ
«مُوحِشاً» حالٌ من «طَلَل» ؛ لأنَّه في الأصل صفةٌ، فلما قُدِّم تعذَّر بقاؤه صفةً، فَجُعِلَ حالاً، قاله أبو حيَّانّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -، فإنه قال بعد ذكْره ثلاثةَ أوجه لنصبه، ووجهين لجَرِّه: «فهذه خمسةُ أوجه كلُّها ضعيفةٌ، والذي يتبادر إلى الذِّهْنِ في الآية أنهم أُمِرُوا بأَنْ يَذْكُروا الله ذِكْراً يُمَاثِلُ ذِكْرَ آبائِهِم، أَوْ أَشَدَّ، وقد ساغ لنا حَمْلُ هذه الآية الكريمة لعيه بوجهٍ ذُهِلُوا عنه»، فَذَكَر ما تقدَّم، ثم جَوَّز في «ذِكْراً» - والحالةُ هذه - وجْهَين:
أحدهما: أن يكونَ معطوفاً على مَحَلِّ الكاف في «كِذِكْرِكُمْ»، ثم اعترضَ على نفسِه في هذا الوجه؛ بأنه يلزم منه الفصلُ بين حرفِ العطف، وهو «أَوْ» وبين المعطوف وهو «ذِكْراً» بالحال، وهو «أَشَدَّ»، وقد نصَّ النحويون على أن الفصْلَ بينهما لا يجوز إلا بشرطَيْن:
أحدهما: أن يكون حرفُ العطفِ أكثرَ من حرفٍ واحد.
والثاني: أن يكونَ الفاصلُ قَسَماً، أو ظَرْفاً أو جَارّاً، وأحدُ الشرطَيْنِ موجودٌ، وهو الزيادةٌ على حرِفٍ، والآخرُ مفقودٌ، وهو كونُ الفاصل ليس أحدَ الثلاثةِ المتقدِّمة، ثم أجابَ بأن الحالَ مقدَّرةٌ بحرفِ الحر وشَبَّهه بالظرفِ، فَأُجْرِيَت مُجْرَاهُمَا.
والثاني: من الوجْهَيْن في «ذِكْراً» أن يكونَ مصدراً لقوله: «فَاذْكُرُوا»، ويكون قوله: «كَذِكْرِكُمْ» في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ «ذِكْراً» ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له، فلما قُدِّمتْ، كانَتْ في محلِّ حالٍ، ويكون «أَشَدَّ» عطفاً على هذه الحال، وتقديرُ الكلامَ «» فاذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَذِكْرِكُمْ، أي: مُشْبِهاً ذِكْرَكُمْ أَو أَشَدَّ «؛ فيصيرُ نظيرَ:» اضْرِبْ مِثْلَ ضَرْبِ فُلاَنِ أَوْ أَشَد «الأصل: اضْرِبْ ضَرْباً مِثْلَ ضَرْبِ فُلاَنِ أَوْ أَشَدَّ.
و»
ذِكْراً «تمييزٌ عند غير الشَّيح كما تقدَّم، واستشْكَلُوا كونَه تمييزاً منصوباً؛ وذلك أن أفعلَ التفضيل يجب أن تُضَاف إلى ما بعدها، إذا كان مِنْ جنسِ ما قبلها؛ نحو:» وَجْهُ زَيْدٍ أَحْسَنُ وَجْهٍ «،» وعِلْمُهُ أَكْثَرُ عِلْم «وإنْ لم يكن مِنْ جنسِ ما قبلها، وجَبَ نصبُه؛ نحو:» زَيْدٌ أَحْسَنُ وَجْهاً، وخَالِدٌ أَكْثَرُ عِلْماً «، إذا تقرَّر ذلك، فقوله:» ذِكْراً «هو من جنس ما قبلها، فعلَى ما قُرِّر، كان يقتضي جَرَّه، فإنه نظيرُ:» اضْرِبْ بَكْراً كَضَرْبِ عَمْرٍو زَيْداً أَوْ أَشَدَّ ضَرْبٍ «بالجرِّ فقط. والجوابُ عن هذا الإِشكالِ مأَخوذٌ من الأوجه المتقدِّمة في النصب والجر المذكورَيْن في» أَشَدَّ «؛ من حيث أن يُجْعَلَ الذِّكْرُ ذاكراً مجازاً؛ كقولهم:»
435
شِعْرٌ شَاعِرٌ «؛ كما قال به الفارسيُّ وصاحبُه، أو يُجْعَلَ» أَشَدَّ «من صفاتِ الأعيان، لا من صفاتِ الإِذكار؛ كما قال به الزمخشريُّ، أو يُجْعَلَ» أَشَدَّ «حالاً من» ذكْراً «أو ننصبّه بفعْلٍ و» أو «هنا قيل للإِباحةِ، وقيل للتخيير، وقيل: بمعنى بَلْ، وهو قول أكثر المفسِّرين.
قوله: ﴿فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا﴾ »
مَنْ «مبتدأٌ، وخبرُه في الجارِّ قبله، ويجوز أن تكونَ فاعلةً عند الأخفش، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، وفي هذا الكلام التفاتٌ؛ إذ لو جَرَى على النسقِ الأولِ، لقيل:» فَمِنْكُمْ «، وحَمِل على معنى» مَنْ «؛ إذ جاء جَمْعاً في قوله:» رَبِّنَا آتِنَا «، ولو حُمِل على لفظِها، لقال» رَبِّ آتِني «.
وفي المفعول الثاني ل»
آتِنَا «- لأنه يتعدَّى لاثْنَيْنِ ثانيهما غيرُ الأَوَّل - ثلاثةُ أقوال:
أظهرها: أنه محذوفٌ؛ اختصاراً أو اقتصاراً؛ لأنه من باب»
أَعْطَى «، أي: آتِنا ما نُريدُ، أو مطلوبَنَا.
والثاني: أن «فِي»
بمعنى «مِنْ» أي: من الدنيا.
والثالث: أنها زائدٌ، أي: آتِنا الدنيا، ولَيْسَا بشيء.

فصل


واعلم أنَّه بيَّن أولاً منَاسِكَ الحَجِّ، ثم أمر بَعْدَها بالذِّكْرِ، ثم بيّن بعد الذِّكْرِ كيفيَّة الدَّعَاء، وهذا من أحسن التَّرْتيب؛ فإنّ تقديم العِبَادة يكسر النَّفْسَ، وبعد العِبَادة لا بُدَّ من الاشْتِغال بذكْرِ الله، فإن به يَكْمُل الدُّعَاء؛ كما حُكِيَ عن إبراهيم - عليه السَّلام -؛ أنّه قدَّم الذِّكْر على الدُّعاء، فقال: ﴿الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨] ثم قال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين﴾ [الشعراء: ٨٣] ثم بيَّن - تبارك وتعالى - أنّ الَّذِين يَدْعُون فَريقان: أحدهما يطلب الدُّنْيَا، والثَّاني يطلب الدُّنْيَا والآخِرة، وقد بقي قِسْمٌ ثالثٌ وهو طلب الآخِرَةِ؛ واخْتَلَفُوا في هذا القِسْم: هل هو مَشْرُوعٌ أم لا؟ والأكثرونَ على أنّه غير مشورع؛ لأن الإنسان ضعيف لا طاقة له بآلام الدُّنيا؛ فالأولى أن يستعيذ بربِّه من كل شرِّ في الدُّنيَا والآخِرة.
روى القفَّال في «تَفْسيرِه» عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ على رَجُلٍ يعُودُ، قد أنهَكُه المَرَضُ حتَّى صَارَ كالفَرْخ، فقال: ما كُنتُ تدعُوا الله به قَبْلَ هذا؟ قال: كُنْتُ أقُولُ: اللَّهُمَّ ما كُنتَ تُعاقِبني به في الآخِرة فَعَجِّل بِهِ في الدُّنْيا، فقال النبيُّ - عليه السلام -: سبحان الله!! إنّك لا تُطِيقُ ذلك؛ هلا قُلْتَ:» ربنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة وفي الآخِرَةِ حَسَنَة وقِنَا عَذَابَ النَّارَ «قال: فدَعَا له رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَشُوفِي»
436

فصل


اختلفوا في الَّذِين يَقتَصِرُون في الدُّعاء على طلب الدُّنْيَا على قَوْلَيْن.
فقال قوم: هم الكُفَّار؛ رُوِي عن ابن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ أنّ المُشْركين كانوا إذا وقَفُوا للدُّعاء، يقولون: اللَّهُمَّ أعطِنا غنماً وإبلاً وبقراً، وعبيداً، وإماءً، وكان الرَّجُل يقوم ويقُول: اللَّهُم إنّ أبي كان عظيم القُبَّة، كبير الجَفْنَة، كثير المال؛ فأعطني مثلما أعطيْتَه، ولم يَطْلُبُوا التَّوْبة والمغفِرة؛ لأنهم كانوا مُنْكِرين البعثَ والمَعَاد.
وعن أنسٍ؛ كانوا يقولون: اسْقِنا المطر، وأَعْطِنا على عَدُوِّنا الظَّفَر، فأخبر الله - تعالى - أنَّ من كان هكذا، فلا خلاق لهُ في الآخِرَة، أي: لا نَصِيبَ لهُ.
قال القرطبي: فنهُوا عن ذلك الدُّعاء المَخْصُوص بأمرِ الدُّنْيَا، وجاء النَّهْي بصيغة الخَبَر عَنْهُم.
وقال آخرون: قد يكُونُوا مؤمِنِين، ويسألون الله - تعالى - لِدُنياهُم لا لآخِرَتِهِم، ويكون سُؤَالُهم هذا ذَنباً؛ لأنهم سأَلُوا الله في أعظم المواقف حُطام الدُّنْيَا الفَانِي، وأعْرَضُوا عن سُؤَال نعيم الآخِرة، ويقال لِمَن فَعَل ذَلِك: أنّه لا خَلاَقَ لَهُ في الآخِرةِ، وإن كان مُسْلِماً؛ كما رُوِي في قوله - تعالى -
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة﴾ [آل عمران: ٧٧] أنها نزلت فيمن أخذ مالاً بيمينٍ فاجرةٍ.
ورُوِي عن النَّبيّ - عليه السَّلام -: إنّ الله يُؤَيِّد هذا الدِّين بأقْوَامٍ لا خَلاَق لَهُم، ومعنى ذلك على وجوهٍ.
437
أحدها: أنّه لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يَتُوب.
الثاني: لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يَعْفُوا الله عنهُ.
والثالث: لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأَلَ الله - تعالى - لآخرته، وكذلك لا خلاق لمن أخذ مالاً بيمِينٍ فاجرةٍ، كَخلاق من تورَّع عن ذلك؛ ونظير هذه الآيةِ قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: ٢٠].
قوله تعالى: ﴿فِي الآخرة حَسَنَةً﴾ [البقرة: ٢٠١] يجوز في الجارِّ وجهان.
أحدهما: أن يتعلَّق ب «آتنا» كالذي قبله.
والثاني: أجازه أبو البقاء أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حالٌ من «حَسَنَةٌ» ؛ لأنه كان في الأصل صفةً لها، فلما قُدِّم عليها، انتصَبَ حالاً.
قوله: ﴿وَفِي الآخرة حَسَنَةً﴾ هذه الواوُ عاطفةٌ شيئَيْن على شيئَيْن متقدِّمَيْن ف «في الآخِرةِ» عطفٌ على «في الدُّنْيَا» بإعادةِ العاملِ، و «حَسَنَةٌ» عطفٌ على «حَسَنَةً»، والواو تَعْطِفُ شيئين فأكثرَ، على شيئين فأكثرَ؛ تقول: «أَعْلَمَ اللَّهُ زَيْداً عَمْراً فَاضِلاً، وَبَكْراً خَالِداً صَالِحاً»، اللهم إلا أن تنوبَ عن عاملين، ففيها خلافٌ وتفصيلٌ يأتي في موضعِه - إنْ شاء الله -، وليس هذا كما زعم بعضُهُم: أنه من بابِ الفصْلِ بين حرفِ العطفِ وهو على حرفٍ واحد، وبين المعطوفِ بالجارِّ والمجرور، وجعله دليلاً على أبي عليٍّ الفارسيِّ؛ حيثُ منع ذلك إلا في ضَرَورةٍ؛ لأن هذا من باب عَطْفِ شيئين على شيئين؛ كما ذكرتُ لك، لا من باب الفصلِ، ومحلُّ الخلافِ إنما هو نحو: «أَكْرَمْتُ زَيْداً وَعِنْدَك عَمْراً»، وإنما يُرَدُّ على أبي عَليٍّ بقولِه: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل﴾ [النساء: ٥٨] وقوله تعالى: ﴿الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ١٢].

فصل


ذكر المفسِّرُون في الحُسْنَيين وجوهاً:
قال عليٌّ بن أبي طالب: في الدُّنيا امرأة صالحة، وفي الآخِرَة الجنَّة؛ رُوِي عن رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ أنه قال: الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ.
438
وقال الحسن: في الدُّنيا حَسَنَة العلم والعِبَادةً، وفي الآخِرَة: الجَنَّة والنظر.
روى الضحّاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ «أنّ رجلاً دَعَا ربَّه فقال:» رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَاَ النَّارِ «فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» ما أَعْلَمُ أنّ هذا الرَّجُل سأَلَ الله شَيْئاً من أمر الدُّنْيَا «، فقال بَعْضُ الصحابة: بَلَى يا رسُول الله إنّه قال:» ربَّنّا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة «، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» إنّه يَقُول ربَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا عملاً صَالِحاً «
وقال السُّدِّيُّ وابن حيان: في الدُّنْيَا رِزْقاً حَلاَلاً وعَمَلاً صَالِحاً، وفي الآخرة المَغْفِرة والثَّوَاب.
وقال عوف: من آتاهُ الله الإِسْلام والقُرْآن وأَهْلاً ومالاً، فقد أُوتِي في الدُّنْيا حَسَنَة وفي الآخِرة حسَنَة.
وقيل: الحَسَنة في الدُّنْيا الصِّحَة والأَمن، والكفاية، والولد الصَّالِح، والزَّوجَة الصَّالحة، والنُّصْرة على الأَعْداء؛ لأن اللَّهَ تعالى سمَّى الخَصْب والسَّعَة في الرِّزق حسَنة؛ فقال: ﴿إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ [التوبة: ٥٠].
وقيل في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين﴾ [التوبة: ٥٢] أنهما الظَّفَر والنُّصْرة، وأمّا الحَسَنةُ في الآخِرة فهي الفوز بالثَّواب والخلاص من العِقاب.
وقال قتادة: هو طَلَبُ العافية في الدَّارَيْن.
وبالجُمْلة فهذا الدُّعاء جامِعٌ لجميع مطالب الدُّنْيَا والآخرة؛ روى ثابتٌ؛ أنَّهم قالوا لأَنس: ادع لنا، فقال: «اللَّهُ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخِرَة حَسَنَة وقِنا عَذَاب النَّار»
قالوا: زدنا، فأعادها، قالوا: دزنا، قال: ما تُرِيدون؛ قد سأَلتُ لك خير الدُّنيا والآخرة.
وعن أنس؛ قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُكْثِر أن يَقُول: «رَبَّنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخرة حَسَنةً وقِنا عذاب النَّارِ»
439
وعن عبد الله بن السَّائِب؛ أنّه سمع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقُول فيما بين رُكْن بني جمح والرُّكن الأَسود «رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنَة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»

فصل


قال ابن الخطيب: اعلم أن مَنْشأ البَحث في الآية الكريمة أنّه لو قِيلَ: آتِنا في الدنيا الحَسَنَة وفي الآخِرة الحَسَنة، لكان ذلك مُتَنَاوِلاً لكل الحَسَناتِ، ولكنه قال: «آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَة حَسَنَةً»، وهذا نَكِرَة في محلِّ الإثبَاتِ، فلا يتنَاول إلاّ حَسَنةً واحِدَة؛ فلذلك اخْتَلف المُفَسِّرون، فكل واحد منهم حَمَل اللَّفظ على ما رآه أَحْسَن أَنْوَاع الحَسَنة، وهذا بناء منه على أنّ الفَرْد المُعَرَّف بالأَلف واللاَّم يَعمُّ، وقد اختار في «المَحْصُول» خلافه.
440
ثم قال: فإن قيل: أليس أنّه لو قيل: آتِنَا الحَسَنة في الدُّنيا والحَسَنة في الآخِرَة، لكان مُتَنَاوِلا لكلِّ الأقْسَام، فلم تَرَك ذلك وذكره مُنكِّراً؟
وأجاب بأن قال: إنّ بَيَّنَّا أنّه ليس للدَّاعِي أن يَقُول: اللهم أَعْطِني كَذَا وكَذَا، بل يجب أن يقول: اللَّهُم إن كان كّذَا مَصْلَحَةً لي، وموافِقاً لقَضَائِك وقَدَرِك، فأَعْطِني
441
ذَلِك، فلو قال: اللهم أَعْطِني الحَسَنَة في الدُّنْيَا، لكان ذلك جَزْماً، وقد بَيَّنَّا أنّه غير جَائِز، فلمّا ذكَرَه على سبيل التَّنْكِير، كان المراد منه حَسَنَة واحدة، وهي التي تُوَافِقُ قَضَاءَه وقدَرضه، وكان ذلك أحسن وأقْرَب إلى رعايته الأَدَب.
وقوله: «فِنَا» : ممَّا حُذِفَ منه فأؤُه ولامُه من وَقَى يقي وِقَايةً، أمَّا حذفُ فائه، فبالحَمْلِ على المضارع؛ لوقوع الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ كما حُذِفَت يقي ويَشي مثل بعد، هذا قول البصريِّين، وقال الكُوفِيُّون: حُذِفت فرقاً اللازم والمُتَعدِّي.
قال محمَّد بن زيد: وهذا خطأ؛ لأن العرب تقول: وَرِمَ يَرِمُ، فيحذفون الواو وأمَّا حذفُ لامِهِ؛ فلأنَّ الأمر جارٍ مَجْرَى المضارع المجزوم، وجزمِه بحذفِ حرفِ العلةِ؛ فكذلك الأمرُ منه، فوزن «قِنَا» حينئذ: عِنَا، والأصل: اوْقِنَا، فلمَّا حُذِفَت الفاءُ اسْتُغُنِي عن همزةِ الوصل، فَحُذِفَتْ، و «عَذَابَ» مفعولٌ ثانٍ.
قوله تعالى: «أُولَئِكَ» مبتدأ و «لَهُمْ» خبرٌ مقدم، و «نَصِيب» مبتدأ، وهذه الجملةُ خَبرُ الأولِ، ويجوز أن يكونَ «لَهُمْ» خبرَ «أولئك»، و «نَصِيب» فاعلٌ به؛ لما تضمنَّه من معنى الفعلِ لاعتمادِه، والمشارُ إليه ب «أُولئكَ» فيه قولان:
أظهرهُما: أنهما الفريقان: طالبُ الدنيا وحدَها وطالبُ الدنيا والآخرة، وقيل: بَلْ لِطَالب الدنيا والآخرة؛ لأنه - تعالى - ذكر حكم الفريق الأَوَّل؛ حيث قال: ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ﴾.
قوله: ﴿مِّمَّا كَسَبُواْ﴾ متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل «نَصِيب»، فهو في محلِّ رفعٍ، وفي «مِنْ» ثلاثةُ أقوال:
أحدُها: أنها للتبعيض، أي: نصيب من جِنْس ما كسبوا.
والثاني: أنها للسببيةِ، أي: مِنْ أَجْلِ ما كَسَبُوا.
والثالث: أنها للبيان.

فصل


قال ابن عَبَّاس في قوله: ﴿أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ﴾ : هو الرَّجُل يأخُذُ مالاً يَحُجُّ به مِنْ غيره؛ فيكون له ثَوَابٌ.
و «ما» يجوزُ فيها وجهان: أن تكونَ مصدريةً، أي: مِنْ كَسْبِهِمْ؛ فلا تحتاجُ إلى عائدٍ.
والثاني: أنها بمعنى «الَّذِي»، فالعائدُ محذوفٌ؛ لاستكمال الشروط، أي: مِنض الذي كَسَبُوه.
و «الكَسْبُ» : يُطلق على ما يَنَالهُ العَبْد بعمله، بشرط أن يكُونَ لجرِّ مَنْفَعةٍ، أو دفع مضرَّة.
442
قوله: ﴿واللهُ سَرِيعُ الحساب﴾ السَّريع فاعل من السُّرْعة قال ابن السِّكِّيت: سَرُعَ يَسْرُع سَرْعاً وسُرْعَة، فهو سَرِيعٌ؛ مثل عَظُم يَعْظُم.
و «الحِسَاب» مصدر كالمُحَاسَبَة، ومَعْنى الحساب في اللُّغةِ: العدُّ؛ قال حَسَب يَحْسُبُ حِساباً وحسبَة وحَسْباً إذا عَدّ ذكره الليث وابن السِّكِّيت، والحَسْب ما عُدَّ؛ ومنه حَسَبُ الرَّجُل: وهو ما يُعَدُّ من مآثِرِه ومَفَاخِرِه، والمعنى أنّ الله سريع الحساب، لا يَحْتَاج إلى عَدٍّ ولا إلى عَقدٍ كما يَفْعَلُه الحسَّابُ، والاحْتِسَاب: الاعتِدَاد بالشَّيْء.
وقال الزّجَّاج: الحِسَاب في اللُّغة مأخوذٌ من قَوْلهم: «حَسْبُك كذا»، أي: كَفَاك، فسُمِّي الحِسَابُ في المُعَامَلات حِسَاباً؛ لأنّه يُعلم به ما فيه كِفَايَة، وليس فيه زِيَادة على المِقْدَار ولا نُقْصَان.
وقيل: ﴿والله سَرِيعُ الحساب﴾ قال الحَسَن: أسْرَع مِنْ لَمْحِ البَصَر.
وقيل: إتْيَان القِيَامة قريبٌ؛ لأن ما هو أتٍ لا مَحَالَة قَرِيب؛ قال - تعالى - ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ﴾ [الشورى: ١٧].
وقيل: سريع الحساب، أي: سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم؛ لأنّه - تعالى - في الوقت الواحد يسأله السَّائلون، كلُّ واحدٍ منهم أشياء مختلفة من أمور الدُّنيا والآخرة، فيعطي كلَّ واحد مطلوبه من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك.

فصل في أن الله هو المحاسب


اختلف الناس في معنى كونه - تعالى - محاسباً للخلق على وجوه:
أحدها: أنّ معنى الحساب: أنّه - تعالى - يعلِّمهم ما لهم و [ما] عليهم، بمعنى أنّه يخلق علوماً ضروريّة في قلوبهم، بمقادير أعمالهم وكمِّيَّاتها وكيفيَّاتها، ومقادير ما لهم من الثَّواب والعقاب.
قالوا: ووجه المجاز فيه أنّ الحساب سبب لحصول علم الإنسان بمال له و [ما] عليه، فإطلاق اسم الحساب على هذا الإعلام يكون من باب إطلاق اسم السَّبب على المسبِّب، وهو مجاز مشهورٌ.
ونقل عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنّه قال: لا حساب على الخلق، بل يقفون بين يدي الله - تعالى -، يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم، فيقال لهم: هذه سيِّئاتكم قد تجاوزت عنها، ثم يعطون حسناتهم، ويقال لهم: هذه حسناتكم قد ضاعفتها لكم.
443
الثاني: لأنّ المحاسبة عبارة عن المجازاة؛ قال - تبارك وتعالى - ﴿وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً﴾ [الطلاق: ٨]، ووجه المجاز: أنَّ الحساب سبب للأخذ والعطاء، وإطلاق اسم السَّبب على المسبّب جائزٌ؛ فحسن إطلاق لفظ الحساب على المجازاة.
الثالث: أنّه تتعالى يكلِّم العباد في أحوال أعمالهم، وكيفيَّة ما لها من الثّضواب والعقاب، فمن قال: إن كلامه ليس بحرف ولا صوتٍ، قال: إنّه تعالى يخلق في أذن المكلَّف سمعاً يسمع به كلامه القديم؛ كما أنّه يخلق في عينيه رؤية يرى بها ذاته القديمة، ومن قال: إنه صوت، قال: إنّه - تعالى - يخلق كلاماً يسمعه كلُّ مكلَّف، إمّا بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كلِّ واحدٍ منهم، أو في جسم يقرب من أذنه، بحيث لا تبلغ قوَّة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلِّف به، والله أعلم.
444
قوله تعالى :﴿ فِي الدنيا حَسَنَةً ﴾ [ البقرة : ٢٠١ ] يجوز في الجارِّ وجهان.
أحدهما : أن يتعلَّق ب " آتنا " كالذي قبله.
والثاني : أجازه أبو البقاء٢٤ أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حالٌ من " حَسَنَةٌ " ؛ لأنه كان في الأصل صفةً لها، فلما قُدِّم عليها، انتصَبَ حالاً.
قوله :﴿ وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾ هذه الواوُ عاطفةٌ شيئَيْن على شيئَيْن متقدِّمَيْن ف " في الآخِرةِ " عطفٌ على " في الدُّنْيَا " بإعادةِ العاملِ، و " حَسَنَةً " عطفٌ على " حَسَنَةً "، والواو تَعْطِفُ شيئين فأكثرَ، على شيئين فأكثرَ ؛ تقول :" أَعْلَمَ اللَّهُ زَيْداً عَمْراً فَاضِلاً، وَبَكْراً خَالِداً صَالِحاً "، اللهم إلا أن تنوبَ عن عاملين، ففيها خلافٌ وتفصيلٌ يأتي في موضعِه - إنْ شاء الله -، وليس هذا كما زعم بعضُهُم : أنه من بابِ الفصْلِ بين حرفِ العطفِ وهو على حرفٍ واحد، وبين المعطوفِ بالجارِّ والمجرور، وجعله دليلاً على أبي عليٍّ الفارسيِّ ؛ حيثُ منع ذلك إلا في ضَرَورةٍ ؛ لأن هذا من باب عَطْفِ شيئين على شيئين ؛ كما ذكرتُ لك، لا من باب الفصلِ، ومحلُّ الخلافِ إنما هو نحو :" أَكْرَمْتُ زَيْداً وَعِنْدَك عَمْراً "، وإنما يُرَدُّ على أبي عَليٍّ بقولِه :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ﴾ [ النساء : ٥٨ ] وقوله تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾
[ الطلاق : ١٢ ].

فصل


ذكر المفسِّرُون في الحُسْنَيين وجوهاً :
قال عليٌّ بن أبي طالب : في الدُّنيا امرأة صالحة، وفي الآخِرَة الجنَّة٢٥ ؛ رُوِي عن رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ أنه قال : الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ٢٦.
وقال الحسن٢٧ : في الدُّنيا حَسَنَة العلم والعِبَادةً، وفي الآخِرَة : الجَنَّة والنظر.
روى الضحّاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ؛ " أنّ رجلاً دَعَا ربَّه فقال :" رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَاَب النَّارِ " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :" ما أَعْلَمُ أنّ هذا الرَّجُل سأَلَ الله شَيْئاً من أمر الدُّنْيَا "، فقال بَعْضُ الصحابة : بَلَى يا رسُول الله إنّه قال :" ربَّنّا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة "، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" إنّه يَقُول ربَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا عملاً صَالِحاً ٢٨ ".
وقال السُّدِّيُّ وابن حيان : في الدُّنْيَا رِزْقاً حَلاَلاً وعَمَلاً صَالِحاً، وفي الآخرة المَغْفِرة والثَّوَاب٢٩.
وقال عوف : من آتاهُ الله الإِسْلام والقُرْآن وأَهْلاً ومالاً، فقد أُوتِي في الدُّنْيا حَسَنَة وفي الآخِرة حسَنَة٣٠.
وقيل : الحَسَنة في الدُّنْيا الصِّحَة والأَمن، والكفاية، والولد الصَّالِح، والزَّوجَة الصَّالحة، والنُّصْرة على الأَعْداء ؛ لأن اللَّهَ تعالى سمَّى الخَصْب والسَّعَة في الرِّزق حسَنة ؛ فقال :﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ﴾ [ التوبة : ٥٠ ].
وقيل في قوله تعالى :﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ﴾
[ التوبة : ٥٢ ] أنهما الظَّفَر والنُّصْرة، وأمّا الحَسَنةُ في الآخِرة فهي الفوز بالثَّواب والخلاص من العِقاب.
وقال قتادة : هو طَلَبُ العافية في الدَّارَيْن٣١.
وبالجُمْلة فهذا الدُّعاء جامِعٌ لجميع مطالب الدُّنْيَا والآخرة ؛ روى ثابتٌ ؛ أنَّهم قالوا لأَنس : ادع لنا، فقال :" اللَّهُم آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخِرَة حَسَنَة وقِنا عَذَاب النَّار " قالوا : زدنا، فأعادها، قالوا : زدنا، قال : ما تُرِيدون ؛ قد سأَلتُ لك خير الدُّنيا والآخرة٣٢.
وعن أنس ؛ قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِر أن يَقُول :" رَبَّنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخرة حَسَنةً وقِنا عذاب النَّارِ " ٣٣.
وعن عبد الله بن السَّائِب ؛ أنّه سمع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقُول فيما بين رُكْن بني جمح والرُّكن الأَسود " رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنَة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " ٣٤.

فصل


قال ابن الخطيب٣٥ : اعلم أن مَنْشأ البَحث في الآية الكريمة أنّه لو قِيلَ : آتِنا في الدنيا الحَسَنَة وفي الآخِرة الحَسَنة، لكان ذلك مُتَنَاوِلاً لكل الحَسَناتِ، ولكنه قال :" آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَة حَسَنَةً "، وهذا نَكِرَة في محلِّ الإثبَاتِ، فلا يتنَاول إلاّ حَسَنةً واحِدَة ؛ فلذلك اخْتَلف المُفَسِّرون، فكل واحد منهم حَمَل اللَّفظ على ما رآه أَحْسَن أَنْوَاع الحَسَنة، وهذا بناء منه على أنّ الفَرْد المُعَرَّف بالأَلف واللاَّم يَعمُّ٣٦، وقد اختار في " المَحْصُول " خلافه.
ثم قال : فإن قيل : أليس أنّه لو قيل : آتِنَا الحَسَنة في الدُّنيا والحَسَنة في الآخِرَة، لكان مُتَنَاوِلا لكلِّ الأقْسَام، فلم تَرَك ذلك وذكره مُنكَّراً ؟
وأجاب٣٧ بأن قال : إنّا بَيَّنَّا أنّه ليس للدَّاعِي أن يَقُول : اللهم أَعْطِني كَذَا وكَذَا، بل يجب أن يقول : اللَّهُم إن كان كّذَا مَصْلَحَةً لي، وموافِقاً لقَضَائِك وقَدَرِك، فأَعْطِني ذَلِك، فلو قال : اللهم أَعْطِني الحَسَنَة في الدُّنْيَا، لكان ذلك جَزْماً، وقد بَيَّنَّا أنّه غير جَائِز، فلمّا ذكَرَه على سبيل التَّنْكِير، كان المراد منه حَسَنَة واحدة، وهي التي تُوَافِقُ قَضَاءَه وقدَرَه، وكان ذلك أحسن وأقْرَب إلى رعايته الأَدَب.
وقوله :" قِنَا " : ممَّا حُذِفَ منه فاؤُه ولامُه من وَقَى يقي وِقَايةً، أمَّا حذفُ فائه، فبالحَمْلِ على المضارع ؛ لوقوع الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ كما حُذِفَت يقي ويَشي مثل بعد، هذا قول البصريِّين، وقال الكُوفِيُّون : حُذِفت فرقاً بين اللازم والمُتَعدِّي.
قال محمَّد بن زيد : وهذا خطأ ؛ لأن العرب تقول : وَرِمَ يَرِمُ، فيحذفون الواو وأمَّا حذفُ لامِهِ ؛ فلأنَّ الأمر جارٍ مَجْرَى المضارع المجزوم، وجزمِه بحذفِ حرفِ العلةِ ؛ فكذلك الأمرُ منه، فوزن " قِنَا " حينئذ : عِنَا، والأصل : اوْقِنَا، فلمَّا حُذِفَت الفاءُ اسْتُغُنِي عن همزةِ الوصل، فَحُذِفَتْ، و " عَذَابَ " مفعولٌ ثانٍ.
قوله تعالى :" أُولَئِكَ " مبتدأ و " لَهُمْ " خبرٌ مقدم، و " نَصِيب " مبتدأ، وهذه الجملةُ خَبرُ الأولِ، ويجوز أن يكونَ " لَهُمْ " خبرَ " أولئك "، و " نَصِيب " فاعلٌ به ؛ لما تضمَّنه من معنى الفعلِ لاعتمادِه، والمشارُ إليه ب " أُولئكَ " فيه قولان :
أظهرهُما : أنهما الفريقان : طالبُ الدنيا وحدَها وطالبُ الدنيا والآخرة، وقيل : بَلْ لِطَالب الدنيا والآخرة ؛ لأنه - تعالى - ذكر حكم الفريق الأَوَّل ؛ حيث قال :﴿ وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾.
قوله :﴿ مِمَّا كَسَبُواْ ﴾ متعلِّقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنه صفةٌ ل " نَصِيب "، فهو في محلِّ رفعٍ، وفي " مِنْ " ثلاثةُ أقوال :
أحدُها : أنها للتبعيض، أي : نصيب من جِنْس ما كسبوا.
والثاني : أنها للسببيةِ، أي : مِنْ أَجْلِ ما كَسَبُوا.
والثالث : أنها للبيان.

فصل


قال ابن عَبَّاس في قوله :﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾ : هو الرَّجُل يأخُذُ مالاً يَحُجُّ به مِنْ غيره ؛ فيكون له ثَوَابٌ.
و " ما " يجوزُ فيها وجهان : أن تكونَ مصدريةً، أي : مِنْ كَسْبِهِمْ ؛ فلا تحتاجُ إلى عائدٍ.
والثاني : أنها بمعنى " الَّذِي "، فالعائدُ محذوفٌ ؛ لاستكمال الشروط، أي : مِنَ الذي كَسَبُوه.
و " الكَسْبُ " : يُطلق على ما يَنَالهُ العَبْد بعمله، بشرط أن يكُونَ لجرِّ مَنْفَعةٍ، أو دفع مضرَّة.
قوله :﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ السَّرِيع فاعل من السُّرْعة قال ابن السِّكِّيت٣٨ : سَرُعَ يَسْرُع سَرْعاً وسُرْعَة، فهو سَرِيعٌ ؛ مثل عَظُم يَعْظُم.
و " الحِسَاب " مصدر كالمُحَاسَبَة، ومَعْنى الحساب في اللُّغةِ : العدُّ ؛ قال حَسَبَ يَحْسُبُ حِساباً وحسبَة وحَسْباً إذا عَدّ ذكره الليث وابن السِّكِّيت٣٩، والحَسْب ما عُدَّ ؛ ومنه حَسَبُ الرَّجُل : وهو ما يُعَدُّ من مآثِرِه ومَفَاخِرِه، والمعنى أنّ الله سريع الحساب، لا يَحْتَاج إلى عَدٍّ ولا إلى عَقدٍ كما يَفْعَلُه الحسَّابُ، والاحْتِسَاب : الاعتِدَاد بالشَّيْء.
وقال الزّجَّاج٤٠ : الحِسَاب في اللُّغة مأخوذٌ من قَوْلهم :" حَسْبُك كذا "، أي : كَفَاك، فسُمِّي الحِسَابُ في المُعَامَلات حِسَاباً ؛ لأنّه يُعلم به ما فيه كِفَايَة، وليس فيه زِيَادة على المِقْدَار ولا نُقْصَان.
وقيل :﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ قال الحَسَن٤١ : أسْرَع مِنْ لَمْحِ البَصَر.
وقيل : إتْيَان القِيَامة قريبٌ ؛ لأن ما هو أتٍ لا مَحَالَة قَرِيب ؛ قال - تعالى - ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾ [ الشورى : ١٧ ].
وقيل : سريع الحساب، أي : سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم ؛ لأنّه - تعالى - في الوقت الواحد يسأله السَّائلون، كلُّ واحدٍ منهم أشياء مختلفة من أمور الدُّنيا والآخرة، فيعطي كلَّ واحد مطلوبه من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك.

فصل في أن الله هو المحاسب


اختلف الناس في معنى كونه - تعالى - محاسباً للخلق على وجوه :
أحدها : أنّ معنى الحساب : أنّه - تعالى - يعلِّمهم ما لهم و [ ما ] عليهم، بمعنى أنّه يخلق علوماً ضروريّة في قلوبهم، بمقادير أعمالهم وكمِّيَّتها وكيفيَّاتها، ومقادير ما لهم من الثَّواب والعقاب.
قالوا : ووجه المجاز فيه أنّ الحساب سبب لحصول علم الإنسان بما له و [ ما ] عليه، فإطلاق اسم الحساب على هذا الإعلام يكون من باب إطلاق اسم السَّبب على المسبِّب، وهو مجاز مشهورٌ.
ونقل عن ابن عباس٤٢ - رضي الله عنهما - أنّه قال : لا حساب على الخلق، بل يقفون بين يدي الله - تعالى -، يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم، فيقال لهم : هذه سيِّئاتكم قد تجاوزت عنها، ثم يعطون حسناتهم، ويقال لهم : هذه حسناتكم قد ضاعفتها لكم.
الثاني : أنّ المحاسبة عبارة عن المجازاة ؛ قال - تبارك وتعالى -
﴿ وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً ﴾ [ الطلاق : ٨ ]، ووجه المجاز : أنَّ الحساب سبب للأخذ والعطاء، وإطلاق اسم السَّبب على المسبّب جائزٌ ؛ فحسن إطلاق لفظ الحساب على المجازاة.
الثالث : أنّه تعالى يكلِّم العباد في أحوال أعمالهم، وكيفيَّة ما لها من الثَّواب والعقاب، فمن قال : إن كلامه ليس بحرف ولا صوتٍ، قال : إنّه تعالى يخلق في أذن المكلَّف سمعاً يسمع به كلامه القديم ؛ كما أنّه يخلق في عينيه رؤية يرى بها ذاته القديمة، ومن قال : إنه صوت، قال : إنّه - تعالى - يخلق كلاماً يسمعه كلُّ مكلَّف، إمّا بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كلِّ واحدٍ منهم، أو في جسم يقرب من أذنه، بحيث لا تبلغ قوَّة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلِّف به، والله أعلم.
قوله: ﴿مَعْدُودَاتٍ «: صفة لأيام، وقد تقدَّم أن صفة ما لا يعقل يطَّرد جمعها بالألف والتاء، وقد ذكر أبو البقاء هنا سؤالاً؛ فقال: إن قيل» الأيَّام «واحدها» يَوْم «و» المَعْدُودَات «واحدتها» مَعْدُودَةٌ «، واليوم لا يوصف بمعدودة، لأنَّ الصفة هنا مؤنثة، والموصوف مذكَّر، وإنما الوجه أن يقال:» أَيَامٌ مَعْدُودَةٌ «فتصف الجمع بالمؤنث، فالجواب أنه أجرى» مَعْدُودَاتٍ «، على لفظ» أَيَّام «، وقابل الجمع بالجمع مجازاص، والأصل» مَعْدُودَة «؛ كما قال: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠]، ولو قيل: إن الإيام تشتمل على السَّاعات، والساعة مؤنَّثة، فجاء الجمع على معنى ساعات الأيَّام، وفيه تنبيه على الأمر بالذِّكر في كلِّ ساعات هذه الأيام، أو في معظمها، لكان جواباً سديداً، ونظير ذلك الشهر والصَّيف والشتاء؛ فإنها يجاب بها عن» كَمْ «، و» كَمْ «إنما يجاب عنها بالعدد، وألفاظ هذه الأشياء ليست عدداً، وإنما هي أسماء المعدودات، فكانت جواباً من هذا الوجه. قال شهاب الدين وهذا تطويل من غير فائدةٍ، وقوله» مفرد معدوداتٍ معودةٌ بالتأنيث «ممنوعٌ، بل مفردها» مَعْدُود «بالتذكير، ولا يضرُّ جمعه بالألف والتاء، إذ الجمع بالألف والتاء لا يستدعي تأنيث المفرد؛ ألا ترى إلى قولهم: حمَّمات وسجلاَّات وسرادقات.
444
قال الكوفيُّون: الألف والتَّاء في» مَعْدُودَاتٍ «لأقلِّ العدد.
وقال البصريُّون: هما للقليل والكثير؛ بدليل قوله تعالى: ﴿وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ﴾ [سبأ: ٣٧] والغرفات كثيرة.

فصل


اعلم أنّ الله - تعالى - لمّا ذكر المشعر الحرام، لم يذكر الرَّمي لوجهين:
أحدهما: أنّ ذلك كان أمراً مشهوراً عندهم، وكانوا منكرين لذلك إلاّ أنّه - تعالى - ذكر ما فيه من ذكر الله - تعالى -؛ لأنهم كانوا لا يفعلونه.
الثاني: لعلَّه إنما لم يذكر الرَّمي؛ لأن في الأمر بذكر الله في هذه الأيَّام دليلاً عليه؛ إذ كان من سنَّته التكبير على كلِّ حصاةٍ.

فصل


قال هنا: ي أيَّام معدوداتٍ، وفي سورة الحجِّ: ﴿وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: ٢٨]، فقال أكثر أهل العلم، الأيَّام المعلومات: عشر ذي الحجَّة، آخرهن يوم النَّحر.
والمعدودات: هي أيَّام التَّشريق؛ وهي أيَّام منى، ورمي الجمار، وسمِّيت معدودات لقلَّتهن؛ كقوله: ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ [يوسف: ٢٠] ولقوله تعالى بعده: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، وأجمعت الأمَّة على أنّ هذا الحكم إنّما يثبت في أيَّام منى؛ وهي أيَّام التَّشريق.
قال الواحديّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أيَّام التَّشريق ثلاثة أيَّام بعد يوم النَّحر:
أولها: يوم النَّفر؛ وهو الحادي عشر من ذي الحجَّة، يستقرُّ النَّاس فيه بمنًى.
والثاني: يوم النَّفر الأول؛ لأن بعض النَّاس ينفرون في هذا اليوم من منًى.
والثَّالث: يوم النَّفر الثَّاني: وهي الأيّام الثّلاثة مع يوم النَّحر كلُّها أيَّام النَّحر، وعند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عند آخر وقت النَّحر إلى يومين من أيَّام التَّشريق، وأيّام التَّشريق مع يوم النَّحر أيام رمي الجمار؛ وأيّام التكبير أدبار الصَّلوات.
واستدلَّ القفَّال على أنّ الأيَّام المعدودات هي أيَّام التَّشريق بما روى عبد الرَّحمن بن يعمر الدئلي؛ أنّ رسول الله صلى الله عيله وسلم أمر منادياً فنادى، «الحَجُّ عَرَفَةُ، من جَاء لَيْلَة جمْعٍ قبل
445
طُلُوعِ الفَجْرِ، فقد أدرك الحجَّ، وأيّام منىً ثلاثَة أيّام، فمن تَعَجَّل في يَوْمَيْن فلا إثْمَ عَلَيْه، ومن تَأَخَّر فلا إثْمَ عَلَيْه، وهذا يدلُّ على أنّ الأيَّام المعدودات هي أيَّام التَّشريق.
وروي عن ابن عبَّاس:» المَعْلُومَات «يوم النَّحر ويومان بعده، و» المَعْدُودَات «أيام التَّشريق.
وعن عليه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال:»
المَعْلُومَات يوم النَّحْرِ وثَلاَثَةَ بَعْدَه «.
وروى عطاء عن ابن عباس:»
المَعْلُمات يوم عَرَفَة والنَّحْر وأيّام التَّشْرِيق «.
وقال محمد بن كعب: هما شيء واحد، وهي أيَّام التَّشريق، وروي عن نبيشة الهذلي؛ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
أيَّام التَّشْرِيق أيّام أَكْلِ وشُرْبٍ وذِكْرِ اللَّهِ، ومن الذِّكْر في أيَّام التَّشْرِيقِ التكْبِير «

فصل


اعلم أنّ المراد بالذكر في هذه الأيَّام: التكبير عند رمي الجمرات، وأدبار الصلوات.
وروي عن عمر، وعبد الله بن عمر؛ أنّهما كانا يكبِّران بمنًى تلك الأيّام خلف
446
الصَّلوات، وفي المجلس، وعلى الفراش والفسطاط، وفي الطَّريق، ويكبِّر النَّاس بتكبيرهما، ويتلوان هذه الآية.
وذهب الجمهور إلى أنّ التكبير عقيب الصَّلوات مختصٌّ بعيد الأضحى، [في حق الحاجِّ وغيره.
وذهب أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنّه يستحبُّ التكبير ليلة العيدين]. واختلفوا في ابتدائه وانتهائه.
فقال مالك الشَّافعي: يكبِّر المحرم وغيره عقيب الصَّلوات، من صلاة الظُّهر من يوم النَّحر، إلى بعد صلاة الصُّبح من آخر أيَّام التَّشريق، وهو قول ابن عبَّاس، وابن عمر؛ لأن التكبير إنَّما ورد في حقِّ الحاجِّ والنَّاس تبعٌ لهم، وذكر الحاجِّ قبل هذا الوقت هو التَّلبية، وهي تنقطع مع ابتداء الرَّمي.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكبّر المحرم من صلاة الظُّهر يوم النَّحر إلى آخر أيَّام التَّشريق، روي ذلك عن علي وبه قال مكحول وأبو يوسفٌ، وروي هذا القول عن بعضهم في حقّ المحرم أيضاً، روي عن علي وعمر وابن مسعود وابن عبَّاس.
وقال أبو حنيفة: يكبر المحرم وغيره من صلاة الصُّبح يوم عرفة، إلى بعد العصر يوم النَّحر، روى ذلك عن ابن مسعود وعلقمة والأسود والنَّخعي.
وللشافعي قول آخر: أنّه يبتدئ من صلاة المغرب ليلة النَّحر، إلى صلاة الصُّبح من آخر أيام التَّشريق، وله قول ثالث: أنّه يبتدئ من صلاة الصُّبح يوم عرفة إلى العصر من يوم النَّحر؛ وهو كقول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
فإن قيل: التكبير مضاف إلى الأيَّام المعدودات وهي أيّام التَّشريق، فينبغي ألاَّ تكون مشروعةً يوم عرفة.
فالجواب: أنّ هذا يقتضي ألاَّ يكون يوم النَّحر داخلاً فيها وهو خلاف الإجماع.
وصفة التكبير عند أهل العراق شفعاً: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، روي ذلك عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وهو قول أحمد.
وقال أهل المدينة: صفة التكبير: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثاً نسقاً، وهو قول سعيد بن جبير والحسن، وبه قال مالك والشَّافعي وأبو حنيفة، ويقول بعده: لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
قوله تعالى: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ «مَنْ» يجوز فيها وجهان:
447
أحدهما: أن تكون شرطيةٌ، ف «تَعَجَّلَ» في محلِّ جزمٍ، والفاء في قوله: «فَلاَ» جواب الشرط والفاء وما في حَيِّزها في محلِّ جزم أيضاً على الجواب.
والثاني: أنها موصولة ب «تَعَجَّلَ» فلا محلَّ ل «تَعَجَّلَ» ؛ لوقوعه صلةً، ولفظه ماضٍ، ومعناه يحتمل المضيَّ والاستقبال؛ لأنَّ كلَّ ما وقع صلةً، فهذا حكمه؛ والفاء في «فَلاَ» زائدة في الخبر، وهي وما بعدها في محلِّ رفع خبراً للمبتدأ.
قال القرطبي: «مَنْ» في قوله: «فَمَنْ تَعَجَّلَ» رفع بالابتداء، والخبر «فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ»، ويجوز في غير القرآن، فلا إثْمَ عَلَيْهِم؛ لأن معنى «مَنْ» جماعة؛ كقوله - تبارك وتعالى -: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ [يونس: ٤٢]، وكذلك «مَنْ تأَخَّرَ».
و «في يَوْمَيْنٍ» متعلِّق ب «تَعَجَّلَ» ولا بدَّ من ارتكاب مجازٍ؛ لأن الفعل الواقع في الظرف المعدود يستلزم أن يكون واقعاً في كلٍّ من معدوداته، تقول: «سِرْتُ يَوْمَيْنِ» لا بد وأن يكون السير وقع في الأول والثاني وبعض الثاني، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجهٍ، ووجه المجاز: إمَّا من حيث إنَّه نسب الواقع في أحدهما واقعاً فيها؛ كقوله: ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ [الكهف: ٦١] و ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢]، والنَّاسي أحدهما: وكذلك المخرج من أحدهما، وإمَّا من حيث حذف مضاف، أي: في تمام يومين أو كمالهما.
و «تَعَجَّلَ» يجوز أن يكون بمعنى «اسْتَعْجَلَ» ك «تَكَبَّرَ، واسْتَكْبَرَ»، أو مطاوعاً ل «عَجَّل» نحو «كَسَّرْتُه فَتَكَسَّرَ»، أو بمعنى المجرَّد، وهو «عِجِلَ»، قال الزمخشريُّ: «والمطاوعة أوفَقُ» ؛ لقوله: «ومَنْ تَأَخَّرَ» ؛ كما هي في قوله: [البسيط]
١٠٠٦ - قَدْ يُدْرِكُ الْمَتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ
لأجل قوله «المُتَأَنِّي». و «تَعَجَّلَ واسْتَعْجَلَ» يكونان لازمين ومتعدِّييثن، ومتعلِّق التعجيل محذوف، فيجوز أن تقدِّره مفعولاً صريحاً، أي: من تعجَّل النَّفر، وأن تقدِّره مجروراً أي: بالنَّفر، حسب استعماله لازماً ومتعدِّياً.
وفي هذه الآيات من علم البديع: الطباق، وهو ذكر الشيء وضده في «تَعَجَّل وتَأَخَّرَ»، فهو كقوله: ﴿أَضْحَكَ وأبكى﴾ [النجم: ٤٣] و ﴿أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾ [النجم: ٤٤]، وهذا طباقٌ غريب، من حيث جعل ضدَّ «تَعَجَّلَ» :«تَأَخَّرَ»، وإنما ضدُّ «تَعَجَّلَ» :«تَأَنَّى»، وضدُّ «تَأَخَّرَ» :«تقدَّم»، ولكنه في «تَعَجَّلَ» عبرَّ بالملزوم عن اللازم، وفي «تَأَخَّرَ» باللازم عن الملزوم، وفيها من علم البيان: المقابلة اللفظيَّة، وذلك أن المتأخِّر بالنَّفرات آتٍ بزيادة في العبادة، فله زيادة في الأجر على المتعجِّل، فقال في حقه أيضاً: «فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» ؛ ليقابل
448
قوله أولاً: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، فهو كقوله: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٩٤].
وذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً؛ فقال: قوله: «وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» فيه إشكالٌ؛ لأنه إذا كان قد استوفى كلَّ ما يلزمه في تمام الحجِّ، فما معنى قوله: «فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» فهذا اللَّفظ إنما يقال في حقِّ المقصِّر، وأجاب بوجوه:
أحدها: ما تقدَّم من المقابلة، ونقله عن الواحدي.
وثانيها: أنّه - تعالى - لما أذن في التَّعجيل على سبيل الرُّخصة، احتمل أن يخطر بالبال أنَّ من لم يترخَّص فإنه يأثم. كما قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: القصر عزيمة والإتمام غير واجب، ومذهب أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: القصر والفطر في السَّفر أفضل، فأزال الله - تعالى - هذه الشُّبهة، وبيَّن أنه لا إثم عليه في الأمرين، فإن شاء تعجَّل وإن شاء تأخَّر.
وثالثها: قال بعض المفسِّرين: إن منهم من كان يتعجَّل، ومنهم من كان يتأخَّر، وكل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله، ويقول: هو مخالفٌ لسنَّة الحجِّ، فبيَّن الله - تعالى - أنّه لا عيب على كلِّ واحد من الفريقين.
ورابعها: أنّ المعنى في إزالة الإثم عند المتأخِّر؛ إنما هو لمن زاد على مقام الثَّلاث؛ فكأنّه قيل: أيَّام منى التي ينبغي المقام فيها هي ثلاث، فمن نقَّص منها وتعجَّل في يومين، فلا إثم عليه، ومن زاد عليها فتأخَّر عن الثَّالث إلى الرَّابع؛ فلم ينفر مع النَّاس، فلا شيء عليه.
449
وخامسها: أنّه ذكر هذا الكلام؛ مبالغة في أن الحجَّ يكفِّر الذُّوب والآثام؛ كما إذا تناول الإنسان التّرياق فيقول له الطَّبيب: إن تناولت السُّمَّ فلا ضرر وإن لم تتناوله فلا ضرر، ومقصوده بيان أن التّرياق دواء كامل في دفع المضارِّن لا بيان أن تناول السُّمِّ وعدم تناوله يجريان مجرَى واحداً؛ فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحجِّ مكفرِّراً لكلِّ الذُّنوب؛ لأن التَّعجيل وتركه سيَّان؛ ومما يدلُّ على أن الحجَّ سبب قويٌّ في تكفير الذُّنوب قوله - عليه السّلام -
«مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَومِ وَلَدَتْهُ أُمّهُ»، وهنا قول عليٍّ وابن مسعود.

فصل


وقرأ الجمهور «فَلاَ إِثْمَ» بقطع الهمزة على الأصل، وقرأ سالم بن عبد الله: «فَلاَ اثْمَ» بوصلها وحذلف ألف لا، ووجهه أنه خفَّف الهمزة بين بين فقربت من الساكن، فحذفها؛ تشبيهاً بالألف، فالتقى ساكنان: ألف «لاَ» وثاء «إِثْم»، فحذفت ألف «لاَ»، لالتقاء الساكنين، وقال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «ووجهُها أنَّه لمَّا خَلَطَ الاسْمَ ب» لاَ «حَذَفَ الهمزة؛ تشبيهاً بالألف» يعني أنه لمَّا ركِّبت «لاَ» ن مع اسمها، صارا كالشيء الواحد، والهمزة شبيهة الألف، فكأنه اجتمع ألفان، فحذفت الثانية لذلك، ثم حذفت الألف لسكونها وسكون الثَّاء.

فصل


قال القرطبي: روى الثِّقات؛ أن النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر أمَّ سلمة أن تصبح بمكَّة يوم النَّحر، وكان يؤمُّها، وهذا يدلُّ على أنّها رمت الجمرة بمنًى قبل الفجر؛ لأن هذا لا يكون إلاّ وقد رمت الجمرة بمنى ليلاً قبل الفجر.
وروى أبو داود عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة؛ أنّها قالت: «أرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأمِّ سلمة ليلة يوم النَّحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندها». فإذا ثبت ذلك فالرَّمي باللَّيل جائز لمن فعله، والاختيار من طلوع الشَّمس إلى زوالها، وأجمعوا على أن من رماها قبل غروب الشَّمس من يوم النَّحر، فقد أجزأ ولا شيء عليه، إلا مالكاً؛ فإنه قال: يستحب له أن يهرقَ دماً.
450
واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشَّمس، ورماها من اللَّيل أو من الغد، هل يلزمه دم أم لا؟

فصل


المبيت بمنى ليلالي منى واجبٌ؛ لرمي الجمار في كلِّ يوم بعد الزَّوال إحدى وعشرين حصاةً، عند كل جمرة سبع حصيات، ويرخَّص في ترك المبيت لرعاء الإبل وأهل سقاية الحاجِّ، ثم من رمى اليوم الثاني من أيام التَّشريق، وأراد أن ينفر ويدع المبيت في اللَّيلة الثَّالية، ورمى يومها، فله ذلك؛ بشرط أن ينفر قبل غروب الشمس، فإن غربت الشمس وهو بمنى، لزمه المبيت بها والرَّمي من غد، هذا مذهب الشَّافعي وأحمدن وهو قول أكثر التَّابعين.
وقال أبو حنيفة: يجوز أن ينفر ما لم يطلع النحر؛ لن وقت الرَّمي لم يدخل.

فصل


إذا ترك الرَّمي، فذكره بعدما صدر وهو بمكَّة، بعدما خرج منها، فعليه الهدي، وسواء ترك الجمار كلَّها، أو جمرة منها، أو حصاةً من جمرة، حتى خرجت أيَّام منى فعليه دمٌ، وإن ترك جمرة واحدة، كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاعٍ، إلى أن يبلغ دماً، إلاَّ جمرة العقبة فعليه دمٌ.
451
وقال الأوزاعي: يتصدّق إن ترك حصاةً، وقال الثَّوري: يطعم في الحصاة والحصاتين والثلاث، فإن ترك أربعاً فعليه دمٌ، وقال اللَّيث: في الحصاة الواحدة دم، نقله القرطبي.

فصل


قال القرطبي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: من بقي في يده حصاة لا يدري من أيِّ الجمار هي، جعلها في الأولى ورمى بعدها الوسطى والآخرة، فإن طال، استأنف جميعاً.
قوله: «لِمَن اتَّقَى» هذا الجارُّ خبر مبتدأ محذوفٍ، واختلفوا في ذلك المبتدأ حسب اختلافهم في تعلُّق هذا الجار من جهة المعنى، لا الصناعة، فقيل: يتعلَّق من جهة المعنى بقوله: «فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» فتقدِّر له ما يليق به، أي: انتفاء الإثم لمن اتَّقى، وقيل: متعلِّقٌ بقوله: «وَاذْكُرُوا» أي: الذكر لمن اتقى، وقيل: متعلِّقٌ بقوله: «غَفُورٌ رَحِيمٌ»، أي المغفرة لمن اتَّقى، وقيل: التقدير: السلامة لمن اتَّقى، وقيل: التقدير: ذلك التخيير ونفي الإثم عن المستعجل والمتأخِّر؛ لأجل الحاجِّ المتَّقي؛ لئلاّ يتخالج في قلبه شيءٌ منها، فيحسب أنَّ أحدهما يرهق صاحبه إثماً في الإقدام عليه؛ لأنَّ ذا التقوى حذر متحرزٌ من كل ما يربيه، قيل: التقدير: ذلك الذي مرَّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى؛ لأنه هو المنتفع به دون غيره، كقوله: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَ الله﴾ [الروم: ٣٨]، قال هذين التقديرين الزمخشريُّ، وقال أبو البقاء: «تقديره: جواز التعجيل والتأخير لمن اتقى»، وكلُّها متقاربةٌ، ويجوز أن يكون «لِمَن اتَّقَى» في محلِّ نصب على أن اللام لام التعليل، ويتعلَّق بقوله «فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» أي: انتفى الإثم؛ لأجل المتَّقي، ومفعول: «اتَّقى» محذوف، أي: اتَّقى الله، وقد جاء مصرَّحاً به في مصحف عبد الله، وقيل: اتَّقى الصَّيد.

فصل


في هذه التَّقوى وجوه:
أحدهما: قال أبو العالية: ذهب أئمةٌ أن «اتَّقى» فيما بقي من عمره، ولا يتَّكل على ما سلف من أعمال الحجِّ.
وثانيها: أنّ هذه المغفرة لا تحصل إلاّ لمن كان متَّقياً قبل حجِّح؛ كقوله: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين﴾ [المائدة: ٢٧] ؛ لأن المصرَّ على الذَّنب لا ينفعه حجُّه، وإن كان قد أدَّى الفرض في الظَّاهر.
وثالثها: أنّه المتَّقي عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحجِّ؛ لقوله عليه السّلام:
«مَنْ حَجَّ فَلَم يَرْفثْ وَلَمْ يَفْسُقْ... »
452
ورابعها: روى الكلبي عن ابن عباس: «لِمَن اتَّقَى الصَّيْد ما يلزَمُهُ اجتِنَابُه من محْظُورَاتِ الإِحْرَامِ».
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ من وجهين:
أحدهما: أنَّه تقييد للَّفظ المطلق بغير دليل.
والثاني: أنّ هذا لا يصحُّ إلاّ إذا حمل على ما قبل هذه الأيَّام؛ لأنه في يوم النَّحر إذا رمى وطاف وحلق، فقد تحلَّل قبل الجمار، فلا يلزمه اتِّقاء الصَّيد في هذه الأيَّام.
قوله: «واتَّقُوا الله» فهو أمر في المستقبل، وهو مخالف لقوله: «لِمَنْ اتَّقَى» الذي أ ﴿يد به الماضين فلا يكون تكراراً، وقد تقدم أن التَّقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات.
وقوله: {واعلموآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
.
فهو توكيد للأمر بالتَّقوى؛ لأن مَنْ تصور الحشر والمحاسبة والمساءلة، وأنّ بعد الموت لا دار إلاّ الجنَّة أو النَّار، صار ذلك من أقوى الدَّواعي إلى التَّقوى، وأمَّا الحشر: فهو اسمٌ يقع على ابتداء أوَّل خروجهم من الأجْداث، يوم لا مالك سواه ولا ملجأ إلاّ إيَّاه.
قوله: ﴿وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾.
لمّا ذكر الذين قصرت همَّتهم على الدُّنيا في قوله: «ومِنَ النَّاسِ من يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة»، والمؤمنين الذين سألوا خير الدَّارين، ذكر المنافقين؛ لأنَّهم أظهروا الإيمان وأسرُّوا الكفر.
قوله تعالى: «مَنْ يُعْجِبُكَ» : يجوز في «مَنْ» أن تكون موصولة، وأن تكون نكرةً موصوفةً، وقد تقدَّم نظيرها، والإعجاب: استحسان الشيء، والميل إليه، والتعظيم له، والهمزة فيه للتعدِّي.
وقال الراغب: «العَجَبُ حَيْرَةٌ تَعْرَضُ للإنسان عند الجهل بسبب الشَّيء، وليس هو شيئاً له في ذاته حالةً، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السَّبب ومن لا يعرفه، وحقيقة: أعجبني كذا: ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه»، ويقال: عجبت من كذا، قال القائل: [الرجز]
453
١٠٠٧ - عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُهْ مِنْ عَنَزِيَّ سَبَّنِي لَمْ أَضْرِبُهْ
قال بعض المفسِّرين: يقال في الاستحسان: أعجبني كذا، وفي الإنكار والكراهة: عجبت من كذا.
قوله: «في الحَيَاةِ» فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق ب «قَوْلُهُ»، أي: يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا، أنَّ ادِّعاءه المحبة بالباطل يطلب حظّاً من الدنيا.
والثاني: أن يتعلَّق ب «يُعْجِبُكَ»، أي: قوله حلوٌ فصيحٌ في الدُّنيا، فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة، لما يرهقه في الموقف من الاحتباس واللُّكنة، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام، قال أبو حيان: «والذي يظهر أنه متعلِّق ب» يُعْجِبُكَ «، لا على المعنى الذي قاله الزمخشري، بل على معنى أنك تستحسن مقالته دائماً في مدَّة حياته؛ إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجبٌ رائقٌ لطيفٌن فمقالته في الظاهر معجبة دائماً، لا تراه يعدل عن تلك المقالة الحسنة الرائعة إلى مقالةٍ منافيةٍط.
قوله: «وَيُشْهِدُ اللَّهَ»
في هذه الجملة وجهان:
أظهرهما: أنها عطف على «يُعْجِبُكَ»، فهي صلة لا محلَّ لها من الإعراب، أو صفةٌ، فتكون في محلِّ رفع على حسب القولين في «مَنْ».
والثاني: أن تكون حاليةً، وفي صاحبها حينئذً وجهان:
أحدهما: أنه الضمير المرفوع المستكن في «يُعْجِبُكَ».
والثاني: أنه الضمير المجرور في «قَوْلُهُ»، تقديره: يعجبك أن يقول في أمر الدنيا، مقسماً على ذلك.
وفي جعلها حالاً نظر وجهين:
أحدهما: من جهة المعنى، فإنه يلزم منه أن يكون الإعجاب والقول مقيدين بحالٍ، والظاهر خلافه.
والثاني: من جهة الصِّناعة وهو أنَّه مثبتٌ، فلا يقع حالاً إلا في شذوذٍ؛ نحو: «قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ» أو ضرورةً؛ نحو: [المتقارب]
١٠٠٨ -........................ نَجَوْتُ وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا
وتقديره مبتدأً قبله على خلاف الأصل، أي: وهو يشهد.
454
والجمهور على ضمِّ حرف المضارعة وكسر الهاء، مأخوذاً من «أَشْهَدَ» ونصب الجلالة مفعولاً به، وقرأ أبو حيوة وابن محيصنٍ بفتحهما ورفع الجلالة فاعلاً.
قال القرطبيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - ويؤيِّده قراءة ابن عباسٍ «واللَّهُ يَشْهَدُ عَلَى مَا في قَلْبِهِ».
وقرأ أُبَيٌّ: «يَسْتَشْهِدُ اللَّهَ».
فأمَّا قراءة الجمهور وتفسيرهم، فإن المعنى: يحلف بالله ويشهده أنّه صادقٌ، وقد جاءت الشهادة بمعنى القسم في آية اللِّعان، وقيل: فيكون اسم الله منتصباً على حذف حرف الجر، أي: يقسم بالله، قال شهاب الدين: وهذا سهوٌ من قائله؛ لأنَّ المستعمل بمعنى القسم «شَهِدَ» الثلاثيٌّ، لا «أَشْهَدَ» الرباعيُّ، لا تقول: أُشْهِدُ بالله، بل: أَشْهَدُ بالله، فمعنى قراءة الجمهور: يطَّلع الله على ما في قلبه، ولا يعلم به أحدٌ، لشدة تكتُّمه.
وأمَّا تفسير الجمهور: فيحتاج إلى حذف ما يصحُّ به المعنى، تقديره: ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه؛ لأن الذي في قلبه هو الكفر، وهو لا يحلف عليه، إنما يحلف على ضدِّه، وهو الذي يعجب سامعه، ويقوِّي هذا التأويل قراءة أبي حيوة؛ إذ معناها: ويطَّلع الله على ما قلبه من الكفر. وأمَّا قراءة أُبيًّ: فيحتمل «استَفْعَلَ» وجهين:
أحدهما: أن يكون بمعنى «أَفْعَلَ» ؛ فيوافق قراءة الجمهور.
والثاني: أنه بمعنى المجرَّد وهو «شَهِدَ»، وتكون الجلالة منصوبةً على إسقاط الخافض.
قوله: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الخصام﴾ الكلام في هذه الجملة كالتي قبلها، وهنا وجهٌ آخر، وهو أن تكون حالاً من الضمير في «يُشْهِدُ»، والألد: الشديد؛ من اللَّدد، وهو شدة الخصوة؛ قال: [الخفيف]
١٠٠٩ - إنَّ تَحْتَ التُّرَابِ عَزْماً وحَزْماً وَخَصِيماً أَلَدَّ ذَا مِغْلاَقِ
ويقال: لَدِدت بكسر العين ألَدُّ بفتحها، ولدَدته بفتح العين ألُدُّه بضمها أي: غلبته في ذلك، فيكون متعدياً، قال الشاعر: [الرجز]
١٠١٠ - تَلُدُّ أَقْرَانَ الرِّجَالِ اللُّدِّ...
455
تلدُّ أقران الرِّجال، معناه أنّه في أي وجه أخذ خصمه من اليمين أو الشمال في أبواب الخصومة غلبه.
ورجل ألدُّ وألنددٌ ويلنددٌ، وامرأةٌ لدَّاء، والجمع «لُدٌّ» ك «حُمْرٍ».
وفي اشتقاقه أقوالٌ: قال الزجَّاج: من لُديدَي العنق، وهما صفحتاه.
وقيل: من لديدي الوادي، وهما جانباه، سمِّيا بذلك؛ لاعوجاجهما.
وقيل: هو من لدَّه إذا حبسه، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته.
و «الخِصَامِ» فيه قولان:
أحدهما: قال الزجَّاج: وهو جمع خصمٍ بالفتح؛ نحو: كعبٍ وكعابٍ، وكلبٍ وكلابٍ، وبحرٍ وبحارٍ، وعلى هذا فلا تحتاج غلى تأويل.
والثاني: قال الخليل وأبو عبيد إنه مصدر، يقال: خاصمَ خصاماً، نحو قاتلَ قتالاً، وعلى هذا فلا بد من مصحِّح لوقوعه خبراً عن الجثَّة، فقيل: في الكلام حذف من الأول، أي وخصامه أشدُّ الخصام، وجعل أبو البقاء «هو» ضمير المصدر الذي هو «قوله» فإنه قال: ويجوز أن يكون «هُوَ» ضمير المصدر الذي هو «قَوْلُهُ» وهو خصام، والتقدير: خصامه ألدُّ الخصام.
وقيل: من الثاني: أي: وهو أشدُّ ذوي الخصام، وقيل: أريد بالمصدر اسم الفاعل؛ كما يوصف به في قولهم: رجل عدلٌ وخصمٌ، وقيل: «أَفْعَلُ» هنا ليست للتفضيل، بل هي بمعني لديد الخصام، فهو من باب ضافة الصفة المشبهة، وقال الزمخشريُّ: والخِصَامُ المُخَاصَمَةُ، وإضافةُ الألدِّ بمعنى «في» ؛ كقولهم: «ثَبْتُ الغَدْرِ» يعني أن «أَفْعَلَ» ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه، بل هي ضافة على معنى «في» ؛ قال أبو حيان: وهذا مخالفٌ لما يَزْعُمُهُ النحاة من أنَّ «أَفْعَلَ» لا تضاف إلا إلى ما هي بعضه، وفيه إثبات الإضافة بمعنى «في»، وهو قولٌ مرجوحٌ، وقيل: «هُوَ» ليس ضمير «مَنْ» بل ضمير الخصومة يفسِّره سياق الكلام، أي: وخصامه أشدُّ الخصام.

فصل في بيان عموم هذه الآية


قال بعض المفسِّ {ين: هذه الآية الكريمة مختصَّة بأقوام معيَّنين، وقال بعضهم: إنّها عامة في كلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفة، والأولون اختلفوا على وجوهٍ:
أحدها: أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، واسمه: أُبي، وسمِّي الأخنس؛ لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة من بني زهرة عن قتال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ،
456
وكان رجلاً حلو المنظر، حلو الكلام، وكان يأتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيجالسه ويظهر الإسلام، ويقول: إنيّ أحبُّك، ويحلف بالله على ذلك، وكان منافقاً، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدنيه في مجلسه، وكان حسن العلانية خبيث الباطن، فخرج من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزَّرعن وقيل: المواشي، وقيل: بيَّت قوماً من ثقيف فلبسهم، وأهلك مواشيهم، وأحرق زرعهم.
وقال مُقاتِلٌ: خرج إلى الطَّائف مُقْتَضِياً مالاً لَهُ على غرِيم فَأَحْرَقَ له كدساً، وعَقَرَ لَهُ أَتاناً، والنّسلُ: نَسْل كُلّ حيوان من ناطقٍ، وغيره؛ فنزلت الآية الكريمة.
الثَّاني: أنَّ الأَخْنَس أَشَار على بني زهرة بالرُّجُوع يوم بدرٍ وقال لهُم: إِنَّ مُحَمَّد ابن أخيكم، فإِنْ يَكُ كَاذِباً كفاكموه سائر النَّاس، وإن يَكُ صَادِقاً كنتم أَسعَدَ النَّاسِ به، قالُوا نِعْمَ الرَّأيُ ما رَأَيَتَ قال: فإذا نودي في النَّاس بالرحيل فإنّي أخنس بكم، فاتَّبِعُوني، ثمَّ انخنَسَ بثلاثِمائة من بني زُهْرَة عن قِتَال رسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وسُمِّيَ بهذا السَّبب الأَخنس، فبلغ ذلك رسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأعجبه.
قال ابنُ الخطيب: وعندي أَنَّ هذا القول ضعيفٌ، لأَنَّهُ لا يَسْتَوجِبُ الذَّمَّ بهذا العمل، والآية مذكورة في معرض الذَّمِّ، فلا يمكن حَمْلُها عليه.
الثالث: روي عن ابن عبَّاس والضحَّاك أنَّ كُفَّار قريش بعثوا إلى النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «أَنَّا قد أَسلمنا، فابعثْ إِلَيْنَا نفراً مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابك، فبعثَ إليهم جماعَة، فنزلوا ببطن الرجي، ووصل الخَبَرُ إلى الكُفَّارِ، فَرَكِبَ منهم سبعون راكباً، وأَحَاطُوا بهم، وَقَتَلُوهم، وصَلَبُوهُم، فَنَزَلَتْ هذه الآية الكريمة، ولذلك عقَّبَهُ بقول» مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ «فَنَبَّه بذلك على حال هؤُلآءِ الشَّهداء.
القولُ الثَّاني: وهو اختيارُ أكثر المحقِّقين من المُفسِّرين، أنَّها عامَّة في كُلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفَةِ المَذْكُورة، نقل عن محمَّد بن كعب القُرظِي أنَّه جرَى بَيْنَهُ وبَيْنَ غيره كلام في الآية فقال: إِنَّها وإن نزلت فيمن ذكرتهم، فلا يَمْتنعُ أن تنزل الآية الكريمة في
457
الرَّجُلِ، ثم تَكُونُ عامَّة في كُلِّ مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات.
وَرَوَتْ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: -» إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ «
قال ابن الخطيب: نُزُول الآية الكريمة على سبب لا يمنعُ من العُمُومِ، بل في الآية الكريمة ما يَدُلُّ على العُمومِ مِنْ وجوه:
الأول: أَنَّ ترتيب الحُكم على الوصف المُنَاسِبِ مشعراً بالعلِّيَّة.
الثاني: أَنَّ الحَمْلَ على العُموم أكثر فائدة، لأَنَّهُ زجرٌ لكلِّ مكلَّف عن تِلك الطَّريقةِ المَذْمُومَةِ.
الثالث: أَنَّهُ أَقربٌ إلى الاحتياطِ.
قال قتادةُ ومُجاهدٌ وجماعة من العلماء: نزلت في كُلِّ مُبْطنٍ كُفراً، أو نِفاقاً، أو كذباً أو إضراراً، وهو يظهر بلسانِهِ خلاف ذلك، فهي عامة.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: وهي تشبه ما ورد في التِّرمذيّ أَنّ في بعض الكُتُب أَنَّ اللَّهَ تعالى يقُولُ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي قوماً ألسِنَتُهُمْ أَحْلَى من العسَلِ، وقلوبهم أَمَرّ مِنَ الصَّبْرِ، يَلْبسون للنَّاس جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّين، يشترُون الدُّنيا بالَّدين، يقُولُ الله - تبارك وتعالى - إِنَّهُم لمُغترُّون، وعلى اللَّهِ يجترئُونَ فبي حلفت لأُسَلِّطَنَّ عليهم فِتنَةً تدَعُ الحليم منهم حيران. ومعنى:»
وَيُشْهِدُ الله «، أي: يقول: اللَّهُ يعلم أَنَّي أقُولُ حَقّاً.

فصل


اختلفُوا في المَوْصُوف بالصِّفاتِ المذكورة في الآية، هل هو مُنَافقٌ أمْ لا؟
قال ابنُ الخطيب: إنَّها لا تدلُّ على ذلك، فإِنَّ قوله: {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة
458
الدنيا} لا دلالة فيه على صِفةٍ مَذْمُومةٍ، إِلاَّ من جهة الإِيماء الحاصل بقوله ﴿فِي الحياة الدنيا﴾، فإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: فُلاَن حُلْوُ الكَلاَمِ فيما يَتَعَلَّقَ بالدُّنيا أَوْهَم نوعاً من المَذمَّةِ.
وقوله: ﴿وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ﴾ لا دلالة فيه على حالَةٍ مُنْكرةٍ، وإِن أَضمرنا فيه أَنَّهُ يُشْهِدُ اللَّهَ على ما في قلبه، مع أنَّ قلبه بخلاف ذلك لأَنَّهُ ليس في الآية أَنَّ القَوْلَ الَّذي أَظْهرهُ هو الإِسلامُ والتَّوحِيدُ حتى يكُون خلافه نِفَاقاً، بل يَحْتَمِلُ أن يُضْمِر الفساد، ويظهر ضِدَّهُ، فَيَكُونُ مُرائِياً
وقوله: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الخصام﴾ أيضاً لا يُوجِبُ النِّفَاقَ.
وقوله: ﴿وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا﴾ فالمفسد قد يكون مُسْلِماً.
وقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ أيضاً لا يَقْتَضِي النِّفَاق، إِلاَّ أنَّ المُنَافِقَ داخل في هذه الصِّفَاتِ الخَمْس، والمرائي أيضاً.

فصل في ما أثر عن السلف في بيان» ألد الخصام «


قال مُجاهدٌ: أَلَدُّ الخِصَام: معناهُ: ظَالِمٌ لا يستقيمُ وقال السُّدُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - أعوجُ الخِصَامِ.
وقال قتادةُ: شديدُ القَسْوة في المعَصية، جدلٌ بالباطل، عالم اللِّسان، جاهل العمل، يتقلد بالحكمة، ويعملُ بالخطيئة.

فصل في بيان أمر الاحتياط في الدِّين


قال القُرطبيُّ: قال عُلماؤُنَا: في الآية الكريمة دليلٌ على أَنَّ الاحتياط فيما يتعلق بأُمُور الدِّين والدُّنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأَنَّ الحاكم لا يعملُ على ظاهر
459
أَحوالِ النَّاسِ وما يبدو من إيمانهم، وصلاحهم؛ حتى يَبْحث عن باطنهم؛ لأَنَّ الله تعالى بَيَّنَ أَحوال النَّاسِ، وأَنَّ منهم من يظهرُ قولاً جميلاً، وهو يَنْوي قَبِيحاً.
فإِنْ قِيلَ: هذا يَعارضُ قوله عليه السَّلام:» أُمِرتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِله إِلاَّ اللَّهُ «وقوله:» فَأَقْضِيَ لَهُ بِنَحو ما أَسْمَعُ «
فالجوابُ: هذا كان في صدر الِسلامِ، حيثُ كان إِسْلاَمُهُم سلامتهم، وأمَّا الآن، وقد عَمَّ الفسادُ، فلا، قاله ابنُ العَرَبيّ.
والصَّحيحُ: أَنَّ الظَّاهِرَ يَعملُ عليه، حَتّى يبين خلافه.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تولى سعى﴾ »
سَعَى «جوابُ إذا الشَّرطيَّة، وهذه الجُملةُ الشَّرطيةُ تحتملُ وجْهَيْنِ.
أحدهما: أن تكُونَ عطفاً على ما قبلها، وهو «يُعْجِبُكَ»
، فتكون: إمَّا صلةً، أو صفةً حسب ما تقدَّم في «مَنْ».
والثاني: أن تكُون مُستأَنفةً لمُجرَّدِ الإخبارِ بحالِهِن وقد تَمَّ الكلامُ عند قوله: «ألدُّ الخصام».
والتّولِّي والسَّعْيُ يحْتَمِلان الحقيقة، أي: تولَّى ببدنِهِ عنك وسعَى بِقَدَمَيْهِ، والمُجازَ بأن يريدُ بالتولِّي الرُّجُوع عن القَوْلِ الأَوَّل، وبالسَّعي العمَل والكَسْبَ من السَّعاية، وهو مجازٌ شائعٌ؛ ومنه: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ [النجم: ٣٩]، وقال امرؤُ القَيسِ: [الطويل]
١٠١١ - لَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ كَفَانِي - وَلَمْ أَطْلُبْ - قليلٌ مِنَ المَالِ
وَلكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ وَقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالِي
وقال آخرُ: [السريع]
١٠١٢ - أَسْعَى عَلَى حَيِّ بَنِي مَالِكٍ كُلُّ امْرِىءٍ فِي شَأْنِهِ سَاعِي
والسَّاعيةُ بالقولِ ما يقْتَضِي التَّفْرِيق بينَ الأَخِلاَّءِ؛ قال القائل: [السريع]
460
١٠١٣ - مَا قُلْتُ مَا قَالَ وُشَاةٌ سَعَوْا سَعْيَ عَدْوٍّ بَيْنَنَا يَرْجُفُ
وقال الضَّحَّاكُ: وإذا تَوَلَّى، أي: مَلَكَ الأَمْرَ، وصارَ والياً سَعَى في الأَرض.
وقال مُجاهدٌ: إيضا وُلِّي، وعمل بالعُدوان، والظُّلم، أَمْسَكَ اللَّهُ المطر، وأهلك الحرث والنَّسل.
قوله: «فِي الأَرْضِ» مُتَعَلِّقٌ ب «سَعَى»، فإنْ قيل: مَعْلُومٌ أنَّ السَّعْيَ لا يكُونُ إلاَّ فِي الأَرْضِ قيل: لأنَّهُ يُفيدُ العُمُومَ، كأنه قيل: أيَّ مكانٍ حَلَّ فيه من الأرض أفسدَ فيه، فَيَدُلَّ لفظُ الأَرْضِ على كَثرةٍ فسادِهِ، إذ يلزَمُ مِنْ عمومِ الظَّرفِ عمومُ المَظْرُوفِ، و «ليُفْسِدَ» مُتَعَلّقٌ ب «سَعَى» علَّةً له.
قوله: «وَيُهْلِكَ الحَرْثَ» الجُمْهُورُ على: «يُهْلِكَ» بضمِّ اليَاءِ، وكسر اللام ونصب الكافِ. «الحَرْثَ» مفعول به، وهي قراءةٌ واضِحَةٌ من: أَهْلَكَ يُهْلك، والنَّصبُ عطَفٌ على الفعل قبلُهُ، وهذا شبيهٌ بقوله تعالى: ﴿وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٨] فإنَّ قوله: «ليفْسِدَ» يَشْتَمِلُ على أَنَّهُ يُهْلَكُ الحَرْثَ والنَّسْلَ، فخصَّهُما بالذّكر لذلك. وقرأ أُبيّ: «وليُهْلِكَ» بإظهارِ لام العِلَّةِ، وهي معنى قراءة الجَمهور، وقرأ أبو حَيوة - ورُويت عن ابن كثيرٍ وابن عمرو - «وَيَهْلِك الحَرْثُ والنَّسْلُ» بفتح الياءِ، وكسر اللام من هلك الثَّلاثي، و «الحَرْث» فاعلٌ، و «النَّسلُ» عطفٌ عليه. وقرأ قومٌ: «ويُهْلِكُ الحَرْثَ» من أَهْلَكَ، و «الحَرْث» مفعولٌ به إلا أَنَّهُم رفعُوا الكاف. وخُرِّجت على أربعةِ أوجهٍ: أن تكُونَ عَطْفاً على «يُعْجِبُك» أو على «سَعَى» ؛ لأَنَّهُ في معنى المُستقبل، أو على خبر مُبْتَدأ للمفعول، «الْحَرْثُ» رفعاً، وَقَرَأَ أيضاً: «ويَهَلكُ» بفتح الياءِ واللام ورفعِِ الكَافِ، «الحَرْثُ» رفعا على الفاعلية، وفتحُ عين المُضارع هنا شاذٌّ لفَتْحٍ عين ماضِيهِ، وَليس عينُهُ ولا لامُهُ حرفَ حَلْق، فهو مثلُ رَكَنَ يَرْكَنُ بالفتح فيهما.
و «الحرث» في اللُّغة: الشَّقُّ، ومنه المِحراثُ لام يُشقّ به الأرض، والحرث: كسب المالِ وجمعه، والحَرْثُ: الزَّرعُ، والحرَّاث الزرَّاع، وقد حرث، واحترثَ مثل: زَرَعَ وازْدَرَعَ.
461
ويقالُ: احرثِ القرآن؛ أي: ادرسه، وحَرَثتُ النَّاقة وأحرثْتُها، أي: سِرْتُ عليها حتَّى هزلت، وحرثت النَّارَ حرّكتها والمِحراث ما يحرك به نار التَّنور نقله الجوهري. وقد تَقَدَّمَ.
والنَّسْلُ: مصدرُ نَسَلَ ينسُل، أي: خرج بِسُرعة، ومنه: نَسَلَ وَبَرُ البَعِير، ونَسَلَ ريشُ الطَّائر، أي: خَرَجَ وتطايَرَ وقال القُرطبيُّ: النَّسْلُ ما خرج من كُلِّ أنثى من ولدٍ وأصله الخروج، والسُّقُوط.
وقيل: النَّسلُ الخروج مُتتابعاً، ومنه: «نُسَالُ الطَّائِر» ما تتابع سقُوطه من ريشه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
١٠١٤ - وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّ خَلِيقَةٌ فَسلِّي ثِيَابي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ
وقوله: ﴿مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٦] يحتملُ المعنيين. و «الحَرْثَ وَالنَّسْلَ» وإن كانا في الأصلِ مصدَرَيْنِ فإنهما هنا واقعان موقَعَ المفعولِ به.

فصل في المراد ب «التولي»


ذكرُوا في هذا التوَلِّي قولين:
أحدهما: معناه: إذا انْصَرَفَ من عندك سَعَى بالفسَادِ، وهذا الفَسَادُ يَحتمِلُ وجهَينِ:
أحدهما: إِتْلافُ الأموالِ بالتَّخريب، والتَّحريق، والنَّهب كما تقدَّم.
والوجه الثاني: أَنَّهُ كان بعد الانصرافِ من حَضْرَةِ النَّبِيِّ - عليه السَّلام - يلقي الشّبه في قلوب المؤمنين ويستخرج الحيل في تقوية الكُفْرِ، قال تعالى حكاية عن فرعون ﴿إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد﴾ [غافر: ٢٦] وسمي هذا المعنى فساداً، لأَنَّهُ يوقع اختلافاً بين النَّاس، ويفرّق كلمتهم، ويتبَّرأُ بعضهم من بعض، فتنقطعُ الأَرْحام وتُسفَكُ الدماءُ.
القول الثَّاني في التَّوَلِّي والسَّعي؛ أي: رجع عن قوله واجتهد في إيقاع الفساد، وأصل السَّعي المشي بسرعةٍ، ولكنَّهُ يستعارُ لإِيقاع الفِتنة بيْنَ النَّاسِ، ومنه يُقالُ: فلان يَسْعَى بالنَّميمة، والمراد ب «الحَرْث» الزَّرْعُ وب «النَّسل» : تلك الحمر على التَّفْسِير الأَوَّل، وهو يَقَعُ على ما يُحْرَثُ ويُزْرَعُ.
وقيل: إِنَّ الحَرثَ هو شَقُّ الأرض، ويقالُ لما يُشقّ به: محرث.
462
والنَّسلُ في اللُّغة الوَلَدُ، ومن قال: إِنَّ الأَخنس بيَّت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعاً، فالمراد بالحرث: الرجال والنساء.
أمَّا النساء فلقوله تعالى: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣].
وأَمَّا الرجال: فهم الذين يشقون أرض التوليد، وأَمَّا النسلُ فالمراد منه الصبيان.
قوله: ﴿والله لاَ يُحِبُّ الفساد﴾.
قال العباس بن الفضل: الفسادُ هو الخرابُ.
وقال سعيد بن المسيب: قطع الدراهم من الفساد في الأرض.
وقال عطاء: كان رجل يقال له عطاء بن منبه أحرم في جُبَّةٍ، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن ينزعها.
قال قتادة: قلت لعطاء: إِنَّا كنا نسمع أن يشقها، فقال عطاء: إِنَّ اللَّهَ لا يحب الفساد.
قال القطربي: والآية تَعُمُّ كُلَّ فساد كان في الأرض، أو مالٍ أو دين، وهو الصحيح.
وقيل: معناه لا يجب الفساد من أهل الصلاح، أو لا يحبه ديناً، أو المعنى لا يأمر به.

فصل في بيان فساد قول المعتزلة في معنى المحبة


استدلت المعتزلة به على أَنَّهُ تبارك وتعالى لا يريد القبائح، قالوا: المحبة عبارة عن الإرادة لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ﴾ [النور: ١٩] والمرادُ أنهم يُرِيدونَ.
وأيضاً: نُقِل عن النبيِّ - عليه السلامُ - أَنَّهُ قال: «إِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ لَكُمْ ثَلاَثاً، وكره لكُم ثلاثاً: أَحَبَّ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوه وَلاَ تُشْرِكُوا به شَيْئاً، وأَنْ تتَنَاصحُوا منْ وَلاّهُ أَمْرَكُم، ويَكْرَهُ لَكُمْ القيل والقَالَ، وإضاعَة المال، وكثرةَ السُّؤالِ» فجعل الكراهةَ ضِدَّ المحبةِ، وإذا ثبتَ أَنَّ الإرادة نفسُ المحبةِ، فقوله: ﴿والله لاَ يُحِبُّ الفساد﴾، كقوله: لا يُريدُ الفساد، وكقوله ﴿وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ﴾ [غافر: ٣١]، وإذا كان لا يريدُ الفساد، لا يكون خالقاً له؛ لأنَّ الخلقَ لا يمكن إلاَّ مع الإرادة، وأُجيبُوا بوجهين:
463
أحدهما: أَنَّ المحبة غيرُ الإِرادة، بل المحبَّةُ عبارةٌ عن مَدح الشيء.
والثاني: سَلَّمنا أَنَّ المحبةَ نفسُ الارادة، لكن قوله تعالى ﴿والله لاَ يُحِبُّ الفساد﴾ [البقرة: ٢٠٥] لا يُفيد العُموم؛ لأنَّ الألف واللاَّم الداخلتين في اللفظ لا يُفيدان العمومَ، ثم يهدم كلامهم وجهان:
الأول: أَنَّ قُدرة العبد صالحةٌ للإصلاح، والفساد؛ فترجُّحُ الفساد على الصلاح إِنْ وقع لا لمُرجح، لزم نفيُ الصانعِ، وإنْ وقع لمرجح، فذلك المرجّح لا بُدَّ وأنْ يكونَ من اللَّهِ؛ وإِلاَّ لَزِمَ التسلسلُ، فثبت أَنَّ اللَّهَ سُبحانه هو المرجح لجانب الفساد، فكيف يعقِلُ أَنْ يُقالِ إِنَّهُ لا يريده؟
والثاني: أَنَّهُ عالِمٌ بوقوع الفسادِ، فإن أراد أَلاَّ يقع الفسادُ، لزم أَنْ يُقال: إِنَّه أَراد أَنْ يقلب علم نفسه جهلاً، وذلك مُحَالٌ.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله﴾ : هذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ الوجهين المتقدِّمين في نظيرتها، أَعْني: كونها مستأنفةً، أو معطوفة على «يُعجِبُك»، وقد تقدَّم الخلافُ في الذي قام مقام الفاعل عند قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ﴾ [البقرة: ١١].
قوله: «أخذَتْهُ العزَّةُ»، أي حملتُه العِزَّةُ وحَمِيَّةُ الجاهلية على الفعل.
قوله: «بالإثم» أي: بالظلم وفي هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنْ تكونَ للتعديةِ، وهو قول الزمخشري فإنه قال: «أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَمَلْتهُ عليه، وأَلْزَمْتهُ إياه، أي: حَمَلتهُ العِزَّةُ على الإِثْم، وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه» قال أبو حيان: «وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازمُ، نحو: ﴿ذَهَبَ الله﴾ [البقرة: ١٧]، ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٠]، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو:» صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ «أي: جَعَلْتُ أَحدهما يَصُكُّ الآخرَ».
الثاني: أَنْ تكونَ للسببيةِ، بمعنى أنَّ إثمّه كان سبباً لأخذِ العِزَّة له؛ كما في قوله: [الرمل]
١٠١٥ - أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ
فتكونُ الباءُ بمعنى اللام، فتقول: فعلت هذا بسببك، ولسببك، وعاقَبْتُه لجِنَايتهِ، وبجنايَتهِ.
الثالث: أن تكونَ للمصاحبة؛ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِن وفيها حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أَنْ تكون حالاً مِنَ «العِزَّة» أي: مُلْتبسةً بالإِثمِ.
464
والثاني: أن تكونَ حالاً من المفعولِ، أي: أَخَذَتْهُ مُلْتبساً بالإِثمِ.
قال القُرطبيُّ: وقيل: «الباءُ» بمعنى «مَعَ» أي: أخذته العِزَّةُ مع الإثم.
وفي قوله: «العِزَّةُ بالإِثْم» من عِلْمِ البديع التتميم وهو عبارةٌ عن إِرْداف الكلمةِ بأُخْرى، تَرْفَعُ عنها اللَّبسَ، وتقَرِّبُها مِنَ الفَهْم، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمُومةً.
فَمِنْ مَجِيئها محمودةً: ﴿وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨] ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين﴾ [المائدة: ٥٤] فلو أُطلِقَت لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمُودة؛ فقيل: «بالإِثْمِ» تَتْمِيماً للمرادِ، فرُفِعَ اللَّبْسُ بها.

فصل


اعلم أَنَّ اللَّهَ سُبحانه وتعالى حكى عن هذا المنافق أفعالاً مَذْمُومةً وهي اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدُّنيا، واستشهادة باللَّهِ كذباً ولجاجةً في أبطالِ الحقِّ وإثبات الباطلِ، وسعيُه في الأَرْض بالفَسَادِ، وإهلاكُ الحربِ والنَّسْلِ، وكُلُّها أفعالٌ قَبِيحةٌ، فالظاهِرُ مِنْ قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله﴾ أَنْ يُصْرفَ إلى الكلّ؛ لأنَّ صَرْفَهُ إلى البعض ليس أولى من البعض، فكأَنَّهُ قيل له: اتَّقِ اللَّهِ في إِهْلاك الحرثِ والنَّسْل، وفي السَّعي بالفَسَادِ، وفي الَّجاجِ في إِبطَالِ الحقِّ ونُصْرة الباطلِ، وفي الاستشهاد باللَّهِ كذباً، وفي الحرص على طَلَبِ الدُّنْيا.
وقيل: قوله: ﴿أَخَذَتْهُ العزة بالإثم﴾ راجِعٌ إلى أنه قيل له: اتَّقِ اللَّهَ فقط؛ على ما سيأتي، فيكُون معنى الآية الكريمة أنَّ الموصوف بهذه الصِّفات هو الَّذي إِذَا قيل له: اتَّقِ الله، أَخَذَتْهُ العِزةُ بالإثم؛ فحَسْبُهُ جَهَنَّم.
و «العِزَّةُ» القوَّةُ والغلبةُ مِنْ: عَزَّهُ يَعُزُّه، إِذا غلبهُ، ومنه ﴿وَعَزَّنِي فِي الخطاب﴾ [ص: ٢٣].
وقيل: العزَّةُ هُنا: الحمِيَّة؛ قال الشَّاعرُ: [الرَّمل]
١٠١٦ - أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ
وقيل: العِزَّةُ هنا: المَنَعةُ وشِدَّةُ النَّفسِ، أي: اعتَزَّ في نفسه، فأَوقعَتْهُ تِلْك العزَّةُ في الإِثمِ، وألزمتْهُ إيَّاه.
قوله: ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾، «حَسْبُهُ» مبتدأٌ، و «جهنَّمُ» خبرُه أي: كافيهم جهنَّمُ، وقيل: «جَهَنَّمُ» فاعلٌ ب «حَسْبَ»، ثُمَّ اختلف القائِلُ بذلك في «حَسْب» فَقِيل: هو بمعنى اسم الفاعلِ، أي: الكافي، وهو في الأَصْلِ مصدرٌ أُريد به اسمُ الفاعِل، والفاعِلُ - وهو جهنَّمُ -
465
سَدَّ مَسَدَّ الخبر، وقَويَ «حَسْبُ» لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها، وهذا كلُّه مَعْنَى كلام أبي البقاء.
وقيل: بل «حَسْبُ» اسمُ فِعْلٍ، والقائِلُ بذلك اختلَفَ؛ فقيل: اسمُ [فِعْلٍ] ماضٍ، أي: كَفَاهُمْ وقِيل: فعلُ أمرٍ، أي: لِيَكفِيهم، إلاَّ أن إعرابَه ودخولَ حُرُوفِ الجَرِّ عليه يَمْنع كونه اسم فعل.
وقد تلخَّصَ أَنَّ «حَسْبِ» هل هو بمعنى اسم الفاعل وأَصْلُه مصدرٌ، أو اسمُ فعلٍ مَاضٍ، أو فِعْلُ أَمْر؟ وهو مِنَ الأَسماءِ اللازمةِ للإِضَافةِ، ولا يَتَعَرَّفُ بإضافته إلى معرفةٍ؛ تقولُ: مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ، ويكونُ مبتدأً؛ فيُجَرُّ بباءٍ زائدةٍ، وخبراً؛ فلا يُجَرُّ بها، ولا يُثّنَّى ولا يُجْمَعُ، ولا يؤَنَّثُ، وإنْ وَقَعَ صفةً لهذه الأشياءِ.
و «جهنَّمُ» اخَتَلَفَ الناسُ فيها فقال يونس وأكثر النُّحاة: هي اسمٌ للنَّار التي يعذَّب بها في الآخِرةِ وهي أعجميةٌ وعُرِّبَتْ، وأَصْلُها كِهِنَّام، فمنعُها من الصرَّف لِلعلمية والعُجمةِ.
وقيل: بل هي عربيةُ الأَصْلِ، والقائلون، بذلك اختلَفوا في نُونِها: هل هي زائدةٌ، أمْ أصليةٌ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ، ووزنُها «فَعَنَّلُ» مُشتقةٌ من «رَكِيَّةٌ جِهِنَّامٌ»، أي: بعيدةُ القَعْر، وهي من الجَهْم، وهو الكراهةُ، وقيل: بل نُونُها أصليَّةٌ، ووزنُها فَعَلَّل؛ ك «عَدَبَّسٍ» ؛ قال: لأن «فَعَنَّلاً» مفقودٌ في كلامِهِم، وجعل «زَوَنَّكاً» فَعَلَّلاً أيضاً؛ لأنَّ الواوَ أصلٌ في بنات الأربعةِ؛ ك «وَرَنْتَلٍ»، لكنَّ الصحيحَ إثباتُ هذا البناءِ، وجاءَتْ منه ألفاظٌ، قالوا: «ضَغَنَّطٌ» من الضَّغاطةِ، وهي الضَّخامةُ، و «سَفَنَّجٌ» و «هَجَنَّفٌ» لِلظّلِيم، والزَّوَنَّكُ: القصيرُ سُمِّيَ بذلك؛ لأنه يزوكُ في مِشْيَتِهِ، أي: يَتَبَخْتَرُ؛ قال حَسَّان: [الكامل]
١٠١٧ - أَجْمَعْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى فِي فُحْشِ زَانِيَةٍ وَزَوْكِ غُرَابِ
وهذا كلُّه يدُلُّ على أنَّ النُونَ زائدةٌ في «زَوَنَّكٍ» وعلى هذا فامتِناعُها للتأنيثِ والعلَميةِ.
قوله: ﴿وَلَبِئْسَ المهاد﴾ المخصُوص بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ «المِهَادِ» وقعَ فاصِلةً. وتقدَّمَ الكلامُ على «بِئْسَ» وحُذِفَ هذا المخصُوصُ بذلك على أنه مبتدأٌ، والجملةُ مِنْ نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ، سواءٌ تقدَّمَ أو تأخَّرَ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاهُ خبرَ مبتدأ مَحْذُوفٍ، أو مُبتَدأٌ محذوفَ الخبرِ، ثم حذَفْنَاهُ، كُنَّا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأَسْرها من غَيْرَ أنْ يَنُوبَ عنها شَيْءٌ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ مِنْ ذلك أَنْ تكونَ الجملةُ
466
مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها؛ إِذْ ليس لها مَوْضِعٌ من الإِعْرابِ، وليست مُعْترضةً، ولا مفسِّرةً، ولا صلةً. والمِهَادُ فيه قولان:
أحدهما: أَنَّهُ جَمْعُ «مَهْدٍ»، وهو ما يُوطَّأُ للنوم قال تعالى: ﴿فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الماهدون﴾ [الذاريات: ٤٨].
والثاني: أنه اسمٌ مُفْردٌ، سُمِّيَ به الفِرَاشُ المُوَطَّأُ للنَّوم وقِيل: «المُسْتَقِر» كقوله تعالى: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار﴾ [إبراهيم: ٢٩] وهذا مِنْ باب التَّهَكم والاستهزاءِ، أي: جُعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشُونَهُ؛ وهو كقوله: [الوافر]
١٠١٨ - وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
أي: القائمُ لهم مقامَ التحيةِ، الضربُ الوَجِيع.
467
قوله :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ﴾.
لمّا ذكر الذين قصرت همَّتهم على الدُّنيا في قوله :" ومِنَ النَّاسِ من يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة "، والمؤمنين الذين سألوا خير الدَّارين، ذكر المنافقين ؛ لأنَّهم أظهروا الإيمان وأسرُّوا الكفر.
قوله تعالى :" مَنْ يُعْجِبُكَ " : يجوز في " مَنْ " أن تكون موصولة، وأن تكون نكرةً موصوفةً، وقد تقدَّم نظيرها، والإعجاب : استحسان الشيء، والميل إليه، والتعظيم له، والهمزة فيه للتعدِّي.
وقال الراغب٢٣ :" العَجَبُ حَيْرَةٌ تَعْرِضُ للإنسان عند الجهل بسبب الشَّيء، وليس هو شيئاً له في ذاته حالةً، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السَّبب ومن لا يعرفه، وحقيقة : أعجبني كذا : ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه "، ويقال : عجبت من كذا، قال القائل :[ الرجز ]
عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُهْ *** مِنْ عَنَزِيَّ سَبَّنِي لَمْ أَضْرِبُهْ٢٤
قال بعض المفسِّرين : يقال في الاستحسان : أعجبني كذا، وفي الإنكار والكراهة : عجبت من كذا.
قوله :" في الحَيَاةِ " فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب " قَوْلُهُ "، أي : يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا، لأنَّ ادِّعاءه المحبة بالباطل يطلب حظّاً من الدنيا.
والثاني : أن يتعلَّق ب " يُعْجِبُكَ "، أي : قوله حلوٌ فصيحٌ في الدُّنيا، فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة، لما يرهقه في الموقف من الاحتباس واللُّكنة، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام، قال أبو حيان :" والذي يظهر أنه متعلِّق ب " يُعْجِبُكَ "، لا على المعنى الذي قاله الزمخشري، بل على معنى أنك تستحسن مقالته دائماً في مدَّة حياته ؛ إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجبٌ رائقٌ لطيفٌ، فمقالته في الظاهر معجبة دائماً، لا تراه يعدل عن تلك المقالة الحسنة الرائعة إلى مقالةٍ منافيةٍ.
قوله :" وَيُشْهِدُ اللَّهَ " في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها عطف على " يُعْجِبُكَ "، فهي صلة لا محلَّ لها من الإعراب، أو صفةٌ، فتكون في محلِّ رفع على حسب القولين في " مَنْ ".
والثاني : أن تكون حاليةً، وفي صاحبها حينئذً وجهان :
أحدهما : أنه الضمير المرفوع المستكن في " يُعْجِبُكَ ".
والثاني : أنه الضمير المجرور في " قَوْلُهُ "، تقديره : يعجبك أن يقول في أمر الدنيا، مقسماً على ذلك.
وفي جعلها حالاً نظر من وجهين :
أحدهما : من جهة المعنى، فإنه يلزم منه أن يكون الإعجاب والقول مقيدين بحالٍ، والظاهر خلافه.
والثاني : من جهة الصِّناعة وهو أنَّه مضارعٌ مثبتٌ، فلا يقع حالاً إلا في شذوذٍ ؛ نحو :" قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ " أو ضرورةً ؛ نحو :[ المتقارب
. . . *** نَجَوْتُ وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا٢٥
وتقديره مبتدأً قبله على خلاف الأصل، أي : وهو يشهد.
والجمهور على ضمِّ حرف المضارعة وكسر الهاء، مأخوذاً من " أَشْهَدَ " ونصب الجلالة مفعولاً به، وقرأ أبو حيوة وابن محيصنٍ بفتحهما ورفع الجلالة فاعلاً.
قال القرطبيُّ - رحمه الله تعالى - ويؤيِّده قراءة٢٦ ابن عباسٍ " واللَّهُ يَشْهَدُ عَلَى مَا في قَلْبِهِ ".
وقرأ أُبَيٌّ٢٧ :" يَسْتَشْهِدُ اللَّهَ ".
فأمَّا قراءة الجمهور وتفسيرهم، فإن المعنى : يحلف بالله ويشهده أنّه صادقٌ، وقد جاءت الشهادة بمعنى القسم في آية اللِّعان، وقيل : فيكون اسم الله منتصباً على حذف حرف الجر، أي : يقسم بالله، قال شهاب الدين : وهذا سهوٌ من قائله ؛ لأنَّ المستعمل بمعنى القسم " شَهِدَ " الثلاثيٌّ، لا " أَشْهَدَ " الرباعيُّ، لا تقول : أُشْهِدُ بالله، بل : أَشْهَدُ بالله، فمعنى قراءة الجمهور : يطَّلع الله على ما في قلبه، ولا يعلم به أحدٌ، لشدة تكتُّمه.
وأمَّا تفسير الجمهور : فيحتاج إلى حذف ما يصحُّ به المعنى، تقديره : ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه ؛ لأن الذي في قلبه هو الكفر، وهو لا يحلف عليه، إنما يحلف على ضدِّه، وهو الذي يعجب سامعه، ويقوِّي هذا التأويل قراءة٢٨ أبي حيوة ؛ إذ معناها : ويطَّلع الله على ما قلبه من الكفر. وأمَّا قراءة أُبيًّ : فيحتمل " ستَفْعَلَ " وجهين :
أحدهما : أن يكون بمعنى " أَفْعَلَ " ؛ فيوافق قراءة الجمهور.
والثاني : أنه بمعنى المجرَّد وهو " شَهِدَ "، وتكون الجلالة منصوبةً على إسقاط الخافض.
قوله :﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ الكلام في هذه الجملة كالتي قبلها، وهنا وجهٌ آخر، وهو أن تكون حالاً من الضمير في " يُشْهِدُ "، والألد : الشديد ؛ من اللَّدد، وهو شدة الخصومة ؛ قال :[ الخفيف ]
إنَّ تَحْتَ التُّرَابِ عَزْماً وحَزْماً *** وَخَصِيماً أَلَدَّ ذَا مِغْلاَقِ٢٩
ويقال : لَدِدت بكسر العين ألَدُّ بفتحها، ولدَدته بفتح العين ألُدُّه بضمها أي : غلبته في ذلك، فيكون متعدياً، قال الشاعر :[ الرجز ]
تَلُدُّ أَقْرَانَ الرِّجَالِ اللُّدِّ٣٠ ***. . .
تلدُّ أقران الرِّجال، معناه أنّه في أي وجه أخذ خصمه من اليمين أو الشمال في أبواب الخصومة غلبه.
ورجل ألدُّ وألنددٌ ويلنددٌ، وامرأةٌ لدَّاء، والجمع " لُدٌّ " ك " حُمْرٍ ".
وفي اشتقاقه أقوالٌ : قال الزجَّاج٣١ : من لُديدَي العنق، وهما صفحتاه.
وقيل : من لديدي الوادي، وهما جانباه، سمِّيا بذلك ؛ لاعوجاجهما.
وقيل : هو من لدَّه إذا حبسه، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته.
و " الخِصَامِ " فيه قولان :
أحدهما : قال الزجَّاج : وهو جمع خصمٍ بالفتح ؛ نحو : كعبٍ وكعابٍ، وكلبٍ وكلابٍ، وبحرٍ وبحارٍ، وعلى هذا فلا تحتاج إلى تأويل.
والثاني : قال الخليل وأبو عبيد إنه مصدر، يقال : خاصمَ خصاماً، نحو قاتلَ قتالاً، وعلى هذا فلا بد من مصحِّح لوقوعه خبراً عن الجثَّة، فقيل : في الكلام حذف من الأول، أي وخصامه أشدُّ الخصام، وجعل أبو البقاء " هو " ضمير المصدر الذي هو " قوله " فإنه قال : ويجوز أن يكون " هُوَ " ضمير المصدر الذي هو " قَوْلُهُ " وهو خصام، والتقدير : خصامه ألدُّ الخصام.
وقيل : من الثاني : أي : وهو أشدُّ ذوي الخصام، وقيل : أريد بالمصدر اسم الفاعل ؛ كما يوصف به في قولهم : رجل عدلٌ وخصمٌ، وقيل :" أَفْعَلُ " هنا ليست للتفضيل، بل هي بمعني لديد الخصام، فهو من باب إضافة الصفة المشبهة، وقال الزمخشريُّ٣٢ : والخِصَامُ المُخَاصَمَةُ، وإضافةُ الألدِّ بمعنى " في " ؛ كقولهم :" ثَبْتُ الغَدْرِ " يعني أن " أَفْعَلَ " ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه، بل هي إضافة على معنى " في " ؛ قال أبو حيان : وهذا مخالفٌ لما يَزْعُمُهُ النحاة من أنَّ " أَفْعَلَ " لا تضاف إلا إلى ما هي بعضه، وفيه إثبات الإضافة بمعنى " في "، وهو قولٌ مرجوحٌ، وقيل :" هُوَ " ليس ضمير " مَنْ " بل ضمير الخصومة يفسِّره سياق الكلام، أي : وخصامه أشدُّ الخصام.

فصل في بيان عموم هذه الآية


قال بعض المفسِّرين : هذه الآية الكريمة مختصَّة بأقوام معيَّنين، وقال بعضهم : إنّها عامة في كلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفة، والأولون اختلفوا على وجوهٍ :
أحدها : أنها نزلت في الأخنس بن شريق٣٣ الثقفي حليف بني زهرة، واسمه : أُبي، وسمِّي الأخنس ؛ لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رجلاً حلو المنظر، حلو الكلام، وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجالسه ويظهر الإسلام، ويقول : إنيّ أحبُّك، ويحلف بالله على ذلك، وكان منافقاً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيه في مجلسه، وكان حسن العلانية خبيث الباطن، فخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزَّرع، وقيل : المواشي، وقيل : بيَّت قوماً من ثقيف فلبسهم، وأهلك مواشيهم، وأحرق زرعهم.
وقال مُقاتِلٌ٣٤ : خرج إلى الطَّائف مُقْتَضِياً مالاً لَهُ على غرِيم فَأَحْرَقَ له كدساً٣٥، وعَقَرَ لَهُ أَتاناً٣٦، والنّسلُ : نَسْل كُلّ حيوان من ناطقٍ، وغيره ؛ فنزلت الآية الكريمة.
الثَّاني : أنَّ الأَخْنَس أَشَار على بني زهرة بالرُّجُوع يوم بدرٍ وقال لهُم : إِنَّ مُحَمَّد ابن أخيكم، فإِنْ يَكُ كَاذِباً كفاكموه سائر النَّاس، وإن يَكُ صَادِقاً كنتم أَسعَدَ النَّاسِ به، قالُوا نِعْمَ الرَّأيُ ما رَأَيَتَ قال : فإذا نودي في النَّاس بالرحيل فإنّي أخنس بكم، فاتَّبِعُوني، ثمَّ انخنَسَ بثلاثِمائة من بني زُهْرَة عن قِتَال رسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وسُمِّيَ بهذا السَّبب الأَخنس، فبلغ ذلك رسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فأعجبه.
قال ابنُ الخطيب٣٧ : وعندي أَنَّ هذا القول ضعيفٌ، لأَنَّهُ لا يَسْتَوجِبُ الذَّمَّ بهذا العمل، والآية مذكورة في معرض الذَّمِّ، فلا يمكن حَمْلُها عليه.
الثالث : روي عن ابن عبَّاس والضحَّاك أنَّ كُفَّار قريش بعثوا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - " أَنَّا قد أَسلمنا، فابعثْ إِلَيْنَا نفراً مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابك، فبعثَ إليهم جماعَة، فنزلوا ببطن الرجيع، ووصل الخَبَرُ إلى الكُفَّارِ، فَرَكِبَ منهم سبعون راكباً، وأَحَاطُوا بهم، وَقَتَلُوهم، وصَلَبُوهُم، فَنَزَلَتْ هذه الآية الكريمة، ولذلك عقَّبَهُ بقول " مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ٣٨ " فَنَبَّه بذلك على حال هؤُلآءِ الشَّهداء.
القولُ الثَّاني : وهو اختيارُ أكثر المحقِّقين من المُفسِّرين، أنَّها عامَّة في كُلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفَةِ المَذْكُورة، نقل عن محمَّد بن كعب القُرظِي٣٩ أنَّه جرَى بَيْنَهُ وبَيْنَ غيره كلام في الآية فقال : إِنَّها وإن نزلت فيمن ذكرتهم، فلا يَمْتنعُ أن تنزل الآية الكريمة في الرَّجُلِ، ثم تَكُونُ عامَّة في كُلِّ مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات.
وَرَوَتْ عائشة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم قال :- " إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ٤٠ ".
قال ابن الخطيب٤١ : نُزُول الآية الكريمة على سبب لا يمنعُ من العُمُومِ، بل في الآية الكريمة ما يَدُلُّ على العُمومِ مِنْ وجوه :
الأول : أَنَّ ترتيب الحُكم على الوصف المُنَاسِبِ مشعراً بالعلِّيَّة٤٢.
الثاني : أَنَّ الحَمْلَ على العُموم أكثر فائدة، لأَنَّهُ زجرٌ لكلِّ مكلَّف عن تِلك الطَّريقةِ المَذْمُومَةِ.
الثالث : أَنَّهُ أَقربُ إلى الاحتياطِ.
قال قتادةُ ومُجاهدٌ وجماعة من العلماء : نزلت في كُلِّ مُبْطنٍ كُفراً، أو نِفاقاً، أو كذباً أو إضراراً، وهو يظهر بلسانِهِ خلاف ذلك٤٣، فهي عامة.
قال القرطبي٤٤ رحمه الله : وهي تشبه ما ورد في التِّرمذيّ أَنّ في بعض الكُتُب أَنَّ اللَّهَ تعالى يقُولُ :" إِنَّ مِنْ عِبَادِي قوماً ألسِنَتُهُمْ أَحْلَى من العسَلِ، وقلوبهم أَمَرّ مِنَ الصَّبْرِ، يَلْبسون للنَّاس جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّين، يشترُون الدُّنيا بالدِّين، يقُولُ الله - تبارك وتعالى - إِنَّهُم لمُغترُّون، وعلى اللَّهِ يج
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى ﴾ " سَعَى " جوابُ إذا الشَّرطيَّة، وهذه الجُملةُ الشَّرطيةُ تحتملُ وجْهَيْنِ.
أحدهما : أن تكُونَ عطفاً على ما قبلها، وهو " يُعْجِبُكَ "، فتكون : إمَّا صلةً، أو صفةً حسب ما تقدَّم في " مَنْ ".
والثاني : أن تكُون مُستأَنفةً لمُجرَّدِ الإخبارِ بحالِهِ، وقد تَمَّ الكلامُ عند قوله :" ألدُّ الخصام ".
والتّولِّي والسَّعْيُ يحْتَمِلان الحقيقة، أي : تولَّى ببدنِهِ عنك وسعَى بِقَدَمَيْهِ، والمُجازَ بأن يريدُ بالتولِّي الرُّجُوع عن القَوْلِ الأَوَّل، وبالسَّعي العمَل والكَسْبَ من السَّعاية، وهو مجازٌ شائعٌ ؛ ومنه :
﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ﴾ [ النجم : ٣٩ ]، وقال امرؤُ القَيسِ :[ الطويل ]
فَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ كَفَانِي - وَلَمْ أَطْلُبْ - قليلٌ مِنَ المَالِ
وَلكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ وَقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالِي٥٣
وقال آخرُ :[ السريع ]
أَسْعَى عَلَى حَيِّ بَنِي مَالِكٍ كُلُّ امْرِىءٍ فِي شَأْنِهِ سَاعِي٥٤
والسَّاعيةُ بالقولِ ما يقْتَضِي التَّفْرِيق بينَ الأَخِلاَّءِ ؛ قال القائل :[ السريع ]
مَا قُلْتُ مَا قَالَ وُشَاةٌ سَعَوْا سَعْيَ عَدْوٍّ بَيْنَنَا يَرْجُفُ٥٥
وقال الضَّحَّاكُ : وإذا تَوَلَّى، أي : مَلَكَ الأَمْرَ، وصارَ والياً سَعَى في الأَرض٥٦.
وقال مُجاهدٌ : إذا وُلِّي، وعمل بالعُدوان، والظُّلم، أَمْسَكَ اللَّهُ المطر، وأهلك الحرث والنَّسل٥٧.
قوله :" فِي الأَرْضِ " مُتَعَلِّقٌ ب " سَعَى "، فإنْ قيل : مَعْلُومٌ أنَّ السَّعْيَ لا يكُونُ إلاَّ فِي الأَرْضِ قيل : لأنَّهُ يُفيدُ العُمُومَ، كأنه قيل : أيَّ مكانٍ حَلَّ فيه من الأرض أفسدَ فيه، فَيَدُلُّ لفظُ الأَرْضِ على كَثرةِ فسادِهِ، إذ يلزَمُ مِنْ عمومِ الظَّرفِ عمومُ المَظْرُوفِ، و " ليُفْسِدَ " مُتَعَلّقٌ ب " سَعَى " علَّةً له.
قوله :" وَيُهْلِكَ الحَرْثَ " الجُمْهُورُ على :" يُهْلِكَ " بضمِّ اليَاءِ، وكسر اللام ونصب الكافِ. " الحَرْثَ " مفعول به، وهي قراءةٌ واضِحَةٌ من : أَهْلَكَ يُهْلك، والنَّصبُ عطَفٌ على الفعل قبلُهُ، وهذا شبيهٌ بقوله تعالى :﴿ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] فإنَّ قوله :" ليفْسِدَ " يَشْتَمِلُ على أَنَّهُ يُهْلكُ الحَرْثَ والنَّسْلَ، فخصَّهُما بالذّكر لذلك. وقرأ أُبيّ٥٨ :" وليُهْلِكَ " بإظهارِ لام العِلَّةِ، وهي معنى قراءة الجَمهور، وقرأ أبو حَيوة - ورُويت عن ابن كثيرٍ وابن عمرو - " وَيَهْلِك الحَرْثُ والنَّسْلُ " بفتح الياءِ، وكسر اللام من هلك الثَّلاثي، و " الحَرْث " فاعلٌ، و " النَّسلُ " عطفٌ عليه. وقرأ قومٌ :" ويُهْلِكُ الحَرْثَ " من أَهْلَكَ، و " الحَرْث " مفعولٌ به إلا أَنَّهُم رفعُوا الكاف. وخُرِّجت على أربعةِ أوجهٍ : أن تكُونَ عَطْفاً على " يُعْجِبُك " أو على " سَعَى " ؛ لأَنَّهُ في معنى المُستقبل، أو على خبر مُبْتَدأ محذوف، أي : وهو يهلك، أو على الاستئناف. وقرأ الحسن٥٩ :" ويهلك " مبنيا للمفعول، " الْحَرْثُ " رفعاً، وَقَرَأَ أيضاً :" ويَهلِكُ " بفتح الياءِ واللام ورفعِِ الكَافِ، " الحَرْثُ " رفعا على الفاعلية، وفتحُ عين المُضارع هنا شاذٌّ لفَتْحِ عين ماضِيهِ، وَليس عينُهُ ولا لامُهُ حرفَ حَلْق، فهو مثلُ رَكَنَ يَرْكَنُ بالفتح فيهما.
و " الحرث " في اللُّغة : الشَّقُّ، ومنه المِحراثُ لام يُشقّ به الأرض، والحرث : كسب المالِ وجمعه، والحَرْثُ : الزَّرعُ، والحرَّاث الزرَّاع، وقد حرث، واحترثَ مثل : زَرَعَ وازْدَرَعَ.
ويقالُ : احرثِ القرآن ؛ أي : ادرسه، وحَرَثتُ النَّاقة وأحرثْتُها، أي : سِرْتُ عليها حتَّى هزلت، وحرثت النَّارَ حرّكتها والمِحراث ما يحرك به نار التَّنور نقله الجوهري. وقد تَقَدَّمَ.
والنَّسْلُ : مصدرُ نَسَلَ ينسُل، أي : خرج بِسُرعة، ومنه : نَسَلَ وَبَرُ البَعِير، ونَسَلَ ريشُ الطَّائر، أي : خَرَجَ وتطايَرَ وقال القُرطبيُّ٦٠ : النَّسْلُ ما خرج من كُلِّ أنثى من ولدٍ وأصله الخروج، والسُّقُوط.
وقيل : النَّسلُ الخروج مُتتابعاً، ومنه :" نُسَالُ الطَّائِر " ما تتابع سقُوطه من ريشه ؛ قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّ خَلِيقَةٌ فَسلِّي ثِيَابي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ٦١
وقوله :﴿ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٦ ] يحتملُ المعنيين. و " الحَرْثَ وَالنَّسْلَ " وإن كانا في الأصلِ مصدَرَيْنِ فإنهما هنا واقعان موقَعَ المفعولِ به.

فصل في المراد ب " التولي "


ذكرُوا في هذا التوَلِّي قولين :
أحدهما : معناه : إذا انْصَرَفَ من عندك سَعَى بالفسَادِ٦٢، وهذا الفَسَادُ يَحتمِلُ وجهَينِ :
أحدهما : إِتْلافُ الأموالِ بالتَّخريب، والتَّحريق، والنَّهب كما تقدَّم.
والوجه الثاني : أَنَّهُ كان بعد الانصرافِ من حَضْرَةِ النَّبِيِّ - عليه السَّلام - يلقي الشّبه في قلوب المؤمنين ويستخرج الحيل في تقوية الكُفْرِ، قال تعالى حكاية عن فرعون ﴿ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [ غافر : ٢٦ ] وسمي هذا المعنى فساداً، لأَنَّهُ يوقع اختلافاً بين النَّاس، ويفرّق كلمتهم، ويتبَّرأُ بعضهم من بعض، فتنقطعُ الأَرْحام وتُسفَكُ الدماءُ.
القول الثَّاني في التَّوَلِّي والسَّعي ؛ أي : رجع عن قوله واجتهد في إيقاع الفساد، وأصل السَّعي المشي بسرعةٍ، ولكنَّهُ يستعارُ لإِيقاع الفِتنة بيْنَ النَّاسِ، ومنه يُقالُ : فلان يَسْعَى بالنَّميمة، والمراد ب " الحَرْث " الزَّرْعُ وب " النَّسل " : تلك الحمر على التَّفْسِير الأَوَّل، وهو يَقَعُ على ما يُحْرَثُ ويُزْرَعُ.
وقيل : إِنَّ الحَرثَ هو شَقُّ الأرض، ويقالُ لما يُشقّ به : محرث.
والنَّسلُ في اللُّغة الوَلَدُ، ومن قال : إِنَّ الأَخنس بيَّت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعاً، فالمراد بالحرث : الرجال والنساء.
أمَّا النساء فلقوله تعالى :﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢٣ ].
وأَمَّا الرجال : فهم الذين يشقون أرض التوليد، وأَمَّا النسلُ فالمراد منه الصبيان.
قوله :﴿ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾.
قال العباس بن الفضل : الفسادُ هو الخرابُ٦٣.
وقال سعيد بن المسيب : قطع الدراهم من الفساد في الأرض٦٤.
وقال عطاء : كان رجل يقال له عطاء بن منبه أحرم في جُبَّةٍ، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزعها.
قال قتادة : قلت لعطاء : إِنَّا كنا نسمع أن يشقها، فقال عطاء : إِنَّ اللَّهَ لا يحب الفساد٦٥.
قال القرطبي٦٦ : والآية تَعُمُّ كُلَّ فساد كان في الأرض، أو مالٍ أو دين، وهو الصحيح.
وقيل : معناه لا يجب الفساد من أهل الصلاح، أو لا يحبه ديناً، أو المعنى لا يأمر به.

فصل في بيان فساد قول المعتزلة في معنى المحبة


استدلت المعتزلة به على أَنَّهُ تبارك وتعالى لا يريد القبائح، قالوا : المحبة عبارة عن الإرادة لقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ [ النور : ١٩ ] والمرادُ أنهم يُرِيدونَ.
وأيضاً : نُقِل عن النبيِّ - عليه السلامُ - أَنَّهُ قال :" إِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ لَكُمْ ثَلاَثاً، وكره لكُم ثلاثاً : أَحَبَّ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوه وَلاَ تُشْرِكُوا به شَيْئاً، وأَنْ تتَنَاصحُوا منْ وَلاّهُ أَمْرَكُم، ويَكْرَهُ لَكُمْ القيل والقَالَ، وإضاعَة المال، وكثرةَ السُّؤالِ٦٧ " فجعل الكراهةَ ضِدَّ المحبةِ، وإذا ثبتَ أَنَّ الإرادة نفسُ المحبةِ، فقوله :﴿ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾، كقوله : لا يُريدُ الفساد، وكقوله ﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ ﴾ [ غافر : ٣١ ]، وإذا كان لا يريدُ الفساد، لا يكون خالقاً له ؛ لأنَّ الخلقَ لا يمكن إلاَّ مع الإرادة، وأُجيبُوا بوجهين :
أحدهما : أَنَّ المحبة غيرُ الإِرادة، بل المحبَّةُ عبارةٌ عن مَدح الشيء.
والثاني : سَلَّمنا أَنَّ المحبةَ نفسُ الإرادة، لكن قوله تعالى ﴿ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾ [ البقرة : ٢٠٥ ] لا يُفيد العُموم ؛ لأنَّ الألف واللاَّم الداخلتين في اللفظ لا يُفيدان العمومَ، ثم يهدم كلامهم وجهان :
الأول : أَنَّ قُدرة العبد صالحةٌ للإصلاح، والفساد ؛ فترجُّحُ الفساد على الصلاح إِنْ وقع لا لمُرجح، لزم نفيُ الصانعِ، وإنْ وقع لمرجح، فذلك المرجّح لا بُدَّ وأنْ يكونَ من اللَّهِ ؛ وإِلاَّ لَزِمَ التسلسلُ، فثبت أَنَّ اللَّهَ سُبحانه هو المرجح لجانب الفساد، فكيف يعقِلُ أَنْ يُقال إِنَّهُ لا يريده ؟
والثاني : أَنَّهُ عالِمٌ بوقوع الفسادِ، فإن أراد أَلاَّ يقع الفسادُ، لزم أَنْ يُقال : إِنَّه أَراد أَنْ يقلب علم نفسه جهلاً، وذلك مُحَالٌ.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ : هذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ الوجهين المتقدِّمين في نظيرتها، أَعْني : كونها مستأنفةً، أو معطوفة على " يُعجِبُك "، وقد تقدَّم الخلافُ في الذي قام مقام الفاعل عند قوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ ﴾ [ البقرة : ١١ ].
قوله :" أخذَتْهُ العزَّةُ "، أي حملتُه العِزَّةُ وحَمِيَّةُ الجاهلية على الفعل.
قوله :" بالإثم " أي : بالظلم وفي هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنْ تكونَ للتعديةِ، وهو قول الزمخشري فإنه قال :" أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَمَلْتهُ عليه، وأَلْزَمْتهُ إياه، أي : حَمَلتهُ العِزَّةُ على الإِثْم، وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه " قال أبو حيان :" وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازمُ، نحو :﴿ ذَهَبَ اللَّهُ ﴾ [ البقرة : ١٧ ]، ﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ﴾
[ البقرة : ٢٠ ]، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو :" صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ " أي : جَعَلْتُ أَحدهما يَصُكُّ الآخرَ ".
الثاني : أَنْ تكونَ للسببيةِ، بمعنى أنَّ إثمَه كان سبباً لأخذِ العِزَّة له ؛ كما في قوله :[ الرمل ]
أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ٦٨
فتكونُ الباءُ بمعنى اللام، فتقول : فعلت هذا بسببك، ولسببك، وعاقَبْتُه لجِنَايتهِ، وبجنايَتِه.
الثالث : أن تكونَ للمصاحبة ؛ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفيها حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أَنْ تكون حالاً مِنَ " العِزَّة " أي : مُلْتبسةً بالإِثمِ.
والثاني : أن تكونَ حالاً من المفعولِ، أي : أَخَذَتْهُ مُلْتبساً بالإِثمِ.
قال القُرطبيُّ : وقيل :" الباءُ " بمعنى " مَعَ " أي : أخذته العِزَّةُ مع الإثم.
وفي قوله :" العِزَّةُ بالإِثْم " من عِلْمِ البديع التتميم وهو عبارةٌ عن إِرْداف الكلمةِ بأُخْرى، تَرْفَعُ عنها اللَّبسَ، وتقَرِّبُها مِنَ الفَهْم، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمُومةً.
فَمِنْ مَجِيئها محمودةً :﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ المنافقون : ٨ ] ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [ المائدة : ٥٤ ] فلو أُطلِقَت لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمُودة ؛ فقيل :" بالإِثْمِ " تَتْمِيماً للمرادِ، فرُفِعَ اللَّبْسُ بها.

فصل


اعلم أَنَّ اللَّهَ سُبحانه وتعالى حكى عن هذا المنافق أفعالاً مَذْمُومةً وهي اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدُّنيا، واستشهادة باللَّهِ كذباً ولجاجةً في أبطالِ الحقِّ وإثبات الباطلِ، وسعيُه في الأَرْض بالفَسَادِ، وإهلاكُ الحربِ والنَّسْلِ، وكُلُّها أفعالٌ قَبِيحةٌ، فالظاهِرُ مِنْ قوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ أَنْ يُصْرفَ إلى الكلّ ؛ لأنَّ صَرْفَهُ إلى البعض ليس أولى من البعض، فكأَنَّهُ قيل له : اتَّقِ اللَّهِ في إِهْلاك الحرثِ والنَّسْل، وفي السَّعي بالفَسَادِ، وفي اللَّجاجِ في إِبطَالِ الحقِّ ونُصْرة الباطلِ، وفي الاستشهاد باللَّهِ كذباً، وفي الحرص على طَلَبِ الدُّنْيا.
وقيل : قوله :﴿ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ ﴾ راجِعٌ إلى أنه قيل له : اتَّقِ اللَّهَ فقط ؛ على ما سيأتي، فيكُون معنى الآية الكريمة أنَّ الموصوف بهذه الصِّفات هو الَّذي إِذَا قيل له : اتَّقِ الله، أَخَذَتْهُ العِزةُ بالإثم ؛ فحَسْبُهُ جَهَنَّم.
و " العِزَّةُ " القوَّةُ والغلبةُ مِنْ : عَزَّهُ يَعُزُّه، إِذا غلبهُ، ومنه
﴿ وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴾ [ ص : ٢٣ ].
وقيل : العزَّةُ هُنا : الحمِيَّة ؛ قال الشَّاعرُ :[ الرَّمل ]
أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ٦٩
وقيل : العِزَّةُ هنا : المَنَعةُ وشِدَّةُ النَّفسِ، أي : اعتَزَّ في نفسه، فأَوقعَتْهُ٧٠ تِلْك العزَّةُ في الإِثمِ، وألزمتْهُ إيَّاه.
قوله :﴿ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ﴾، " حَسْبُهُ " مبتدأٌ، و " جهنَّمُ " خبرُه أي : كافيهم جهنَّمُ، وقيل :" جَهَنَّمُ " فاعلٌ ب " حَسْبَ "، ثُمَّ اختلف القائِلُ بذلك في " حَسْب " فَقِيل : هو بمعنى اسم الفاعلِ، أي : الكافي، وهو في الأَصْلِ مصدرٌ أُريد به اسمُ الفاعِل، والفاعِلُ - وهو جهنَّمُ - سَدَّ مَسَدَّ الخبر، وقَويَ " حَسْبُ " لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها، وهذا كلُّه مَعْنَى كلام أبي البقاء. ٧١
وقيل : بل " حَسْبُ " اسمُ فِعْلٍ، والقائِلُ بذلك اختلَفَ ؛ فقيل : اسمُ [ فِعْلٍ ] ماضٍ، أي : كَفَاهُمْ وقِيل : فعلُ أمرٍ، أي : لِيَكفِيهم، إلاَّ أن إعرابَه ودخولَ حُرُوفِ الجَرِّ عليه يَمْنع كونه اسم فعل.
وقد تلخَّصَ أَنَّ " حَسْب " هل هو بمعنى اسم الفاعل وأَصْلُه مصدرٌ، أو اسمُ فعلٍ مَاضٍ، أو فِعْلُ أَمْر ؟ وهو مِنَ الأَسماءِ اللازمةِ للإِضَافةِ، ولا يَتَعَرَّفُ بإضافته إلى معرفةٍ ؛ تقولُ : مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ، ويكونُ مبتدأً ؛ فيُجَرُّ بباءٍ زائدةٍ، وخبراً ؛ فلا يُجَرُّ بها، ولا يُثّنَّى ولا يُجْمَعُ، ولا يؤَنَّثُ، وإنْ وَقَعَ صفةً لهذه الأشياءِ.
و " جهنَّمُ " اخَتَلَفَ الناسُ فيها فقال يونس وأكثر النُّحاة : هي اسمٌ للنَّار التي يعذَّب بها في الآخِرةِ وهي أعجميةٌ وعُرِّبَتْ، وأَصْلُها كِهِنَّام، فمنعُها من الصرَّف لِلعلمية والعُجمةِ.
وقيل : بل هي عربيةُ الأَصْلِ، والقائلون، بذلك اختلَفوا في نُونِها : هل هي زائدةٌ، أمْ أصليةٌ ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ، ووزنُها " فَعَنَّلُ " مُشتقةٌ من " رَكِيَّةٌ جِهِنَّامٌ "، أي : بعيدةُ القَعْر، وهي من الجَهْم، وهو الكراهةُ، وقيل : بل نُونُها أصليَّةٌ، ووزنُها فَعَلَّل ؛ ك " عَدَبَّسٍ " ؛ قال : لأن " فَعَنَّلاً " مفقودٌ في كلامِهِم، وجعل " زَوَنَّكاً " فَعَلَّلاً أيضاً ؛ لأنَّ الواوَ أصلٌ في بنات الأربعةِ ؛ ك " وَرَنْتَلٍ "، لكنَّ الصحيحَ إثباتُ هذا البناءِ، وجاءَتْ منه ألفاظٌ، قالوا :" ضَغَنَّطٌ " من الضَّغاطةِ، وهي الضَّخامةُ، و " سَفَنَّجٌ " و " هَجَنَّفٌ " لِلظّلِيم، والزَّوَنَّكُ : القصيرُ سُمِّيَ بذلك ؛ لأنه يزوكُ في مِشْيَتِهِ، أي : يَتَبَخْتَرُ ؛ قال حَسَّان :[ الكامل ]
أَجْمَعْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى فِي فُحْشِ زَانِيَةٍ وَزَوْكِ غُرَابِ٧٢
وهذا كلُّه يدُلُّ على أنَّ النُونَ زائدةٌ في " زَوَنَّكٍ " وعلى هذا فامتِناعُها للتأنيثِ والعلَميةِ.
قوله :﴿ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ المخصُوص بالذَّمِّ محذوفٌ، أي : وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ " المِهَادِ " وقعَ فاصِلةً. وتقدَّمَ الكلامُ على " بِئْسَ " وحُذِفَ هذا المخصُوصُ بذلك على أنه مبتدأٌ، والجملةُ مِنْ نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ، سواءٌ تقدَّمَ أو تأخَّرَ ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاهُ خبرَ مبتدأ مَحْذُوفٍ، أو مُبتَدأً محذوفَ الخبرِ، ثم حذَفْنَاهُ، كُنَّا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأَسْرها من غَيْرَ أنْ يَنُوبَ عنها شَيْءٌ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ مِنْ ذلك أَنْ تكونَ الجملةُ مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها، إِذْ ليس لها مَوْضِعٌ من الإِعْرابِ، وليست مُعْترضةً، ولا مفسِّرةً، ولا صلةً. والمِهَادُ فيه قولان :
أحدهما : أَنَّهُ جَمْعُ " مَهْدٍ "، وهو ما يُوطَّأُ للنوم قال تعالى : و
﴿ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴾ [ الذاريات : ٤٨ ].
والثاني : أنه اسمٌ مُفْردٌ، سُمِّيَ به الفِرَاشُ المُوَطَّأُ للنَّوم وقِيل :" المُسْتَقِر " كقوله تعالى :﴿ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾ [ إبراهيم : ٢٩ ] وهذا مِنْ باب التَّهَكم والاستهزاءِ، أي : جُعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشُونَهُ ؛ وهو كقوله :[ الوافر ]
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ٧٣
أي : القائمُ لهم مقامَ التحيةِ، الضربُ الوَجِيع.
لمَّا وصفَ في الآية المتقدِّمة حال مَنْ يبذلُ دِينَهُ لطلب الدُّنْيَا ذكر في هذه الآيةِ حالَ من يبذلُ دِينَه ونفسَهُ لطلب الدين، وفي سبب النزول رِوايات.
إحداها: عن ابن عبَّاسٍ، والضَّحَّاكِ: أَنَّها نزلَتْ فِي سريَّة الرَّجيع، وذلك أَنَّ كُفّار قريشٍ بعصوا إلى رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو بالمدينةِ، أَنَّا قد أَسلمنَا، فابعَثْ إلينا نَفَراً من علماءِ أَصْحابك؛ يُعَلِّمُوننَا دِينك، وكان ذلك مَكْراً مِنْهم فبعث إليهم خُبَبْبِ بن عديٍّ الأَنْصَارِيُّ وَمَرثد بن أبي مَرْثدٍ الغَنَويَّ، وخالد بن بُكَيرٍ، وعبد اللَّهِ بن طارِق بن شهابٍ البَلويَّ، وزيدَ بنَ الدَّثِنَّةِ، وأَمَّرَ عليهم عاصِم بن ثابِت بن أبي الأَقلَحِ الأَنْصَارِيّ.
قال أبو هريرة: بعثَ رسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عشرةٌ عَيْناً، وأَمَّرَ عليهم عاصِم بن ثابِتِ بنِ أَبي الأَقْلح الأَنصَاريَّ فسَرُوا، فَنَزلُوا بَطْنَ «الرَّجِيعِ» بين مَكَّةَ والمَدِينةِ، ومعهم تَمْرُ عَجْوَةٍ، فأكلوا فمرَّتْ عجوزٌ، فأبصرت النَّوَى، فرجعت إلى قومها بمكة، وقالت: قد سَلَكَ هذا الطريقَ أهلُ يثرِبَ مِنْ أَصْحابِ مُحمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فركِبَ سبعُونَ رَجُلاً منهم معهم الرِّماحُ، حتى أَحَاطُوا بهم.
وقال أبو هريرة: ذكروا الحيَّ من هُذَيل يقالُ لهم بنو لحيان، فنَفَرُوا لهم بقريب مِنْ مائة راجلٍ رامٍ، فَاقتَفوا آثارَهُم، حتَّى وجدوا مآكلهم التمر في منزلٍ نزلُوه؛ فقالوا: تَمْرُ يَثْرِبَ، فاتَّبعُوا آثارَهم، فلمَّا أَحَسَّ بهم عاصِمٌ وأصحابُه لجأوا إلى فَدْفَد، فأحاط بهم
467
القومُ، فقتلوا مَرْثَداً وخَالِداً وعبد اللَّهِ بن طارقٍ، ونثر عاصِمُ بنُ ثابتٍ كنانَتَهُ، وفيها سبعة أَسهُمٍ، فقتل بكُلِّ سَهْمٍ رَجُلاً مِنْ عُظَماءِ المُشْرِكينَ، ثُمَّ قال: اللَّهُمَّ، إِنِّي قد حميتُ دِينك صدْرَ النهارِ فاحْمِ لَحْمِي آخر النهارِ، ثُمَّ أَحاطَ به المشركُونَ فقتلُوه، فَلَمَّا قتلوه أَرَادُوا جَزَّ رَأْسِهِ؛ ليبيعُوه من سُلاَفة بنت سعد بن شهيد، وكانت قد نَذَرتْ حين أصاب ابنها يومَ أُحُد لَئِنْ قدرتْ على رأسِ عاصم لتشربنَّ في قِحْفه الخمرَ، فأرسل الله رجلاً من الدَّبْرِ، وهي الزَّنابِيرُ، فحمتْ عاصِماً، فلم يقدِرُوا عليه، فسُمِّي حميَّ الدَّبْرِ، فقالوا: دعوه حتى نُمْسِيَ، فتذهب عنه، فنأْخُذَه، فجاءت سَحَابَةٌ سوداُ، وأمطرتْ مطراً كالغزالِ فبعث اللَّهُ الوادي غديراً فاحتمَل عاصِماً به فذهب به إلى الجَنَّة، وحَمَل خَمسِين من المشركينَ إلى النار.
وكان عاصِمٌ قد أَعْطى اللَّهَ عَهْداً ألاَّ يمسَّهُ مُشْركٌ ولا يَمَسَّ مُشْركاً أبداً، فمنعه اللَّهُ، وكان عُمَر بنُ الخطَّاب يقولُ حين بلغه أَنَّ الدَّبْرَ منعتهُ: عجباً لحِفظ اللَّهِ العَبْدَ المؤمِنَ، كان عاصِمٌ نَذَرَ ألاَّ يَمَسَّهُ مشركٌ، ولا يسَّ مُشرِكاً أبداً، فمنعه اللَّهُ بعد وفاتِه، كما امتنع عاصم في حياته، وأسر المشركون خُبَيْب بن عديٍّ، وزيد بنَ الدَّثِنَّةٍ، فذهبوا بهما إلى مكةَ، فأمَّا خُبَيْتبٌ فابتاعه بنو الحارث بن عامرٍ بن نَوفل بن عبدَ مُنافٍ؛ ليقتلُوه بأبيهم، وكان خُبيب هو الذي قتل الحارِثَ يومَ بدرسن فلبث خُبَيبٌ عندهم أسيراً، حتَّى أجمعوا على قتلِه، فاستعار مِنْ بعض بنات الحارثِ مُوسى ليستحِدَّ بِهَا، فأعارتهُ، فدرج بُنيٌّ لها، وهي غافِلةٌ، فما راعَ المرأةَ إلاَّ خبيبٌ قد أَجْلَسَ الصَّبِيَّ على فَخذِهِن والمُوسى بيده، فصاحت المرأةُ، فقال خبيبٌ: أَتَخْشِينَ أن أَقْتُلَهُ؟ ما كنت لأفعل ذلك، إنّ الغدر ليس مِنْ شَأنِنا، فقالت المرأةُ: واللَّهِ ما رأيْتُ أسيراً خيراً من خُبَيْبٍ؛ واللَّهِ لقد وجدتُه يوماً يأكُلُ قطفاً من عِنَبٍ في يَدِهِ، وإنه لموثقٌ بالحديدِ، وما بمكة من ثَمرةٍ، إن كان إلاَّ رِزْقاً رزقه اللَّهُ خُبَيْباًن ثم إِنَّهم خرجوا به من الحرم ليقتُلُوه في الحِلِّ، وأَرَادثوا أَنْ يصلبُوهُ، فقال لهم خبَيبٌ: دعوني أُصَلِّي ركعتَينِ؛ فتركوه، فكان خُبَيْبٌ هو الذي سَنَّ لكل مُسْلم قُتِلَ صَبْراً الصلاةَ، فركع ركعتين، ثُمَّ قال خَبَيْبٌ: لولا أَنْ يَحْسَبُوا أنَّ ما بي من جزعٍ لزّدتُ، اللهمَّ أَحْصِهم عَدَداً؛ وَاقْتُلهم بَدَداً، ولا تُبْقِ منهم أَحَداً وأنشأ يقولُ: [الطويل]
١٠١٩ - وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي
وَذلِكَ فِي ذَاتِ الإلهِ وإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّع
فصَلبُوه حَيَّاً؛ اللَّهُمَّ إشنَّك تعلمُ أَنَّهُ ليس أَحَدٌ حَوْلِي يبلّغ سَلامِي رسولَك فأبلغهُ سَلامِين ثم قام أبُو سَروعةَ عُتبَةُ بنُ الحارِثِ فَقَتَله، ويُقَال: كان رجلاً من المشركين يُقالُ له سَلاَمانَ أَبُوا مَيْسَرة، معه رُمْح فوضعه بي ثَدْيي خُبيبٍ، فقال له خُبَيْبٌ:
468
اتَّقِ اللَّهَ، فما زاده ذلك إِلاَّ عُتُوّاً، فطعنه فأَنفذه، وذلك قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله﴾ [البقرة: ٢٠٦] يعني سَلاَمَانَ.
وأَمَّا زيدُ بنُ الدثنة، فابتاعه صفوانُ بنُ أُميَّة؛ ليقلته بأبيه، أُمية بن خلفٍ، فبعثه مع مَوْلى له يُسَمَّى نسطاس إلى التنعيم، ليقتُلهُ، واجتمع رهطٌ مِنْ قُريشٍ فيهم أبو سُفيان بن حربٍ، فقال له أبو سفيان حين قُدِّمَ ليُقْتَل: أَنْشدك اللَّهَ يا زيدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ محمداً عندنا الآن بمكانك، وتُضْرُب عنقُه وإِنَّك في أَهلك؟ فقال: واللَّهِ ما أحبُّ أَنَّ محمداً الآنَ في مكانِه الذي هو فيه تُصيبُه شوكَةٌ تُؤذيه، وأَنا جالِسٌ في أَهْلِي، فقال أَبُو سُفيانَ: ما رأيتُ أحداً من الناس يُحِبُّ أحداً كَحُبِّ أصحاب مُحَمَّدٍ، ثم قتله نِسْطَاسُ.
فلمَّا بلغ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هذا الخبرُ، قال لأَصحابهِ: «أَيُّكُمْ ينزل خُبَيْباً عن خَشَبته وله الجنةُ» فقال الزُّبَيْرُ أنا يا رَسُول اللَّهِ، وَصَاحِبي المقدادُ بنُ الأَسُودِ، فخرجا يمشيان في الليلِ، ويكمُنانِ بالنهار، حتَّى أََتَيَا التنعيم ليلاً، وإذا حولَ الخَشَبةِ أربعون رجُلاً من المشركين نائمون نشاوى، فَأَنْزَلاَهُ، فإذا هو رَطْبٌ يَنْثَنِي، لم يتغيّرْ بعد أربعين يوماً، ويده على جراحتِه، وهي تَبصُّ دَماً اللونُ لَوْنُ الدّمِ، والريحُ ريحُ المسْكِ، فحمله الزبيرُ على فرسِه، وساروا؛ فانتبه الكفارُ وقد فقدوا خُبَيْباً، فأخبروا قُرَيْشاً، فركب منهم سبعُون رجلاً، فلمَّا لحقوهما قذَفَ الزبيرُ خُبَيْباً؛ فابتلعته الأرضُ فَسُمِّيَ بليعَ الأَرضِ، وقال الزبيرُ: ما جَرَّأكُمْ علينا يا مَعشَر قريشٍ؛ ثم رفع العمامةً عن رأْسِه، وقال: أَنَا الزُّبير بنُ العَوَّام، وأُمِّي صفِيَّةُ بنتُ عبد المطلبِ، وصاحبي المِقدادُ بنُ الأَسُوَدِ، أَسَدَانِ رَابضانِ يَدْفعانِ عن شِبْلهما، فإن شئْتم نازلْتُكم، وإن شِئْتُم انصَرفْتُم. فانصرفا إلى مَكَّة، وقدِما على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وجبريلُ عِنْده، فقال: يا محمدُ، إِنَّ الملائكة لَتُبَاهِي بهذين من أصحابك «
، فنزل في الزُّبَيْر والمِقْداد ﴿وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله﴾ [البقرة: ٢٠٧] حين شرِيا أنفسَهُمَا لإِنْزَالِ خُبَيْبٍ عن خَشَبَته.
وقال أكثرُ المفسِّرين: نزلت في صُهَيب بن سِنان، مَوْلى عبد اللَّهِ بنِ جُدْعانَ الرُّومِيِّ، وفي عمَّارِ بن ياسِرٍ، وفي سُمَيَّة أُمَّه، وفي ياسِرٍ أَبيه، وفي بلالٍ مَوْلَى أبي بَكرٍ، وفي خَبَّاب بن الأَرَتّ وفي عابس مَوْلَى حُوَيْطِب؛ أخذَهُم المشرِكُون فَعَذَّبوهم؛ فقال لهم صُهَيبٌ: إِنِّي شيخٌ كَبيرٌ لا يَضُرُّكُمْ أَمِنْكُمْ كُنْتُ أم مِن عَدوِّكم فهل لكم أَنْ تَأْخُذُوا مَالِي، وتذَرُوني؟ ففعلوا، وكان شرط عليهم راحلةً ونَفَقَةً، فأقام بمكةَ ما شاء اللَّهُ، ثم خرج إلى المدينَةِ، فتَلَقَّاهُ أَبُو بكرٍ وعُمرُ في رجال فقال له أَبُو بَكْرٍ: رَبَحَ بَيْعُكَ يا أَبَا يَحيى؛ فقال: وبيعُكَ فلا تخسر ما ذاك؟ فقال: أنزل اللَّهُ فيك كذا وقرأ عليه الآية.
469
وأمَّا خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ وأَبُو ذَرٍّ ففرَّا إلى المدينة، وأَمَّا سُمَيَّةُ فَرُبطَتْ بين بعيرين ثم قُتلت، وقُتل ياسِرٌ.
وَأَمَّا البَاقُونَ: فأَعْطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركُون، فتُرِكُوا، وفيهم نزل قوله تعالى: ﴿والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ [النحل: ٤١] بتعذيب أهل مكة ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً﴾ [النحل: ٤١] بالنَّصر والغنيمة، ﴿وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ﴾، وفيهم أُنْزِلَ ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً﴾ [النحل: ١٠٦].
وقال سعيدُ بن المُسَيِّب، وعَطَاء: أقبل صُهَيبٌ مهاجراً نحو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاتَّبعُه نفرٌ من مُشركِي قريش، فنزل عن راحِلَته، ونَثَلَ ما في كِنانته، ثُمَّ قال: يا معشَرَ قريشٍ، لقد علمتُمْ أَنِّي لَمِنْ أَرْماكُم رَجُلاً، واللَّهِ لا أضع سَهْماً من كِنَانتي إِلاَّ في قَلْبِ رجلٍ منكم وَأَيْمُ اللَّهِ، لا تَصِلُون إِليَّ حتى أَرْمِي بكل سَهْمٍ في كِنَانتي، ثم أَضْربُ بسيفي ما بَقِيَ في يَدِي، ثم افعلُوا ما شِئْتم، وإن شئتم دَلَلْتُكُمْ على مالِي بمكة وخلَّيْتُم سَبِيلي.
قالُوا: نَعَمْ، ففعل ذلك، فنزلت الآيةُ وقال الحسنُ: أَتَدْرُونَ فِيمن نزلت هذه الآية؟ نزلَت في المُسْلِم يلْقَى الكافِر فيقولُ له: قُلْ لا إِله إلاَّ اللَّهُ، فيَأْبَى أَنْ يقولَهَا، فيقولُ المسلِم: واللَّهِ لأشترينَّ من نفسي لِلَّهِ، فيتقدَّم فيقاتِلُ حَتَّى يقتل.
ورُوِيَ عن عُمر، وعَلِيٍّ، وابنِ عبَّاسِ: أَنَّها نزلت في الأَمر بالمعرُوفِ، والنَّهي عن المُنْكَرِ.
قال ابنُ عبَّاسٍ: أرى مَنْ يَشْري نفسهُ ابتغاءَ مرضاة الله يقومُ فيأْمُر هذا بتقوى اللَّهِ، فإذا لم يقبْل، وأخذته العزَّةُ بالإِثْم، قال هذا: وأنا أَشْرِي نَفْسي فيقاتله، وكان إذا قرأ هذه الآيةَ يقولُ: اقتتلا وربِّ الكَعْبةِ، وسَمِعَ عمرُ بنُ الخطَّابِ إِنساناً يقرأ هذه الآية؛ فقال عُمَرُ: إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إليه راجعون، قام رجلٌ يأمرُ بالمعرُوفِ وينهى عن المُنْكَرِ فَقُتِلَ.
470
وقيل: نزلت في عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي اللَّهُ عنه - باتَ على فِراشِ رسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليلةً خُروجهِ لى الغار.
قوله تعالى: «مَنْ يَشْرِي» : في «مَنْ» الوجهانِ المتقدِّمان في «مَن» الأُولَى، ومعنى يَشْرى: يَبيعُ؛ قال تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ [يوسف: ٢٠]، إِنْ أَعَدْنَا الضميرَ المرفوعَ على الآخِرة، وقال [مجزوء الكامل]
١٠٢٠ - وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ
قال القُرْطبيُّ: بُرْدٌ هنا اسم غلامٍ. فالمعنى: يَبُذُل نفسَه في اللَّهِ، وقيل: بل هو على أصلِهِ من الشِّراء.
قوله: «ابتغاءَ» منصوبٌ على أنه مفعولٌ مِنْ أجله، والشروطُ المقتضيةُ للنصب موجودةٌ، والصَّحِيحُ أنَّ إضافَة المفعولِ له مَحْضَةٌ، خلافاً للجرْمِي، والمُبْرِّد، والرِّيَاشي، وجماعةٍ مِنَ المتأخِّرينَ.
و «مَرْضَاةً» مصدرٌ منيٌّ على تَاءِ التأنيثِ كَمَدْعَاة، والقياسُ تجريدُهُ عنها؛ نحو: مَغْزى، ومَرْمى. قال القُرطبِيُّ: والمَرْضَاةُ، الرِّضَا، تقولُ: رَضِيَ يَرْضى رِضاً وَمَرْضَاة ووقَفَ حمزةُ عليها بالتاءِ، وذلك لِوَجْهَين:
أحدهما: أَنَّ بعضَ العربِ يقِفُ على تاء التأنيثِ بالتاءِ قال القائل في ذلك: [الرجز]
١٠٢١ - دَارٌ لسَلْمَى بَعْدَ حَوْلٍ قَدْ عَفَتْ بَلْ جَوْزِ تَيْهَاءَ كَظَهْرِ الجَحَفتْ
وقد حكى هذه اللُّغة عن سيبويه.
والثاني: أَنْ يكونَ وَقَفَ على نِيَّة الإِضَافة، كأَنَّه نوى لفظَ المضافِ إليه؛ لشدةِ اتِّصال المُتَضَايفيْنِ، فأَقَرَّ التاءَ على حالِها؛ مَنْبَهَةً على ذلك، وهذا كما أَشمُّوا الحرفَ
471
المضْمُوم؛ ليُعْلِمُوا أنَّ الضَّمَّة كالمنطوق بها، وقَدْ أَمالَ الكِسَائيُّ ووَرْشٌ «مَرْضَات».
وفي قوله: «بِالْعِبَادِ» خُرُوجٌ من ضميرِ الغَيْبَةِ إِلَى الاسْم الظَّاهِرِ؛ إذ كان الأَصْلُ «رَؤوفٌ بِهِ» أَوْ «بِهِمْ» وفائدةُ هذا الخُروجِ أنَّ لفظَ «العِبَادِ» يُؤْذِنُ بالتشرِيف، أو لأنه فاصلةٌ فاختير لذلك.

فصل


إِذَا قُلأنا بأنَّ المراد من هذا الشراءِ البيعُ، فتحقيقُه أَنَّ المكلَّفَ باعَ نَفسَه بثوابِ الآخرَةِ، وهذا البيعُ هو أنَّهُ بَذلَها في طاعةِ اللَّهِ تعالى من الصلاةِ، والصيام، والحج والجهاد، ثم يتوصل بذلك إلى وجدان ثَوَابِ الله تعالى فكان ما يبذلُه مِنْ نفْسِه كالسِّلْعةِ، فكأَنَّهُ كالبائِع، واللَّهُ كالمشتري؛ كما قال: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾ [التوبة: ١١١] وقد سَمَّى اللَّهُ تعالى ذلك تِجَارةً، فقال: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾
[الصف: ١٠، ١١} وإِنْ أَجْرَينا الآيةَ على ظاهِرهَا، وقُلنا: إِنَّ المرادَ هو الشراءُن فإن مَنْ أَقْدَم على الكُفْرِ، والتوسُّعِ في مَلاذِّ الدنيا، والإِعْراض عن الآخرة، وقَعَ في العذاب الدَّائِمِ، فصار كَأَنَّ نَفْسَهُ كانت له، فبسبب الكُفْرِ والفِسْقِ خَرجَتْ عن مِلْكه، وصارت حَقّاً للنار، فإذا ترك الكفر والفِسْق، وأقبل على الإِيمان والطاعةِ صار كأنه اشْترى نَفْسَهُ من النار والعذاب.
فإن قيلَ: إن الله تعالى جعل نَفْسَهُ مُشْترياً بقوله: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ وهذا يمنع كَونَ المؤمنِ مُشْتَرِياً.
فالجوابُ: أنه لا مُنَافَاةَ بين الأَمْرين؛ فهو كمن اشترى ثوْباً بعبدٍ، فكل واحد منهما بائع ومُشْتَرٍ فكذا هَا هُنَا.

فصل


يدخُلُ تحتَ هذا كُلُّ مَشَقَّةٍ يتحملها الإنسانُ في طلَبِ الدِّين؛ كالجهادِ والصابر على القَتْلِ، كَقَتْلِ والد عَمَّار وأُمِّه، والآبق مِنَ الكُفَّارِ إلى المسلمين، والمُشْترِي نفسَهُ من الكفار بِمَالِه، كفعل صُهَيبٍ، وَمَنْ يُظْهِرُ الدين والحقَّ عِنْدَ السلطان الجائِر.
رُوِيَ أَنَّ عُمَر - رضي اللَّهُ عنه - بعثَ جَيْشاً، فحاصَرُوا قَصْراً، فتقدَّم منهم وَاحِدٌ
472
فقاتل حتى قُتِلَ، فقال بعضُ القَوْمِ: أَلْقَى بيده إلى التَّهْلكةِ فقال عمرُ: كَذَبْتُم، يرحمُ اللَّهُ أَبَا فُلانٍ. وقرأ ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله﴾ واعلَمْ أَنَّ المشقَّةَ التي يتحملَّلُها الإنسان لا بُدَّ وأَنْ تكونَ على وَفْقِ الشَّرع حتى يدخل بسببه تحت الآية، أَمَّا لو كانَ على خِلاَفِ الشرع فلا يَدْخُلُ فيها، بل يَعَدُّ ذلك مِنْ إِلْقَاء النَّفْس إلى التَّهْلَكَة؛ كما لو خاف التَّلَفَ عند الاغتسال مِنَ الجنَابة ففعل.
قوله: ﴿والله رَؤُوفٌ بالعباد﴾ فمن رَأْفَتِهِ أنه جعل النَّعِيمَ الدَّائِمَ جزاءً على العَمَلِ القَلِيلِ المُنْقَطِع، ومن رَأْفته جَوَّز لهم كلمة الكفرِ إبْقَاء على النفس، وَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنَّهُ لا يكلف نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها، ومِنْ رأْفَتِه ورحمته أن المُصِرَّ على الكُفْرِ مائة سَنَةٍ، إذا تاب - وَلَوْ في لَحْظةٍ - أسقط عنه عِقَابَ تِلْك السنين، وأعطاه الثوابَ الدائم.
وَمِنْ أْفتِه أَنَّ النفسَ لَهُ والمَال، ثم إِنَّهُ يَشْتَرِي ملكه بمكلِه؛ فَضْلاً منه ورحمة وإحْسَاناً وامْتِنَاناً.
473
قوله: «السِّلْم» قرأ هنا «السَّلْم» بالفتح نافعٌ، والكِسائيُّ، وابنُ كثيرٍ، والبَاقُونَ بالكَسْر، وأمَّا التي في الأَنْفال [آية ٦١] فلم يَقْرَأْها بالكَسْرِ إلاَّ أَبُو بكرٍ وحدَه، عَنْ عاصِمٍ، والتي في القِتال [آية: ٣٥] فلم يَقْرَأْها بالكَسْرِ إلاَّ حمزةُ وأَبُو بكرٍ أيضاً، وسيأتي. فقِيل: هَما بمعنىً، وهو الصلحُ مثل رَطْل ورِطْل وجَسْر وجِسْر وهو يُذَكَّر ويُؤَنَّث، قال تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا﴾، وحَكَوْا: «بَنُوا فُلانٍ سِلْمٌ، وسَلْمٌ»، وأصلُه من الاسْتِسْلاَمِ، وهو الانقيادُ، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين﴾ [البقرة: ١٣١] الإسلامُ: إسلامٌ الهدي، والسِّلْم على الصُّلْح، وترك الحرب راجع إلى هذا المعنى؛ لأَنَّ كُلَّ واحدٍ كَصَاحِبهِ، ويُطْلَقُ على الإِسلاَم قاله الكِسَائي وجماعةٌ؛ وأنشدوا: [الوافر]
473
١٠٢٢ - دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا رَأيْتُهُمُ تَوَلَّوا مُدْبِرينَا
يُنْشَدُ بالكَسْرِ، وقال آخرُ في المفتُوحِ: [البسيط]
١٠٢٣ - شَرَائِعُ السَّلْمِ قَدْ بَانَتْ مَعَلِمُهَا فَما يَرَى الكُفْرَ إِلاَّ مَنْ بِه خَبَلُ
فالسِّلْمُ والسَّلْمُ في هذين البيتَيْنِ بمعنى الإِسْلاَم، إلاَّ أنَّ الفَتْحَ فيما هو بمعنى الإِسلام قليل، وقرأ الأَعْمشُ بفتح السِّين واللامِ «السَّلَم».
وقيل: بل هما مختلفا المعنى: فبالكَسْرِ الإِسلامُ، وبالفتحِ الصلحُ.
قال أبُو عُبَيدة: وفيه ثلاثُ لُغَاتٍ: السَّلْم والسِّلْم والسُّلْم بالفَتْح والكَسْر والضمِّ.
«كافةً» مَنْصُوبٌ على الحالِ، وفي صَاحِبهَا ثلاثةُ أقوالٍ.
أظهرها: أنه الفاعلُ في «ادْخُلُوا»، والمعنَى: ادخُلُوا السِّلْم جميعاً، وهذه حالٌ تُؤَكِّدُ معنى العمومِ، فإنَّ قولَكَ: «قام القومُ كافةً» بمنزلةِ: قَامُوا كلُّهم.
والثاني: أنه «السِّلْمُ» قالهُ الزَّمخشريُّ، وأَبُوا البقاءِ، قال الزمخشريُّ: ويَجُوزُ أن تكونَ «كافةً» حالاً من «السِّلْمِ» ؛ لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحَرْبُ؛ قال الشاعر: [البسيط]
١٠٢٤ - السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ والحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِها جُرَعُ
على أنَّ المؤمنينَ أُمِرُوا أَنْ يدْخُلُوا في الطاعاتِ كُلِّها، ولا يَدْخُلوا في طَاعةٍ دونَ طاعةٍ، قال أَبُوا حيَّان تَعْلِيلُه كونُ «كافةً» حالاً مِنَ «السِّلْم» بقولِه: «لأَنَّها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحرب» ليس بشيءٍ؛ لأنَّ التاءَ في «كَافَّة» ليست للتأنيثِ، وإن كان أَصْلُها أَنْ تَدُلَّ عليه، بل صار هذا نقلاً مَحْضاً إِلى مَعْنَى جميعٍ وكُلٍّ، كما صار قاطبةً وعامَّة، إذا كانَ حالاً نَقْلاً مَحْضاً.
فإذا قلت: «قامَ الناسُ كَافةً، وقَاطِبةً» لم يَدُلَّ شيءٌ من ذلك على التأْنِيثِ، كما لا يَدُلُّ عليه «كُلّ» و «جميع».
والثالث: أَنْ يكونَ صاحبُ الحالِ هما جَمِيعاً: أضعْنِي فاعلَ «ادْخُلُوا» و «السِّلْم» فتكونُ حالاً مِنْ شَيْئَين.
وهذا ما أجازه ابنُ عطيةَ فإنه قال: وتَسْتَغْرقُ «كافة» حنيئذٍ المؤمِنين، وجميعَ أجزاءِ
474
الشَّرْع، فتكونُ الحالُ مِنْ شَيْئَيْن وذلك جائِزٌ نحو قولِهِ:
﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ [مريم: ٣٧]. ثم قال بعد كلامٍ: وكافةً معناه جميعاً، فالمراد بالكافّةِ الجماعةُ التي تَكُفُّ مخالِفيها.
وقوله: «نحو قوله فَأَتَّتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُه» يعني أنَّ «تَحْمِلُهُ» حالٌ مِنْ فاعِل «أَتَتْ» ومِنَ الهاء في «بِهِ» قال أبو حيَّان: «هذا المِثَالُ ليس مُطَابِقاً لِلْحَالِ من شَيئينِ لأنَّ لفظَ» تَحْمِلُهُ «لا يحتمل شيئَيْن، ولا تقع الحالُ مِنْ شيئينِ إِلاَّ إِذَا كان اللفظُ يحتملهما، واعتبارُ ذلك بجَعْلِ ذَوِي الحالِ مُبْتدأَيْنِ، وجعل تلك الحالَ خبراً عنهما، فمتى صَحَّ ذلك صَحَّتِ الحالُ؛ نحو قوله [الطويل]
١٠٢٥ - وَعُلِّقُتُ سَلْمَى وَهْيَ ذَاتُ مُوَصَّدٍ وَلَمْ يَبْدُ للأَتْرَابِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ
صَغِيرَيْنِ تَرْعَى البَهْمَ يَا لَيْتَ أَنَّنَا إِلَى اليَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ ولَمْ تَكْبَرِ البَهْمُ
فصغيرَين حالٌ من فاعل»
عُلِّقْتُ «ومِنْ» سَلْمَى «لأنك لو قُلْت: أنا وسَلْمى صَغِيرانِ لَصَحَّ ومثلُه قولُ امرِئ القَيس: [الطويل]
١٠٢٦ - خَرَجْتُ بِهَا نَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا عَلَى أَثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ
فنْمشِي حالُ من فاعل»
خَرَجْتُ «، ومِنْ» هَا «في» بِهَا «؛ لأنَّك لو قلتَ:» أنا وهي نمشي «لصَحَّ، ولذلك أَعْرَب المُعْرِبُونَ» نَمْشِي «حَالاً مِنْهُما، كما تَقَدَّم، و» تَجُرُّ «حالاً مِنْ» هَا «في» بِهَا «، فقط؛ لأنه لا يصلُحُ أن تجعل» تَجُرُّ «خبراً عنهما، لو قلتَ:» أنا وهي تَجرُّ «لم يَصِحَّ؛ فكذلك يتقدَّر بمفردٍ وهو» جارَّة «وأنت لو أَخْبَرْتَ به عن اثْنين، لم يَصِحَّ؛ فكذلك» تَحْمِلُهُ «لا يَصْلُح أَنْ يكون خَبَراً عن اثنين، فلا يَصِحُّ أَنْ يكونَ حالاً منهما، وأمَّا» كَافّة «فإنها بمعنى» جَمِيع «، و» جمِيع «يَصِحُّ فيها ذلك، لا يُقالُ:» كَافَّة «لا يَصحُّ وقوعُها خَبَراً، لو قلتَ:» الزَّيْدُونَ وَالْعَمْرُونَ كَافَّةً «لم يجزْ، فلذلك لا تقعُ حالاً؛ لا مِنْ مانع معنوي، بدليلِ أنَّ مرادِفَها وهو» جَمِيع «و» كُلّ «يُخْبَرُ به، فالعارِضُ المانِعُ ل» كافَّة «من التصرُّفِ لا يَضُرُّ، وقولُه:» الجماعةُ الَّتِي تَكُفُّ مخالِيفها «يعني: أَنَّها في الأصْلِ كذلك، ثم صار اسْتِعْمالُها بمعنى جَمِيع وكُلّ».
واعْلَمْ أنَّ أَصْلَ «كافة» اسمُ فاعلٍ مِنْ كَفَّ يَكُفُّ، أي: مَنَع، ومنه «كَفُّ الإِنسان» ؛
475
لأنها تَمْنَعُ ما يقتضيه، و «كِفّة المِيزَانِ» لجمعها الموزون، ويقالُ: كَفَفْتُ فُلاَناً عن السُّوء، أي: منعتُه، ورجل مَكْفُوفٌ، أي: كُفَّ بَصَرُهُ مِنْ أَنْيبصر، وَالكُفَّةُ - بالضَّمِّ - لكل مستطيلٍ، وبالكَسْرِ، لكلِّ مُسْتدِير.
وقيل: «كافة» مصدرٌ كالعاقبة والعافية. وكافة وقاطبة مِمَّا لَزم نصبُها على الحالِ، فإخراجُهما عن ذلك لَحْنٌ.

فصل


لمَّا بيَّن الله - تعالى - أقسامَ النَّاسِن وأنهم يَنْقَسِمون إلى مُؤْمنٍ، وكافِرٍ، ومُنَافِق قال هاهنا: كُونَوا على مِلَّة واحدة، على الإسلام، واثْبتُوا عليه.
قال ابنُ الخطيب: حمل أكثرُ المفسرِين السِّلْمَ على الإسلامِ، وفيه إِشكالٌ؛ لأنه يَصِيرُ التقدِيرُ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنثوا ادخُلُوا في الإِسْلام، والإِيمانُ هو الإسلامُ، ومعلومٌ أَنَّ ذلك لا يَجوزُ، فلهذا ذكر المفسرون وُجُوهاً.
أحدها: أَنَّ المرادَ بالآيةِ المنافقُونَ، والتقديرُ: يا أَيُّهَا الذي آمنوا بأَلْسنتِهم ادخلُوا بكُلِّيتِكُمْ في الإسلام، ولا تَتَّبعُوا خطواتِ الشيطانِ، أي آثار تَزيينه، وغروره في الإِقامةِ على النِّفاقِ، واحتجوا على هذه بالآيةِ، فهذا التأويلُ على أَنَّ هذه الآيةَ إِنَّما وردت عَقِيبُ مَا مَضَى من ذكر المنافقين وهو قولُه: ﴿وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ [البقرة: ٢٠٤] «الآية» فلمَّا وصفهم بما ذكر، دعاهم في هذه الآيةِ إلى الإيمان بالقلب، وترك النفاق.
وثانيها: رُوِيَ أَنَّ هذه الآية نزلتُ في طائفةٍ من مُسْلِمي أهل الكتاب: «عَبْد اللَّهِ ابن سَلامٍ» وأصحابِهِ، وذلك لأنهم كانوا يُعظِّمون السَّبْتَ، ويكرهون لُحْمَان الإِبِل، بعدما أَسْلَموا وقالوا: يَا رسُولَ اللَّهِ: إِنَّ التوراةَ كتابُ اللَّهِ، فدعْنَا فلنقم بها في صَلاتِنا باللَّيْلِ، فأمرهم اللَّهُ بهذه الآيةِ أَنْ يدخُلُوا في السِّلْم كافَّةً [أي: في شَرَائِعِ الإِسَلام كافة] ولا يتمسَّكُوا بشَيْءٍ من أَحْكامِ التوراة، اعتقاداً له وعملاً به، ولا تتبعوا خُطُواتِ الشيطانِ في التمسُّكِ بأْحْكامِ التوراة بَعْدَ أَنْ عرفْتُم أنها صارت مَنْسُوخةً، وقائِلُ هذا القولِ جعل «كَافَّةً» من وصف «السِّلْم»، كأنه قِيلَ: ادخُلُوا في جميع شَعائِر الإسلام اعتقاداً وعملاً.
وثالثها: أَنَّ هذا الخطابَ لأَهْلِ الكتابِ الَّذِينَ لم يؤمنوا بالنبي - عليه السلام - يَعْنِي: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمنوا﴾. أي: بالكتاب المتقدم ﴿ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً﴾، أي: آمنوا بجميع أنبيائه وكُتُبهم، وبمحمَّد، وكتابهِ على التمامِ، ولا تتبعوا خُطُواتِ الشيطان في
476
تحسينه الاقتصارَ على التوراةِ بسبب أَنَّهُ دِينٌ اتفق الكُلُّ على أنه حَقٌّ، بسبب أَنَّهُ جاء في التوارةِ: وتمسَّكُوا بالسبت ما دامتِ السمَواتُ والأَرْضُ، فيكون المرادُ من خُطُواتِ الشيطانِ الشبهات التي يتمسَّكُونَ بها في بَقَاءِ تلك الشريعة.
قال ابنُ عبَّاسٍ: نزلت الآيةُ في أهل الكتابِ، والمعنى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ﴾ بِمُوسَى وعِيسَى «ادْخُلُوا» فِي الإِسْلاَمِ بمحمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَافَّةً «.
وَروى»
مُسْلِمٌ «عن أبي هريرة، عَنْ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» والَّذِي نفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدهِ، لا يَسْمَعُ بي أَحَدٌ مِنْ هذه الأمَّةِ يَهُوديٌّ ولا نَصْرَانيٌّ، ثُمَّ لَمْ يؤمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به إلاَّ كان مِنْ أَصحابِ النَّارِ «
ورابعها: أَنَّ المرادَ بهذا الخطابِ المسلِمُونَ، والمعنى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ﴾ دُومُوا على الإسلام فيما بَقِيَ من العُمُرِ ولا تَخْرُجوا عنه ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ أي: ولا تلتفتوا إلى الشُّبُهاتِ التي يُلْقيها إليكم أصحابُ الضلالةِ والغوايةِ.
قال حُذَيفةُ بنُ اليمانِ في هذه الآيةِ: الإِسْلاَمُ ثمانيةُ أَسْهم: الصلاةُ سهمٌ، والزكاة سَهْمٌ، والصدقةُ سَهْمٌ، والحجُّ سَهْمٌ، والعمرةُ سَهْمٌ، والجهادُ سَهْم، والأمرُ بالمعروفِ سهمٌ، والنَّهْيُ عن المُنْكر سَهْمٌ، وقد خاب مَنْ لا سهم له.
فإنْ قيل: المؤمنُ الموصوفُ بالشيء يقُالُ له: دُمْ عَلَيْه، ولا يقالُ لهُ: ادخُلْ فيه، والمذكُور في الآيةِ هو قوله: «ادخلُوا»
.
فالجوابُ: الكائن في الدار إذا علم أَنَّ له في المستقبل خروجاً عنها، فلا يمتنع أن يُؤْمَرَ بدخولها في المستقبل، وإن كان في الحال كائناً فيها؛ لأن حالَ كونهِ فيها غيرُ الحالةِ التي أُمِر أن يدخل فيها، فإذا كان في الوقْتِ الثاني قد يخرج عنها، صَحَّ أن يؤمر بدخُلولِها.
وقال آخرُونَ: المراد ب «السِّلْم» في الآية الصُّلح، وتركُ المحاربةِ والمُنَازَعةِ، والتقديرُ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا ادْخُلُوا في السِّلْم كَافَّةً» أي: كُونُوا مُجْتَمِعينَ في نُصْرة الدين واحتمال البَلوَى فيه ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ بأَنْ يحملَكُم على طلب الدُّنْيَا، والمنازعةِ مع الناس، فهو كقوله: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٦]، وقوله: ﴿واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ [آل عمران].
477
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ أي: لاَ تُطِعُوهُ فيما يدعُوكُمْ إليه، وتقدَّم الكلامُ على خطواته.
وقوله: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾.
قال أبو مسلمٍ: مُبِين مِنْ صفاتِ البليغ الذي يُعرِبُ عن ضميره.
قال ابنُ الخطِيب: ويدلُّ على صحةِ هذا المعنى قوله ﴿حموالكتاب المبين﴾ [الدخان: ١ - ٢] ولا يعنى بقوله «مُبين» إلاَّ ذلك. فإن قيلَ: كيف وصفُ الشيطانِ بأَنَّهُ مُبِينٌ مع أَنَّا لا نَرى ذاتَهُ، ولا نسمعُ كَلامَهُ؟
فالجوابُ أنه تعالى لَمَّا بَيَّنَ عداوتَهُ لآدمَ ونسلِه، فلذلك الأمرِ صَحَّ أَنْ يُوصَفَ بأَنَّهُ عدوٌّ مبين، وإِنْ لم يشاهد؛ مثالُه: مَنْ يُظْهر عداوتهُ لرجلٍ في بلد بعيدٍ فقد يصح أن يُقال: إِنَّ فلاناً عدوٌّ مبينٌ لك وإن لم يشاهده في الحال.
قال ابنُ الخطيبِ: وعندي فيه وجهٌ آخرُ، وهو: أن الأصلَ في الإِبانَةِ القطع، والبيانُ إِنَّما سُمِّيَ بياناً لهذا المعنى فَإِنَّه يقطع بعضَ الاحتمالاتِ عن بعض، فوصْفُ الشيطانِ بأنه مبينٌ بيانُه: أنه يقطع الملكف بوسْوسَتِه عن طاعة الله وثوابِه.
فإن قيلَ: كون الشيطان عَدُوّاً لنا، إِمَّا أَنْ يكونَ بسببِ أنه يقصد إيصالَ الآلمِ والمكارِه إلَيْنَا في الحالِ، أو بسببِ أَنَّه بوسوستِه يمنعنا عن الدين والثواب، والأَوَّلُ بَاطِلٌ إِذْ لو كان كذلك لوقعنا في الأَمْراض والآلمِ وليس كذلك.
والثَّانِي - أيضاً - باطِلٌ؛ لأَنَّ مَنء قَبلِ منه تلك الوسْوَسَةَ فإنه أتي من قبل نفسه؛ لقولهِ:
﴿وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ﴾ [إبراهيم: ١١] وإذا كان الحالُ على ما ذكرناهُ، فكيف يُقالُ إنه عدوٌّ لَنَا؟
فالجوابُ: أَنَّهُ عَدُوٌّ من الوجهَينِ معاً أَمَّا من حيثُ أَنَّهُ يحاولُ إيصالَ البلاءِ إلينا، فهو كذلك إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ تعالى منعَهُ عن ذلك، ولا يلْزَمُ مِنْ كونه مُريداً لإيصال الضرِرِ إلينا أَنْ يكونَ قادِراً عليه، وأَمَّا من حيثُ إنه يقدم على الوسْوسَةِ، فمعلومٌ أَنَّ تزيينَ المعاصي وإلقاءَ الشبهاتِ، كُلُّ ذلك لوقوعِ الإنسانِ في الباطل وبه يصيرُ محروماً عن الثَّوابِ.
قوله تعالى: «فَإِنْ زَلَلْتُمْ» الجمهور على «زَلَلْتُمْ» : بفتح العين، وأبو السَّمَّال قرأها
478
بالكسر، فهما لغتان؛ كضلَلت، وضلِلت. و «ما» في «مِنْ بعدِما» مصدريَّةٌ، «مِنْ» بالبتداء الغاية، وهي متعلِّقةٌ ب «زَلَلْتُمْ».
معنى «زَلَلْتُمْ» أي: ضللتم، وقيل: ملتم، يقال: زلَّت قدمه تزلُّ زلاًّ وزللاً، إذا دحضت، وأصل الزلل في القدم، واستعماله في الاعتقادات.

فصل


يروى عن ابن عباس: فإن زللتم في تحريم السَّبت، ولحم الإبل، ﴿مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات﴾ يعني محمَّداً وشرائعه، ﴿فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ في كلِّ أفعاله، فعند هذا قالوا: لئن شئت يا رسول الله، لنتركنَّ كلَّ كتابٍ غير كتابك، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ [النساء: ١٣٦] ومن قال: إن الآية الأولى في المنافقين قال في هذه الآية كذلك.
فإن قيل: إنَّ الحكم المشروط إنما يحسن في حقِّ من لا يكون عالماً بعواقب الأمور، وأجاب قتادة عن ذلك فقال: قد علم أنَّهم سيزلون، ولكنه تعالى قدَّم ذلك، وأوعد فيه؛ ليكون له الحجَّة عليهم.

فصل


قوله: ﴿مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات﴾ يتناول جمع الدلائل العقليَّة والسمعيَّة.
أمَّا العقليَّة، فالعلم بحدوث العالم، وافتقاره إلى صانع يكون عالماً بكلِّ المعلومات، قادراً على كل الممكنات، غنيّاً عن كل الحاجات.
وأمَّا السمعيَّة: فهي البيان الحاصل بالقرآن والسُّنَّة.

فصل


قال القرطبي: دلت الآية على أنَّ عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافراً بترك الشَّرائع.

فصل


قال القاضي: دلَّت الآية على أنَّ المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلاَّ بعد البيان، وإزاحة العلَّة، ودلت الية على أنَّ المتبر حصول البيِّنات، لا حوصل اليقين من المكلف.
479
وقوله: «عَزِيزٌ» يدلُّ على الزَّجر، والتهديد، والوعيد؛ لأن العزيز هو الذي لا يمنع عن مراده، وذلك إنام يحصل بكمال القدرة، وهو تعالى قادر على كل الممكنات، فكأنَّه تعالى قال: «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتُكُمْ البيّنات» فاعموا أنَّ الله قادرٌ عليكم، لا يمنعه عنكم مانع، وهذا نهاية في الوعيد، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب؛ كقول السيِّد لعبده: إن عصيتني فأنت عارف بي، وتعلم قدرتي عليك، والآية كما أنها تدلُّ على نهاية الوعد بقوله: «حَكِيمٌ» فإنَّ اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء، فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن، بل هذا أليق بالحكمة، وأقرب للرحمة، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه لا وجوب لشيءٍ قبل الشَّرع؛ لأنه تعالى أثبت التهديد بشرط مجيء البينات، وقبل الشرع لم تحصل كلُّ البيِّنات.

فصل


قال الجبَّائيُّ: المجبرة تقول: إن الله تعالى يريد الكفر من الكفَّار، والسَّفاهة من السُّفهاء، والله تعالى وصف نفسه بأنه حكيم، ومن فعل السَّفه وأراده لا يكون حكيماً، وأجيب بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمول، فمعنى كونه تعالى حكيماً أنَّه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقاً لكل الأشياء، ومريداً لها.

فصل


يحكى أنَّ قارئاً قرأ «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فسمعه أعرابيٌّ، فأنكره؛ وقال: إنَّ هذا كلام الله تعالى فلا يقول كذا؛ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزَّلل؛ [أنه إغراءٌ عليه].
480
قوله تعالى :" فَإِنْ زَلَلْتُمْ " الجمهور على " زَلَلْتُمْ " : بفتح العين، وأبو السَّمَّال٢٠ قرأها بالكسر، فهما لغتان ؛ كضلَلت، وضلِلت. و " ما " في " مِنْ بعدِما " مصدريَّةٌ، و " مِنْ " لابتداء الغاية، وهي متعلِّقةٌ ب " زَلَلْتُمْ ".
معنى " زَلَلْتُمْ " أي : ضللتم، وقيل : ملتم، يقال : زلَّت قدمه تزلُّ زلاًّ وزللاً، إذا دحضت، وأصل الزلل في القدم، واستعماله في الاعتقادات.

فصل


يروى عن ابن عباس : فإن زللتم في تحريم السَّبت، ولحم الإبل، ﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ يعني محمَّداً وشرائعه، ﴿ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ في كلِّ أفعاله، فعند هذا قالوا : لئن شئت يا رسول الله، لنتركنَّ كلَّ كتابٍ غير كتابك، فأنزل الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [ النساء : ١٣٦ ] ومن قال : إن الآية الأولى في المنافقين قال في هذه الآية كذلك.
فإن قيل : إنَّ الحكم المشروط إنما يحسن في حقِّ من لا يكون عالماً بعواقب الأمور، وأجاب قتادة٢١ عن ذلك فقال : قد علم أنَّهم سيزلون، ولكنه تعالى قدَّم ذلك، وأوعد فيه ؛ ليكون له الحجَّة عليهم.

فصل


قوله :﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ يتناول جميع الدلائل العقليَّة والسمعيَّة.
أمَّا العقليَّة، فالعلم بحدوث العالم، وافتقاره إلى صانع يكون عالماً بكلِّ المعلومات، قادراً على كل الممكنات، غنيّاً عن كل الحاجات.
وأمَّا السمعيَّة : فهي البيان الحاصل بالقرآن والسُّنَّة.

فصل


قال القرطبيُّ٢٢ : دلت الآية على أنَّ عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافراً بترك الشَّرائع.

فصل


قال القاضي٢٣ : دلَّت الآية على أنَّ المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلاَّ بعد البيان، وإزاحة العلَّة، ودلت الآية على أنَّ المعتبر حصول البيِّنات، لا حصول اليقين من المكلف.
وقوله :" عَزِيزٌ " يدلُّ على الزَّجر، والتهديد، والوعيد ؛ لأن العزيز هو الذي لا يمنع عن مراده، وذلك إنما يحصل بكمال القدرة، وهو تعالى قادر على كل الممكنات، فكأنَّه تعالى قال :﴿ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ فاعموا أنَّ الله قادرٌ عليكم، لا يمنعه عنكم مانع، وهذا نهاية في الوعيد، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب ؛ كقول السيِّد لعبده : إن عصيتني فأنت عارف بي، وتعلم قدرتي عليك، والآية كما أنها تدلُّ على نهاية الوعد بقوله :" حَكِيمٌ " فإنَّ اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء، فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن، بل هذا أليق بالحكمة، وأقرب للرحمة، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه لا وجوب لشيءٍ قبل الشَّرع ؛ لأنه تعالى أثبت التهديد بشرط مجيء البينات، وقبل الشرع لم تحصل كلُّ البيِّنات.

فصل


قال الجبَّائيُّ٢٤ : المجبرة تقول : إن الله تعالى يريد الكفر من الكفَّار، والسَّفاهة من السُّفهاء، والله تعالى وصف نفسه بأنه حكيم، ومن فعل السَّفه وأراده لا يكون حكيماً، وأجيب بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمور، فمعنى كونه تعالى حكيماً أنَّه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقاً لكل الأشياء، ومريداً لها.

فصل


يحكى أنَّ قارئاً قرأ " فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " فسمعه أعرابيٌّ، فأنكره ؛ وقال : إنَّ هذا كلام الله تعالى فلا يقول كذا ؛ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزَّلل ؛ [ أنه إغراءٌ عليه ].
«هَلْ» لفظه استفهامٌ والمراد به النفي؛ كقوله: [الطويل]
١٠٢٧ - وَهَلْ أَنَا إِلاَّ مِنْ غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ غَوَيْتُ، وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
أي: ما ينظرون، وما أنا، ولذلك وقع بعدها «إلاَّ» كما تقع بعد «ما». و «هَلْ» تأتي على أربعة أوجهٍ:
480
الأأول: بمعنى «مَا» كهذه الآية، وقوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾ [الأعراف: ٥٣].
الثاني: بمعنى «قَدْ» كقوله تعالى: ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان﴾ [الإنسان: ١] أي: قد أتى، وقوله: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم﴾ [ص: ٢١] و ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية﴾ [الغاشية: ١]، أي: قد أتاك.
والثالث: بمعنى «أَلاَ» قال تعالى: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ﴾ [طه: ٤٠] أي: أَلاَ أدلكم، ومثله ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين﴾ [الشعراء: ٢٢] أي: ألا أنبئكم.
الرابع: بمعنى الاستفهام، قال تعالى: ﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ﴾ [الروم: ٤٠].
و «يَنْظُرون» هنا بمعنى ينتظرون، وهو معدًّى بنفسه، قال امرؤ القيس: [الطويل]
١٠٢٨ - فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانِيَ سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ يَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدَبِ
وليس المراد هنا بالنظر تردد العين؛ لأنَّ المعنى ليس عليه؛ واستدلَّ بعضهم على ذلك بأن النظر بمعنى البصر يتعدَّى ب «لى»، ويضاف إلى الوجه، وفي الآية الكريمة متعدٍّ بنفسه، وليس مضافاً إلى الوجه، ويعني بإضافته إلى الوجه قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢، ٢٣] فيكون بمعنى الانتظار، وهذا ليس بشيء، أما قوله: إن الذي بمعنى البصر يتعدَّى ب «إلى» فمسلم، وقوله: «وهو هنا متعدٍّ بنفسه» ممنوعٌ، إذ يحتمل أن يكون حرف الجر وهو «إلَى» محذوفاً؛ لأنه يطَّرد حذفه مع «أَنْ» و «أَنَّ»، إذا لم يكن لبسٌ، وأمَّا قوله: «يُضَافُ إلى الوَجْهِ»، فممنوعٌ أيضاً، إذ قد جاء مضافاً للذات؛ قال تعالى: ﴿أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٤٣] ﴿أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل﴾ [الغاشية: ١٧]. والضمير في «يَنْظُرُونَ» عائدٌ على المخاطبين بقوله: «زَلَلْتُمْ» فهو التفاتٌ.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ﴾ هذا مفعول «يَنْظُرُونَ» وهو استثناءٌ مفرَّغٌ، أي: ما ينظرون إلا إتيان الله.
والمعنى ما ينظرون، يعني التاركون الدخُّول في السِّلم.
قوله تعالى: «في ظُلَلٍ» فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أن يتعلَّق بيأتيهم، والمعنى: يأتيهم أمره أو قدرته أو عقابه أو نحو ذلك، أو يكون كنايةً عن الانتقام، إذ الإتيان يمتنع إسناده إلى الله تعالى حقيقةً.
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: هو مفعول يتيهم، أي: في حال كونهم مستقرين في ظلل، وهذا حقيقة.
481
والثاني: أنه الله تعالى بالمجاز المتقدِّم، أي: أمر الله في حال كونه مستقراً في ظلل.
الثالث: أن تكون «في» بمعنى الباء، وهو متعلقٌ بالإتيان، أي: إلاَّ أن يأتيهم بظلل؛ ومن مجيء «في» بمعنى الباء قوله: [الطويل]
١٠٢٩ -........................... خَبِيرُونَ في طَعْنِ الكُلَى وَالأَبَاهِرِ
لأنَّ «خَبِيرِينَ» إنَّما يتعدَّى بالباء؛ كقوله: [الطويل]
١٠٣٠ -................. فَإنَّني... خَبِيرٌ بأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
الرابع: أن يكون حالاً من «المَلاَئِكَةِ» مقدَّماً عليها ويحكى عن أبيّ، والأصل: إلاَّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظللٍ، ويؤيِّد هذا قراءة عبد الله إياه كذلك، وبهذا - أيضاً - يقلُّ المجاز، فإنه - والحالة هذه - لم يسند إلى الله تعالى إلاَّ الإتيان فقط بالمجاز المتقدم.
وقرأ أُبيّ وقتادة والضَّحاك: في ظلالٍ، وفيها وجهان:
أحدهما: أنها جمع ظلّ؛ نحو: صلّ وصلال.
والثاني: أنها جمع ظلَّة؛ كقلَّة وقلال، وخلَّة وخلال، إلاَّ أنَّ فعالاً لا ينقاس في فُعلة.
قوله تعالى: «مِنَ الغَمَامِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل «ظُلَل» التقدير: ظُلَلٍ كائنةٍ من الغمام. و «مِنْ على هذا للتعبيض.
والثاني: أنه متعلق ب»
يَأْتِيهم «، وهي على هذا لابتداء الغاية، أي: من ناحية الغمام.
والجمهور على رفع»
المَلاَئِكَةُ «؛ عطفاً على اسم» الله «.
وقرأ الحسن وأبو جعفر: بجرِّ»
الملائكةِ «وفيه وجهان:
أحدهما: العطف على»
ظُلِلٍ «، أي: إلاَّ أن يأتيهم في ظللٍ، وفي الملائكة.
482
والثاني: العطف على» الغمامِ «أي: من الغمام ومن الملائكة، فتوصِف الملائكة بكونها ظللاً على التشبيه، وعلى الحقيقة، فيكون المعنى يأتيهم أمر الله وآياته، والملائكة يأتون ليقومون بما أمروا به من الآيات والتعذيب، أو غيرهما من أحكام يوم القيامة.
قوله:»
وقُضِيَ الأمرُ «الجمهور على» قُضِيَ «فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون معطوفاً على»
يَأْتيهم «وهو داخل في حيِّز الانتظار، ويكون ذلك من وضع الماضي موضع المستقبل، والأصل: ويقضى الأمر وإنما جيء به كذلك؛ لأنه محققٌّ كقوله: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١] وقوله: ﴿وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني﴾ [المائدة: ١١٦] والسبب في اختيار هذا المجاز، إمَّا التنبيه على قرب الآخرة، وكأنها قد أتت، أو المبالغة في تأكيد وقوعها، كأنها قد وقعت.
والثاني: أن يكون جملة مستأنفة برأسها، أخبر الله تعالى بأنه قد فرغ من أمرهم، فهو من عطف الجمل، وليس داخلاً في حيّز الانتظار.
وقرأ معاذ بن جبل:»
وَقَضَاء الأَمْرِ «قال الزمخشريُّ:» عَلَى المصْدَرِ المرفوع؛ عطفاً على الملائكة «. وقال غيره: بالمدِّ والخفض؛ عطفاً على» الملائكة «.
قيل: وتكون على هذا»
فِي «بمعنى» البَاءِ «أي: بظُللٍ، وبالملائكة، وبقضاء الأمر، فيكون عن معاذ قراءتان ي الملائكة، الرفع والخفض، فنشأ عنهما قراءتان له في قوله:» وقُضِيَ الأمر «.
ومعنى قضي الأمر؛ هو فصل القضاء ببين الخلق يوم القيامة، وإنزال كلِّ واحد منزلته من جنَّةٍ، أو نارٍ؛ قال تعالى: ﴿وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق﴾ [إبراهيم: ٢٢].
قوله: ﴿وإلى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ هذا الجار متعلق بما بعده، وإنما قدِّم للاختصاص، أي: لا ترجع إلاَّ إليه دون غيره. وقرأ الجمهور: «تُرْجَعُ»
بالتأنيث لجريان جمع التكسير مجرى المؤنث، إلاَّ أنَّ حمزِة والكسائي ونافعاً قرؤوا ببنائه للفاعل، والباقون ببنائه للمفعول، و «رَجَعَ» يستعمل متعدياً تارةً، ولازماً أخرى، وقال تعالى: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله﴾ [التوبة: ٨٣] فجاءت القراءتان على ذلك، وقد سمع في المتعدي «أرجع» رباعياً، وهي
483
لغة ضعيفة، ولذلك أبت العلماء أن تجعل قراءة من بناه للمفعول مأخوذةً منها. وقرأ خارجة عن نافع: «يُرْجَعُ» بالتذكير، وببنائه للمفعول؛ لأن تأنيثه مجازي، والفاعل المحذوف في قراءة من بناه للمفعول: إمَّا الله تعالى، أي: يرجعها إلى نفسه بإفناء هذه الدار، وإمَّا ذوو الأمور؛ لأنه لمَّا كانت ذواتهم وأحوالهم شاهدةً عليهم بأنهم مربوبون مجزيُّون بأعمالهم كانوا رادِّين أمورهم إلى خالقها.
قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في قوله «تُرْجَعُ الأُمُورُ» بضم التاء ثلاثة معانٍ.
أحدها: ما ذكرناه، وهو أنه جلَّ جلاله يرجعها إلى نفسه.
والثاني: أنه على مذهب العرب، من قولهم «فلانٌ يُعْجَبُ بنفسه» ويقول الرجلُ لغيره: «إلى أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ»، وإن لم يكن أَحَدٌ يَذْهَبُ به.
والثالث: أن ذوات الخلق لما كانت شاهدةً عليهم، بأنهم مخلوقون محاسبون، كانوا رادّين أمرهم إلى خالقهم، فقوله «تُرْجَعُ الأُمُورُ» أي: يردّها العباد إليه، وإلى حكمه بشهادة أنفسهم، وهو كقوله ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ [الجمعة: ١] فإن هذا التسبيح بحسب الحال، لا بحسب النطق، وقوله: ﴿وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ [الرعد: ١٥] قيل: المعنى يسجد له المؤمنون طوعاً، ويسجد له الكفَّار كرهاً بشهادة أنفسهم بأنَّهم عبيد الله.

فصل في تفسير «الظلل»


«الظُّلَلُ» جمع ظُلَّةٍ، وهو ما أظَلَّكَ الله به «والغَمَامُ» هو السَّحاب الأبيض الرَّقيق، سمِّي غماماً؛ لأنه يغمُّ، أي: يستر.
وقال مجاهدٌ: هو غير السحاب، ولم يكن إلاَّ لبني إسرائيل في تيههم.
وقال مقاتلٌ: كهيئة الضَّبابة أبيض.
قال الحسن: في سترةٍ من الغمام. والأولى في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها، ويكل علمها إلى الله تعالى؛ على ذلك مضت أئمة السَّلف، وعلماء السُّنَّة.
484
قال ابن عباس، في رواية أبي صالح، والكلبي: هذا من المكتوم الذي لا يفسَّر، وكان مكحولٌ، والزُّهريُّ، والأوزاعيُّ، ومالكٌ، وابن المبارك، وسفيان الثَّوريُّ، واللَّيث بن سعد، وأحمد، وإسحاق يقولون فيه وفي أمثاله: أَمِرَّها كما جاءت بلا كيف.
قال سفيان بن عيينة: كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه، فتفسيره: قراءته، والسكوت عنه؛ ليس لأحدٍ أن يفسِّره إلاَّ الله ورسوله.
وروي عن ابن عبَّاسِ أنه قال: نزل القرآن على أربعة أوجهٍ:
وجه لا يعرفه أحد لجهالته، ووجه يعرفه العلماء، ووجه نعرفه من قبل العربيَّة فقط، ووجه لا يعلمه إلاَّ الله.
وقال جمهور المتكلِّمين: لا بدَّ من التَّأويل، وفيه وجوهٌ:
أحدها: أنَّ المراد ﴿يَأْتِيَهُمُ الله﴾ آياتُ الله. فجعل مجيء الآيات مجيئاً له؛ على التفخيم لشأن الآيات؛ لأنه قال قبله: «فَإشنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ البَيِّنَاتُ» ثم ذكر هذه الآية في معرض التهديد، ومعلومٌ أنه بتقدير أن يصح المجيء على الله تعالى لم يكن مجرد حضوره سبباً للتهديد والزَّجر، وإذا ثبت أنَّ المقصود من الآية إنَّما هو الوعيد والتهديد والزجر، وجب أن يضمن في الآية مجيء الآيات والقهر والتَّهديد، ومتى أضمرنا ذلك، زالت الشُّبهة بالكلية.
الثاني: أن يأتيهم أمر الله، كقوله: ﴿إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله﴾ [المائدة: ٣٣] والمراد: يحاربون أولياءه. وقوله: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] والمراد: أهل القرية، فكذا قوله: «يَأتِيهِم اللَّهُ» المراد: يأتيهم أمر الله، كقوله: ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً﴾ [الفجر: ٢٢]، وليس فيه إلاَّ حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو مجازٌ مشهورٌ كثيرٌ في كلامهم، تقول: «ضرب الأمير فلاناً، وصلبه، وأعطاه» وهو إنَّما أمر بذلك، لأنه تولَّى ذلك بنفسه، ويؤكد هذا قوله في سورة النحل: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [النحل: ٣٣] فصارت هذه الآية مفسرة لتلك الآية، لأنَّ هذه الآيات لمَّا وردت في واقعةٍ واحدةٍ، لم يبعد حمل بعضها على البعض، ويؤيِّده - أيضاً - قوله بعده: «وَقُضِيَ الأَمْرُ» والألف واللام للمعهود السَّابق، وهو الأمر الذي أمضرمناه.
فإن قيل: أمر الله صفة قديمة، فالإتيان عيلها محالٌ.
وعند المعتزلة: أنه أصواتٌ، فتكون أعراضاً، فالإتيان عليها - أيضاً - محال.
485
والجواب: أن الأمر في اللغة له معنيان:
أحدهما: الفعل والشَّأْن والطَّريق؛ قال تعالى: ﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر﴾ [القمر: ٥٠]، ﴿وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ [هود: ٩٧]، وفي المثل: «لأَمْرِ مَا جَدَعَ قَصِيرٌ أَنْفَهُ»، و «لأَمْرِ مَا يُسَوَّدُ مَنْ يُسَوَّدُ»، فيجعل الأمر عبارة عن الفعل، وهو ما يليق بتلك المواقف من الأهوال، وهذا هو التَّأويل الأول، وإن حملنا الأمر على ضدِّ النهي، ففيه وجهان:
أحدهما: أن منادياً ينادي يوم القيامة ألا أن الله يأمركم بكذا، وكذا، فذاك هو إتيان الأمر.
وقوله: «في ظُلَلٍ»، أي: مع ظللٍ، والتقدير: أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في زمان واحد.
الثاني: أن يكون المراد من إتيان أمر الله في ظلل حصول أصوات مقطَّعة مخصوصة في تلك الغمامات، تدلُّ على حكم الله تعالى على كلِّ ما يليق به؛ من السَّعادة، والشقاوة، وتكون فائدة الظُّلل من الغمام أنه تعالى جعله مارة لما يريد إنزاله بالقوم، فعنده يعلمون أنَّ الأمر قد حضر وقرب.
الوجه الثالث: أن يأتيهم الله بما وعد من الحساب، والعذاب، فحذف ما يأتي به، تهويلاً عليهم؛ إذ لو ذكر كان أسهل عليهم في باب الوعيد، وإذا لم يذكر كان أبلغ؛ لانقسام خواطرهم، وذهاب فكرهم في كل وجهٍ، كقوله تعالى: ﴿فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد﴾ [النحل: ٢٦] وقوله: ﴿فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ﴾ [الحشر: ٢] أو قوله: ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: ٢٦] وآتاهم العذاب، كالتفسير لقوله: ﴿فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: ٢٦].
الوجه الرابع: أن تكون «فِي» بمعنى «البَاءِ»، وتقديره: هل ينظرون إلاَّ أن يأتيهم الله بظللٍ من الغمام، وحروف الجرِّ يقام بعضها مقام بعضٍ.
الوجه الخامس: قال ابن الخطيب: وهو أوضح عندي من كلِّ ما سلف، وهو أنَّا ذكرنا أنَّ قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً﴾ نزلت في اليهود، فعلى هذا قوله: ﴿فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ يكون
486
خطاباً مع اليهود، [وحينئذٍ يكون قوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملاائكة﴾ حكاية عن اليهود]، والمعنى: أنهم لا يقبلون دينك حتى يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وذلك لأنهم فعلوا مع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مثل ذلك، فقالوا: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥].
وإذا كان هذا كايةً عن اليهود، لم يمتنع إجراء الآية على ظاهرها؛ لأن اليهود كانوا مشبِّهةً، وكانوا يجوِّزون على الله تعالى المجيء والذَّهاب، وكانوا يقولون: إنَّه تعالى تجلَّى لموسى - عليه السلام - على الطُّور في ظلل من الغمام، وطلبوا مثل ذلك في زمن محمد - عليه السلام - وعلى هذا فيكون الكلام حكايةً عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه، فلا يحتاج حينئذٍ إلى تأويلٍ، ولا إلى حمل اللفظ على المجاز.
وبالجملة فالآية الكريمة تدلُّ على أنَّ قوماً ينتظرون أن يأتيهم الله، وليس في الآية دلالةٌ على أنهم محقُّون في ذلك الانتظار، أو مبطلون؛ فزال ذلك الإشكال.
فإن قيل: فعلى هذا التَّأويلن كيف يتعلق قوله تعالى: ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور﴾ ؟
قلنا: الوجه فيه أنَّه تعالى لمَّا حكى عنادهم، وتوقفهم في قبول الدِّين على هذا الشرط الفاسد، ذكر بعده ما يجري مجرى التهديد، فقال: ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور﴾.
قال ابن تيميَّة: وهذا من أعظم الافتراء على الله، وعلى كتابه؛ حيث جعل خطاب الله مع المؤمنين خطاباً مع اليهود وهو قوله: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم﴾ أنَّ الله مع المؤمنين خطاباً مع اليهود، مع أنَّ الله تعالى دائماً يفصل في كتابه بين الخطابين، فيقول للمؤمنين: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ﴾، ويقول لأولئك: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، و ﴿ياأهل الكتاب﴾، فكيف يجعل خطاب المؤمنين الصريح خطاباً لليهود فقط؟ وهذا من أعظم تدبديل للقرآن.
وأيضاً فقوله بعد ذلك: ﴿فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات﴾ لا يقال: إن زللتم لمن هم مقيمون على الكفر والضلال.
وأما قوله في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام﴾ أنه من اعتقاد اليهود الفاسد، لا من كلام الله تعالى الذي توعَّد به عباده، فهذا افتراءٌ على الله، وكذب على اليهود، وأيضاً فإنه لم ينقل أحد عنهم أنهم كانوا ينتظرون في زمن محمد - عليه السلام - أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام.
وقد ذكر المفسرون وأهل السِّير والمغازي في مخاطبات اليهود الذين كانوا بالحجاز للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع كثرة من كان من اليهود بالحجاز، وكثرة ما نزل بسببهم من القرآن، وكذلك ما نقل عنهم أنَّهم كانوا يقولون: إنَّ الله تجلَّى ل «مُوسى» على الطُّور في ظللٍ من الغمام وهو أمر لم يذكره الله تعالى عنهم على هذا الوجه، فإن كان هذا حقّاً عنهم، وكانوا
487
ينتظرون مثل ذلك، فيكونون قد جوَّزوا أن يكون الله تجلَّى لرسول الله كما تجلَّى لموسى، ومعلوم أنَّ اليهود لم يقولوا ذلك، وما ذكره الله تعالى عنهم من طلبهم رؤية الله جهرةً، فهذا حقٌّ، ولكن أخبر أنَّهم طلبوا الرؤية ولم يخبر أنَّهم انتظروها، والمطلب للشيء معتقدٌ؛ لأنه يكون لا طالب من غير أن يكون، وهذا كقوله تعالى: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ﴾ [البقرة: ١٠٨].
488
قرأ الجمهور: «سَلْ» وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون من لغة: سال يسال، مثل: خَافَ يَخَافُ، وهل هذه الألف مبدلة من همزة، أو واو، أو ياء؟ خلاف تقدَّم في قوله: ﴿فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة: ٦١] فحينئذٍ يكون الأمر منها: «سَلْ» مثل «خَفْ» لمَّا سكنت اللام حملاً للأمر على المجزوم، التقى ساكنان فحذفت العين لذلك، فوزنه على هذا فَلْ، وبهذا التقدير قرأ نافعٌ، وابن عامر «سَالَ سَائِلٌ» على وزن «قال»، «وكان».
والثاني: أن تكون من سأل بالهمز.
قال قطربٌ: سأَلَ يَسْأَلُ مثل زَأر الأسد يَزْأَرُ، والأصل: اسأل ثم ألقيت حركة الهمزة على السِّين، تخفيفاً، واعتددنا بحركة النقل، فاستغنينا عن همزة الوصل فحذفناها، ووزنه أيضاً فَلْ بحذف العين، وإن اختلف المأخذ.
وروى عباس عن أبي عمرو: «اسْأَلْ» على الأصل من غير نقلٍ. وقرأ قوم: «اسَلْ» بالنقل وهمزة الوصل، كأنَّهم لم يعتدُّوا بالحركة المنقولة كقولهم: «الَحْمر» بالهمز.
وقرأ بعضهم «سَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ» بغير همزٍ، وقرأوا ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَة﴾ [يوسف: ٨٢] ﴿فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب﴾ [يونس: ٩٤] ﴿واسألوا الله مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: ٣٢] بالهمزة، وقرأ الكسائيُّ الكلَّ بغير همزٍ اتِّباعاً للمصحف، فإنَّ الألف ساقطةٌ فيها أجمع، و «بني» مفعولٌ أول عند الجمهور.
وقوله: «كم آتيناهم» في «كَمْ» وجهان:
أحدهما: أنها في محل نصب. واختلف في ذلك فقيل: نصبها على أنها مفعولٌ ثانٍ ل «آتياناهم» على مذهب الجمهور، وأول على مذهب السُّهيلي، كما تقدَّم.
488
وقيل: يجوز أن ينتصب بفعل مقدَّر يفسِّره الفعل بعدها تقديره: كم آتينا آتيناهم، وإنما قدرنا ناصبها بعدها؛ لأنَّ الاستفهام له صدر الكلام، ولا يعمل فيه ما قبله، قاله ابن عطيَّة، يعني أنه عنده من باب الاشتغال، قال أبو حيَّان: وهذا غير جائزٍ إنْ كان «مِنْ آيةٍ» تمييزاً؛ لأن الفعل المفسِّر لم يعمل في ضمير «كَمْ» ولا في سبيها، وإذا لم يكن كذلك، امتنع أن يكون من ابا سببيِّه.
ونظير ما أجازه أن تقول: «زَيْداً ضربْتُ» ويكون من باب الاشتغال، وهذا ما لم يجيزه أحد.
فإن قلنا أنَّ تمييزها محذوف، وأطلقت «كَمْ» على القوم، جاز ذلك؛ لأنَّ في جملة الاشتغال ضمير الأول؛ لأنَّ التقدير: «كَمْ مِنْ قَوْم آتيناهُمْ» قال شهاب الدِّين: وهذا الذي قاله الشيخ من كونه لا يتمشَّى على كون «مِنْ آية» تمييزاً قد صرَّح به ابن عطيَّة فإنه قال «وقوله:» مِنْ آيةٍ «هو على التقدير الأول، مفعول ثان لآتيناهم، وعلى الثاني في موضع التمييز» يعني بالأول نصبها على الاشتغال، وبالثاني نصبها بما بعدها.
الوجه الثاني: أن تكون «كَمْ» في محلِّ رفع بالابتداء، والجملة بعدها في محلِّ رفع خبراً لها، والعائد محذوفٌ تقديره: كم آتيناهموها، أو آتيناهم إيَّاها، أجازه ابن عطيَّة وأبو البقاء، واستضعفه أبو حيَّان من حيث إن حذف عائد المبتدأ المنصوب لا يجوز إلاَّ في ضرورةٍ، كقوله: [السريع]
١٠٣١ - وَخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتُنَا بِالْحَقُ لاَ يُحْمَدُ بالْبَاطِلِ
أي: وخالدٌ يحمده. وهذا نقل بعضهم، ونقل ابن مالكٍ، أنَّ المبتدأ إذا كان لفظ «كُلٍّ»، أو ما أشبهها في الافتقار والعموم جاز حذف عائده المنصوب اتفاقاً من البصريِّين والكوفيِّين، ومنه: ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ [النساء: ٩٥] في قراءة نافعٍ، وإذا كان المبتدأ غير ذلك، فالكوفيُّون يمنعون ذلك لا في السِّعة، والبصريُّون يجيزونه بضعفٍ، ومنه: ﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ﴾ [المائدة: ٥٠] برفع «حُكْم». فقد حصل أنَّ الذي أجازه ابن عطية ممنوعٌ عند الكوفيين، ضعيف عند البصريين.
وهل «كَمْ» هذه استفهامية، أو خبرية؟ الظاهر الأول، وأجاز الزمخشريُّ فيها الوجهين، ومنعه أبو حيَّان من حيث إن «كَمْ» الخبرية مستقلة بنفسها، غير متعلقةٍ بالسؤال، فتكون مفلتةً ممّا قبلها، والمعنى يؤدي إلى انصباب السؤال عليها، وأيضاً فيحتاج إلى حذف المفعول الثاني للسؤال، تقديره: سل بني إسرائيل عن الآيات التي
489
آتيناهم، ثم قال: كثيراً من الآيات التي آتيناهم، والاستفهامية لا تحتاج إلى ذلك.
و «مِنْ آيةٍ» فيه وجهان:
أحدهما: أنها مفعول ثان على القول بأنَّ «كَمْ» منصوبةٌ على الاشتغال؛ كما تقدَّم، ويكون ممِّيز «كَمْ» محذوفاً، و «مِن» زائدةٌ في المفعول؛ لأنَّ الكلام غير موجب، إذ هو استفهامٌ، وهذا إذا قلنا إنَّ «كَمْ» استفهامية لا خبريةٌ؛ إذ الكلام مع الخبرية إيجابٌ، و «مِنْ» لا تزاد في الواجب إلاَّ على رأي الأخفش، والكوفيِّين، بخلاف ما إذا كانت استفهامية. قال أبو حيَّان: فيمكن أن يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما بعده وفيه بعدٌ، لأنَّ متعلَّق الاستفهام هو المفعول الأول لا الثاني، فلو قلت: «كَمْ مِنْ دِرْهمٍ أعطيته مِنْ رَجلٍ» على زيادة «مِنْ» في «رَجُلٍ» لكان فيه نظرٌ «انتهى.
والثاني: أنها تمييز، ويجوز دخول»
مِنْ «على مميِّز» كَمْ «استفهامية كانت أو خبرية مطلقاً، أي: سواء وليها ممِّزها، أم فصل بينهما بجملةٍ، أو ظرفٍ أو جارٍّ ومجرورٍ، على ما قرَّره النحاة، و» كَمْ «وما في حيِّزها في محلِّ نصب أو خفض، لأنها في محل المفعول الثاني للسؤال فإنَّه يتعدَّى لاثنين: إلى الأوَّل بنفسه وإلى الثَّاني بحرف جرٍّ: إمَا عن، وإمَّا الباء؛ نحو: سألته عن كذا وبكذا؛ قال تعالى:
﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً﴾ [الفرقان: ٥٩]، وقد جمع بينهما في قوله: [الطويل]
١٠٣٢ -... فَأَصْبَحْنَ لاَ يَسْأَلْنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ
............................. وقد يحذف حرف الجرِّ، فمن ثمَّ جاز في محلِّ «كَمْ» النصب، والخفض بحسب التقديرين، و «كَمْ» هنامعلقة للسؤال، والسؤال لا يعلَّق إلا بالاستفهام؛ كهذه الآية، وقوله تعالى: ﴿﴾ [القلم: ٤٠]، وقوله: [الطويل]
١٠٣٣ - يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ المُزْجِي مَطِيَّتَهُ... سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ
وقال آخر: [السبيط]
١٠٣٤ -...........................
490
وَاسْأَلْ بِمَصْقَلَةَ البَكْرِيِّ مَا فَعَلا
وإنما علَّق السؤال، وإن لم يكن من أفعال القلوب؛ قالوا: لأنه سببٌ للعلم، والعلم يعلَّق، فكذلك سببه، وإذا كانوا قد أجروا نقيضه في التعليق مجراه في قوله: [الطويل]
١٠٣٤ - وَمَنْ أَنْتُمُ إِنَّا نَسِينَا مَنَ أَنْتُمُ وَرِيحُكُمْ مِنْ أَيِّ رِيحِ الأَعَاصِرِ
فإجراؤهم سببه مجراه أولى.
واختلف النحاة في «كَمْ» : هل بسيطةٌ، أو مركبة من كاف التَّشبيه وما الاستفهامية، حذفت ألفها؛ لانجرارها، ثم سكنت ميمها، كما سكّنت ميم «لِمْ» من «لِمْ فَعَلْتَ كَذَا» في بعض اللغات، فركِّبتا تركيباً لازماً؟ والصحيح الأول. وأكثر ما تجيء في القرآن خبريَّةً مراداً بها التكثير، ولم يأت ممِّزها في القرآن إلا مجروراً بمن.
قال أبو مسلمٍ: في الآية حذفٌ، والتَّقدير: كم آتيناهم من آية بيِّنةٍ، وكفروا بها، ويدلُّ على هذا الإضمار قوله: ﴿وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله﴾.

فصل


اعلم أنَّه ليس المقصود اسأل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات لتعلمها؛ لأنه - عليه السلام - كان علاماً بها بإعلام الله له، وإنما المقصود المبالغة في الزَّجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى، فهو سؤالٌ على جهة التَّقريع والتَّوبيخِ؛ لأنه أمر بالإسلام، ونهى عن الكفر بقوله: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ [البقرة: ٢٠٨] ثم قال: ﴿فَإِن زَلَلْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٠٩] أي: أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين للتهديد، بقوله: ﴿فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٠٩]، ثم هدَّدهم بقوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملاائكة﴾ [البقرة: ٢١٠]، ثم ثلَّث التهديد بقوله: ﴿سَلْ بني إِسْرَائِيلَ﴾ يعني هؤلاء الحاضرين كم آتينا أسلافهم آيات بيناتٍ فأنكروها، فلا جرم استوجبوا العقاب، وهذا تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلُّوا عن آيات الله، لوقعوا في العذاب.
وفي المراد ب «الآية البيِّنة» قولان:
491
أحدهما: معجزات موسى - عليه السلام - كما تقدَّم نحو: فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، ونتق الجبل، وتكليم الله تعالى موسى - عليه السلام - والعصا، واليد البيضاء، وإنزال التوراة، وبيّن لهم الهدى من الكفر.
وقيل: المراد بالآية الحجَّة، والدلالة التي آتاهم، التوراة، والإنجيل على نبوة محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصدقه، وصحَّة شريعته.
قوله: ﴿وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله﴾ «مَنْ» شرطية في محلِّ رفع بالابتداء، وقد تقدَّم الخلاف في خبر اسم الشرط ما هو؟ ولا بدَّ للتبديل من مفعولين: مبدَّل وبدل، ولم يذكر هنا إلاَّ أحدهما وهو المبدِّل، وحذف البدل، وهو المفعول الثاني؛ لفهم المعنى، وقد صرَّح به في قوله: ﴿بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً﴾ [إبراهيم: ٢٨] فكفراً هو المحذوف هنا. وقد تقدَّم عند قوله تعالى: ﴿فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ﴾ [البقرة: ٥٩] أن «بَدَّل» يتعدَّى لاثنين: أحدهما بنفسه، وهو البدل، وهو الذي يكون موجوداً، وغلى الآخر بحرف الجر، وهو المبدَّل، وهو الذي يكون متروكا، وقد يحذف حرف الجرِّ لفهم المعنى، فالتقدير هنا: «وَمَنْ يُبَدِّلْ بنعمتِهِ كُفْراً»، فحذف حرف الجر والبدل لفهم المعنى. ولا جائز أن تقدِّر حرف الجر داخلاً على «كُفْراً» فيكون التقدير: «وَمَنْ يُبَدِّلْ بِالكُفْرِ نِعْمَةَ اللَّهِ» ؛ لأنه لا يترتَّب عليه الوعيد في قوله: ﴿فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾. وكذلك قوله تعالى: ﴿فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان: ٧٠] تقديره: بسيئاتهم حسناتٍ، ولا يجوز تقديره: «سَيِّئاتِهِم بحسناتٍ» ؛ لأنه لا يترتَّب على قوله: «إلا مَنْ تَابَ».
وقرئ: «يُبْدِلُ» مخففاً، و «مِنْ» لابتداء الغاية و «مَا» مصدرية، والعائد من جملة الجزاء على اسم الشرط محذوف؛ لفهم المعنى، أي: شديد العقاب له، أو لأنَّ «أَلْ» نابت منابه عند الكوفيين.
قال القرطبيُّ: وهذا اللفظ عامٌّ لجميع المكلَّفين، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل لكونهم بدَّلوا ما في كتبهم، وجحدوا أمر محمد - عليه السلام -، فاللَّفظ مستحب على كلِّ مبدِّل نعمة الله تعالى.

فصل


فالنِّعمة هاهنا إيتاء الآيات والدلائل؛ لأنها أعظم نعم الله، لإإنها أسباب الهدى والنَّجاة من الضَّلالة، وعلى هذا ففي تبديلهم إيَّاها وجهان:
فمن قال: المراد بالآيات ما في التوراة والإنجيل من دلائل معجزات موسى - عَلَيْهِ
492
الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: تبديلها أنَّ الله تعالى لمَّا أظهرها لتكون أسباباً لضلالهم، فجعلوها أسباباً لضلالهم، كقوله: ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥].
ومن قال: المراد بالآيات ما في التَّوراة والإنجيل من دلائل نبوَّة محمَّد - عليه السلام - قال: تبديلها تحريفها، وإدخالها الشُّبهة فيها.
والقول الثاني: أنَّ النعمة هي ما أتاهم الله من الصِّحَّة، والأمن، والكفاية، فتركوا القيام بما وجب عليهم من العلم بتلك الآيات.
وقوله: ﴿مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ﴾، أي: من بعد التمكُّن من معرفتها، أو من بعدما عرفها؛ كقوله: ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٧٥] إن فسرنا النعمة بالقول الأول، وإن فرسنا النعمة بالصحة والأمن، فلا شك أن عند حصولها يجب الشكر، ويقبح الكفر، فلهذا قال: ﴿﴾.
وقال الطَّبريُّ: النعمة هنا الإسلام.
وقال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه إضمارٌ والمعنى شديد العقاب له.
قالعبد القاهر النَّحويُّ في كتاب «دَلاَئِل الإعْجَازِ» : إنّ ترك هذا الإضمار أولى؛ لأنَّ المقصود من الآية التخويف بكونه في ذاته موصوفاً بأنه شديد العقاب لهذا أو لذاك، ثم قال الواحديُّ: والعقاب عذابٌ يعقب الجرم.
قال القرطبيُّ: مأخوذٌ من العقب، كأنَّ المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه، ومنه عقبة الراكب [وعُقْبَة القِدْر].
493
قوله تعالى: «زُيِّنَ» : إنَّما لم تلحق الفعل علامة تأنيثٍ لوجوهٍ:
أحدها: قال الفرَّاء: لأنَّ الحياة والإحياء واحدٌ، فإن أُنِّثَ، فعلى اللَّفظ، وبها قرأ ابن أبي عبلة، وإن ذُكِّر، فعلى المعنى؛ كقوله: ﴿مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ﴾ [البقرة: ٢٧٥] ﴿وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة﴾ هود: ٦٧].
493
وثانيها: قال الزَّجَّاج: إنَّ تأنيث الحياة ليس بحقيقي؛ لأنَّ معنى الحياة والعيشِ والبقاء واحدٌ، فكأنه قال: «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا البَقَاءُ».
وثالثها: قال ابن الأنباري: إنما لم يقل زيِّنت؛ لأنه فصل بين «زُيِّنَ» وبين الحياة الدنيا بقوله: «للذين كَفَرُوا»، وإذا فصل بين فعل المؤنث، وبين الاسم بفاصلٍ حَسُنَ تذكير الفعل؛ لأنَّ الفاصل يغني عن تاء التأنيث، وقرأ مجاهد وأبو حيوة: «زَيَّنَ» مبنياً للفاعل، و «الحياةَ» مفعول، والفاعل هو الله تعالى عند الأكثرين، وعند الزجاج والمعتزلة يقولون: إنه الشيطان.
وقوله: «يَسْخَرُون» يحتمل أن يكون من باب عطف الجلمة الفعلية على الجملة الفعلية، لا من باب عطف الفعل وحده على فعل آخر، فيكون من عطف المفردات؛ لعدم اتِّحاد الزمان.
ويحتمل أن يكون «يَسْخَرُون» خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: وهم يسخرون، فيكون مستأنفاً، وهو من عطف الجملة الاسمية على الفعلية. وجيء بقوله: «زُيِّن» ماضياً؛ دلالةً على أنَّ ذلك قد وقع، وفرغ منه، وبقوله: «وَيَسْخَرُونَ» مضارعاً؛ دلالة على التَّجَدُّد، والحدوث.
قوله: ﴿والذين اتقوا فَوْقَهُمْ﴾ مبتدأ وخبر، و «فَوْقَ» هنا تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون ظرف مكانٍ على حقيقتها؛ لأنَّ المتقين في أعلى علِّيِّين، والكافرين في أسفل السَّافلين.
والثاني: أن تكون الفوقية مجازاً: إمَّا بالسنبة إلى نعيم المؤمنين في الآخرة، ونعيم الكافرين في الدنيا. وإمّا أنّ حجة المؤمنين في القيامة فوق حجَّة الكافرين، وإمَّا أن سخرية الؤمنين لهم في الآخرة، فوق سخرية الكفار لهم في الدنيا.
و «يوم» منصوبٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به «فَوْفَهُمْ» وقوله: ﴿مِنَ الذين آمَنُواْ﴾ ثم قال: ﴿والذين اتقوا﴾ لتبيين أنَّ السعادة الكبرى لا تحصل إلاَّ للمؤمن التَّقيّ.

فصل


قال ابن عبَّاسِ: نزلت في كفَّار قريشٍ، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعبد الله بن مسعودٍ، وعمَّارٍ، وخبَّابٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، وعامر بن فهيرة، وأبي عبيدة بن الجرَّاح، وصهيبٍ، وبلالٍ، بسب ما كانوا فيه من الفقر، والصَّبر على أنواع البلاء، مع ما كان الكُفَّار فيه من النَّعيم، والرَّاحة، وبسط الرِّزق.
494
وقال عطاءٌ: نزلت في رؤساء اليهود، وعلمائهم، من بني قريظة، والنَّضير، وبني قينقاع؛ سخروا من فقر المسلمين المهاجرين حيث أُخرجوا من ديارهم، وأموالهم، فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنَّضير بغير قتالٍ.
وقال مقاتلٌ: نزلت في المنافقين كعبد الله بن أُبيٍّ، وأصحابه؛ كانوا يتنعّمون في الدّنيا، ويسخرون من ضعفاء المسلمين، وفقراء المهاجرين، ويقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم.
قال ابن الخطيب: ولا مانع من نزلها في جميعهم.
روى أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَقَفْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا المَسَاكِينَ، وَوَقَفْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، وَإنَّ أَهْلَ الجَدِّ مَحْبُوسُونُ إِلاَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَدْ أُمِرَ بِهِ إِلَى النَّارِ»
وروى سهل بن سعدٍ السَّاعديّ، قال: «مرَّ رجلٌ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لرجل عنده جالسٍ:» مَا رَأَيُكَ في هَذَا «فقال هذا رجل من أشراف النَّاس، هذا والله حريٌّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفَّع، قال: فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم مرَّ رجُلٌ، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَا رَأْيُكَ في هَذَا «؟ فقال: يَا رسولَ الله، هذا من فقراء المسلمين، هذا حَرِيٌّ إن خطب ألاّ ينكح وإن شفع ألا يشفَّع، وإن قال لا يسمع لقوله. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هذا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْل هَذَا «
وروي عن عليٍّ؛ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:»
مَنِ اسْتَدَلَّ مَؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً، أَوْ حَقَّرَهُ لِفَقْرِهِ وَقِلَّةِ ذَات يَدِهِ، شَهَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُم فَضَحَهُ، وَمَنْ بَهَت مُؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً، أَوْ قَالَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَقَامَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تَلٍّ مِنْ نَارٍ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ فِيه... «

فصل


قال الجُبَّائيُّك المزيِّن هم غواة الجن، والإنس؛ زينوا للكفار الحرص على الدُّنيا، وقبَّحوا أمر الآخرة.
495
قال: وأمَّا قول المجبّرة: إنَّ الله تعالى زيَّن ذلك فهو باطلٌ، لأنَّ المزيِّن للشيء كالمخبر على حسنه، فإن كان صادقاً، فيكون ما زينه حسناً، ويكون فاعله مصيباً، وذلك يوجب أنَّ الكافر مصيبٌ في كفره، وهذا القول كفرٌ، وإن كان كاذباً في ذلك التزيين، فيدي إلى أن لا يوثق بخبره، وهذا - أيضاً - كفرٌ، فثبت أنَّ المزيِّن هو الشيطان.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ، لأنَّ قوله: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ يتناول جميع الكُفَّار، وهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مُزَيِّن، فلا بدَّ وأن يكون ذلك المزيِّن مغايراً لهم؛ لأنَّ غواة الجنِّ والإنس داخلون في الكفار أيضاً، إلاَّ أن يقال: إن كلَّ واحدٍ يزيِّن للآخرة فيصير دوراً، فثبت ضعف هذا التأويل.
وأمَّا قوله:» المُزَيِّنُ للشَّيْءِ كالمخبر عن حُسْنِه «فهذا ممنوع، بل المزين من يجعل الشيء موصوفاً بالزينة، ثم لئن سلَّمنا أنَّ المزين للشيء هو المبخر عن حسنه بمعنى أنه أخبر عمَّا فيها من اللَّذَّات والراحات، وذلك الإخبار ليس بكذبٍ، وتصديقه ليس بكفرٍ.
وقال أبو مسلمٍ: يحتمل أنهم زيَّنوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم: أين يذهب بك؟ لا يريدون أنَّ ذابهاً ذهب به، وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة: ﴿أنى يُؤْفَكُونَ﴾ [المائدة: ٧٥]، ﴿أنى يُصْرَفُونَ﴾ [غافر: ٦٩] إلى غير ذلك، وأكّده بقوله: ﴿لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ﴾ [المنافقون: ٩] وأضاف ذلك إليهما؛ لمَّا كان كالسبب ولمَّا كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً، فالإنسان في الحقيقة هو الذي زيَّن لنفسه.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله: «زُيِّنَ للنَّاس»
يقتضي أنَّ مزيِّناً زينه، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن.
التأويل الثالث: أنَّ المزيِّن هو الله تعالى، ويدلُّ عليه وجهان:
أحدهما: قراءة من قرأ «زَيَّنَ» مبنيّاً للفاعل.
والثاني: قوله تعالى: ﴿جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الكهف: ٧] والقائلون بهذا ذكروا وجوهاً:
الأول: أنَّ هذا التزيين بما أظهره لهم في الدنيا من الزَّهرة والنضارة، والطِّيب، واللَّذَّة؛ ابتلاءً لعباده؛ كقوله: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات﴾ [آل عمران: ١٤] إلى قوله: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ﴾ [آل عمران: ١٥].
وقال: ﴿المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا﴾ [الكهف: ٤٦] ثم قال: ﴿والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾ [الكهف: ٤٦] فهذه الآيات متوافقة، والمعنى: أنَّ
496
الله تعالى جعل الدُّنيا دار بلاءٍ وامتحانٍ، وركَّب في الطِّباع الميل إلى اللذات، وحبّ الشهوات، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردِّها عنه؛ ليتمَّ بذلك الامتحان، وليجاهد المؤمن هواه، فيقبض نفسه عن المباح، ويكفّها عن الحرام.
الثاني: أنَّ المراد ب «التَّزَيِينِ» أنه أمهلهم في الدنيا، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها، والحرص في طلبها، فهذا الإمهال هو المسمى ب «التزيين».
الثالث: أنَّه زيَّن لهم المباحات دون المحظورات، وعلى هذا سقط الإشكال، إلاّ أنَّ هذا ضعيفٌ؛ لأن الله تعالى خصَّ الكفَّار، وأيضاً فإنَّ المؤمن إذا تمتع بالمباحات، وكثرة ماله، يكون متعته مع الخوف من الحساب في الآخرة فعيشه مكدَّرٌ منغَّصٌ وأكبر غرضه أجر الآخرة، إنما يعدُّ الدنيا كالوسيلة إليها، ولا كذلك الكافر، فإنَّه وإن قلَّت ذات يده، فسروه، بها يغلب على قلبه لاعتقاده أنها المقصود دون غيرها.
وأيضاً، فإنَّه تعالى أتبع الآية بقوله: ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ﴾ وذلك يشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في ترك اللَّذات المحظورة، وتحملهم المشاقَّ الواجبة، فدلَّ ذلك على أنَّ التزيين لم يكن في المباحات.
قال ابن الخطيب: ويتوجَّه على المعتزلة سؤال، وهو أنَّ حصول هذه الزينة في قلوب الكفَّار لا بدَّ له من محدث، وإلا فقد وقع المحدث، لا عن مؤثر فهذا محال، ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار إمَّا أن يكون قد رجَّح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة، فقد زال الاختيار، لأنَّ حال الاستواء لمَّا امتنع حصول الرُّجحان، فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحاً أولى بامتناع الوقوع، وإذا صار المرجوح ممتنع الوقوع، صار الراجح واجب الوقوع ضرورة أنَّه لا خروج عن النقيضين، فهذا توجيه السؤال، وهو لا يدفع بالوجوه التي ذكرها المعتزلة، فأمّا أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنَّ الله تعالى خلق في قلبه إرادة تلك الأشياء، بل خلق تلك الأفعال، والأقوال.
قوله تعالى: ﴿والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ﴾ مفعول «يَشَاءُ» محذوف، أي: من يشاء أن يزرقه، و «بِغيرِ حِسَابٍ» هذا الجارُّ فيه وجهان:
أحدهما: أنه زائدٌ.
والثاني: أنه غير زائدٍ، فعلى الأول لا تعلُّق له بشيءٍ، وعلى الثاني هو متعلِّق بمحذوفٍ، فأما وجه الزيادة: فهو أنه تقدَّمه ثلاثة أشياء في قوله: ﴿والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ﴾ الفعل والفاعل والمفعول، وهو صالحٌ لأن يتعلَّق من جهة المعنى بكلِّ واحدٍ منها، فإذا
497
تعلَّق بالفعل كان من صفات الأفعال، تقديره: والله يرزق رزقاً غير حساب، أي: غير ذي حساب، أي: أنه لا يحسب ولا يحصى لكثرته، فيكون في محلِّ نصبٍ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، والباء زائدةٌ.
وإذا تعلَّق بالفاعل، كان من صفات الفاعلين، والتقدير: والله يرزق غير محاسب بل متفضلاً، أو غير حاسبٍ، أي: عادٍّ. ف «حساب» واقعٌ موقع اسم فاعل من حاسب، أو من حَسَبَن ويجوز أن يكون المصدر [واقعاً موقع اسم مفعولٍ من حاسب، أي: الله يرزق غير محاسبٍ] أي: لا يحاسبه أحدٌ على ما يعطي، فيكون المصدر في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل، والباء فيه مزيدةً.
وإذا تعلَّق بالمفعول، كان من صفاته أيضاً، والتقدير: والله يرزق من يشاء غير محاسب، أو غير محسوب عليه، أي: لا يعدُّ. فيكون المصدر أيضاً واقعاً موقع اسم مفعول من حاسب أو حسب، أو يكون على حذف مضاف، أي: غير ذي حساب، أي: محاسبة، فالمصدر واقع موقع الحال والباء - أيضاً - زائدة فيه، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى أنه يرزق من حيث لا يحتسب، أي: من حيث لا يظنُّ أن يأتيه الرزق، والتقدير: يرزقه غير محتسب ذلك، أي: غير ظانٍّ له، فهو حال أيضاً، ومثله في المعنى ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٣]. وكون الباء تزاد في الحال ذكروا لذلك شرطاً - على خلافٍ في جواز ذلك في الأصل - وهو أن تكون الحال منفيَّةٌ، كقوله: [الوافر]
١٠٣٦ - فَمَا رَجَعَتْ بِخَائِبَةٍ رَكَابٌ حَكِيمٌ بْنُ المُسَيِّبِ مُنْتَهَاهَا
وهذه الحال - كما رأيت - غير منفيةٍ، فالمنع من الزيادة فيها أولى.
وأمَّا وجه عدم الزيادة، فهو أن تجعل الباء للحال والمصاحبة، وصلاحية وصف الأشياء الثلاثة - إني الفعل، والفاعل، والمفعول - بقوله: «بغير حساب» باقية أيضاً، كما تقدَّم في القول بزيادتها.
والمراد بالمصدر المحاسبة، أو العدُّ والإحصاء، أي: يرزق من يشاء، ولا حساب على لارزق، أو ولا حساب للرازق، أو ولا حساب على المرزوق، وهذا أولى؛ لما فيه من عدم الزيادة، التي الأصل عدمها، ولما فيه من تبعيةَّة المصدر على حاله، غير واقعٍ موقع اسم فاعل، أو اسم مفعولٍ، ولما فيه من عدم تقدير مضافٍ بعد «غير» أي: غير ذي حساب. فإذاً هذا الجارُّ، والمجرور متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لوقوعه حالاً من أيِّ الثلاثة المتقدِّمة شئت؛ كَما تقدَّم تقريره، أي: ملتبساً بغير حساب.
498

فصل


يحتمل أن يكون المراد منه: ما يعطي في الدنيا لعبيده المؤمنين والكافرين، ويحتمل أن يكون المراد منه: رزق الآخرة، فإن حملناه على رزق الآخرة، كان مختصاً بالمؤمنين، وهو من وجوه:
أحدها: أنَّ الله يرزقهم بغير حسابٍ، أي: رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له؛ لأنَّ كلَّ ما دخل تحت الحساب، فهو متناهٍ.
وثانيها: أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب، وبعضها تفضل؛ كام قال: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ﴾ [النساء: ١٧٣] فالفضل منه بلا حساب.
وثالثها: أنه لا يخاف نفادها عنده؛ فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه؛ لأن المعطي إنَّما يحاسب، ليعلم مقدار ما يعطى وما يبقى كي لا يتجاوز في عطاياه إلى ما لا يجحف به، والله عالم غني، لا نهاية لمقدوراته.
ورابعها: «بِغَيْرِ حِسَاب»، أي: بغير استحقاقٍ؛ يقال: لفلان على فلانٍ حسابٌ؛ إذا كان له عليه حق، وهذا يدلُّ على أنَّه لا يستحق أحدٌ عليه شيئاً، وليس لأحدٍ معه حساب، بل كلُّ ما أعطاه، فهو مجرّد فضل وإحسانٍ، لا بسبب استحقاق.
وخامسها: «بِغَيرِ حِسَابٍ»، أي: يعطي زائداً على الكفاية؛ يقال: فلان ينفق بغير حساب، أي: يعطي كثيراً؛ لأن ما دخله الحساب فهو قليل.
وهذه الوجوه كلُّها محتملة، وعطايها الله بها منتظمة، فيجوز أن يكون الكلُّ مراداً والله أعلم.
فإن قيل: قد قال الله - تعالى - في صفة المتقين، وما يصل إليهم: ﴿عَطَآءً حِسَاباً﴾ [النبأ: ٣٦] على المستحقِّ بحسب الوعد؛ كما هو قولنا، وبحسب الاستحقاق، كما هو قول المعتزلة، فالسؤال: وهذا كالمناقض لهذه الآية.
فالجواب: من حمل قوله: «بِغَيْرِ حِسَابٍ» على التفضُّل، وحمل قوله: «عَطَاءً حِسَاباً» على المستحق بحسب الوعد، كماهو قولنا، وبحسب الاستحقاق، كما هو قول المعتمزلة، فالسؤال زائل، وَمَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: «بغير حساب» على سائرِ الوجوه، فله أنْ يقول: إن ذلك العطاء إذا كان يتشابه في الأوقاتِ، فَصَحَّ من هذا الوجه أَنْ يُوصَف بكونه: «عَطَاءً حِسَاباً» فلا تناقض، وإن حملناه على أرزاق الدنيا، ففيه وجوه:
أحدها، وهو أَلْيَقُ بِنَظم الآية، أنَّ الكفارَ كان يَسْخرونَ من فقراء المسلمين؛ لأنهم كانوا يستدلُّون بحصولِ السعاداتِ الدنيوية، على أنهم على الحقِّ، وبحرمان فقراء المسلمين على أنهم على الباطل؛ فأَبطل تعالى استدلالهُم بقوله: ﴿والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يعني: يُعْطِي في الدنيا مَنْ يشاءُ من غير أَنْ يكونَ ذلك مُنْبئاً عن كون
499
المُعْطى مُحِقّاً أَوْ مُبْطِلاً، بل بِمَحْضِ المَشِيئَةِ؛ كَمَا وَسَّعَ على قَارون وضيَّق على أَيُّوب - عليه السلام - فقد يُوسِّع على الكافر، ويضيقُ على لامؤمن؛ ابتلاءً وامتحاناً؛ كما قال
﴿وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ﴾ [الزخرف: ٣٣].
وثانيها: أَنَّ اللَّهَ يرزقُ مَنْ يشاءُ في الدنيا: مِنْ كافرٍ، ومُؤْمنٍ بغير حسابٍ يكون لأحدٍ عليه ولا مُطَالبة، ولا تبعةٍ، ولا سؤال سائل.
والمقصود منه: أَلاَّ يقولَ الكافِر: إِنَّ المؤمن على الحق فَلِمَ لَمْ يُوَسَّع عليه في الدنيا؟ وألاَّ يقولَ المؤمُن: لو كانَ الكافرُ مُبطلاً، فلِمَ يُوَسَّعُ عليه في الدنيا؟ بل الاعْتِراضُ ساقطٌ؛ و ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء: ٢٣].
وثالثها: بغير حساب أي: مِنْ حيثُ لا يحتسِب؛ كما يقولُ مَنْ جاءه مَا لَمْ يكنْ في قلبه: لَمْ يَكُن هذا حسابي.
قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدْ فعل ذلك بهم، فَأَغْنَاهُم بما أَفَاءَ عليهم مِنْ أَمْوالِ صَنَادِيدِ قُرَيش ورُؤَساءِ اليهود، وبما فتح على رسوله، بعد وفاته على أَيْدِي أصحابه، حتى ملكوا كُنوز كِسرَى، وقَيصر.
500
وجه النظْمِ أنه لما بيَّن أن سبب إصرار الكُفَّار على كُفرهم، هو حُبُّ الدنيا بين في هذه الآية أَن هذا المعنى غير مُختص بهذا الزمان، بل كان حاصلاً في الأَزْمِنة المُتَقادِمة، فَإِنَّهم كانوا أُمةً واحدة على الحق، ثم اختلفُوا، وما كان اختلافُهم إِلاَّ بسبب البغي، والتحاسُد، والتَّنَازُع في طلب الدنيا.
قال القفَّال: «الأُمَّةُ» هم المجتمعون على الشَّيء الواحد، يَقتدي بعضُهم ببعض؛ مأخوذٌ من الائتمام.
ودَلَّتِ الآيةُ على أَنَّ الناس كانت أُمَّةً واحدةً، ولم تدلَّ على أَنَّهُم كانوا أُمَّةً وَاحدةً: في الحقِّ، أم في الباطل.
500

فصل في معاني كلمة «أمة»


قد جاءت الأمة على خمسة أَوْجُهٍ:
الأوَّل: «الأُمَّةُ» المِلَّة، كهذه الآية، أي: مِلَّة واحدة، ومثله: ﴿وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المؤمنون: ٥٢] أي: مِلتكُم.
الثاني: الأُمَّةُ الجماعة؛ قال تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق﴾ [الأعراف: ١٨١] أي: جماعةٌ.:
الثالث: الأُمَّةُ السنين؛ قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ﴾ [هود: ٨]، أي: إلى سنين معدودةٍ، ومثله «وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» أي: بعد سنين.
الرابع: بمعنى إمامٍ يُعلِّمُ الخير؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ﴾ [النحل: ١٢٠].
الخامس: الأُمَّةُ: إحدى الأُمم؛ قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠]، وباقي الكلام على ذلك يأتي في آخرِ «النحل» عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: ١٢٠].

فصل في المراد بالأمة، وهل كانوا على الحق؟ ومتى اختلفوا؟


واختلف المفسِّرثون على خمسة أقوالٍ:
القول الأول: أنهم كانوا على الحقِّ، وهو قول أكثر المحققين؛ قال القفَّالُ: لأَنَّهُ تعالى قال بعده: ﴿فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ﴾ ف «الفاء» في قوله: «فَبَعَثَ اللَّهُ» تَقْتَضِي أنْ يكونَ بعثهم بعد الاختلافِ، فلو كانوا قبل ذلك أمة واحدة في الكفر لكانت بعثة الرسل قبل الاختلاف أولى؛ لأَنَّهُم لما بعثوا، وبعضُ الأُمَّة محقٌّ وبعضهم مُبطلٌ فلأَنْ يبعثوا عند كون الجميعِ على الكفر أولى.
وأيضاً فإن آدم - عليه السَّلام - لما بُعِث إلى أولاده، كانوا مُسلمين مطيعين، ولم يحدث بينهم اختلافٌ في الدِّين، إلى أَنْ قتلَ قَابيلُ هابيل؛ بسبب الحسدِ والبَغِي، وهذا ثابتٌ بالتواتر، فإِنَّ الناس - وهم: آدَمَ وَحَوَّاء، وأولادهما - كانوا أُمَّةً واحدةٌ على الحق، ثُم اختلفُوا؛ بسبب البغي، والحسد، كما حكى الله تعالى عن ابني آدم بالحق ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر﴾ [المائدة: ٢٧] وأيضاً قوله - عليه السلام -: «كُلُّ مَوْلُودٍ يولَدُ على الفِطْرة؛ فأَبواهُ يُهَوِّدَانِهِ أَو يُنصرانه أو يُمَجِّسانه» فدلَّ ذلك على أَنَّ
501
المولود لو تُرِك مع فِطْرته الأَصلية، لما كان على شَيْءٍ من الأَدْيان الباطلة، وأَنَّه إِنَّما يُقدمُ على الدين الباطل، لأسبابٍ خارجية.
وقال الكلبيُّ: هُم أهلُ سفينةِ نُوح، لما غرقت الأرض بالطوفانِ، لم يَبْقَ إلاَّ أَهْلُ السفينة على الحق، والدِّين الصَّحيحن ثم اختلفُوا بعد ذلك؛ وهذا مما ثَبَتَ بالتَّواتر.
وقال مُجاهدٌ: أراد آدَمَ وحده، وكان أُمَّةً واحدة، وسَمَّى الواحد بلفظ الجمع؛ لأَنَّهُ أَصلُ النّسل، وأبُو البشر، وخلق اللَّهُ منه حَوَّاءَ، ونشر منها الناس.
قال قتادةُ وعكرمةُ: كان الناسُ مِنْ وقت آدمَ إلى مبعث نُوح، وكان بينهما عشرةُ قرون كُلُّهم على شريعةٍ واحدةٍ من الحق، والهُدَى، ثم اختلفُوا في زمن نوح - عليه السلام - فبعث اللَّهُ إليهم نُوحاً، وكان أَوَّل بني بُعثَ.
وحَكَى القرطبيُّ: قال ابنُ أبي خيثمة: منذ خلق اللَّهُ آدم - عليه السلام - إلى أن بعث اللَّه محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خمسةُ آلافِ سنة وثمانمائة سنة، وقيل: أكثر من ذلك، وكان بينه وبين نُوحٍ ألفُ سنة ومائتا سنة، وعاش آدم تسعمائة وستين سنة، وكان الناس في زمانه أمةً واحدة، على مِلَّةٍ واحدة متمسكين بالدِّين، تُصافحُهم الملائكة، ودَامُوا على ذلك إلى أَن رُفِعَ إدريس - عليه السلام - فاختلفُوا.
قال: وهذا فيه نظر؛ لأَنَّ إدريس بعد نُوحٍ على الصحيح.
وقيل: كان العربُ على دين إبراهيم إلى أَنْ غيّره عمرو بن لُحَيٍّ.
وروى أبو العالية، عن أُبِيٍّ بن كعبٍ قال: «كان النَّاسُ حين عُرِضُوا وأُخرِجُوا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وأَقرُّوا أُمَّةً واحدة مُسْلِمين كلهم، ولم يكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً قَطّ غيرَ ذلك اليومِ، ثم اختَلَفُوا آدَمَ.
القول الثاني: أَنَّهُم كانُوا أُمَّةً واحدة في الكُفر، وهو قولُ ابنِ عَبَّاسٍ، وعطاء، والحسن.
وقال الحسن وعطاء: كان الناس من وَقْتِ وَفَاةِ آدمَ إلى مبعثِ نُوحٍ أُمَّةً واحدة على مِلَّةِ الكُفرِ؛ أَمثَال البَهَائِم، فَبَعثَ اللَّه إبراهيم - عليه السَّلام - وغيرُ من النبيين، واستدلُّوا بقوله: ﴿فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ وهو لاَ يَليقُ إلا بذلك.
502
وجوابه ما بينا: أَنَّ هذا لا يليقُ بضده، ثم اختلف القائلُون بهذا القول: مَتَى كانوا مُتّفقين على الكُفر على ما قَدَّمنا ثُمَّ سأَلُوا أَنفسهم سُؤالاً وقالوا: أليس فيهم مَنْ كان مُسْلماً كهابيل، وشيث، وإدريس.
وأجابوا: بِأنَّ الغالب كان هو الكُفْر، والحُكْمُ للغالب، ولا يعتدُّ بالقليل في الكثير كما لا يعتدُّ بالشعير القليل في البر الكثير، فقد يقال: دار الإسلام، وإِنْ كان فيها غيرُ المسلمين، ودارُ الحرب وإن كان فيها مُسلمون.
الثالث: قال أبو مُسلمٍ: كانوا أُمَّةً واحدة في التمسُّك بالشرائع العقلية، وهي الاعترافُ بوجود الصانع، وصِفاتِهِ، والاشتغالُ بخدمته، وشُكْرِ نعمه، والاجتناب عن القبائح العقليَّة كالظُّلم، والكذب، والجهل، والعبث، وأمثالها.
واحتجَّ القاضي على صِحَّةِ قوله: بِأَنَّ لفظ النَّبيين يفيدُ العُمُومَ والاستغراقَ، وحرف» الفاء «يُفيدُ التَّراخي، فقوله ﴿فَبَعَثَ الله النبيين﴾ يفيد أنَّ بعثةَ الأنبياء كانت مُتأخرة عن كون الناس أُمَّةً واحدة، فتلك الواحدةُ المتقدمةُ على بعثة جميع الشرائع، لا بُدَّ وأَنْ تكون واحدة في شرعة غير مُسْتفَادٍ من الأَنبياء فواجب أن تكون في شريعة مستفادة من العقل وذلك ما بَيَّنَّاهُ، وأيضاً فالعلم بحسن شُكر المُنْعِم، وطاعة الخالق، والإحسان إلى الخَلْقِ، العَدلُ؛ مُشْتَركٌ فيه بين الكُلّ، والعِلْمُ يُقبح الكذب، والظِّلم، والجهْل، والعبث، وأمثالها مشترك فيه بين الكل، فالأظهر أَنَّ الناس كانُوا في أَوَّل الأمر على ذلك، ثم اختلفُوا بعد ذلك؛ لأَسباب منفصلة، ثم قال: فإنْ قيل: أليس أوَّل الإسلام آدَم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مع أولاده كانوا مُجتمعين على التَّمسك بالشرائع العقلية أَوَّلاً، ثم إِنَّ اللَّهَ تعالى بعثهُ بعد ذلك إلى أولاده، ويُحْتَملُ أَنْ صار شرعُهُ مندرِساً، بعد ذلك، ثم رجع الناسُ إلى الشرائعِ العقلية؟
قال ابنُ الخطيب: وهذا القولُ لا يصحُّ إلاَّ بعد تحسين العقل، وتقبيحه، والكلام فيه مشهور.
القول الرابع: أنَّ الآية دلَّت على أَنَّ الناس كانوا أُمَّةً واحدة، وليس فيها أَنَّهم كانوا على الإيمان، أو على الكُفر، فهو موقوفٌ على الدَّليل.
القول الخامس: أَنَّ المراد ب «النَّاسِ»
هنا أهْلُ الكتاب مِمَّن آمَنَ بِمُوسَى - عليه السلام - وذلك لأَنَّا بينا أَنَّ هذه الآية متعلقةٌ بما تقدم من قوله: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً﴾ [البقرة: ٢٠٨] وذكرنا أَنَّ كثيراً من المفسرين زعمُوا أَنْ تلك
503
الآية نزلت في اليهودِ؛ فقوله تعالى: ﴿كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي: كان الذين آمنوا بموسى أُمَّةً واحدة على دين واحدٍ، ثم اختلفُوا بسبب البغي، والحسد؛ فبعثَ الله النبيِّين، وهم الذين جاءُوا بعد موسى - عليه السلام - وأنزل معهم الكتاب كما بُعِث الزبور إلى دواد، والإنجيل إلى عيسى، والفرقانُ إلى محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لتكون تلك الكتب حاكمةً عليهم في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها، وهذا القولُ مطابقٌ لنظم الآية، وموافقٌ لما قبلها وما بعدها، وليس فيه إشكالٌ إلاَّ أَنَّ تخصيص لفظ الناس بقومٍ معينين خلاف الظَّاهر، ويُعتذَرُ عنه بأن األفَ واللاَّمَ كما تكون للاستغراق، فقد تكونُ أيضاً لِلْعَهد.

فصل في بيان لفظة «كان»


قال القرطبيُّ: لفظة «كَانَ» على هذه الأقوال على بابها من المُضِيّ المنقضي، وكل من قدّر الناسَ في الآية مُؤمنين قدّر في الكلام: فاختلفُوا، فبعث اللَّه، ويدُلُّ على هذا الحذف قوله: ﴿وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ﴾ وكل مَنْ قَدَّرهم كُفَّاراً كانت بعثهُ النبيين إليهم، ويحتملُ أن تكونَ «كان» لِلثّبُوت، والمرادُ الإخبارُ عن الناس الذين هم الجِنْس كله: أنهم أمةٌ واحدةٌ من خُلُوِّهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق لولا أَنَّ اللَّهَ تعالى مَنَّ عليهم بالرسُل؛ تفضلاً منه؛ فعلَى هذا لا تختصُّ «كان» بالمُضِيِّ فقط، بل يكونُ مَعناها كقوله تعالى:
﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ٩٦] وقوله: ﴿فَبَعَثَ الله النبيين﴾ قال بعضُ المفسرين: وجملتهم مائةٌ وأربعةُ وعشرون ألفاً، والرسل منهم ثلاثمائةٍ وثلاثة عشر، والمَذكُور في القرآنِ بأسمائِهم: ثمانيةَ عشر نَبِيّاً.
قوله تعالى: «مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرينَ» حالان من «النَّبِيِّنَ». قيل: وهي حالٌ مُقارنةٌ؛ لأنَّ بعثَهُم كان وقت البشارةِ والنِّذار وفيه نظرٌ؛ لأنَّ البِشَارةَ والنِّذَارةَ [بعدَ البعث. والظاهرُ أنها حالٌ مُقَدِّرَةٌ، وقد تقدَّمَ معنى البشارة والنذارةِ] في قوله: ﴿أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا﴾ [يونس: ٢].
وقوله: «وَأَنْزَلَ مَعهُمُ» هذا الظرفُ فيه وجهان:
أحدهما: أنه مُتعلِّقٌ بأنزل. وهذا لا بُدَّ فيه مِنْ تأويل؛ وذلك أَنَّه يلزمُ مِنْ تعلُّقِه بأنزل أَنْ يكون النبيون مصاحبين للكتاب في الإِنزال، وهم لا يُوصَفُون بذلك؛ لعدمه فيهم.
وتأويلُهُ: أنَّ المراد بالإِنزال الإِرسالُ، لأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عنه، كأنَّهُ قيل: وأرسل معهم الكتاب فتصحُّ مشاركتهم له في الإِنزالِ بهذا التَّأويل.
والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من الكتاب، وتكونُ حالاً مُقدرةً، أي:
504
وأنزل مقدِّراً مصاحبته غياهم، وقدَّره أبو البقاء بقوله: «شَاهِداً لَهُمْ وَمُؤيِّداً»، وهذا تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ.
والألِفٌ واللامُ في «الكِتَابِ» يَجُوزُ أَنْ تكونَ للعهدِ، بمعنى أَنَّه كتابٌ معينٌ؛ كالتوراة مثلاً، فإنها أنزلِت على مُوسى، وعلى النَّبيِّين بعده؛ بمعنى أنَّهَم حَكَموا بها، واستدامُوا على ذلك، وأَنْ تكونَ للجنس، أي: أنزل مع كلِّ واحدٍ منهم من هذا الجنس.
قال القاضي: ظاهرُ الآيةِ يدلُّ على أَنَّه لا نَبيَّ إِلاَّ ومعه كتابٌ، أنزل فيه بيانُ الحق: طال ذلك الكتابُ، أم قصُرَ، ودُوِّنَ، أَو لَمْ يُدَوَّن، وكان ذلك الكتابُ مُعجزاً، أَمْ لم يكن.
وقيل: هو مفردٌ وُضِعَ موضع الجمع: أي وأَنزلَ معهم الكُتُبَ، وهو ضعيفٌ.
وهذا الجُملة معطوفةٌ على قوله: «فَبَعَثَ» ولا يُقالُ: البشارةُ والنِّذارةُ ناشئةٌ عن الإِنزال فكيف قُدِّما عليه؟ لأَنَّا لا نُسَلِّم أنَّهما إنما يَكُونان بإنزال كتابٍ، بل قد يكونان بوحي من اللَّهِ تعالى غير مَتلُوٍّ ولا مكتُوبٍ. ولئن سَلَّمنا ذلك، فإنَّما قُدِّما، لأنهما حالان من «النَّبيِّينَ» فالأَوْلَى اتِّصالهم بهم.
قوله: «بالحقِّ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أن يكون متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الكتاب - أيضاً - عند مَنْ يُجَوِّزُ تعدُّدَ الحال، وهو الصحيحُ.
والثاني: أَنْ يتعلَّق بنفس الكتاب؛ لما فيه من معنى الفعلِ، إذ المرادُ به المكتوبُ.
والثالث: أَنْ يتعلَّقَ بأنزلَ، وهذا أول؛ لأنَّ جعله حالاً لا يَسْتَقِيم إِلاَّ أَنْ يكونَ حالاً مُؤكدةً، إِذْ كُتُبُ اللَّهِ تعالى لا تكون ملتبسةً بالحقِّ، الأصلُ فيها أَنْ تكونَ مْستقلَّةً ولا ضرورة بنا إلى الخروج عن الأصل، ولأنَّ الكتاب جارٍ مَجرى الجوامد.
قوله: «لِيَحْكُمَ» هذا القول متعلقٌ بقوله: «أَنْزَلَ» : واللامُ لِلْعله، وفي الفاعل المضمر في «لِيَحْكُمْ» ثلاثةُ أقوال:
أحدها: وهو أظهرها، أنه يعودُ على اللَّهِ تعالى: لتقدُّمه في قوله: «فَبَعَثَ اللَّهُ» ولأنَّ نسبة الحُكْم إليه حقيقةٌ، ويؤيِّده قراءةُ الجحدري فيما نقله عنه مكّي «لِنَحْكُمَ» بنون العظمة، وفيه التفاتٌ من الغيبة إلى التكلُّم. وقد ظَنَّ ابنُ عطية أن مكياً غلط في نقل
505
هذه القراءة عنه، وقال: إنَّ الناسَ رَوَوْا عن الجَحْدَري: «لِيُحْكَمَ» على بناءِ الفعل للمفعول وفي «النُّورِ» موضعين هنا، وفي «آل عمران» ولا ينبغي أن يُغَلِّطه؛ لاحتمال أَنْ يكون عنه قراءتان.
والثاني: أنه يعودُ على «الكِتاب» أي: ليحْكُم الكتابُ، ونسبةُ الحُكْم إليه مجازٌ؛ كنسبةِ النُّطق إليه في قوله تعالى: ﴿هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق﴾ [الجاثية: ٢٩].
وقوله: ﴿إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المؤمنين﴾ [الإسراء: ٩].
ونسبةُ القضاءِ إليه في قوله: [الكامل]
١٠٣٧ - ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ المُنْزَلُ
ووجهُ المجاز: أنَّ الحُكم فيه؛ فنُسب إليه، وقيل: إنه يعود على النَّبيِّ، واستضعفه أبو حيَّان من حيثُ إفرادُ الضمير، إذ كان ينبغي على هذا أن يجمع؛ ليطابق «النَّبيِّنَ». ثُمَّ قال: وَمَا قاله جائِزٌ عَلَى أن يَعُودَ الضميرُ على إفراد الجمع، على معنى: لِيَحْكُمَ كُلُّ نَبِيٍّ بكتابه.
و «بَيْنَ» مُتَعلِّقٌ ب «يَحْكُمْ». والظَّرفيةُ هنا مجازٌ. وكذلك «فِيما اخْتَلَفُوا» مُتعلقٌ به أيضاً. و «مَا» موصولةٌ، والمرادُ بها الدِّينُ، أي: ليحكم اللَّهُ بين الناسِ في الدِّين، بعد أَنْ كانُوا مُتفقين عيه. ويضعُفُ أَنْ يْرَادَ ب «ما» النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لأنها لغير العقلاء غالباً. و «فِيهِ» متعلِّقٌ ب «اخْتَلَفُوا»، والضميرُ عائدٌ على «ما» الموصولة.
قوله: ﴿وَمَا اختلف فِيهِ﴾ الضميرُ في «فِيهِ» أوجهٌ.
أظهرها: أنه عائدٌ على «ما» الموصولةِ أيضاً، وكذلك الضميرُ في «أُوتُوهُ» وقيل: يعودان على الكتاب، أي: وما اختلف في الكتابِ إِلاَّ الَّذين أُوتُوا الكتاب. وقيل: يعودان على النبيِّ، قال الزَّجَّاجُ: أي: وما اختلف في النبيّ إِلاَّ الذين أُوتُوا عِلْمَ نبوَّته. وقيل: يعودُ على عيسى؛ للدلالة عليه.
وقيل: الهاءُ في «فِيهِ» تعود على «الحقِّ» وفي «أوتُوه» تعود على «الكتاب» أي: وما اختلف في الحقِّ إِلاَّ الذين أُوتُوا الكتاب.

فصل


والمراد باختلافهم يحتملُ معنيين:
أحدهما: تكفير بعضهم بعضاً؛ كقول اليهود: ﴿وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ﴾ [البقرة: ١١٣] أو قولهم ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾
[النساء: ١٥٠] والآخر: تحريفهم وتبديلهم، وهذا يدُلُّ على أَنَّ الاختلاف في الحقِّ لم يُوجد إِلاَّ بعد بعثة الأنبياء.
506
وإنزالِ الكتابِ، وذلك يُوجِبُ أَنَّ قبل البعثة لم يكن الاختلاف في الحقِّ حاصلاً، بل كان الاتفاق في الحق حاصلاً وهو يدل على أَنَّ قوله تعالى: ﴿كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ معناه أمه واجدة في دِينِ الحَقِّ.
وقوله: «مِنْ بعدِ» فيه وجهان:
أحدهما وهو الصحيحُ: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديره: اختلفوا فيه من بعد.
والثاني: أن يتعلّق ب «اخْتَلَفَ» الملفوظ به، وقال أبو البقاء: ولا تمنعُ «إلاَّ» من ذلك، كما تقول: «ما قام إلاَّ زيدٌ يومَ الجُمُعَةِ». وهذا الذي أَجازه أبُوا البقاء، فيه كَلاَمٌ كثيرٌ للنُّحاة، وملخَّصُه: أَنَّ «إِلاَّ» لا يُستَثْنَى بها شيئان دُونَ عطفٍ أَوْ بدليةٍ؛ وذلك أنَّ «إلاَّ» معدِّيةٌ للفعل، ولذلك جاز تعلُّقُ ما بعدها بما قبلها، فهي كواو مَعَ وهمزة التعدية، البدليةِ كذلك «إِلاَّ» وهذا هو الصَّحِيحُ، وإنْ كان بعضهم خالف. فإن وَرَدَ من لسانهم ما يوهم جواز ذلك يُؤَوَّل، فمنه قوله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ﴾ [يوسف: ١٠٩].
ثم قال «بِالْبَيِّناتِ» فظاهر هذا أَنَّ «بالبيناتِ» مُتَعلِّقٌ بأرسلنا، فقد استُثْنِي ب «إلاَّ» شيئان، أحدهما «رِجَالا» والآخرُ «بالبينات».
وتأويلهُ أنَّ «بالبَيِّناتَ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لئلا يلزم منه ذلك المحذورُ. وقد منع أبو الحسن، وأبو عليّ: «مَا أخَذَ أَحَدٌ إِلاَّ زيدٌ دِرْهماً» و «ما ضربَ القومُ إلا بعضُهم بَعْضاً» واختلفا في تصحيحها، فقال أبو الحسن: طريقُ تَصْحيحِها بأَنْ تُقَدِّم المرفوع الذي بعد «إِلاَّ» عليها، فيقال: ما أخذَ أحدٌ زيدٌ إلا دِرْهَماً، فيكونُ «زيدٌ» بدلاً من «أَحَدٌ» و «دِرْهَماً» مستثنى مفرغٌ من ذلك المحذوف، تقديره: «ما أخذ أَحَدٌ زيدٌ شيئاً إلا دِرْهماً».
وقال أبو عليٍّ: طريقُ ذلك زيادةُ منصوبةٍ في اللَّفظ فيظهرُ ذلك المقدَّرُ المستثنى منه، فيقال: «ما أَخَذَ أحدٌ شيئاً إلا زيدٌ درهماً» فيكونُ المرفوع بدلاً من المرفوع، والمنصوبُ بدلاً من المنصُوب، وكذلك: ما ضَرَبَ القومُ أحداً إِلاَّ بعضُهم بعضاً.
وقال أبو بكر بن السَّرَّاج: تقولُ «أَعْطَيْتُ الناسَ دِرْهماً إلا عَمْراً» [جائِزٌ. ولو قُلْتَ: «أعطيتُ الناسَ دِرْهَماً إلا عَمْراً] الدنانير لم يَجُزْ، لأنَّ الحرف لا يُسْتثنى به إِلاَّ واحِدٌ. فإنْ قُلْتَ:» ما أَعْطَيْتَ الناسَ دِرْهَماً إِلاَّ عَمْراً دَانِقاً « [على الاستثناء لم يَجُزْ، أَوْ على البدلِ جاز فَتُبدل» عمراً «من النَّاسِ، و» دانِقاً «من» دِرْهماً «. كأنك قُلتَ:» ما أعطيتُ إلاَّ عَمْراً دانقاً] يعني أنَّ الحصرَ واقعٌ في المفعولين.
قال بعض المُحقِّقين: «وما أجازه ابن السراج من البدل في هذه المسألة، ضعيفٌ؛
507
وذلك أنَّ البدلَ في الاستثناء لا بُدَّ مِنْ مُقارنتِهِ ب» إلاَّ «، فَأَشْبَهَ العطف، فكما أَنَّهُ لا يقعُ بعد حرف العطف معطوفانِ، لا يقعُ بعد إلاَّ بَدَلاَنِ».
فإذا عُرِفَ هذا الأصلُ، وما قال الناسُ فيه، كان إعرابُ أَبِي البقاء في هذه الآيةِ الكريمة، مِنْ هذا الباب؛ وذلك أنه استثناءٌ مفرَّغٌ، وقد وقع بعدَ «إلاَّ» الفاعلُ، وهو «الَّذِينَ»، والجارُّ والمَجرُور، وهو «مِنْ بعد»، والمفعولُ مِنْ أَجلِهِ، وهو «بَغياً» فيكونُ كلٌّ منهما محصوراً. والمعنى: وما اختلفَ فيه إلا الذين أُوتوه إلاَّ منْ بعد ما جَاءَتْهُم البيناتُ إلا بَغياً. وإذا كان التقديرُ كذلك، فقد استُثْنِي ب «إلاَّ» شيئان دُونَ الأولِ الذي هو فاعلٌ مِنْ غير عطف ولا بدليةٍ وهي مسألةٌ يكثر دورها؟
قوله: «بَغْياً» في نصبه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعولٌ من أجله، لاستكمال الشُّرُوط، وهو علةٌ باعثةٌ، والعامِلُ فيه مُضمرٌ على ما اخترناه، وهو الذي تُعلِّقُ به «فِيهِ»، و «اخْتَلَفَ» الملفوظُ به عند من يرى أنَّ «إلاَّ» يُستثنى بها شيئان.
والثاني: أنه مصدرٌ في محلِّ حالٍ، أي: باغين، والعامِلُ فيها ما تقدَّمَ. و «بينهم» متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صِفَةٌ ل «بَغْياً» أي: بَغْياً كائناً بينهم.

فصل


قوله: ﴿مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات﴾ يقتضي أَن يكون إيتاءُ اللَّهِ تعالى إيَّاهم الكتاب كان بعد مجيء الآيات البَيِّنات، فتكونُ هذه البينات مُغايرةً - لا محالة - لإِيتاءِ الكتاب؛ وهذه البيناتُ لا يمكن حملها على شيءٍ سوى الدلائل العقليَّة التي نصبها اللَّهُ - تعالى - على إثبات الأُصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلاَّ بعد ثُبوتها؛ وذلك لأَنَّ المتكلِّمين يقولون: كلُّ ما لا يصحُّ إثباتُ النبة إلاَّ بثبوته، فذلك لا يمكن إثباته بالدلائل السَّمعيَّة، وإلاَّ وقع الدور.
وقال بعض المفسرين: المراد «بالبيناتِ» صفة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في كتبهم.
قول فهدى اللَّهُ الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق «لِما» متعلِّقٌ ب «هَدَى» و «ما» موصولةً ومعنى هذا أي: أرشد إلى ما اختلفوا فيه؛ كقوله تعالى: ﴿يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ﴾ [المجادلة: ٣]، أي: إلى ما قالوا. ويقال: هديته الطريق وللطريق وإلى الطريق والضمير في «اخْتلفُوا» عائدٌ على «الذين أُوتُوه» وفي «فِيهِ» عائدٌ على «ما»، وهو متعلِّقٌ ب «اخْتَلَفَ».
و «مِن الحَقِّ» مُتَعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه في موضعِ الحالِ من «ما» في «لمِا»
508
و «مِنْ» يجوزُ أَنْ تكونَ للتبعيض، وأَنْ تكونَ للبيانِ عند مَنْ يرى ذلك، تقديره: الذي هو الحقّ.
وأجاز أبو البقاء أَنْ يكونَ «مِنَ الحقِّ» حالاً من الضمير في «فيه»، والعامِلُ فيها «اختلفوا» فإن قيل لم قال هداهم فيما اختلفُوا فيه، وعساهُ أن يكون غير حقٍّ في نفسه قال: «والقَلْبُ في كتابِ اللَّهِ دُونَ ضرُورةٍ تدفعُ إليه عَجْزٌ وسُوءُ فَهْمٍ» انتهى.
قال شهاب الدِّين: وهذا الاحتمالُ الذي جعله ابنُ عطية حاملاً للفرَّاءِ على ادِّعاء القلب، لا يُتوهَّمُ أصلاً.
قوله «بإذنِهِ» فيه وجهان:
أحدهما: أَن يتعلَّقَ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ من «الَّذِينَ آمَنُوا»، أي: مأذوناً لهم.
والثاني: أَنْ يكون متعلِّقاً بهدى مفعولاً به، أي: هداهم بأمره.
قال الزَّجَّاج: المراد من الإذن - هنا - العلم، أي: بعلمه، وإرادته فيهم، وقيل بأمره، أي: حصلت الهداية بسبب الأمر؛ كما يقال: قطعت بالسِّكِّين.
وقيل: لا بُدَّ فيه مِنْ إضمار، تقديره: هداهم فاهتدوا بإذنه.

فصل فيما اختلف فيه أهل الكتاب وهدانا الله إليه


قال ابن زيدٍ: هذه الآية في أهل الكتاب، اختلفوا في القبلة فصلّت اليهود إلى بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق؛ فهدانا اللَّهُ للكعبة، واختلفوا في الصيام؛ فهدانا الله لشهر رمضان واختلفوا في الأَيام، فأخذت اليهودُ السَّبت، والنَّصارى الأحد؛ فهدانا اللَّهُ للجمعة، واختلفوا في إبراهيم، فقال اليهود: كان يهوديّاً، وقالت النصارى: كان نصرانيّاً. فقلنا: إِنَّه كان حنيفاً مسلماً، واختلفوا في عيسى: فاليهود فرَّطُوا، والنَّصارى أفرطوا؛ فهدانا اللَّهُ للحقِّ فيه.

فصل في احتاج بعضهم بالآية على أن الإيمان مخلوق والرد عليه.


تمسَّك بعضهم بهذه الآية على أَنَّ الإيمان مخلوقٌ لله تعالى، وهو ضعيفٌ؛ لأن الهداية غير الاهتداء كما أَنَّ الهداية إلى الإيمان غير الإيمان، وأيضاً فإنه قال في آخر الآية: «بِإِذْنِهِ» ولا يمكن صرف هذا الإذن إلى قوله: «فَهَدَى اللَّهُ» إذ لا جائز أن يأذن لنفسه، فلا بُدَّ من إضمار لصرف الإذن إليه، والتقدير: «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
509
لمَا اخْتَلَفُوا فيه مِنَ الحَقِّ - فاهتدوا - بِإِذْنِهِ» وإذا كان كذلك، كانت الهداية مغايرةً للإِهتداء.

فصل


اجحتج الفقهاء بهذه الآية على أَنَّ الله - تعالى - قد يخصُّ المؤمن بهداياتٍ لا يفعلها في حقِّ الكافر.
وأجاب عنه المعتزلة بوجوه:
أحدها: أنهم اختصُّوا بالاهتداء، فهو كقوله: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] ثم قال ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٨٥].
وثانيها: أن المراد الهداية إلى الثواب وطريق الجنَّة.
وثالثها: هداهم إلى الحقِّ بالأَلطافِ.
قوله: ﴿والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ والكلام فيها مع المعتزلة كالتي في قبلها.
510
«أَمْ» هذه فيها أربعة أقوالٍ:
الأول: أنْ تكون منقطعةً فتتقدَّر ب «بل» والهمزة. ف «بل» لإضراب انتقالٍ من إِخْبَارٍ إلى إِخْبَارٍٍ، والهمزةُ للتقري. والتقدير بل حسبتم.
والثاني: أنها لمجرد الإضراب مِنْ غير تقدير همزة بعدها، وهو قول الزَّجَّاج وأنشد: [الطويل]
١٠٣٨ - بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشِّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى وَصُوَرتِهَا أَمْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ
أي: بل أنت.
والثالث: وهو قول الفرَّاء وبعض الكُوفيِّين، أنها بمعنى الهمزة. فعلى هذا يُبتدأُ بها في أوَّل الكلام، ولا تحتاجُ إلى الجملة قبلها يضرب عنها.
الرابع: أنها مُتَّصلةٌ، ولا يستقيم ذلك إلا بتقدير جملةٍ محذوفةٍ قبلها.
قال القفَّال: «أمْ» هنا استفهامٌ متوسطٌ؛ كما أَنَّ «هَلْ» استفهامٌ سابقٌ، فيجوز أَنْ
510
يقال: هل عندك رجلٌ، أَمْ عندك امرأَةٌ؟ ولا يجوز أَنْ يقال ابتداءً أَمْ عندك رجل، فأَمَّا إذا كان متوسطاً، جاز سواءٌ كان مسبُوقاً باستفهامٍ آخر، أو لا يكون، أَمَّا إذا كان مسبوقاً باستفهام آخر فهو كقولك: أنت رجلٌ لا تنصف، أفعن جهل تفعلُ هذا، أم لك سلطانٌ؟ وأَمَّا الذي لا يكون مسبوقاً بالاستفهام؛ فكقوله: ﴿الم تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾ [السجدة: ١ - ٣] فكذا تقدير هذا الآية: فهدى اللَّهُ الذين آمنوا فصبروا على استهزَاءِ قومهم، أفتسلكُون سبيلهم أم تحسبون أَنْ تدخُلُوا الجنَّةَ مِنْ غيرِ سلوكِ سبيلهم.
«حَسب» هنا من أَخواتِ «ظنَّ»، تنصبُ مفعولين عند سيبويه، ومسدَّ الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش، كما تقدَّم، ومضارعها فيه الوجهان:
الفتحُ - وهو القياسُ - والكسرُ. ولها نظائرُ من الأفعالِ تأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في آخرِ السورةِ، ومعنها الظَّنُّ، وقد تستعملُ في اليقين؛ قال: [الطويل]
١٠٣٩ - حَسِبْتُ التُّقَى وَالجُودَ خَيْرَ تِجَارَةٍ رَبَاحاً إِذَا مَا المَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلاَ
ومصدرُها: الحُسْبان. وتكون غير متعديةٍ، إذا كان معناها الشقرة، تقول: زيدٌ، أي: اشْقَرَّ، فهو أَحْسَبُ، أي: أَشْقَرُ.
قوله: «وَلَمَّا يَأْتِكمْ» الواو للحال، والجملة بعدها في محلِّ نصبٍ عليها، أي: غير آتيكم مثلهم. و «لمَّا» حرف جزمٍ، معناه النفي؛ ك «لم»، وهو أبلغ من النفي ب «لم» ؛ لأنَّها لا تنفي إلاَّ الزمان المتصل بزمان الحال. والفرق بينها وبين «لم» من وجوهٍ:
أحدها: أنه قد يحذف الفعل بعدها في فصيح الكلام، إذ دلَّ عليه دليلٌ.
وهو أحسن ما تخرَّج عليه قراءة «وإِنْ كُلاًّ لَمَّا» كقوله: [الوافر]
١٠٤٠ - فَجئْتُ قُبُرَهُمْ بَدْءاً وَلَمَّا فَنَادَيْتُ الْقُبُورَ فَلَمْ تَجِبْنَهْ
أي: ولمَّا أكن بدءاً، أي: مبتدئاً؛ بخلاف «لَمْ» فإنه لا يجوز ذلك فيها إلا ضرورة؛ كقوله: [الكامل]
511
١٠٤١ - وَاحْفَظْ وَدِيعَتَكَ الَّتِي أُودِعْتَهَا يَوْمَ الأَعَازِب إِنْ وَصَلْتَ وَإِنْ لَمِ
ومنها: أنَّها لنفي الماضي المتصل بزمان الحال، و «لم» لنفيه مطلقاً أو منقطعاً على ما مرَّ.
ومنها: أنَّ «لَمَّا» لا تدخل على فعل شرطٍ، ولا جزاءٍ بخلاف «لم».
ومنها أنّ «لَمْ» قد تلغى بخلاف «لَمَّا، فإنها لم يأتِ فيها ذلك، وباقي الكلام على ما يأتي إن شاء الله تعالى في سورة» الحُجُرَاتِ «عند قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان﴾ [الحجرات: ١٤].
واختلف في»
لَمَّا «فقيل: مركبة من لم و» ما «زيدت عليها.
وقال سيبويه: بسيطة وليست»
ما «زائدة؛ لأنَّ» لما «تقع في مواضع لا تقع فيها» لم «؛ يقول الرجل لصاحبه: أقدِّم فلاناً، فيقول» لَمَّا «، ولا يقال:» لَمْ «مفردةً.
قال المبرّد: إذا قال القائل: لم يأتني زيدٌ، فهو نفيٌ لقولك أتاك زيدٌ، وإذا قال لَمَّا يأتني، فمعناه: أنَّه لم يأتني بعد، وأنا أتوقَّعه؛ قال النابغة: [الكامل]
١٠٤٢ - أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أنَّ رَكَابَنَا لَمَّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ
وفي قوله»
مَثَلُ الَّذِينَ «حذف مضافٍ، وحذفُ موصوفٍ، تقديره: ولمَّا يأتكم مثل محنة المؤمنين الذين خلوا.
و»
مِنْ قَبْلِكُمْ «متعلِّقٌ ب» خَلَوا «وهو كالتأكيد، فإنَّ الصلة مفهومةٌ من قوله:» خَلَوْا «.

فصل في سبب نزول» أم حسبتم «الآية.


قال ابن عبَّاس، وعطاء: لمَّا دخل أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة اشتدَّ عليهم الضرر؛ لأنَّهم خرجوا بلا مالٍ، وتركوا ديارهم، وأموالهم بيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأسرَّ قوم النفاق، فأنزل الله تعالى؛ تطيباً لطيوبهم:»
أَمْ حَسِبْتُمْ «.
وقال قتادة والسُّديُّ: نزلت في»
غَزْوَةِ الخنْدَقِ «أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد، والحزن، وشدَّة الخوف، والبرد، وضيق العيش، وأنواع الأذى؛ كما قال تعالى:
512
﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ [الأحزاب: ١٠] وقيل: نزلت في» غَزْوَةِ أُحُد «لما قال عبد الله بن أُبيٍّ لأصحاب النبي عليه السلام إلى متى تقتلون أنفسكم، وترجون الباطل، ولو كان محمد نبياً، لمَّا سلَّط الله عليكم الأسر والقتل، فأنزل الله تعالى هذه الآية» أَمْ حَسِبْتُمْ «، أي: المؤمنون أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بمجرد الإيمان بي، وتصديق رسولي، دون أن تعدبوا الله بكل ما تعبَّدكم به، وابتلاكم بالصبر عليه، وأن ينالكم من أذى الكفار، ومن احتمال الفقر ومكابدة الضر والبؤس، ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدوِّ؛ كما كان ذلك غريبةٍ، أو قصَّة عجيبةٍ لها شأنٌ؛ ومنه قوله تعالى:
﴿وَلِلَّهِ المثل الأعلى﴾ [النحل: ٦٠] أي: الصفة التي لها شأن عظيم.
قوله: «مَسَّتْهم البأْسَاءُ»
في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أن تكون لا محلّ لها من الإعراب؛ لأنها تفسيريةٌ، أي: فسَّرَتِ المثل وشرحته، كأنه قيل: ما كان مثلهم؟ فقيل: مسَّتهم البأساء.
والثاني: ان تكون حالاً على إضمار «قَدْ» جوَّز ذلك أبو البقاء، وهي حالٌ من فاعلٍ «خَلَوا». وفي جعلها حالاً بَعْدٌ.
و «البَأْسَاءُ» : اسمٌ من البؤْسِ بمعنى الشِّدِّة، وهو البلاء والفقر.
و «الضَّرَّاءُ» : الأمراض، والآلام، وضروب الخوف.
قال أبو العبَّاس المقريُّ: ورد لفظ «الضُّرِّ» في القرآن على أربعة أوجهٍ:
الأول: الضُّرُّ: الفقر؛ كهذه الآية، ومثله: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ﴾ [يونس: ١٢]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر﴾ [النحل: ٥٣] أي: الفقر.
الثاني: الضّرّ: القحط؛ قال تعالى: ﴿إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء﴾ [الأعراف: ٩٤] أي: قحطوا.
أو قوله تعالى: ﴿وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ﴾ [يونس: ٢١] أي: قحط.
الثالث: الضُّرُّ: المرض؛ قال تعالى: ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ﴾ [يونس: ٢٠٧] أي: بمرض.
513
الرابع: الضر: الأهوال؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر﴾ [الإسراء: ٦٧].
قوله: «وَزُلْزِلُوا» أي: حرِّكوا بأنواع البلايا والرَّزايا.
قال الزَّجَّاج: أصل الزَّلزلة في اللغة من زلَّ الشيء عن مكانه، فإذا قلت: زلزلته فتأويله: أنَّك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه بمضاعفة معناه؛ لأن ما فيه تكريرٌ يكرّرُ فيه الفعل نحو: صَرَّ وصَرْصَرَ، وصَلَّ وصَلْصَلَ؛ وَكَفَّ وَكَفْكَفَ، وفسر بعضهم «زُلْزِلُوا» أي: خُوِّفُوا؛ وذلك لأنَّ الخائف لا يستقر بل يضطرب قلبه.
قول تعالى: «حَتَّى يَقُولَ» قرأ الجمهور: «يقولَ» نصباً، وله وجهان:
أحدهما: أنَّ «حَتَّى» بمعنى «إِلَى»، أي: إلى أن يقول، فهو غايةٌ لما تقدَّم من المسِّ والزلزال، و «حَتَّى» إنما ينصب بعدها المضارع المستقبل، وهذا قد وقع ومضى. فالجواب: أنه على حكاية الحال، [حكى تلك الحال].
والثاني: أنَّ «حَتَّى» بمعنى «كَيْ»، فتفيد العلَّة كقوله: أطعتُ الله حَتَّى أدْخَلنِي الجنةَ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قول الرسول والمؤمنين ليس علَّة للمسِّ والزلزال، وإن كان ظاهر كلام أبي البقاء على ذلك، فإنه قال: «بالرفعِ على أَنْ يكونَ التقديرُ: زُلْزِلُوا فقالوا، فالزَّلْزَلَةُ سَبَبُ القولِط، و» أَنْ «بعد» حَتَّى «مُضْمَرةٌ على كِلا التقديرين.
وقرأ نافع برفعه على أنَّه حالٌ، والحال لا ينصب بعد»
حَتَّى «ولا غيرها؛ لأنَّ الناصب يخلِّص للاستقبال؛ فتنافيا.
واعلم أنَّ»
حَتَّى «إذا وقع بعدها فعلٌ: فإمَّا أن يكون حالاً أو مستقبلاً أو ماضياً، إن كان حالً، رفع؛ نحو:» مَرِضَ حَتَّى لاَ يَرْجُونَهُ «أي: في الحال.
وإن كان مُسْتَقْبلاً نصب، تقول: سِرْتُ حتَّى أدخل البلد، وأنت لم تدخل بعد. وإن كان ماضياً فتحكيه، ثُمَّ حكايتك له: إمَّا أن تكون بحسب كونه مستقبلاً، فتنصبه على حكاية هذه الحال، وإمَّا أن يكون بحسب كونه حالاً، فترفعه على حكاية هذه الحال، فيصدق أن تقول في قراءة الجماعة: حكاية حالٍ، وفي قراءة نافعٍ أيضاً: حكاية حال.
قال شهاب الدِّين: إنَّما نبَّهتُ على ذلك؛ لأنَّ عبارة بعضهم تخُصُّ حكاية الحال بقراءة الجمهور، وعبارةآخرين تخصُّها بقراءة نافع.
قال أبو البقاء في قراءة الجمهور: «والفعلُ هنا مستقبلٌ، حُكِيت به حَالُهُمْ، والمعنى على المُضِيِّ»
وكان قد تقدَّم أنه وجَّه الرفع بأنَّ «حتى» للتعليل.
قوله: «معه» هذا الظرف يجوز أن يكون منصوباً بيقول، أي: إنهم صاحبوه في هذا
514
القول وجامعوه فيه، وأن يكون منصوباً بآمنوا، أي: صاحبوه في الإيمان.
قوله: ﴿متى نَصْرُ الله﴾ «مَتَى» منصوبٌ على الظرف، فموضعه رفعٌ؛ خبراً مقدَّماً، و «نصرٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ.
وقال أبو البقاء: «وعلى قولِ الأَخْفَشِ: موضعه نصب على الظرف، و» نصرُ «مرفوعٌ به». و «مَتَى» ظرفُ زمانٍ لا يتصرَّف إلا بجرِّه بحرفٍ. وهو مبنيٌّ؛ لتضمُّنه: إما لمعنىهمزة الاستفهام، وإمَّا معنى «مَنْ» الشرطية، فإنه يكون اسم استفهام، ويكون اسم شرطٍ فيجزم فعلين شرطاً وجزاءً.
قال القرطبي: «نَصْرُ اللَّهِ» رفع بالابتداء على قول سيبويه، وعلى قول أبي العباس؛ رفع بفعلٍ، أي: متى يقع نصر الله.
و «قَرِيبٌ» خبر «إنَّ» قال النَّحَّاس: ويجوز في غير القرآن «قَرِيباً» أي: مكاناً قريباً و «قَرِيبٌ» لا تثيِّيه العرب، ولا تجمعه، ولا تؤنّثه في هذا المعنى؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ﴾ [الأعراف: ٥٦] ؛ وقال الشَّاعر: [الطويل]
١٠٤٣ - لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلاَ أُمُّ هَاشِمٍ قَرِيبٌ وَلاَ بَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
فإن قلت: فلانٌ قريبٌ لي ثنيت وجمعت فقلت: قَرِيبُونَ، وأقْرِباءُ، وقُرَبَاءُ.

فصل


والظاهر أنَّ جملة ﴿متى نَصْرُ الله﴾ من قول المؤمنين، وجملة ﴿ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ من قول الرسول، فنسب القول إلى الجميع؛ إجمالاً، ودلالة الحال مبيِّنة للتفضيل المذكور. وهذا أولى من قول من زعم أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والتقدير: حتَّى يقول الذين آمنوا: «مَتَى نَصْرُ اللَّهِ» ؟ فيقول الرسول «أَلاَ إِنَّ» فقدِّم الرسول؛ لماكنته، وقدِّم المؤمنون؛ لتقدُّمهم في الزمان. قالوا: لأنه أخبر عن الرسول، والذين آمنوا بكلامين:
أحدهما: أنهم قالوا: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟
والثاني: «ألاَّ إنَّ نصرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» فوجب إسناد كلِّ واحدٍ من هذين الكلامين إلى ما يليق به من ذينك المذكورين، قال: الذين آمناو قالوا: «مَتَى نَصْرُ اللَّهِ» والرسلُ قالوا: ﴿ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ قالوا: ولهذا نظيرٌ في القرآن والشِّعر:
أمَّا القرآن: فقوله:
﴿وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ [
515
القصص: ٧٣]، والمعنى؛ لتسكنوا في اللَّيل، ولتبتغوا من فضله في النهار.
وأمَّا الشعر: فقول امرئ القيس: [الطويل]
١٠٤٤ - كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويَابِساً لَدَى وَكْرِهَا العُنَّابُ وَالْحَشَفُ البَالِي
فشبه العنَّاب بالرطب، والحشف بالبالي باليابس.
قال ابن عطيَّة: «هذا تَحَكُّمٌ وحَمْلٌ لِلْكلامِ على غَيْرِ وَجْهِهِ».
وقيل: الجملتان من قول الرسول والمؤمنين معاً، يعني أن الرسول قالهما معاً، وكذلك أتباعه. فإن قيل: كيف يليق بالرسول القاطع بصحَّةِ وعد الله ووعيده أن يقول مستبعداً: مَتَى نصر الله؟
والجواب من وجوه:
أحدها: التأويل المتقدِّم.
والثاني: أن قول الرسول ﴿متى نَصْرُ الله﴾ ليس على سبيل الشِّكِّ بل على سبيل الدعاء باستعجال النصر.
الثالث: أن كونه رسولاً لا يمنع من أن يتأذَّى من كيد الأعداء؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ [الحجر: ٩٧] وقال تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣] وقال تعالى: ﴿حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا﴾ [يوسف: ١١٠]، وعلى هذا فإذا ضاق قلبه، وقلَّت حيلته، وكان قد تقدم وعبد الله بنصره، إلاَّ أنه لم يعيِّن له الوقت؛ قال عند ضيق قبله: ﴿متى نَصْرُ الله﴾ حَتَّى إنَّه إذا علم قرب الوقت، زال غمه وطاب قبله؛ ويؤيد ذلك قوله في الجواب ﴿إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ فلما كان الجواب بذكر القرب؛ دلَّ على أنَّ السؤال كان واقعاً عن القرب، ولو كان السؤال وقع عن أنَّه هل يوجد النصر، أم لا؛ لما كان هذا الجواب مطابقاً لذلك السؤال، هذا على قول من قال إن قوله: ﴿ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ مِن كلام الله تعالى جواباً للرسول، ومن قال إنه من كلام المؤمنين. قال: إنَّهم لما علموا أنَّ الله تعالى لا يُعلي عدوه عليهم، قالوا: ﴿ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾، فنحن على ثقة بوعدك.
وقيل: إنَّ الجملة الأولى من كلام [الرسول وأتباعه، والجملة ألخيرة من كلام] الله تعالى، على ما تقدم. فالحاصل أنَّ الجملتين في محلِّ نصب بالقول.
516
فإن قيل: قوله: ﴿إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ يوجب في حق كل من لحقه شدَّةٌ أن يعلم أنه سيظفر بزوالها، وذلك غير ثابتٍ.
فالجواب: لا يمتنع أن يكون هذا من خواصِّ الأنبياء - عليهم السّلام - وأيضاً فإن كان عامّاً في حق الكل إذ كلُّ من كان في بلاءٍ، فلا بدَّ له من أحد أمرين:
إمَّ أن يتخلص منه أو يموت، فإن مات، فقد وصل إلى من لا يهمل أمره، ولا يضيع حقه، وذلك من أعظم النصر، وإنما جعله قريباً؛ لأن الموت آتٍ؛ وكلَّ آتٍ قريبٌ.
517
قد تقدَّم أنَّ «ماذا» له استعمالات ستَّةٌ عند قوله: ﴿مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً﴾ [البقرة: ٢٦]. وهنا يجوز أن تكون «ماذا» بمنزلة اسمٍ واحدٍ، بمعنى الاستفهام؛ فتكون مفعولاً مقدَّماً ل «يُنْفِقُونَ» ؛ لأنَّ العرب يقولون: «عماذا تَسْأَلُ» بإثبات الألف، وحذفوها من قولهم: ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [النبأ: ١] وقوله ﴿فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا﴾ [النازعات: ٤٣] فلما لم يحذفون الألف من آخر «مَا»، علمت أنه مع «ذا» بمنزلة اسم واحدٍ، ولم يحذفون الألف منه، لمَّا لم يكن آخر الاسم، والحذف يلحقها إذا كان آخراً، إلاَّ أن يكون في شعر؛ كقوله: [الوافر]
١٠٤٥ - عَلَى مَا قَامَ يَشْتَمُنِي لَئِيمٌ كَخنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رمَادِ
قال القرطبي: إن خفَّفت الهمزة، قلت: يسلونك، ومنه: ما «يُنْفِقُون» ويجوز أن تكون «ما» مبتدأ و «ذا» خبره، وهو موصولٌ. و «ينفقون» صلته، والعائد محذوفٌ، و «ماذا» معلِّق للسؤال، فهو في موضع المفعول الثاني، وقد تقدَّم تحقيقه في قوله: ﴿سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم﴾ [البقرة: ٢١١].
قال القرطبي: متى كانت اسماً مركابً، فهي في موضع نصب إلاَّ ما جاء في قول الشاعر: [الطويل]
١٠٤٦ - وَمَاذَا عَسَى الوَاشُونَ أَنْ يَتَحَدَّثُوا... سِوَى أَنْ يَقُولُوا: إِنَّنِي لَكِ عَاشِقُ
517
فإِنَّ «عَسَى» لا تعمل فيه، ف «ماذا» في موضع رفعٍ، وهو مركَّبٌ؛ إذ لا صلة ل «ذا».
وجاء «ينفقون» بلفظ الغيبة؛ لأنَّ فاعل الفعل قبله ضمير غيبةٍ في «يَسْألونَكَ»، ويجوز في الكلام «ماذا نُنْفِقُ» كما يجوز: أقسم زيدٌ ليَضْرِبَنَّ ولأضْرِبَنَّ، وسيأتي لهذا مزيد ببيانٍ في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ﴾ [المائدة: ٤] في المائدة إن شاء الله تعالى.
قوله: ﴿قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ﴾ يجوز في «ما» وجهان:
أظهرهما: أن تكون شرطيّةً؛ لتوافق ما بعدها، ف «ما» في محلِّ نصبٍ، مفعولٌ مقدَّمٌ، واجبُ التقديم؛ لأنَّ له صدر الكلام. و «أَنْفَقْتُمْ» في محلّش جزمٍ بالشرط، و «مِنْ خَيْرٍ» تقدَّم إعرابه في قوله: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ [البقرة: ١٠٦].
وقوله: فللوالدين «جواب الشرط، وهذا الجارُّ خبر لمبتدأ محذوف، أي: فمصرفه للوالدين، فيتعلَّق بمحذوفٍ، إمَّا مفردٌ، وإمَّا جملةٌ على حسب ما ذكر من الخلاف فيما مضى. وتكون الجملة في محلِّ جزمٍ بجواب الشرط.
والثاني: أن تكون»
مَا «موصولة، و» أَنْفَقْتُمْ «صلتها، والعائد محذوف، لاستكمال الشروط، أي: الذي أنفقتموه. والفاء زائدة في الخبر الذي هو الجارُّ والمجرور.
قال أبو البقاءِ في هذا الوجه:»
ومِنْ خيرٍ يكون حالاً من العائد المحذوفٍ «.

فصل ف سبب النزول


اعلم نَّه تعالى لمَّا بيَّن الوجوب على كل مكلّفٍ، بأن يكون معرضاً عن طلب العاجل مشتغلاً بطلب الآجل، شرع في بيان الأحكام من هذه الآية إلى قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٤٣].
قال عطاء، عن ابن عباسٍ: نزلت الآية في رجل أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «إِن لي دِيناراً، فقال: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ، قال: إنّ لِي آخَرَ، قال: أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ، فَقَالَ: إنَّ لِي آخَر، قال: أَنْفِقْهُ على خَادمِكَ، قال: إنّ لي آخر، قال: أَنْفِقْهُ عَلَى وَالِدَيْكَ قال: إنَّ لِي آخَرَ، قال: أَنْفِقْهُ عَلَى قرابتكِ، قال: إنَّ لي آخَرَ قال: أَنْفِقْهُ في سَبِيل الله، وهو أَحْسَنُها»

وروى الكلبيُّ، عن ابن عباسٍ أنَّ الآية نزلت في عمرو بن الجموح، وهو الذي قتل
518
يوم أُحُدٍ، وكان شيخاً كبيراً هرماً، وعنده مالٌ عظيمٌ، فقال ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت الآيةُ.
فإن قيل إنَّ القوم سألوا عما ينفقون كيف أُجيبوا ببيان المصرف؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ في الآية حذفاً، تقديره: ماذا ينفقون ولمن يعطونه، كما ذكرنا في رواية الكليِّ في سبب النزول، فجاء الجواب عنهما، فأجاب عن المنفق بقوله: «مِنْ خَيْرٍ» وعن المنفق عليه بقوله: فَلِلْوَالِدَيْنِ «وما بعده.
ثانيها: أن يكون»
ماذا «سؤالاً عن المصرف على حذف مضافٍ، تقديره: مصرف ماذا ينفقون؟
ثالثها: أن يكون حذف من الأوَّل ذكر المصرف، ومن الثاني ذكر المنفق، وكلاهما مرادٌ، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ﴾ [البقرة: ١٧١].
رابعها: قال الزمخشريُّ: قد تضمَّن قوله: ﴿مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ﴾ بيان ما ينفقونه، وهو كلُّ خيرٍ؛ وبُني الكلام على ما هو أهمُّ وهو بيان المصرف؛ لأنَّ النفقة لا يعتدُّ بها إلاَّ أن تقع موقعها. قال: [الكامل]
١٠٤٧ - إنَّ الصَّنِيعَةَ لاَ تَكُونُ صَنِيعَةً حَتَّى يُصَابَ بِهَا طَرِيقُ الْمَصْنَعِ
خامسها: قال القفَّال: إنه وإن كان السؤال وارداً بلفظ»
ما نُنْفِقُ: إلاَّ أن المقصود السؤال عن الكيفية؛ لأنهم كانوا علامين بأن الإنفاق يكون على وجه القربة، وإذا كان هذا معلوماً عندهم، لم ينصرف الوهم إلى ذلك، فتعيَّن أنَّ المراد بالسؤال إنَّما هو طريق المصرف، وعلى هذا يكون الجواب مطابقاً للسؤال، ونظيره قوله تعالى: ﴿قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ﴾ [البقرة: ٧٠، ٧١] وإنَّما كان هذا الجواب موافقاً للسؤال، لأنه كان من المعلوم أنها البقرة التي شأنها وصفتها كذا، فقوله: «مَا هِيَ» لا يمكن حمله على طلب الماهيَّة؛ فتعين أن يكون المراد منه طلب الصِّفة التي بها تتميز هذه البقرة عن غيرها، فكذا ها هنا.
وسادسها: يحتمل أنَّهم لما سألوا عن هذا السؤال، فقيل لهم: هذا سؤالٌ فاسدٌ، أي: أنفقوا ما أردتم بشرط أن يكون مصروفاً إلى المصرف وهذا كقول الطبيب لمن سأله ماذا يأكل، فقال الطبيب: كل في اليومين مرَّتين، ومعناه، كل ما شئت، ولكن بهذا الشرط.
519

فصل


اعلم أنَّه تعالى رتَّب الإِنفاق، فقدَّم الوالدين، لأنَّهما كالمخرج للمكلَّف من
520
العدم إلى الوجود، وذلك لأنَّ الله - تعالى - هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود؛ قال تعالى: ﴿وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ [الإسراء: ٢٣] فأشار إلى أنه ليس بعد رعاية حقِّ الله - تعالى - من شيءٍ أوجب من رعاية حقِّ الوالدين؛ فلذلك قدمهما، ثم الأقربين؛ لأنَّ الإنسان أعلم بحال الفقير القريب من غيره؛ ولأنَّه إذا لم يراع قريبه الفقير لاحتاج الفقير إلى الرجوع إلى غيره، وذلك عار في حقِّ قريبه الغنيّ.
521
فإن قيل: إنَّه تعالى ذكر «الْوَالِدَيْنِ» ثمَّ عطف عليه «الأَقْرَبِينَ» والعاطف يقتضي المغايرة، وذلك يدلُّ على أن الوالدين لا يدخلون في مسمَّى الأقربين، فهو خلاف الإجماع؛ لأنَّه لو وقف على «الأَقْربين» حمل فيه الوالدين بغير خلافٍ.
فالجواب: أنَّ هذا من عطف العامِّ على الخاصِّ؛ كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم﴾ [الحجر: ٨٧] فعطف القرآن على السبع المثاني، وهي من القرآن، وقال - عليه السّلام - «أفضل ما قتل أنا والنبيُّون من قبلي... » فعطف «النَّبِيِّين» على قوله: «أَنَا» وهو من النبيين، وذلك شائعٌ في لسان العرب، ثمَّ ذكر بعدهم اليتامى؛ لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب، وليس لهم أحدٌ يكتسب لهم، فالطفل اليتيم: قد عدم الكسب، والمكاسب، وأشرف على الضياع، ثم ذكر بعدهم المساكين؛ لأنَّ حاجتهم أقلُّ من حاجة اليتامى؛ لأنَّ قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى، ثم ذكر ابن السبيل بعدهم؛ لأنه بسبب انقطاعه عن بلده، قد يحتاج، ويفتقر، فهذا أصحُّ تركيبٍ، وأحسن ترتيبٍ في كيفيَّة الإنفاق، ثم لمَّا فصَّل هذا التَّفصيل الحسن الكامل، أردفه بالاجمال، فقال: ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ﴾ والعليم مبالغةٌ في كونه عالماً لا يعزب عن علمه مثقال ذرَّةٍ في الأرض، ولا في السَّماء.
و «ما» هذه شرطيةٌ فقطح لظهور عملها الجزم بخلاف الأولى. وقرأ عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «وما يفعلوا» بالياء على الغيبة، فيحتمل أن يكون من باب الالتفات من الخطاب، وأن يكون من الإضمار لدلالة السياق عليه، أي: وما يفعل الناس و" ما " هذه شرطيةٌ فقطح لظهور عملها الجزم بخلاف الأولى. وقرأ عليٌّ رضي الله عنه: " وما يفعلوا " بالياء على الغيبة، فيحتمل أن يكون من باب الالتفات من الخطاب، وأن يكون من الإضمار لدلالة السياق عليه، أي: وما يفعل الناس..

فصل في المراد بالخير


قال أكثر العلماء: المراد ب «الخَيْر» هو المال؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: ٨]، وقال: ﴿إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية﴾
[البقرة: ١٨].
وقيل: المراد بالخير هذا الإنفاق، وسائر وجوه البرِّ، والطاعة.

فصل هل الآية منسوخة أم لا؟


قال بعضهم: هذه الآية منسوخة بآية المواريث.
وقال أهل التفسير: إنها منسوخة بالزكاة.
522
قال بعضهم: وكلاهما ضعيفٌ؛ لأنَّه يمكن حمل الآية على وجوهٍ لا يتطرق النَّسخ إليها.
أحدها: قال أبو مسلم الأصفهاني: الغنفاق على الوالدين، واجبٌ عند قصورهما عن الكسب والملك، والمراد ب «الأَقْرَبِينَ» الولد، وولد الولد، وقد تلزم نفقتهم عند فقد الملك، وعلى هذا فلا وجه للقول بالنَّسخ؛ لأنَّ هذه النفقة تلزم في حال الحياة، والميارث يصل بعد الموت، وما وصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقةٌ.
وثانيها: أن يكون المراد من أحبَّ التقرب إلى الله تعالى بالنفقة، فالولى أن ينفقه في هذه الجهات، فيكون المراد التطوع.
ثالثها: أن يكون المراد االوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية، وفيما يتصل بالتيامى والمساكين مما يكون زكاةً.
ورابعهما: يحتمل أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثاً على صلة الرَّحم، وفيما يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة، فظاهر الآية محتملٌ لكل هذه الوجوه من غير نسخ.
523
قرئ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال﴾ : ببناء «كَتَب» للفاعل؛ وهو ضمير الله تعالى، ونصبِ «القِتَالِ».
قال القرطبي: وقرأ قومٌ: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقَتْلُ» ؛ قال الشاعر: [الخفيف]
٠٤٨ - أ - كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقَتَالُ عَلَيْنَا وَعَلَى الغَانِيَاتِ جَرُّ الذُيُولِ
قوله تعالى: «وَهُوَ كُرْهٌ» هذه واو الحال، والجملة بعدها في محلِّ نصبٍ عليها، والظاهر أنَّ «هو» عائدٌ على القتال. وقيل: يعود على [المصدر] المفهوم من كتب، أي: وكتبه وفرضه. وقرأ الجمهور «كُرْهٌ» بضمِّ الكاف، وهو الكراهية بدليل قوله: ﴿وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً﴾ ثم فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ وضع المصدر موضع الوصف سائغٌ كقول الخنساء: [البسيط]
١٠٤٨ - ب -........................ فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَادْبَارُ
523
والثاني: أن يكون فعلاً بمعنى مفعولٍ، كالخبر بمعنى الخبور وهو مكروهٌ لكم.
وقرأ السُّلميُّ بفتحها. فقيل: هما بمعنًى واحدٍ، أي: مصدران كالضَّعف والضُّعف، قاله الزَّجاج وتبعه الزمخشري.
وقيل: المضمومُ اسمُ مفعولٍ، والمفتوح المصدر.
وقيل: المفتوح بمعنى الإكراه، قاله الزممخشري في توجيه قراءة السُّلميِّ، إلاَّ أنَّ هذا من باب مجيء المصدر على حذف الزوائد، وهو لا ينقاس.
وقيل: المفتوح ما أُكره عليه المرء، والمضموم ما كرهه هو.
فإن كان «الكَرْهُ»، و «الكُرْهُ» مصدراً، فلا بدَّ من تأويل يجوز معه الإخبار به عن «هو»، وذلك التأويل: إمَّا على حذف مضافٍ، أي: والقتال ذو كرهٍ، أو على المبالغة، أو على وقوعه موقع اسم المفعول. وإن قلنا: إنَّ «كُرْهاً» بالضَّمِّ اسم مفعولٍ، فلا يحتاج إلى شيء من ذلك. و «لَكُمْ» في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفة لكره، فيتعلَّق بمحذوفٍ أي: كرهٌ كائنٌ.

فصل في بيان الإذن في القتال


اعلم أنه - عليه الصّلاة والسّلام - كان غير مأذونٍ له في القتال مدة إقامته بمكة،
524
فلمَّا هاجر أُذن له في قتال من يقاتله من المشركين، ثمَّ أُذن له في قتال المشركين عامَّةً، ثم فرض الله الجهاد.
واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال عطاء: الجهاد تطوعٌ والمراد بهذه الآية أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ذلك الوقت دون غيرهم، وإليه ذهب الثَّوْرِيُّ، واحتجوا بقوله تعالى: ﴿فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ [النساء: ٩٥] ولو كان القاعد تاركاً للفرض، لم يكن يعده الحسنى.
قالوا: وقوله: «كُتِبَ» يقتضي الإيجاب، ويكفي في العمل به مرَّةً واحداةً.
وقوله: «عَلَيْكُمْ» يقتضي تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت، وإنما قلنا إنَّ قوله ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص﴾ [البقرة: ١٧٨] ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام﴾ [البقرة: ١٨٣] حال الموجودين فيه كحال من سيوجد بعد ذلك؛ بدليلٍ منفصلٍ، وهو الإجماع، وذلك غير معقولٍ ها هنا؛ فوجب أن يبقى على الأصل، ويدل على صحة هذا القول قوله تعالى:
﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢] والقول بالنسخ غير جائز على ما بيناه، والإجماع اليوم منعقدٌ على أنه من فروض الكفايات، إلاَّ أن يدخل المشركون ديار المسلمين؛ فيتعيّن الجهاد حينئذٍ على الكلِّ.
وقال آخرون: هو فرض عينٍ؛ واحتجُّوا بقوله: «كُتِبَ» وهو يقتضي الوجوب، وقوله «عَلَيْكُمْ» يقتضيه أيضاً، والخطاب بالكاف في قوله «عَلَيْكُمْ» لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد؛ كقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام﴾ [البقرة: ١٨٣].
وقال الجمهور: هو فرضٌ على الكفاية.
فإن قيل هذا الخطاب للمؤمنين، فكيف قال: ﴿وَهُوَ كُرهٌ لَكُم﴾، وهذا يشعر بكون
525
المؤمنين كارهين لحكم الله، وتكليفه، وذلك غير جائزٍ؛ لأن المؤمن لا يكون ساخطاً لأوامر الله وتكليفه، بل يرضى بذلك، ويحبُّه، ويعلم أنه صلاحه، وتركه فساده؟
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن المراد من «الكُرْهِ» كونه شَاقّاً على النفس، لأن التكليف عبارةٌ عن إلزام ما فيه كلفةٌ، ومشقةٌ، ومن المعلوم: أن الحياة من أعظم ما يميل الطبع إليها، فلذلك كان القتال من أشقِّ الأشياء على النفس، لأنَّ فيه إخراج المال، والجراحات، وقطع الأطراف، وذهاب الأنفس، وذلك أمرٌ يشق على الأنفس.
والثاني: أن يكون المراد منه كراهتهم للقتال قبل أن يفرض؛ لما فيه من الخوف، ولكثرة الأعداء فبيَّن تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خيرٌ لكم من تركه، لئلاَّ تكرهونه بعد أن فرض عليكم.
قال عكرمة: نسخها قوله تعالى: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [النساء: ٤٦] يعني أنهم كرهوه ثم أحبوه.
قوله ﴿وعسى أَن تَكْرَهُوا﴾، «عَسَى» فعلٌ ماضٍ، نُقِل إلى إنشاءِ الترجِّي والإشفاق، وهو يرفعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخَبر، ولا يكون خبرُها إلا فِعلاً مضارعاً مقروناً ب «أَنْ»، وقد يجيءُ اسماً صريحاً؛ كقوله [الرجز]
١٠٤٩ - أَكْثَرْتَ فِي العَذْلِ مُلِحّاً دَائِمَا لاَ تُكْثِرَنْ إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمَا
وقالت الزَّبَّاءُ: «عَسَى الغُوَيْرُ أَبُؤُسَا» وقد يَتَجَرَّد خبرها مِنْ «أَنْ» ؛ كقوله: [الطويل]
526
وقال آخر: [الوافر]
١٠٥٠ - عَسَى فَرَجٌ يأْتِي بهِ اللَّهُ إِنَّهُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ في خَلِيقَتِهِ أَمْرُ
١٠٥١ - عَسَى الكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ يَكُونُ وَرَاءَه فَرَجٌ قَرِيبٌ
وقال آخر: [الوافر]
١٠٥٢ - فَأَمَّا كَيِّسٌ فَنَجَا ولَكِن عَسَى يغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئِيمُ
وتكونُ تامّة، إذا أُسندَتْ إلى «أَنْ» أَوْ «أنَّ» ؛ لأنهما يَسدَّان مَسَدَّ اسمها وخبرها، والأصحُّ أنها فِعْلٌ، لا حرفٌ، لاتصالِ الضمائر البارزةٍ المرفوعةِ بها.
قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ﴾ [محمد: ٢٢] ويرتفع الاسم بعده فقوله: «عَسَى زَيْدٌ» معناه: قرب ووزنُها «فَعَل» بفتح العين، ويجوز كسر عينها، إذا أسندت لضمير متكلم، أو مخاطبٍ أو نون إناثٍ وهي قراءةُ نافعٍ، وستأتي إن شاء الله تعالى ولا تتصرَّفُ بل تلزمُ المضيَّ.
والفرقُ بين الإشفاق والترجِّي بها في المعنى:
أنَّ الترجِّي في المحبوبات، والإشفاقَ في المَكروهات.
و «عَسَى» من الله تعالى واجبةٌ؛ لأنَّ الترجِّي والإشفاق محالانِ في حقَّه. وقيل: كلُّ «عَسَى» في القرآن للتحقيق، يعنُون الوقوعَ، إِلاَّ قوله تعالى: ﴿عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ﴾ [التحريم: ٥] وهي في هذه الآية ليسَت ناقصة؛ فتحتاج إلى خبرٍ، بل تامةٌ، لأنها أُسْندت إلى «أَنْ»، وقد تقدَّم أنها تَسُدُّ مَسدَّ الخبرين بعدها. وزعم الحُوفيُّ أَنَّ: «أَنْ تَكْرَهُوا» في محلِّ نصبٍ، ولا يمكن ذلك إلا بتكلُّفٍ بعيد.
قوله: ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ في هذه الجملة وجهان:
أظهرهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، وإنْ كانَتْ من النكرة بغيرِ شرطٍ من الشروط المعروفة قليلةً.
والثاني: أَنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على أنها صفةٌ ل «شَيْئاً» وإنما دخلت الواو على الجملة الواقعة صفة؛ لأنَّ صورتها صورة الحالِ، فكما تدخل الواو عليها حاليةً، تدخلُ عليها صفةً، قاله أبو البقاء ومثلُ ذلك ما أجازه الزمخشريّ في قوله: ﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الحجر: ٤] فجعل «وَلَهَا كِتَابٌ» صفةً لقريةٍ، وقل: وكانَ القياسُ ألاَّ تتوسَّطَ هذا الواو بينهما؛ كقوله: ﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ﴾ [الشعراء: ٢٠٨] وإنما توسَّطَت؛ لتأكيد لصوقِ الصفةِ بالموصوفِ، كما يُقالُ في الحالِ: «جاءني زيدٌ عليه ثوبٌ، وعليه ثوبٌ». وهذا الذي أجازه أبو البقاء هنا،
527
والزمخشريُّ هناك، هو رأيُ ابن جِنّي، وسائرُ النحاة يُخالفونه.

فصل في بيان الخيرية في الغزو


قوله: ﴿وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ لأنّ في الغزو إحدى الحسنيين: إمَّا الظفرُ والغنيمةُ، وإِمَّا الشهادة والجنةُ ﴿وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً﴾ يعني القُعُود عن الغزو، وهو شرٌّ لكم؛ لما فيه من فواتِ الغنيمة، والأَجرِ، ومخالفةِ أَمر اللَّهِ تعالى.
قال القُرطبي: قِيْلَ «عَسَى» بمعنى «قَدْ» وقال الأَصمُّ: و «عَسَى» مِنَ اللَّهِ واجبةٌ في جميع القرآن إِلاَّ قولُه تعالى: ﴿عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً﴾ [التحريم: ٥]
وقال أبو عبيدة: عَسَى من اللَّهِ إيجابٌ، والمعنى: عسى أنْ تكرهُوا ما في الجهادِ من المشقَّةِ؛ وهو خيرٌ لكم، من أَنَّكُمْ تغلبون، وتظفرون وتغنمون، وتُؤجرون، ومَنْ مات، مات شهيداً. و «الشَّرُّ» هو السُّوء أصله: من شَرَرْتُ الشيء إذا بسطتهُ يقال: شَرَرْتُ اللحم، والثوب: إذا بسطته، ليجف؛ ومنه قوله: [الوافر]
١٠٥٣ - وَحَتَّى أُشُرَّتْ بِالأَكُفِّ المَصَاحِفُ... والشَّررُ: هو اللَّهب لانبساطه. فعلى هذا «الشَّرُّ» انبساطُ الاشياء الضارةِ، وقوله ﴿والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ فالمقصود الترغيبُ العظيمُ في الجهادِ، وكأنه تعالى قال يا أيها العبد، اعلمْ أَنَّ علمي أكملُ من علمك، فكُنْ مشتغلاً بطاعتي، ولا تلتفتْ إلى مُقتضى طبعك، فهي كقوله في جواب الملائكة: ﴿إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠].
528
قرأ الجمهور: «قِتَالٍ» بالجّرِّ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه خفضٌ على البدلش من «الشَّهْرِ» بدلِ الاشتمالِ؛ إذ القتالُ واقعٌ ف يه، فهو مشتملٌ عليه.
والثاني: أنه خفضٌ على التَّكرير، قال أبو البقاء: «يريدُ أنَّ التقديرَ: عَنْ قِتَالٍ فيه». وهو معنى قول الفراء إِلاَّ أَنَّهُ قال: هُوَ مَخْفُوضٌ ب «عَنْ» مُضْمرَةً. وهذا ضعيفٌ جدّاً؛ لأنَّ حرف الجرَّ لا يبقى عملهُ بعد حذفه في الاختيار. وهذا لا ينبغي أن يُعَدَّ خلافاً بين البصريين، والكسائي، والفراءِ؛ لأنَّ البدل عند جمهور البصريين على نيَّة تكرار العامل، وهذا هو بعينه قولُ الكسائي.
وقوله: لأنَّ حرف الجرِّ لا يبقى عمله بعد حذفه إِنْ أراد في غير البدل، فمُسَلَّمٌ، وإن أراد في البدلِ، فممنوعٌ، وهذا هو الذي عناه الكسائي.
الثالث: قال أبو عبيدة: «إِنه خفضٌ على الجِوَارِ».
قال أبو البقاء: «وهو أَبْعَدُ مِنْ قولهما - يعني الكسائيَّ والفراء - لأنَّ الجوار من
3
مواضع الضَّرورة أو الشذوذِ، فلا يُحْمَلُ عليه ما وجدت عنه مَندُوحةٌ» وقال ابن عطية: «هُوَ خَطَأٌ». قال أبو حيَّان إن كان أبو عبيدة عَنَى بالجوار المصطلح عليه فهو خَطَأٌ. وجهةث الخطأِ أنَّ الخفض على الجوار عبارةٌ عن أَنْ يكون الشيءُ تابعاً لمرفوع، أو منصوب، من حيثُ اللفظُ والمعنى، فيُعدل به عن تَبَعيَّته لمتبوعه لفظاً، ويُخْفَضَ لمجاورته لمخفوض؛ كقولهم: «هذا حُجْرُ ضَبِّ خَرِبٍ»، وكان مِنْ حقِّه الرفع؛ لأنه مِنْ صفاتِ الجُحْر، لا من صفاتِ الضبِّ، ولهذه المسألةِ مزيدُ بيانٍ يأتي في موضعه إِنْ شاءس اللهُ تعالى، و «قِتَالٍ» هنا ليس تابعاً لمرفوعٍ، أو منصوبٍ، وجاوز مَخفوضاً فخُفِض.
وإن كان عنى أنه تابعٌ لمخفوضٍ فخفضُه بكونه جاور مخفوضاً، أي: فصار تابعاً له، لم يكنْ خطأً، إِلاَّ أنه أغمضَ في عبارته؛ فالتبس بالمصطلح عليه.
وقرأ ابن عباس والأَعمش: «عَنْ قِتَالٍ» بإظهارِ «عَنْ» وهي في مُصْحَف عبد الله كذلك. وقرأ عكرمة: «قتْلٍ فِيهِ، قُلْ قَتْلٌ فِيهِ» بغير ألف.
وقُرئ شاذّاً: «قِتَالٌ فيه» بالرفع وفيه وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأٌ، والجارُّ والمجرورُ بعده خبرٌ، وسَوَّغ الابتداءُ به وهو نكرةٌ؛ أنه على نيةِ همزةِ الاستفهام، تقديره: أَقِتَالٌ فيه.
والثاني: أنه مرفوعٌ باسم فاعلٍ تقديرُه: أجائزٌ قتالٌ فيه، فهو فاعلٌ به. وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجه بأن يكونَ خبرَ محذوفٍ، فجاءَ رفعُه من ثلاثةِ أوجهٍ: إِمَّا مبتدأٌ، وإِمَّا فاعلٌ، وإمَّا خبرُ مبتدأ. قالوا: ويظهرُ هذا مِنْ حَيثُ إِنَّ سؤالهم لم يكن عن كينونةِ القتالِ في الشهرِ أم لا، وإنَّما كان سؤالهم: هل يجوزُ القتالُ فيه أم لا؟ وعلى كِلا هذين الوجهين، فهذه الجملةُ المُستفهمُ عنها في محلِّ جرٍّ؛ بدلاً من الشهرِ الحرامِ، لأنَّ «سَأَلَ» قد أخذ مفعوليه فلا تكونُ هي المفعول، وإن كانت محَطَّ السؤال.
وقوله: «فِيهِ» على قراءةِ خفضِ «قِتَالٍ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه في محلِّ خفضٍ؛ لأنه صفةٌ ل «قِتَالٍ».
4
والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ؛ لتعلُّقه بقتال، لكونه مصدراً.
وقال أبو البقاء: كما يتعلَّقُ ب «قِتَالٍ» ولا حاجة إلى هذا التشبيهِ، فإنَّ المصدر عاملٌ بالحَمْلِ على الفعل.

فصل


والضميرُ في «يَسْأَلُونك» قيل للمؤمنين لما يأتي في سبب النزول، ولأن أكثر الحاضرين عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كانُوا مسلمين، فما قبل هذه الآية ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة﴾ [البقرة: ٢١٤] ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢١٥] حكاية عن المؤمنين، وما بعدها كذلك وهو قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر﴾ [البقرة: ٢١٩]، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى﴾ [البقرة: ٢٢٠] فوجب أن تكون هذه كذلك.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عبَّاسٍ أنه قال: ما رأيتُ قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما سألوه إلاَّ عن ثلاث عشرة مسألةً حتى قُبض، كلهن في القُرآنِ، ومنه ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ ولكن الصدّ عن سبيل اللهِ، وعن المسجدِ الحرام، والكُفرِ به، أكبرُ من هذا القتالِ. ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ﴾ فبيَّن تعالى أَنَّ غرضهم من هذا السؤال، أَنْ يقاتِلُوا المسلمين، ثم أنزل الله تعالى: ﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤] فصرَّح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائزٌ والألف واللامُ في «الشَّهْرِ الحرام» قيل: للعهد، وهو رجبٌ، وقيل: للجنسِ، فيعمُّ جميع الأشهرِ الُحُرُمِ.
قوله: «قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، محلُّها النصبُ بقُلْ والمعنى: القتال في الشهر الحرام وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأحدِ وجهينِ:
إمَّا الوصفُ، إذا جعلنا قوله: «فيه» صفةً له.
وإمَّ التخصيصُ بالعمل، إذا جعلناه متعلقاً بقتال، كما تقدَّم في نظيره.
فإِنْ قيل: قد تقدَّم لفظُ نكرة، وأُعيدت من غير دخول ألفٍ ولام عليها، وكان حقُّها ذلك، كقوله تعالى: ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول﴾ [المزمل: ١٥ - ١٦]
5
لإِنَّه لو لم يكن كذلك، كان المذكور الثاني غير الأول، وهذا غيرث واضحٍ؛ لإِنَّ الألف كقوله: ﴿فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً﴾ [الشرح: ٥ - ٦].
فقال أبو البقاء: «ليسَ المرادُ تعظيم القتالِ المذكور المسؤولِ عنه، حتى يُعادَ بالألف واللامِ، بل المراد تعظيمُ أيِّ قتالٍ كان، فعلى هذا» قِتَالٌ «الثاني غيرُ الأولِ، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ الألف واللامَ في الاسمِ السَّابق المُعادِ أولاً لا تفيدُ تعظيماً، بل إنما تفيدُ العهدَ في الاسمِ السابقِ.
وأَحسنُ منه قولُ بعضهم: إنَّ الثَّاني غير الأولِ، وذلك أنَّ سؤالهم عن قتالِ عبد الله جحش، وكان لنُصرة الإِسلامِ وخُذلان الكفرِ؛ فليس من الكبائرِ، بل الذي من الكبائرِ قتالٌ غير هذا، وهو ما كانَ فيه إذلالُ الإِسلامِ، ونصرةُ الكُفْرِ، فاختير التنكير في هذين اللفظين؛ لهذه الدقيقة، ولو جِيءَ بهما معرفتين، أو بأحدهما مُعرَّفاً، لَبَطَلَتْ هذه الفائدةُ.

فصل


روى أكثرُ المفسرين عن ابن عباسٍ: سبب نزولِ هذه الآية أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث عبد الله بن جحش الأَسديّ، وهو ابن عمَّته قبل قتال بدرٍ بشهرين على رأس سبعة شهراً من الهجرة وبعث معه ثمانية رهطٍ، من المهاجرين؛ سعد بن أبي وقَّاص الزهري وعُكاشة بن محصن الأسدي، وعتبة بن غزوان السَّلَمي، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسهيل ابن بيضاء، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله الحنظليّ، وخالد بن بُكَير، وكتب معهم لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباً وعهداً، ودفعه إليه، وقال: سِر على اسم الله، ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين، فإذا نزلتَ، فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك، ثُمَّ امْضِ إلى ما أمرتُك، ولا تستكرِهنَّ أَحَداً مِنْ أصحابك على السَّير معك، فسار عبد الله يومين، ثم نزل وفتح الكتاب، وإذا فيه «بسم اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم»
أمَّا بعد: فسر على بركة اللهِ بمنْ معك مِنْ أصحابك؛ حتَّى تنزل بطن نخلة، فترصُد بها عير قريش؛ لعلك تأتينا منهم بخبرٍ، فلمَّا نظر في الكتاب، قال سَمْعاً وطاعة، ثم قال لأَصحابه ذلك، وقال: إنَّهُ نَهَاني أَن أَستكره أحداً منكم؛ فمن كان يريد الشهادة، فلينطلق معي، ومنْ كرِه، فليَرْجِع، ثم مَضَى، ومَضَى معه أصحابه، لم يتخلّف عنه منهم أحدٌ، حتى كان بمعدن فوق الفُرع يقال له نجران، أضلَّ سعد بن أبي وقَّاصٍ، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما، كانا يعتقبانه؛ فتخلفا عليه في طلبه ومضى ببقيةِ أصحابِه، حتى نزل «ببطنِ نَخْلَةَ» بين «مَكَّةَ» و «الطائف» فبينما هم
6
كذلك، مرت عيرُ لقريشٍ تحملُ زبيباً، وأدماً، وتجارة مِنْ تجارات الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، ونوفلُ بن عبد الله المخزوميَّان، فلما رأوْا أصحاب رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هابوهم، فقال عبد الله بن جحش إنَّ القومَ قد ذُعِروا منكم، فاحلققُوا رأس رجُلٍ منكم؛ وليتعرض لهم، فحلقُوا رأس عُكَاشة، ثم أَشرفوا عليهم؛ فقالوا: قومٌ عمَّارٌ، لا بأس عليكم فأمنوهم وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة. فكانوا يرون أنَّه من جمادى، وهو مِنْ رجبٍ فتشاور القومُ، وقالوا: لئن تركتموهم الليلة؛ ليدخُلنَّ الحرمَ، فليمنعُنّ به منكم، فأجمعوا أمرهم في مواقفة القومِ، فَرَمَى وقادُ بن عبد الله السَّهمي عمرو بن الحضرميّ بسهمٍ، فقتله، فكان أوَّلَ قتيلٍ من المشركين، واستأْسَرَ الحكم وعثمان، فكانا أَوَّلَ أَسيرين في الإسلام، وأفلت نوفلٌ فأعجزهم، واستاقَ المؤمنين العير والأَسيرين، حتَّى قَدِمُوا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في المدينةِ، فقالت قريشٌ: لقد استَحَلَّ محمدٌ الشهرَ الحرامَ؛ فسفك فيه الدِّماءَ، وأخذ الأموال فما شَهْر يأْمَنُ فيه الخَائِنُ، وغير ذلك، فقال أهلُ «مكَّةَ» مَنْ كان بها من المسلمين وقالوا: يا معشرَ الصَّبَأة، استحللتُم الشهر الحرام، وقاتلتم فيه، فقال عبد الله بن جحش: يا رسول اللهِ: إنَّا قتلنا ابن الحضرمين، ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري: أفي رجبٍ أصبناه، أم في جمادى.
فوقَّف رسول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العير، والأسَارى؛ وأبى أن يأخُذ شيئاً من ذلك، فعظم ذلك على أصحاب السريَّة، وظنُّوا أن قد هلكُوا، وسُقِط في أيديهم، وأكثر الناس في ذلك، فأنزل اللهُ هذه الآية، فأخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العير، فعزل منه الخمس، فكان أولَ خُمُسٍ في الإسلام، وقسَّمَ الباقي بين أصحاب السَّريَّةِ، وكان أول غنيمةٍ في الإسلام وبعث أهل مكة في فداء أسيرهما فقال: بل نبقيهما حتَّى يقدم سعدٌ وعتبة، وإنْ لم يَقْدُمَا، قتلناهُما بهما، فلمَّا قدما؛ فاداهما، فأمَّا الحكم بن كيسان، فأسلَمَ، وأقام مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالمدينةِ، فقُتِل يوم بئر معونة شهيداً، وأَمَّا عثمان بن عبد الله، فرجع إلى مكة؛ فمات بها كافِراً، وأَمَّا نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزابِ؛ ليدخل
7
الخندقَ، فوقع في الخندقِ مع فرسه فتحطّما جميعاً فقتله اللهُ، فطلب المشركون جيفتهُ بالثمن؛ فقال رسُول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خذوه فإِنَّهُ خبيثُ الجيفةِ، خبيثُ الدِّيَةِ.

فصل


اتفق الجمهورُ: على أَنَّ هذه الآية تدلُّ على حُرمَةِ القتال في الشهر الحرام، ثُمَّ اختلفُوا: هل ذلك الحكمُ باقٍ أو نُسِخ؟
فقال ابن جريج: حلف لي عَطَاءٌ باللهِ أَنَّهُ لا يحلُّ للناس الغزو في الحرم، ولا في الشَّهرِ الحرامِ، إِلاَّ على سبيل الدَّفع وروى جابر قال: لم يكن رسول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يغزو في الشهر الحرام إِلاَّ أن يُغْزَى.
وسُئِلَ سعيد بن المسيب: هل يجوزُ للمسلمين أن يقاتلوا الكُفَّار في الشهر الحرام؟ قال: نعم.
قال أبو عبيد: والناس بالثغُور اليومَ جميعاً يرون الغزو على هذا القول مُبَاحاً في الشهور كُلِّها ولم أر أحداً من علماء «الشام»، و «العراق» ينكرُه عليهم، وكذلك أحسب قول أهْلِ الحجاز.
8
وحجته قوله تعالى: ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] وهذا ناسخةٌ لتحريم القتال في الشهور الحرام.
قال ابن الخطيب: والذي عندي أن قوله تعالى: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ نكرة في سياق الإِثبات، فيتناول فرداً واحداً، ولا يتناول كُلَّ الأَفراد فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مُطلقاً في الشهر الحرام، ولا حاجة إلى النسخ فيه.
قوله: «وَصَدٌّ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأ وما بعده عطفٌ عليه، و «أكبرُ» خبرُ عن الجميع، قاله الزَّجَّاج، ويكون المعنى أَنَّ القتال الذي سألتُم عنه، وإن كان كبيراً، إلاَّ أن هذه الأشياء أكبرُ منه فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أنَّ عذره ظاهرٌ؛ لأَنَّهُ كان يجوزُ أَنْ يكون ذلك القتل واقعاً في جمادى الآخرة، ونظيره في المعنى قوله تعالى لبني إسرائيل ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٤] وقوله: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢].
وجاز الابتداءُ ب «صَدّ» لأحد ثلاثة أوجهٍ:
إِمَّا لتخصيصه بالوصفِ بقوله: «عَنْ سَبِيلِ الله».
وإِمَّا لتعلُّقِه به.
وإمَّا لكونه معطوفاً والعطفُ من المسوِّغات.
والثاني: أنه عطفٌ على «كبيرٌ» أي: قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ، قاله الفراء.
قال ابن عطية: وهو خطأٌ؛ لأنَّ المعنى يسوقُ إلى أنَّ قوله: «وكفرٌ به» عطفٌ أيضاً على «كبيرٌ» ويجيءُ من ذلك أنَّ إخراج أهل المسجد منه أكبرُ من الكفرِ، وهو بَيِّنٌ فسادُه.
وهذا الذي رَدَّ به قول الفراء، غير لازم له؛ إذ له أَنْ يقولَ: إِنَّ قولَه «وكفرٌ به» مُبْتَدَأٌ، وما بعده عَطْفٌ عليه، و «أكبرُ» خبرٌ عنهما، أي: مجموعُ الأَمرين أكبرُ من القتال والصدِّ، ولا يلزَمُ من ذلك أن يكونَ إخراجُ أهلِ المسجدِ أكبرَ من الكفر، بل يلزمُ منه أنه أكبرُ من القتالِ في الشهرِ الحرامِ.
9
وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ومفعوله؛ إذ التقدير: وصَدُّكم - يا كفارُ - المسلمين عن سبيلِ الله وهو الإِسلامُ.
و «كفرٌ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه عطفٌ [على «صَدّ» على قولنا بأن «صَدًّا» مُبتدأ لا على] قولنا: بأنه خبرٌ ثانٍ عن «قِتالٍ»، لأنه يلزَمُ منه أن يكون القتالُ في الشهرِ الحرامِ كُفْراً، وليس كذلك، إِلاَّ أَنْ يرادَ بقتال الثاني ما فيه هَدمُ الإِسلامِ، وتقويةث الكفرِ؛ كما تقَدَّم ذلك عن بعضهم، فيكونُ كفراً، فيصِحُّ عطفه عليه مُطلقاً، وهو أيضاً مصدرٌ لكنه لازمٌ، فيكونُ قد حُذِفَ فاعلُه فقط، أي: وكُفْرُكم.
والثاني: أن يكون مبتدأٌ، كما يأتي تفصيلُ القولِ فيه. والضميرُ في «به» فيه وجهان:
أحدهما: أنه يعودُ على «سبيل» لأنه المحدَّثُ عنه.
والثاني: أنه يعودُ على اللهِ، والأولُ أظهرُ. و «به» فيه وجهان، أعني كونه صفةً لكفر، أو متعلقاً به، كما تقدَّم في «فيه».
قوله: «والمسجدِ» مجروراً، وقرئ شاذاً مرفوعاً. فأمَّا جرُّه فاختلف فيه النحويون على أربعةِ أوجهٍ.
أحدها: وهو قولُ المبرد وتبعه الزمخشري - وقال ابن عطية «وهو الصحيح» - أنه عطفٌ على «سبيلِ الله» أَي: وصَدٌّ عن سبيلِ الله وعن المسجدِ.
وَرُدَّ هذا بأنَّه يؤدِّي إلى الفصل بين أبعاض الصِّلةِ بأجنبيّ تقريرُه أنَّ «صَدّاً» مصدرٌ مقدَّرٌ بأَنْ، والفعل، و «أَنْ» موصولة، وقد جَعَلْتُم «وَالْمَسْجِدِ» عطفاً على «سَبِيلِ»، فهو من تمام صلته، وفُصِل بينهما بأجنبيّ، وهو «وَكُفْرٌ بِهِ». ومعنى كونه أجنبياً أنَّهُ لا تعلُّق له بالصِّلةِ. فإنْ قيل: يُتَوَسَّعُ في الظَّرفِ وحرفِ الجّرّ ما لم يتوسع في غيرهما.
قيل: إنَّمَا قيل بذلك في التَّقديم، لا في الفَصْل.
الثاني: أَنَّه عطفٌ على الهاءِ في «بِهِ»، أي: وكفرٌ به، وبالمسجد، وهذا يتخرَّجُ على قولِ الكُوفيّين. وأمَّا البصريُّون؛ فيشترطُون في العطفِ على الضَّمير المجرور إعادة الخافض إِلاَّ في ضرورة، فهذا التَّخريجُ عندهم فاسِدٌ ولا بدَّ من التّعرُّض لهذه المسألة، وما هو الصَّحيحُ فيها؟ فنقول وبالله التوفيق: اختلف النُّحاةُ في العطفِ على الضَّمير المجرورِ على ثلاثةِ مذاهب:
10
أحدها - وهو مذهبُ البصريِّين -: وجوبُ إعادة الجارِّ إِلاَّ في ضرورةٍ.
الثاني: أَنَّهُ يجوزُ ذلك في السَّعَةِ مُطْلِقاً، وهو مذهبُ الكُوفيين، وتبعهم أبو الحسن ويونس والشَّلوبين.
والثالث: التَّفصيلُ، وهو إِنْ أُكِّد الضَّميرُ؛ جاز العطفُ من غير إعادةِ الخافض نحو: «مَرَرْتُ بِكَ نفسِك، وزيدٍ»، وَإِلاّ فلا يجوز إلا ضرورةً، وهو قول الجَرميّ، والَّذي ينبغي جوازه مُطلقاً لكثرةِ السَّماع الوارد به، وضعفِ دليل المانعين واعتضاده بالقياس.
أَمَّا السَّماعُ: ففي النَّثْرِ كقولهم: «مَا فِيهَا غَيْرُه، وفرسِهِ» بجرِّ «فَرَسِهِ» عطفاً على الهاءِ في «غَيْره». وقوله: ﴿تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام﴾ [النساء: ١] في قراءة جماعةٍ كثيرة، منهم حمزةُ كما سيأتي إن شاءَ اللهُ، ولولا أَنَّ هؤلاء القرَّاء، رووا هذه اللغة، لكان مقبولاً بالاتِّفاق، فإذا قرءُوا بها في كتاب اللهِ تعالى كان أَولَى بالقبُول.
ومنه: ﴿وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ﴾ [الحجر: ٢٠] ف «مَنْ» عطف على «لَكْم» في قوله تعالى: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾ [الحجر: ٢٠]. وقوله: ﴿وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ١٢٧] عطف على: «فيهنّ»، وفيما يُتلى عَلَيْكُم. أما النَّظم فكثيرٌ جدّاً، فمنه قولُ العبَّاس بن مرداس: [الوافر]
١٠٥٤ - أَكُرُّ عَلَى الكَتِيبَةِ لاَ أُبَالِي أَفِيهَا كَانَ حَتْفي أَمْ سِوَاهَا
فَ «سِوَاهَا» عطفٌ على «فِيهَا» ؛ وقولُ الآخر: [الطويل]
١٠٥٥ - تُعَلَّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفُنَا ومَا بَيْنَهَا وَالأَرْضِ غَوْطٌ نَفَانِفُ
وقول الآخر: [الكامل]
١٠٥٦ - هَلاَّ سَأَلْتَ بِذِي الجَمَاجِمِ عَنْهُمُ وَأَبِي نُعَيْمٍ ذِي اللِّوَاءِ الْمُحْرِقِ
وقول الآخر: [الطويل]
11
وقول الآخر: [البسيط]
١٠٥٧ - بِنَا أَبَداً لاَ غَيْرِنَا تُدْرَكُ المُنَى وتُكْشَفُ غَمَّاءُ الخُطُوبِ الفَوَادِحِ
١٠٥٨ - لَوْ كَانَ لِي وَزُهَيْرٍ ثَالِثٌ وَرَدَتْ مِنَ الحِمَامِ عِدَانَا شَرَّ مَوْرودِ
وقال الآخر: [الطويل]
١٠٥٩ - إِذَا أَوْقَدُوا نَاراً لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلَى بِهَا وَسَعِيرِهَا
وقول الآخر: [البسيط]
١٠٦٠ - إِذَا بِنَا بَلْ أُنَيْسَانَ اتَّقَتْ فِئَةٌ ظَلَّتْ مُؤَمَّنَةٌ مِمَّنْ يُعَادِيهَا
وقول الآخر: [الرجز]
١٠٦١ - آبَكَ أَيِّهْ بِيَ أَوْ مُصَدَّرِ مِنْ حُمُرِ الْجِلَّةِ جَأْبٍ حَشْوَرِ
وأنشد سيبويه: [البسيط]
١٠٦٢ - فَاليَوْم قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتشْتِمُنَا فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ
فكثرةُ ورودِ هذا، وتصرُّفُهم في حروفِ العطفِ، فجاءوا تارةً بالواو، وأخرى ب «لا»، وأخرى ب «أَمْ»، وأخرى ب «بَلْ» دليلٌ على جوازِه، وأمَّا ضعفُ الدَّليل: فهو أَنَّهم منعُوا ذلك؛ لأنَّ الضَّمير كالتَّنوين، فكما لا يُعطف على التَّنوين لا يعطفُ عليه إلاَّ بإعادة الجارّ.
ووجه ضعفه أَنَّهُ كان بمقتضى هذه العِلَّةِ ألاَّ يُعْطَفَ على الضَّمير مطلقاً، أعْنِي سواءٌ كان مرفوع الموضعِ، أو منصوبه، أو مجروره، وسواءً أُعيدَ معه الخافِضُ، أم لا كالتَّنوين.
وأَمَّا القياسُ، فلأنه تابعٌ من التَّوابع الخمسة، فكما يُؤكَّدُ الضَّميرُ المجرورث، ويُبْدَلُ منه، فكذلك يُعطفُ عليه.
12
الثالث: أَنْ يكون معطوفاً على ﴿الشهر الحرام﴾ ثم بعد هذا طريقان:
13
أحدهما: أنّ قوله: ﴿قِتَالٌ فِيهِ﴾ مبتدأ، وقوله ﴿كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ﴾
14
خبر بعد خبر، والتَّقدير: إن قتالاً فيه محكُوم عليه بأنه كبيرٌ، وبأنه صدٌّ عن سبيل اللهِ، وبأنَّهُ كُفرٌ بالله.
والطريق الثانِي: أَنْ يكون قوله: ﴿قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ جملة مبتدأ وخبر وقوله: ﴿وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله﴾، فهو مرفوع بالابتداء. وكذا قوله ﴿وكُفْرٌ بِهِ﴾ والخبر محذوفٌ لدلالة ما
15
تقدَّم عليه، والتَّقدير: قل: قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيلِ اللهِ كبير وكُفرٌ به كبير ونظيره: زَيْدٌ منطلِقٌ وعمرو، وتقديره: وعمرو منطلق. وطعن البصريُّون في هذا فقالوا: أَمَّا قولكم تقدير الآية: يسألونك عن قتالٍ في الشَّهر الحرام وفي المسجد الحرام؛ فهو ضعيف؛ لأَنَّ السُّؤال كان واقعاً عن القتال في الشَّهر الحرام، لا عن القِتَال في المسجدِ الحرامِ، وطعنوا في الوجه الأوَّل بأنَّه يقتضي أَنْ يكون القتال في الشَّهر الحرام كفراً بالله، وهو خطأ بالإجماع.
الثاني: بأنَّه قال بعد ذلك ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ﴾ أي: أكبر مِنْ كُلّ ما تقدَّم، فيلزم أَنْ يكون إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر عند اللهِ من الكُفر، وهو خطأٌ بالإجماع.
قال ابن الخطيب: وللفرَّاءِ أن يجيب عن الأَوَّل بأنَّهُ: من الذي أخبركم بأَنَّه ما وقع السُّؤالُ عن القتال في المسجد الحرام، بل الظَّاهر أَنَّهُ وقع؛ لأَنَّ القوم كانُوا مستعظمين للقتال في الشَّهر الحرام في البلد الحرام، وكان أحدهما كالآخر في القبح عند القوم، فالظَّاهر أَنَّهم جمعوهما في السُّؤال، وقولهم: على الوجه الأوَّل يلزم أَنْ يكون قتال في الشَّهر الحرام وكُفر، فنحن نقول به لأَنَّ النَّكرة في سياق الإِثبات لا تفيد العموم.
وعندنا أَنَّ قتالاً واحداً في الشهر الحرام كُفرٌ.
وقولهم على الثَّاني: يلزم أَن يكون إخراجُ أهلِ المسجدِ منه أكبر من الكفر.
قلنا: المُراد أهل المسجد: وهم الرَّسُولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأصحابه، وإخراج الرَّسُول من المسجد على سبيل الإذلال لا شكّ أنه كُفرٌ، وهو مع كونه كُفراً فهو ظُلْمٌ لأَنَّهُ إيذاء للإنسان مِنْ غير جرمِ سابقٍ، ولا شكّ أن الشيء الَّذشي يكون ظُلماً وكُفراً أكبر، وأقبح عند اللهِ ممَّا يكون كفراً، وحده، ولما ذكر أبو البقاء هذا القول - وهو أن يكون معطوفاً على الشَّهر الحرام - أي يسألُونك عن الشَّهرِ الحرامِ وعن المسجدِ الحرام.
قال أبو البقاء: وضعف هذا بأنَّ القومَ لم يسألوا عن المسجد الحرام إذ لم يشُكُّوا في تعظيمه، وإنَّما سألوا عن القتال في الشَّهر الحرام.
والثاني: القتال في المسجد الحرام؛ لأَنَّهُم لم يَسْأَلوا عن ذات الشَّهر ولا عن ذات المسجد، إِنما سألوا عن القتالِ فيهما؛ فأُجيبوا بأنَّ القتال في الشَّهر الحرامِ كبيرٌ، وصَدٌّ عن سبيلِ الله تعالى، فيكون [قتال] أَخْبر عنه بأنه كبيرٌ، وبأنه صَدٌّ عن سبيل الله، وأُجيبوا بأنَّ القتال في المسجد الحرامِ وإِخراجَ أهله أكبرُ من القتالِ فيه. وفي الجملةِ، فعطفُه على الشَّهر الحَرام متكلَّفٌ جدّاً يبعُدُ عنه نظمُ القُرآنِ، والتركِيبُ الفصيحُ.
الرابع: أَنْ يتعلَّق بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه المصدرُ تقديره: ويصُدُّون عن المسجد، كما قال تعالى: ﴿هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام﴾ [الفتح: ٢٥] قاله أبو
16
البقاء، وجعله جيّداً، وهذا غيرُ جيّد؛ لأنه يلزمُ منه حذفُ حرفِ الجَرّ وإبقاءُ عملهِ، ولا يجوزُ ذلك إلا في صورٍ ليس هذا منها، على خلافٍ في بعضها، ونصَّ النَّحويُّون على أنَّه ضرورةٌ؛ كقوله: [الطويل:]
١٠٦٣ - إِذَا قِيلَ:
أَيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ
أي: إلى كُليبٍ فهذه أربعةُ أَوجه، أجودها الثاني.
ونقل بعضهم أَنَّ الواو في المسجد هي واو القسم فيكون مجروراً.
وأمَّا رفعه فوجهُه أَنَّهُ عطفٌ على «وَكُفْرٌ» على حذف مُضافٍ تقديره «وَكُفْرٌ بالمَسْجِدِ» فحُذِفَت الباءُ، وأُضِيفَ «كُفْرٌ» إلى المسجد، ثمَّ حُذِفَ المضافُ وأُقيم المُضَافُ إليه مُقَامَهُ، ولا يَخْفَى ما فيه من التَّكَلُّفِ.

فصل


وفي الصَّدِّ عن سبيل اللهِ وجوهٌ:
أحدها: أَنَّهُ صدٌّ عن الإِيمان باللهِ ورسوله.
وثانيها: صدُّ المسلمين عن الهجرة للرَّسُول عليه السَّلام.
وثالثها: صدُّ المسلمين عام الحُدَيبية عن العُمرَة.
ولقائل أن يقول: دلّت الرَّوايات على أَنَّ هذه الآية، نزلت قبل غزوة بدرٍ باعثاً للرَّسُول مستحقّاً للعبادة قادراً على البعث، وأما «المَسْجِد الحَرَامِ» فإِنْ عطفناه على الضَّمير في «بِهِ» ؛ كان المعنى: وكفر بالمسجد الحرام ومعنى الكفر بالمسجد الحرام هو منعُ النَّاسِ عن الصَّلاَةِ، والطَّواف به، فقد كفروا بما هو السَّبَبُ في فضيلته الَّتي بها يتميَّزُ سائر البقاع.
وإن عطفناه على «سَبِيلِ اللهِ» كان المعنى: وصدّ عن المسجد الحرام، وذلك لأَنَّهم صَدُّوا الطَّائفين، والعاكِفِين، والرُّكَّعِ السُّجُود عن المَسْجِدِ الحَرَامِ.
قوله: ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾ عطفٌ على «كُفرٌ»، أو «صَدٌّ» على حسب الخلافِ المتقدِّم، وهو مصدرٌ حُذِف فاعله، وأُضيفَ إلى مفعوله، تقديرُه: «وَإِخْرَاجُكم أَهْلَهُ».
والضَّميرُ في «أَهله» و «مِنْهُ» عائدٌ على المَسْجِد وقيل: الضَّمير في «مِنْهُ» عائِدٌ على سبيل الله، والأَوَّل أظهرُ و «منه» متعلِّقٌ بالمصدر.
قوله: «أَكْبَرُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه خبرٌ عن الثلاثة، أعني: صَدّاً وكفراً، وإخراجاً كما تقدَّم، وفيه حينئذٍ احتمالان:
17
أحدهما: أن يكون خبراً عن المجموع، والاحتمالُ الآخرُ أن يكونض خبراً عنها باعتبار كلِّ واحدٍ، كما تقول: «زيدٌ وبكرٌ وعمرو أفضلُ من خالدٍ»، أي: كلُّ واحِدٍ منهم على انفراده أفضلُ من خالدٍ. وهذا هو الظَّاهِرُ. وإِنّما أُفْرِدَ الخبر؛ لأنه أفضلُ من تقديرِه: أكبر من القتال في الشَّهر الحرامِ. وإنَّما حُذِفَ لدلالةِ المعنى.
الثاني من الوجهين في «أَكْبر» : أن يكونَ خبراً عن الأَخير، ويكونُ خبر «وَصَدّ» و «كُفْر» محذوفاً لدلالة خبر الثَّالث عليه تقديره: وصدّ وكُفر أكبر. قال أبو البقاء في هذا الوجه: ويجب أَنْ يكون المحذوفُ على هذا أَكْبَر لا «كبير» كما قدَّره بعضهم؛ لأَنَّ ذلك يوجب أن يكُون إخراج أهل المسجد منه أكبرَ من الكُفر، وليس كذلك. وفيما قاله أبو البقاء نظر؛ لأَنَّ هذا القائل يقولُ: حُذِف خبر «وَصَدّ» و «كُفْر» لدلالة خبر «قِتَالٍ» عليه، أي: القتالُ في الشَّهرِ الحرام كبيرٌ، والصَّدّ والكفر كبيران أيضاً، وإخراجُ أهل المسجد أكبرُ من القتالِ في الشَّهْرِ الحرام. ولا يلزمُ من ذلك أَن يكون أكبرَ من مجموعِ ما تقدَّم حتّى يلزمَ ما قاله من المحذور.
و «عِنْدَ اللهِ» متعلِّق ب «أَكْبر»، والعِنْديةُ هنا مَجَازٌ لِما عُرف.

فصل في المراد بهذا الإخراج


والمرد بهذا الإخراج أنَّهم أخرجوا المسلمين من المسجد، بل من مكة وإنما جعلهم أهلاً له؛ لأنَّهم القائمون بحقوق البيت كقوله تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ [الفتح: ٢٦] وقال تعالى: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون﴾ [الأنفال: ٣٤] فأخبر تعالى: أنَّ المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء، وحكم عليها بأنها أكبر، أي: كلُّ واحد منها أكبر من قتال في الشَّهر الحرام، وهذا تفريعٌ على قول الزَّجَّاج؛ لأن كلّ واحدٍ من هذه الأشياء أكبر من قتالٍ في الشهر الحرام، فالكفر أعظم من القتل، أو نقول: كلّ واحدٍ من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشَّهر الحرام، وهو القتال الَّذي صدر عن عبد الله بن جحش؛ لأنه ما كان قاطعاً بوقوع ذلك القتال في الشَّهر الحرام، وهؤلاء الكفَّار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشَّهر الحرام؛ فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر حجماً.
قوله: ﴿والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل﴾ ذكروا في الفتنة قولين:
أحدهما - وعليه أكثر المفسِّرين -: أنَّها الكفر، أي: الشّرك الَّذي أنتم عليه أكبر من قتل ابن الحضرميّ في الشَّهر الحرام.
18
قال ابن الخطيب: وهذا يستقيم على قول الفرَّاء، وضعيف على قول الزَّجَّاج؛ لأنَّهُ قد تقدَّم ذكر ذلك، فإنَّه تعالى قال: «وَكُفْر بِهِ أَكْبَرُ» فحمل الفتنة على الكفر يكون تكراراً.
والقول الثاني: أن الفتنة ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم تارة بإلقاء الشُّبهات في قلوبهم، وتارةً بالتَّعذيب كفعلهم ببلال، وعمَّار، وصهيب.
قال: محمَّد بن إسحاق: لأن الفتنة عبارة عن الامتحان، يقال: فتنت الذَّهب بالنَّار: إذا أدخلته فيها لتزيل غشَّه قال تعالى: ﴿إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [التغابن: ١٥]، أي: امتحان؛ لأنَّهُ إذا ألزمه إنفاق المال في سبيل الله، تفكّر في ولده؛ فصار ذلك مانعاً عن الإنفاق وقال تعالى: ﴿الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ١ - ٢]، أي: لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء، وقال: ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً﴾ [طه: ٤٠] وقال: ﴿فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله﴾ [العنكبوت: ١٠] وقال: ﴿إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات﴾ [البروج: ١٠] والمراد أنهم آذوهم، وعذبوهم لبقائهم على دينهم. وقال: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا﴾ [النساء: ١٠١]، وقال: ﴿مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ﴾ [الصافات: ١٦٢] وقال: ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة﴾ [آل عمران: ٧] أي: ابتغاء المحبَّة في الدِّين. وقال: ﴿واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ﴾ [المائدة: ٤٩] وقال: ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً﴾ [يونس: ٨٥] والمعنى: أن يفتنوا بها عن دينهم، فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر؛ وقال: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون﴾ [القلم: ٥ - ٦] قيل: المفتون المجنون؛ لأنَّ المجنون والجنون فتنة إذ هو محنةٌ وعدولٌ عن سبيل العقلاء، وإذا ثبت أنَّ الفتنة هي المحنة، فالفتنة أكبر من القتل؛ لأنَّ الفتنة عن الدِّين تفضي إلى القتل الكبير في الدُّنيا وإلى استحقاق العذاب الدَّائم في الآخرة، فصحَّ أنَّ الفتنة أكبر من القتل فضلاً عن ذلك القتل الَّذي وقع السُّؤال عنه، وهو قتل ابن الحضرميّ.
روي أنَّه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكَّة: إذا عيَّركم المشركون بالقتال في الشَّهر الحرام؛ فعيروهم بالكفر، وإخراج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقتال من مكَّة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام.
وصرح هنا بالمفضول في قوله: ﴿والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل﴾ ؛ لأنه لا دلالة عليه لو حذف بخلاف الذي قبله حيث حذف.
قوله: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ هذا فعل لا مصدر له، قال الواحديّ: ما زال يفصل ولا يقال منه: فاعل، ولا مفعول، ومثاله في الأفعال كثير نحو «عَسَى» ليس له مصدرٌ،
19
ولا مضارع، وكذلك ذو، وما فتِىءَ، وهلمّ، وهاكَ وهات وتعال وتعالوا.
ومعنى ﴿وَلاَ يَزَالُونَ﴾ : نفي: فإذا دخلت عليه «مَا» كان ذلك نفياً للنَّفي، فيكون دليلاً على الثُّبوت الدَّائم.
قوله تعالى: ﴿حتى يَرُدُّوكُمْ﴾ حتى حرف جرِّ، ومعناها يحتمل وجهين:
أحدهما: الغاية.
والثاني: التَّعليل بمعنى كي، والتَّعليل أحسن؛ لأن فيه ذكر الحامل لهم على الفعل، والغاية ليس فيها ذلك ولذلك لم يذكر الزَّمخشريُّ غير كونها للتَّعليل قال: «وَحَتّى» معناها التَّعليل كقولك: «فُلاَنٌ يُعْبُدُ اللهَ، حَتَّى يَدْخُلَ الجَنَّة»، أي يُقَاتِلُونَكُم كي يردُّوكم «. ولم يذكر ابن عطيَّة غير كونها غاية قال:» وَ «يَرُدُّوكُم» نصب ب «حَتّى» ؛ لأنَّها غاية محرّدة. وظاهر قوله: «مَنْصُوبٌ بِحَتّى» أنه لا يضمر «أنْ» لكنَّه لا يريد ذلك، وإن كان بعضهم يقول بذلك. والفعل بعدها منصوب بإضمار أن وجوباً.
و «يَزَالُونَ» مضارع زال النَّاقصة التي ترفع الاسم، وتنصب الخبر، ولا تعمل إلا بشرط أن يتقدَّمها نفيٌ، أو نهي، أو دعاء، وقد يحذف النَّافي باطِّراد إذا كان الفعل مضارعاً في جواب قسم، وإلاَّ فسماعاً، وأحكامها في كتب النَّحو، ووزنها فعل بكسر العين، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائيُّ في مضارعها: يزيل، وإن كان الأكثر يزال، فأمَّا زال التَّامَّة، فوزنها فعل بالفتح، وهي من ذوات الواو لقولهم في مضارعها يزول، ومعناها التَّحوُّل. و «عَنْ دِينكُمْ» متعلق ب «يردُّوكُم» وقوله: «إِن اسْتَطَاعُوا» شرط جوابه محذوف للدلالة عليه، أي: إن استطاعوا ذلك، فلا يزالوا يقاتلونكم، ومن رأى جواز تقديم الجواب، جعل «لاَ يَزَالُونَ» جواباً مقدّماً، وقد تقدَّم الرَّدُّ عليه بأنَّه كان ينبغي أن تجب الفاء في قولهم: «أَنْ ظَالِمٌ إِن فَعَلْتَ».
قوله: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ﴾ «مَنْ» شرطيّة في محلِّ رفع بالابتداء، ولم يقرأ أحدٌ هنا بالإدغام، وفي المائدة [آية٥٤] اختلفوا فيه، فنؤخِّر الكلام على هذه المسألة إلى هناك إن شاء الله تعالى.
ويرْتَدِدث يَفْتَعِلُ من الرَّدِّ وهو الرُّجوع كقوله: ﴿فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً﴾ [الكهف: ٦٤]. قال أبو حيَّان: «وقد عَدَّها بعضُهم فيما يَتَعَدَّى إلى اثْنَيْنِ إذْ كانت عنده بمعنى صَيَّر، وجَعَلَ من ذلك قوله: ﴿فارتد بَصِيراً﴾ [يوسف: ٩٦] أي: رجَع» وهذا منه سهوٌ؛ لأنَّ الخلاف إنَّما هو بالنِّسبة إلى كونها بمعنى صار، أم لا، ولذلك مثلوا بقوله: «فَارْتدَّ بَصِيراً» فمنهم من جعلها بمعنى: «صَارَ»، ومنهم من جعل المنصوب بعدها حالاً، وإلاّ فأين المفعولان هنا؟ وأمَّا الذي عدُّوه يتعدَّى لاثنين بمعنى: «صَيَّر»، فهو ردَّ لا ارْتَدَّ، فاشتبه عليه ردَّ ب «ارْتَدَّ» وصيَّر ب «صَارَ».
20
وقال الواحديُّ: وأظهر التَّضعيف مع الجزم، ولسكون الحرف الثاني، وهو أكثر في اللُّغة من الإدغام.
و «منكم» متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ من الضَّمير المستكن في «يَرْتَدِدْ» و «من» للتَّبعيض، تقديره: ومن يَرْتَدِدْ في حال كونه كائناً منكم، أي: بعضكم. و «عَنْ دِينِهِ» متعلِّقٌ ب «يَرْتَدد»، و «فَيَمُتْ» عطفٌ على الشَّرط، والفاء مؤذنةٌ بالتَّعقيق.
﴿وَهُوَ كَافِرٌ﴾ جملةٌ حاليةٌ من ضمير: «يَمُتْ»، وكأنَّها حالٌ مؤكِّدَةٌ؛ لأنَّها لو حذفت لفهم معناها، لأنَّ ما قبلها يشعر بالتَّعقيب للارتداد، وجيءَ بالحال هنا جملةً، مبالغة في التأكيد من حيث تكرُّر الضَّمير بخلاف ما لو جيء بها اسماً مفرداً.
وقوله: ﴿فأولاائك﴾ جواب الشَّرط.
قال أبو البقاء: و «مَنْ» في موضع مبتدأ، والخبر هو الجملة التي هي قوله: ﴿فأولاائك حَبِطَتْ﴾، وكان قد سلف له عند قوله: ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ﴾ [البقرة: ٣٨] أن خبر اسم الشَّرط هو فعل الشَّرط لا جوابه، وردَّ على من يدَّعي ذلك بما حكيته عنه ثمَّة، ويبعد منه توهُّمُ كونها موصولةً لظهور الجزم في الفعل بعدها، ومثله لا يقع في ذلك.
و «حَبِطَ» فيه لغتان: كسر العين وهي المشهورة وفتحها، وبها قرأ أبو السَّمَّال في جميع القرآن، ورويت عن الحسن أيضاً. والحبوط: أصله الفساد.
قال أهل اللُّغة: أصل الحبط أن تأكل الإبل شيئاً يضرّها، فتعظم بطونها، فتهلك. وفي الحديث: «وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً»، وذلك أنَّ الإبل تأكل من المرعى إلى أن تنتفخ بطنها؛ فتمون البطن.
ومنه: «حَبِطَ بَطْنُه»، أي: انتفخ، ومنه «رَجلٌ حَبَنْطَى»، أي: منتفخ البطن.
وحمل أوّلاً على لفظ «مَنْ» فأفرد في قوله: «يَرٍْتَدِدْ، فيمت، وهو كَافِرٌ» وعلى معناها ثانياً في قوله: «فَأُولَئِكَ» إلى آخره، فجمع، وقد تقدَّم أنَّ مثل هذا التَّركيب أحسن الاستعمالين: أعني الحمل أوّلاً على اللَّفظ، ثمَّ على المعنى. وقوله «في الدُّنْيَا» متعلِّقٌ ب «حَبِطَتْ».
وقوله: ﴿وأولاائك أَصْحَابُ النار﴾ إلى آخره تقدَّم إعراب نظيرتها. واختلفوا في هذه
21
الجملة: هل هي استئنافيّةٌ، أي: لمجرَّد الإخبار بأنَّهم أصحاب النَّار، فلا تكون داخلةً في جزاء الشَّرط، بل تكون معطوفةً على جملة الشَّرط، أو هي معطوفة على الجواب؛ فيكون محلُّها الجزم؟ قولان، رجِّح الأوَّل بالاستقلال وعدم التّقييد، والثَّاني بأنَّ عطفها على الجزاء أقرب من عطفها على جملة الشَّرط، والقرب مرجِّحٌ.

فصل فيمن خرج من كفر إلى كفر


قال القرطبيُّ: اختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر؛ فقال جمهور الفقهاء: لا يتعرَّض له؛ لأنَّه انتقل ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه وعن الشَّافعيّ: أنَّه يقتل؛ بقوله عليه السَّلام:
«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وقال مالكٌ: معناه: من خرج من الإسلام إلى الكفر، فأمَّا من خرج من كفر إلى كفر، فلم يعنه الحديث.

فصل في اقتضاء الآية شرط الوفاة


ظاهر الآية يقتضي أنَّ الوفاة شرطٌ لثبوت الأحكام المذكورة. ويتفرَّع عليه بحثان: بحثٌ أصولي، وبحثٌ فروعي. فالأصوليُّ: أنَّ جماعةً من المتكلِّمين قالوا: شرط صحَّة الإيمان والكفر حصول الوفاة، فلا يكون الإيمان إيماناً، إلاَّ إذا مات المؤمن، ولا يكون الكفر كفراً، إلاَّ إذا مات الكافر عليه.
وأما البحث الفروعيُّ: فهو أنَّ المسلم إذا صلَّى، ثم ارتدّ، ثمَّ أسلم في الوقت؛ قال الشافعيُّ: لا إعادة عليه.
22
وقال أبو حنيفة: يلزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج، حجة الشَّافعي قوله تعالى: ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولاائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ شرطٌ في إحباط العمل أن يموت وهو كافرٌ، وهذا الشَّخص لم يوجد في حقِّه هذا الشَّرط؛ فوجب ألاَّ يصير عمله محبطاً.
فإن قيل: هذا معارض بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٨٨] وقوله: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ﴾ [المائدة: ٥].
ولا يقال: حمل المطلق على المقيَّد واجبٌ؛ لأنَّا نقول: ليس هذا من باب المطلق والمقيَّد؛ فإنَّهم أجمعوا على أنَّ من علَّق حكماً بشرطين، وعلقه بشرط، أنَّ الحكم ينزل عند أيِّهما وجد كمن قال لعبده: أنت حرٌّ؛ إذا جاء يوم الخميس، ولم يكن في ملكه، ثم اشتراه، ثم جاء يوم الخميس؛ عتق ولو كان باعه، فجاء يوم الخميس وهو في ملكه عتق بالتعليق الأوَّل.

فصل في محل إحباط العمل


ليس المراد من إحباط العمل نفس العمل؛ لأنَّ العمل شيء كما وجد، فَنِيَ وزَال، وإعدم المعدوم محال. ثمَّ اختلف المتكلِّمون فيه؛ فقال المثبتون للإحباط والتَّكفير: المراد منه أنَّ عقاب الرِّدَّةِ الحادثة يزيل ثواب الإيمان السَّابق، إمَّا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة، أو لا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي.
وقال المنكرون للإِحباط: هذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله، هو أنَّ المرتدَّ إذا أتى بالرِّدَّة فتلك الرِّدة عمل محبط؛ لأنَّ الآتي بالرِّدَّة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثواباً، فإذا لم يأت بذلك العمل الجيِّد، وأى بدله بهذا العمل الرَّدِيءِ، لا يستفيد منه نفعاً، بل يستفيد منه أعظم المضارّ، يقال: إنَّه حبط عمله، أي: بعملٍ باطلٍ، ليس فيه فائدة، بل فيه مضرَّةٌ.
23

فصل في الإحباط في الدنيا


أمَّا إحباط الأعمال في الدُّنيا، فهو أنَّه يقتل عند الظَّفر به، ويقاتل إلى أن يظفر به، ولا يستحقُّ من المؤمنين موالاةً ولا نصراً، ولا ثناءً حسناً، وتبين زوجته منه، ولا يستحقُّ الميراث من المسلمين.
ويجوز أن يكون المعنى في إحباط أعمالهم في الدُّنيا، هو أنَّ ما يريدونه بعد الرِّدَّة من الإضرار بالمسلمين، ومكايدتهم بالانتقال عن دينهم يبطل كله، فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره؛ فتكون الأعمال على هذا التَّأويل ما يعملونه بعد الرِّدَّة، وأمَّا إحباط أعمالهم في الآخرة، فعند القائلين بالإحباط معناه: إنَّ هذه الرَّدَّة تبطل استحقاقهم للثَّواب الذي استحقُّوه بأعمالهم السَّالفة. وعند المنكرين لذلك معناه: أنَّهم لا يستفيدون من تلك الرِّدَّة ثواباً، ونفعاً في الآخرة، بل يستفيدون منه أعظم المضارِّ، ثمَّ بين كيفيَّة تلك المضرَّة فقال: ﴿وأولاائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.

فصل


قال القرطبيُّ: قالت طائفةٌ: يستتاب المرتدُّ؛ فإن تاب وإلاَّ قتل.
وقال بعضهم: يُسْتَتَابث ساعةً واحدةً.
وقال آخرون: يُسْتَتَابُ شهراً.
وقال آخرون: يُسْتَتَابُ ثلاثاً، على ما روي عن عمر وعثمان، وهو قول مالك في رواية ابن القاسم.
وقال الحسن: يُسْتَتَابث مائة مرَّةٍ، وروي عنه أنَّه يقتل دون استتابةٍ، وهو أحد قولي الشَّافعيّ.
واحتجّ من قال بأنّه يقتلُ ولا يستتاب، بحديث معاذٍ، وأبي موسى: أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل، فلمَّا قدم عليه قال: انزل، وألقى له وسَادَةٌ، وإذا رجُلٌ عنده موثقٌ، قال: مَا هَذَا؟ قال: كَانَ يُهُودِياً، فأسلم، ثم راجع دينه، فتهوَّد، قال: لا أجلس حتّى يُقتل، قضاء الله ورسوله ثلاث مرَّات، وأمر به فقتل. أخرجه «مُسْلِمٌ» وغيره.
وقال مالك: يُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ، ولا يُسْتَتَابُ.
24
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ﴾.
إنَّ واسمها و «أُولَئِكَ» مبتدأ، و «يَرْجُونَ» خبره، والجملة خبر «إِنَّ»، وهو أحسنُ من كون «أُولَئشكَ» بدلاً من «الّذِين»، و «يَرْجُون» خبر «إنَّ». وجيء بهذ الأوصاف الثَّلاثة مترتِّبةٌ على حسب الواقع، إذ الإيمان أولُ، ثم المهاجرة، ثم الجهاد.
وأفرد الإيمان بموصولٍ وحده؛ لأنَّه أصل الهجرة والجهاد، وجمع الهجرة، والجهاد في موصولٍ واحدٍ، لأنَّهما فرعان عنه، وأتى بخر «إنَّ» اسم إشارة؛ لأنَّه متضمِّنٌ للأوصاف السَّابقة. وتكرير الموصول بالنِّسبة إلى الصِّفات، لا الذَّوات، فإنَّ الذَّوات متَّحدةٌ موصوفةٌ بالأوصاف الثَّلاثة، فهو من باب عطف بعض الصِّفات على بعض، والموصوف واحد. ولا نقول: إنَّ تكرير الموصوف يدلُّ على تغير الذَّوات الموصوفة؛ لأنَّ الواقع كان كذلك. وأتى ب «يَرءجُونَ» ؛ ليدَّ على التَّجدُّد وأنهم في كلِّ وقتٍ يحدثون رجاءً.
والمهاجرة: مفاعلةٌ من الهجر، وهي الانتقال من أرض إلى أرضٍ، وأصل الهجر التّرك. والمجاهدة مفاعلةٌ من الجهد، وهو استخراج الوسع وبذل المجهود، والإجهاد: بذلُ المجهود في طلب المقصود، والرَّجاء: الطمع.
وقال الرّاغب: هو ظنٌّ يقتضي حصول ما فيه مسرَّةٌ، وقد يطلقُ على الخوف؛ وأنشد: [الطويل] :
١٠٦٤ - إذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا وَخَالَفَهَا في بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلِ
أي: لم يَخَفْ، وقال تعالى: ﴿لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ [يونس: ٧] أي: لا يخافون، وهل إطلاقه عليه بطريق الحقيقة، أو المجاز؟ فزعم قومٌ أنه حقيقةٌ، ويكون من الاشتراك اللَّفظي، وزعم قومٌ أنه من الأضداد، فهو اشتراكٌ لفظيّ أيضاً. قال ابن عطيَّة: «ولَيْسَ هَذَا بِجيّدٍ»، يعني: أنَّ الرَّجاء والخوف ليسا بضدَّين إذ يمكن اجتماعهما، ولذلك قال الرَّاغِبُ بعد إنشاده البيت المتقدّم «ووجْهُ [ذلك] : أنَّ الرَّجَاءَ والخوفَ يَتَلاَزَمَانِ»، وقال ابن عطيَّة: «والرَّجَاءُ أبداً معه خوفٌ، كما أنَّ الخوف معه رَجَاءٌ». وزعم قومٌ أنه مجازٌ للتلازم الّذي ذكرناه عن الرَّاغب وابن عطيَّة.
وأجاب الجاحظ عن البيت بأنَّ معناه لم يرج برء لسعها وزواله فالرَّجاء على بابه.
25
وأمَّا قوله: ﴿لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ [يونس: ٧] أي لا يرجون ثواب لقائنا، فالرَّجاء أيضاً على بابه، قاله ابن عطيَّة.
وقال الأصمعيُّ: «إذا اقترن الرَّجَاء بحرفِ النَّفي، كان بمعنى الخَوْفِ» كهذا البيت والآية.
وفيه نظرٌ إذ النَّفي لا يغيِّر مدلولات الألفاظ.
والرَّجاء مقصود ناحية البئر، وحافَّاته من كل ناحيةٍ، وجاؤوا بقوام من النَّاس يخطُّون في قولهم بأعظم الرَّجَاء، فيقصرون، ولا يمدُّون، وكتبت «رَحْمَة» هنا بالتَّاء: إمَّا جرياً على لغة مَنْ يَقِفُ على تَاءِ التَّأْنِيث بالتَّاء، وإما اعتباراً بحالها في الوصل، وهي في القرآن في سبعة مواضع، كتبتُ في الجميع تاءً، هنا وفي الأعراف:
﴿إِنَّ رَحْمَةَ الله﴾ [آية: ٥٦]، وفي هود: ﴿رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ﴾ [آية: ٧٣]، وفي مريم: ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ [آية: ٢]، وفي الرُّوم: ﴿فانظر إلى آثَارِ رَحْمَةِ الله﴾ [آية: ٥٠]، وفي الزخرف: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ﴾ [آية: ٣٢].

فصل


في تعلّق هذه الآية بما قبلها، وجهان:
الأول: أنَّ عبد الله بن جحش قال: يَا رَسُولَ الله، هَبْ أنَّهُ لاَ عِقَابَ عَلَيْنَا فِيمَا فَعَلْنَا، فَهَلْ نَطْمَعُ مِنْهَ أُجْراً، وَثَوَاباً، فَنَطمع أن يكون سفرُنا هذا غزواً؛ فأنزل الله هذه الآية؛ لأنَّ عبد الله كان مؤمناً، ومهاجراً، وسبب هذه المقاتلة، كان مجاهداً.
الثاني: أنَّه تعالى أوجب الجهاد من قبل بقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] وبين أن تركه سبب الوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ﴾ ولا يكاد يوجد وعيدٌ إلاَّ ويعقبه وعد.

فصل في المراد بالرجاء


وفي هذا الرجاء قولان:
الأوَّل: عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها وأراد تعالى هنا: أنَّهم يظنُّونَ في ثَوَابِ اللهِ؛ لأن عبد الله بن جحشٍ ما كان قاطعاً بالفوز والثَّواب في عمله، بل كان يتوقَّعه، ويرجوه.
فإن قيل: لم جعل الوعد مطلقاً بالرَّجاء، ولم يقطع به، كما في سائر الآيات؟
فالجواب من وجوهٍ.
26
أحدها: أنَّ الثَّوابَ على الإيمان، والعمل غير واجبٍ عقلاً، بل بحكم الوعد فلذلك علَّقه بالرَّجاء.
وثانيها: هب أنَّه واجبٌ عقلاً، ولكنَّه تعلّق بأنه لا يكفر، وهذا الشَّرط مشكوكٌ لا متيقِّن، فلا جرم الرَّجاء، لا القطع.
وثالثها: أنَّ المذكور ها هنا هو الإيمان، والهجرة، والجهاد، ولا بدَّ للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها، كما وفَّقه لهذه الثَّلاثة، فلا جرم علقه على الرَّجاء.
ورابعها: ليس المراد من الآية أنَّ الله تعالى شكَّك العبد في هذه المغفرة، بل المراد وصفهم بأنَّهم يفارقون الدُّنيا مع الهجرة والجهاد، ومستقصرين أنفسهم في حقّ الله تعالى يرون أنّهم يعبدونه حقّ عبادته، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه، فيقدمون على الله مع الخوف والرَّجاء، كما قال: ﴿والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٠].
وأجاب القرطبيُّ عن هذا السُّؤال بوجهين آخرين:
الأول: أنَّ الإنسان لو بلغ في طاعة الله كلَّ مبلغٍ، لا يدري بماذا يختم له.
الثاني: لئلاّ يتّكل على عمله.
القول الثاني: أنَّ المراد من الرَّجاء القطع في أصل الثَّواب، والظَّن إنَّما دخل في كميّته وفي وقته، وفيه وجوه تقدَّمت في قوله تعالى: ﴿الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦].
وقوله: ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، أي: إنَّ الله تعالى يحقِّق لهم رجاءهم، إذا ماتوا على الإيمان، والعمل الصَّالح.
27
قوله: ﴿عَنِ الخمر والميسر﴾ لا بدّ فيه من حذف مضاف إذ السُّؤال عن ذاتي الخمر والميسر غير مرادٍ، والتَّقدير: عن حكم الخمر والميسر.
الخمر: هو المعتصر من العِنَبِ إذا غلى، وقذف بالزَّبد، ويطلق على ما غلى، وقذف بالزَّبد من غير ماء العنب مجازاً.
27
وفي تسميتها «خَمْراً» أربعة أقوال:
أشهرها: أنَّها سمِّيت بذلك؛ لأنها تخمر العقل، أي: تستره، ومنه: خمار المرأة لستره وجهها، والخمر: ما واراك من شجر، وغيره من وهدةٍ، وأكمة، والخامر هو الذي يكتم شهادته؛ [و: خَامِري حضَاجِرُ، أتاك ما تُحَاذِرُ «يُضْرَبُ للأحمق، وحَضَاجِرُ: علمٌ للضبع، أي: استتر عن النَّاس، ودخل في خمار النَّاس، وغمارهم].
قال: [الوافر]
١٠٦٥ - أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكَ سِيرا فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ
أي: ما يستركما من شجرٍ وغيره، وقال العجَّاج يصف مسير جيش طاهر بن أبان:
[الرجز]
١٠٦٦ - في لاَمِعِ العِقْبَانِ لاَ يَمْشِي الخَمَرْ... والثاني: لأنَّها تغطَّى حتّى تدرك وتشتدَّ، فهو من التَّغطية ومنه»
خَمَّروا آنيتكم «.
والثالث: - قال ابن الأنباري من المخالطة - لأنَّها تخامر العقل، أي: تخالطه، يقال: خامره الدَّاء، أي: خالطه.
وأنشد لكثير: [الطويل]
١٠٦٧ - هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ..............................
ويقال: خَامَرَ السّقام كبده. فهذه الاشتقاقات دالَّة على أن الخمر ما يكون ساتراً للعقل، كما سمِّيت مسكراً؛ لأنَّها تسكر العقل أي: تحجزه.
والرابع: لأنَّها تترك حتى تدرك، ومنه:»
اخْتَمَرَ العَجِينُ «أي: بلغ إدراكه، وخمر الرَّأي، أي: تركه، حتَّى ظهر له فيه وجه الصَّواب، وهي أقوال متقاربةٌ. وعلى هذه الأقوال تكون الخمر في الأصل مصدراً مرارداً به اسم الفاعل واسم المفعول.
28

فصل


قال أبو حنيفة: الخمرُ: هو ما كان من عصير العنب وغيره.
حجّة أبي حنيفة: قوله تعالى: ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً﴾ [النحل: ٦٧] فمنَّ الله تعالى علينا باتخاذ السَّكر، والرِّزق الحسن؛ فوجب أن يكون مباحاً؛ لأنَّ المنَّة لا تكون إلاَّ بالمباح.
وروى ابن عبَّاس أنَّه - عليه السَّلام - أتى السِّقاية عام حجَّة الوداع، فاستند إليها وقال: اسقوني، فقال العبَّاس: لنسقينَّك ممَّا ننبذُهُ في بيوتنا؟ فقال:» مِمّا يُسْقَى النَّاسُ «فجاءه بقدح من نبيذ؛ فشمَّه فقطب وجهه وردَّه، فقال العبَّاس: يا رسول الله أفسدت على أهل مكَّة شرابهم. فقال:» رَدُّوا عَلَيَّ القَدَحَ «فردُّوه عليه؛ فدعا بماء زمزم؛ فصبّ عليه وشَرِبَ وقال:» إِذَا اغْتَلَمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الأَشْرِبَة فَاقْطَعُوا نتنها بالمَاءِ «.
وجه الاستدلال به: أن التقطيب لا يكون إلاَّ من الشَّديد، ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدَّة بالنَّصِّ، ولأنَّ اغتلام الشَّراب شدَّته، كاغتلام البعير سكره.
وأيضاً وردت عند الصَّحابة فيه آثارٌ؛ روي أنَّ عمر بن الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كتب إلى بعض عماله أن أرزاق المسلمين من الطِّلاء ما ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه، ورأى أبو عبيدة، ومعاذٌ: شرب الطِّلاء على الثُّلث.
وحجَّة القائلين بأنَّ الخمر من عصير العنب وغيره ما روى أبو داود عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «نَزَلَ تحريمُ الخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وهي من خمسة من العِنَبِ، والتَّمْرِ، والحِنْطَةِ، والشَّعِيرِ، والذُّرَةِ»
.
والخمر ما خامر العقل.
وفي «الصَّحيحين» عن عمر أنَّه قال على منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ألا إنّ الخرم قد حرِّمت، وهي من خمسة: من العنب، والتَّمر، والعسل، والحنطة، والشعير والخمر ما
29
خامر العقل. وروى أبو داود عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» وفي «الصَّحِيحَيْنِ» أنه عليه السَّلام سُئِلَ عن البِتع، فقال: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ، فَهُوَ حَرَامٌ» والبِتع شراب يتخذ من العسل.
قال الخطابيُّ: والدَّلالة من وجهين:
أحدهما: أنَّ الآية لما دلَّت على تحريم الخمر، وكان مسمَّى الخمر مجهولاً من القوم، حسن من الشَّارع أن يقال: مراد الله تعالى من هذه اللَّفظة هذا، ويكون على سبيل إحداث لغةٍ، كما في الصَّلاة والصَّومِ وغيرهما.
والوجه الآخر: أن يكون معناه: أنَّه كالخمر في الحرمة؛ لأن قوله هذا خمر، فإن كان حقيقةً؛ فحصل المدّعي، وإن كان مجازاً؛ فيكون حكمه كحكمه؛ لأنَّا بيَّنا أنَّ الشَّارع ليس مقصوده تعليم اللُّغات على تعليم الأحكام، وحديث البتع يبطل كلَّ تأويلٍ ذكره أصحاب تحليل الأنبذة، وإفساد قول من قال: إنَّ القليل من المسكر من الأنبذة مباحٌ؛ لأنَّه - عليه السَّلام - سُئِلَ عن نوع واحدٍ من الأنبذة، وأجاب بتحريم الجنس، فدخل فيه القليل والكثير، ولو كان ثمَّ تفصيلٌ في شيءٍ من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»، وقال: «مَا
30
أَسْكَرَ الفرق منه فتمسك الكف منه حرام».
قال الخطابي: «الفَرقُ» : مِكْيَالٌ يَسَعُ ستَّة عشَرَ رطلاً وروى أبو داود عن أُمِّ سلمة قالت: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن كلِّ مسكرٍ ومفترٍ.
قال الخطَّابيُّ: «المفترُ» كلّ شرابٍ يورث الفتور، والخدر في الأعضاء.
واستدلُّوا أيضاً بالاشتقاق المتقدّم وأيضاً بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة﴾ [المائدة: ٩١].
وهذه العلَّة موجودة في الأنبذة؛ لأنَّها مظنّته.
وأيضاً فإنّ عمر، ومعاذ قالا: يا رسول الله، إنَّ الخمر مسلبةٌ للعقل مذهبة للمال؛ وهذه العلَّة موجودة في الأنبذة.
والجواب عن دلائل أبي حنيفة: أنَّ قوله ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً﴾ [النحل: ٦٧] نكرة في سياق الإثبات، فلم قلتم إنّ ذلك السُّكر هو هذا النَّبيذ.
ثمَّ أجمع المفسِّرون على أنَّ هذه الآية قبل الآيات الدَّالَّة على تحريم الخمر، فتكون ناسخةً، أو مخصّصة.
31
وأمَّا حديث النَّبيذ فلعلَّه كان ماءًا نبذت فيه تمراتٌ؛ لتذهب ملوحته فتغيَّر طعم الماء قليلاً إلى الحموضة، وطبعه - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان في غاية اللَّطافة، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطَّعم؛ فلذلك قطَّب وجهه، وإنما صبَّ الماء فيه؛ إزالة لتلك الحموضة، أو الرائحة. وأمَّا آثارُ الصَّحابة، فمتدافعة متعارضة.

فصل في عدد الآيات التي نزلت بمكة في تحريم الخمر


قالوا: نزل في الخمر آربع آيات بمكَّة:
قوله: ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً﴾ [النحل: ٦٧] وكان المسلمون يشربونها، وهي لهم حلالٌ، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصَّحابة قالوا: يا رسول الله، أفتنا في الخمر، فإنَّها مذهبةٌ للعقل مسلبةٌ للمال، فنزل قول تعالى: ﴿فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ٢١٩] ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ اللهَ تَقَدَّمَ في الخَمْر» فتركها قومٌ لقوله (إثْمٌ كبيرٌ) وشربها قوم لقوله (ومنافع للناس). إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماًن فدعا ناساً من أصحاب النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأتاهم بخمرٍ، فشربوا، وسكروا، وحضرت صلاة المغرب؛ فتقدَّم بعضهم ليصلِّي بهم فقرأ: «قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ» هكذا إلى آخر السورة بحذف «لا»، فأنزل الله تعالى: ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ [النساء: ٤٣] فحرَّم السُّكر في أوقات الصلاة، فلما نزلت هذه الآية، تركها قومٌ، وقالوا: لا خير في شيءٍ يحول بيننا وبين الصَّلاة وتركها قوم في أوقات الصَّلاة، وشربوها في غير وقت الصَّلاة، حتَّى كان الرَّجل يشرب بعد صلاة العِشاء، فيصبح، وقد زال عنه السُّكر، ويشرب بعد صلاة الصُّبح، فيصحو إذا جاء وقت الظُّهر، واتخذ عُتبان بن مالك صِبْغاً ودعا رجالاً من المسلمين، فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعيرٍ، فأكلوا منه، وشربوا الخمر، حتى أخذت منهم، ثمَّ إنّهم افتخروا عند ذلك، وانتسبوا، وتناشدوا، فأنشد سعد قصيدةً فيها هجاءٌ للأنصار، وفخر لقومه، فأخذ رجلٌ من الأنصار لحي بعيرٍ، فضرب به رأس سعدٍ؛ فشجَّه موضّحةٌ
32
فانطلق سعد إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشكى إليه الأنصاريَّ، فقال عمر: اللَّهُمَّ بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً؛ فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ﴾ [المائدة: ٩٠] إلى قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١] وذلك بعد غزوة الأحزاب بأَيَّام، فقال عمر: انتهينا يا ربّ.
قال ابن الخطيب: والحكمة في وقوع التَّحريم على هذا التَّرتيب أنَّ الله تعالى علم أنَّ القوم كانوا قد أَلِفُوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بذلك كثيراً، فعلم أنَّه لو منعهم دفعةً واحدةً لشقّ ذلك عليهم، فلا جرم درَّجهم في التَّحريم رفقاً بهم، ومن الناس من قال: إن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية، ثم نزل قوله:
﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ [النساء: ٤٣] فاقتضى ذلك تحريم شربها؛ لأنَّ شارب الخمر لا يمكنه أن يصلِّي مع السُّكر، فكان المنع من ذلك منعاً من الشّرب ضمناً، ثم نزلت آية المائدة، فكانت في غاية القوَّة في التَّحريم. وعن الرَّبيع بن أنس أنَّ هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر.

فصل


قال أنسٌ: حُرمت عليهم الخمر، ولم يكن يومئذ للعرب عيشٌ أعجب منها، وما حرِّم عليهم شيءٌ أشدّ من الخمر.
وقال أنس بن مالك: ما كان لنا خمر غير فضيخكم فإنّي لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً، وفلاناً، إذ جاء رجلٌ فقال: حرمت الخمر. قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس؛ قال: فما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبر الرَّجل.
واختلف الفقهاء في الخمر على ما تقدَّم؛ فقال قومٌ: هو عصير العنب والرُّطب الَّذي اشتدّ وغلا من غير عمل النَّار فيه، واتَّفقت الأُمَّة على أنَّ هذا الخمر نجس يحدُّ شاربها، ويُفَسَّقُ، ويكفر مستحلها، وذهب سفيان الثَّوريُّ، وأبو حنيفة، وجماعة إلى أنَّ التَّحريم لا يتعدّى هذا ولا يحرم ما يتّخذ من غيرها، كالحنطة، والشَّعير، والذُّرة، والعسل، والفانيذِ إلاَّ أن يسكر منه فيحرم، وقال: إذا طبخ عَصِيرُ العِنَبِ والرُّطب، حتّى
33
ذهب نصفه، فهو حلالٌ، ولكنه يكره، وإن طبخ، حتَّى يذهب ثلثاه قالوا: هو حلالٌ مباحٌ شربه إلاَّ أنَّ السُّكر منه حرامٌ.
وقال قومٌ: إذا طُبخَ صار العَصِيرُ أدْنَى طبخ، صار حَلاَلاً، وهو قول إسماعيل بن عليه، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنَّ كل شراب أسكر كثيره، فهو خمر قليله حرام يحدّ شاربه، وقد تقدَّم ما أجابوا به.
والمَيْسِرُ: القِمَارُ، مفعل من اليُسْرِ، يقال: يَسَرَ يَيْسِرُ؛ قال علقمة: [البسيط]
١٠٦٨ - لَو يَيْسِرُونَ بِخَيْلٍ قَدْ يَسَرْتُ بِهَا وَكُلُّ مَا يَسَرَ الأَقْوَامُ مَغْرُومُ
وقال آخر: [الطويل]
١٠٦٩ - أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِي أَلَمْ تَيْئَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِس زَهْدَمِ
وفي اشتقاقه أربعة أقوال:
أحدها: من اليُسْر وهو السُّهولة؛ لأنَّ أخذه سهل من غير كدر ولا تعب قاله مقاتل.
والثاني: من اليَسَار، وهو الغنى؛ لأنَّه يسلبه يساره.
قال ابن عباسٌ: كان الرَّجُلُ في الجاهليَّة يخاطرُ الرَّجُلَ على أهله وماله فأيهما قَمَر صاحبه؛ ذهب بأهله، وماله، فنزلت الآية.
الثالث: قال الواحديُّ: إنه من قولهم: يَسُرَ لي هذا الشَّيء يَيْسِرُ يُسْراً وميسراً، إذا وجب، واليَاسِرُ الوَاجِبُ بسبب القِدَاحِ. وحكاه الطبريُّ عن مجاهدس، ورد ابن عطيَّة عليه.
الرابع: من يسر إذا جزر، واليَاسِرُ الجَازِرُ، وهو الذي يجزّئ الجَزُور أجزاءً. قال ابن عطيَّة: وسُمِّيت الجَزُور التي يُسْتَهَمُ عليها مَيْسِراً؛ لأنَّها موضع اليُسْرِ، ثمَّ سُمِّيت السِّهَامُ مَيْسراً للمُجَاوَرَةِ «واليَسَرُ: الذي يدخل في الضَّرْبِ بالقِدَاح، ويجمع على أيسار، وقيل: بل» يُسَّر «مع يَاسِر كَحَارِس وحُرَّسٍ وأَحْرَاسٍ.
وللميسر كيفيَّةٌ، وتُسمّى سِهَامُهُ القِدَاحَ والأزلامَ والأقلامَ. وقيل: هي عَشَرَةُ أقْدَاح، وقيل: أَحَدَ عَشَرَ، لسبعةٍ منها حُظُوظٌ، وعلى كُلِّ منها خُطُوطٌ، فالخطُّ يقدِّر الحَظَّ، وتلك القِدَاحُ هي: الفَذُّ وله سهمٌ واحدٌ، والتَّوءَمُ وله اثنان، والرَّقيبُ وله ثلاثةٌ، والحِلْسُ
34
وله أربعةٌ، والنَّافسُ وله خمسةٌ، والمُسْبلُ وله ستّةٌ، والمُعَلَّى وله سبعةٌ، وثلاثةٌ أغفالٌ لا خُطُوطَ عليها، وهي المنيحُ، والسَّفيحُ، والوغْدُ.
وأنشد فيها بعضهم: [الرمل]
١٠٧٠ - لِيَ في الدُّنْيَا سِهَامٌ لَيْسَ فِيهِنَّ رَبِيحُ
وَأَسَامِيهِنَّ وَغْدٌ وَسَفِيحٌ وَمَنِيحُ
ومن زاد رابعاً سمَّاه المضعَّف، وإنَّما كثروا بهذه الأغفال ليختلط على الحرضة، وهو الضَّارب، فلا يميل مع أحد، وهو رجلٌ عدلٌ عندهم، فيجثو، ويلتحف بثوبٍ، ويخرج رأسه، فيجعل تلك القداح في خريطة وتسمى الرِّبابة بكسر الرَّاء مشبَّهة بالكتابة فيها سهامُ المَيْسِرِ، وربَّما يسمُّون جميع السِّهام ربابة، ثمَّ يخلخلها ويدخل يده فيها، ويخرج باسم رجُلٍ رجلٍ قِدحاً فمن خرج على اسمه قدحٌ: فإن كان من ذوات السِّهام؛ فاز بذلك النَّصيب، وأخذه، وإن كان من الأغفال غرِّم من الجزور؛ ولا يأخذ شيئاً.
وقال بعضهم: لا يأخذ شيئاً، ولا يغرم، ويكون ذلك القدح لغزاً.
وكانوا يفعلون هذا في الشَّتوة، وضيق العيش، ويقسِّمونه على الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً، ويفتخرون بذلك، ويسمُّون من لم يدخل معهم فيه: البَرم ويذمونه، والجَزورُ تقسم عند الجمهور على عدد القداح، فتقسم على عشرة أجزاء، وعند الأصمعي على عدد خطوط القداح، فتقسّم على ثمانية وعشرين جزءاً. وخطَّأ ابن عطية الأصمعيَّ في ذلك، وهذا عجيبٌ منه؛ لأنَّه يحتمل أنَّ العرب كانت تقسِّمها مرَّةً على عشرةٍ، ومرَّةً على ثمانية وعشرينَ.
فهذا أصل القمار التي كانت تفعله العرب.
واختلفوا في الميسر؛ هل هو اسم لذلك القمار المعيَّن أو اسم الجميع أنواع القمار، فقال بعض العلماء: المراد من الآية جميع أنواع القمار قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إيَّاكُم وَهَاتَيْنِ الكَعْبَتَيْنِ المُوسومتين فَإِنَّها مِنَ مَيْسِرِ العَجَمِ».
وعن ابن سِيرِينَ: ومجاهد، وعطاءٍ، وطاوسٍ، كلُّ شيءٍ فيه قمارٌ فهو الميسر، حتَّى لعب الصِّبيان بالجوز، والكعاب.
35
وروي عن عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في النرد، والشِّطرنج: أنَّه من المَيْسر. وقال الشَّافعيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إذا خلا الشِّطرنجُ عن الرهان واللِّسان عن الطُّغيان، والصَّلاة عن النِّسيان؛ لم يكن حراماً، وهو خارج عن الميسر؛ لأنَّ الميسر ما يوجب دفع مال، أو أخذ مالٍ، وهذا ليس كذلك، فلا يكون قماراً ولا ميسراً.
وأمّا السَّبقُ في الخفِّ، والحافر، والنُّشابِ، فخصّ بدليلٍ.
قوله: ﴿فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ الجَارُّ خبر مقدّم، و «إثْمٌ» مبتدأ مؤخَّرٌ، وتقديم الخبر هنا ليس بواجبٍ، وإن كان المبتدأ نكرةً، لأنَّ هنا مسوغاً آخر، وهو الوصف، أو العطف، ولا بدّ من حذف مضافٍ أيضاً، أي: في تعاطيهما إثمٌ؛ لأنَّ الإثم ليس في ذاتها.
وقرأ حمزة والكسائيُّ: «كثيرٌ» بالثَّاء المثَّلثة، والباقون بالباء ثانية الحروف. ووجه قراءة الجمهور واضحٌ، وهو أنَّ الإثم يوصف بالكبر مبالغة في تعظيم الذَّنب، ومنه آية ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً﴾ [النساء: ٢]. وسمِّيت الموبقات: «الكبَائِر»، ومنه قوله تعالى: ﴿والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم﴾ [الشورى: ٣٧]، و ﴿كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [النساء: ٣١] وشرب الخمر، والقمار من الكبائر، فناسب وصف إثمهما بالكبر، وقد أجمعت السَّبعة على قوله: ﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ بالباء الموَّحدة، وهذه توافقها لفظاً.
وأمَّا وجه قراءة الأخوين: فإمَّا باعتبار الآثمين من الشَّاربين، والمقامرين، فلكلِّ واحد إثمٌ، وإمّا باعتبار ما يترتّب [على تعاطيهما من توالي العقاب، وتضعيفه، وإمّا
36
باعتبار ما يترتَّب] على شربهما ممَّا يصدر من شربها من الأقوال السَّيئة والأفعال القبيحة.
وإمّا باعتبار ما يترتَّب على تعاطيهما من توالي العقاب، وتضعيفه.
وإمَّا باعتبار من يزاولها من لدن كانت عنباً إلى أن شربت، فقد لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الخمر، ولعن معها عشرةً: بائعها، ومبتاعها وغيرهما، فناسب ذلك أن يوصف إثمها بالكثرة. وأيضاً فإن قوله: «إثْم»، مقابلٌ ل «مَنَافِع»، و «منافع» جمعٌ، فناسب أن توصف مقابلةً بمعنى الجمعيَّة، وهو الكثرة. وهذا الذي ينبغي أن يفعله الإنسان في القرآن، وهو أن يذكر لكلِّ قراءةٍ توجيهاً من غير تعرُّضٍ لتضعيف القراءة الأخرى كما فعل بعضهم، وقد تقدَّم فصلٌ صالحٌ من ذلك في قراءتي: «مَلِك»، و ﴿مالك﴾ [الفاتحة: ٣].
وقال أبو البقاء: الأَحْسَنُ القِرَاءَةُ بالبَاء، لأنه يقال: إثمٌ كبيرٌ وصغيرٌ، ويقال في الفواحش العظام: «الكَبَائِرُ»، وفيما دون ذلك «الصَّغَائِرُ» وقد قرئ بالثَّاء وهو جيدٌ في المعنى؛ لأنَّ الكثرة كبرٌ، والكثير كبيرٌ، كما أنَّ الصَّغير حقيرٌ ويسيرٌ.
وقرأ عبد الله - وكذلك هي في مصحفه -: «وإثمهما أَكْثَرُ» بالمثلَّثة، وكذلك الأولى في قراءته، ومصحفه.

فصل


دلَّ قوله تعالى: ﴿فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ على تحريم الخمر كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأعراف: ٣٣] والإثم يستحق به؛ فدلَّ مجموع الآيتين على التَّحريم، وأيضاً فإنَّ الإثم قد يراد به العقاب وقد يراد به: ما يستحق به العقاب من الذُّنوب، وأيُّهما كان، فلا يصحُّ أن يوصف به إلاَّ المحرّم.
وأيضاً قد قال تعالى: ﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ فَصَرَّحَ بِرُجْحَانِ الإِثْمِ، وذلك يوجب التَّحْرِيمَ.
فإن قيل: لا تدلُّ الآية على أنَّ شرب الخمر حرامٌ، بل تدلُّ على أنَّ فيه إثماً، فهَبْ أنَّ ذلك الإثم حرامٌ، فلم قلتم إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم؛ وجب أن يكون حراماً؟
فالجواب أنَّ السُّؤال كان واقعاً عن مطلق الخمر، فلمَّا بين تعالى أنَّ فيه إثماً، كان المراد أنَّ ذلك الإثم لازمٌ له على جميع التَّقديرات، فكان شرب الخمر مستلزماً لهذه الملازمة المحرَّمة، ومستلزم المحرَّم محرَّمٌ؛ فوجب أن يكون الشُّرب محرّماً.
37
فإن قيل هذه الآية لا تدلُّ على حرمة الخمر لوجوهٍ:
أحدها: أنَّه تعالى أثبت فيها منافع للنَّاس والمحرّم لا يكون فيه منفعةٌ.
الثاني: لو دلَّت الآية على حرمتها، فلم لم يقنعوا بها حتّى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصّلاة؟
الثالث: أنَّه أخبر أنَّ فيها إثمٌ كبيرٌ، فمقتضاه أنَّ ذلك الكبير ملازماً لها ما دامت موجودة، ولو كان ذلك سبباً لحرمتها؛ لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشَّرائع.
فالجواب عن الأوَّل: أنَّ حصول النَّفع فيها ليس مانعاً من حرمتها؛ لأن صدق الخاصّ يوجب صدق العامّ.
وعلى الثاني: أنّا روينا عن ابن عباس أنَّها نزلت في تحريم الخمر والتّوقف الذي ذكروه، غير مرويٍّ عنهم، وقد يجوز بطلب الكبار من الصَّحابة نزول ما هو أكبر من هذه الآية في التَّحريم كما التَمَسَ إبراهيم - صلوات الله عليه - مشاهدة إحياء الموتى، ليزداد سكوناً، وطمأنينة.
وعن الثالث: أنَّ قوله ﴿فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ إخبار عن الحال لا عن الماضي فعلم تعالى أنَّ شُرْبَ الخَمْرِ مفسدةٌ لهم، وليس مَفْسَدَةٌ للَّذِينَ من قبلهم.

فصل في بيان الإثم الكبير في الآية


الإثم الكبير في الخمر أمورٌ:
أحدها: أنَّه مزيلٌ للعقل الذي هو أشرف صفات الإنسان، وإذا كان الخمر عَدُوّاً، لا شرفاً؛ فيلزم أن يكون أخسَّ الأمور؛ وذلك لأن العقل إنَّما سمِّي عقلاً أخذاً من عقال النَّاقة، فإنَّ الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح، كان عقله مانعاً من الإقدام عليه، فإذا شرب الخمر بقي طبعه الدَّاعي إلى فعل القبائح خالياً عن العقل له عن فعل القبيح.
ذكر ابن أبي الدنيا: أنَّه مرَّ على سكران، وهو يبول في يده، ويمسح به وجهه كهيئة المتوضِّئ، ويقول: الحمد لله، الذي جعل الإسلام نوراً، والماء طهوراً.
وعن العبَّاس بن مرداس أنَّه قيل له في الجاهليَّة: لم لا تشرب الخمر؛ فإنها تزيد في جراءتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي، فأدخله في جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيِّد قوم، وأمسي سفيههم.
وثانيها: ما ذكره الله - تعالى - من إيقاع العداوة، والبغضاء، والصَّدّ عن ذكر الله، وعن الصَّلاة.
38
وثالثها: أنَّ هذه المعصية من خواصّها أنَّ الإنسان إذا اشتغل بها وواظب عليها، كان ميله ونفسه عليها أقوى، بخلاف سائر المعاصي، فإنَّ الزَّاني مثلاً إذ فعل مرَّةً واحدةً فترت رغبته، وكلمَّا زاد فعله؛ كان فتوره أكثر؛ بخلاف الشّرب فإنَّه كلَّما كان إقدامه عليه أكثر كان نشاطه إليها ورغبته فيه أكثر، فإذا واظب عليه؛ صار غارقاً في اللَّذَّات البدنيَّة معرضاً عن تذكر الآخرة، حتّى يدخل في الّذشين نسوا الله، فأنساهم أنفسهم.
وبالجملة إذا زال العقل؛ حصلت القبائح بأسرها، وكذلك قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:
«اجْتَنِبُوا الخَمْرَ فَإِنَّها أُمُّ الخَبَائِثِ». ويصدر عن الشَّارب المخاصمة، والمشاتمة وقول الفحش والزُّور.
وأما الإثم الكبير في الميسر، فإنَّه يفضي إلى العداوة أيضاً لما يجري بينهم من الشَّتم، والمنازعة؛ لأنَّه أكل مال بالباطل، وذلك يورث العداوة؛ لأنَّ صاحبه إذا أخذ ماله مجَّاناً؛ أبغضه جدّاً، وهو يشغل عن ذكر الله، وعن الصَّلاة أيضاً.
وأمَّا المنافع المذكورة فيهما، فمنافع الخمر أنَّهم كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النَّواحي، وكان المشتري، إذا ترك المماكسة في الثَّمن؛ كانوا يعدُّون ذلك فضيلةً، ومكرمةً، وكانت تكثر أرباحهم بذلك السَّبب، ومنها أنَّها تقوِّي الضَّعيف، وتهضم الطَّعام، وتعين على الباءة وتسلي المحزون، وتشجِّع الجبان، وتُسخي البخيل، وتصفي اللَّون وتُنعش الحرارة الغريزيَّة، وتزيد من الهمَّة، والاستعلاء. ومن منافع الميسر: التَّوسعة على ذوي الحاجات؛ لأنَّ من قمر لم يأكل من الجزور شيئاً وإنما يفرّقه في المحتاجين؛ وذكر الواقديُّ أنَّ الواحد كان ربَّما يحصل له في المجلس الواحد مائة بعيرٍ، فيحصل له مالٌ من غير كدٍّ، ولا تعبٍ، ثم يصرفه إلى المحتاجين، فيكتسب فيه الثَّناء، والمدح، وكانوا يشترون الجزور، ويضربون سهامهم، فمن خرج سهمه؛ أخذ نصيبه من اللَّحم، ولا يكون عليه شيء من الثَّمن، ومن بقي سهمه آخراً، كان عليه ثمن الجزور كلِّه، ولا يكون له من اللَّحم شيءٌ.
39
قوله تعالى: ﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ قرأ أُبَيّ: «أقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِمَا».
وإثمهما ونفعهما مصدران مضافان إلى الفاعل، لأنَّ الخمر والميسر سببان فيهما، فهما فاعلان، ويجوز أن تكون الإضافة باعتبار أنهما محلُّهما. وقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢١٥] قد تقدَّم الكلام عليه. وقرأ أبو عمرو: «قُلِ العَفْوُ» رفعاً والباقون نصباً. فالرَّفع على أنَّ «مَا» استفهاميةٌ، و «ذَا» موصولةٌ، فوقع جوابها مرفوعاً خبراً لمبتدأ محذوفٍ، مناسبةً بين الجواب والسُّؤال والتَّقدير: إنفاقكم العفو. والنَّصيب على أنَّهما بمنزلةٍ واحدةٍ، فيكون مفعولاً مقدّماً، تقديره: أيَّ شيءٍ ينفقون؟ فوقع جوابها منصوباً بفعل مقدَّرٍ للمناسبة أيضاً، والتَّقدير: أنفقوا العفو. وهذا هو الأحسن، أعني أن يعتقد في حال الرَّفع كون «ذا» موصولةً، وفي حال النَّصب كونها ملغاةٌ. وفي غير الأحسن يجوز أن يقال بكونها ملغاةً مع رفع جوابها، وموصولةً مع نصبه. وقد تقدم الكلام على مستوفى وإنما اختصرت القول هنا؛ لأني قد استوفيت الكلام عليها عند قوله تعالى: ﴿مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً﴾ [البقرة: ٢٦].

فصل


اعلم أنَّ هذا السُّؤال، قد تقدَّم، وأجيب بذكر المصرف، وهنا أجيب بذكر الكميَّة.
قال الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: أصل العفو في اللُّغة الزِّيادة، قال الله تعالى: ﴿خُذِ العفو﴾ [الأعراف: ١٩٩]، أي: الزِّيادة وقال: ﴿حتى عَفَوْاْ﴾ [الأعراف: ٩٥].
وقال القفَّال: العفو ما سهل وتيسّر ممَّا فضل عن الكفاية، وهو قول قتادة، وعطاء، والسُّدِّي، وكانت الصَّحابة يكتسبون المال، ويمسكون قدر النَّفقة، ويتصدَّقون بالفضل.
قال القرطبيُّ: فالجواب خرج على وفق السُّؤال، فإنَّ السُّؤال الثَّاني في هذه الآية على قدر الإنفاق، وهو في شأن عمرو بن الجموح فإنَّه لما نزل: ﴿قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ [البقرة: ٢١٥] قال: كم أنفق؛ فنزل «قُل العَفْوَ».
والعَفْوُ: ما سهل، وتيسَّر وفضل، ولم يشقَّ على القلب إخراجه؛ قال الشَّاعر: [الطويل]
40
١٠٧١ - خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي وَلاَ تَنْطقِي في سَوْرَتي حِينَ أَغْضَبُ
وقال طاوس: ما يَسُر، والعفو اليسر من كل شيءٍ، ومنه قول تعالى: ﴿خُذِ العفو﴾ [الأعراف: ١٩٩] أي الميسور من أخلاق النَّاس.
قال ابن الخطيب: ويشبه أن يكون العفو عن الذَّنب راجع إلى التَّيسير، والتَّسهيل، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ، والرَّقِيقِ، فَهَاتوا عشْرَ أَمْوَالِكُمْ» معناه: التَّخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرَّقيق، ويُقال: أعفى فلانٌ فلاناً بحقِّه: إذا أوصله إليه من غير إلحالح في المطالبة، ويقال: أعطاه كذا عفواً صفواً: إذا لم يكدِّره عليه بالأذى، ويقال: خذ من النَّاس ما عُفِيَ لك، أي: ما تيسَّر، ومنه قوله تعالى: ﴿خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف﴾ [الأعراف: ١٩٩] وجملة التأويل: أنَّ الله - تعالى - أدَّب النَّاس في الإنفاق، فقال: ﴿وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين﴾ [الإسراء: ٢٦، ٢٧] وقال: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط﴾ [الإسراء: ٢٩] وقال: ﴿والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ﴾ [الفرقان: ٦٧] وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَنْفَقْتَ عَن غِنى، وَلا تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ».
وعن جابر بن عبد الله قال: بينما نحن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذ جاءه رجلٌ بمثل البيضة من ذهب فقال: يا رسول الله؛ خذها صدقةً، فوالله ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم أتاه من بين يديه، فقال: هاتها مغضباً؛ فأخذها منه، ثمَّ حذفه بها، لو أصابته لأوجعته ثم قال: «يَأْتِينِي أَحَدُكُم بِمالِهِ لاَ يَمْلِكُ غَيْرَهُ، ثُمَّ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ، إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عن ظَهْرِ غِنَى، خُذْهَا، فَلاَ حَاجَةَ لَنَا فِيها». وكان عليه الصَّلاة والسَّلام يحبس لأهله قُوتَ سَنَةٍ.
وقال الحكماء الفضيلةُ بين طرفي الإفراط والتَّفريط.
41
وقال عمرو بن دينار: الوسط من غير إسراف ولا إقتار.

فصل في ورد العفو في القرآن


قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ «العَفْوِ» في القرآن بإزاء ثلاثة معانٍ:
الأول: العفو: الفضل من الأموال قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو﴾ يعني الفضل من المال.
الثاني: «العفو» الترك؛ قال تعالى: ﴿إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾ [البقرة: ٢٣٧] أي يتركوا، ومثله: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾ [الشورى: ٤٠]، أي: ترك مظلمته.
الثالث: العفو بعينه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٥].

فصل


واختلفوا في هذا الإنفاق؛ هل المراد به الواجب، أو التطوُّع على قولين:
الأول: قال أبو مسلم: يجوز أن يكون العفو هو الزَّكوات وذكرها ها هنا على سبيل الإجمال في السَّنة الأولى؛ لأنَّ هذه الآية قبل نزول آية الصَّدقات، وأنزل تفاصيلها في السَّنة الثَّانية فالنَّاس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم، ما يكفيهم في عامهم، ثمَّ ينفقون الباقي، ثمَّ صار هذا منسوخاً بآية الزَّكاة.
القول الثاني: أنَّ المراد به صدقة التَّطوُّع.
قالوا: لأنَّه لو كان مفروضاً لبين الله مقداره، فلمَّا لم يبيِّنه، وفوَّضه إلى رأي المخاطب؛ علمنا أنَّه ليس بفرضٍ.
وأجيب، بأنه لا يبعد أن يوجب الله - تعالى - شيئاً على سبيل الإجمال، ثمَّ يذكر تفصيله وبيانه.
قوله تعالى: ﴿كذلك يُبيِّنُ﴾ الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: تبييناً مثل ذلك التَّبيين يبيِّن لكم، وإمَّا حالاً من المصدر المعرفة، أي: يبيِّن التبيين مماثلاً ذلك التَّبيين. والمشار إليه يبيِّن حال المنفق، أو يبيِّن حكم الخمر، والميسر، والمنفق المذكور بعدهما. وأبعد من خصَّ اسم الإشارة ببيان حكم الخمر، والميسر، وأبعد منه من جعله إشارةً إلى جميع ما سبق في السُّورة من الأحكام.
و «لَكُمْ» متعلِّق ب «يُبَيِّن». وفي اللاَّم وجهان، أظهرهما أنَّها للتبليغ كالتي في: قلت لك.
42
والثاني: أنها للتَّعليل وهو بعيدٌ. والكاف في «كَذَلِكَ» تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو للسامع، فتكون على أصلها من مخاطبة المفرد.
والثاني: أن تكون خطاباً للجماعة، فيكون ذلك ممَّا خوطب به الجمع بخطاب المفرد، ويؤيِّده قوله «لَكُمْ، و» لَعَلَّكُمْ «، وهي لغةٌ للعرب، يخاطبون في اسم الإشارة بالكفا مطلقاً، وبعضهم يستغني عن الميم بضمَّةِ الكاف؛ قال: [الرجز]
١٠٧٢ - وَإِنَّمَا الهَالِكُ ثُمَّ التَّالِكُ... ذُو حَيْرَةٍ ضَاقَتْ بِهِ المَسَالِكُ
كَيْفَ يَكُونُ النَّوْكُ إِلاَّ ذَلِكُ... فصل
قوله تعالى: ﴿فِي الدنيا﴾ : فيه خسمة أوجهٍ:
أظهرها: أن يتعلَّق بيتفكّرون على معنى: يتفكَّرون في أمرهما، فيأخذون ما هو الأصلح، ويؤثرون ما هو أبقى نفعاً.
والثاني: أن يتعلَّق ب»
يبيِّن «، ويروى معناه عن الحسن، وحينئذٍ يحتمل أن يقدَّر مضاف، أي: في أمر الدُّنيا والآخرة، ويحتمل ألاَّ يقدَّر، لأنَّ بيان الآيات، وهي العلامات يظهر فيها. وجعل بعضهم قول الحسن من التَّقديم، والتأخير، أي: ليس لذلك يبيِّن الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا وزوالها وفنائها، فتزهدون فيها، وفي إقبال الآخرة، ووقوعها، فترغبون فيها. ثم قال: ولا حَاجَةَ لِذَلِكَ، لحَمْلِ الكَلاَمِ على ظاهره، يعني من تعلُّق في الدُّنيا ب» تَتَفَكَّرُونَ «. وهذا ليس من التَّقديم والتَّأخير في شيء؛ لأنَّ جملة التَّرجِّي جاريةٌ مجرى العلَّة فهي متعلِّقةٌ بالفعل معنى، وتقديم أحد المعمولات على الآخر، لا يقال فيه تقديم وتأخير ويحتمل أن تكون اعتراضيةً، فلا تقديم، ولا تأخير.
والثالث: أن تتعلَّق بنفس «الآيَاتِ»
لما فيها من معنى الفعل، وهو ظاهر قول مكي فيما فهمه عنه ابن عطيَّة. قال مكِّيٌّ: «معنى الآية أنه يبيِّن للمؤمنين آياتٍ في الدُّنيا، والآخرة يدلُّ عليها، وعلى منزلتها لعلَّهم يتفكَّرون في تلك الآياتِ» قال ابن عطيَّة: «فقوله: في الدنيا: يتعلَّق على هذا التَّأويل بالآيات» وما قاله عنه ليس بظاهر؛ لأنَّ شرحه الآية لا يقتضي تعلُّق الجار بالآيات. ثمَّ إنْ عَنَى ابن عطية بالتعلّق التعلُّق الاصطلاحي، فقال أبو حيان «فو فَاسِدٌ، لأنَّ» الآيَاتِ «لا تَعْمَلُ شيئاً ألْبَتَّةَ، ولا يَتَعَلَّقُ بها ظَرْفٌ، ولا مَجْرُورٌ» وقال شِهَابُ الدِّين: وهذا من الشَّيخ فيه نظرٌ، فإنَّ الظُّروف تتعلَّق بروائح الأفعال، ولا شكّ أنَّ معنى الآيات العلامات الظَّاهرة، فيتعلَّق بها الظَّرف على هذا. وإن
43
عنى التَّعلُّق المعنويَّ، وهو كون الجارِّ من تمام معنى: «الآيَاتِ»، فذلك لا يكون إلاّ إذا جعلنا الجارَّ حالاً من «الآيَات»، ولذلك قدَّرها مكِّيٌّ نكرة فقال: «يبيِّن لهم آياتٍ في الدُّنْيَا» ليعلم أنَّها واقعةٌ موقع الصِّفة لآيات، ولا فرق في المعنى بين الصِّفة والحال، فيما نحن بصدده، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ لوقوعها صفةٌ.
الرابع: أن تكون حالاً من «الآيَاتِ» كما تقدَّم تقريره الآن.
الخامس: أن تكون صلةً للآيات، فتتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً، وذلك مذهب الكوفيين، فإنَّهم يجعلون من الموصولات الاسم المعرَّف بأل؛ وأنشدوا: [الطويل]
١٠٧٣ - لَعَمْرِي لأَنْتَ البَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ وَأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ
ف «البيت» عندهم موصولٌ.
وجوابهم مذكور في غير هذا الكتاب.
والتَّفكُّر: تفعل من الفكر، والفكر: الذِّهن، فمعنى تفكَّر في كذا: أجال ذهنه فيه وردَّده.
قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ﴾.
قال ابن عبَّاس: إنَّ أهل الجاهليَّة كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى، وربَّما تزوَّجوا باليتيمة طمعاً في مالها أو يزوجها من ابن له لئلاَّ يخرج مالها عن يده، فلمَّا نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً﴾ [النساء: ١٠] وقوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢ والإسراء: ٣٤]، وقوله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ والمستضعفين مِنَ الولدان وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً﴾ [النساء: ١٢٧] فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى، تحرُّجاً شديداً، وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم، حتَّى كان يصنع لليتيم طعاماً، فيفضل منه شيءٌ، فيتركونه، ولا يأكلونه حتَّى يفسد، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلاً، وطعاماً، وشراباً، فعظم ذلك على ضعفة المسلمين، فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله ما كلُّنا يجد منازل يسكنها الأيتام، ولا كلُّنا يجد طعاماً، وشراباً، يفردهما لليتيم فنزلت هذه الآية.
44
قوله: ﴿إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ﴾، «إصْلاَحٌ» مبتدأ، وسوَّغ الابتداء به أحد شيئين: إمَّا وصفه بقوله: «لَهُم»، وإمَّا تخصيصه بعمله فيه، و «خيرٌ» خبره. و «إصْلاَحٌ» مصدرٌ حذف فاعله، تقديره: إصلاحكم لهم، فالخبريَّة للجانبين أعني جانب المصلح، والمصلح له، وهذا أولى من تخصيص أحد الجانبين بالإصلاح كما فعل بعضهم.
قال أبو البقاء: «فَيَجُوزُ أن يَكُونَ التَّقْدِيرُ: خيرٌ لكم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ: خَيْرٌ لَهُم»، أي: إصلاحهم نافع لكم.
قال بعض العلماء: هذه الكلمة تجمع النَّظر في إصلاح اليتيم بالتَّقويم والتَّأديب وغيرهما لكي ينشأ على علمٍ وأدبٍ وفضلٍ، والنَّظر في إصلاح حاله، وتجمع أيضاً النَّظر في حال الولي، أي: هذا العمل خير له من أن يكون مقصّراً في حقّ اليتيم.
وقال بعضهم: الخير عائد إلى الولي، يعني إصلاح مالهم من غير عوض، ولا أجرة، خير للولي، وأعظم أجراً.
وقال آخرون: الخير عائدٌ إلى اليتيم، والمعنى: أنَّ مخالطتهم بالإصلاح خيرٌ لهم من التَّفرُّد عنهم، والإعراض عن مخالطتهم.

فصل في هل يتصرف في مال اليتيم


قال القرطبيُّ لما أذن الله عزَّ وجلَّ في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنَّظر إليهم وفيهم، كان ذلك دليلاً على جواز التَّصرف في مال اليتيم تصرف الوصيّ في البيع، والقسمة، وغير ذلك على الإطلاق لهذه الآية، فإذا كفل الرَّجل اليتيم، وحازه، وكان في نظره، جاز عليه فعله وإن لم يقدّمه والٍ عليه؛ لأنَّ الآية مطلقة والكفالة ولاية عامَّة، ولم يؤثر عن أحدٍ من الخلفاء أنَّه قدّم أحداً على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم، وإنَّما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم.
قوله: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ المخالطة: الممازجة، وقيل: جمع يتعذر فيه التّمييز ومنه يقال للجماع: الخلاط، ويقال: خولط الرجل إذا جُنَّ، والخلاط: الجنون؛ لاختلاط الأمر على صاحبه بزوال عقله.
قوله: «فَإِخْوَانُكُمْ» الفاء جواب الشّرط، و «إِخْوَانُكم» خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم إخوانكم. والجملة في محلِّ جزم جواب الشَّرط، والجمهور على الرَّفع، وقرأ أبو مجلز: «فَإِخْوَانُكُمْ» نصباً بفعل مقدَّر، أي: فقد خالطتهم إخوانكم، والجملة الفعليَّة أيضاً في محلِّ جزمٍ، وكأن هذه القراءة لم يطَّلع عليها الفراء وأبو البقاء فإن الفراء [قال] ولو
45
نصب كان صواباً، وقال أبو البقاء: «وَيَجُوزُ النَّصْبُ في الكَلاَم، أي: فقد خالطتُهم إخوانَكم».

فصل في بيان وجوه المخالطة


في هذه المخالطة وجوه:
أحدها: المراد بالمخالطة في الطَّعام، والشَّراب، والسُّكنى، والخدم؛ لأن القوم ميَّزوا طعامهم، وشرابهم، ومسكنهم عن طعام اليتيم، وشرابه، وسكنه فأمرهم الله تعالى بخلط الطَّعامين والشَّرابين، والاجتماع في السَّكن الواحد كما يفعله المرء بمال ولده، فإنَّ هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة.
الثاني: المراد بهذه المخالطة أن ينتفعوا بأموالهم بقدر ما يكون أجرة المثل في ذلك العمل. والقائلون بهذا القول، منهم من جوَّز ذلك سواء كان القيم غنيّاً، أو فقيراً، ومنهم من قال إن كان القيم غنياً لم يأكل من ماله؛ لأن ذلك فرض عليك وطلب الأجرة على العمل الواجب لا يجوز، واحتجوا بقوله: ﴿وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف﴾ [النساء: ٦] وإن كان القيِّم فقيراً قالوا: يأكل بقدر الحاجة، ويرده إذا أيسر فإن لم يوسر تحلله من اليتيم.
وروي عن عمر أنَّه قال: أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة وليّ اليتيم إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت قرضاً بالمعروف ثمَّ قضيت.
وعن مجاهد: إذا كان فقيراً، وأكل بالمعروف، فلا قضاء عليه.
الثالث: أنَّ المراد بهذه «المُخَالَطَةِ» المصاهرة بالنِّكاح، وهو اختيار أبي مسلم قال: لقوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣] وقوله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء﴾ [النساء: ١٢٧] وهذا القول راجحٌ على غيره من وجوه:
أحدها: أنَّ هذا خلط لليتيم نفسه، والشّركة خلط لماله.
وثانيها: أنَّ الشَّركة داخلةٌ في قوله: ﴿قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ﴾، والخلط من جهة النّكاح، وتزويج البَنَات منهم لم يدخل في ذلك فحمل الكلام على هذا الخلط أقرب.
46
وثالثها: أن قوله تعالى «فَإِخْوَانُكُم» يدلُّ على أنَّ المراد هو هذا النَّوع؛ لأنَّ اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى إصلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلماً؛ فوجب أن تكون الإشارة بقوله: «فَإِخْوَانُكُم» إلى نوع آخر من المخالطة.
ورابعها: أنَّ المخالطة المندوب إيها هي في اليتامى الذين هم إخوان لكم بالإسلام، فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم، ليتأكد الاختلاط فإن كان اليتيم من المشركين، فلا تفعلوا ذلك.
قال القرطبيُّ: ما ينفقه الوصيُّ والكفيل له حالتان:
حالة لا يمكنه الإشهاد عليها، فقوله مقبولٌ بغير بيِّنة.
وحالة يمكنه الإشهاد عليها، فمهما اشترى من العقار، وما جرت العادة بالتَّوثق فيه، لم يقبل قوله بغير بيّنة.
وفرّق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصيّ، وينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته، وكسوته، لأنَّه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله، ويلبسه في كلِّ وقت، ولكن إذا قال: انفقت نفقةً لسنةٍ، قبل منه، وبين أن يكون عند أُمّه، أو حاضنته فيدعي الوصي أنَّه كان ينفق عليه، أو كان يعطي الأمَّ أو الحاضنة فلا يقبل منه إلاَّ بيِّنَةٍ أنَّها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة.

فصل


قال أبو عبيد: هذه الآية عندي أصل لما يفعله الرُّفقاء في الأسفار، فإنَّهم يتقاسمون النَّفقات بينهم بالسَّويَّة، وقد يتفاوتون في قلَّة المطعم، وكثرته، وليس كلّ من قلَّ مطعمه تطيب نفسه بالتَّفضُّل على رفيقه، فلمَّا كان هذا في أموال اليتامى واسعاً؛ كان في غيرهم أوسع، ولولا ذلك لخفت أن يضيَّق فيه الأمر على النَّاس.
قوله تعالى: ﴿والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح﴾ ؛ أي: المفسد لأموالهم من المصلح لها، يعني: الذي يقصد بالمخالطة الخيانة، وإفساد مال اليتيم، وأكله بغير حقّ من الذي يقصد الإصلاح.
وقيل: «يَعْلَمُ» ضمير من أراد الإفساد، والطَّمع في مالهم بالنِّكاح من المصلح، يعني: إنَّكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح، فإذا لم تريدوا ذلك بقلوبكم، بل كان المراد منه عرضاً آخر [فالله مطَّلع] على ضمائركم عالمٌ بما في قلوبكم، وهذا تهديدٌ عظيمٌ؛ وذلك لأنّض اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه، وليس له أحدٌ يراعيها، فكأنَّه تعالى قال: لما لم يَكُنْ أَحَدٌ يَتَكَفَّلُ بمصالحه، فَأَنَا مُتَكَفِّلٌ به، وأنا المُطَالِبُ لوليّه بذلك.
47
تقدم الكلام في قوله: ﴿يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح﴾ في قوله: ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ﴾ [البقرة: ١٤٣]، والمفسد والمصلح جنسان هنا، وليس الألف واللام لتعريف المعهود، وهذا هو الظَّاهر. وقد يجوز أن تكون للعهد أيضاً.
وفي قوله: ﴿تُخَالِطُوهُمْ﴾ التفاتٌ من ضمير الغيبة في قوله: «وَيَسْأَلُونَكَ» إلى الخطاب لينبِّه السَّامع إلى ما يلقى إليه. ووقع جواب السُّؤال بجملتين.
إحداهما من مبتدأ، وخبر، وأبرزت ثبوتية منكِّرة المبتدإ لتدلَّ على تناوله كلَّ إصلاح على طريق البدليَّة، ولو أُضيفت لعمَّ، أو لكان معهوداً في إصلاح خاص، وكلاهما غير مرادٍ، أمَّا العموم، فلا يمكن، وأمَّا المعهود فلا يتناول غيره؛ فلذلك أُوثر التَّنكير الدَّالُّ على عموم البدل، وأُخبر عنه ب «خَيْر» الدَّالِّ على تحصيل الثَّواب، ليتبادر المسلم إليه. والآخر من شرطٍ، وجزاءٍ، دالّ على جواز الوقوع لا على طلبه وندبيَّته.
قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله﴾ مفعول «شَاءَ» محذوف، أي: إعناتكم. وجواب لو: «لأعنَتَكم».
[والمشهور قطع همزة «لأَعْنَتَكُم» ] ؛ لأنَّها همزة قطعٍ. وقرأ البزيُّ عن ابن كثير في المشهور بتخفيفها بين بين، وليس من أصله ذلك، وروي سقوطها ألبتَّة، وهي كقراءة: ﴿فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] شذوذاً وتوجيهاً. ونسب بعضهم هذه القراءة إلى وهم الرَّاوي، باعتبار أنه اعتقد في سماعه التَّخفيف إسقاطاً، لكنَّ الصَّحيح ثبوتها شاذةً.
و «العنت» : المشَقَّة و «الإعْنَات» الحمل على مشقَّةٍ لا تطاق، يقال: أعْنَتَ فلانٌ فلاناً، إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه، وتعنُّته تعنُّتاً: إذا لبَّس عليه في سؤاله، وعنت العظم المجبور: إذا انكسر بعد الجبر، وأكمةٌ عنوتٌ: إذا كانت شاقَّةً كدوداً، وعنت الدَّابَّة تَعَنَّت عَنَتاً: إذا حدث في قوائمها كسرٌ بعد جبرٍ، لا يمكنها معه الجري. قال ابن الأنباريّ: أصل العنت الشِّدَّةُ؛ تقول العرب: فلان يتعنت فلاناً، ويعنته إذا شدّد عليه، وألزمه ما يصعب عليه أداؤه.
وقال تعالى: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ [التوبة: ١٢٨]، أي: شديدٌ عليه ما شقّ عليكم.
ويقال: أعنتني في السُّؤال، أي: شدّد علي وطلب عنتي وهو الإضرارُ.
قال ابن عباس: لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً لكم.
48
وقال عطاءٌ: ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقَّة كما أدخلتم على أنفسكم، ولضيَّق الأمر عليكم في مخالطتهم.
وقال الزَّجَّاج: ولو شاء الله لكلفكم ما شقَّ عليكم.
والعزيز الذي يأمر بعزة سهل على العبد، أو شقَّ.
والحكيم الذي يتصرّف في ملكه بما يريده لا حجَّة عليه، أو يضيع الأشياء في مواضعها.
فضل في بيان التكليف بما لا يطاق
احتجَّ الجبَّائيُّ بهذه الآية على أنَّه تعالى لم يكلِّف العبد ما لا يقدر عليه؛ لأنَّ قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ﴾ يدلُّ على أنَّه لم يفعل الإعنات، ولا ضيق في التَّكليف، ولو كلَّف العبد ما لا يقدر عليه؛ لكان قد تجاوز حدّ الإعنات، والتَّضييق؛ لأنَّ كلمة «لَوْ» تفيد امتناع الشَّيء لامتناع غيره.
فإن قيل: الآية وردت في حقّ اليتيم.
قلنا: الاعتبار بعموم اللَّفظ، لا بخصوص السَّبب.
واحتجَّ الكعبي بهذه الآية على أنَّه تعالى قادرٌ على خلاف العدل؛ لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعنات، لم يجز أن يقول: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ﴾، وللنِّظَّام أن يجيب بأنَّ هذا معلَّق على مشيئة الإعناتِ، فلم قلتم بأنَّ هذه المشيئة ممكنةٌ الثُّبوت في حقِّه تعالى.
49
فصل
قوله تعالى :﴿ فِي الدُّنْيَا ﴾ : فيه خسمة أوجهٍ :
أظهرها : أن يتعلَّق بيتفكّرون على معنى : يتفكَّرون في أمرهما، فيأخذون ما هو الأصلح، ويؤثرون ما هو أبقى نفعاً.
والثاني : أن يتعلَّق بـ " يبيِّن "، ويروى معناه عن الحسن، وحينئذٍ يحتمل أن يقدَّر مضاف، أي : في أمر الدُّنيا والآخرة، ويحتمل ألاَّ يقدَّر، لأنَّ بيان الآيات، وهي العلامات يظهر فيها. وجعل بعضهم قول الحسن من التَّقديم، والتأخير، أي : ليس لذلك يبيِّن الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا وزوالها وفنائها، فتزهدون فيها، وفي إقبال الآخرة، ووقوعها، فترغبون فيها. ثم قال : ولا حَاجَةَ لِذَلِكَ، لحَمْلِ الكَلاَمِ على ظاهره، يعني من تعلُّق في الدُّنيا بـ " تَتَفَكَّرُونَ ". وهذا ليس من التَّقديم والتَّأخير في شيء ؛ لأنَّ جملة التَّرجِّي جاريةٌ مجرى العلَّة فهي متعلِّقةٌ بالفعل معنى، وتقديم أحد المعمولات على الآخر، لا يقال فيه تقديم وتأخير ويحتمل أن تكون اعتراضيةً، فلا تقديم، ولا تأخير.
والثالث : أن تتعلَّق بنفس " الآيَاتِ " لما فيها من معنى الفعل، وهو ظاهر قول مكي فيما فهمه عنه ابن عطيَّة. قال مكِّيٌّ :" معنى الآية أنه يبيِّن للمؤمنين آياتٍ في الدُّنيا، والآخرة يدلُّ عليها، وعلى منزلتها لعلَّهم يتفكَّرون في تلك الآياتِ " قال ابن عطيَّة :" فقوله : في الدنيا : يتعلَّق على هذا التَّأويل بالآيات " وما قاله عنه ليس بظاهرٍ ؛ لأنَّ شرحه الآية لا يقتضي تعلُّق الجار بالآيات. ثمَّ إنْ عَنَى ابن عطية بالتعلّق التعلُّق الاصطلاحي، فقال أبو حيان " فو فَاسِدٌ، لأنَّ " الآيَاتِ " لا تَعْمَلُ شيئاً الْبَتَّةَ، ولا يَتَعَلَّقُ بها ظَرْفٌ، ولا مَجْرُورٌ " وقال شِهَابُ الدِّين : وهذا من الشَّيخ فيه نظرٌ، فإنَّ الظُّروف تتعلَّق بروائح الأفعال، ولا شكّ أنَّ معنى الآيات العلامات الظَّاهرة، فيتعلَّق بها الظَّرف على هذا. وإن عنى التَّعلُّق المعنويَّ، وهو كون الجارِّ من تمام معنى :" الآيَاتِ "، فذلك لا يكون إلاّ إذا جعلنا الجارَّ حالاً من " الآيَات "، ولذلك قدَّرها مكِّيٌّ نكرة فقال :" يبيِّن لهم آياتٍ في الدُّنْيَا " ليعلم أنَّها واقعةٌ موقع الصِّفة لآيات، ولا فرق في المعنى بين الصِّفة والحال، فيما نحن بصدده، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ لوقوعها صفةٌ.
الرابع : أن تكون حالاً من " الآيَاتِ " كما تقدَّم تقريره الآن.
الخامس : أن تكون صلةً للآيات، فتتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً، وذلك مذهب الكوفيين، فإنَّهم يجعلون من الموصولات الاسم المعرَّف بأل ؛ وأنشدوا :[ الطويل ]
لَعَمْرِي لأَنْتَ البَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ وَأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ٥٦
فـ " البيت " عندهم موصولٌ.
وجوابهم مذكور في غير هذا الكتاب.
والتَّفكُّر : تفعل من الفكر، والفكر : الذِّهن، فمعنى تفكَّر في كذا : أجال ذهنه فيه وردَّده.
قوله تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ﴾.
قال ابن عبَّاس : إنَّ أهل الجاهليَّة كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى، وربَّما تزوَّجوا باليتيمة طمعاً في مالها أو يزوجها من ابن له لئلاَّ يخرج مالها عن يده، فلمَّا نزل قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً ﴾ [ النساء : ١٠ ] وقوله :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ]، وقوله :﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً ﴾ [ النساء : ١٢٧ ] فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى، والمقاربة من أموالهم والقيام بأمورهم، وتحرَّج المسلمون من أموال اليتامى تحرُّجاً شديداً، وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم، حتَّى كان يصنع لليتيم طعاماً، فيفضل منه شيءٌ، فيتركونه، ولا يأكلونه حتَّى يفسد، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلاً، وطعاماً، وشراباً، فعظم ذلك على ضعفة المسلمين، فقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ما كلُّنا يجد منازل يسكنها الأيتام، ولا كلُّنا يجد طعاماً، وشراباً، يفردهما لليتيم فنزلت هذه الآية٥٧//.
قوله :﴿ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ﴾، " إصْلاَحٌ " مبتدأ، وسوَّغ الابتداء به أحد شيئين : إمَّا وصفه بقوله :" لَهُم "، وإمَّا تخصيصه بعمله فيه، و " خيرٌ " خبره. و " إصْلاَحٌ " مصدرٌ حذف فاعله، تقديره : إصلاحكم لهم، فالخبريَّة للجانبين أعني جانب المصلح، والمصلح له، وهذا أولى من تخصيص أحد الجانبين بالإصلاح كما فعل بعضهم.
قال أبو البقاء٥٨ :" فَيَجُوزُ أن يَكُونَ التَّقْدِيرُ : خيرٌ لكم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ : خَيْرٌ لَهُم "، أي : إصلاحهم نافع لكم.
قال بعض العلماء : هذه الكلمة تجمع النَّظر في إصلاح اليتيم بالتَّقويم والتَّأديب وغيرهما لكي ينشأ على علمٍ وأدبٍ وفضلٍ، والنَّظر في إصلاح حاله، وتجمع أيضاً النَّظر في حال الولي، أي : هذا العمل خير له من أن يكون مقصّراً في حقّ اليتيم.
وقال بعضهم : الخير عائد إلى الولي، يعني إصلاح مالهم من غير عوض، ولا أجرة، خير للولي، وأعظم أجراً.
وقال آخرون : الخير عائدٌ إلى اليتيم، والمعنى : أنَّ مخالطتهم بالإصلاح خيرٌ لهم من التَّفرُّد عنهم، والإعراض عن مخالطتهم.

فصل في هل يتصرف في مال اليتيم


قال القرطبيُّ٥٩ لما أذن الله عزَّ وجلَّ في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنَّظر إليهم وفيهم، كان ذلك دليلاً على جواز التَّصرف في مال اليتيم تصرف الوصيّ في البيع، والقسمة، وغير ذلك على الإطلاق لهذه الآية، فإذا كفل الرَّجل اليتيم، وحازه، وكان في نظره، جاز عليه فعله وإن لم يقدّمه والٍ عليه ؛ لأنَّ الآية مطلقة والكفالة ولاية عامَّة، ولم يؤثر عن أحدٍ من الخلفاء أنَّه قدّم أحداً على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم، وإنَّما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم.
قوله :﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ المخالطة : الممازجة، وقيل : جمع يتعذر فيه التّمييز ومنه يقال للجماع : الخلاط، ويقال : خولط الرجل إذا جُنَّ، والخلاط : الجنون ؛ لاختلاط الأمر على صاحبه بزوال عقله.
قوله :" فَإِخْوَانُكم " الفاء جواب الشّرط، و " إِخْوَانُكم " خبر مبتدأ محذوف، أي : فهم إخوانكم. والجملة في محلِّ جزم جواب الشَّرط، والجمهور على الرَّفع، وقرأ أبو مجلز :" فَإِخْوَانَكُمْ " نصباً بفعل مقدَّر، أي : فقد خالطتم إخوانكم، والجملة الفعليَّة أيضاً في محلِّ جزمٍ، وكأن هذه القراءة لم يطَّلع عليها الفراء وأبو البقاء فإن الفراء [ قال ] ولو نصب كان صواباً، وقال أبو البقاء :" وَيَجُوزُ النَّصْبُ في الكَلاَم، أي : فقد خالطتُم إخوانَكم ".

فصل في بيان وجوه المخالطة


في هذه المخالطة٦٠ وجوه :
أحدها : المراد بالمخالطة في الطَّعام، والشَّراب، والسُّكنى، والخدم ؛ لأن القوم ميَّزوا طعامهم، وشرابهم، ومسكنهم عن طعام اليتيم، وشرابه، وسكنه فأمرهم الله تعالى بخلط الطَّعامين والشَّرابين، والاجتماع في السَّكن الواحد كما يفعله المرء بمال ولده، فإنَّ هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة.
الثاني : المراد بهذه المخالطة أن ينتفعوا بأموالهم بقدر ما يكون أجرة المثل في ذلك العمل. والقائلون بهذا القول، منهم من جوَّز ذلك سواء كان القيم غنيّاً، أو فقيراً، ومنهم من قال إن كان القيم غنياً لم يأكل من ماله ؛ لأن ذلك فرض عليك وطلب الأجرة على العمل الواجب لا يجوز، واحتجوا بقوله :﴿ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [ النساء : ٦ ] وإن كان القيِّم فقيراً قالوا : يأكل بقدر الحاجة، ويرده إذا أيسر فإن لم يوسر تحلله من اليتيم.
وروي عن عمر أنَّه قال : أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة وليّ اليتيم إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت قرضاً بالمعروف ثمَّ قضيت٦١.
وعن مجاهد : إذا كان فقيراً، وأكل بالمعروف، فلا قضاء عليه٦٢.
الثالث : أنَّ المراد بهذه " المُخَالَطَةِ " المصاهرة بالنِّكاح، وهو اختيار أبي مسلم٦٣ قال : لقوله :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ ﴾ [ النساء : ٣ ] وقوله :﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ ﴾ [ النساء : ١٢٧ ] وهذا القول راجحٌ على غيره من وجوه٦٤ :
أحدها : أنَّ هذا خلط لليتيم نفسه، والشّركة خلط لماله.
وثانيها : أنَّ الشَّركة داخلةٌ في قوله :﴿ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ﴾، والخلط من جهة النّكاح، وتزويج البَنَات منهم لم يدخل في ذلك فحمل الكلام على هذا الخلط أقرب.
وثالثها : أن قوله تعالى " فَإِخْوَانُكُم " يدلُّ على أنَّ المراد هو هذا النَّوع ؛ لأنَّ اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى إصلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلماً ؛ فوجب أن تكون الإشارة بقوله :" فَإِخْوَانُكُم " إلى نوع آخر من المخالطة.
ورابعها : أنَّ المخالطة المندوب إليها هي في اليتامى الذين هم إخوان لكم بالإسلام، فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم، ليتأكد الاختلاط فإن كان اليتيم من المشركين، فلا تفعلوا ذلك.
قال القرطبيُّ٦٥ : ما ينفقه الوصيُّ والكفيل له حالتان :
حالة لا يمكنه الإشهاد عليها، فقوله مقبولٌ بغير بيِّنة.
وحالة يمكنه الإشهاد فمهما اشترى من العقار، وما جرت العادة بالتَّوثق فيه، لم يقبل قوله بغير بيّنة.
وفرّق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصيّ، وينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته، وكسوته، لأنَّه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله، ويلبسه في كلِّ وقت، ولكن إذا قال : أنفقت نفقةً لسنةٍ، قبل منه، وبين أن يكون عند أُمّه، أو حاضنته فيدعي الوصي أنَّه كان ينفق عليه، أو كان يعطي الأمَّ أو الحاضنة فلا يقبل منه إلاَّ بيِّنَةٍ أنَّها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة.

فصل


قال أبو عبيد : هذه الآية عندي أصل لما يفعله الرُّفقاء في الأسفار، فإنَّهم يتقاسمون النَّفقات بينهم بالسَّويَّة، وقد يتفاوتون في قلَّة المطعم، وكثرته، وليس كلّ من قلَّ مطعمه تطيب نفسه بالتَّفضُّل على رفيقه، فلمَّا كان هذا في أموال اليتامى واسعاً ؛ كان في غيرهم أوسع، ولولا ذلك لخفت أن يضيَّق فيه الأمر على النَّاس.
قوله تعالى :﴿ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾ ؛ أي : المفسد لأموالهم من المصلح لها، يعني : الذي يقصد بالمخالطة الخيانة، وإفساد مال اليتيم، وأكله بغير حقّ من الذي يقصد الإصلاح.
وقيل :" يَعْلَمُ " ضمير من أراد الإفساد، والطَّمع في مالهم بالنِّكاح من المصلح، يعني : إنَّكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح، فإذا لم تريدوا ذلك بقلوبكم، بل كان المراد منه عرضاً آخر [ فالله مطَّلع ]٦٦ على ضمائركم عالمٌ بما في قلوبكم، وهذا تهديدٌ عظيمٌ ؛ وذلك لأنَّ اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه، وليس له أحدٌ يراعيها، فكأنَّه تعالى قال : لما لم يَكُنْ أَحَدٌ يَتَكَفَّلُ بمصالحه، فَأَنَا مُتَكَفِّلٌ به، وأنا المُطَالِبُ لوليّه بذلك.
تقدم الكلام في قوله :﴿ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾ في قوله :﴿ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ]، والمفسد والمصلح جنسان هنا، وليس الألف واللام لتعريف المعهود، وهذا هو الظَّاهر. وقد يجوز أن تكون للعهد أيضاً.
وفي قوله :" تُخَالِطُوهُمْ " التفاتٌ من ضمير الغيبة في قوله :" وَيَسْأَلُونَكَ " إلى الخطاب لينبِّه السَّامع إلى ما يلقى إليه. ووقع جواب السُّؤال بجملتين :
إحداهما من مبتدأ، وخبر، وأبرزت ثبوتية منكَّرة المبتدإ لتدلَّ على تناوله كلَّ إصلاح على طريق البدليَّة، ولو أُضيفت لعمَّ، أو لكان معهوداً في إصلاح خاص، وكلاهما غير مرادٍ، أمَّا العموم، فلا يمكن، وأمَّا المعهود فلا يتناول غيره ؛ فلذلك أُوثر التَّنكير الدَّالُّ على عموم البدل، وأُخبر عنه ب " خَيْر " الدَّالِّ على تحصيل الثَّواب، ليتبادر المسلم إليه. والآخر من شرطٍ، وجزاءٍ، دالّ على جواز الوقوع لا على طلبه وندبيَّته.
قوله :﴿ وَلَوْ شَاءَ اللهُ ﴾ مفعول " شَاءَ " محذوف، أي : إعناتكم. وجواب لو :" لأعنَتَكم ".
[ والمشهور قطع همزة " لأَعْنَتَكُم " ] ؛ لأنَّها همزة قطعٍ. وقرأ البزيُّ٦٧ عن ابن كثير في المشهور بتخفيفها بين بين، وليس من أصله ذلك، وروي سقوطها البتَّة، وهي كقراءة :﴿ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [ البقرة : ١٧٣ ] شذوذاً وتوجيهاً. ونسب بعضهم هذه القراءة إلى وهم الرَّاوي، باعتبار أنه اعتقد في سماعه التَّخفيف إسقاطاً، لكنَّ الصَّحيح ثبوتها شاذةً.
و " العنت " : المشَقَّة و " الإعْنَات " الحمل على مشقَّةٍ لا تطاق، يقال : أعْنَتَ فلانٌ فلاناً، إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه، وتعنُّته تعنُّتاً : إذا لبَّس عليه في سؤاله، وعنت العظم المجبور : إذا انكسر بعد الجبر، وأكمةٌ عنوتٌ : إذا كانت شاقَّةً كدوداً، وعنت الدَّابَّة تَعَنَّت عَنَتاً : إذا حدث في قوائمها كسرٌ بعد جبرٍ، لا يمكنها معه الجري.
قال ابن الأنباريِّ٦٨ : أصل العنت الشِّدَّةُ ؛ تقول العرب : فلان يتعنت فلاناً، ويعنته إذا شدّد عليه، وألزمه ما يصعب عليه أداؤه. وقال تعالى :{ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
الجمهور على فتح تاء المضارعة، وقرأ الأعمش بضمِّها من: أنكح الرباعي،
49
فالهمزة فيه للتَّعدية، وعلى هذا فأحد المفعولين محذوفٌ، وهو المفعول الأوَّل؛ لأنه فاعلٌ معنّى تقديره: ولا تنكحوا أنفسكم المشركات.
والنِّكاح في الأصل عند العرب: لزوم الشَّيء، والإكباب عليه؛ ومنه: «نَكَحَ المَطَرُ الأَرْضَ»، حكاه ثعلبٌ عن أبي زيد، وابن الأعرابي.
قال الزَّجَّاجيُّ: «النّكاح في الكلام بمعنى الوطء، والعقد جميعاً، موضوع (ن. ك. ح) على هذا التَّرتيب في كلامهم للفرد والشَّيء راكباً عليه هذا كلام العرب الصَّحيح».
أصله المداخلة؛ ومنه: تناكحت الشَّجر: أي: تداخلت أغصانها؛ ويطلق النِّكاح على العقد؛ كقول الأعشى: [الطويل]
١٠٧٤ - وَلاَ تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا حَرَامٌ عَلَيْكَ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا
أي: فاعْقِدْ، أو توحَّش، وتجنَّب النِّساء، ويطلق أيضاً على الوطء؛ كقوله: [البسيط]
١٠٧٥ - البَارِكِينَ عَلَى ظُهُورِ نِسْوَتِهِمْ والنَّاكِحِينَ بِشَطِّ دَجْلَةَ الْبَقَرَا
وحكى الفرَّاء «نُكُح المَرْأَةِ» بضمِّ النُّون على بناء «القُبُل»، و «الدُّبُر»، وهو بضعها، فمعنى قولهم: «نَكَحَها» أي أصاب ذلك الموضع، نحو: كَبَدَهُ، أي أصاب كبده، وقلَّما يقال: ناكحها، كما يقال باضعها.
وقال أبو علي: فَرَّقَتِ العَرَبُ بين العَقْدِ والوَطْءِ بِفَرْقِ لَطِيفٍ، فإذا قالوا: «نَكَحَ فُلاَنٌ فُلاَنَةٌ، أو ابنةَ فلانٍ»، أرادوا عقد عليها، وإذا قالوا: نَكَحَ امرأته، أو زوجته، فلا يريدون غير المجامعة، وهل إطلاقه عليهما بطريق الحقيقة فيكون من باب الاشتراك، أو بطريق الحقيقة والمجاز؟ الظَّاهر: الثاني: فإنَّ المجاز خيرٌ من الاشتراك، وإذا قيل بالحقيقة، والمجاز فأيهما حقيقة؟ ذهب قوم إلى أنَّه حقيقةٌ في العقد واحتجوا بوجوهٍ:
منها: قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «لاَ نِكَاحَ إلاَّ بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ»، وقَّف النِّكاح
50
على الوليّ، والشُّهود، والمراد به العقد، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ، وَلَمْ أَولَدْ مِنْ سِفَاحٍ» فجعل النّكاح، كالمقابل للسِّفاح.
ومعلومٌ أنَّ السِّفاح مشتملٌ على الوطء، فلو كان النِّكاح اسماً للوطء، لا متنع كون النِّكاح مقابلاً للسِّفاح، وقال تعالى: ﴿وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ﴾ [النور: ٣٢] ولا يمكن حمله إلاَّ على العقد.
وأيضاً قول الأعشى في البيت المتقدِّم لا يحتمل إلاَّ الأمر بالعقد؛ لأنه قال: «ولاَ تَقْرَبَنَّ جَارَةً» يعني مقاربتها على الطَّريق الَّذي يحرُمُ فاعقدْ وتزوَّج، وإلاَّ فتأيَّم، وتجنَّبِ النِّساء.
وقال الرَّاغب: أصْلُ النِّكَاحِ للعقدِ، ثم اسْتُعِيرَ للجِمَاعِ، ومُحَالٌ أن يَكُونَ في الأَصْلِ للجِمَاعِ، ثم استُعِير لِلْعَقْدِ، لأنَّ أَسْمَاءَ الجِمَاعِ كلَّها كِنَايَاتٌ لاستقباحِهم ذِكْرَه؛ كاستقباحهم تَعاطِيَهُ، ومُحالٌ أن يستعيرَ مَنْ لا يَقْصِدُ فُحْشاً اسمَ مَا لاَ يَسْتَفْظِعُونَهُ لِمَا يَسْتَحْسِنُونَهُ؛ قال تعالى: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾
[النساء: ٣].
وقال آخرون: هو حقيقةٌ في الوطء، واحتجوا بوجوه:
منها قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] نفي الحل ممتدٌّ إلى غاية النِّكاح، وليس هو العقد؛ ومنها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» ؛ فوجب أن يكون هو الوطء.
51
وأجيب بأن امرأة رفاعة، لم تفهم عند الإطلاق إلاَّ مجرَّد العقد؛ حتى قال لها عليه الصَّلاة والسَّلام: «لاَ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ».
ومنه: قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «نَاكِحُ اليَدِ مَلْعُونٌ، وَنَاكِحُ البَهِيمَةِ مَلْعُونٌ» أثبت النِّكاح [مع عدم العقدِ.
والنِّكاحُ] في اللُّغة عبارة عن الضمّ، والمداخلة كما تقدَّم في المطر، والأرض، وتناكح الشَّجر، ونكح النُّعاس عينه، وفي المثل:
«نَكَحْنَا الفَرى فَسَتَرَى» والبيت المتقدم، وقوله: [البسيط]
١٠٧٦ - أنكحْتُ صُمَّ حَصَاهَا خُفَّ يَعْمَلةٍ تَغَشْمَرَتْ بي إِلَيْكَ السَّهْلَ والجَبَلاَ
والضَّمُّ والوطء في المباشرة أتَمُّ منه في العقد.
وأجيب بأنَّ هذه قرائن صارفةٌ له عن حقيقته.

فصل في هل يتناول المشرك أهل الكتاب؟


لفظ «المُشْرِك» ؛ هل يتناول أهل الكتاب؟
فالأكثرون على أنَّ الكتابة تشمل لفظ المشرك، ويدلُّ عليه وجوه:
أحدها: قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله﴾ [التوبة: ٣٠]، ثم قال بعد ذلك: ﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: ٣١] وهذا تصريحٌ بأن اليهوديَّ، والنَّصرانيّ مشركٌ.
وثانيها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨]، فدلت هذه الآية على أنَّ ما سوى الشّرك فقد يغفره الله تعالى في الجملة، فلو كان كفر اليهوديِّ والنَّصرانيّ ليس بشرك، لوجب أن يغفره الله تعالى في الجملة، وذلك باطلٌ، فعلمنا أنَّ كفرهما شركٌ.
وثالثها: قوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ [المائدة: ٧٣]
52
فهذا التَّثليث إمَّا أن يكون لاعتقادهم وجود صفاتٍ ثلاثة أو لاعتقادهم وجود ذوات ثلاثة.
والأول باطلٌ؛ لأن المفهوم من كونه تعالى عالماً غير المفهوم من كونه قادراً، ومن كونه حيّاً، وإذا كانت هذه المفهومات الثَّلاثة لا بدّ من الاعتراف بها كان القول بإثبات صفاتٍ ثلاثة من ضرورات دين الإسلام، فكيف يمكن تكفير النَّصارى بسبب ذلك؛ ولمَّا بطل ذلك علمنا أنَّه تعالى إنَّما كفَّرهم؛ لأنَّهم أثبتوا ذواتاً ثلاثةً قديمةً مستقلَّةً؛ وذلك لأنهم جوَّزوا في أُقنُوم الكلمة أن يحلّ في عيسى، والأُقْنُومُ عندهم عبارةٌ عن حقيقة الشَّيءِ، وجوَّزوا في أُقْنُومِ الحَيَاةِ أن يحلّ في مريم، ولولا أنَّ هذه الأشياء المسمَّاة عندهم بالأقانيم ذوات قامة بأنفسَها؛ لمّا جوَّزوا عليه الانتقال من ذوات إلى ذاتٍ، فثبت أنهم قائلون بإثبات ذوات قائمة بالنَّفْس قديمة أزليَّة، وهذا شركٌ. وإذا ثبت دخولهم تحت اسم الشِّرك، فاليهود كذلك إذ لا قائل بالفرق.
ورابعها: أنّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - أمَّر أميراً، وقال: «إذا لقيت عدوّاً مِنَ المُشْرِكِينَ؛ فَادْعُهُم إلى الإِسْلاَمِ، فإنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُم وَكُفَّ عَنْهُم، وَإِنْ أَبوا، فادْعُهُم إِلى الجِزْيَةِ، وَعَقْدِ الذِّمَّةِ».
وخامسها: قال أبو بكر الأصمُّ: كلُّ من جحد الرِّسالة، والمعجزة، فهو مشركٌ؛ لأن تلك المعجزات إنَّما ظهرت عن الله تعالى، وكانوا يضيفونها إلى الجنِّ والشَّياطين، ويقولون: إنَّها سحرٌ، فقد أثبتوا لله شريكاً في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر.
وقال أبو الحسن بن فارس: هم المشركون؛ لأنَّهم يقولون: القرآن كلام غير الله، فقد أشركوا مع الله غير الله.
فإن قيل: إنَّه تعالى فصل بين القسمين، وعطف أحدهما على الآخر في قوله: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين﴾ [البقرة: ٦٢] وقال: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا﴾ [الحج: ١٧] وقال: ﴿مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين﴾ [البقرة: ١٠٥] وذلك يوجب التَّغاير.
والجواب أنَّ هذا كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ﴾ [الأحزاب: ٧] وكقوله تعالى: ﴿مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨] فإن قالوا: إنَّما خصَّ بالذِّكر تنبيهاً على كمال الدَّرجة في ذلك الوصف.
53
قلنا: وها هنا أيضاً كذلك إنَّما خصَّ عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الاسم تنبيهاً على كمال درجتهم في الكفر.

فصل في سبب النزول


سبب نزول هذه الآية: أنَّ أبا مرثد بن أبي مرثد بعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى «مَكَّة»، ليخرج منها ناساً من المسلمين سرّاً فلما قدمها سمعت به امرأة مشركةٌ يقال لها: «عنَاق» ؛ وكانت خليلته في الجاهليَّة فأتته وقالت: يا أبا مرثد ألا تخلو؟ فقال لها: ويحك يا عَنَاق إنَّ الإسلام قد حال بَيْنَنَا وبَيْنَ ذلك. قالت: هل لك أن تتزوَّج بي؟ قال: نعم، ولكن أرجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأستأمره. فقالت: أبي تتبرم؟ ثم استغاثت؛ فضربوه ضرباً شديداً، ثمَّ خلَّوا سبيله، فلمَّا قضى حاجته بمكَّة، وانصرف إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعلمه الذي كان من أمره، وأمر عناق، وقال: يا رسول الله؛ أيحلُّ لي أن أتزوَّجها؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ﴾ [البقرة: ٢٢١].

فصل في الآية هل هي ابتداء حكم أو تقرير سابق


واختلف المفسِّرون في هذه الآية: هل هي ابتداء حكم وشرع، أو هو متعلّقٌ بما تقدَّم؛ فالأكثرون على أنَّه ابتداء شرعٍ في بيان ما يحلُّ، ويحرم.
وقال أبو مسلم: بل هو متعلِّق بقصَّة اليتامى، فإنَّ الله تعالى لما قال: ﴿وإنْ تُخَالِطُوهم فَإِخْوَانُكُمْ﴾ وأراد مخالطة النِّكاح عطف عليه بما يبعث على الرَّغبة في اليتامى، وأنَّ ذلك أولى ممَّا كانوا يتعاطونه من الرَّغبة في المشركات، وبيَّن أنَّ أمةً مؤمنةً خيرٌ من مشركة، فإنها بلغت النِّهاية فيما يُفْضي إلى الرَّغبة فيها ليدلَّ بذلك على ما يبعث على التَّزوُّج بالتيامى، وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعيةً لما أمر به من النَّظر في صلاحهم وصلاح أموالهم.
وعلى الوجهين، فحكم الآية لا يختلف.

فصل في بيان جواز نكاح الكتابيَّة


الأكثرون من الأُمَّة قالوا: يجوز للرَّجل أن يتزوَّج بالكتابيَّة. وقال ابن عمر، ومحمَّد بن الحنفيَّة، والهادي - وهو أحد أئمَّة الزَّيديَّة - إنَّ ذلك حرامٌ، واستدلَّ الجمهور بقوله تعالى في سورة المائدة: ﴿والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ [المائدة: ٥] وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء أصلاً.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من آمن منهنّ بعد الكفر، ومن كان على الإيمان من أول الأمر؟
54
قلنا: قوله: ﴿مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٨٦ والمائدة: ٥ والمائدة: ٥٧] يفيد حصلو هذا الوصف في حال الإباحة، ويدلُّ على ذلك فعلُ الصحابة، فإنهم كانوا يتزَّجون الكتابيَّات، ولم يظهر من أحد منهم إنكار ذلك وكان إِجماعاً على الجواز، كما نقل أنَّ حذيفة تزوَّج يهوديَّةٌ، أو نصرانية، فكتب إليه: أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ فقال: لا، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهنَّ.
وتزوج عثمان نائلة بنت فرافصة، وكانت نصرانيَّة؛ فأسلمت تحته، وتزوَّج طلحة بن عبيد الله يهوديَّة.
وعن جابر بن عبد الله أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «نَتَزَوَّجُ نِسَاءَ أَهْلِ الكِتَابِ، وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَنَا».
وروى عبد الرَّحمن بن عوفٍ أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام قال في المجوس: «سِنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائهم، وَلاَ آكلي ذَبَائِحِهِمْ» ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً، لكان هذا الاستثناء عبثاً.
وقال قتادة وسعيد بن جبير: أراد ب «المُشْرِكَاتِ» في الآية الوَثَنِيَّاتِ.
واحتجَّ القائلون بعدم الجواز بوجوه:
أحدها: أنَّ لفظ «المُشْرِك» يتناول الكتابيَّة على ما بيَّنَّاه، والتَّخصيص والنَّسخ خلافُ الظَّاهر.
قالوا: ويؤيِّد ذلك قوله في آخر الآية: ﴿أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار﴾ والوصف المناسب إذا ذكر عقيب الحكم أشعر بالعِلِّيَّة، وكأنه تعالى قال: حَرَّمْتُ عليكم نِكَاح المُشْرِكَاتِ؛ لأنَّهم يدعُونَ إِلَى النَّارِ وهذه العِلَّةُ قَائِمَةٌ في الكِتَابِيَّةِ، فوجب القطع بتحريمها.
وثانيها: أنَّ ابن عمر لما سئل عن هذه المسألة تلا آية التَّحريم وآية التَّحليل، ووجه
55
الاستدلال: أنَّ الأصل في الأبضاع الحرمة فلما تعارض دليلُ الحلِّ، ودليل الحرمة تساقطا؛ فوجب بقاء حكم الأصل، وبهذا الطريق لما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين قال: أحلَّتهما آيةٌ، وحرَّمتهما آية، فحكم عند ذلك بالتَّحريم للسَّبب الذي ذكرناه، فكذا ها هنا.
وثالثها: حكى ابن جرير الطَّبريُّ في «تَفْسِيرِهِ» عن ابن عبَّاسٍ تحريم أصناف النِّساء إلاَّ المؤمنات، واحتجَّ بقوله: ﴿فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ [المائدة: ٥]، وإذا كان كذلك فالكتابيَّة كالمرتدَّة في أنه لا يجوز العقد عليها.
ورابعها: أنَّ طلحة نكح يهوديَّة، وحذيفة نصرانيَّة، فغضب عمر عليهما غضباً شديداً، فقالا: نطلق يا أمير المؤمنين، فلا تغضب.
فقال: إنَّ من أحلَّ طلاقهنَّ، فقد أحلَّ نكاحهنَّ، ولكن أنتزعهنَّ منكما.
وأجيب عن الأوَّل بأنَّ من قال: الكتابيُّ لا يدخل تحت اسم المشرك، فالإشكال عنه ساقطٌ، ومن سلَّم ذلك، قال إنَّ قوله تعالى: ﴿والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: ٥] أخص من هذه الآية، فإذا كانت هذه الحرمة ثاتبةً، ثم زالت كان قوله: «والمُحْصَنَاتُ» ناسخاً، وإن لم تثبت الحرمة كانت مخصَّصة، وإن كان النَّسخ والتَّخصيص خلاف الأصل إلاَّ أنَّه إنما لما كان لا سبيل إلى التَّوفيق بين الآيتين إلاَّ بهذا الطَّريق؛ وجب المصير إليه.
وقولهم: إنَّ نكاح الوثنيَّة إنَّما حرِّم؛ لأنَّها تدعو إلى النَّار، وهذا المعنى موجودٌ في الكتابيَّة.
قلنا: الفرق بينهما أنَّ المشركة متظاهرةٌ بالمخالفة، فلعلَّ الزَّوجَ يحبُّها، ثم إنَّها تحمله على مقاتلة المسلمين، وهذا المعنى غير موجود في الذِّمِّيَّة؛ لأنها مقهورةٌ راضيةٌ بالذِّلَّة، والمسكنة، فلا يتضمن نكاحها المقاتلة.
وقولهم: تعارضت آية التَّحريم، وآية التَّحليل. قلنا: آية التَّحليل خاصَّة، ومتأخِّرةٌ بالإجماع؛ فوجب تقديمها على آية التَّحريم، بخلاف الآيتين، بالجمع بين الأختين في ملك اليمين، لأنَّ كلَّ واحدةٍ منهما أخصُّ من الأُخرى من وجهٍ، وأعمُّ من وجهٍ آخر، فلم يحصل فيه سبب التَّرجيح.
56
وأمَّا التَّمسُّكُ بقوله: «فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه» فجوابه: أنَّا لما فرَّقنا بين الكتابيَّة وبين المرتدَّة في أحكامٍ كثيرةٍ، فلم لا يجوز الفرق بينهما أيضاً في هذا الحكم؟
أمَّا تمسُّكهم بأثر عمر، فقد نقلنا عنه أنَّه قال: ليس بحرامٍ، وإذا حصل التَّعارض بينهما؛ سقط الاستدلال بهما، وسلم باقي الأدلَّة.

فصل في نكاح الكتابيَّات


قال القرطبيُّ: وأمَّا نكاحُ أهل الكتاب إذا كانوا حرباً، فلا يحلُّ.
وسئل ابن عباس عن ذلك، فقال: لا تحلُّ، وتلا قوله تعالى: ﴿قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] قال الرَّاوي: تحدَّث بذلك إبراهيم النَّخعيُّ، فأعجبه.

فصل


نقل عن الحسن أنَّه قال: هذه الآية ناسخةٌ لما كانوا عليه من تزويج المشركات.
قال بعض العلماء: إن كان إقدامهم على نكاح المشركات من قبل العادة، لا من قبل الشَّرع؛ امتنع كون هذه الآية ناسخةً؛ لأنَّه ثبت في الأصول أنَّ النَّاسخَ والمنسوخَ يجب أن يكونا حكمين شرعيين، وإن كان جواز نكاح المشركات ثابتاً من جهة الشَّرع، كانت هذه الآية ناسخةٌ.
قوله: ﴿حتى يُؤْمِنَّ﴾ «حَتَّى» بمعنى: «إلى» فقط، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أَنْ»، أي: إلى أن يؤمنَّ، وهو مبنيٌّ على المشهور لاتصاله بنون الإناث، والأصل: يؤمنن، فأدغمت لام الفعل في نون الإناث.

فصل في بيان قوله تعالى ﴿حتى يُؤْمِنَّ﴾


اتَّفق الكلُّ على المراد من قوله ﴿حتى يُؤْمِنَّ﴾ الإقرار بالشَّهادة والتزام أحكام
57
الإسلام، وإذا كان كذلك احتجّت الكرَّاميَّة بهذه الآية على أنَّ الإيمان عبارةٌ عن مجرَّد الإقرار؛ لأنَّه غيّاً التحريم إلى الإيمان، وهو هنا الإقرار؛ فثبت أنَّ الإيمان في عرف الشَّرع عبارة عن الإقرار، وأُجيبوا بوجوهً:
منها: قوله تعالى:
﴿وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٨].
ومنها: قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤] ؛ ولو كان الإيمان عبارة عن مجرَّد الإقرار، لكان قوله «قُلْ لم تُؤْمِنُوا» كذباً. وأُجيبوا عن التَّمسُّك بهذه الآية بأنَّ التَّصديق الذي في القلب لا يمكن الاطِّلاع عليه، فأقيم الإقرار باللِّسان مقام التَّصديق بالقلب.
قوله: ﴿وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ﴾. قال أبو مسلمٍ: اللام في قوله: «وَلأَمَةٌ» تشبه لام القسم في إفادة التَّوكيد.
سوَّغ الابتداء ب «أَمَة» شيئان: لام الابتداء والوصف. وَأصْل «أمة» : أمَوٌ، فحذفت لامها على غير قياسٍ، وعوَّض منها تاء التَّأنيث ك «قُلَة»، و «ثُبَة» يدلُّ على أنَّ لامها واوٌ رجوعها في الجمع؛ قال الكلابيُّ: [البسيط]
١٠٧٧ - أمَّا الإِمَاءُ فَلاَ يَدْعُونَنِي وَلَداً إِذَا تَدَاعَى بَنُو الإِمْوَانِ بالعَارِ
ولظُهُورها في المصدرِ أيضاً، قالوا: أَمَةٌ بيّنة الأُمُوَّة وأَقَرَّت له بالأُمُوَّة. وهل وزنها «فَعَلة» بتحريكِ العين، أو «فَعْلة» بسكونها؟ قولان، أظهرهما الأَوَّلُ، وكان قياسُها على هذا أن تُقلَبَ لامُها ألفاً لتحرُّكها وانفتاحِ ما قبلَها كفتاة وقَناة، ولكن حُذِفت على غير قياس.
والثاني: قال به أبو الهيثم، فإنَّهُ زعم أنَّ جمع الأمة أَمْوٌ، وأنَّ وزنها فعلة بسكون العين، فيكون مثل نخلٍ، ونخلةٍ، فأصلها أَمْوَة، فحذفوا لامها إذْ كانت حرف لين، فلمَّا جمعوها على مثل: نخلةٍ ونَخْلٍ لزمهم أن يقولوا: أَمَة، وأَم، فكرهوا أن يجعلُوها حرفين، وكَرِهُوا أن يَرُدُّوا الواو المحذوفة لمَّا كانت آخر الاسم، فقدَّموا الواو وجعلُوه ألفاً بين الهمزة والميم، فقالوا: أام. وما زعمه ليس بشيء إذ كان يلزمُ أن يكون الإعرابُ على الميم، كما كان على لامِ «نَخْلٍ»، وراء «تَمْر»، ولكنه على التَّاءِ المحذوفةِ مقدَّرٌ كما سيأتي بيانُهُ. وجُمِعت على «إِمْوان» كما تقدَّم، وعلى إماء، والأصلُ: إمَاؤٌ، نحو رقبةٍ، ورِقاب، فقُلِبَت الواو همزةً لوقوعها طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ ككساء. وفي الحديث: «لاَ
58
تَمْتَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» وعلى آمٍ، قال الشَّاعر: [مجزوء الكامل]
١٠٧٨ - تَمْشِي بِهَا رُبْدُ النَّعَا مِ تَمَاشِيَ الآمِ الزَّوَافِرْ
والأَصْلُ «أَأْمُوٌ» بهمزتين، الأُولى مفتوحةٌ زائدةٌ، والثَّانيةُ ساكِنَةٌ هي فاءُ الكلمة نحو: أكمة، وأَأْكُم، فوقعت الواو طرفاً مضموماً ما قبلها في اسمٍ مُعربٍ ولا نظيرَ لهُ، فقُلبت الواو ياءً والضَّمَّة كَسْرةً لتصِحَّ الياءُ، فصار الاسمُ من قبيلِ المنقوصِ نحو: غازٍ وقاضٍ، ثمَّ قُلِبَت الهمزةُ الثَّانيةُ ألِفاً، لسكونها بعد أُخرى مفتوحةٍ، فتقولُ: جاءَ آمٌ، ومررت بآمٍ، ورأيت آمياً، تقدِّرُ الضَّمَّة والكسرة وتُظْهِرُ الفتحة، ونظيرُهُ في هذا القلبِ مجموعاً: «أَدْلٍ» و «أَجْرٍ» جمعُ «دَلْوٍ» و «جَرْوٍ» وهذا التَّصريف الذي ذكرناهُ يرُدُّ على أبي الهيثم قوله المتقدّم، أعني كونه زعمَ أن آمياً جمع أَمْوَة بسكونِ العينِ، وأَنَّهُ قلب، إِذ لو كان كذلك لكانَ ينبغي أَنْ يُقالَ جاء آمٌ، ومررت بآمٍ، ورأيت آماً، وجاء الآم ومررتُ بالآم، فتُعْربَ بالحركات الظاهرة.
والتَّفضيلُ في قوله: ﴿خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ﴾ : إمَّا على سبيل الاعتقاد، لا على سبيل الوجود، وإمَّا لأنَّ نكاحَ المؤمنةِ يشتملُ على منافع أُخرويَّة، ونكاحَ المشركةِ الحُرَّة يشتملُ على منافِعَ دنْيَويّةٍ، هذا إذا التزَمنا بِأَنَّ «أَفْعَلَ» لا بدّ أن يدُلَّ على زيادةٍ ما، وإلاَّ فلا حاجة إلى هذا التأويل، كما هو مذهبُ الفرَّاءِ وجماعةٌ.
وقوله: ﴿مِّن مُّشْرِكَةٍ﴾ يحتمِلُ أن يكُونَ «مُشْرِكَةٍ» صفةً لمحذوفٍ مدلولٍ عليه بمقابِلِهِ، أي: مِنْ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ، أو مدلولٌ عليه بلفظِهِن أي: مِنْ أَمَةٍ مشركةٍ، على حسب الخلاف في قوله: «وَلأَمَةٌ» هل المُراد المَمْلُوكةُ للآدميين، أو مطلقُ النِّسَاء، لأنهنَّ مِلكٌ لله تعالى؛ كما قال - عليه السَّلام - «لاَ تَمْنَعُوا إِمَاء اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» وكذلك الخلافُ في قوله: ﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ﴾.
وقال بعضهم وَلأَمَةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ ولا حاجة إلى هذا التقدير، لأن اللَّفظ مطلق. وأيضاً فقوله: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ يدُلُّ على صفة الحُرِّيَّة؛ لأَنَّ التَّقدير: ولو أعجبتكم بحسنها، أو مالها، أو حرّيتها، أو نسبها، فكُلُّ ذلك داخِلٌ تحت قوله: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾.
59

فصل في سبب النُّزُول


نزلت هذه الآية في خنساء، وهي وليدةٌ سوداءُ، كانت لحذيفة بن اليمان، قال حذيفة: يا خنساء قد ذكرت في المَلأ الأَعلى على سوادك ودمامتك؛ فأعتقها وتزوجها.
وقال السُّدِّيُّ: نزلت في عبد اللهِ بن رواحة كانت له أَمَةٌ سَوداءُ، فغضب عليها، ولطمها، ثم أتى النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأخبره بذلك، فقال له - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «وَمَا هي» ؟ فقال: تشهدُ ألاَّ إله إلا الله، وأنَّك رسُولُ اللهِ، وتُحسن الوضُوء وتُصَلّي فقال: «إنّ هذه مؤمنة» قال عبد اللهِ: فوالَّذي بعثك بالحق نبيّاً، لأعتقها ولأتزوجها، ففعل، فطعن عليه ناسٌ من المُسلمين، وقالوا: تنكح أمة؟! وعرضُوا عليه حُرَّةٌ مشركة. فأَنزلَ اللهُ هذه الآية.

فصل في بيان الخيريَّة في الآية


والخير ها هنا النفع الحسن، والمعنى: أَنَّ المشركة - وإِنْ كانت ثابتة في المال، والجمال، والنَّسَب - فالأَمَةُ المُؤْمِنة خيرٌ منها إِلاَّ أن الإيمان يتعلَّق بالدِّين، والمال، والجمال، والنَّسب متعلّق بالدِّين والدُّنيا، ولا شكَّ أَنَّ الدِّين خيرٌ مِنَ الدنيا؛ لأنه أشرف الأشياء عند كل أحد، فإذا اتفق الدين كملت المحبة فتكمل منافع الدنيا من الصحة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد، وعند اختلاف الدين لا يحصل شيء من ذلك.

فصل في تقرير مذهب أبي حنيفة في القادر على التزوّج بأمة مع وجود الحرة


قال الجبائي: دلت الآية على أن القادرعلى طول الحرة يجوز له التزوج بالأمة كمذهب أبي حنيفة؛ لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يكون - لا محالة - واجداً لطول الحرة المسلمة لأن سبب التفاوت في الإيمان والكفر لا يتفاوت في قدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح فيلزم - قطعاً - أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأَمَةِ، وهو استدلالٌ لطيف.
قوله: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ هذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نصب على الحالِ، وقد تقدَّم أنَّ «لَوْ» هذه في مثل هذا التَّركيب شرطيّةٌ بمعنى: «إِنْ» نحو: «رُدُّوا السَّائل، ولو بظَلْفٍ مُحْرَقٍ»، وأنَّ الواوَ لِلْعَطفِ على حالٍ محذوفةٍ، التَّقديرُ: خيرٌ من
60
مشركةٍ على كُلِّ حالٍ، ولو في هذه الحال، وأنَّ هذا يكون لاستقصاءِ الأَحوالِ، وأنَّ ما بعد «لَوْ» هذه إِنَّمَا يأتِي وهو مُنافٍ لِمَا قبلَه بوجهٍ ما، فالإِعجابُ مُنافٍ لحُكْم الخَيْريَّة، ومُقْتَضٍ جوازِ النِّكَاحِ لرغبةِ النَّاكِح فيها. وقال أبو البقاء: «لَوْ» هنا بمعنى «إِنْ» وكذا كُلُّ موضع وقع بعد «لَوْ» الفعلُ الماضِي، وكان جوابُها مُتقدِّماً عليها، وكونها بمعنى «إِنْ» لا يشترط فيه تقدُّمُ جوابها؛ ألا تَرَى أنَّهم قالوا في قوله تعالى: ﴿لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ﴾ [النساء: ٩] إنَّها بمعنى: «إنْ» مع أَنَّ جوابها وهو: «خَافُوا» مُتأخِّرٌ عنها، وَقَدْ نَصَّ هو على ذلك في آيةِ النِّسَاءِ قال في خافُوا: وهو جوابُ «لَوْ» ومعناها «إنْ».

فصل في نكاح الأَمَةِ الكتابيَّة


قال القُرطبيُّ: اختلفوا في نكاح الأَمَةِ الكتابيَّة؛ فقال مالِكٌ: مَنْ أسلم وتحته أَمَةٌ كتابيَّةٌ أَنَّه لا يُفرَّق بينهما.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوزُ نكاحُ إِماءِ أَهلِ الكِتَابِ. قال ابن العربيّ: احتجّ أصحابُ أبي حنيفة على جواز نكاح الأَمَةِ بقوله تعالى: ﴿وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ﴾ ووجهُ الدلالة: أَنَّهُ تعالى خاير بين نكاح الأَمَة المؤْمِنة والمُشركة، فلولا أَنَّ نكاح الأَمة المشركة جائِزٌ لما خاير بينهما؛ لأَنَّ المخايرة إِنَّما هي بينَ الجائزين، لا بين جائِزٍ وممتنع، ولا بينَ متضادين.
والجوابُ: أَنَّ المخايرة بين الضدَّين تجوزث لغةً وقُرْآناً، قال تعالى: ﴿أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً﴾ [الفرقان: ٤٢].
وقال عمر في رسالته لأبي موسى الأشعري: الرّجوع إلى الحقّ خيرٌ مِنَ التَّمَادِي في الباطل.
61
وجوابٌ آخرُ: أنَّ قوله: «وَلأَمَةٌ» لم يُرد به الرّقَّ المَمْلُوك وإِنَّما أراد به الآدمِيَّات والآدَميين كقوله عليه الصّلاة والسَّلام:
«لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» وكذا قوله: ﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ﴾ وقوله: ﴿وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ﴾ هذا بالإِجماع المراد منه الكُلّ، وأَنَّ المُؤْمِنة لا يحلُّ تزويجها بكافرٍ البَتَّة على اختلاف أنواع الكُفر، والكلام في قوله: ﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ﴾ على نحو ما تقدَّمَ.

فصل في نكاح المجوسيَّة


قال القرطبيُّ: اختلفوا في نكاح المجوسية؛ فمنع منه مالكٌ والشَّافعيُّ، وأبو حنيفة، والأوزاعيُّ وإسحاقُ.
وقال أحمد: لا يعجبني.
وروي أَنَّ حُذيفة بن اليمان تزوَّجَ مجوسية، وأَنَّ عمر بن الخطَّاب قال له: طلِّقها.
قال ابن القصَّار: من قال كان لهم كتاب جَوَّزَ نكاحهنَّ.
قوله: ﴿أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار﴾ وهي نظير قوله تعالى: ﴿مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار﴾ [غافر: ٤١]، وفي تأويلها وجوهٌ:
الأوَّل: أَنَّهم يدعون إلى ما يُؤَدِّي إلى النَّارِ.
فإن قيل: كيف يدعون إلى النَّارِ، ورُبَّما لم يُؤمِنُوا بالنَّارِ أصلاً، فكيف يدعون إليها؟!
والجواب: أنَّهم يدعون إلى ما يؤدِّي إلى النَّارِ، فإنَّ الظَّاهر أن الزَّوجيّة مظنة الأُلفة والمحبة والمَودَّة، وكُلُّ ذلك يُؤَدِّي إلى انتقال المسلم عن الإِسلام بسبب موافقة حبيبه.
فإن قيل: احتمالُ المحبَّة حاصِلٌ من الجانين، فكما يحتملُ أَنْ يصير المسلمُ كافراً بسبب الأُلفةِ والمحَبَّةِ يحتمل أيضاً أنْ يصير الكافِرُ مُسْلِماً بسبب الأُلفةِ والمَحبَّة، وإذا تعارض الاحتمالان، تساقطا، وبقي أصل الجوازِ.
فالجواب: أَنَّ العمل إذا دار بين أن يلحقه نفع، أو بين أن يلحقه ضررٌ؛ وجب
62
الاحترازُ عن الضَّرَرِ، فلهذا السَّبب رجَّح اللهُ جانب المنعِ.
التَّأويل الثَّاني: أنَّهُم يدعون إلى ترك المحاربة والقتال، وفي تركهما وجوب استحقاق النَّار والعقاب، والغَرَضُ منه أَنْ يجعل هذا فرقاً بين الذِّمِّيَّة، وغيرها، فإنَّ الذِّمِّيَّة لا تحمل زوجها على المقاتلة.
التَّأويل الثالث: أَنَّ الولد الَّذِي يحدث، ربَّما دعاهُ الكافِرُ إلى الكُفْرِ، فيصير الكافر والولد من أهلِ النَّارِ، فهذا هو الدَّعوة إلى النَّارِ، ﴿والله يدعوا إِلَى الجنة﴾ حيثُ أمر بالتَّزْويج بالمسلمة، حتى يكون الولد مسلماً من أهل الجَنَّة.
قوله: ﴿والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ﴾ فيه قولان:
الأول: أَنَّ المعنى: وأولياء اللهِ يدعون إلى الجَنَّة، والمغفرة، فلا جرم أنه ينبغي للعاقل ألاَّ يقرب من مشركة، فإِنَّها من أعداء اللهِ، وأن ينكح المُؤْمنة؛ لأَنَّها تدعُو إلى الجَنَّةِ والمغفرة.
الثاني: أنَّهُ سبحانه وتعالى لمَّا بيَّنَ هذه الأَحكام، وأباح بعضها، وحرَّم بعضها قال ﴿والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة﴾ ؛ لأنَّ من تمسَّكَ بهما اسْتَحَقّ الجنَّةَ.
و ﴿والمغفرة﴾ الجمهورث على جَرِّ ﴿والمغفرة﴾ عطفاً على «الجَنَّةِ» و «بِإِذْنِهِ» مُتعلِّقٌ ب «يَدْعُو» أي: بتسهيلهِ، وتيسيره، وتوفيقه، وقيل بقضائه وإرادته.
وفي غير هذه الآيةِ تقدَّمَت «المَغْفِرَة» على الجنة: ﴿سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾ [الحديد: ٢١] و ﴿وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾ [آل عمران: ١٣٣]، وهذا هو الأصل؛ لأنَّ المغفرة سببٌ في دُخُولِ الجَنَّةِ، وإنما أُخِّرَت هنا للمقابلة، فإنَّ قبلَها «يَدْعُو إِلى النَّارِ»، فقدَّم الجَنَّةَ ليقابِلَ بها النَّارَ لفظاً، ولتشوُّقِ النُّفوس إليها حين ذكر دعاءَ اللهِ إليها، فأتى بالأَشْرَفِ.
وقرأ الحسن ﴿والمغفرة بِإِذْنِهِ﴾ على الابتداءِ والخبرِ، أي: حاصِلةٌ بإذنِهِ.
ويبين آياته للناس لعلَّهم يتذكَّرُون، أي: أوامره، ونواهيه.
63
﴿المحيض﴾ فعل من الحيضِ، ويُرادُ به المصدرُ، والزمانُ، والمكانُ، تقولُ: حاضِت المرأَةُ تحيضُ، حَيضاً ومَحِيضاً، ومَحاضاً، فَبَنَوْه على مَفْعلٍ ومَفْعَل بالكَسرِ والفتحِ.
واعلم أنَّ في المَفْعَل مِنْ يَفْعِل بكسر العينِ ثلاثة مذاهب:
63
أحدها: أَنَّهُ كالصَّحيح، فتُفْتَحُ عينهُ مراداً به المصدرُ، وتُكسَرُ مراداً به الزَّمانُ والمكانُ.
والثَّاني: أَنْ يُتَخَيَّر بين الفتح والكسر في المصدرِ خاصَّةً، كما جاء هنا: المَحيضُ والمحَاضُ، ووجهُ هذا القول: أنَّهُ كثُر هذان الوجهان: أعني، الكسر، والفتح فاقْتَاسا.
والثالث: أَنْ يُقْتَصَرَ على السَّماعِ، فيما سُمِع فيه الكَسرُ، أو الفتحُ، لا يَتَعَدَّى. فالمحيضُ المُرادُ به المَصْدَرُ ليس بمقيسِ على المذهبين الأول والثالث، مقيسٌ على الثاني. ويقال: امرأَةٌ حائِضٌ ولا يقال: «حائِضَةٌ» إلا قليلاً، أنشد الفرَّاء: [الطويل]
١٠٧٩ -........................... كَحَائِضَةٍ يُزْنَى بِهَا غَيْر طَاهِرِ
وَالمَعْرُوفُ أَنَّ النَّحويين فَرَّقوا بين حائضٍ، وحائضةٍ: فالمُجرَّدُ من تاء التَّأنيث بمعنى النَّسَب، أي: ذاتُ حيضٍ، وإِنْ لم يكن عليها حَيْضٌ، والملتبسُ بالتَّاءِ لِمَنْ عليها الحَيْضُ في الحال، فيُحتمل أن يكونَ مرادُ الشاعر ذلك، وهكذا كُلُّ صفةٍ مختصةٍ بالمُؤَنّثِ نحو: طَامِث ومُرْضِ وشبههما.
قال القرطبيُّ: ويقال: نساءٌ حيض، وحوائض، والحَيضةُ: المرأَةُ الواحدة. والحِيضةُ بالكَسْر، الاسم والجمع الحيض، والحيضة أيضاً: الخرقةُ التي تَسْتَثْفِرُ بها المَرْأَةُ، قالت عَائِشَةُ: لَيْتَنِي كُنُتُ حِيْضَةٌ مُلْقَاةٌ «وكذلك المَحِيضَةُ، والجمع: المَحائص.
وأصلُ الحَيض السَّيَلانُ، والانفجِارُ، يُقالُ: حَاضَ السَّيلُ وَفَاضَ، قال الفَرَّاءُ:»
حَاضَتِ الشَّجَرَةُ، أي: سال صَمْغُها «، قال الأَزهرِيُّ:» وَمِنْ هَذَا قيل لِلْحَوضِ: حَيْضٌ؛ لأَنَّ المَاءَ يسيلُ إليه «والعربُ تُدْخِلُ الواو على اليَاءِ، وَالياءَ على الواوِ؛ لأَنَّهُما من حَيِّز واحدٍ، وهو الهواءُ.
ويقالُ: حاضت المرأةُ وتحيَّضَتْ، ودَرَسَتْ، وعَرَكت، وطَمِثت فهي حائضٌ، ودارِسٌ، وعارِكٌ، وَطَامِثٌ، وطَامِسٌ، وكَابِرٌ، وَضَاحِكٌ. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾ [يوسف: ٣١] أي: حضن، وقال تعالى: ﴿فَضَحِكَتْ﴾ [هود: ٧١].
قال مجاهد: أي: حاضَتْ ونافس أيضاً، والظَّاهر أن المحيض مصدرٌ كالحيضِ،
64
ومثله:» المَقِيلُ «مِنْ قال يقِيلُ؛ قال الرَّاعِي: [الكامل]
١٠٨٠ - بُنِيَتْ مَرَافِقُهُنَّ فَوْقَ مَزَلَّةٍ لاَ يَسْتَطِيعُ بِهَا القُرَادُ مَقِيلاَ
وكذلك قال الطَّبريُّ:»
إِنَّ المَحِيضَ اسْم كالمَعِيشِ: اسمُ العَيْشِ «؛ وأنشد لرؤبة: [الرجز]
١٠٨١ - إِلَيْكَ أَشْكُو شِدَّةَ المَعِيشِ وَمَرَّ أَعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي
وقيل: المَحيضُ في الآية المُرادُ به: اسمُ موضعِ الدَّم، وعلى هذا فهو مقيسٌ اتِّفاقاً، ويؤيِّد الأَوَّل قوله: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾. وقد يُجَابُ عنه بأنَّ ثَمَّ حذف مضافٍ، أي: هو ذُو أَذى، ويؤيِّدُ الثَّاني قوله: ﴿فاعتزلوا النسآء فِي المحيض﴾. ومن حَمَلَه على المَصْدَرِ قَدَّر هنا حَذْفَ مُضَافٍ، أي: فاعْتَزِلُوا وَطْءَ النِّسَاءِ في زَمَانِ الحَيْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المَحِيضُ الأَوَّلُ مَصْدَراً والثَّاني مكاناً.
حكى الواحديُّ في»
البَسيط «عن ابن السَّكِّيت: إذا كان الفعلُ من ذوات الثلاثة نحو: كَالَ يكيلُ، وحاضَ يحيض وأشباهه، فإِنَّ الاسم منه مكسور والمصدر مفتوح، مِنْ ذلك مالَ ممالاً، وهذا مميله يذهب بالكسر إلى الاسم، وبالفتح إلى المصدر، ولو فتحهما جميعاً، أو كسرهما جميعاً في المصدرِ والاسمِ لجازَ، تقول: المَعَاشُ، والمَعِيشُ، والمَغَابُ، والمَغِيبُ، والمَسَارُ والمَسِيرُ فثبت أَنَّ لفظ المحيض حقيقةٌ في موضع الحيض، وأيضاً هو اسمٌ لنفس الحيضِ.
قال ابن الخطيب: وعندي أَنَّهُ ليس كذلك؛ إذ لو كان المُرادُ بالمحيض هنا الحيض، لكان قوله تعالى ﴿فاعتزلوا النسآء فِي المحيض﴾ معناه: فاعتزلوا النِّساء في الحيض، ويكونُ المُرادُ: فاعتزلوا النساء في زمن الحيض، يكون ظاهره مانعاً من الاستمتاع بهنَّ فيما فوق السُّرَّة، ودون الرّكبة، ولما كان هذا المنعُ غير ثابت لزم القول بتطرُّق النَّسخ، والتَّخصيص إلى الآية، وهو خلاف الأصل، أما إذا حملنا المحيض على موضع الحيض؛ كان معنى الآية: فاعتزلوا النِّسَاءَ في موضع الحيض من النِّسَاء، وعلى هذا التَّقدير لا يتطرَّقُ إلى الآية نسخٌ، ولا تخصِيصٌ.
ومن المعلوم أَنَّ اللَّفْظ إذا كان مشتركاً بين معنيين وكان حمله على أحدهما يوجب محذوراً، وعلى الآخر لا يوجب ذلك المحذور، فإِنَّ حمل اللَّفظ على المعنى الَّذِي لا
65
يُوجِبُ المحذورَ، أولى إذا سلَّمنا أَنَّ لفظ المحيض مشتركٌ بين الموضع، وبين المصَدرِ.
فإن قيل: الدَّليلُ على أَنَّ المُراد من المحيض الحيضُ قوله: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾، ولو كانَ المُرَادُ الموضع لما صَحَّ هذا الوَصْفُ.
قلنا: بتقدير أَنْ يكون المحيض عبارة عن الحَيض، فالحيض نفسُهُ ليس بِأَذى لأن «الحَيْضَ» عبارةٌ عن الدَّمِ المخصوص، و «الأَذَى» كيفيَّةٌ مخصوصَةٌ وهو عرض، والجسم لا يكُونُ نفس العرض فَلا بُدَّ أَنْ يقُولُوا: المرادُ منه أَنَّ الحيض موصوف بكونه أذى، وإذا جاز ذلك فيجُوزُ لنا أيضاً أن نقول: إِنَّ المراد منه أنَّ ذلك المَوْضع ذو أذًى، وأيضاً لم لا يجوزُ أَنْ يكون المراد بالمحيض الأَوَّل الحيض، وبالمحيض الثَّاني موضع الحيضِ كَمَا تقدَّمَ وعلى هذا فيزولُ الإِشكالُ.

فصل في بيان مغالاة اليهود وغيرهم في أمر الحيض


عن أنس بن مالك أَنَّ اليهُود، والمَجُوس كانُوا يبالغون في التَّباعد عن المرأَةِ حال حيضها، والنَّصارَى كانوا يجامعوهنّ ولا يبالون بالحيض، وأَنَّ أَهْلَ الجاهِليَّةِ كانُوا يقولُونَ مثل قولِ اليَهُودِ، والمَجُوسِ، وكانوا إذا حَاضَتِ المرأَةُ؛ لم يُؤَاكِلُوها، ولم يُشارِبُوها، ولم يُجَالِسُوها على فراشٍ، ولم يساكنوها في بيتٍ كفعل اليهود والمجوس، فسئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية، فأخذ المُسْلِمُون بظاهر الآية، فأخرجوهنّ من بيوتهن، فقال ناسٌ من الأَعْراب: يا رسُول اللهِ البردُ شديدٌ، والثِّيابُ قَلِيلةٌ، فإِنْ آثرناهن بالثِّيابِ، هلك سائِرُ أهل البيت، وإن اسْتَأْثَرْنَاهَا هلكت الحيض، فقال عليه الصّلاة والسّلام: «إِنَّمَا أَمَرْتُكُم أَنْ تَعْتَزِلُوا مُجَامَعَتهنَّ إِذَا حِضْن ولَمْ آمُرُكُم بإِخْرَاجِهِنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ كَفِعْلِ الأَعاجِمِ»
فلمَّا سمع اليهُودُ ذلك قالوا: هذا الرَّجُلُ يُرِيدُ أَلاَّ يدع شيئاً من أمرنا، إلاَّ خالفنا فيه. فَجاء أُسيِّد بن حُضيرٍ وعباد بن بشر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالا: يا رسُول اللهِ إِنَّ اليهُود تقول كذا وكذا، أفلا ننكحهنّ في المحيض، فتغير وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتَّى ظننا أَنَّه غضب عليهما، فخرجا؛ فَجَاءَتْهُ هديَّةٌ مِنْ لَبَنِ، فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليهما فسقاهما فعلمنا أنه لم يغضب عليهما.
66

فصل في مجيء «يسألونك» بحرف الواو


وجاء: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ ثلاثَ مرَّاتٍ بحرفِ العطفِ بعد قوله: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر» وهي: «وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ»، «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى» «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض» وجاء «وَيَسْأَلُونَكَ» أربع مراتٍ من غيرِ عطفٍ: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة» «يَسْأَلُونَكَ مَذاَا يُنْفِقُونَ» «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ» «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ». فما الفرقُ؟
والجوابُ: أَنَّ السُّؤالات الأَواخر وقعَتْ في وقتٍ واحدٍ، فجُمِع بينها بحرفِ الجمعِ، وهو الواوُ، أَمَّا السّؤالاتُ الأُوَلُ فوقعَتْ في أوقاتٍ متفرقةٍ، فلذلك استؤْنِفَتْ كلُّ جملةٍ، وجيء بها وحدها.
وقوله: ﴿هُوَ أَذًى﴾ فيه وجهان:
أحدهما: قاله أبو البقاء: «أَنْ يكُونَ ضمير الوطءِ الممنوع» وكأنه يقول: إِنَّ السِّياق يدلُّ عليه، وإِنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ.
الثَّاني: أَنْ يعود على المحيض، قال أبو البقاء: «ويكون التَّقدير: هو سببُ أَذًى» وفيه نظرٌ؛ فإنَّهم فَسَّروا الأَذَى هنا بالشَّيء القَذِر، فإذا أَرَدْنا بالمَحِيضِ نَفْسَ الدَّمِ، كان شيئاً مُسْتَقْذَراً، فلا حاجة إلى تقديرِ حَذْفِ مضافٍ.

فصل في المراد من «الأذى»


قال عطاءٌ، وقتادةٌ، والسُّدِّيُّ: هو أَذًى، أي: قذر واعلم أَنَّ الأَذَى في اللُّغة ما يكره مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ويحتمل أن يَكُونَ قوله: ﴿هُوَ أَذًى﴾، أي: سببُ الأَذَى قالوا: لأَنَّ من جَامَعَ في الحَيْض، قد يحصُلُ له في ذكره وأنثييه تفتيح وقروح.
وقوله: ﴿فاعتزلوا النسآء فِي المحيض﴾.
الاعتزالُ: التَّنَحِّي عن الشَّيْءِ، وأَرَاد به ها هنا: تَرْكَ الوَطءِ، وقدَّم ذكر العِلَّة، وهي الأذى، ثم رَتَّبَ الحُكْم، وهو وجوب الاعتزال. فإن قيل: المرادُ ب «الأذى» هو الدَّمُ، وهو حاصِلٌ في وقت الاستحاضة مع أن اعتزال المرأة وقت الاستحاضة، غير واجب، فانتقضت هذه العِلَّةُ.
والجواب: أَنَّ دم الحيض دَمٌ فاسِدٌ يتولّد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من عمق الرَّحم، ولو احْتَبَسَتْ تلك الفضلةُ لمرضت المرأةُ، فذلك الدَّمُ جارٍ مجرى البَوْلِ، والغائط، فكان أَذًى وقذراً، وأَمَّا دمُ الاستحاضة، فليس كذلك، بل هو دَمٌ صالحٌ يسير من عروق تنفجر من عمق الرَّحِمِ، فلا يكونُ أذى، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما سئل
67
عن الاستحاضة فقال:
«إِنَّ ذَلكَ دَمُ عِرْق، ولَيْسَ بِالحَيْضَةِ».
قال ابن الخطيب: وهذا جوابٌ طبّيٌّ مُخَلِّصٌ ظاهر القرآن مِنَ الطَّعن.

فصل في بيان صفات دم الحيض


اعلم أَنَّ الحيضِ موصوفٌ بصفاتٍ حقيقيةٍ، ويتفرَّعُ عليه أحكام شرعيّة فالصِّفاتُ نوعان:
الأول: المنبعُ؛ فدم الحيض يخرجُ من الرَّحم، قال تعالى: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] قيل في تفسيره إنَّ المراد منه الحيض والحمل، وأَمَّا دم الاستحاضة، فإِنَّهُ لا يخرجُ من الرَّحم، لكن من عروق تنقطع من فم الرَّحم، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في صفة دم الاستحاضة: «إِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ»، وهذا يؤيّدُ ما تقدَّمَ في الجواب.
النوع الثاني: من صفات دم الحيضِ التي وصفه بها رسول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهي سِتّ:
أحدها: إنه أسود.
الثاني: أنه ثخين.
الثالث: محتدم وهو المحترقُ من شدَّةِ حرارته.
الرَّابع: أنه يخرُجُ برفق لا يسيلُ سيلاناً.
الخامس: أنَّ له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء؛ وذلك لأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة.
والسادس: أنه بحراني وهو الشَّدِيدُ الحمرة، وقيل ما تحصُلُ فيه كدورة تشبيهاً له بماء البحر.
فهذه صفاته الحقيقيّة، ثم مِنَ النَّاسِ من قال: إِنَّ دَمَ الحَيْضِ يتميَّزُ عن دمِ الاستحاضة، فكلُّ دم موصوف بهذه الصِّفَات، فهو دَمْ حَيْضِ وما لا فلا، وما اشتبه الأمرُ فيه فالأَصْلُ بقاء التَّكليف، ولا يزول إلا بعارض الحيض، فإذا لم يُعلمْ وجوده؛ بقيت التَّكَاليفُ على ما كانت وقال آخرون: هذه الصِّفَاتُ قد تشتَبِهُ على المُكَلّف، فإيجاب التأمل من تلك الدِّمَاء يقتضي عسراً ومشقة فقدر الشاعر وقتاً مضبوطاً، متى حصلت فيه الدِّمَاءُ كان حُكمُها حُكم الحَيْضَ
68
كيفما كانت صفةُ تلك الدِّماء قَصْداً إلى إسقاط العُسْرِ والمَشَقَّةِ.

فصل


اختلف العُلَماءُ في مُدَّةِ الحيضِ، فقال عليُّ بن أبي طالب - رضي الهُ عنه -: أقلُّه يوم ولَيْلَة، وأكثرُهُ خمسة عشر يوماً، وهو قولُ عطاء بن أَبي رباحٍ، والأوزاعيِّ، والشَّافِعِيّ، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة، والثَّورِيّ: أقلّه ثلاثة أيَّام ولياليهن، فإِنْ نقص عنه، فهو دمٌ فاسد؛ وأكثره عشرةُ أيَّامِ.
قال أبو بكر الرَّازِيُّ في «أحكام القُرْآن» : وقد كان أبُو حنيفة يقولُ بقول عطاءِ، ثم تركه.
وقال مَالِكٌ: لا تقديرَ له في القِلَّةِ، والكثرة، فإن وُجِدَ ساعةً، فهو حيض، وإن وجد أيّاماً، فكذلك.
واحتجَّ أبُو بكر الرازيُّ في «أَحْكَامِ القُرْآنِ» على فساد قول مالكٍ بأنه: لو كان التَّقْدير ساقطاً في القليل، والكثِير، لوجب أَنْ يكُونَ الحيض هو الدّم الموجود من المرا’ فيلزم ألاَّ يوجد في الدنيا مستحاضة لأن كل ذلك الدم يكون حيضاً على المذهب، وذلك باطِلٌ بالإجماع ولأنه روي أَنّ فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ» وروي أَنّ منه ما هو حيضٌ، ومنه ما هو استحاضةٌ، فبطل هذا القول ويمكن الجواب عنه بأن نقُولَ: إِنَّما يتميَّزُ دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصِّفات التي قدّمناها لدم الحيضِ، فإذا عدمت؛ حكمنا بدم الحيض، وإِنْ تَرَدَّدْنا فيهما، كان طريانُ الحيض مجهولاً، وبقاء التّكليف الَّذِي هو الأَصلُ معلوم، والمشكوك لا يارض المعلوم، فلا جَرَمَ قلنا ببقاء التَّكاليف، فبهذا الطّريق يميز الحيض عن الاستحاضة وإن لم يجعل للحيض زماناً معيّناً.
واحتجَّ مالكٌ - رضي اللهُ عنه - بوجهين:
الأول: أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بيَّنَ علامة دم الحيض، وصفته كما قدمنا في قوله: «دَمُ الحَيْضِ هُوَ الأَسْوَدُ المُحْتَدمُ» وإذا كان الدَّمُ موصوفاً بهذه الصِّفَةِ، كان الحيضُ حاصِلاً، فيدخلُ تحت قوله: ﴿فاعتزلوا النسآء فِي المحيض﴾.
69
الثاني: قوله في دم الحيض «هُو أَذى»، ذكر كونهُ أَذًى في معرض العِلَّة، لوجوب الاعتزال، وإِنَّما كان «أَذًى» للرَّائِحَة المنكرة التي فيه، واللون الفاسد وللحدةِ القوية الَّتي فيه، وإذا كان وجُوبُ الاعتزال معللاً بهذه المعاني، وجب الاحتراز عملاً بالعِلَّةِ المذكورة في كِتابِ الله.
واحتجّ الشَّافعيُّ على أبي حنيفة بوجهين:
الأول: أنه وجد دم الحيض في اليوم بليلته، وفي الزَّائد عن العشرة لأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - وصف دم الحيض بأنه أسود محتدم، فإذا وجد ذلك، فقد حصل الحيض فيدخل تحت قوله: ﴿فاعتزلوا النسآء فِي المحيض﴾ تركنا العمل بهذا الدّليل في الأقلّ من يوم وليلة وفي الأكثر من خمسة عشر يوماً باتِّفاق بيني وبينك يا أبا حنيفة؛ فوجب أن يبقى معمولاً به في هذه المدَّة.
الثاني: أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - بيّن نقصان دينها: بأنها تمكث شطر عمرها لا تصلّي، وهذا يدلُّ على أنَّ الحيضة قد تكون خمسة عشر يوماً؛ لأن على هذا التقدير يكون الطهر خمسة عشر يوماً؛ فيكون الحيض نصف عمرها، ولو كان أقلّ من ذلك لم تكن تاركة للصَّلاة نصف عمرها.
أجاب أبو بكر الرَّازيُّ عنه بوجهين:
الأوَّل: أن الشَّطر ليس هو النِّصف، بل هو البعض.
70
والثاني: أنه لا يوجد في الدُّنيا امرأة تكون حائضاً نصف عمرها، لأن ما مضى من عمرها قبل البلوغ هو من عمرها.
والجواب عن الأول: أنَّ الشَّطر هو النِّصف، يقال: شطرت الشَّيء أي جعلته نصفين، ويقال في المثل: «احْلُبْ حَلْباً لَكَ شَطْرُهُ» أي نصفه.
وعن الثاني: أن قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «تَمْكُثُ إِحْدَاكُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لاَ تُصَلِّي» إنّما يتناول زماناً هي تصلّي فيه، وذلك لا يتناول إلا زمان البلوغ.
واحتجَّ أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة بوجوه:
الأول: ما روى أبو أمامة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال:
«أَقَلّ الحَيْضِ ثَلاثَة أَيَّامٍ، وَأَكْثَرُهُ عَشْرَةُ أَيَّام» فإن صحَّ هذا الحديث، فلا معدل عنه لأحد.
الثاني: روي عن أنس بن مالك، وعثمان بن أبي العاص الثَّقفيّ أنهما قالا: «الحيضُ ثلاثةُ أيَّامٍ، وأربعة أيَّامٍ إلى عَشَرَةِ أيَّام، وما زاد فهو اسْتِحَاضَة» وهذا قول صحابي لم يخالفه أحدٌ، فكان إجماعاً، ولأنَّه إذا ورد قول عن صحابي فيما لا سبيل للعقل إليه، فالظَّاهر أنَّه سمع من النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الثالث: قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - لحمنه بنت جحش: «تحيضي في علم الله ستّاً، أو سَبْعاً، كما تَحِيضُ النِّسَاء في كُلِّ شَهْرٍ» فقوله: «كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ في كُلِّ شَهْرٍ» مقتضاه أن يكون حيض النِّسَاء في كلِّ شهر هذا القدر، خالفنا هذا الظَّاهر في الثَّلاثة إلى العشرة، فيبقى ما عداه على الأصل.
الرابع: قول عليه الصَّلاة والسَّلام: «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِعُقُولِ
71
ذَوِي الأَلْبَابِ مِنْهُنَّ» فقيل: ما نقصان دينهن؟ قال: «تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ الأَيَّامَ واللَّيَالِي لاَ تُصَلِّي».
فهذا يدلُّ على أنَّ مدَّة الحيض ما يقع عليه اسم الأيّام، واللَّيالي، وأقلّها ثلاثة أيَّام وأكثرها عشرة؛ لأنَّه لا يقال في الواحد، والاثنين لفظ الأيَّام، ولا يقال في الزَّائد على العشرة أيَّام؛ بل يقال أحد عشر يوماً، أما الثَّلاثة إلى العشرة، فيقال فيها أيَّامٌ.
وأيضاً قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - لفاطمة بنت أبي حبيش: «دَعِي الصَّلاةَ أيَّامَ أَقْرَائِك» فلفظ الأيَّام مختصّ بالثَّلاثة إلى العشرة.
وفي حديث أُمِّ سلمة في المرأة التي سألته أنَّها تهرق الدَّم فقال: «لِتَنْظُر عَدَدَ الأَيَّامِ، واللَّيَالِي الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ مِنَ الشَّهْرِ، ثُمَّ لِتَغْتَسِل ولتصلِّ».
فإن قيل: لعلَّ حيض تلك المرأة كان مقدّراً بذلك المقدار قلنا: إنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما سألها عن قدر حيضها، بل حكم عليه بذلك الحكم مطلقاً، فدلّ هذا على أنَّ الحيض مطلقاً مقدّر بما ينطلق عليه لفظ الأيَّام.
وأيضاً قال في حديث عديِّ بن ثابتٍ: «المُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ حَيْضِهَا» وذلك عامٌّ في جميع النِّساء.
الخامس: قال الجبَّائي في «تَفْسِيرِهِ» إنّ فرض الصِّيام والصَّلاة لازم لعموم الأدلَّة، فعلى الوجوب ترك العمل بها في الثَّلاثَةَ إلى العشرة بالإجماع، وما دون الثَّلاثة وفوق العشرة حصل فيه اختلاف العلماء، فأورث شبهة، فلم نجعله حيضاً، فوجب بقاء التَّكليف على أصله.
72

فصل في حرمة جماع الحائض


اتَّفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض، واختلفوا في وجوب الكفَّارة على من جامع فيه، فذهب أكثرهم إلى أنَّه لا كفَّارة عليه فليستغفر الله ويتوب، وذهب قومٌ إلى وجوب الكفَّارة عليه؛ منهم: قتادة والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، لما روى ابن عبَّاس أن النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال في رجلٍ جامع امرأته وهي حائضٌ
«إنْ كَانَ الدَّمُ عَبِيطاً؛ فَلْيَتَصَدّق بِدينَار، وإِنْ كَانَ صُفْرَةٌ، فَنِصْفُ دِينَارٍ» وروي موقوفاً على ابن عبَّاس. واتَّفقوا على أنَّ جلّ الاستمتاع فيما فوق السُّرَّة، ودون الرُّكبة [واختلفوا بأنّه هل يجوز الاستمتاع بها فيما دون السُّرة، وفوق الرُّكبة؟] قال ابن الخطيب: إن فسَّرنا المحيض بموضع الحيض، كانت الآية دالّة على تحريم الجماع فقط، فلا يكون فيها دلالة على تحريم غيره، بل نقول: إنّ تخصيص الشَّيءِ بالذّكر يدلُّ على أنَّ الحُكْمَ فيما عداه بخلافه، وإن فسَّرنا المحيض بالمحيض، كان تقدير الآية فاعتزلوا النِّساء في زمان المحيض، وترك العمل بها فيما فوق السُّرَّة ودون الرُّكبة؛ فوجب أن يبقى الباقي على الحرمة.
قوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ﴾، أي: لا تجامعوهنّ.
قال ابن العربيّ: سمعت الشّاشيَّ يقول: إذا قيل «لا تَقْرَب» - بفتح الرَّاء - كان معناه: لا تَتَلَبَّسْ بالفعل، وإذا كان بضمّ الرَّاء كان معناه: لا تَدْنُ منه، وهذا كالتأكيد لقوله تعالى: ﴿فاعتزلوا النسآء فِي المحيض﴾ فهذا نهيٌ عن المباشرة في موضع الدَّم، وقوله: «
73
وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ» نهي عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع.
«حتّى» هنا بمعنى «إلى» والفعل بعدها منصوب بإضمار أنْ، وهو مبنيٌّ لاتصاله بنون الإناث.
وقرأ حمزة والكسائيُّ، وأبو بكرٍ بتشديد الطَّاء والهاء، والأصل:
يتطهَّرن، فأُدغم.
والباقون: «يَطْهُرْنَ» مضارع طَهُرَ، قالوا: وقراءة التَّشديد معناها يغتسلن، وقراءة التَّخفيف معناها ينقطع دمهنَّ. ورجَّح الطَّبري قراءة التَّشديد وقال: «هي بِمَعْنَى يَغْتَسِلْنَ لإجماع الجميع على تَحْرِيم قُرْبَان الرَّجُل امرأته بعد انقطاع الدَّم حتَّى تطهر، وإ، ما الخلاف في الطهر ما هو؟ هل هو الغسل أو الوضوء، أو غسل الفرج فقط؟».
قال ابن عطيَّة: «وكلُّ واحدة من القراءتين تحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء، وأن يراد بها انقطاع الدَّم وزوال أذاه».
قال: «وَمَا ذَهَبَ إليه الطَّبريُّ مِنْ أنَّ قِرَاءَةَ التَّشْدِيد مُضَمَّنُها الاغتسال، وقراءة التَّخفيف مُضَمَّنُها انْقِطَاعُ الدَّمِ أمرٌ غيرُ لاَزِم، وكذلك ادِّعَاؤهُ الإجماع» وفي رد ابن عطيَّة عليه نظرٌ؛ إذ لو حملنا القراءتين على معنى واحدٍ لزم التِّكرار. ورجَّح الفارسيُّ قراءة التَّخفيف؛ لأنها من الثلاثي المضادِّ لطمث وهو ثلاثي.

فصل في ورود لفظ الطهور في القرآن


قال أبو العبَّاس المقري: ورد لفظ «الطُّهُورِ» في القرآن بإزاء تسعة معانٍ:
الأول: انقطاع الدَّم، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٢]، أي: حتى ينقطع الدَّم.
الثاني: الاستنجاء بالماء؛ قال تعالى: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ﴾ [التوبة: ١٠٨]، أي: يستنجون بالماء.
الثالث: الاغتسال، قال تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٢] أي: اغْتَسَلْنَ.
الرابع: التَّنظيف من الأدناس، قال تعالى:
﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥].
الخامس: التَّطهُّر من الذُّنوب؛ قال تعالى: ﴿لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون﴾ [الواقعة: ٧٩]، ومثله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ [التوبة: ١٠٣].
74
السادس: التَّطهير من الشّرك، قال تعالى: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ﴾ [الحج: ٢٦]، أي: طهره من الشرك.
السابع: الطهور الطيب، قال تعالى: ﴿ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٣] أي أطيب.
الثامن: الطهور الحلّ، قال تعالى: ﴿هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ [هود: ٧٨]، أي: أحل.
التاسع: التطهر من الرّجس، قال تعالى: ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: ٣٣]، أي: من الآثام والرِّجس.

فصل في بيان النَّهي عن الإتيان هل بعد انقطاع الدم أو الاغتسال.


استدلّ أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ﴾ بأنه نهيٌ عن قربانهن إلى غاية، وهي أن يطهرن، أي ينقطع حيضهنّ، وإذا كان انقطاع الحيض غايةً للنَّهي؛ وجب أن يزول النَّهي عند انقطاع الحيض.
وأجيب بأنَّه لو اقتصر على قوله «حتى يَطْهُرْنَ»، لكان ما ذكرتم لازماً أما إذا انضم إليه قوله: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ﴾ صار المجموع هو الغاية، وذلك بمنزلة أن يقول الرَّجل: لا تكلِّم زيداً حتى يدخل الدَّار، فإذا طابت نفسه بعد الدُّخول، فكلّمه، فإنّه يجب أن يتعلّق إباحة كلامه بالأمرين جميعاً.
فإن قيل: يحمل قوله: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» على غسل الموضع، فإنَّه يجب غسله بإجماع، فالجواب أنَّ ظاهر قوله: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» حكم عائد إلى ذات المرأة، فوجب أن يكون هذا التَّطهير في كلّ بدنها لا في بعض بدنها، وأيضاً فنحمله على التَّطهير الثَّابت في المستحاضة لثبوته في الحيض، والمراد به الاغتسال، إذا أمكن وجود الماء.

فصل في هل تجبر الكتابيَّة على الاغتسال من الحيض


اختلفوا في الكتابيَّة؛ هل تجبر على الغسل؟
فقيل تجبر لقوله تعالى: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» يعني بالماء، ولم يخص مسلمة من غيرها.
وقيل: لا تجبر؛ لأنها لا تعتقد ذلك، وقال تعالى: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر﴾ [البقرة: ٢٢٨] وهو الحيض والحمل، وهذا خطاب للمؤمنات. وقال: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين﴾ [البقرة: ٢٥٦].
قوله: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» يعني اغتسلن، «فَأْتُوهُنَّ» أي: فجامعوهنّ.
قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾ في «مِنْ» قولان:
أحدهما: أنَّها لابتداء الغاية، أي: من الجهة الَّتي تنتهي إلى موضع الحيض.
75
والثاني: أن تكون بمعنى «في»، أي: في المكان الذي نهيتم عنه في الحيض.
قال ابن عبَّاس، ومجاهد وإبراهيم، وقتادة وعكرمة: فأتوهنّ في المأْتى؛ فإنَّه هو الذي أمر الله به ولا تأتوهنّ في غير المأْتى؛ لقوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾ أي: في حيث أمركم الله؛ كقوله: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة﴾ [الجمعة: ٩]، أي: في يوم الجمعة، وقوله: ﴿مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض﴾ [فاطر: ٤٠]، أي: في الأرض. ورجَّح هذا بعضهم، وفي الكلام حذفٌ، تقديره: «أَمَرَكُم اللهُ بالإِتيَان منه» يعني: أنَّ المفعول الثَّاني حذف للدلالة عليه.
قال الأصمُّ والزَّجَّاج: فأتوهنَّ بحيث يحلُّ لكم غشيانهنَّ، وذلك بأن لا يكنَّ صائماتٍ، ولا معتكفاتٍ، ولا محرماتٍ.
وقال محمَّد بن الحنفيَّة: فأتوهنّ من قبل الحلال دون الفُجُور. والأقرب: قول ابن عباس، ومن تابعة؛ لأن لفظة «حَيْثُ» حقيقة في الكلِّ، مجاز في غيرها.

فصل


قال أبو العبَّاس المقري: ترد «مِنْ» بمعنى «في» كهذه الآية، وتكون زائدة؛ كقوله تعالى: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ [نوح: ٤]، وقوله: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين﴾ [الشورى: ١٣] أي: الدِّين، وقوله: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك﴾ [يوسف: ١٠١]، أي الملك. وبمعنى «البَاءِ» ؛ قال تعالى: ﴿يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ﴾ [غافر: ١٥] أي: بأمره، وقوله: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله﴾ [الرعد: ١١]، أي: بأمر الله، وقوله: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات﴾ [النبأ: ١٤]، أي: بالمعصرات، وبمعنى «عَلَى» ؛ قال تعالى: ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم﴾ [الأنبياء: ٧٧]، أي: على القوم.
قال القرطبيُّ: عبَّر عن الوطء هنا بالإتيان.
قوله: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين﴾ التَّوَّاب: هو المكثر من فعل ما يسمَّى توبةً، وقد يقال: هذا في حقِّ الله تعالى -؛ من حيث إنه يكثر من قبول التَّوبة.
فإن قيل: ظاهر الآية يدلُّ على أنَّه يحبُّ تكثير التَّوبة مطلقاً، والعقل يدلُّ على أن التَّوبة لا تليق إلاَّ بالمذنب، فمن لم يكن مذنباً، لا تجب منه التَّوبة.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن المكلَّف لا يأمن البتَّة من التَّقصير.
76
والثاني: قال أبو مسلمٍ: التَّوبة في اللُّغة عبارة عن الرُّجوع، ورجوع العبد إلى الله في كلِّ الأحوال محمودٌ.
واعترضه القاضي: بأن التَّوبة - وإن كانت في أصل اللغة الرُّجوع - إلا أنها في عرف الشَّرع عبارةٌ عن النَّدَم على الفعل الماضي، والتَّرك في الحاضر، والعزم على ألاَّ يفعل مثله في المستقبل؛ فوجب حمله على المعنى الشَّرعيِّ دون اللُّغويّ.
ولأبي مسلم أن يجيب: بأنّ مرادي من هذا الجواب، أنّه إن أمكن حمل اللَّفظ على التَّوبة الشَّرعيَّة، فقد صحَّ اللَّفظ، وإن تعذَّر ذلك، حملناه على التَّوبة بحسب اللُّغة الأصليَّة.
قوله: ﴿وَيُحِبُّ المتطهرين﴾ فيه وجوه:
أحدها: المراد منه التَّنزُّه عن الذُّنوب والمعاصي، قاله مجاهد.
فإن قيل: كيف قدَّم ذكر المذنب على من لم يُذنب؟
فالجواب: قدَّمه لئلا يقنط التَّائب من الرَّحمة، ولا يعجب المتطهِّر بنفسه؛ كقوله في آيةٍ أخرى: ﴿ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات﴾ [فاطر: ٣٢]، قاله القرطبي.
الثاني: قال عطاء ومقاتل بن سليمان والكلبيّ: «يُحِبُّ التَّوَّابِينَ من الذُّنُوبِ، والمتَطَهِّرِين بالمَاءِ من الأَحْدَاثِ والنَّجَاسَاتِ».
الثالث: قال مقاتل بن حيَّان: يحب التَّوَّابين من الذُّنُوب، والمتطهِّرين من الشِّرك.
الرابع: قال سعيد بن جبير: التَّوَّابين من الشِّرك، والمتطهِّرين من الذُّنوب.
الخامس: أن المراد ألا يأتيها في زمان الحيض، وألاَّ يأتيها في غير المأتى على ما قال: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾.
قال بعضهم: وهذا أولى؛ لأنه أليق بنظم الآية، ولأنَّه - تعالى - قال حكاية عن قوم
77
لوطٍ: ﴿أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٨٢]، فكان قوله: ﴿وَيُحِبُّ المتطهرين﴾ ترك الإتيان في الأدبار.
السادس: أنَّه - تعالى - لمَّا أمرهنّ بالتَّطهير في قوله: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾، فلا حرم مدح التَّطهير، فقال: ﴿وَيُحِبُّ المتطهرين﴾ والمراد منه التَّطهير بالماء؛ قال - تعالى -: ﴿رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين﴾ [التوبة: ١٠٨]، قيل في التَّفسير: إنهم كانوا يستنجون بالماء، وكرَّر قوله «يُحِبُّ» ؛ دلالةً على اختلاف المقتضي للمحبَّة، فتختلف المحبَّة.
78
﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ : مبتدأٌ وخبرٌ، ولا بدَّ من تأويلٍ، ليصحَّ الإخبار عن الجثة بالمصدر، فقيل: على المبالغة، جُعلوا نفس الفعل، وقيل: أراد بالمصدر، اسم المفعول، وقيل: على حذف مضافٍ من الأوَّل، أي: وطء نسائكم حرثٌ، أي: كحَرْثٍ، وقيل: من الثاني، أي: نساؤُكُم ذواتُ حَرْثٍ، و «لَكُمْ» في موضع رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل «حَرْث»، فيتعلَّق بمحذوفٍ، وإنما أفرد الخبر، والمبتدأ جمعٌ؛ لأنه مصدرٌ والأفصح فيه الإفراد.
قوله: ﴿أنى شِئْتُمْ﴾، ظرف مكانٍ، ويستعمل شرطاً واستفهاماً بمعنى «مَتَى»، فيكون ظرف زمانٍ، ويكون بمعنى «كَيْفَ»، وبمعنى «مِنْ أَيْنَ»، وقد فسِّرت الآية الكريمة بكلِّ من هذه الوجوهِ، وقال النحويون: «أَنَّى» لتعميم الأحوال، وقال بعضهم: إنما تجيءُ سؤالاً وإخباراً عن أمْرٍ له جهاتٌ، فَهِيَ على هذا أعمُّ مِنْ «كَيْفَ»، ومِنْ «أَيْنَ»، ومِنْ «مَتَى»، وقالوا: إذا كانت شرطيةً، فهي ظرف مكانٍ فقط، واعمل أنها مبنيةٌ؛ لتضمُّنها: إمَّا معنى حرف الشرط، والاستفهام، وهي لازمة النصبِ على الظرفية، والعامل فيها هنا قالوا: الفعل قبلها وهو: «فَأْتُوا» قال أبو حيان: وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّها إمَّا شرطية أو استفهاميةٌ، لا جائزٌ أن تكون شرطيةً؛ لوجهين:
أحدهما: من جهة المعنى، وهو أنَّها إذا كانت شرطاً، كانت ظرف مكانٍ، كما تقدَّم؛ وحينئذٍ: يقتضي الكلام الإباحة في غير القبل، وقد ثبت تحريم ذلك.
والثاني: من جهة الصناعة، وهو أنَّ اسم الشرط لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام، بل يعمل فيه فعل الشرط؛ كما أنه عاملٌ في فعل الشرط الجزم، ولا جائزٌ أن تكون استفهاماً؛ لأنَّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام، ولأنَّ «أَنَّى» إذا كانت استفهاميةً، اكتفت بما بعدها من فعلٍ واسم، نحو: ﴿أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾ [الأنعام: ١٠١] ﴿أنى لَكِ هذا﴾ [آل عمران: ٢٧] وهذه في هذه الآية مفتقرة لما قبلها كما ترى، وهذا موضع مشكل يحتاج إلى تأملٍ ونظر.
78
ثم الذي يظهر: أنها هنا شرطيةٌ، ويكون قد حذف جوابها؛ لدلالة ما قبله عليه، تقديره: أنَّى شئتم، فأتوه، ويكون قد جعلت الأحوال فيها جَعْلَ الظروف، وأُجريت مجراها، تشبيهاً للحال بظرف المكان؛ ولذلك تقدَّر ب «في»، كما أُجريت «كَيْفَ» الاستفهامية مجرى الشرط في قوله: ﴿يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ [المائدة: ٦٤] وقالوا: كيف تصنع أصنع، فالمعنى هنا ليس استفهاماً بل شرطاً؛ فيكون ثمَّ حذفٌ في قوله: «يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ»، أي: كيف يشاء يُنْفِق، وهكذا كل موضعٍ يشبهه، وسيأتي له مزيد بيانٍ، فإن قلت: قد أخرجت «أنَّى» عن الظرفية الحقيقية، وجعلتها لتعميم الأحوال مثل «كَيْفَ» وقلت: إنها مقتضيةٌ لجملةٍ أخرى كالشرط، فهل الفعل بعدها في محلِّ جزم، اعتباراً بكونها شرطيةً، أو في محلِّ رفع، كما تكون كذلك بعد «كَيْفَ» التي تسعمل شرطية؟ قلت: تحتمل الأمرين، والأرجح الأول؛ لثبوت عمل الجزم؛ لأنَّ غاية ما في الباب تشبيه الأحوال بالظروف، للعلاقة المذكورة، وهو تقدير «في» في كلٍّ منهما.
ولم يجزم ب «كَيْفَ» إلا بعضهم قياساً لا سماعاً، ومعفول «شِئْتُمْ» محذوفٌ، أي: شِئْتُمْ إتيانه بعد أن يكون في المحلِّ المباح.

فصل في بيان سبب النزول


روى ابن عبَّاسٍ في سبب النزول؛ قال: جاء عمر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول الله، هلكت. قال: «وَمَا الَّذِي أَهْلَكَكَ؟» قال: حَوَّلْتُ رَحْلِي البَارِحَةَ، فلم يَرُدَّ عليه شيئاً، فَأُوحي إليه: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ﴾، يقول: أقبل، وأدبر، واتَّقِ الحَيْضَة والدُّبُرَ.
وروى جابر بن عبد الله؛ قال: كانت اليهود تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها: إن الولد يكون أحولاً، فنزلت هذه الآية.
وروى مجاهد عن ابن عبَّاسٍ؛ قال: كان من شأن أهل الكتاب ألاَّ يأتوا النِّساء إلاَّ على حرفٍ، وذلك أستر ما تكون المرأة، وكان هذا الحيُّ من الأنصار قد أخذوا
79
بذلك من فعلهم، وكان هذا الحيُّ من قريشٍ يتلذَّذُون منهنَّ مقبلات، ومدبراتٍ، ومستلقياتٍ، فلما قدم المهاجرون المدينة، تزوَّج رَجُلٌ منهم امرأَةً من الأنصار، وذهب يصنعُ لها ذلك فَأَنْكَرَت ذلك عليه، وقالت: إنما كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ، فَإن شِئْتَ فَاصْنَع ذَلِك وإلا فاجْتَنِبْنِي، حتى سَرَى أَمْرهَا إلى رَسُولِ الله صلى الله عيه وسلم، فَأنزلَ الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ يعني: موضع الولد، ﴿فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ﴾ مُقْبِلاتٍ، ومُدْبِرَاتٍ ومُستلقياتٍ.

فصل


قال عكرمة والحسن: «أنى شِئْتُمْ» إنما هو الفَرْجُ.
وقوله: «حَرْثٌ لَكُم» أي: مَزْرَعٌ لكم، ومنبتٌ للولد بمنزلة الأرض، وهذا دليلٌ على تحريم الأدبار؛ لأن محلَّ الحرث والزَّرع هو القبل لا الدُّبر، ؛ وأنشد ثعلبٌ: [الرمل]
١٠٨٢ - إِنَّمَا الأَرْحَامَ أَرْضُو نَ لَنَا مُحْتَرَثَاتُ
فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيهَا وَعَلَى اللهِ النَّبَاتُ
وقال سعيد بن المسيَّب: هذا في العزل، يعني: إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا، سئل ابن عبَّاس عن العزل؛ فقال: حرثُكَ، فإن شئتَ فعطِّش، وإن شئت فَارْوِ.
ورُوي عنه؛ أنَّه قال: تُسْتَأْمَر الحرَّة في العزل، ولا تُسْتَأْمَرُ الجارية، وكره جماعة العزل، وقالوا: هو الوَأْدُ الخفيّ.
وروى مالك عن نافع؛ قال: كُنْتُ أَمْسِكُ على ابن عمر المُصْحَفَ، فقرأْتُ هذه الآية: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ فقال: تدْري فيما نزلت؛ في رجلٍ أتى امْرَأَتَهُ في دبرها،
80
فشقَّ ذلك عليه، فنزلت هذه الآية.
ويُحكَى عن مالكٍ إباحة ذلك، وأنكر ذلك أصحابه.
وروي عن عبد الله بن الحسن؛ أنه لقي سالم بن عبد الله، فقال له: يا أبا عمر؛ ما حُدِّثتُ بحديث نافع عن عبد الله؛ أنه لم يكن يرى بأساً بإتيان النِّساء في أدبارهنَّ، قال: كذب العبدُ وأخْطَأَ، إنما قال عبد الله: يُؤْتُونَ في فُرُوجِهِنَّ من أَدْبَارِهِنَّ، والدَّليل على تحريمِ الأدبارِ: ما روى خُزيمة بن ثابتٍ؛ أن رجلاً سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن إِتيان النِّساء في أَدْبَارِهِنَّ، فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «حَلاَلٌ» فلما ولَّى الرَّجل دعاه، فقال: «كَيْفَ قُلْتَ في أَيِّ الخَرْبتين أَوْ فِي الخَرزَتَين أوْ فِي أيِّ الخَصْفَتَين، أَمِنْ قُبُلِهَا في قُبُلِهَا؟
81
فَنَعَمْ، أمْ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا؛ فَنَعَمْ أَمْ مِنْ دُبُرِها فِي دُبُرِهَا، فَلاَ، فإنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحيِي مِنَ الحَقِّ، لاَ تَأْتُوا النِّسَاءَ في أَدْبَارِهِنَّ».
وأراد بخربتها مسلكها، وأصل الخربة: عروة المزادة. شبِّه بالثّقب بها، والخرزة هي: الثقبة التي يثقبها الخرَّاز وكنَّى به عن المأْتى، وكذلك الخصفة من قولهم: خصفت الجلد إذا خرزته.
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً في دُبُرِهَا» وقال - تعالى - في آيةِ المحيض: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض﴾ [البقرة: ٢٢٢] جعل الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى، ولا معنى للأذى إلاَّ ما يتأذَّى الإنسان مه بنتن ريحِ الدَّم، وهذه العلَّة هنا أظهر؛ فوجب القول بتحريمه.
وروي عن أبي هريرة، عن النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ قال: «مَنْ أَتَى امْرَأَةً في دُبُرِهَا لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْه يَوْمَ القِيَامَةِ».
وروى أبو داود الطَّيالسي، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «تِلْكَ اللوطِيَّةُ الصُّغْرَى بإِتْيَانِ المَرْأَةِ في دُبُرِهَا».
وعن طاوس؛ قال: إنه كَانَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ إِتْيَانُ النِّسَاء في أَدْبَارِها. واحتج من جوَّزَهُ بوجوه:
الأول: التَّمسُّك بهذه الآية من وجهين:
أحدهما: أنه جعل الحرث اسماً للمرأة لا للموضع المعيَّن، فلمَّا قال بعده: {فَأْتُواْ
82
حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} كان المراد: فأتوا نساءكم أنى شئتم، فيكون إطلاقاً في إتيانهن على جميع الوجوه.
وثانيهما: كلمة «أَنَّى» معناها: أين؛ قال - تعالى - ﴿أنى لَكِ هذا﴾ [أل عمران: ٣٧]، معناه: من أين لك هذا، فصار تقدير الآية: فأْتُوا حَرْثَكُم أَيْنَ شِئْتُم، وكلمة «أَيْنَ» تدلُّ على تعدُّد الأمكنة؛ تقول: اجلِس أيْن شِئْتَ، فيكون تخييراً بين الأمكنة.
وإذا ثبت هذا، فلا يمكن حمل الآية على الإتيان من قبلها، أو من دبرها في قُبُلِها؛ لأنه على هذا التَّقدير، يكون المكان واحداً، والتَّعدُّد إنَّما وقع في طريقِ الإتيان، فاللاَّئق به أن نقول: اذهبوا إليه كيف شئتم، فلمَّا لم يذكر كيف، بل ذكر لفظة «أَنَّى» وهي مشعرةٌ بالتَّخيير بين الأمكنة كما بيَّنَّا، ثبت أنَّ المراد ما ذكرنا.
الحجة الثانية: تمسَّكوا بعموم قوله - تعالى -: ﴿إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [المؤمنون: ٦]، ترك العمل به في حقِّ الذُّكور بالإجماع، فيبقى فيما عداه على العموم.
الحجة الثالثة: لو قال للمرأة: دُبُرِكِ عليَّ حَرَامٌ، ونوى الطَّلاق، أنه يكون طلاقاً فيقتضي كون دبرها حلالاً له.
والجواب عن الأوَّل: أن «الحَرْثَ» اسمٌ لموضع الحراثة، والمرأة بجميع أجزائها ليست محلاً للحراثة، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة كما تقدَّم، فلما أطلق لفظ «الحَرْثِ» على ذات المرأَة، حملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية الشَّيء باسم جزئِه، وهذه الضَّرورة مفقودةٌ في قوله: «فَأْتُوا حَرْثَكُمْ» فوجب حَمْلُ الحرث ههنا على موضع الحراثة على التَّعيين؛ فثبت أن هذه الآية لا دلالة فيها إلاَّ على إتيان النِّساء في محلِّ الحرث، وقد قدَّمنا أن «الحَرْثَ» إنَّما يراد للزَّرع وهو الولد، وذلك لا يكون إلاَّ في المأتى.
وعن الثَّاني: أنه لما ثبت أن المراد ب «الحَرْثِ» ذلك الموضع المعيَّن لم يمكن حمل «أَنَّى شِئْتُمْ» على التَّخْيير في الأمكنة.
وأما قوله: ﴿إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [المؤمنون: ٦] فإنه عامٌّ، ودلائلنا خاصَّةٌ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العام.
وقولهم: دُبُرُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ، إنما صلح أن يكون كنايةٌ عن الطَّلاق، وإنَّه لَمَحَلُّ الملامسة والمضاجعة، وهو جزؤها، فصار ذلك كقوله: يدك طالقٌ.
هذا الجواب من حيث التَّفصيل أمّا من حيث الجملة: فقد بينَّا أنَّ قوله: «قُلْ هُوَ أَذًى» يدلُّ على التَّحريم؛ لوجود العلَّة المقتضية له، فلو جوَّزنا ذلك، لكان جمعاً بين دليل التَّحريم، ودليل التَّحليل في موضع واحدٍ، والأصل أنَّه لا يجوز، وأيضاً فالرِّوايات
83
المشهورة في كون سبب النُّزول، هو اختلافهم في أنَّهُ: هل يجوز إتيانهنّ من دُبُرِهِنّ في قبولِهِن؛ وسبب النُّزول لا يكون خارجاً عن الآية، ومتى حملنا الآية على هذه الصُّورة لم تكن الآية نزلت على ذلك السَّبب.
ويمكن الجواب عن هذا: بأن الاعتبار بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب، فإن السُّؤال قد يكون خاصّاً والجواب عامّاً، وهو كثير.
قوله: ﴿وَقَدِّمُواْ﴾ مفعوله محذوفٌ، أي: نيَّةَ الولدِ، أو نيةَ الإعفاف، وذِكْرَ اللهِ أو الخير؛ كقوله: ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ﴾ [البقرة: ١١٠].
وقال عطاء عن ابن عبَّاس: هي التَّسمية عند الجماع.
قال ابن الخطيب: وهذا في غاية البُعدِ: والَّذِي عندي فيه: أن قوله: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ جار مجرى التَّنبيه على إباحة الوطءِ؛ كأنه قيل: هؤلاء النِّسوان إِنَّمَا حكم الشَّرع بإباحة وطئهنَّ لكم؛ لأجل أنَّهُن حرث لكم، أي بسبب أن يتولَّد الولدُ منهن، ثم قال بعده: ﴿فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ﴾ دليلاً على الإِذن في ذلك الموضع، والمنْع من غير ذلك المَوضع، فلمَّا اشْتَمَلت الآيةُ على الإِذن في أحدِ الموضعين، والمنع من الموضع الآخِر، لا جرم قال: ﴿وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ﴾ أي: لا تكُونُوا في قيد قضاء الشَّهوةِ، بل كونوا في قيد تقديم الطَّاعةِ، ثم إنه - تعالى - أكَّدَ ذلك بقوله: ﴿واتقوا الله﴾، ثم أكَّدَهُ ثالثاً بقوله: ﴿واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ﴾، وهذه التَّهديدات الثَّلاثة المُتَوالية، لا يليقُ ذكرها إلاَّ إذا كانت مسبوقة بالنَّهْي عن شيءٍ لذيذ مُشْتَهى، فثبت أن ما قَبْل هذه الآية دالٌّ على تحريم هذا العملِ، وما بعدها أيضاً دالٌّ على تحريمه؛ فثبتَ أَنَّ الصَّحِيح في تفسير هذه الآيةِ، ما ذهب إليه الجمهور.
قوله: «لأَنْفُسِكُمْ» مُتعلِّقٌ ب «قَدِّمُوا»، واللامُ تحتملُ التعليل والتعديّ، والهاءُ في «مُلاَقُوهُ» يجوزُ أَنْ تعودَ على اللهِ تعالى، ولا بُد مِنْ حذفِ مضافٍ، أي: ملاقو جزائِهِ، وأَنْ تعودَ على مفعولِ «قَدِّمُوا» المحذوف. وتَقَدَّم الكلام في التَّقوَى، وتَقَدَّم أيضاً تفسير لقاء الله في قوله: ﴿الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦].
والضميرُ في «وَبَشِّرِ» للرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لتقدُّم ذِكرِه في قوله: «يَسْأَلُونَكَ» قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ ضميرَ الخطابِ والتكلُّم لا يحتاج أَنْ يُقالَ فيهما: تَقدَّمَ ذِكْرُ ما يَدُلُّ عليهما، ويجوزُ أن يكونَ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ منه البِشارة.
84
اللامُ في قوله ﴿لأَيْمَانِكُمْ﴾ تحتملُ وجهين:
أحدهما: أن تكونَ مقويةً لتعديةِ «عُرْضَةً»، تقديره: ولا تجعلوا اللهَ معدَّى ومَرْصَداً لحَلْفِكُمْ.
والثاني: أن تكونَ للتعيلِ، فتتعلَّقَ بفعلِ النهيِ، أي: لا تَجْعَلُوهُ عُرْضَةً لأجْلِ أَيْمَانِكُمْ.
قوله: ﴿أَن تَبَرُّواْ﴾ فيه ستةُ أوجهٍ:
أحدها: - وهو قول الزجاج، والتُبريزي، وغيرهما -: أنها في محلِّ رفع بالابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ، تقديرُه: أَنْ تَبَرُّوا وتتقُوا وتُصْلِحُوا خَيْرٌ لكُمْ مِنْ أَن تجعلُوه عُرْضَةً لأَيْمانكم، أو بِرُّكُمْ أولى وأمثَلُ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى انقطاعِ هذه الجملةِ عمَّا قبلها، والظاهرُ تعلُّقُها به.
الثاني: أنَّها في محلِّ نصب على أنها مفعولٌ من أجله، وهذا قولُ الجمهورِ، ثم اختلفوا في تقديرِه: فقيل: إرادةَ أنْ تَبَرُّوا وقيلَ: كراهةَ أن تَبَرُّوا، قاله المهدويُّ، وقيل: لِتَرْكِ أَنْ تَبَرُّوا، قاله المبرِّدُ، وقيل: لئَلاَّ تَبَرُّوا، قاله أبو عبيدة والطَّبريُّ؛ وأنشدا: [الطويل]
١٠٨٣ -... فَلاَ واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً...........................
أي: لا تَهْبِطُ، فحذف «لاَ» ومثلُه: ﴿يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء: ١٧٦]، أي: لئلا تضِلُّوا، وتقديرُ الإِرادة هو الوجهُ، وذلك أن التقاديرَ التي ذكرناها بعد تقدير الإِرادة لا يظهرُ معناها؛ لمَا فيه من تعليل امتناعِ الحَلْفِ بانتفاء البِرِّ، بل وقوع الحَلْفِ مُعَلَّلٌ بانتفاء البِرِّ، ولا ينعقد منهما شرطٌ وجزاءٌ، لو قلتَ في معنى هذا النهي وعلَّتِه، «إِنْ حَلَفْتَ بالله، بَرَرْتَ» لم يصحَّ، بخلافِ تقديرِ الإِرادة؛ فإنه يُعَلَّل امتناع الحَلْفِ بإرادة وجودِ البِرِّ، وينعقدُ منهما شرطٌ وجزاءٌ تقول: إِنْ حَلَفْتَ، لم تَبَرَّ، وإنْ لم تَحْلِفْ، بَرَرْتَ.
الثالث: أنَّها على إسقاط حرف الجرِّ، أي: في أَنْ تَبَرُّوا؛ وحينئذٍ: يَجِيء فيها القولان: قولُ سيبويه والفراء فتكون في محلِّ نصبٍ، وقولُ الخليل والكسائيَ، فتكونُ
85
في محلِّ جرٍّ، وقال الزمخشري: ويتعلَّقُ «أَنْ تَبَرُّوا» بالفعل أو بالعُرْضَةِ، أي: «ولا تَجْعَلُوا اللهَ لأَجْلِ أَيْمَانِكُمْ عُرْضَةً لأنْ تَبَرُّوا». قال أبو حيان: وهذا التقديرُ لا يصحُّ للفصل بين العامل ومعمولهِ بأجنبيٍّ، وذلك أنَّ «لأَيْمَانِكُمْ» عنده متعلقٌ ب «تَجْعَلُوا»، فوقع فاصلاً بين «عُرْضَةً» التي هي العاملُ وبين «أَنْ تَبَرُّوا» الذي هو معموله وهو أجنبيٌّ منهما، ونظيرُ ما أجازه أن تقولَ: «امْرُرْ وَاضْرِبْ بِزَيْدَ هِنْداً»، وهو غيرُ جائزٍ، ونَصُّوا على أنه لا يجوزُ: «جَاءَني رَجُلٌ ذُو فَرَسٍ رَاكِبٌ أَبْلَقَ» أي رجلٌ ذُو فَرَسٍ أَبْلَقَ راكِبٌ لِما فيه من الفصلِ بالأجنبيِّ.
الرابع: أنها في محلِّ جَرٍّ؛ عطفَ بيانٍ ل «أَيْمَانِكُمْ»، أي: للأمورِ المَحْلُوفِ عليها التي هي البِرُّ والتقوَى والإِصلاح كما في الحديث. قال أبو حيان: «وهو ضعيفٌ لما فيه من جَعْلِ الأيمانِ بمعنى المَحْلُوفِ عليه»، والظاهرُ أنها هي الأقسام التي يُقْسَمُ بها، ولا حاجةَ إلى تأويلها بما ذُكِرَ من كَوْنها بمعنى المَحْلُوفِ عليه؛ إذ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ، وهذا بخلافِ الحديثِ، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
«إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا» فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة.
الخامسُ: أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍّ على البدلِ من «لأَيْمَانِكُمْ» ؛ بالتأويل الذي ذكره الزمخشريُّ، وهذا أَوْلَى من وجهِ عطفِ البيانِ؛ فإنَّ عَطْفَ البيانِ أكثرُ ما يكونُ في الأعلام.
السادس - وهو الظاهرُ -: أنَّها على إسقاطِ حرفِ الجر، لا على ذلك الوجه المتقدِّم، بل الحرفُ غيرُ الحرفِ، والمتعلِّقُ غيرُ المتعلِّقِ، والتقديرُ: «لإِقْسَامِكُمْ عَلَى أَنْ تَبَرُّوا» ف «عَلَى» متعلقٌ بإِقْسَامِكُمْ، والمعنى: وَلاَ تَجْعَلوا الله مُعَرَّضاً ومُتَبَدَّلاً لإِقْسَامكُمْ على البِرِّ والتقْوَى والإِصْلاَح الَّتي هي أوصافٌ جميلةٌ؛ خَوْفاً من الحِنْثِ، فكيف بالإِقسامِ علَى ما ليس فيه بِرٌّ ولا تَقْوَى!!!
والعُرْضَةُ في اشتقاقها ثلاثةُ أقوال:
أحدها: أنها «فُعْلَة» بمعنى «مَفْعُول» ؛ من العَرضِ؛ كالقُطْبَةِ والغُرْفَة، ومعنى الآية على هذا: لاَ تَجْعَلُوهُ مُعَرَّضاً للحَلْفِ من قولهم: فُلاَنٌ عُرْضَةٌ لكَذَا، أي: مُعَرَّضٌ، قال كعبٌ: [البسيط]
86
١٠٨٤ - مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلاَمِ مَجْهُولُ
وقال حبيبٌ: [الطويل]
١٠٨٥ - مَتَى كَانَ سَمْعِي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ وَكِيْفَ صَفَتْ لِلْعَاذِلِينَ عَزَائِمِي
وقال حسَّانُ: [الوافر]
١٠٨٦ -............................. هُمُ الأَنصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ
وقال أوسٌ: [الطويل]
١٠٨٧ - وأَدْمَاءَ مِثْلَ الفَحْلِ يَوْماً عَرَضْتُهَا لِرَحْلِي وَفِيهَا هِزَّةٌ وَتَقَاذُفُ
فهذا كلُّه بمعنى مُعَرَّضٌ لكذا.
والثاني: أنها اسمُ ما تَعْرِضُه على الشيءِ، فيكونُ من: عَرَضَ العُودَ على الإِناءِ، فيعترضُ دونَه، ويصيرُ حاجزاً ومانعاً، ومعنى الآية علَى هذا النَّهيُ عن أَنْ يَحْلِفُوا باللهِ علَى أنَّهم لا يَبَرُّونَ ولاَ يَتَّقُونَ، ويقُولُون: لا نَقْدِرُ أَنْ نَفْعَلَ ذلك لأَجْلِ حَلْفِنَا.
والثالث: أنَّها من العُرْضَة، وهي القوة، يقال: «جَمَلٌ عُرْضَةٌ للسَّفَرِ»، أي: قويٌّ عليه؛ وقال ابن الزَّبير: [الطويل]
١٠٨٨ - فَهَذِي لأَيَّامِ الحُرُوبِ وَهَذِهِ لِلَهْوِي وَهَذِي عُرْضَةٌ لارْتحَالِنَا
أي قوةٌ وعُدَّةٌ. ثم قيل لكُلِّ ما صَلُح لِشَيء فهو عُرْضَة له، حتى قالوا للمرأَةِ: هي عُرْضَةٌ للنِّكاح إذا صَلُحَتْ له ومعنى الآية على هذا: لا تَجْعَلُوا اليمينَ بالله تعالى قوةً لأنفسكم في الامتناعِ عن البرِّ.
87
والأَيْمَانُ: جمعُ يَمِينٍ: وأصلُها العُضْوُ، واستُعْمِلَتْ في الحَلْفِ مجازاً لما جَرَتْ عادةُ المتعاقِدِينَ بتصافُح أَيْمانهم، واشتقاقُها من اليُمْن، واليمينُ أيضاً: اسمٌ للجهةِ التي تكونُ من ناحيةِ هذا العُضْو، فينتصبُ على الظرف، وكذلك اليسارُ، تقول: زَيْدٌ يَمِينُ عَمْروٍ، وبَكرٌ يَسَارهُ، وتُجْمَعُ اليمينُ على «أَيْمُنٍ وأَيْمَانٍ» وهل المرادُ بالأَيْمان في الآية القَسَمُ نفسُه، أو المُقْسَمُ عليه؟ قولان، الأولُ أَوْلَى.
وقد تقدَّمَ تجويزُ الزمخشريِّ أن يكونَ المرادُ به المحلوفَ عليه واستدلالُه بالحديث والجوابُ عنه.

فصل


ذكر المُفسِّرون في هذه الآية أقوالاً كثيرة، وأجودها وجهان:
أحدهما: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو أنَّ قوله: ﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ﴾ نهي عن الجُرأَة على اللهِ بكثَرةِ الحَلْفِ به؛ وذلك لأنه من أَكْثَرَ ذِكْر شيءٍ في معنًى من المعاني، فقد جعلهُ عُرْضَة له، فيقُول الرَّجُل: قد جَعَلْتَنِي عُرْضَة للَوْمك؛ قال الشَّاعر: [الطويل]
١٠٨٩ -........................... وَلاَ تَجْعَلُوني عُرْضَةَ للَّوَائِمِ
وقد ذَمَّ الله تعالى مِنْ أكثر من الحَلْفِ بقوله: ﴿وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ﴾ [القلم: ١٠]، وقال تعالى: ﴿واحفظوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] والعرب كانوا يَمْدَحُون الإنسان بالإقلال من الحلف؛ كما قال كثير: [الطويل]
١٠٩٠ - قَلِيلُ الأَلاَيَا حافِظٌ لِيَمِينِهِ وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ
والحِكْمَة في الأَمْرِ بتقليل الأَيمانِ؛ أن من حَلَف في كُلِّ قَلِيلٍ وكثِيرٍ باللهِ، انْطَلق لِسَانهُ بذلك، ولا يبقَى لليمِين في قَلْبِهِ وقْعٌ، فلا يُؤْمَنُ إقْدَامه على الأَيْمَانِ الكَاذِبَةِ، فيخْتَلُّ ما هو الغَرَضُ من اليمين، وأيضاً كُلَّمَا كان الإنسان أَكْثَرَ تعظِيماً لله - تعالى -، كان أكمل في العُبُوديَّة، ومن كمال التَّعظيم أن يكُون ذِكْر الله - تعالى - أَجَلَّ وأَعْلَى عِنْدَه، من أَنْ يَسْتشْهِد به في غرضٍ من الأَغراض الدُّنْيَويَّة.
فإن قيل: كيف يَلْزَم من تَرْك الحَلْفِ حُصُول البِرِّ والتٌّقْوى، والإصْلاَح بين النَّاسِ؟
فالجواب: أَنَّ من تَرَك الحَلْف؛ لاعْتِقَادِه أَنّ الله أَعْظَم وأَجَلَّ من أَنْ يُسْتَشْهَد باسمِه المُعَظَّم في طَلَب الدُّنْيَا، وخَسَائِس مطالب الحَلْفِ، ولا شك أن هذا من أَعْظَمِ أَبْوَابِ البِرّ.
88

فصل في سبب النزول


نزلت هذه الآيةُ في عبد الله بن رواحة؛ كان بينه وبَيْنَ خَتَنِهِ على أَخِيه بشير بن النُّعْمان شيء، فحلف عبد الله ألاّ يَدْخُلَ عليه، ولا يُكَلِّمَهُ، ولا يُصْلِح بَيْنَه وبين خصمهِ، وإذا قيل لهُ فيه، قال: قد حَلَفْتُ بالله ألاَّ أفْعَل، فلا يَحِلُّ لي إلاَّ أنْ تَبَرَّ يميني فأنْزَل الله هذه الآية.
وقال ابن جريج: نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق، حين حلف ألاَّ ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفْك، ومعنى الآية: لا تجعلوا الحلف باللهِ شيئاً مانعاً لكم من البرِّ والتَّقوَى، يُدعى أَحدكم إلى صلة الرَّحمن أو بِرِّ، فيقول: حلفتُ بالله ألاّ أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البِرّ.
قوله: ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ خَتَم بهاتَيْن الصفتَيْن؛ لتقدُّم مناسبتهما؛ فإنَّ الحَلْفَ متعلِّقٌ بالسَّمْع، وإرادة البِرِّ من فِعْلِ القلْبِ متعلقةٌ بالعِلْم، وقَدَّم السميع؛ لتقدُّم متعلِّقِه، وهو الحَلْفُ.
قوله تعالى: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ﴾.
واللَّغْوُ: مصدرُ لَغَا يَلْغُو، يقال: لَغَا يَلْغُو لَغْواً، مثل غَزَا يَغْزُو غَزْواً، ولغِيَ يَلْغَى لَغًى مثل لَقِيَ يَلْقَى لقًى إذا أتى بما لا يُحْتاجُ إليه من الكلام، أو بما لا خير فيه، أو بِما يلغى إثمه؛ كقوله - عليه الصّلاة والسّلام -
«إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمعَةِ: أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ».
ومن الثاني قوله تعالى: ﴿والغوا فِيهِ﴾ [فصلت: ٢٦].
قال الفرَّاء: اللَّغا مصدر للغَيت.
قال أبو العبَّاس المقري: ورد لفظ «اللَّغو» في القرآن على ثلاثة أوجه:
الأول: بمعنى اليمين بغير عقديَّةٍ كهذه الآية.
89
الثاني: بمعنى الشَّتيمة؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً﴾ [الفرقان: ٧٢]، أي: لم يجيبوهم؛ ومثله: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ﴾ [القصص: ٥٥].
الثالث: بمعنى الحلف عند شُرْب الخمر؛ قال تعالى: ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا﴾ [الطور: ٢٣]، أي: لا يحلف بعضهم على بعض.

فصل


والباء في «بِاللَّغْوِ» متعلِّق ب «يؤاخذكم» والباء معناها السَّببيّة، كقوله: ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾ [العنكبوت: ٤٠]، ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ﴾ [النحل: ٦١].
واختلف في اللَّغْوِ: فقيل: ما سبق به اللسانُ مِنْ غيرِ قصدٍ، قاله الفرَّاء، ومنه قول الفرزدق: [الطويل]
١٠٩١ - وَلَسْتَ بِمَأْخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ إِذَا لَمْ تُعَمِّدْ عَاقِدَاتِ العَزَائِمِ
ويُحْكَى أن الحسن سُئِلَ عن اللَّغو وعن المَسبيَّة ذات زوجٍ، فنهض الفرزدق، وقال: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قُلْتُ، وأَنْشَد البيت: [الطويل]
وَلَسْتَ بمَأْخُوذٍ................................................
وقوله: [الطويل]
١٠٩٢ - وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا حَلاَلٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلِّقِ
فقال الحسن: «ما أَذْكَاكَ لَوْلاَ حِنْثُك»، وقد يُطْلَقُ على كلِّ كلامٍ قبيحٍ «لَغْوٌ».
قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ﴾ [الفرقان: ٧٢]، ﴿لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً﴾ [مريم: ٦٢] ؛ وقال العجاج: [الرجز]
١٠٩٣ - وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ عِنِ اللَّغَا وَرَفَثَ التَّكَلُّمِ
وقيل: ما يُطرحُ من الكلام؛ استغناءً عنه، مأخوذٌ من قولهم لِما لا يُعْتَدُّ به من أولاد الإِبل في الدِّيَة «لَغْوٌ» ؛ قال جريرٌ: [الوافر]
١٠٩٤ - وَيَهْلكُ وَسْطَهَا المَرْئيُّ لَغْواً كَمَا أَلْغَيْتَ فِي الدِّيَةِ الحُوَرَا
وقيل: «اللَّغو» السَّاقط الذي لا يُعتدُّ به سواء كان كلاماً أو غيره، فأَمَّا وروده في
90
الكلام؛ فكقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ﴾ [القصص: ٥٥] وقوله: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً﴾ [الواقعة: ٢٥]، وقوله: ﴿لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً﴾ [فصلت: ٢٦، ﴿لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً﴾ [الغاشية: ١١] وقال عليه الصّلاة والسّلام: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمعَةِ والإِمَامُ يَخْطُبُ: أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ»
وأما قوله: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ﴾ [الفرقان: ٧٢] فيحتمل أن يكون المُرادُ وإذا مَرُّوا بالكلام الَّذي يكون لغواً، وأن يكون المُرادُ: وإذا مَرُّوا بالفعل الَّذِي يكون لغواً، وأَمَّا ورود هذه اللَّفظة في غير الكلام، فكما ورد فيما لا يعتدُّ به من الدِّية في أولاد الإِبل.
وقيل: هو ما لا يُفهم، من قولهم: «لَغَا الطَّائِرُ»، أي: صوَّتَ، واللَّغو، ما لَهجَ به الإنسانُ، واللغةُ مأخوذةٌ من هذا.
وقال الراغب: ولَغِيَ بكذا: أي لَهِجَ به لَهَجَ العُصْفُورِ بِلَغَاهُ، ومنه قيل للكلام الذي تَلْهَجُ به فرقةٌ «لُغَة» ؛ لجعلها مشتقةً من لَغِيَ بكذا، أي: أُولِعَ به، قوال ابن عيسى - وقد ذكر أن اللَّغوَ ما لا يفيدُ -: «ومنه اللغةُ؛ لأنَّها عند غيرِ أهلِها لَغْوٌ»، وقد غَلَّطوه في ذلك.
قوله
: ﴿في
أَيْمَانِكُمْ
فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن يتعلَّق بالفعلِ قبله.
الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المصدرِ قبله؛ كقولك: «لَغَا فِي يمينه».
الثالث: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حال من اللَّغْوِ، وتعرفه من حيث المعنى؛ أنك لو جعلتَه صلةً لموصولٍ، ووصفْتَ به اللغو، لصحَّ المعنى، أي: اللغو الذي في أَيْمَانِكُمْ. وسُمِّي الحَلفُ يَميناً؛ لأن العرب كانوا إذا تَحَالَفُوا وضع أحدهم يمينه في يمين الآخر.
وقيل: لأَنَّه يحفظ الشَّيء كما تحفظ اليد اليمنى الشَّيء.

فصل في تفسير اللغو


ذكر المفسِّرون في «اللَّغو» وجوهاً:
أحدها: قال الشَّافعيُّ وغيره: هو قول الرَّجل في عرض حديثه: «لاَ واللهِ» و «بَلَى واللهِ» من غير قصدٍ إليهما، وهو قول عائشة، وإليه ذهب الشَّعبي وعكرمة، لِمَا رَوَت عائشة؛ قالت: سَبَبُ نُزُولِ هَذِه الآية: قول الرَّجُل فِي عُرْضِ حديثه: (لاَ واللهِ) و (بَلَى
91
واللهِ) أخرجه البُخاري، ويروى عن عائشة: أيمان اللَّغو ما كان في الهزل والمراء والخُصُومة، والحديث الَّذي لا ينعقِدُ عليه القلبُ.
وقال آخرون: هو أن يحلف على شيءٍ يرى أنَّه صادِقٌ، ثم تَبَيَّن أنه خلاف ذلك، وهو قول ابن عبَّاس والحسن، ومجاهد، وسليمان بن يسار، والزُّهري، والسُّدِّيّ، وإبراهيم النَّخعي، وقتادة: ومكحول، وبه قال أبو حنيفة.
وفائدة الخلاف: أَنَّ الشَّافعيُّ لا يوجب الكفَّارة في قول الرجل: «لاَ واللهِ» و «بَلَى واللهِ»، ويوجبها، فيما إذا حلف على شيءٍ يعتقد أَنَّهُ كان، ثم بان أَنَّه لم يكن، وأَبو حنيفة يحكم بالضِّدِّ من ذلك.
وقال سعيد بن جبير: هو اليمين في المعصية، لا يؤاخذه الله بالحَنْثِ فيها، بل يحنث ويُكَفِّر.
وقال مسروق: ليس عليه كفَّارة، أنُكفِّرُ خطوات الشَّيطان؟ وقال الشَّعبيُّ: الرَّجل يحلف على المعصية كفَّارته أن يتوب منها، وكُلُّ يمين لا يحلُّ لك أن تَفِي بها، فليس فيها كفَّارة، ولو أَمرته بالكفَّارة، لأمرته أَنْ يُتمَّ على قوله.
هذا هو اللَّغو؛ لأن اللَّغو هو المعصية؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ﴾ [القصص: ٥٥].
وقال عليٌّ: هو اليمين في الغضب، وبه قال طاوس.
وقال الضَّحَّاك: اللَّغو هو اليمين المُكفِّرة، سُمِّيت لغواً، لأن الكَفَّارة أسقطتِ الإثم؛ كأنه قيل: لا يُؤاخذكُم اللهُ بِاللَّغْوِ في أيمانِكُم، إِذْ كَفَّرْتُم.
وقال زيد بن أسلم: هو دُعاء الرَّجُل على نفسه؛ كقوله: «أَعْمَى الله بَصَرِي إن لَمْ أَفْعَلْ كَذَا، أَخْرَجَنِي اللهُ من مَالِي إِنْ لَمْ آتِكَ غداً» أو يقول: هُوَ كَافِرٌ إن فَعَلَ كَذَا، فهذا كُلُّه لَغْوٌ لا يُؤَاخذُه الله به، ولو آخَذَ اللهُ به، لعَجَّلَ لهم العُقُوبة؛ قال تعالى: {وَيَدْعُ
92
الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير} [الإسراء: ١١]، ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير﴾ [يونس: ١١].
وقال القاضي: هو كُلُّ ما يقع سهواً من غير قصدٍ؛ لقوله تعالى بعد ذلك: ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، أي: يؤاخذكم إذا تعمَّدتم، ومعلوم أنَّ المقابل للعمد هو السَّهو، حُجَّة الشَّافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -؛ أَنَّ النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:
«لَغْوُ اليَمِينِ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي قَلْبِهِ: كَلاَّ واللهِ، بَلَى واللهِ، لاَ وَاللهِ».
وروي أنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مرَّ بقوم ينتضلون، ومعه رجلٌ من أصحابه، فرمى رجلٌ من القوم، فقال: أصبت واللهِ، ثم أخطأ فقال الَّذي مع النَّبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: حَنَثَ الرَّجُل يا رَسُولَ اللهِ، فقال النَّبيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «كُلُّ أَيْمَان الرُّمَاةِ لَغْوٌ لاَ كَفَّارَةَ فِيهَا، وَلاَ عُقُوبَةَ».
وأيضاً فقوله: ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ هو الَّذي يقصد الإنسانُ على سبيل الجِدِّ، ويربط قلبه به، وإذا كان كذلك، وجب أَنْ يكُونَ اللَّغْو كالمقابل له، ويكُون معناه: ما لا يقصدُ الإنسان بالجِدِّ، ولا يربط قلبه به، وذلك هو قول القائل في عرض حديثه: لا والله، وبلى والله مِنْ غير قصدٍ على سبيل العادة.
وأيضاً: فَإِنَّه قال قبل هذه الآية: ﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ﴾ وتقدَّم أنَّ معناه: النَّهي عن كثرة الحلفِ، والَّذِين يقولُون على سبيل العادة لاَ والله، وبلى والله، لا شك أنَّهم يكثرون الحَلْفَ واليمين، فلمَّا ذكرهم اللهُ - عقيب قوله: ﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ﴾، وبين أنَّه لا مؤاخذة عليهم، ولا كفارة، فإيجاب مؤاخذتهم يقتضي إِمَّا أَنْ يمتنعوا عن الكلام، أو يلزمهم فِي كُلِّ لحظَةٍ كفَّارة، وكلاهُما حرجٌ في الدِّين.
واحتجَّ أبو حنيفة بوجوه:
الأول: قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ»، فأوجب الكفَّارة على الحانِثِ مُطْلقاً، ولم يفصل بين الجَدِّ والهزل.
الثاني: أَنَّ اليمين معنى لا يلحقه الفسخ، فلا يعتبر فيه القصد كالطَّلاق والعتاق، وهاتان الحُجَّتان توجبان الكَفَّارة في قول النَّاس لا واللهِ، وبَلَى والله، إذا حصل الحَنثُ.
93
ويؤيِّد ما قلناه: أَنَّ اليمين في اللغة عبارةٌ عن القُوَّة؛ قال الشَّاعر: [الوافر]
١٠٩٥ - إِذَا مَا رَيَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
أي: بالقوَّة، والمقصود من اليمين: تقوية جانب البِرِّ على جانب الحنث بسب اليمين، وإنَّما يفعل هذا في الموضع الَّذي يكون قابلاً للتَّقوية، وهذا إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل، فأمَّا إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التَّقوية ألبتَّة فعلى هذا فاليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة فأمَّا اليمين على المستقبل، فإنه قابلٌ للتَّقوية.
قوله: ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم﴾ وقعت هنا «َلَكِنْ» بين نقيضين؛ باعتبار وجود اليمين؛ لأنَّها لا تَخْلُو: إمَّا ألاَّ يقصدها القلبُ: بل جرتْ على اللسانِ، وهي اللَّغْوُ، وإمَّا أن يقصِدَها، وهي المنعقدةُ.
قوله تعالى: ﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾ متعلِّقٌ بالفعلِ قبله، والباءُ للسببية كما تقدَّم، و «مَا» يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه:
أظهرها: أنها مصدريةٌ لتُقابل المصدر، وهو اللَّغو، أي: لا يؤاخذكم باللغوِ، ولكن بالكسب.
والثاني: أنها بمعنى «الذي»، ولا بُدَّ من عائدٍ محذوفٍ، أي: كَسَبَتْهُ؛ ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى «الَّذِي» أكثرُ منها مصدريةً.
والثالثُ: أن تكونَ نكرةً موصوفةً، والعائدُ أيضاً محذوفٌ، وهو ضعيفٌ، وفي هذا الكلام حَذْفٌ، تقديره: ولكنْ يُؤاخِذكُمْ في أَيْمَانِكُمْ بما كَسَبَتْ قلوبُكُمْ؛ فحذف لدلالةِ ما قبله عليه.

فصل


قوله: ﴿يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، أي: عزمتُم وقصدتُم إلى اليمين، وكَسبُ القَلْب: العقدُ والنِّيَّة.
وقال زيد بن أسلم في قوله: «وَلكِم يُؤَاخِذُكم بما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ» هو في الرَّجل يقول: هو مشركٌ إن فعل أي: هذا اللَّغو إلاَّ أن يعقد الشِّرك بقلبه ويكسبه.
واعلم أنَّ اليمين لا تنعقد إلاَّ باللهِ تعالى أو اسم من أسمائِهِ، أو صفةٍ من صفاته، فاليمين باللهِ أَنْ يقول: والَّذي أعبده، والَّذِي أصلِّي له؛ والَّذِي نفسي بيده، ونحو ذلك.
واليمين بأسمائه؛ كقوله: واللهِ؛ والرَّحْمنِ ونحوه.
94
واليمين بصفاته؛ كقوله: وعزَّة اللهِ؛ وعظمةِ اللهِ؛ وجلال اللهِ؛ وقدرة اللهِ، ونحوها.
فإذا حلف بشيءٍ منها على أمرٍ في المستقبل فحنث، وجبت عليه الكفَّارة، وإذا حلف على أمرٍ ماضٍ أَنه كان ولم يكُن وقد كان، إِنْ كان عالِماً به حال اليمين، فهو اليمين الغموس وهو من الكبائر، وتجبُ فيه الكفَّارة عند الشَّافعيِّ، عالماً كان أو جاهلاً.
وقال أصحاب الرَّأي: إِنْ كان عالِماً، فهو كبيرةٌ، ولا كفَّارة لها كسائر الكبائر، وإِنْ كان جاهلاً، فهو يمين اللَّغو عندهم.
واحتجَّ الشَّافعيُّ بهذه الآية على وجوب الكفَّارة في اليمين الغموس؛ قال: «لأَنَّه - تعالى - ذكر ههنا المؤاخذة بكسب القلب، وقال في آيةِ المائدة: ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان﴾ [المائدة: ٨٩]، وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد به العقد الَّذي مضادُّه الحِلّ، فلما ذكر ههنا قوله: ﴿بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب، وأيضاً ذكر المُؤاخذة، ولم يبيِّن تلك المُؤاخذة ما هِيَ، وَبيَّنَها في آية المائِدَة بقوله: ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ﴾ [المائدة: ٨٩]، فتبيَّن أن المُؤَاخَذَة هي الكَفَّارَة، فكل مُؤَاخَذَةٍ من هاتين الآيتين مجملةٌ من وجهٍ، مبيَّنَةٌ من وجهٍ آخر، فصارت كل واحدةٍ منهما مُفسَّرة للأُخرى من وجهٍ، وحصل من كُلِّ واحدةٍ منهما أَنَّ كُلَّ يمينٍ ذكر على سبيل الجِدِّ وربط القلب به، فالكفَّارة واجبةٌ فيها، ويمين الغموس كذلك، فكانت الكفَّارة واجبةٌ فيها.
95

فصل في كراهية الحلف بغير الله


ومن حلف بغير اللهِ مثل أن قال: والكعبة، وبيت اللهِ، ونبيِّ الله؛ أو حلف بأبيه ونحو ذلك، فلا يكون يميناً، ولا تجب فيه الكفَّارة إذا حنث، وهو يمين مكروهٌ؛ قال الشَّافعيُّ: وأخشى أن تكون معصية.
روى مالكٌ عن نافعٍ، عن ابن عمر؛ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أدرك عمر بن الخطَّاب، وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه؛ فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُم أَنْ تَحْلفُوا بآبَائِكُم، فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ».
قوله تعالى: ﴿والله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ قد تقدَّم أن «الغَفُور» مبالغةٌ في ستر الذُّنوب، وفي إسقاط عقوبتها.
وأمَّا «الحليم» فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة، والسُّكون مع القُدرة والقُوَّة، ويقال ضع الهودج على أحلم الجمال، أي: على أشدِّها قوَّةً في السَّير، ومنه الحِلْم، لأَنَّه يرى في حال السُّكُون، وحلمة الثَّدي؛ والحليمُ مِنْ حَلُم - بالضم - يَحْلُمُ إذا عَفَا مع قُدْرَة، وأمَّا حَلِمَ الأديمُ فبالكسر يَحْلَمُ بالفتح، فسد وتثقَّب؛ وقال [الوافر]
١٠٩٦ - فَإِنَّكَ وَالْكِتَابَ إِلَى عَلِيٍّ كَدَابِغَةٍ وَقَدْ حَلِمَ الأَدِيمُ
وأمَّا «حَلَمَ»، أي: رأى في نومِه، فبالفتح، ومصدرُ الأولِ «الحِلْم» بالكسر؛ قال الجعديُّ: [الطويل]
١٠٩٧ - وَلاَ خَيْرَ فِي حِلْمٍ إِذَا لَمْ تَكُن لَهُ بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا
ومصدرُ الثاني «الحَلِّمُ» بفتح اللام ومصدرُ الثالث: «الحُلُم» و «الحُلْم» بضم الحاءِ مع ضمِّ اللام وسكونها.
96
واللَّغْوُ : مصدرُ لَغَا يَلْغُو، يقال : لَغَا يَلْغُو لَغْواً، مثل غَزَا يَغْزُو غَزْواً، ولغِيَ يَلْغَى لَغًى مثل لَقِيَ يَلْقَى لقًى إذا أتى بما لا يُحْتاجُ إليه من الكلام، أو بما لا خير فيه، أو بِما يلغى إثمه ؛ كقوله - عليه الصّلاة والسّلام –
" إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمعَةِ : أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ " ١.
ومن الثاني قوله تعالى :﴿ وَالْغَواْ فِيهِ ﴾.
قال الفرَّاء : اللَّغا مصدر للغَيت٢.
قال أبو العبَّاس المقري : ورد لفظ " اللَّغو " في القرآن على ثلاثة أوجه :
الأول : بمعنى اليمين بغير عقديَّةٍ كهذه الآية.
الثاني : بمعنى الشَّتيمة ؛ قال تعالى :﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ﴾ [ الفرقان : ٧٢ ]، أي : لم يجيبوهم ؛ ومثله :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ﴾ [ القصص : ٥٥ ].
الثالث : بمعنى الحلف عند شُرْب الخمر ؛ قال تعالى :﴿ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا ﴾ [ الطور : ٢٣ ]، أي : لا يحلف بعضهم على بعض.

فصل


والباء في " بِاللَّغْوِ " متعلِّق ب " يؤاخذكم " والباء معناها السَّببيّة، كقوله :﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ﴾ [ العنكبوت : ٤٠ ]، ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ﴾ [ النحل : ٦١ ].
واختلف في اللَّغْوِ : فقيل : ما سبق به اللسانُ مِنْ غيرِ قصدٍ، قاله الفرَّاء، ومنه قول الفرزدق :[ الطويل ]
وَلَسْتَ بِمَأْخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ *** إِذَا لَمْ تُعَمِّدْ عَاقِدَاتِ العَزَائِمِ٣
ويُحْكَى أن الحسن سُئِلَ عن اللَّغو وعن المَسبيَّة ذات زوجٍ، فنهض الفرزدق، وقال : أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قُلْتُ، وأَنْشَد البيت :[ الطويل ]
وَلَسْتَ بمَأْخُوذٍ. . . ***. . .
وقوله :[ الطويل ]
وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا *** حَلاَلٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ٤
فقال الحسن :" ما أَذْكَاكَ لَوْلاَ حِنْثُك "، وقد يُطْلَقُ على كلِّ كلامٍ قبيحٍ " لَغْوٌ ".
قال تعالى :﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ ﴾ [ الفرقان : ٧٢ ]، ﴿ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً ﴾ [ مريم : ٦٢ ] ؛ وقال العجاج :[ الرجز ]
وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ *** عِنِ اللَّغَا وَرَفَثَ التَّكَلُّمِ٥
وقيل : ما يُطرحُ من الكلام ؛ استغناءً عنه، مأخوذٌ من قولهم لِما لا يُعْتَدُّ به من أولاد الإِبل في الدِّيَة " لَغْوٌ " ؛ قال جريرٌ :[ الوافر ]
وَيَهْلكُ وَسْطَهَا المَرْئيُّ لَغْواً *** كَمَا أَلْغَيْتَ فِي الدِّيَةِ الحُوَارَا٦
وقيل :" اللَّغو " السَّاقط الذي لا يُعتدُّ به سواء كان كلاماً أو غيره، فأَمَّا وروده في الكلام ؛ فكقوله تعالى :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ﴾ [ القصص : ٥٥ ] وقوله :﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً ﴾ [ الواقعة : ٢٥ ]، وقوله :﴿ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ ﴾ [ فصلت : ٢٦ ]، ﴿ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً ﴾ [ الغاشية : ١١ ] وقال عليه الصّلاة والسّلام :" إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمعَةِ والإِمَامُ يَخْطُبُ : أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ " ٧.
وأما قوله :﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ ﴾ [ الفرقان : ٧٢ ] فيحتمل أن يكون المُرادُ وإذا مَرُّوا بالكلام الَّذي يكون لغواً، وأن يكون المُرادُ : وإذا مَرُّوا بالفعل الَّذِي يكون لغواً، وأَمَّا ورود هذه اللَّفظة في غير الكلام، فكما ورد فيما لا يعتدُّ به من الدِّية في أولاد الإِبل.
وقيل : هو ما لا يُفهم، من قولهم :" لَغَا الطَّائِرُ "، أي : صوَّتَ، واللَّغو، ما لَهجَ به الإنسانُ، واللغةُ مأخوذةٌ من هذا.
وقال الراغب٨ : ولَغِيَ بكذا : أي لَهِجَ به لَهَجَ العُصْفُورِ بِلَغَاهُ، ومنه قيل للكلام الذي تَلْهَجُ به فرقةٌ " لُغَة " ؛ لجعلها مشتقةً من لَغِيَ بكذا، أي : أُولِعَ به، وقال ابن عيسى - وقد ذكر أن اللَّغوَ ما لا يفيدُ - :" ومنه اللغةُ ؛ لأنَّها عند غيرِ أهلِها لَغْوٌ "، وقد غَلَّطوه في ذلك.
قوله :﴿ فِي أَيْمَانِكُمْ ﴾ فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن يتعلَّق بالفعلِ قبله.
الثاني : أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المصدرِ قبله ؛ كقولك :" لَغَا فِي يمينه ".
الثالث : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حال من اللَّغْوِ، وتعرفه من حيث المعنى ؛ أنك لو جعلتَه صلةً لموصولٍ، ووصفْتَ به اللغو، لصحَّ المعنى، أي : اللغو الذي في أَيْمَانِكُمْ. وسُمِّي الحَلفُ يَميناً ؛ لأن العرب كانوا إذا تَحَالَفُوا وضع أحدهم يمينه في يمين الآخر.
وقيل : لأَنَّه يحفظ الشَّيء كما تحفظ اليد اليمنى الشَّيء.

فصل في تفسير اللغو


ذكر المفسِّرون في " اللَّغو " وجوهاً :
أحدها : قال الشَّافعيُّ وغيره : هو قول الرَّجل في عرض حديثه :" لاَ واللهِ " و " بَلَى واللهِ " من غير قصدٍ إليهما، وهو قول عائشة، وإليه ذهب الشَّعبي وعكرمة، لِمَا رَوَت عائشة ؛ قالت : سَبَبُ نُزُولِ هَذِه الآية : قول الرَّجُل فِي عُرْضِ حديثه :( لاَ واللهِ ) و( بَلَى واللهِ ) أخرجه البُخاريّ٩، ويروى عن عائشة : أيمان اللَّغو ما كان في الهزل والمراء والخُصُومة، والحديث الَّذي لا ينعقِدُ عليه القلبُ١٠.
وقال آخرون : هو أن يحلف على شيءٍ يرى أنَّه صادِقٌ، ثم تَبَيَّن أنه خلاف ذلك، وهو قول ابن عبَّاس والحسن، ومجاهد، وسليمان بن يسار، والزُّهري، والسُّدِّيّ، وإبراهيم النَّخعي، وقتادة : ومكحول، وبه قال أبو حنيفة١١.
وفائدة الخلاف : أَنَّ الشَّافعيُّ لا يوجب الكفَّارة في قول الرجل :" لاَ واللهِ " و " بَلَى واللهِ "، ويوجبها، فيما إذا حلف على شيءٍ يعتقد أَنَّهُ كان، ثم بان أَنَّه لم يكن، وأَبو حنيفة يحكم بالضِّدِّ من ذلك.
وقال سعيد بن جبير : هو اليمين في المعصية، لا يؤاخذه الله بالحَنْثِ فيها، بل يحنث ويُكَفِّر١٢.
وقال مسروق : ليس عليه كفَّارة، أنُكفِّرُ خطوات الشَّيطان١٣ ؟ وقال الشَّعبيُّ : الرَّجل يحلف على المعصية كفَّارته أن يتوب منها١٤، وكُلُّ يمين لا يحلُّ لك أن تَفِي بها، فليس فيها كفَّارة، ولو أَمرته بالكفَّارة، لأمرته أَنْ يُتمَّ على قوله.
هذا هو اللَّغو ؛ لأن اللَّغو هو المعصية ؛ قال تعالى :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ﴾.
وقال عليٌّ : هو اليمين في الغضب، وبه قال طاوس١٥.
وقال الضَّحَّاك : اللَّغو هو اليمين المُكفِّرة١٦، سُمِّيت لغواً، لأن الكَفَّارة أسقطتِ الإثم ؛ كأنه قيل : لا يُؤاخذكُم اللهُ بِاللَّغْوِ في أيمانِكُم، إِذْ كَفَّرْتُم.
وقال زيد بن أسلم : هو دُعاء الرَّجُل على نفسه ؛ كقوله :" أَعْمَى الله بَصَرِي إن لَمْ أَفْعَلْ كَذَا، أَخْرَجَنِي اللهُ من مَالِي إِنْ لَمْ آتِكَ غداً " أو يقول : هُوَ كَافِرٌ إن فَعَلَ كَذَا١٧، فهذا كُلُّه لَغْوٌ لا يُؤَاخذُه الله به، ولو آخَذَ اللهُ به، لعَجَّلَ لهم العُقُوبة ؛ قال تعالى :﴿ وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ﴾ [ الإسراء : ١١ ]،
﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ ﴾ [ يونس : ١١ ].
وقال القاضي١٨ : هو كُلُّ ما يقع سهواً من غير قصدٍ ؛ لقوله تعالى بعد ذلك :﴿ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾، أي : يؤاخذكم إذا تعمَّدتم، ومعلوم أنَّ المقابل للعمد هو السَّهو، حُجَّة الشَّافعي رضي الله عنه ما روت عائشة رضي الله عنها ؛ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :" لَغْوُ اليَمِينِ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي قَلْبِهِ : كَلاَّ واللهِ، بَلَى واللهِ، لاَ وَاللهِ " ١٩.
وروي أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقوم ينتضلون، ومعه رجلٌ من أصحابه، فرمى رجلٌ من القوم، فقال : أصبت واللهِ، ثم أخطأ فقال الَّذي مع النَّبي عليه الصلاة والسلام : حَنَثَ الرَّجُل يا رَسُولَ اللهِ، فقال النَّبيُّ - عليه الصلاة والسلام - :" كُلُّ أَيْمَان الرُّمَاةِ لَغْوٌ لاَ كَفَّارَةَ فِيهَا، وَلاَ عُقُوبَةَ " ٢٠.
وأيضاً فقوله :﴿ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ هو الَّذي يقصد الإنسانُ على سبيل الجِدِّ، ويربط قلبه به، وإذا كان كذلك، وجب أَنْ يكُونَ اللَّغْو كالمقابل له، ويكُون معناه : ما لا يقصدُ الإنسان بالجِدِّ، ولا يربط قلبه به، وذلك هو قول القائل في عرض حديثه : لا والله، وبلى والله مِنْ غير قصدٍ على سبيل العادة.
وأيضاً : فَإِنَّه قال قبل هذه الآية :﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ﴾ وتقدَّم أنَّ معناه : النَّهي عن كثرة الحلفِ، والَّذِين يقولُون على سبيل العادة لاَ والله، وبلى والله، لا شك أنَّهم يكثرون الحَلْفَ واليمين، فلمَّا ذكرهم اللهُ - تعالى - عقيب قوله :﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ﴾، وبين أنَّه لا مؤاخذة عليهم، ولا كفارة، فإيجاب مؤاخذتهم يقتضي إِمَّا أَنْ يمتنعوا عن الكلام، أو يلزمهم فِي كُلِّ لحظَةٍ كفَّارة، وكلاهُما حرجٌ في الدِّين.
واحتجَّ أبو حنيفة بوجوه :
الأول : قوله عليه الصَّلاة والسَّلام - :" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ " ٢١، فأوجب الكفَّارة على الحانِثِ مُطْلقاً، ولم يفصل بين الجَدِّ والهزل.
الثاني : أَنَّ اليمين معنى لا يلحقه الفسخ، فلا يعتبر فيه القصد كالطَّلاق والعتاق، وهاتان الحُجَّتان توجبان الكَفَّارة في قول النَّاس لا واللهِ، وبَلَى والله، إذا حصل الحَنثُ.
ويؤيِّد ما قلناه : أَنَّ اليمين في اللغة عبارةٌ عن القُوَّة ؛ قال الشَّاعر :[ الوافر ]
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ *** تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ٢٢
أي : بالقوَّة، والمقصود من اليمين : تقوية جانب البِرِّ على جانب الحنث بسب اليمين، وإنَّما يفعل هذا في الموضع الَّذي يكون قابلاً للتَّقوية، وهذا إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل، فأمَّا إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التَّقوية البتَّة فعلى هذا فاليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة فأمَّا اليمين على المستقبل، فإنه قابلٌ للتَّقوية.
قوله :﴿ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم ﴾ وقعت هنا " لَكِنْ " بين نقيضين ؛ باعتبار وجود اليمين ؛ لأنَّها لا تَخْلُو : إمَّا ألاَّ يقصدها القلبُ : بل جرتْ على اللسانِ، وهي اللَّغْوُ، وإمَّا أن يقصِدَها، وهي المنعقدةُ.
قوله تعالى :﴿ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ متعلِّقٌ بالفعلِ قبله، والباءُ للسببية كما تقدَّم، و " مَا " يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه :
أظهرها : أنها مصدريةٌ لتُقابل المصدر، وهو اللَّغو، أي : لا يؤاخذكم باللغوِ، ولكن بالكسب.
والثاني : أنها بمعنى " الذي "، ولا بُدَّ من عائدٍ محذوفٍ، أي : كَسَبَتْهُ ؛ ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى " الَّذِي " أكثرُ منها مصدريةً.
والثالثُ : أن تكونَ نكرةً موصوفةً، والعائدُ أيضاً محذوفٌ، وهو ضعيفٌ،
١ - أخرجه البخاري (٢/٤٨) كتاب الجمعة باب الإنصات يوم الجمعة رقم (٩٣٤) ومسلم (٣/٤) والنسائي (١/٢٠٨) والترمذي (٢/٣٨٧) وابن ماجه (١١١٠) والدارمي (١/٣٦٤) والبيهقي (٣/٢١٨) وأحمد (٢/٢٧٢، ٣٩٣، ٣٩٦، ٤٧٤، ٤٨٥) من طرق عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا وللحديث شاهد من حديث أبي بن كعب:
أخرجه ابن ماجه (١١١١) وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" (٥/١٤٣) وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (١/٧٧) هذا إسناد رجاله ثقات وأورده المنذري في "الترغيب والترهيب" (١/ ٢٥٧) وقال إسناده حسن..

٢ - ينظر: تفسير الفخر الرازي ٦/٦٦..
٣ - ينظر: ديوانه (٨٥١)، الدر المصون ١/٥٤٩..
٤ - ينظر: ديوانه (٢/٥٧٦)، الدر المصون ١/٥٤٩..
٥ - ينظر: ديوانه (٨٥٦)، الدر المصون ١/٥٤٩..
٦ - وهو لذي الرمة: ينظر ديوانه (١٩٦)، أمالي القالي ٢/١٤٢ اللسان والتاج: (لغو)، الدر المصون ١/٥٤٩..
٧ - أخرجه البخاري (٢/٤١٤) كتاب "الجمعة": باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب حديث (٣٩٤)، ومسلم (٢/٥٨٣) كتاب "الجمعة": باب في الإنصات يوم الجمعة (١١/ ٨٥١)..
٨ - ينظر: المفردات للراغب ٤٧٢..
٩ - أخرجه البخاري (١١/٤٧٦) وأبو داود (٣/٣٠٤) رقم (٣٢٥٤) ومالك في الموطأ (٢/٤٧٧) والبيهقي (١٠/٤٨) والطبري في "تفسيره" (٤/٤٢٨-٤٢٩) عن عائشة موقوفا..
١٠ - أخرجه الطبري في "تفسيره" (٤/٤٤٣) عن عائشة..
١١ - ينظر: تفسير الفخر الرازي ٦/٦٦، وتفسير البغوي ١/٢٠١..
١٢ - أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير كما في "الدر المنثور" (١/٤٧٩)..
١٣ - أخرجه الطبري في "تفسيره" (٤/٤٣٤٢) عن مسروق..
١٤ - أخرجه الطبري في "تفسيره" (٤/٤٤١) عن الشعبي..
١٥ - أخرجه الطبري في "تفسيره" (٤/٣٣٨) عن طاووس..
١٦ - أخرجه الطبري في "تفسيره" (٤/٤٤٥) عن الضحاك..
١٧ - أخرجه الطبري في "تفسيره" (٤/٤٥٤) عن زيد بن أسلم..
١٨ - ينظر: تفسير الفخر الرازي ٦/ ٦٨..
١٩ - أخرجه الطبري في "تفسيره" (٤/٤٢٩) عن عائشة مرفوعا وأخرجه البخاري (١١/ ٤٧٦) وأبو داود (٣/٣٠٤) رقم (٣٢٥٤) ومالك في "الموطأ" (٢/٤٧٧) والبيهقي (١٠/٤٨) عن عائشة موقوفا..
٢٠ - أخرجه الطبري في "تفسيره" (٤/٤٤٤) عن الحسن مرسلا وأورده الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (١/٥٢٧) من هذا الوجه وقال: هذا مرسل حسن عن الحسن..
٢١ - تقدم..
٢٢ - البيت للشماخ: ينظر: ديوانه (٣٣٦)، الأغاني ٨/٩٧، تهذيب اللغة (يمن)..
قوله تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ﴾ : هذه جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وعلى رأي الأخفش من باب الفعلِ والفاعلِ؛ لأنه لا يشترطُ الاعتماد، و «مِن نِّسَآئِهِمْ» في هذا الجارِّ ثمانيةُ أوجهٍ:
أحدها: أنْ يتعَلَّقَ ب «يُؤْلُونَ».
قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: كيف عُدِّي ب» مِنْ «وهو مُعَدى ب» عَلَى «؟ قلتُ: قد ضُمِّنَ في هذا القَسَم المخصوصِ معنى البُعْد، فكأنه قيل: يُبْعُدُونَ من نسائِهم مُؤْلِينَ، أو مُقْسِمِين».
الثاني: أنَّ «آلَى» يتَعَدَّى ب «عَلَى» وب «مِنْ» ؛ قاله أبو البقاء نقلاً عن غيره؛ أنه يقال: آلَى من امرأته، وعلى امرأته.
الثالث: أنَّ «مِنْ» قائمةٌ مقامَ «عَلَى» على رأي الكوفيِّين.
والرابع: أنها قائمةٌ مقامَ «فِي»، ويكونُ ثم مضافٌ محذوفٌ، أي: على تَرْكِ وَطْءِ نسائهم، أو في ترك وطء نسائهم.
والخامس: أنَّ «مِنْ» زائدةٌ، والتقدير: يُؤْلُون أَنْ يَعْتَزلوا نِسَاءَهُم.
والسادس: أَنْ تتعلَّقَ بمحذوف، والتقديرُ: والذين يُؤُلون لهم من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهرٍ؛ فتتعلَّق بما يتعلق به «لَهُم» المحذوفُ، هكذا قَدَّره أبو حيَّان وعزاه للزمخشريِّ قال شهاب الدين وفيه نظرٌ؛ فإنَّ الزمخشريَّ قال: ويجوزُ أن يُرَادَ: لهم من نسائهم تَرَبُّصُ؛ كقولك: «لِي مِنْكَ كَذَا» فقوله «لَهُمْ» لم يُرد به أن ثَمَّ شيئاً محذوفاً، وهو لفظُ «لَهُمْ»، إنما أرادَ أَنْ يعلِّق «مِنْ» بالاستقرار الذي تعلَّق به «لِلَّذِينَ»، غايةُ ما فيه: أنه أتى بضمير «الَّذِينَ» تبييناً للمعنى، وإِلَى هذا المنحَى نحا أبو البقاء؛ فإنه قال: وقيل: الأصلُ «عَلَى»، ولا يَجُوزُ أن تقومَ «مِنْ» مقامَ «عَلَى» فَعَلَى ذلك تتعلَّقُ «مِنْ» بمعنى الاستقرار، يريدُ الاستقرارَ الذي تعلَّقَ به قوله «لِلَّذِينَ»، وعلى تقدير تسليم أنَّ لفظة «لَهُمْ» مقدرةٌ، وهي مُرادةٌ، فحينئذٍ: إنما تكونُ بدلاً من «لِلَّذِينَ» بإِعادةِ العاملِ، وإلاَّ يبقى قوله «لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ» مُفْلَتاً، وبالجملةِ فتعلُّقه بالاستقرار غيرُ ظاهرٍ، وأمَّا تقديرُ الشيخ: «والذين يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ»، فليس كذلك؛ لأنَّ «الَّذِينَ» لو جاء كذلك غيرَ مجرور باللام، سَهُلَ الأمرُ الذي ادَّعاه، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام، سهُلَ الأمرُ الذي ادَّعاه، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام، ثم قال أبو حيَّان: وهذا كلُّه ضعيفٌ يُنَزَّه
97
القرآن عنه، وإنما يتعلَّق ب «يُؤْلُونَ» على أحد وجهين: إمَّا أنْ تكونَ «مِنْ» للسَّبَبِ، أي يَحْلِفُون بسبب نسائِهم، وإمَّا أَنْ يُضَمَّن معنى الامتناع، فيتعدَّى ب «مِنْ» فكأنه قيل «لِلَّذِينَ يمتنعُونَ من نسائِهِم بالإِيلاَءِ» فهذان وَجْهان مع السنة المتقدِّمة؛ فتكونُ ثمانةٌ، وإن اعتبرت مطلقَ التضمينِ فتجيءُ سبعةٌ.
والإِيلاءُ: الحَلفُ. مصدرُ آلَى يُؤْلي، نحو: أَكْرَمَ يُكْرِم إِكْرَاماً، والأصل: «إئْلاءٌ» فأُبدِلت الهمزةُ الثانيةُ ياءً؛ لسكونها وانكسار ما قبلها؛ نحو: «إِيمَان».
ويقال: تَأَلَّى وايتَلَى على افتَعَلَ، والأصلُ: ائْتَلَى، فقُلِبَت الثانيةُ ياءً؛ لِما تقدَّم.
والحَلْفَةُ: يقال لها: الأَلِيَّةُ والألُوَّةُ والأَلْوَةُ والإِلْوَةُ، وتُجْمَعُ الأَليَّةُ على «أَلايَا» ؛ كعَشيَّة وعَشَايَا، ويجوزُ أن تُجْمَعَ الأَلُوَّة أيضاً على «أَلاَيَا» ؛ كرَكُوبَة ورَكَائِب؛ قال كُثَيِّر عزَّة: [الطويل]
١٠٩٨ - قَلِيلُ الألاَيَا حَافِظٌ ليَمِينِهِ إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ
وقد تقدَّم كيف تصريفُ أَلِيَّة وَأَلاَيَا عند قوله: ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ [البقرة: ٥٨] جمع خطيئة والإيلاء من عرف الشَّرع: هو اليمين على ترك الوطء؛ كقوله: لا أُجامعك، أولا أُباضعك، أو لا أُقاربك.
ومن المفسرين من قال في الآية حذف تقديره: للَّذين يؤلون من نسائهم ألاَّ يطئوهم، إلاَّ أنَّه حذف لدلالة الباقي عليه.
قال ابن الخطيب: هذا إذا حملنا لفظ «الإِيلاَءِ» على المفهوم اللُّغَوِيّ، أَمَّا إذا
98
حملناه على المفهوم الشَّرعي، لم يحتج إلى هذا الإضمار.
وقرأ أُبيٌّ وابن عباس: «للَّذِينَ يُقْسِمُونَ»، نقله القرطبي.
وقرأ عبد الله: «آلَوْا مِنْ نِسَائِهِم».
والتَّربصُ: الانتظارُ، وهو مقلوبُ التَّصبُّرِ؛ قال: [الطويل]
١٠٩٩ - تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ المَنُونِ لَعَلَّهَا تُطَلَّقُ يَوْماً أَوْ يَمُوتَ حَلِيلُهَا
وإضافةُ التربُّص إلى الأشهرِ فيها قولان:
أحدهما: أنَّه من باب إضافة المصدر لمفعوله؛ على الاتساع في الظرف؛ حتَّى صارَ مفعولاً به، فأُضيفَ إليه، والحالةُ هذه كقوله: «بَيْنَهُمَا مَسِيرة يَوْمٍ» أي: مَسِيرة في يَوْم.
والثاني: أنه أُضِيف الحَدَثُ إلى الظرف من غير اتِّساع، فتكونُ الإِضافةُ بمعنى «فِي» وهو مذهبٌ كوفيٌّ، والفاعلُ محذوفٌ، تقديره: تربُّصُهُمْ أربعةُ أشهرٍ.

فصل


قال قتادة: كان الإيلاء طلاقاً لأهل الجاهلية وقال سعيد بن المُسيَّب: كان ذلك من ضرار أهل الجاهليَّة، وكان الرَّجُلُ لا يُحِبُّ امرأته، ولا يريد أن يتزوَّجها غيره، فيحلف ألاَّ يقربها أبداً، فيتركها لا أَيماً ولا ذات بعلٍ، وكانوا في ابتداء الإِسلام يفعلون ذلك أيضاً؛ فأزال الله تعالى ذلك، وضرب للزَّوْج مُدَّة يَتَرَوَّى فيها ويتأمَّل، فإِنْ رأى المصلحة في تركِ هذه المضارَّة، فعلها، وإن رأى المصلحة في المفارقة، فارقها.
وقال القُرطبيّ: وقد آلَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وطَلَّق، وسببُ إيلائه: سُؤال نسائه إِيَّاه من النَّفقةِ ما ليس عندهُ؛ كذا في «صَحِيح مُسْلِم»، وقيل: لأن زينب ردَّت عليه
99
هديَّتهُ، فغضب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فآلَى منهُنَّ، ذكره ابن ماجه.

فصل


فذهب أكثرهم إلى أَنَّهُ إِن حلف لا يَقْرَبُ زوجته أبداً، أَو سَمَّى مُدَّة أكثر من أربعة أشهر يكون مؤْلياً، فلا يتعرَّض لها قبل مضي أربعة أشهرن وبعد مُضيِّها يُوقفُ ويُؤمرُ بالفيئة أو الطَّلاقِ بعد مُطالبةِ المرأة، والفَيْئَة: هي الرُّجُوع عمَّا قال بالوطء إن قَدَر عليه، وإن لم يَقْدِر فبالقَوْل، فإن لم يَفِ ولم يُطَلِّق، طَلَّق عليه الحاكم واحدة.
وذهب إلى الوَقْفِ بعد مُضِيِّ المُدَّةِ: عمرن وعثمان، وعليٌّ، وأبو الدرداء، وابن عمر.
قال سُليمان بن يسار: أدْرَكْتُ بضعة عشر من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُلُّهم يقول بوقف المُؤْلي، وإليه ذهب سعيد بن جُبير، وسُلَيْمان بن يسار، ومجاهد، وبه قال مالك والشَّافعي وأحمد وإِسحاق.
وقال بعض أهل العلم: إذا مضتْ عليها أربعةُ أشهر، يقع عليها طَلْقَةً بائنة، وهو قول ابن عبَّاس وابن مسعود، وبه قال سُفيانُ الثَّورِيُّ وأصحاب الرَّأي.
وقال سعيد بن المُسيَّب والزُّهري: تقع طلقة رجعيَّةً، ولو حلف ألاَّ يطأَها أَقَلَّ من أربعة أشهر، لا يكون مُؤْلياً، بل هو حانثٌ إذا وطئها قبل مُضِيِّ تلك المُدَّة، وتجب عليه كفَّارة يمين على الصَّحيح، ولو حلف ألاَّ يطَأَهَا أربعة أشهرٍ، لا يكون مُؤلياً عند من يقول بالوقف بعد مُضِيِّ المُدَّة، لأن بقاء المُدَّة شرط للوقف، وثبوت المُطَالبة بالفيئة أو الطَّلاق، وقد مضتِ المُدَّة، وعند من لا يقول بالوقف لا يكون مؤلياً ويقعُ الطَّلاَق بمُضِيِّ المُدَّة.
وقال ابن عبَّاس لا يكون مُؤْلياً حتى يحلف لا يَطأَها أبداً.
وقال الحسن البصريِّ وإسحاق: أي مُدَّة حَلَف عَلَيها، كان مُؤلياً وإن كان يَوْماً.
100

فصل


قال القرطبيُّ: إذا حلف أَلاَّ يطأ امرأتهُ أكثر من أربعة أشهرٍ؛ فانقضت الأربعة أشهرٍ ولم تُطالبه، ولم ترفعهُ إلى الحاكم، لم يلزمه شيء عند مالكٍ وأكثر أهل المدينة.
وقال بعض أصحابنا: يلزمه بانقضاء الأَربعَة أَشهر طلقة رجعيَّة، وقال بعضهم: طلقة بائِنَة.
والصَّحِيح: ما ذهب إليه مالِكٌ، وأكثر أَهْلِ المدينة وأصحابه.

فصل هل ينعقد الإيلاء في الغضب؟!


قال ابن عبَّاس: لا يكون إيلاءً إلاَّ في حالِ الغَضَبِ، وهو المشهور عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وهو قول اللَّيث، والشَّعبي، والحسن، وعطاء قالوا: لا يكون الإيلاءُ إلاَّ على وجه مغاضبةٍ ومشادَّة.
وقال ابن سيرين: يكون في غضبٍ، وغير غضبٍ، وهو قول ابن مسعود، والثوري ومالك وأهل العراق والشَّافعيِّ وأحمد.

فصل


والمدخول بها وغير المدخول بها سواءٌ في صِحَّة الإيلاء منها.
قال القرطبي: والذِّمِّيُّ لا يصحُّ إيلاؤه كما لا يصحُّ طلاقهُ، ولا ظِهَارُهُ؛ لأن نكاح أهل الشِّرْكِ عندنا ليس بنكاحٍ صحيحٍ.

فصل


ومُدَّة الإيلاء أربعة أشهر في حق الحُرِّ والعبدِ لأنَّها ضُرِبت لمعنى يرجع إلى الطَّبع، وهو قِلَّةُ صبر المرأَة عن الزَّوج، فيستوي فيه الحُرُّ والعبدُ؛ كمُدَّة الفَيْئَةِ ومُدَّة الرِّضاع.
وعند مالكٍ وأبي حنيفة: ينتصف بالرِّقِّ، إلاَّ عند أبي حنيفة: ينتصف بِرِقِّ المرأة، وعند مالكٍ: برِقِّ الرَّجُل؛ كقولهما في الطَّلاَق.
ولنا: ظاهر قوله تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ﴾ فتناول الكُلَّ من غير
101
تخصيصٍ، والتَّخصيص خلاف الظَّاهر، والمعنى المُتَقَدِّم يمنع التَّخْصِيص.
قال القرطبيُّ: وأَجَلُ المُؤلي من يوم حلف، لا مِنْ يوم المرافعة إلى الحاكم.

فصل فيمن يصح منه الإيلاء ومن لا يصح


كُلُّ زَوْج يتصوَّر منه الوَقَاع، وكان تصرُّفه مُعْتبراً في الشَّرْع، صَحَّ منه الإيلاءُ.
وقال مالكٌ: لا يَصِحُّ الإيلاءُ إلاَّ في حال الغضب، وقال غيره: يصحُّ الإيلاءُ في حال الرِّضَى والغضب، ويصحُّ الإيلاءُ من الرَّجعيَّة؛ لأنها زوجة؛ بدليل أَنَّه لو قال: نسائي طوالِقٌ، وقع عليها الطَّلاَقُ.
وإيلاء الخَصِيِّ صحيحٌ، لأنه يُجَامع كالفحلِ، وإنما فُقِد في حَقِّهِ الإِنْزَالُ، والمجبوب إن بقي منه ما يمكنه أن يُجَامع به، صَحَّ إِيلاؤه، وإن لم يَبْقَ، فيه خلافٌ.
قال أبو حنيفة: لا يَصِحُّ إيلاؤه.
وقال غيره: يَصِحُّ لعموم الآية، ولا يصحُّ الإيلاء [من أَجْنَبيَّة]، فلو آلَى منها ثم تَزَوَّجها، لم يكن مُؤْلِياً.

فصل


فإن امتنع من وطئها بغير يمين إضراراً بها، أُمر بوطئها، فإن امتنع إضراراً بها، فرَّق الحاكم بينه وبينها، من غير ضرب مُدَّة.
وقيل: يُضربُ له أجلُ الإيلاءِ، فإذا حلف لا يطؤها حتى يفطم ولدها؛ لئلا يُمْغَلَ بولدها، ولم يرد إضراراً بها حتى يَنْقَضِي أَمَدُ الرِّضاع، لم يكُن لها مُطَالبته.

فصل


المُوْلِي لا يخلُو إمّا أن يحلف تَرْك الوَطْءِ بالله - تعالى - أو بغيره، فإِن حَلَف بالله تعالى كان مُؤلياً، ثم إن جامعها في مُدَّة الإيلاءِ، خَرَجَ عن الإيلاءِ، وهل تجب عليه كَفَّارة؟ فيه قَوْلاَن:
أصحّهما: أن عليه الكَفَّارة كما قَدَّمناه؛ لعموم الدَّلائِل الموجبةِ للكَفَّارةِ عند الحِنْثِ باليمين بالله - تعالى - لأنه لا فَرْقَ بين قوله: «والله لا أَقْرَبُكِ» ثم يَقْرَبُهَا، وبين قَوله: «والله لا أُكَلِّمُكِ» ثم يُكَلِّمُهَا.
والقول الثاني: لا كَفَّارة عليه؛ لقول تعالى: ﴿فَإِنْ فَآءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
ولو كانت الكَفَّارة واجبةٌ لذكرها، والحاجة مناسبةٌ إلى معرفتها، ولا يجوزُ تأخِير
102
البيان عن وقتِ الحاجة، والغُفران يوجبُ ترك المُؤَاخَذةِ.
وللأَوَّلِين أن يجيبوا: بأنه إنما ترك الكَفَّارة ههُنا لأنه - تعالى - بيَّنها على لسان رسوله - عليه الصَّلاة والسلام - في سَائِر المواضع، وتَرْكُ المُؤَاخذة بقوله: «غَفُورٌ رَّحِيمٌ» يدل على عدم العقاب، وهو لا يُنافي وجُوب الفِعْل، كما أن التَّائِب عن الزِّنا والقَتْلِ لا عِقاب عليه، ومع ذلك يجِبُ عليه الحَدُّ والقِصَاصُ.
وأما إن كان الحالف في الإيلاء بغير اللهِ؛ كما إذا قال: إن وَطَأْتُكِ فعبدي حُرٌّ، أَوْ أَنْت طالِقٌ، أو ضرتك طَالِق، أو التزم أمراً في الذِّمَّة، فقال: إن وَطَأْتُكِ فَلِلَّه عليَّ عِتْق رَقبة، أو صدقة، أو صَوْم، أو حَجّ، أو صلاة، فقال الشَّافعي في «القدِيمِ»، وَأَحمدُ في ظاهر الرِّواية عنه: لا يكون مُؤْلِياً؛ لأن الإِيلاَء المعهُود هو الحلفُ باللهِ؛ ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:
«مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ».
وقال الشَّافعيّ في «الجَدِيدِ» - وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة - إنه يكُون مُؤْلِياً؛ لأن لفظ الإيلاءِ يَتَناوَلُ الكُلَّ، وعلى القولين فيمينُهُ منعقدة، فإن كان قد عَلَّق به طلاقاً أو عِتْقاً، وقع بِوَطْئِه ذلك المُعَلَّق، وإن كان المُعَلَّق التزام قُرْبة في الذِّمَّة، فعليه ما في نذرِ اللَّجاج، إِمَّا كَفَّارة يمين، وإِمَّا الوَفَاء بما سَمَّى.
وفائدة هذين القولين: أنا إن قلنا: يكون مُؤْلياً، فبعد أَرْبَعَة أشهر يضيق الأَمْر عليه، حَتَّى يَفيء أو يُعَلِّق، وَإِنْ قلنا: لا يكون مُؤْلياً، لا يضيقُ عليه الأَمر.
قال القرطبي: فإن حلف بالنَّبِيّ أو الملائِكَة، أو الكَعبة ألا يَطَأَها أو قال: هو يَهُوديٌّ، أو نصرانيٌّ، أو زانٍ إن وطِئَها، فليس بِمُؤْلٍ، قال: وإن حلف ألا يَطَأَها، واستثنى فقال: إن شاء الله، فإنَّه يكون مُؤلياً، فإن وَطِئَهَا، فلا كَفَّارة عليه.
وقال ابن الماجشون في «المَبْسُوطِ» : ليس بِمؤلٍ، وهو الصَّحيحُ.
قوله: ﴿فَإِنْ فَآءُوا﴾ ألفُ «فَاءَ» منقلبةٌ عن ياء؛ لقولهم: فَاءَ يَفِيءُ فَيْئَةً: رَجَعَ والفَيْءُ: الظلُّ؛ لرجوعه من بعد الزوال، وقال عَلْقَمَةُ: [الطويل]
103
وفرّقوا بين الفَيْءِ والظِّل: فقالوا: الفَيء ما كان بالعَشِيِّ؛ لأنه الذي نسختهُ الشَّمسُ، والظَّلُّ ما كان بالغداة؛ لأنه لم تنسخه الشَّمس، وفي الجنة ظِلٌّ وليس فيها فَيْءٌ؛ لأنه لا شَمْسَ فيها؛ قال تعالى: ﴿وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ﴾ [الواقعة: ٣٠] ؛ وأنشد: [الطويل]
١١٠٠ - فَقُلْتُ لَهَا فِيئِي فَمَا تَستَفِزُّنِي ذَوَاتُ العُيُون وَالبَنَانِ المُخَضَّبِ
١١٠١ - فَلاَ الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ وَلاَ الفَيْءُ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ
وقيل: فُلاَن سريعُ الفيئة، أي: سريعُ الرُّجوع عن الغَضَبِ إلى الحَالَةِ المتقدِّمة، حكاه الفَرَّاء عن العرب.
وقيل لما رَدَّه الله على المُسلمين من مال المُشْرِكين: فَيْء؛ كأنه كان لهم فرجع إِلَيهم، فقوله: «فَاءُوا» معناه: رَجَعُوا عَمَّا حَلَفُوا عليه من تَرْك الجِمَاع، فإنه غَفُورٌ رَحِيمٌ.

فصل في وجوب الكفَّارة


قال القُرطبيّ: جمهور العُلماء أَوْجَبُوا الكَفَّارة على المُؤْلي إذا فاء بجماع امرأته.
وقال الحسن: لا كَفَّارة عليه.
قال القرطبي: إِذَا كَفَّر عن يمينه، سقط عنه الإيلاءَ.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق﴾ في نصب «الطَلاَقَ» وجهان:
أحدهما: أنه على إسقاط الخافضِ؛ لأنَّ «عَزَمَ» يتعدَّى ب «عَلَى»، قال: [الوافر]
١١٠٢ - عَزَمْتُ عَلَى إِقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
والثاني: أن تُضَمَّن «عَزَمَ» معنى «نَوَى» ؛ فينتصب مفعولاً به.
والعَزْمُ: عَقْدُ القلبِ وتصميمُه: عَزَم يَعْزِمُ عَزْماً وعُزْماً بالفتحة والضمة، وعَزِيمَةً وعِزَاماً بالكَسْر، ويستعمل بمعنى القَسَم: عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ؛ والعزمُ والعَزِيمةُ: توطينُ النَّفْسِ على المُرادِ المَطْلُوب، والأَمر المَقْصُود. والطلاقُ: انحلالُ العقدِ، وأصلُه الانطلاق.
وقال القرطبي: والطَّلاق: التَّخليةُ، يقال: نعجةٌ طالِقٌ، وناقةٌ طالِق أي: مهملة؛ قد تُرِكت في المرعى، لا قيدَ عليها ولا رَاعِيَ وبعير طُلُق: بضم الطَّاء واللام، والجمع
104
أَطلاقٌ ويقال: طَلَقَتْ بفتح اللام تَطْلُقٌ فهي طالِقٌ وطَالِقَةٌ؛ قال الأعشى: [الطويل]
١١٠٣ - أَيَا جَارَتَا بَينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ.......................
وحكى ثعلب: «طَلُقَتْ» بالضم، وأنكره الأخفش. والطلاقُ يجوز أَنْ يكون مصدراً، أو اسمَ مصدرٍ، وهو التطليقُ.
قوله: ﴿فَإِنَّ الله﴾ ظاهرُه أنَّه جوابُ الشرطِ، وقال أبو حيان: ويَظْهَرُ أنَّه محذوفٌ، أي: فَلْيُوقِعُوهُ، وقرأ عبد اللهِ: «فَإِنْ فَاءُوا فيهنَّ» وقرأ أُبيُّ «فِيهَا» والضميرُ للأَشْهُرِ.
وقراءةُ الجمهورِ ظاهرُها أنَّ الفَيْئَة والطَّلاق إنما تكونُ بعد مُضِيِّ الأربعة الأشهر، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لمَّا كان يرَى بمذهبِ أبي حنيفة: وهو أنَّ الفَيْئَة في مُدَّة الأربعةِ الأشهرِ، ويؤيِّدُه القراءةُ المتقدِّمَةُ، احتاجَ إلى تأويل الآيةِ بما نصُّه: «فإِنْ قلتَ: كيف موقعُ الفاءِ، إذا كانت الفيئةُ قبل انتهاءِ مدةِ التربُّصِ؟ قلت: موقعٌ صحيحٌ؛ لأنَّ قوله:» فَإِنْ فَاءَوُا. وَإِنْ عَزَمُوا «تفصيلٌ لقوله: ﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ﴾، والتفصيلُ يَعْقُب المُفَصَّلَ، كما تقول: أنَّا نزيلُكُمْ هذا الشَّهْرَ، فإِنْ أَحْمَدْتُكُمْ، أَقَمْتُ عندَكُمْ إلى آخره، وإلاَّ لم أقُم إلاَّ رَيْثما أَتَحَوَّلُ»، قال أبو حيان: «وليس بصحيحٍ؛ لأ، َّ ما مثل به ليس نظيرَ الآيةِ؛ ألا ترَى أنَّ المثالَ فيه إخبارٌ عن المُفَصَّل حاله، وهو قوله:» أَنَا نَزِيلُكُمْ هذا الشَّهْر «، وما بعد الشرطينِ مُصَرَّحٌ فيه بالجواب الدالِّ على اختلاف متعلَّقِ فعل الجزاء، والآيةُ ليسَتْ كذلك؛ لأنَّ الذين يُؤلُونَ ليس مُخْبَراً عنهم، ولا مُسْنَداً إليهم حُكْمٌ، وإنما المحكُومُ عليه تربُّصُهُمْ، والمعنى: تربُّصُ المُؤلين أربعةَ أَشْهُرٍ مشروعٌ لهم بعد إيلائهم، ثم قال:» فَإِنْ فَاءُوا وَإِنْ عَزَمُوا «فالظاهرُ أَنَّهُ يَعْقُبُ تربُّصَ المدةِ المشروعةِ بأَسْرِهَا، لأنَّ الفيئةَ تكونُ فيها، والعَزْمَ على الطلاقِ بعدَها؛ لأنَّ التقييد المغاير لا يَدُلُّ عليه اللفظُ، وإنما يُطابقُ الآيةَ أَنْ تقول:» للضَّيْفِ إكرامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، فإنْ أقامَ، فنحنُ كرماءُ مُؤثِرُونَ، وإنْ عَزَمَ على الرحيلِ، فله أن يَرْحَلَ «، فالمتبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّ الشرطين مُقَدَّرَانِ بعد إكرامهِ».
قلوه: ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ قال أبو حنيفة: سَمِيعٌ لإِيلائِه، عليم بعزمِه.
قال القرطبي: دلَّت هذه الآية على أَنَّ الأَمة الموطوءة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاءٌ، إذ لا يقع عليها طلاقٌ.
105

فصل


قال أبو حنيفة والثَّوري: إنه لا يكون مُؤْلِياً حتى يحلف ألاَّ يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد.
وقال الشَّافعيّ وأحمد ومالك: لا يكون مُؤلياً حتَّى تزيد المُدَّة على أربعة أشهر.
وفائدة الخلاف: أنه إذا آلَى منها أكثر من أربعة أهشرٍ أجل أربعة أشهرن وهذا المُدَّة تكون حَقّاً للزَّوج، فإذا مضت تطالب المرأة الزَّوج بالفيئة أو بالطَّلاق فإن امتنع الزَّوجُ منهما، طلَّقها الحاكمُ عليه، وعند أبي حنيفة: إذا مضت أربعةُ أشهر، يقعُ الطَّلاق. حجة الشَّافعي وجوهٌ.
الأول: أنَّ «الفاء» في قوله ﴿فَإِنْ فَآءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، ﴿وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يقتضي كون هذين الحُكمين مشروعين متراخياً على انقضاء الأَرْبَعة أشهُر.
قال ابن الخطيب لما ذكر قول الزَّمخشريِّ المتقدِّم على سبيل الإيراد: وهذا ضعيفٌ، لأن قوله: ﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ إشارةٌ إلى حُكمين:
أحدهما: صدور الإيلاء عنهم.
والثاني: وجوب تَرَبُّص هذه المُدَّة على النِّسَاء.
والفاء في قوله: «فَإِن فَآءُوا» ورد عقيب ذكرهما معاً، فلا بُدَّ وأن يكون هذا الحُكمُ مشروعاً عقيب الأَمرين: عقيب الإيلاءِ، وعقيب حُصُولِ التَّرَبُّص في هذه المُدَّة، بخلاف المثال الَّذِي ذكرهُ، وهو قوله: «أَنَا أَنْزِلُ عِنْدَكُم؛ فإن أكرمتموني بقيتُ وإلا تَرَحَّلتُ» ؛ لأن هناك «الفاء» صارت مذكُورة عقيب شيء واحدٍ، وهو النُّزول، وهي هُنا مذكورة عقيب ذكر الإيلاء، وذكر التَّربُّص، فلا بُدَّ وأن يكُون ما دخلت «الفَاءُ» عليه واقعاً بين هذين الأمرين.
الحجة الثَّانية: قوله: ﴿وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق﴾ صريحٌ في أنّ وقوع الطَّلاَق، إنَّما يكون بإيقاع الزَّوج.
وعند أبي حنيفة: يقع الطَّلاَق بِمُضِيِّ المُدَّة، لا بإيقاع الزَّوج.
فإن قيل: الإيلاءُ طلاقٌ في نفسه؛ فالمراد من قوله: ﴿وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق﴾ الإيلاء المتقدِّم.
فالجواب: هذا بعيد؛ لأن قوله: ﴿وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق﴾ لا بُدَّ وأن يكون معناه: «وإن عَزَمُوا الَّذِين يُؤلُونَ مِنْ نِسَائِهُمُ الطَّلاق» فجعل المُؤلي عازماً، وهذا يقتضي أن يكون
106
الإيلاءُ والعزم قد اجتمعا، وأما الطَّلاق فهو مُتعلَّقُ العزم، ومُتعلِّق العزم مُتأخرٌ عن لعزم؛ فإذن الطَّلاَق مُتأَخِّر عن العَزْمِ لا محالة، والإِيلاءُ إمَّا أن يَكُون مقارناً للعزم أو متقدِّماً عليه، وهذا يُفيد أن الطَّلاق مُغَاير لذلك الإِيلاءِ.
الحجة الثَّالثة: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يقتضي أن يصدرَ من الزَّوج شيءٌ يكون مسموعاً وما ذاك إلاَّ أن نقول تقديره: «وإِن عَزَمُوا الطَّلاَق وطلّقوا فاللهُ سمِيعٌ لكَلاَمِهِم، عَلِيمٌ بما في قُلُوبِهِم».
فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ أن يَكُون المُرادُ إن الله سَمِبعٌ لِذَلِك الإيلاءِ.
فالجواب: أنّ هذا التهديد لم يحصُل على نفس الإيلاء، بل إنَّمَا حصل عن شيءٍ حصل بعد الإيلاء، فلا بُدَّ وأن يَصْدُر عن الزَّوج بعد ذلك الإيلاء، وهو كلام غيره؛ حتى يكون قوله: ﴿فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ تهديداً عليه.
الحجة الرَّابعة: قوله: «فَإِنْ فَاءُوا»، «وَإِنْ عَزَمُوا» ظاهره التَّخيير بين الأَمرين؛ وذلك يقتضي أن يكون ثبوتهما واحداً، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك.
الحجة الخامسة: أَنَّ الإيلاء في نفسه ليس بطلاقٍ، بل هو حلفٌ على الامتناع عن الجماع مُدَّة مخصوصة، إلاَّ أنّ الشَّرعَ ضرب لذلك مقداراً معلوماً من الزَّمان؛ وذكل لأَنَّ الرَّجُل قد يترُك جماع المرأة مُدَّة من الزَّمان لا بسبب المضارّة، وهذا إنّما يكُون إذا كان الزَّمَانُ قصيراً، فَأَمَّا ترك الجماعِ زماناً طويلاً، فلا يَكُون إلاَّ عند قصد المضَارَّة، ولما كان الطُّول والقِصرُ في هذا الباب أَمراً غير مضبوطٍ، قَدَّر له الشَّارع حدّاً فاصِلاً بين القَصِير والطَّويل، وذلك لا يُوجبُ وقُوعَ الطَّلاق، بل اللائِقُ بحكم الشَّرع عند ظهور قصد المضارَّة، أن يَأْمُر بتركِ المَضَارَّة، أو بتخليصها من قَيْد الإيلاءِ، وهذا المعنى مُعْتَبرٌ في الشَّرع؛ كضرب الأَجل في مُدَّة العنينِ وغيره.
حجة أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قراءة عبد الله بن مسعود: «فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ».
والجواب: أنّ القراءة الشَّاذَّة مردودة؛ لأن القرآن لا يَثْبُتُ كونه قُرآناً إلاَّ بالتَّواتُر؛
107
فحيث فلم يثبُت بالتَّواتر، قطعنا بأنَّه ليس بقُرآن وأَوْلى النَّاس بهذا أبو حنيفة؛ فإنّه تَمَسَّك بهذا الحرف في أَنَّ التَّسمية ليست من القُرْآن.
108
قوله تعالى :﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ ﴾ في نصب " الطَلاَقَ " وجهان :
أحدهما : أنه على إسقاط الخافضِ ؛ لأنَّ " عَزَمَ " يتعدَّى ب " عَلَى "، قال :[ الوافر ]
عَزَمْتُ عَلَى إِقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ *** لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ١
والثاني : أن تُضَمَّن " عَزَمَ " معنى " نَوَى " ؛ فينتصب مفعولاً به.
والعَزْمُ : عَقْدُ القلبِ وتصميمُه : عَزَم يَعْزِمُ عَزْماً وعُزْماً بالفتحة والضمة، وعَزِيمَةً وعِزَاماً بالكَسْر، ويستعمل بمعنى القَسَم : عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ ؛ والعزمُ والعَزِيمةُ : توطينُ النَّفْسِ على المُرادِ المَطْلُوب، والأَمر المَقْصُود. والطلاقُ : انحلالُ العقدِ، وأصلُه الانطلاق.
وقال القرطبي٢ : والطَّلاق : التَّخليةُ، يقال : نعجةٌ طالِقٌ، وناقةٌ طالِق أي : مهملة ؛ قد تُرِكت في المرعى، لا قيدَ عليها ولا رَاعِيَ وبعير طُلُق : بضم الطَّاء واللام، والجمع أَطلاقٌ ويقال : طَلَقَتْ بفتح اللام تَطْلُقُ فهي طالِقٌ وطَالِقَةٌ ؛ قال الأعشى :[ الطويل ]
أَيَا جَارَتَا بَينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ ***. . . ٣
وحكى ثعلب :" طَلُقَتْ " بالضم، وأنكره الأخفش. والطلاقُ يجوز أَنْ يكون مصدراً، أو اسمَ مصدرٍ، وهو التطليقُ.
قوله :﴿ فَإِنَّ اللهَ ﴾ ظاهرُه أنَّه جوابُ الشرطِ، وقال أبو حيان : ويَظْهَرُ أنَّه محذوفٌ، أي : فَلْيُوقِعُوهُ، وقرأ٤ عبد اللهِ :" فَإِنْ فَاءُوا فيهنَّ " وقرأ أُبيُّ " فِيهَا " والضميرُ للأَشْهُرِ.
وقراءةُ الجمهورِ ظاهرُها أنَّ الفَيْئَة والطَّلاق إنما تكونُ بعد مُضِيِّ الأربعة الأشهر، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لمَّا كان يرَى بمذهبِ أبي حنيفة : وهو أنَّ الفَيْئَة في مُدَّة الأربعةِ الأشهرِ، ويؤيِّدُه القراءةُ المتقدِّمَةُ، احتاجَ إلى تأويل الآيةِ بما نصُّه :" فإِنْ قلتَ : كيف موقعُ الفاءِ، إذا كانت الفيئةُ قبل انتهاءِ مدةِ التربُّصِ ؟ قلت : موقعٌ صحيحٌ ؛ لأنَّ قوله :" فَإِنْ فَاءَوُا. وَإِنْ عَزَمُوا " تفصيلٌ لقوله :﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ﴾، والتفصيلُ يَعْقُب المُفَصَّلَ، كما تقول : أنَّا نزيلُكُمْ هذا الشَّهْرَ، فإِنْ أَحْمَدْتُكُمْ، أَقَمْتُ عندَكُمْ إلى آخره، وإلاَّ لم أقُم إلاَّ رَيْثما أَتَحَوَّلُ "، قال أبو حيان٥ :" وليس بصحيحٍ ؛ لأنَّ ما مثل به ليس نظيرَ الآيةِ ؛ ألا ترَى أنَّ المثالَ فيه إخبارٌ عن المُفَصَّل حاله، وهو قوله :" أَنَا نَزِيلُكُمْ هذا الشَّهْر "، وما بعد الشرطينِ مُصَرَّحٌ فيه بالجواب الدالِّ على اختلاف متعلَّقِ فعل الجزاء، والآيةُ ليسَتْ كذلك ؛ لأنَّ الذين يُؤلُونَ ليس مُخْبَراً عنهم، ولا مُسْنَداً إليهم حُكْمٌ، وإنما المحكُومُ عليه تربُّصُهُمْ، والمعنى : تربُّصُ المُؤلين أربعةَ أَشْهُرٍ مشروعٌ لهم بعد إيلائهم، ثم قال :" فَإِنْ فَاءُوا وَإِنْ عَزَمُوا " فالظاهرُ أَنَّهُ يَعْقُبُ تربُّصَ المدةِ المشروعةِ بأَسْرِهَا، لأنَّ الفيئةَ تكونُ فيها، والعَزْمَ على الطلاقِ بعدَها ؛ لأنَّ التقييد المغاير لا يَدُلُّ عليه اللفظُ، وإنما يُطابقُ الآيةَ أَنْ تقول :" للضَّيْفِ إكرامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، فإنْ أقامَ، فنحنُ كرماءُ مُؤثِرُونَ، وإنْ عَزَمَ على الرحيلِ، فله أن يَرْحَلَ "، فالمتبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّ الشرطين مُقَدَّرَانِ بعد إكرامهِ ".
قوله :﴿ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ قال أبو حنيفة : سَمِيعٌ لإِيلائِه، عليم بعزمِه.
قال القرطبي٦ : دلَّت هذه الآية على أَنَّ الأَمة الموطوءة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاءٌ، إذ لا يقع عليها طلاقٌ.

فصل


قال أبو حنيفة والثَّوري : إنه لا يكون مُؤْلِياً حتى يحلف ألاَّ يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد.
وقال الشَّافعيّ وأحمد ومالك : لا يكون مُؤلياً حتَّى تزيد المُدَّة على أربعة أشهر.
وفائدة الخلاف : أنه إذا آلَى منها أكثر من أربعة أشهرٍ أجل أربعة أشهر، وهذا المُدَّة تكون حَقّاً للزَّوج، فإذا مضت تطالب المرأة الزَّوج بالفيئة أو بالطَّلاق فإن امتنع الزَّوجُ منهما، طلَّقها الحاكمُ عليه، وعند أبي حنيفة : إذا مضت أربعةُ أشهر، يقعُ الطَّلاق. حجة الشَّافعي وجوهٌ.
الأول : أنَّ " الفاء " في قوله ﴿ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، ﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ يقتضي كون هذين الحُكمين مشروعين متراخياً على انقضاء الأَرْبَعة أشهُر.
قال ابن الخطيب٧ لما ذكر قول الزَّمخشريِّ المتقدِّم على سبيل الإيراد : وهذا ضعيفٌ، لأن قوله :﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾ إشارةٌ إلى حُكمين :
أحدهما : صدور الإيلاء عنهم.
والثاني : وجوب تَرَبُّص هذه المُدَّة على النِّسَاء.
والفاء في قوله :" فَإِن فَاءُوا " ورد عقيب ذكرهما معاً، فلا بُدَّ وأن يكون هذا الحُكمُ مشروعاً عقيب الأَمرين : عقيب الإيلاءِ، وعقيب حُصُولِ التَّرَبُّص في هذه المُدَّة، بخلاف المثال الَّذِي ذكرهُ، وهو قوله :" أَنَا أَنْزِلُ عِنْدَكُم ؛ فإن أكرمتموني بقيتُ وإلا تَرَحَّلتُ " ؛ لأن هناك " الفاء " صارت مذكُورة عقيب شيء واحدٍ، وهو النُّزول، وهي هُنا مذكورة عقيب ذكر الإيلاء، وذكر التَّربُّص، فلا بُدَّ وأن يكُون ما دخلت " الفَاءُ " عليه واقعاً بين هذين الأمرين.
الحجة الثَّانية : قوله :﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ ﴾ صريحٌ في أنّ وقوع الطَّلاَق، إنَّما يكون بإيقاع الزَّوج.
وعند أبي حنيفة : يقع الطَّلاَق بِمُضِيِّ المُدَّة، لا بإيقاع الزَّوج.
فإن قيل : الإيلاءُ طلاقٌ في نفسه ؛ فالمراد من قوله :﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ ﴾ الإيلاء المتقدِّم.
فالجواب : هذا بعيد ؛ لأن قوله :﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ ﴾ لا بُدَّ وأن يكون معناه :" وإن عَزَمُوا الَّذِين يُؤلُونَ مِنْ نِسَائِهُمُ الطَّلاق " فجعل المُؤلي عازماً، وهذا يقتضي أن يكون الإيلاءُ والعزم قد اجتمعا، وأما الطَّلاق فهو مُتعلَّقُ العزم، ومُتعلِّق العزم مُتأخرٌ عن العزم ؛ فإذن الطَّلاَق مُتأَخِّر عن العَزْمِ لا محالة، والإِيلاءُ إمَّا أن يَكُون مقارناً للعزم أو متقدِّماً عليه، وهذا يُفيد أن الطَّلاق مُغَاير لذلك الإِيلاءِ.
الحجة الثَّالثة : قوله تعالى :﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ يقتضي أن يصدرَ من الزَّوج شيءٌ يكون مسموعاً وما ذاك إلاَّ أن نقول تقديره :" وإِن عَزَمُوا الطَّلاَق وطلّقوا فاللهُ سمِيعٌ لكَلاَمِهِم، عَلِيمٌ بما في قُلُوبِهِم ".
فإن قيل : لِمَ لا يجوزُ أن يَكُون المُرادُ إن الله سَمِيعٌ لِذَلِك الإيلاءِ.
فالجواب : أنّ هذا التهديد لم يحصُل على نفس الإيلاء، بل إنَّمَا حصل عن شيءٍ حصل بعد الإيلاء، فلا بُدَّ وأن يَصْدُر عن الزَّوج بعد ذلك الإيلاء، وهو كلام غيره ؛ حتى يكون قوله :﴿ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ تهديداً عليه.
الحجة الرَّابعة : قوله :" فَإِنْ فَاءُوا "، " وَإِنْ عَزَمُوا " ظاهره التَّخيير بين الأَمرين ؛ وذلك يقتضي أن يكون ثبوتهما واحداً، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك.
الحجة الخامسة : أَنَّ الإيلاء في نفسه ليس بطلاقٍ، بل هو حلفٌ على الامتناع عن الجماع مُدَّة مخصوصة، إلاَّ أنّ الشَّرعَ ضرب لذلك مقداراً معلوماً من الزَّمان ؛ وذلك لأَنَّ الرَّجُل قد يترُك جماع المرأة مُدَّة من الزَّمان لا بسبب المضارّة، وهذا إنّما يكُون إذا كان الزَّمَانُ قصيراً، فَأَمَّا ترك الجماعِ زماناً طويلاً، فلا يَكُون إلاَّ عند قصد المضَارَّة، ولما كان الطُّول والقِصرُ في هذا الباب أَمراً غير مضبوطٍ، قَدَّر له الشَّارع حدّاً فاصِلاً بين القَصِير والطَّويل، وذلك لا يُوجبُ وقُوعَ الطَّلاق، بل اللائِقُ بحكم الشَّرع عند ظهور قصد المضارَّة، أن يَأْمُر بتركِ المَضَارَّة، أو بتخليصها من قَيْد الإيلاءِ، وهذا المعنى مُعْتَبرٌ في الشَّرع ؛ كضرب الأَجل في مُدَّة العنينِ٨ وغيره.
حجة أبي حنيفة - رضي الله عنه - : قراءة عبد الله بن مسعود :" فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ ".
والجواب : أنّ القراءة الشَّاذَّة مردودة ؛ لأن القرآن لا يَثْبتُ كونه قُرآناً إلاَّ بالتَّواتُر ؛ فحيث فلم يثبُت بالتَّواتر، قطعنا بأنَّه ليس بقُرآن وأَوْلى النَّاس بهذا أبو حنيفة ؛ فإنّه تَمَسَّك بهذا الحرف في أَنَّ التَّسمية ليست من القُرْآن.
١ - البيت لأنس بن مدركة ينظر: أمالي ابن الشجري ١/١٨٦، المقتضب ٤/ ٤٣٥، شرح المفصل (٣/١٢)، الدرر ١/١٦٨، الدر المصون ١/٥٥٢..
٢ - ينظر: تفسير القرطبي ٣/٧٤..
٣ - صدر بيت وعجزه:
كذاك أمور الناس غاد وطارقه
ينظر: ديوانه (٢٦٣)، الإنصاف (٧٦٠)، المخصص ٣/٤٨، القرطبي ٣/١١٠، الدر المصون ١/ ٥٥٢..

٤ - انظر: المحرر الوجيز ١/٣٠٣ غير أن ابن عطية نسبهما إلى أبي، وانظر: البحر المحيط ٢/١٩٣..
٥ - ينظر: البحر المحيط ٢/١٩٥..
٦ - ينظر: تفسير القرطبي ٣/٧٤..
٧ - ينظر: تفسير الفخر الرازي ٦/ ٧٢..
٨ - (العنين) بكسر العين والنون المشددة، وهو العاجز عن الوطء، وربما اشتهاه، ولا يمكنه. مشتق من عن الشيء إذا اعترض لأن ذكره يعنّ أي يعترض عن يمين الفرج وشماله.
وقيل: من عنان الدابة للينه، قالوا: يقال: عن يعنّ ويعنّ عنا وعنونا.
واعتنّ اعترض، قال ابن الأعرابي: جمع العِنّين والمعنون عُنُنٌ. قال: يقال: عنَّ الرجل، وعُنِّنَ، وعُنِنَ، واعتنّ، فهو عِنْين، مَعْنُونٌ، مُعَنٌّ مُعَنَّن.
قال صاحب المحكم: هو عِنِّينَ بين العَنَانَة والعِنْيَنة، والعِنِّينِيَّة.
قال أبو عبيد: امرأة عنينة وهي التي لا تريد الرجال، وأما ما يقع في كتب أصحابنا من قولهم: العنّة يريدون التعنين فليس بمعروف في اللغة، وإنما العنّة الحظيرة من الخشب تجعل للإبل والغنم تحبس فيها. ينظر تحرير التنبيه ص ٢٨٣، ٢٨٤، المحكم ١/٤٨..

لما ذكر - عزَّ وجلَّ - الإيلاء، وأن الطّلاق قد يقعُ بيَّن تعالى حُكم المرأة بعد التَّطْلِيق.
قوله: ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ﴾ : مبتدأٌ وخبرٌ، وهل هذه الجملةُ من بابِ الخبرِ الواقعِ موقعَ الأمر، أي: لِيتَرَبَّصْنَ، أو عَلَى بابها؟ قولان، وقال الكوفيون: إنَّ لفظها أمرٌ؛ على تقدير لام الأمرِ، ومَنْ جعلها على بابها، قدَّر: وحُكْمُ المطلَّقَاتِ أَنْ يتربَّصْنَ، فحذف «حُكْمُ» مِن الأول، و «أن» المصدرية من الثاني، وهو بعيدٌ جدّاً.
و «تَرَبَّصَ» يتعدَّى بنفسَه؛ لأنه بمعنى انْتَظَرَن وهذه الآيةُ تحتمِلُ وجهين:
أحدهما: أن يكون مفعول التربُّص محذوفاً، وهو الظاهرُ، تقديرُه: يتربَّصْنَ التزويجَ أو الأزواجَ، ويكونُ «ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ» على هذا منصوباً على الظرف؛ لأنَّ اسمُ عددٍ مضافٍ إلى ظرفٍ.
والثاني: أن يكون المفعولُ هو نفسَ «ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ» أي: ينتظرونَ مُضِيَّ ثلاثةِ قُرُوءٍ.
وأمَّا قوله: ﴿بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ [فيحتمل وجهين، أحدهما، وهو الظاهرُ: أَنْ يتعلَّق المنفصلِ في مثلِ هذا التركيب واجبٌ، ولا يجوزُ أَنْ يُؤتَى بالضميرِ المتصل، لو قيل في نظيرِه: «الهِنْدَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِهِنَّ» لم يجُز؛ لئلاَّ يَتَعَدَّى فِعْلُ المضمر المنفصلِ إلى ضميرِه المتصل في غير الأبواب الجائز فيها ذلك.
والثاني: أن يكونَ «بَأَنْفُسِهِنَّ» تأكيداً للمضمرِ المرفوع المتصلِ، وهو النونُ، والباءُ زائدة في التوكيد؛ لأَنَّه يجوزُ زيادتها في النفسِ والعينِ مُؤكَّداً بهما؛ تقولُ: «جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ وِبِنَفْسِهِ وَعَيْنُهُ وَبِعَيْنِهِ» ؛ وعلى هذا: فلا تتعلَّقُ بشيء لزيادتها، لا يقالُ: لا جائزٌ أن تكونَ تأكيداً للضمير؛ لأنَّه كانَ يجبُ أن تُؤَكَّدَ بضميرِ رفعٍ منفصلٍ؛ لأنه لا يُؤكَّدُ الضميرُ المرفوعُ المتصلُ بالنَّفسِ والعَيْنِ، إلاَّ بعد تأكيده بالضميرِ المرفوع المنفصلِ؛ فيقال: زَيْدٌ جَاءَ هُوَ نَفْسُهُ عَيْنُهُ «؛ لأنَّ هذا المؤكَّد خرجَ عن الأصلِ، لمَّا جُرَّ بالباءِ الزائدةِ أَشْبَهَ الفَضَلاَتِ، فخرج بذكل عن حكم التوابع، فلم يُلْتَزَمْ فيه ما التزِمَ في غيره، ويُؤيِّد ذلك قولهم:» أَحْسِنْ بِزَيْدٍ، وَأَجْمِلْ «، أي: به، وهذا المجرورُ فاعلٌ عند البصريِّين، والفاعلُ عندهم لا يُحْذَفُ، لكنه لَمَّا جَرَى مَجْرَى الفَضَلاتِ؛ بسبب جَرِّه بالحرفِ، أو خَرَجَ عن
108
أصل باب الفاعل؛ فلذلك جازَ حَذْفُه، وعن الأَخْفَش ذَكَر في» المَسَائِلِ «أنهم قالوا:» قَامُوا أَنْفُسُهُمْ «من غير تأكيدٍ، وفائدةُ التوكيدِ هنا أن يباشِرن التربُّصَ هُنَّ، لا أنَّ عيرَهُنَّ يباشِرْنَهُنَّ التَّربُّصَ؛ ليكونَ ذلك أَبلغَ في المرادِ.
فإن قيل: القُرُوءُ: جمع كثرةٍ، ومن ثلاثةٍ إلى عشرة يُمَيَّزُ بجموع القلة ولا يُعْدَلُ عن القلةِ إلى ذلك، إلا عند عدم استعمالِ جمع قلَّةٍ غالباً، وههنا فلفظُ جمع القلَّةِ موجودٌ، وهو»
أَقْرَاء «، فما الحكمةُ بالإِتيانِ بجمع الكثرةِ مع وجودِ جمعِ القلَّةِ؟.
فيه أربعةُ أوجهٍ:
أوّلها: أنه لّمَّا جمع المطلَّقات جمع القُرُوء، لأنَّ كلَّ مطلقةٍ تترَّبصُ ثلاثة أقراءٍ؛ فصارَتْ كثيرةً بهذا الاعتبار.
والثاني: أنه من باب الاتساعِ، ووضعِ أحدِ الجمعين موضعَ الآخر.
والثالث: أنَّ «قروءاً»
جمعُ «قَرْءٍ» بفتح القافِ، فلو جاء على «أَقْرَاء» لجاء على غير القياس؛ لأنَّ أفعالاً لا يطَّردُ في فَعْلٍ بفتح الفَاء.
والرابع - وهو مذهب المُبَرِّد -: أنَّ التقدير «ثَلاثَةً مِنْ قُرُوءٍ»، فحذف «مِنْ»، وأجاز: ثَلاثَة حَمِيرٍ وثَلاثَةَ كِلاَبٍ، أي: مِنْ حِمِيرٍ، ومِنْ كِلاَبٍ، وقال أبو البقاء: وقيل: التقديرُ «ثَلاثَةَ أقْرَاءٍ مِنْ قُرُوءٍ» وهذا هو مذهبُ المبرِّد بعينِه، وإنما فسَّر معناه وأَوضحه.

فصل


اعلم أن المُطلَّقة هي المرأةُ الَّتي وقع عليها الطَّلاق، وهي إمَّا أن تكون أجنبيةً أو منكوحةً.
فإن كان أجنبيةً، فإذا وقع الطّلاق عليها فهي مطلَّقةٌ بحسب اللُّغة، لكنَّها غير مطلَّقةٍ بحسب عُرْف الشَّرع، والعِدَّةُ غير واجبةٍ عليها بالإجماع.
وأما المَنْكُوحة: فإن لم يكن مدخولاً بها، لم تجب عليها العِدَّة؛ لقوله تعالى: ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: ٤٩]، وإن كانت مدخولاً بها: فإن كانت حاملاً، فعدَّتها بوضع الحمل؛ لقوله تعالى: ﴿وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤]، وإن كانت حائلاً؛ فإن امتنع الحيض في حقِّها لصغر مفرط أو كبر مُفرطٍ، فعِدَّتها بالأشهرِ؛ لقوله تعالى: ﴿واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ﴾ [الطلاق: ٤].
وإن لم يمتنع الحيض في حقِّها؛ فإذا كانت رقيقة، فَعِدَّتها قَرْءان، وإن كان حُرَّة، فعدَّتها ثلاثة قُرُوءٍ.
109
فظهر من هذا أن العامَّ إِنَّما يحسن تخصيصه، إذا كان الباقي بعد التَّخصيص أكثر؛ لأن العادة جاريةٌ بإطلاق لفظ الكُلِّ على الغالب؛ لأنَّه يُقَالُ في الثَّوبِ: إنه أَسود إذا كان الغَالِبُ فيه السَّوَاد وإن حصل فيه بياضٌ قليل، فأمَّا إذا كان الغالبُ عليه البياض وكان السَّوادُ قليلاً، كان إطلاق لفظ السَّواد عليه كذباً؛ فثبت شرط تخصيص العامِّ؛ أن يكون الباقي بعد التَّخصيص أكثر، وهذه الآية ليست كذلك، فإنه خرج
110
من عمومها خمسة أقسامٍ، فأطلق لفظ «المُطَلَّقَات» على قسم واحدٍ.
والجواب: أما الأجنبيَّة فخارجةٌ عن اللَّفظ، فإنَّ الأَجنبيَّة لا يقال فيها: إنَّها مطلَّقة، وأما غيرُ المدخولِ بها فالقرينة تخرجها؛ لأن أصل العِدَّة شُرِعت لبراءة الرَّحم، والحاجةُ إلى البراءة لا تحصلُ إلاَّ عند سبق الشُّغل، وأمَّا الحامل والآيسةِ فهما خارجتان عن اللَّفظ؛ لأن إيجاب الاعتداد بالأقراء، يكون لم يجبُ الأقراء في حَقِّه.
وأمَّا الرقيق فتزويجهن كالنَّادِر، فثبت أن الأَعمَّ الأَغلب باقٍ تحت العُمُومِ.
فإن قيل: «يَتَرَبَّصْنَ» خبر والمراد منه الأمر، فما الفائدةُ في التَّعبير عن الأَمر بلفظ الخبر؟
111
فالجواب من وجهين:
الأول: أنه - تعالى - لو ذكره بلفظ الأَمر، لكان ذلك يُوهم أَنَّه لا يحصل المقصود، إلاَّ إذا شرعت فيها بالقَصْد والاختيار، وعلى هذا التَّقدير: فلو مات الزَّوج، ولم تَعْلَم المرأَةُ حتى انقضت العِدَّةُ، وجب ألاَّ يكون ذلك كافياً في المقصود؛ لأنَّها إذا أُمِرَت بذلك لَمْ تخرج عن العُهْدَة إلا إذا قصدت أداء التَّكليف، فلما ذكره بلفظ الخبر، زال ذلك الوهم، وعُرِف أَنَّه متى انقضت هذه القُرُوءُ، حصل المقصُود سَوَاء علمت بذلك أو لَمْ تعلم، وسواءٌ شرعت في العِدَّة بالرِّضا أو بالغضب.
الثاني: قال الزَّمخشري: التَّعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر، والإشعار بأنَّه ممَّا يجب أن يتعلٌَّ بالمُسارعة إلى امتثاله، فكأنَّهُنَّ امتثلن الأمر بالتَّربُّص، فهو يُخْبِرُ عنه موجوداً؛ ونظيره قولهم في الدُّعاء رحمك اللهُ؛ أُخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة، كأنَّها وجدت الرَّحمة فهو يُخْبر عنها.
فإن قيل: لو قال: «يَتَرَبَّصُ المُطلَّقات» لكان ذلك جملة من فعلٍ وفاعلٍ، فما الحكمة من ترك ذلك، وعدولِهِ عن الجملة الفعليَّة إلى الجملة الاسميَّة، وجعل المُطلَّقات مبتدأ، ثم قوله: «يتربّصن» إسنادٌ للفِعل إلى ضمير المُطَلَّقات، ثم جعل هذه الجملة خبراً عن ذلك المُبتدأ.
قال الشَّيخ عبد القاهر الجرجانيُّ في كتاب «دَلاَئِل الإِعْجَازِ» : إنَّك إذا قَدَّمت الاسم، فقلت: زيدٌ فعل، فهذا يفيد من التَّأكيد والقُوَّة ما لا يُفيد قولك: «فَعَلَ زَيْدٌ» ؛ وذلك لأنَّ قولك: «زَيْدٌ فَعَل» قد يُستعمل في أمرين:
أحدهما: أن يكون لتخصيص ذلك الفعل بذلك الفاعل؛ كقولك: أنا أكتب في المُهِمِّ الفُلانيّ إلى السُّلطان، والمراد دعوى الإنسان الانفراد.
والثاني: ألاَّ يكون المقصود الحصر، بل إنَّ تقديم ذكر المُحَدّث عنه بحديث كذا لإثبات ذلك الفعل له؛ كقولهم: «هُوَ يُعْطِي الجَزِيلَ» ولا يريد الحصر، بل أن يُحَقِّق عند السَّامع أَنَّ إِعطَاء الجزيل دأبه؛ وذلك مثل قوله تعالى: ﴿والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ [النحل: ٢٠]، وليس المراد تخصيص المخلوقيَّة بهم، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ﴾ [المائدة: ٦١] ؛ وقول الشَّاعر: [الطويل]
١١٠٤ - هُمَا يَلْبِسَانِ المَجْدَ أَحْسَنَ لِبْسَةٍ شَجِيعَانِ مَا اسْطَاعَا عَلَيْهِ كَلاَهُمَا
والسَّببُ في حُصُولِ هذا المعنى عند تقديم ذكر المبتدأ: أنَّكَ إذا قلت: «عَبْدُ اللهِ» فقد أشعرت بأَنَّك تريد الإِخبار عنه، فيحصل في النَّفسِ شوق إلى معرفةِ ذلك، فإذا
112
ذكرت ذلك الخبر، قبله العقل بتشوُّق، فيكون ذلك أبلغ في التَّحقيق، ونفي الشُّبهة.
فإن قيل: هلا قيل: يَتَرَبَّصْن ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ، وما الفائدة في ذكر الأنفُسِ؟
فالجواب: إن في ذكر الأنفس بعث على التَّربُّص وتهييجُ عليه؛ لأن فيه ما يستنكفن منه، فيحملهنَّ على أن يتربَّصن، وذلك لأنذَ أنفس النِّساء طوامحٌ إلى الرِّجال، فأراد أن يقعن على أنفسهن، ويغلبنها على الطُّموح، ويحرِّضنها على التَّربُّص.
فإن قيل: لم لم يقل: ثلاث قروء؛ كما يقال: ثَلاَث حِيَضٍ؟
والجواب: أنه أتبع تذكير اللَّفظ، ولفظ «قَرْء» مذكَّر.
والقرء في اللغة: أصله الوقت المعتاد تردده، ومنه: قرء النَّجم لوقت طلوعه وأفوله، يقال: «أَقْرَأَ النَّجْمُ»، أي: طلع أو أفل، ومنه قيل لوقت هبوب الرِّ] ح: قرؤها وقارئها؛ قال الشاعر: [الوافر]
١١٠٥ - شَنِئْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي شُلَيْلٍ إِذَا هَبَّتْ لِقَارِيهَا الرِّيَاحُ
أي: لوقتها، وقيل: أصله الخروج من طهر إلى حيضٍ، أو عكسه، وقيل: هو من قولهم: قَرَيْتُ المَاءَ في الحَوْضِ؛ أي: جمعته، ومنه: قرأ القرآن. وقولهم: ما قرأت هذه الناقة في بطنها سَلاً قطٌّ، أي لم تجمع فيه جنيناً؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم: [الوافر]
١١٠٦ - ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بَكْرٍ هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جِنِينَا
فعلى هذا: إذا أريد به الحيض، فلاجتماع الدَّم في الرَّحم، وإن أريد به الطهر، فلاجتماع الدَّم في البدن، وهذا قول الأصمعي، والفرَّاء، والكسائيّ.
قال شهاب الدِّين: وهو غلطٌ؛ لأنَّ هذا من ذوات الياء، والقرء مهموزٌ.
وإذا تقرَّر ذلك فاختلف العلماء في إطلاقه على الحيض والطهر: هل هو من باب الاشتراك اللفظيِّ، ويكون ذلك من الأضداد أو من الاشتراك المعنويِّ، فيكون من المتواطئ؛ كما إذا أخذنا القدر المشترك: إمَّا الاجتماع، وإمَّا الوقت، وإمَّا الخروج، ونحو ذلك. وقرء المرأة لوقت حيضها وطهرها، ويقال فيهما: أَقْرَأَتِ المَرْأَةُ، أي: حاضت أو طهرت، وقال الأخفش: أَقْرَأَتْ أي: صارت ذات حيضٍ، وقرأت بغير ألفٍ أي: حاضت، وقيل: القرء، الحيض، مع الطهر، وقيل: ما بين الحيضتين. والقائل
113
بالاشتراك اللفظيِّ وجعلهما من الأضداد هم جمهور أهل اللِّسان؛ كأبي عمرو ويونس وأبي عبيدة.
ومن مجيء القرء والمراد به الطهر قول الأعشى: [الطويل]
١١٧٠ - أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمٌ غَزْوَةٍ تَشُدُّ لأَقْصَاهَا عَظِيمَ عَزَائِكَا مُوَرِّثَةً عِزًّا وَفِي الحَيِّ رِفْعَةً لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا... أراد: أنَّه كان يخرج من الغزو ولم يغش نساءه، فيضيع أقراءهنّ، وإنما كان يضيع بالسَّفر زمانَ الطُّهر لا زمان الحيض. ومن مجيئه للحيض قوله: [الرجز]
١١٠٨ - يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ... أي: طعنته فسال دمه كدم الحائض، ويقال «قُرْء» بالضمِّ نقله الأصمعيُّ، و «قَرْء» بالفتح نقله أبو زيدٍ، وهما بمعنى واحد. وقرأ الحسن: «ثَلاَثَةَ قَرْوٍ» بفتح القاف وسكون الراء وتخفيف الواو من غير همزٍ؛ ووجهها: أنه أضاف العدد لاسم الجنس، والقرو لغةٌ في القرء، وقرأ الزُّهريُّ - ويروى عن نافع -: «قُرُوِّ» بتشديد الواو، وهي كقراءة الجمهور، إلا أنه خفَّف، فأبدل الهمزة واواً، وأدغم فيها الواو قبلها. فصل مذهب الشَّافعيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنها الأظهار؛ وهو مرويٌّ عن ابن عمرو، وزيد، وعائشة، والفقهاء السَّبعة، ومالك وربيعة، وأحمد في رواية.
وقال عليٌّ، وعمر، وابن مسعود: هي الحيض؛ وهو قول أبي حنيفة والثَّوريِّ والأوزاعيّ، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وإسحاق، وأحمد في رواية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -. وفائدة الخلاف: أن مدَّة العدَّة عند الشَّافعيّ أقصر، وعندهم أطول حتَّى لو طلَّقها في حال الطُّهر، يحسب بقيَّة الطُّهر قرءاً، وإن حاضت عقيبه في الحال، فإذا شرعت في الحيضة الثَّالثة، انقضت عدَّتها، وإن طلَّقها في حال الحيض فإذا شرعت في الحيضة الرَّابعة، انقضت عدَّتها.
114
وعند أبي حنيفة: ما لم تطهر من الحيضة الثَّالثة، إن كان الطَّلاق في حال الطُّهر ومن الحيضة الرَّابعة إن كان الطلاق في حال الحيض، لا يحكم بانقضاء عدَّتها، ثم قال: إذا طهرت لأكثر الحيض، تنقضي عدَّتها قبل الغسل، وإن طهرت لأقلِّ الحيض، لم تنقض عدَّتها. وحجَّة الشَّافعي من وجوه: أولها: قوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١] أي: في وقت عدَّتهن؛ كقوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة﴾ [الأنبياء: ٤٧]، أي: في يوم القيامة، والطَّلاق في زمن الحيض منهيٌّ عنه؛ فوجب أن يكون زمان العدَّة غير زمان الحيض.
أجاب صاحب «الكَشَّاف» بأن معنى الآية: مستقبلات لعدَّتهن كما يقال: لثلاث بقين من الشَّهر، يريد: مستقبلاً لثلاث.
قال ابن الخطيب: وهذا يقوِّي استدلال الشَّافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لأن قوله: «لِثَلاَثٍ بَقِين من الشَّهْرِ» معناه: لزمانٍ يقع الشُّروع في الثَّلاثِ عقيبه، وإذا كان الإذن حاصلاً بالتَّطليق في جَميع زَمَانِ الطُّهر، وجَبَ أن يكُون الطُّهْرُ الحاصِل عَقِيب زمان التَّطليق من العدَّة، وهو المطلوب.
وثانيها: روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -؛ أنها قالت: «هل تَدْرُونَ ما الأَقْرَاءُ؟ الأَقْرَاءُ الأَطْهَارُ».
قال الشَّافعي: والنساء بهذا أعلم؛ لأن هذا إنما يبتلى به النِّساء.
وثالثها: وهو ما تقدَّم من أن «القرْءَ» عبارةٌ عن الجمع، واجتماع الدَّم إنَّما هو زمان الطُّهر؛ لأن الدَّم يجتمع في ذلك الزَّمان في البدن.
فإن قيل: بل زمان الحيض أولى بهذا الاسم؛ لأنَّ الدَّم يجتمع في هذا الزَّمان في الرَّحم.
قلنا: لا يجتمع أَلْبَتَّةَ في زمان الحيض في الرَّحم، بل ينفصل قطرةً قطرةً، وأمَّا وقت الطُّهر، فالكلُّ مجتمعٌ في البدن لم ينفصل منه شيءٌ، وكان معنى الاجتماع وقت الطُّهر أتم؛ لأن الدَّم من أوَّل الطُّهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره، فكان آخر الطُّهر هو القرء في الحقيقة.
115
ورابعها: أن الأصل ألاّ يكون لأحدٍ على أحدٍ من المكلَّفين حقّ الحبس والمنع من التّصرُّفات، وإنما تركنا العمل بهذا عند قيام الدَّليل عليه، وهو أقلُّ ما يسمَّى بالأقراء الثَّلاثة وهي الأطهار؛ لأن الاعتداد بالأطهار أقلّ زماناً من الاعتداد بالحيض، وإذا كان كذلك، أثبتنا الأقلّ ضرورة العمل بهذه الآية، واطرحنا الأكثر؛ للدَّلائل الدَّالَّة على أنَّ الأصل ألاَّ يكون لأحدٍ على غيره حقّ الحبس والمنع.
حجة أبي حنيفة وجوه:
أحدها: أنَّ الأقراء في اللُّغة، وإن كانت مشتركةً بين الأطهار والحيض؛ إلا أن الشَّرع غلَّب استعمالها في الحيض؛ لما روي أن النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «دَعِي الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك» والمراد أيَّام الحَيْضِ.
وثانيها: ما تقدَّم من وروده بمعنى الحيض.
وثالثها: أنا إذا قلنا: بأن الأقراء هي الحيض، أمكن معه استيفاء ثلاثة أقراءٍ بكمالها؛ لأنّا نقول إنّ المطلَّقة يلزمها تربُّص ثلاث حيضٍ، وإنَّما تخرج عن العهدة بزوال الحيضة الثَّالثة، ومن قال: إنَّه الطُّهر يجعلها خارجة من العهدة بقَرْءين وبعض الثَّالث؛ لأن عنده إذا طلَّقها في آخر الطُّهر تعتدُّ بذلك قرءاً، فإذا كان في أحد القولين تكمل حقيقة اللَّفظ بالثَّلاثة.
أجاب الشَّافعي بأنق ال: قال الله تعالى: ﴿الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: ١٩٧] والأشهر جمع، وأقلُّه ثلاثة، وقد حملناه على شهرين وبعض الثَّالث، وذلك شوَّال، وذو القعدة، وبعض ذي الحجَّة، هكذا ههنا يجوز أن نحمل هذه الثَّلاثة على طهرين وبعض الثَّالث.
أجاب الجبَّائي عن هذا بوجهين.
الأول: أنَّا تركنا الظَّاهر في هذه الآية بدليل، ولا يلزمنا أن نترك الظَّاهر هنا من غير دليلٍ.
والثاني: أن في العدَّة تربُّصاً متَّصلاً، فلا بدَّ من استعمال الثَّلاثة، ولا كذلك أشهر الحجِّ؛ لأنه ليس فيها فعل متصلٌ، فكأنَّه قيل: هذه الأشهر وقت الحجِّ لا على سبيل الاستغراق، ثم إن الثَّلاثة نصٌّ في إفرادها لا تحتمل التَّنقيص، ولا كذلك قوله: «أَشْهُر» ؛ لأنَّه ليس بنصٍّ في الثلاثة؛ لأن العلماء اختلفوا في أقلِّ الجمع، ولا
116
يقاس ما فيه نصٌّ على ما لا نصَّ فيه بل العكس.
وأجيب الجبَّائي بوجهين:
117
الأول: كما أن حمل الأقراء على الأطهار يوجب الزّيادة؛ لأنه إذا طلَّقها في أثناء الطُّهر، لم يحسب ما بقي من ذلك الطُّهر في العدَّة فتحصل الزِّيادة.
واعتذروا عنه: بأن الزِّيادة لا بدَّ من تحمُّلها لأجل الضَّرورة، لأنه لو جاز الطَّلاق في الحيض، لأمرناه بالطَّلاق في آخر الحيض حتى يُعْتَدَّ بأطهارٍ كاملةٍ، وإذا اختص الطَّلاق بالطُّهر، صارت تلك الزِّيادة محتملة للضَّرورة.
ونحن نقول: لمَّا صارت الأقراء مفسَّرة بالأطهار، والله تعالى أمرنا بالطَّلاق في الطُّهر صار تقدير الآية: يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة أطهارٍ؛ طهر الطَّلاق وطهران آخران، ثم لزم من كون الطُّهر الأوَّل طهر الطَّلاق، أن يكون ذلك الطَّهر ناقصاً، ليعتدّ بوقوع الطَّلاق فيه.
الوجه الثاني في الجواب: أنّا بيَّنَّا أن القَرْء اسمٌ للاجتماع وكمال الاجتماع إنَّما يحصل في آخر الطُّهر، فكان في الحقيقة الجزء الأخير من الطُّهر قرءاً تاماً، وعلى هذا التَّقدير؛ لم يلزم دخول النُّقصان في شيءٍ من الأقراء.
ورابعها: أنه - تعالى - نقل إلى الشُّهور عند عدم الحيض؛ قال: ﴿واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ﴾ [الطلاق: ٤] فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار.
وأيضاً: لما شرعت الأشهر بدلاً عن الأقراء، والبدل يعتبر بتمامها؛ لأن الأشهر لا بدَّ من إتمامها، فوجب أيضاً أن يكون الكمال معتبراً في المبدل، فوجب أن تكون الأقراء كاملة وهي الحيض، وأما الأطهار فيجب فيها قرءان وبعض قرءٍ.
وخامسها: قوله - عليه الصَّلاة والسلام -: «طَلاَق الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وأجمعوا على أنَّ عدَّة الأمة نصف عدَّة الحرَّة، فوجب أن تكون عدَّة الحرَّة هي الحيض.
وسادسها: أجمعنا على وجوب الاستبراء في الجواري بالحيض، فكذا العدَّة؛ لأن المقصود من الاستبراء والعدَّة شيءٌ واحدٌ؛ لأن أصل العدَّة إنَّما شرع لاستبراء الرَّحم، وإنما تستبرأ الرَّحم بالحيض والعدَّة شيءٌ واحدٌ؛ لأن أصل العدَّة إنَّما شرع لاستبراء الرَّحم، وإنما تستبرأ الرَّحم بالحيض لا بالطُّهر؛ فوجب أن يكون هو المعتبر.
وسابعها: إن القول بأن القرء هو الحيض احتياطٌ، وتغليبٌ لجانب الحرمة؛ لأن المطلَّقة إذا مرَّ عليها بقية الطَّهر، وطعنت في الحيضة الثَّالثة، فإن جعلنا القرء هو
118
الحيض، فحينئذ يحرم للغير التَّزويج بها، وإن جعلنا القرء هو الطُّهر، فحينئذٍ يجوز تزويجها، وجانب التَّحريم أولى بالرِّعاية؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «ما اجْتَمَعَ الحَلاَلُ والحَرَامُ إلاَّ غَلَبَ الحَرَامُ الحلالَ» ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة، وهذا أقرب إلى الاحتياط، فكان أولى؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «دَعْ مَا يرِيبُك إلَى مَا لاَ يرِيبُكَ».
قوله: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ﴾ الجارُّ متعلَّقٌ ب «يَحِلُّ» واللام للتبليغ، كهي في «قُلْتث لَكَ».
قوله: ﴿مَا خَلَقَ الله﴾ في «مَا» وجهان:
أظهرهما: أنَّها موصولة بمعنى «الَّذِي».
والثاني: أنها نكرةٌ موصوفةٌ، وعلى كلا التقديرين، فالعائد محذوفٌ لاستكمال الشروط، والتقدير: ما خلقه، و «مَا» يجوز أن يراد بها الجنين، وهو في حكم غير العاقل، فلذلك أوقعت عليه «مَا» وأن يراد بها دم الحيض.
قوله: ﴿في أَرْحَامِهِنَّ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق ب «خَلَقَ».
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنه حالٌ من عائد «مَا» المحذوف، التقدير: ما خلقه الله كائناً في أرحامهنَّ، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرةٌ؛ قال أبو البقاء: «لأَنَّ وقتَ خَلْقِه لَيْسَ بشيءٍ، حتَّى يَتِمَّ خَلْقُهُ»، وقرأ مُبَشِّر بن عبيدٍ: «في أَرْحَامِهُنَّ» و «بِرَدِّهُنَّ» بضمِّ هاء الكناية، وقد تقدَّم أنه الأصل، وأنه لغة الحجاز، وأنَّ الكسر لأجل تجانس الياء والكسرة.
قوله: ﴿إِن كُنَّ﴾ هذا شرطٌ، وفي جوابه المذهبان المشهوران: إمَّا محذوفٌ، وتقديره من لفظ ما تقدَّم؛ لتقوى الدلالة عليه، أي: إنْ كُنَّ يؤمنَّ بالله واليَوم الآخر، فلا
119
يحلُّ أن يكتمن، وإمَّا أنه متقدِّمٌ؛ كما هو مذهب الكوفيين وأبي زيدٍ، وقيل: «إنْ» بمعنى «إِذْ»، وهو ضعيفٌ.

فصل في بيان تصديق قول المرأة في انقضاء عدتها


اعلم أن انقضاء العدَّة لما كان مبنياً على انقضاء الأقراء في حقِّ ذوات الأقراء، وكان علم ذلك متعذِّرٌ على الرِّجال، جعلت المرأة أمينة على العدَّة، وجعل القول قولها إذا ادَّعت انقضاء أقرائها في مدَّة يمكن ذلك فيها، وهو على مذهب الشَّافعيّ اثنان وثلاثون يوماً وساعة؛ لأن أمرها يحمل على أنَّها طلِّقت طاهرة، فحاضت بعد ساعةٍ يوماً وليلة، وهو أقلُّ الحيض، ثم طهرت خَمْسَةنَ عَشَر يوماً، وهو أقَلُّ الطُّهْر، ثم حاضَت يوماً وليلةً، ثم طَهُرَت خَمْسَة عَشَر يَوْماً، ثم رَأَتِ الدَّمَ، فقد انْقَضَت عِدَّتُها؛ لحصول ثلاثة أطهارٍ فمتى ادَّعت هذا أو أكثر منه، قبل قولها، وكذلك إن كانت حاملاً فادَّعت أنها أسقطت فالقول قولها؛ لأنها أمينة عليه.

فصل في المراد بالكتمان


قال القرطبي: ومعنى النَّهي عن الكتمان: النَّهي عن الإضرار بالزَّوجِ وإذهاب حقِّه، فإذا قالت المطلَّقة: حضتُ وهي لم تحِض، ذهبت بحقِّه في الارتجاع، وإذا قالت: لم أَحِضْ وهي قد حَاضَتْ، ألْزَمَتْهُ من النَّفَقَةِ ما لم يَلْزَمه، فأضرَّت به، أو تقصد بكذبها في نفس الحيض ألاَّ ترجع حتى تنقضي العدَّة ويقطع الشَّرع حقَّه، وكذلك الحاملُ تكتم الحمل؛ لتقطع حقَّه في الارتجاع.
قال قتادة: كانت عادتهن في الجاهليَّة أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزَّوج الجديد؛ ففي ذلك نزلت الآية.

فصل


اختلف المفسِّرون في قوله: ﴿مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ﴾ :
فقيل: هو الحَبَلُ والحَيْضُ معاً، وذلك لأنَّ المَرْأة لَهَا أغْرَاض كَثِيرة في كتمانها؛ أمّا الحبل؛ فإنه يكون غرضها فيه أنَّ انقضاء عدَّتها بالقروء؛ لأنه يكون أقلَّ زماناً من انقضاء عدَّتها يوضع الحمل، فإذا كتمت الحمل، قصرت مدّة عدَّتها فتتزوَّج بسرعة وربما كرهت مراجعة الزَّوج، وربما أحبَّت التَّزويج بزوج آخر، أو أحبَّت أن تلحق ولدها بالزَّوج الثَّاني، فلهذه الأغراض تكتم الحمل، وأما كتمان الحيض، فقد يكون غرضها إذا كانت
120
من ذوات الأقراء أن تطول عدَّتها لكي يراجعها الزَّوج، وقد تحبُّ تقصير عدَّتها لتبطل رجعته ولا يتمُّ لها ذلك إلاَّ بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات، فوجب حمل النَّهي على مجموع الأمرين.
وقال ابن عبَّاسٍ وقتادة: هو الحيض فقط؛ لقوله تعالى: ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام﴾ [آل عمران: ٦]، ولأن الحيض خارجٌ عن الرَّحم لا مخلوقٌ فيه، وحمل قوله - تعالى -: ﴿مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ﴾ على الولد الذي هو شريف، أولى من حمله على شيءٍ قَذِرٍ خسيسٍ.
وأجيب بأن المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال الَّتي لا اطِّلاع لغيرها عليها، وبسببها يختلف الحلُّ والحرمة في النِّكاح، فوجب حمل اللَّفظ على الكلِّ، وقيل: هو الحيض؛ لأن هذا الكلام إنَّما ورد عقيب ذكر «الأَقْرَاءِ»، ولم يتقدَّم ذكر الحمل.
وأجيب: بأنَّ هذا كلامٌ مُسْتَأْنَفٌ مستَقِلٌّ بِنَفْسِه، من غير أن يُرَدَّ إلى ما تقدَّم، فوجب حمله على كلِّ ما يخلق في الرَّحم.
وقوله: ﴿إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر﴾ ليس المراد: أن ذلك النَّهي مشروطاً بكونها مؤمنة، بل هذا كقول المظلوم للظَّالم: «إن كُنْتَ مُؤْمِناً فَيَنْبَغِي أن يَمْنَعَكَ إيمَانُك عن ظُلْمِي»، وهذا تهديدٌ شديد في حقِّ النّساء؛ فهو كقوله في الشَّهادة: ﴿وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣]، وقوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣].
قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾ الجمهور على رفع تاء «بُعُولَتُهُنَّ» وسكَّنها مسلمة بن محاربٍ، وذلك لتوالي الحركات، فخُفِّف، ونظيره قراءة: ﴿وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف: ٨٠] بسكون اللام حكاها أبو زيد، وحكى أبو عمرو: أنَّ لغة تميم تسكين المرفوع من «يُعَلِّمُهُمُ» ونحوه، وقيل: أجرى ذلك مجرى «عَضُدٍ، وعَجُزٍ» ؛ تشبيهاً للمنفصل بالمتصل، وقد تقدَّم ذلك.
و ﴿أَحَقُّ﴾ خبرٌ عن «بُعُولَتُهُنَّ» وهو بمعنى حقيقون؛ إذ لا معنى للتفضيل هنا؛ فإنَّ غير الأزواج لا حقَّ لهم فيهنَّ البتَّة، ولا حقَّ أيضاً للنِّساء في ذلك، حتى لو أبت هي الرَّجعة، لم يعتدَّ بذلك.
وقال بعضهم: هي على بابها؛ لأنه تعالى قال: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ
121
الله في أَرْحَامِهِنَّ} فكان تقدير الآية: فإنَّهن إن كتمن لأجل أن يتزوَّج بهنَّ زوجٌ آخر، فإنَّ الزَّوج الأوَّل أحقُّ بردِّها؛ لأنه ثبت للزَّوج الثَّاني حقٌّ في الظَّاهر؛ لادِّعائها انقضاء عدَّتها.
وأيضاً: فإنَّها إذا كانت معتدَّة، فلها في انقضاء العدَّة حقُّ انقطاع النِّكاح، فلما كان لهنَّ هذا الحقُّ الذي يتضمَّن إبطال حقِّ الزَّوج، جاز أن يقول: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ﴾ حيث إن لهم أن يبطلوا بسبب الرَّجعة ما هنَّ عليه من العدَّة.
و «البُعُولة» فيها قولان:
أحدهما: إنه جمع «بَعْل» كالفحولة والذُّكورة والجدودة والعمومة، والهاء زائدة مؤكِّدة لتأنيث الجماعة ولا ينقاس، بل إنَّما يجوز إدخالها في جمع رواة أهل اللُّغة عن العرب، فلا يقال في كعب: كُعُوبة، ولا في كَلْب: كلابة.
والبعل زوجُ المَرْأةِ؛ قالوا: وسُمِّي بذلك على المستعلي، فلما علا من الأرض فَشَرِبَ بعروقه. ويقال: بَعَلَ الرَّجُلُ يبعلُ؛ كمنع يمنعُ. ويشترك فيه الزَّوجان؛ فيقال للمرأة: بعلة؛ كما يقال لها: زَوْجَةٌ في كَثِير من اللُّغَاتِ، وزَوْجٌ في أَفْصَح الكَلاَم، فهما بَعْلاَن كما أنَّهما زوجان، وأصل البعل: السَّيِّد المالِك فيما نقل، يقال: من بعلُ هذه النَّاقة؟ كما يقال من ربِّها؟ وبعل: اسم صنم، كانوا يتَّخونه ربّاً؛ قال - تعالى -: ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين﴾ [الصافات: ١٢٥]، وقد كان النِّساء يدعون أزواجهن بالسودد.
الثاني: أنّ البعولة مصدر، يقال: بعل الرَّجُل يَبْعَل بُعُولَةً وبِعَالاً، إذا صَارَ بَعْلاً، وبَاعَل الرَّجُل امْرَأَتَهُ: إذا جَامَعَهَا؛ ومنه الحديث: أن النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال في أيَّام التَّشريق: «إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ»، وامرأة حَسَنَةُ التَّبَعّل إذا كَانَت تُحْسِن عِشْرَةَ زَوْجِها، ومنه الحديث: «إِذَا أَحْسَنْتُنَّ تبعُّلَ أزواجكن».
قوله: ﴿بِرَدِّهِنَّ﴾ متعلِّقٌ ب «أَحَقّ». وقوله «فِي ذَلِكَ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلّقٌ أيضاً ب «أَحَقّ»، ويكون المشار إليه بذلك على هذا وقت العدَّة، أي تستحقّ رجعتها ما دامت في العدَّة، وليس المعنى: أنه أحقُ أن يردَّها في العدَّة، وإنما يردُّها في النكاح، أو إلى النكاح.
والثاني: أن يتعلَّق بالردِّ، ويكون المشار إليه بذلك على هذا النِّكاح، قاله أبو البقاء.
والضمير في «بُعُولَتِهِنَّ» عائدٌ على بعض المطلَّقات، وهنَّ الرَّجعيَّات خاصَّةً، وقال أبو حيَّان: «والاولَى عندي: أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ دَلَّ عليه الحكم، أي: وبُعُولَةُ رَجْعِيَّاتِهِنَّ».
122
ومعنى الردّ هنا: الرُّجوع؛ قال - تعالى -: ﴿وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي﴾ [الكهف: ٣٦]، وقال في موضع آخر: ﴿وَلَئِن رُّجِّعْتُ﴾ [فصلت: ٥٠].
فإن قيل: ما معنى الرَّدّ في الرَّجعيَّة وهي زوجة، ما دامت في العِدَّة؟
فالجواب: أنّ الردّ والرَّجعة يتضمَّن إبطال التَّربُّص والتَّحرِّي في العدَّة، فإنَّها ما دامت في العدَّة، كأنَّها جارية إلى إبْطال حقِّ الزَّوج، وبالرَّجعة بطل ذلك فسمِّيت الرَّجعة ردّاً، لا سيَّما ومذهب الشَّافعيِّ أنه يحرم الاستمتاع بها إلاّ بعد الرَّجعة، فالردُّ على مذهبه فيه معنيان:
أحدهما: ردّها من التَّربُّص إلى خلافه.
والثاني: ردُّها من الحرمة إلى الحلِّ.
قوله: ﴿إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً﴾ فالمعنى: أن الأزواج أحقُّ بالمراجعة، إن أرادوا الإصلاح ولم يريدا المضارَّة؛ ونظيره قوله - تعالى -: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ٢٣١].
والسَّبب في ذلك: أنَّ الرَّجل كان في الجاهليَّة يطلِّق امرأته، فإذا قرب انقضاء عدَّتها، راجعها ثم تركها مدَّة ثمَّ طلَّقها، فإذا قرب انقضاء عدَّتها، راجعها ثمَّ طلَّقها ثم بَعْدَ مدَّة طلقها يقصد بذلك تطويل عدَّتها، فنهوا عن ذلك، وجعل إرادة الإصلاح شرطاً في المراجعة.
فإن قيل: الشَّرط يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه، فيلزم إذا لم توجد إرادة الإصلاح ألاّ تصحّ الرَّجعة؟
فالجواب: أنّ الإرادة صفةٌ باطنةٌ لا اطِّلاع لنا عليها، والشَّرع لم يوقف صحَّة المراجعة عليها؛ بل جوازها فيما بينه وبين الله - تعالى - موقوف على هذه الإرادة، فإن راجعها لقصد المضارَّة، استحقَّ الإثم.

فصل


نقل القرطبي عن مالك، قال: إذا وطئ المعتدَّة الرَّجعيَّة في عدَّتها، وهو يريد الرَّجعة وجهل أن يُشهد، فهي رجعةٌ، وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -:
«إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى» فإن وطئَ
123
في العدَّة، لا ينوي به الرَّجعة؛ فقال مالكٌ: يراحع في العدَّة، ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد.
قال سعيد بن المسيَّب، والحسن البصري، وابن سيرين، والزُّهري، وعطاء، والثَّوري: إذا جامعها فقد راجعها.

فصل


من قبّل أو باشر ولم ينو بذلك الرَّجعة، كان آثماً وليس بمراجعٍ. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن وطئها، أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوةٍ، فهي رجعة، وينبغي أن يُشهد وهو قول الثَّوريّ.

فصل


قال أحمد: ولها التَّزيُّن لزوجها، والتَّشرُّف، وله الخلوة والسَّفر بها.
وقال مالك: لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلاَّ بالإذن، ولا ينظر إليها إلاَّ وعليها ثيابها، ولا ينظر إلى شعرها.
وقال ابن القاسم: رجع مالك عن ذلك.
قوله: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ﴾ خبرٌ مقدَّمٌ، فهو متعلِّق بمحذوف، وعلى مذهب الأخفشِ من باب الفعل والفاعل، وهذا من بديع الكلام، وذلك أنه قد حذف من أوَّله شيءٌ ثم أثبت في آخره نظيره، وحذف من آخره شيءٌ أثبت نظيره في الأول، وأصل التركيب: «وَلَهُنَّ على أزواجِهِنَّ مِثْلَ الذي لأَزْوَاجِهِنَّ عَلَيْهِنَّ»، فحذف «عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ» لإثباتِ نظيره، وهو «عَلَيْهِنَّ»، وحذفت «لأَزْوَاجِهِنَّ» لإثبات نظيره، وهو «لَهُنَّ».
قوله: ﴿بالمعروف﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق بما تعلَّق به «لَهُنَّ» من الاستقرار، أي: استقرَّ لهُنَّ بالمعروف.
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «مِثْل» ؛ لأنَّ «مِثْل» لا يتعرَّفُ بالإضافة؛ فعلى الأوَّل: هو في محلِّ نصبٍ؛ وعلى الثاني: هو في محلِّ رفعٍ.
قوله: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّ «لِلرِّجَالِ» خبرٌ مقدَّمٌ، و «دَرَجَةٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ، و «عَلَيهِنَّ» فيه وجهان على هذا التقدير: مَّا التعلُّقُ بما تعلَّق به «لِلرِّجَالِ»، وإمَّا التعلقُ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «دَرَجَةٌ» مقدَّماً عليها؛ لأنه كان صفةً في الأصل، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً.
والثاني: أن يكون «عَلَيْهِنَّ» هو الخبر، و «للرجال» حال من «دَرَجَةٌ» ؛ لأنه يجوز
124
أن يكون صفةٌ لها في الأصل، ولكنَّ هذا ضعيفٌ؛ من حيث إنه يلزم تقديم الحال على عاملها المعنويِّ؛ لأ، َّ «عَلَيْهِنَّ» حينئذٍ هو العالم فيها؛ لوقوعه خبراً. على أنَّ بعضهم قال: متى كانت الحال نفسها ظرفاً أو جارّاً ومجروراً، قوي تقديمها على عاملها المعنويِّ، وهذا من ذاك، هذا معنى قول أبي البقاء. وردَّه أبو حيان بأنَّ هذه الحال قد تقدَّمت على جزأي الجملة، فهي نظير: «قَائِماً في الدَّارِ زَيْدٌ»، قال: وهذا ممنوعٌ، لا ضَعِيفٌ؛ كما زعم بعضهم، وجعل محلَّ الخلاف فيما إذا لم تتقدَّم الحالُ - العامل فيها المعنى - على جزأي الجملة، بل تتوسَّط؛ نحو: «زَيْدٌ قَائِماً في الدَّارِ»، قال: «فأبو الحسن يُجيزُهَا، وغيره يمنعها».
و «الرَّجُلُ» مأخوذ من الرُّجلة، أي: القوَّة، وهو أرجل الرَّجلين، أي: أقواهما وفرس رَجِيلٌ: قويٌّ على المَشي، والرَّجل معروفٌ لقوَّته على المشي، وارتجل الكلام، أي: قوي عليه من غير حاجةٍ فيه إلى فكرةٍ ورويَّة، وترجَّل النَّهار: قوي ضياؤه.
و «الدَّرَجَة» هي المنزلة، وأصلها: من درجتُ الشَّيء أدْرُجُه دَرْجاً، وأدْرَجْتُه إدْرَاجاً إذا طويته، ودَرَجَ القومُ قَرْناً بعد قرن، أي: فنوا، ومعناه: أنَّهم طووا عمرهم شيئاً فشيئاً، والمدْرَجة: قَارِعَةُ الطَّريق؛ لأنَّها تطوي منزلاً بعد منزل، والدَّرجة: المنزلة من منازل الجنَّة، ومنه الدَّرجة التي يرتقي فيها، والدَّرجُ: ما يرتقي عليها، والدَّرك ما يهوى فيها.

فصل


لما بيَّن أن المقصود من المراجعة إصلاح حالها، لا إيصال الضَّرر إليها، بيَّن أن لكلِّ واحدٍ من الزَّوجين حقّاً على الآخر.
روي عن ابن عبَّاس، قال: إني لأَتَزَيَّن لامْرَأَتِي كما تَتَزَيَّن لي؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف﴾.
وقال بعضهم: يجب أن يقوم بحقِّها ومصالحها، ويجب عليها الانقياد والطَّاعة له.
وقيل: لهنَّ على الزَّوج إرادةُ الإصلاح عند المراجعة، وعليهنّ ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن، وهذا أوفق لصدر الآية.
وأما درجة الرجل على المرأة فيحتمل وجهين:
الأول: أن الرَّجل أزيدُ في الفضيلة من النِّساء لأمور: في كمال العقل، وفي الدِّية،
125
وفي الميراث، وفي القيمة، وفي صلاحية الإمامة، والقضاء، والشَّهادة، وللزَّوج أن
126
يتزوَّج عليها ويتسرَّى، وليس لها ذلك مع الزَّوج، والزوج قادر على طلاقها وعلى رجعتها شاءت أو أبت، وليس لها ذلك.
الوجه الثاني: أن الزَّوج اختصَّ بأنواعٍ من الحقوق وهي التزام المهر والنَّفقة والذَّبُّ عنها، والقيام بمصالحها، ومنعها من مواقع الآفات، فكان قيام المرأة بخمة الرَّجل آكد وجوباً لهذه الحقوق الزَّائدة؛ كما قال - تعالى -: ﴿الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: ٣٤]، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «لَوْ أَمَرْتُ أَحْداً بالسُّجُودِ لِغَيْرِ الله، لأَمَرْتُ المَرْأَةَ بالسُّجُودِ لِزَوْجِهَا» وإذا كان كذلك، فالمرأة كالأسير العاجز في يد الرَّجُلِ، ولهذا قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُم عَوَانٌ»، وفي خبرٍ آخر: «اتَّقُوا الله في الضَّعِيفَيْن: اليتيمِ والمَرْأَةِ».
ثم قال: ﴿والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ﴾ أي: غالبٌ لا يمنع، مصيبٌ في أحكامه.
127
قوله: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾ : مبتدأٌ وخبرٌ، و «الطلاق» يجوز أن يكون مصدر «طَلَقَتِ المَرْأَةُ طَلاَقاً»، وأن يكون اسم مصدر، وهو التطليقُ؛ كالسَّلام بمعنى التَّسليم، ولا بد من حذف مضافٍ قبل المبتدأ؛ ليكون المبتدأُ عين الخبر، والتقدير: عددُ الطَّلاق المشروع فيه الرَّجعة مرَّتان.
والتثنية في «مَرَّتَانِ» حقيقةٌ يراد بها شفعُ الواحد، وقال الزمخشريُّ: «إنها من باب التثنية الَّتي يراد بها التكرير» وجعلَهَا مثْلَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَهَذَا ذَيْكَ. وردَّ عليه أبو حيَّان بأنَّ ذلك مناقضٌ في الظاهر لما قاله أولاً، وبأنه مخالفٌ للحكم في نفس الأمر، أمَّا المناقضة، فإنه قال: الطَّلاق مَرَّتَان، أي: الطلاقُ الشرعيُّ تطليقةٌ بعد تطليقةٍ على التفريق دون الإرسال دفعةً واحدةً، فقوله هذا ظاهرٌ في التثنية الحقيقيّة، وأمَّا المخالفة، فلأنه لا يراد أن الطلاق المشروع بقع ثلاثَ مراتٍ فأكثر، بل مرتين فقط؛ ويدلُّ عليه قوله بعد ذلك: ﴿فَإِمْسَاكٌ﴾، أي: بالرَّجْعَةِ من الطَّلْقَةِ الثانية، ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ﴾ أي: بالطلقة الثالثة؛ ولذلك جاء بعده «فَإِنْ طَلَّقَهَا». انتهى ما ردَّ به عليه، قال شهاب الدين: والزَّمخشريُّ إنما قال ذلك لأجل معنًى ذكره، فينظر كلامه في «الكَشَّاف» ؛ فإنه صحيحٌ.
والألف واللام في «الطَّلاَق» قيل: هي للعهد المدلول عليه بقوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] وقيل: هي للاستغراق، وهذا على قولنا: إن هذه الجملة متقطعةٌ ممَّا قبلها، ولا تعلُّق لها بها.
قوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ﴾ في الفاء وجهان:
أحدهما: أنها للتعقيب، أي: بعد أن عرَّف حكم الطلاق الشرعيِّ؛ أنه مرَّتان، فيترتَّب عليه أحد هذين الشيئين.
والثاني: أن تكون جواب شرطٍ مقدَّرٍ، تقديره: فإن أوقع الطَّلقتين، وردَّ الزَّوجة فإمساكٌ.
وارتفاعُ «إِمْسَاكٌ» على أحد ثلاثة أوجهٍ: إمَّا مبتدأ وخبره محذوفٌ متقدِّماً، تقديره عند بعضهم: فَعَلَيْكُمْ إِمْسَاكٌ، وقَدَّرهُ ابن عطية متأخِّراً، تقديره: فإِمْسَاكٌ أَمْثَلُ أَوْ أَحْسَنُ.
والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: فالواجب إمساكٌ.
128
والثالث: أن يكون فاعل فعلٍ محذوفٍ، أي: فليكن إمساك بمعروفٍ
قوله: «بِمَعْرُوفٍ» و «بِإِحْسَانٍ» في هذه الباء قولان:
أحدهما: أنها متعلِّقة بنفس المصدر الذي يليه، ويكون معناها الإلصاق.
والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفة لما قبلها، فتكون في محلِّ رفعٍ، أي: فإسماك كائنٌ بمعروفٍ، أو تسريح كائنٌ بإحسان.
قالوا: ويجوز في العربيَّة نصب «فَإِمْسَاكٌ»، و «تَسْرِيحٌ» على المصدر، أي: فأمسكوهنَّ إمساكاً بمعروف، أو سرِّحُوهُنَّ تسريحاً بإحسان، إلاَّ أنَّه لم يقرأ به أحدٌ.
والتَّسريح: الإرسال والإطلاق، ومنه قيل للماشية: سَرْحٌ، وناقَةٌ سُرُحٌ، أي: سهلة السَّير؛ لاسترسالها فيه.
وتسريح الشَّعر: تخليص بعضه من بعض، والإمساك خلاف الإطلاق، والمساك والمسكة اسمان منه؛ يقال: إِنَّه لذو مُسكةٍ ومساكة إذا كان بخيلاً.
قال الفرَّاء: يقال: إنه ليس بمساك غلمانه، وفيه مساكة من جبر، أي: قُوَّة.
قال القرطبي: وصريح الطَّلاق ثلاثة ألفاظٍ ورد القرآن بها: وهي الطَّلاق والسَّراح والفِراق، وهو قول الشَّافعي.
129

فصل


روى عُروة بن الزُّبير، قال: كان النَّاسُ في الابتداء يُطلِّقون من غير حصرٍ ولا عددٍ، وكان الرَّجُل يُطلق امرأَته، فإذا قاربت انقضاء عدَّتها، راجعها ثم طلَّقها كذلك، ثم راجعها يقصد مضارَّتها، فنزلت هذه الآية: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾.
ورُوِي: أن الرَّجُل كان في الجاهليَّة يُطَلِّق امرأَتهُ، ثم يُراجعها قبل أن تنقضي عِدَّتها، ولو طَلَّقها ألف مَرَّة، كانت القُدرة على المُراجعة ثابتةٌ، فجاءت امرأةٌ إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -، فشكت أَنَّ زَوْجهها يُطَلِّقُها ويُراجِعها، يُضارّها بذلك، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنزل قوله تعالى: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾ يعني: الطلاق الَّذِي يملك الرَّجعة عقيبهُ مرتان، فإذا طَلَّق ثَلاَثاً، فلا تحلُّ له إلاَّ بعد نكاح زوجٍ آخر.

فصل


اختلف المُفَسِّرون في هذه الآية:
فقال بعضهم: هذا حُكم مُبتدأ، ومعناه: أن التَّطليق الشَّرعيّ يجب ن يكون تطليقةً بعد أُخرى، على التَّفريق دون الجمع والإِرسال دفعةً واحدة، وهذا قول من قال: الجمع بين الثَّلاث حرامٌ.
قال أبو زيد الدَّبوسيّ: هذا قول عمر وعثمان وعبد الله بن عبَّاس، وعبد الله بن عمر، وعمران بن حصين، وأبي موسى الأشعري وأَبي الدَّرداء، وحذيفة.
وقال آخرون: ليس بابتداء كلام، وإنَّما هو متعلِّق بما قبله والمعنى: أن الطَّلاقَ الرَّجعيَّ مَرَّتان، ولا رجعة بعد الثَّلاث، وهو وقل من جوَّز الجمع بين الثَّلاث، وهو مذهب الشَّافعي.
حُجَّة القول الأَوَّل: أن الأَلف واللام في «الطَّلاَقِ» إذا لم يكونا للمعهود، أفادا
130
الاستغراق، فصار تقدير الآية: كُلُّ الطَّلاق مرَّتان ومَرَّة ثالثة، ولو قال هكذا، لأفاد أن الطَّلاق المشروع مُتَفَرِّق؛ لأن المرَّات لا تكُون إلاَّ بعد تفريق الاجتماع.
فإن قيل: هذه الآية وردت لبيان الطَّلاق المَسْنُون.
فالجواب: ليس في الآية بيان صفة السُّنَّة، بل مُفسَّرة لأَصل الطَّلاق، وهذا الكلام - وإن كان لفظه الخبر - إلاَّ أن معناهُ الأمر، أي: طَلِّقُوا مَرَّتَين، يعني: دَفْعتين، وإنما عدل عن لفظ الخبر؛ لما تَقَدَّم من أن التَّعبير عن الأَمر بلفظ الخبر يُفيد تأكيد معنى الأَمر، فثبت أن هذه الآية دالَّة على الأَمر بتفريق الطَّلقاتِ، وعلى التَّشديد في ذلك الأَمر والمُبالغة فيه. واختلف القائِلُون بهذا على قولين:
الأول - وهو اختيار كثيرٍ من علماء أهل البيت -: أنَّه لو طَلَّقها اثنتين أو ثلاثاً، لا يقع إلاَّ واحدة.
قال ابن الخطيب: وهذا القولُ هو الأَقيس، لأن النَّهْيَ يدلُّ على اشتمالِ المنهيِّ عنه على مفسدة راجحة، والقول بالوقوع سعيٌ في غدخال تلك المفسدة في الوجود، وهو غير جائزٍ، فوجب أن يكون الحُكم بعدم الوقوع.
والثاني: قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إن الجمع - وإن كان مُحرَّماً - إلا أَنَّه يقعُ، وهذا منه بناءً على أَنَّ النَّهيَ لا يَدُلُّ على الفَسَادِ.
حجَّة القول الثَّاني: هو أنَّ الآية مُتعلِّقَة بما قبلها؛ لأنه - تعالى - بيَّن في الآية الأُولى أن حقَّ المُراجعة ثابتٌ للزَّوج، ولم يُبيِّن أنَّ ذلك الحَقَّ ثابِتٌ دائماً، أو إلى غاية
131
مُعيَّنة، فكان كالمجمل المُفتقر إلى المُبيِّن، أو العامِّ المفتقرِ إلى المُخصص، فبيَّن في هذه الآيةِ أن ذلك الطَّلاق الَّذِي ثبت فيه للزَّوج حَقّ الرَّجْعَة، هو أن يُوجد طلقتانِ، فأمّا بعد الطَّلْقَتين، فلا يثبِتُ أَلْبَتَّةَ حق الرَّجعة فالألف واللام في «الطَّلاقِ» المعهُود السَّابق، فهذا تفسيرٌ مطابِقٌ لنظم الآية، فيكُون أولى لوجوهٍ:
الأول: أن قوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] إن كان عَامّاً في كُلِّ الأَحوال؛ فهو مُفْتَقِرٌ إلى المُخَصّص، وإن لم يكُن عامّاً فهو مُجملٌ؛ لأنه ليس فيه بيان الشَّرط الَّذِي عنده يثبت حقُّ الرَّجعة، فافتقر إلى البيان، فإذا جعلنا الآية مُتَعَلِّقة بما قبلها، كان المُخَصص حاصلاً مع العامِّ المخصوص، أو كان البيانُ حاصِلاً مع المُجْمَلِ، وذلك أَولى من ألاَّ يكون كذلك؛ لأن تأخير البيان عن وقت الخِطابِ - وإذا كان جَائِزاً -، إلا أن الأَرجح ألاَّ يَتَأَخَّر.
الثاني: أنَّا إذا جعلنا هذا الكلام مُبتدأ، كان قوله: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾ يقتضي ذكر الطَّلقة الثَّانية، وهي قوله: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ فصار تقدير الآية: الطَّلاق مَرَّتان ومَرَّة؛ لأنا نقول: إن قوله: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ متعلِّق بقوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ لا بقوله: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾، ولأن لفظ التَّسريح بالإِحسانِ لا إِشعار فيه بالطَّلاق، ولأنَّا لو جعلنا التَّسريح هو الطَّلقة الثَّالثة، لكان قوله: «فَإِنْ طَلَّقَهَا» طلقة رابعة، وهو غير جائِزٍ.
الثالث: ما روينا في سبب النُّزول: من شكوى المرأة إلى عائشة كثرة تطليقها ومراجعتها قصداً للمضارَّة، وقد أَجْمَعُوا على أَنَّ سبب النُّزول لا يجوز أن يكون خارجاً عن عُمُوم الآيةِ، فكان تنزيل الآيةِ على هذا المعنى، أولى من تنزيلها على حُكْمٍ أَجنبيٍّ عنها.

فصل


اعلم أن معنى الآية: أن الطَّلاق التي يَثْبُت فيه الرَّجعة هو أَنْ يوجد مرَّتان، ثم
132
الواجب بعد ذلك: إمَّا إمساكٌ بمعروفٍ، وهو أن يُراجعها لا على قصد المضارَّة، بل على قصدِ الإصلاح، وإما تسريحٌ بإِحسانٍ، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يُوقِعَ عليها الطَّلقة الثَّالثة، روي أَنَّه لمَّا نَزلَ قوله تعالى: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾، قيل له - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: فأَين الثَّالثة؟ قال عليه الصَّلاة والسَّلام -: «هُو قَوْلُه تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ».
133
الثاني: أن التَّسريح بالإحسان: أن يَتْرُكَ مُراجَعَتها حتى تَبين بانقضاءِ العِدَّة، وهو مَروِيٌّ عن الضَّحَّاك والسُّدِّيّ.
قال ابن الخطيب: وهو أَقْرَبُ لوجوه:
أحدها: أن «الفَاء» في قوله: «فَإِنْ طَلَّقَها» تَقْتَضِي وقوع هذه الطَّلقة مُتَأَخِّرة عن ذلك التَّسريح، فلو كان المُرادُ بالتَّسريح هو الطَّلقَة الثَّالثة، لكان قوله: فإن طَلَّقها طَلْقَةً رَابِعَة؛ وهو لا يجُوزُ.
وثانيها: أنَّا إذا حَمَلْنَا التَّسريح على تَرْكِ المُراجعة، كانت الآيةُ مُتَنَاولة لجميع الأَحوالِ؛ لأَنَّه بعد الطَّلْقَة الثَّانية إمَّا أن يُراجعها وهو المراد بقوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ أو لا يُراجعها، بل يتركها حتى تنقضي عِدَّتُها وتبين، وهو المرادُ بقوله: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أو يُطَلِّقها وهو المراد بقوله «فَإِنْ طَلَّقَها»، فكانت الآيَةُ مُشْتَمِلَةً على بَيَانِ كُلِّ الأقسام، وإذا جعلنا التَّسريح بالإِحسان طَلاَقاً آخر لزم تركُ أحد الأقسامِ الثَّلاثة، ولزِم التكرير في ذكر الطَّلاقِ، وهو غيرُ جَائِزٍ.
وثالثها: أنَّ ظاهر التَّسرِيح هو الإرسالُ والإِهمالُ، فحمله على تركِ المُراجعة أَوْلَى من حملِهِ على التَّطليق.
ورابعها: أنَّه قال بعد ذلك التَّسريح: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً﴾ والمُراد به الخُلع، ومعلومٌ أنه لا يصحُّ الخلعُ بعد التَّطليقة الثَّالثة، فهذه الوجوه ظاهرة، لو لم يثبت الخبر الَّذِي رويناه، فإن صحَّ ذلك الخبر، فلا مزيد عليه.

فصل في الحكمة في الرَّجعة


والحِكْمة في إثبات حقِّ الرَّجعة: أن الإِنسان إذا كان مع صاحبه، لا يدري هل تَشُقُّ عليه مُفارقتُه أَمْ لا؟ فإذا فارقهُ بعد ذلك يظهر، فلو جَعَلَ الله الطَّلقة الواحدة مانِعةٌ من الرُّجوع، لعظمت المَشَقَّة على الإِنسان بتقدير أَنْ تظهر المَحَبَّة بعد المُفارقة مَرَّتين، وعند ذلك تحصل التَّجربة، فإن كان الأَصلحُ الإِمْسَاكَ، راجعها وأَمسكها بالمعروفِ، وإن كان الأَصلح التَّسريح، سرَّحها بإِحسان.

فصل


واختلف العُلَمَاءُ إذا كان أَحد الزَّوْجَينِ رقيقاً:
134
فذهب أكثرهم إلى أَنَّه يُعتبر عدد الطَّلاق بالزَّوج؛ فالحُرُّ يملك على زوجته الأَمة ثلاث تطليقاتٍ، والعبد لا يملك على زوجته الحُرَّة ِلاَّ طَلْقَتَيْن.
قال عبد الله بن مسعود: الطَّلاق بالرِّجال والعِدَّة بالنِّساءِ، يعني: يُعْتَبر في الطَّلاق حالُ الرَّجالِ، وفي قدر العِدَّة حالُ المرأة، وهو قول عُثمان، وزيد بن ثابت، وابن عبَّاس، وبه قال عطاء وسعيد بن المُسَيَّب، وإليه ذهب مالِكٌ، والشَّافِعِي، وأَحمد، وإسحاق.
وذهب قَوْمٌ إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطَّلاق، فيملُكِ العَبْدُ على زوجته الحُرَّة ثلاث طلقاتٍ، ولا يَمْلِكُ الحُرَّ على زوجته الأَمة إلاَّ طلْقَتَين، وهو قول سُفْيان الثَّوريّ وأصحاب الرَّأي.

فصل


إذا طلَّقها ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ، لزِمه الطَّلاَق بالإِجماع.
وقال عليّ بن أبي طالبٍ، وابن مسعود: يلزمه طلقةٌ واحِدةٌ.
وقال ابن عبَّاس: وقوله: ثلاثاً لا معنى له؛ لأَنَّه لم يُطلِّق ثلاث مرَّات وإنَّما يجوز قوله: في ثَلاَث إذا كان مُخبراً عمّا مضى، فيقول: طلَّقت ثلاثاً، فيكون مُخبراً عن ثلاثة أفعالٍ كانت منهُ في ثلاثة أوقاتٍ؛ فهو كقول الرَّجُل: قرأت سُورَة كذا ثلاث؛ فإن كان قرأها ثلاث مرَّاتٍ، كان صادِقاً، وإن كان قرأها مرَّة واحِدَةً، كان كاذِباً، وكذا لو قال: أحْلِفُ بالله ثَلاَثاً يردد الحَلْف كانت ثَلاَثة أيمانٍ، ولو قال: أَحْلِف بالله ثلاَثاً، لم يَكُن حلف إلا يميناً واحدة والطَّلاق مِثْله.
وقاله الزُّبير بن العوَّام، وعبد الرَّحمن بن عوف، قاله القرطبي. قوله: «أَنْ تَأْخُذُوا» :«أَنْ» وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ على أنه فاعل «يَحِلُّ»، أي: ولا يَحِلُّ لكُم أَخْذُ شَيءٍ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ. و «مِمَّا» فيه وجهان «. أحدهما: أن يتعلَّقَ بنفسِ» تَأْخُذُوا «، و» مِنْ «على هذا لابتداءِ الغاية. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من» شَيْئاً «قُدِّمت عليه؛ لأنها لو تأَخَّرَتْ عنه لكانَتْ وصفاً، و» مِنْ «على هذا للتبعيض، و» مَا «موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ، تقديره: مِنَ الذي آتيتموهنَّ إِيَّاهُ، وقد تقدَّم الإِشكالُ والجوابُ في حذفِ العائدِ المنصوب المنفصلِ عند قوله تعالى: ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣] وهذا مثلُه، فَلْيُلْتَفَتْ إليه. و» آتَى «يتعدَّى لاثنين، أولهُما» هُنَّ «والثاني هو العائدُ المحذوفُ، و» شَيْئاً «
135
مفعولٌ به ناصبُه» تَأْخُذُوا «. ويجوزُ أن يكونَ مصدراً، أي: شيئاً مِنَ الأَخْذِ. والوجهانِ منقولانِ في قوله: ﴿لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً﴾ [يس: ٥٤]. قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَآ﴾ هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ، وفي» أَنْ يَخَافَا «وجهان: أحدهما: أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعولٌ من أجلِهِ، فيكونُ مستثنىً من ذلك العامِّ المحذوفِ، والتقديرُ: وَلاَ يَحِلُّ لكُمْ أن تَأْخُذُوا بِسَبَب من الأسباب، إلا بسببِ خوفِ عدم إقامة حُدُودِ الله، وحُذِفَ حرفُ العلةِ؛ لاستكمالِ شروط النصب، لا سيما مع» أَنْ «ولا يجيءُ هنا خلافُ الخليلِ وسيبويه: أهيَ في موضع نصبٍ، أو جرٍّ بعد حَذْفِ اللامِ، بل هي في محلِّ نصبٍ فقط، لأنَّ هذا المصدرَ لو صُرِّحَ به، لنُصِبَ، وهذا قد نصَّ عليه النحويُّون، أعنِي كونَ» أَنْ «وما بعدها في محلِّ نصبٍ، بلا خلافٍ، إذا وقعَتْ موقعَ المفعولِ له. والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ، فيكونُ مستثنى من العامِ أيضاً، تقديره: ولاَ يَحِلُّ لكُمْ في كلِّ حالٍ من الأحوالِ إلاَّ في حالِ خوفِ أَلاَّ يقيما حدودَ اللهِ، قال أبو البقاء: والتقديرُ: إلاَّ خائفينَ، وفيه حَذْفُ مضافٍ، تقديره: وَلاَ يَحِلُّ لكُمْ أَنْ تأخُذُوا على كلِّ حال، أو في كلِّ حال إلا في حالِ الخوفِ، والوجهُ الأولُ أحسنُ، وذلك أَنَّ» أَنْ «وما في حَيِّزها مُؤَوَّلةٌ بمصدرٍ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقعَ اسم الفاعلِ المنصُوبِ على الحَال، والمصدرُ لا يطَّرِدُ وقوعُه حالاً، فكيف بما هو في تأْويله!! وأيضاً فقد نَصَّ سيبويه على أنَّ» أَنِ «المصدرية لا تقَعُ موقعَ الحالِ.
والألفُ في قوله «يَخَافَا»
و «يُقِيمَا» عائدةٌ على صنفَي الزوجين، وهذا الكلامُ فيه التفاتٌ، إذ لو جَرَى على نَسَقِ الكلام، لقيل: «إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا أَلاَّ تُقِيمُوا» بِتَاءِ الخِطَابِ لِلْجَمَاعَةِ، وقد قَرأَها كذلك عبد الله، ورُوِي عنه أيضاً بياءِ الغَيْبَة، وهو التفاتٌ أيضاً. والقراءةُ في «يَخَافَا» بفتحِ الياءِ واضحةٌ، وقرأها حمزة وأبو جعفر ويعقوب بضمِّها على البناء للمفعول، وقَد استشكلها جماعةٌ، وطعن فيها آخرون لعدم معرفتهم بلسان العرب، وقد ذكروا فيها توجيهاتٍ كثيرةً، أحسنُها أَنْ يكونَ «أَنْ يُقِيمَا» بدلاً من الضمير في «يَخَافَا» ؛ لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه، تقديره: إِلاَّ أَنْ يُخَافَ عَدَمُ إقامَتِهما حُدُودَ اللهِ،
136
وهذا من بدل الاشتمال؛ كقولك: «الزَّيْدَانِ أَعْجَبَانِي عِلْمُهُمَا»، وكان الأصلُ: «إِلا أن يخافَ الوُلاَةُ الزوجَيْنِ أَلاَّ يقيمَا حُدُودَ اللهِ»، فَحُذِفَ الفاعلُ الذي هو «الوُلاَةُ» ؛ للدلالة عليه، وقامَ ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ، وبقيتْ «أَنْ» وما بعدها في محلِّ رفعٍ بَدَلاً؛ كما تقدَّم تقديرُه. وقد خرَّجه ابن عطيَّة على أنَّ «خَافَ» يتعدَّى إلى مفعولين ك «اسْتَغْفَرَ»، يعنيك إلى أحدِهما بنفسِه، وإلى الآخرِ بحرفِ الجَرِّ، وجَعَلَ الألِفَ هي المفعولَ الأولَ قامَتْ مقامَ الفاعلِ، و «أَنْ» وما في حَيِّزها هي الثاني، وجَعَل «أَنْ» في محلِّ جرٍّ عند سيبويه والكِسائيِّ، وقد رَدَّ عليه أبو حيان هذا التخريجَ؛ بأنَّ «خَافَ» لا يتعدَّى لاثنين، ولم يَعُدَّهُ النحويون حين عَدُّوا ما يَتَعَدَّى لاثنين؛ ولأنَّ المنصوبَ الثاني بعده في قولك: «خِفْتُ زَيْداً ضَرْبَهُ»، إنما هو بدلٌ لا مفعولٌ به، فليس هو كالثاني في «اسْتَغْفَرْتُ اللهَ ذَنْباً»، وبأن نسبة كَوْنِ «أَنْ» في محلِّ جر عند سيبويه ليس بصحيحٍ، بل مذهبُه أنها في محلِّ نصبٍ، وتبعه الفراء، ومذهبُ الخليل: أنها في محلِّ جَرٍّ، وتبعه الكسائيُّ، وهذا قد تقدَّم غيرَ مرةٍ. وقال غيره كقوله؛ إلاَّ أنَّه قدَّر حرفَ الجرِّ «عَلَى»، والتقدير: إلاَّ أنْ يَخَافَ الوُلاَةُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى أَلاَّ يُقِيمَا، فَبُنِيَ للمفعولِ، فقام ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ، وحُذِفَ حرفُ الجر مِنْ «أَنْ» فجاء فيه الخلافُ المتقدِّمُ بين سيبويه والخليل. وهذا الذي قاله ابنُ عطيةَ سَبَقَه إليه أبو عليٍّ، إلاَّ أنه لم يُنَظِّرْهُ ب «اسْتَغْفَرَ». وقد استشكل هذه القراءةَ قومٌ وطعَنَ عليها آخَرُونَ، لا عِلمَ لهم بذلك، فقال النحَّاسُ: لا أعْلَمُ في اختيارِ حمزة أبعدَ من هذا الحَرْفِ؛ لأنه لا يُوجِبُهُ الإِعرابُ، ولا اللفظُ، ولا المعنى. أمَّا الإِعرابُ: فلأنَّ ابنَ مسعود قرأ «إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا أَلاَّ يُقِيمُوا»، فهذا إذا رُدَّ في العربيةِ لما لم يُسَمَّ فاعلُه، كان ينبغي أَنْ يُقال: «إِلاَّ أَنْ يُخَافَ».
وأمَّا اللفظُ: فإِنْ كان على لفظِ «يُخَافَا»، وَجَبَ أن يقال: فَإِن خِيفَ، وإن كان على لفظ «خِفْتُمْ»، وَجَب أن يقال: إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا. وأمَّا المعنى: فَأَسْتَبْعِدُ أن يُقَالَ: «وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافَ غَيْرُكُمْ»، ولم يَقُلْ تعالى: «ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا لَهُ منْهَا فدْيَةً»، فيكون الخُلْعُ إلى السلطان، والفَرْضُ أَنَّ الخُلْعَ لا يحتاجُ إلى السلطانِ. وقد رَدَّ الناسُ على النحَّاس:
137
أمَّا ما ذكره من حيث الإِعرابُ: فلا يَلْزَمُ حمزةَ ما قرأ به عبد الله. وأمَّا مِنْ حيثُ اللفظُ، فإنه من باب الالتفاتِ؛ كما قَدَّمْتُه أولاً، ويَلْزَمُ النَّحَّاسَ أنه كان ينبغي على قراءةِ غيرِ حمزةَ أن يقرأَ: «فَإِنْ خَافَا»، وإِنَّما هو في القراءتَين من الالتفاتِ المستحْسَنِ في العربيةِ. وأمَّا من حيثُ المعنى: فلأنَّ الولاةَ والحكامَ هُمُ الأصلُ في رَفْعِ التظالُمِ بين الناسوهم الآمرون بالأخْذِ والإِيتاء. ووجَّه الفراء قراءةَ حمزةَ، بأنه اعتبرَ قراءةَ عبدِ الله «إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا». وخَطَّأَهُ الفارسيُّ وقال: «لَمْ يُصِبْ؛ لأنَّ الخوفَ في قراءةِ عبدِ الله واقعٌ على» أَنْ «، وفي قراءة حمزة واقعٌ على الرجُلِ والمَرْأَةِ». وهذا الذي خَطَّأَ به الفراء ليس بشيءٍ؛ لأنَّ معنى قراءةِ عبد الله: إِلاَّ أَنْ تَخَافُوهُمَا، أي: الأولياءُ، الزوجين ألاَّ يُقيمَا، فالخوفُ واقعٌ على «أَنْ» وكذلك هي في قراءةِ حمزة الخوفُ واقعٌ عليها أيضاً بأحدِ الطريقينِ المتقدِّمينِ: إمَّا على كونها بدلاً من ضميرِ الزوجين؛ كما تقدَّم تقريره، وإمَّا على حذف حرف الجرّ، وهو «على». والخوفُ هنا فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه على بابِه من الحَذَرِ والخَشْيَةِ، فتكونُ «أَنْ» في قراءةِ «غير حمزةَ في محلِّ جَرٍّ، أو نصبٍ؛ على حَسَبِ الخلافِ فيها بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ؛ إذ الأصلُ: مِنْ أَلاَّ يُقِيمَا، أو في محلِّ نصبٍ فقط؛ على تعديةِ الفعلِ إليها بنفسِهِ؛ كأنه قيل: إِلاَّ أَنْ يَحْذَرَ عَدَمَ إِقَامَةِ حُذُودِ اللهِ.
والثاني: أنه بمعنى العِلْم، وهو قَوْلُ أبي عُبَيْدَة. وأنشد [الطويل]
١١٠٩ - فَقُلْتُ لَهُمْ خَافُوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ المُسَرَّدِ
ومنه أيضاً: [الطويل]
١١١٠ - وَلاَ تَدْفِنَنِّي فِي الفَلاَةِ فَإِنَّنِي أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لاَ أَذُوقُهَا
ولذلك رُفِعَ الفعلُ بعد»
أَنْ «، وهذا لا يصحُّ في الآيةِ، لظهورِ النَّصْب، وأما البيتُ، فالمشهورُ في روايتِهِ» فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بأَلْفَيْ «.
والثالث: الظَّنّ، قاله الفراء؛ ويؤيِّدُهُ قراءةٌ أُبَيٍّ:»
إِلاَّ أَنْ يَظُنَّا «؛ وأنشد: [الطويل]
138
١١١١ - أَتَانِي كَلاَمٌ مِنْ نُصَيْبٍ يَقُولُهُ وَمَا خِفْتُ يَا سَلاَّمُ أَنَّكَ عَائِبِي
وعلى هذين الوجهين، فتكونُ «أَنْ» وما في حَيِّزها سَادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْن عند سيبويه ومَسَدَّ الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش؛ كما تقدَّم مراراً والأولُ هو الصحيحُ وذلك أَنَّ «خَافَ» مِنْ أفعالِ التوقُّع، وقد يميل فيه الظنُّ إلى أحدِ الجائِزَين، ولذلك قال الراغب: «الخَوْفُ يُقال لِمَا فيه رجاءٌ مَّا؛ ولذلك لا يُقال: خِفْتُ أَلاَّ أَقْدِرَ على طلوعِ السماءِ، أو نَسْفِ الجبالِ».
وأصلُ «يُقيمَا» : يُقْوِمَا، فَنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ إلى الساكن قبلَها، ثم قُلِبَتِ الواوُ ياءً؛ لسكونها؛ بعد كسرةٍ، وقد تقدَّم تقريرُه في قوله: ﴿الصراط المستقيم﴾ [الفاتحة: ٥].
وزعم بعضهم أنَّ قوله: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ﴾ معترضٌ بين قوله: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾، وبين قوله: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ﴾ [البقرة: ٢٣٠]، وفيه بَعْدٌ.
قوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ «لاَ» واسمُها وخبرُها، وقوله: ﴿فِيمَا افتدت بِهِ﴾ متعلِّقٌ بالاستقرارِ الذي تضمَّنَهُ الخبرُ، وهو «عَلَيْهِمَا»، ولا جائزٌ أن يكونَ «عَلَيْهِمَا» متعلِّقاً ب «جُنَاحَ» و «فِيمَا افتدت» الخبرَ؛ لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً، والمُطَوَّلُ مُعْرَبٌ، وهذا - كما رأيتَ - مبنيٌّ.
والضميرُ في «عَلَيْهِمَا» عائدٌ على الزوجَيْن، أي: لا جُنَاحَ على الزوجِ فِيمَا أَخَذَ، ولا على المَرْأَةِ فيما أَعْطَتْ، وقال الفراء: إنَّما يَعُودُ على الزوجِ فقط، وإنما أعادَهُ مُثَنى، والمرادُ واحِدٌ؛ كقوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢] ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ [الكهف: ٦١] ؛ وقوله: [الطويل]
١١١٢ - فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا بْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا
وإنما يخرجُ من المِلْحِ، والنَّاسي «يُوشَعُ» وحدَهُ، والمنادَى واحدٌ في قوله: «يَا بْنَ عَفَّانَ». و «مَا» بمعنى «الذي»، أو نكرةٌ موصوفة، ولا جائزٌ أن تكونَ مصدريةً؛ لعَوْدِ الضميرِ مِنْ «بِهِ» عليها، إلا على رَأْي مَنْ يجعلُ المصدريةَ اسماً؛ كالأخفش وابنِ السَّرَّاج ومَنْ تابَعَهُما.

فصل


اعلم أنه - تعالى - لمَّا أَمر بأن يكون التَّسريح بإحسانٍ بين هنا أنَّ من جُملة
139
الإحسان أَنَّه إذا طلَّقها لا يأخُذُ منها شيئاً، ويدخُل في هذا النَّهي ألا يُضَيِّقَ عليها ليلجئها إلى الافتداءِ؛ كما قال في سورة النساء: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ [النساء: ١٩] وقوله هنا: ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾ هو كقوله: ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾ [النساء: ١٩] وقال أيضاً: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ [النساء: ٢٠ - ٢١].
فإن قيل: قوله: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ﴾ هذا الخِطاب كان للأَزواج، فكيف يطابقه قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾ وإن كان للأَئِمَّة والحُكَّام فهؤلاء لاَ يأخذون منهنّ شيئاً؟
قلنا: الأمران جائزان:
فيجُوز أن يكون أوَّلُ الآيةِ خِطَاباً للأَزْوَاجِ، وآخِرُها خِطاباً للأَئِمَّة والحُكَّامِ، وليس ذلك بغريبٍ من القُرْآن.
ويجوزُ أن يكون الخِطَابُ كُلُّه للأَئِمَّة والحُكَّام؛ لأنهم هُمُ الَّذِين يَأْمُرُون بالأَخْذِ والإِيتَاءِ عند التَّرافُع إليهم فَكَأَنَّهم هم الآخِذُون والمُؤتون، ويَدُلُّ له قراءةُ حمزة المتقدِّمة: «يُخَافَا» بضم الياءِ، أي: يعلم ذلك منهما، يعني: يعلَم القاضي والوالي ذلك من الزَّوجين، ويطابقه قوله: «فَإِنْ خِفْتُمْ» فجعل الخوف لغير الزَّوجين، ولم يقل: «فإن خافا». واعلم أنَّه لما منع الرجُل أن يأخذ من امرأَتِه شيئاً عند الطَّلاَق، استثنى هذه الصُّورة، وهي مسألة الخُلع، واختلفُوا في هذا الاستثناء؛ هل هو مُتَّصِلٌ أو مُنقطع؟
وفائدة الخلاف تظهر في مسألة فقهيَّة؛ وهي أن أكْثَر المجتهدين جوَّز الخُلْع في غيرِ حالة الخوفِ والغَضَبِ.
وقال الزُّهري والنَّخعي وداود: لا يباح الخُلعُ إلاَّ عند الغضب والخوف من ألاَّ يُقِيما حدود الله، فإن وقع الخُلْعُ في غيرِ هذه الحالةِ، الخُلْعُ فاسِدٌ، واحْتَجُّوا بهذه الآيةِ؛ فإنها صريحةٌ في تحريم الأخذ من الزَّوجةِ عند طلاقها، واستثني هذه الصُّورة.
وأما جمهور المجتهدين فقالوا: الخُلعُ جائزٌ في حالة الخوف وغيره؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً﴾ [النساء: ٤] وإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصِّل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذلت، كان الخُلع الَّذِي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى، ويكون الاستثناء منقطعاً؛ كقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً﴾ [
140
النساء: ٩٢]، أي: لكن إن كان خطأً ﴿وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ﴾ [النساء: ٩٢].

فصل


ظاهر الآية يدل على اشتراط حصول الخوف للرَّجل والمرأة، فنقول: الأقسام الممكنة فيه أربعة:
إمَّا أن يكون الخوفُ من قبل المرأة فقط، أو من قبل الزوج فقط، أو لا يحصل الخوفُ من قبل واحدٍ منهما، أو يكون الخوف من قبلهما معاً، فإن حصل الخوفُ من قبل المرأةَ؛ بأن تَكُون المرأَةُ ناشزاً مُبْغِضةً للرَّجُلِ، ففهنا يَحلُّ للزَّوج أخذُ المال منها؛ ويدُلُّ عليه ما رُوي في سبب نُزُول الآية: أن جميلة بنت عبد الله بن أبي أَوفَى تَزَوَّجها ثابت بن قيسٍ بن شماس، وكانت تبعضُهُ أشدَّ البُغض، وهو يحُبُّها أشدَّ الحُبِّ، فأتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وقالت: فَرِّق بيني وبينه فإِنِّي أبغضه، ولقد رفعت طرف الخباء فرأَيْتُه يجيءُ في أقوامٍ، فكان أقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً وأشدَّهم سواداً، وأنا أكره الكُفْر بعد الإِسلام. فقال ثابت: يا رسُول الله، فلترُدَّ عليَّ الحديقة الَّتي أعطيتها؛ فقال لها: «مَا تَقُولِين؟» قالت: نعم وأزيده فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا، حديقته فقط» ثم قال لثابتٍ: «خذ مِنْها ما أَعْطَيْتَها وخلِّ سَبِيلَهَا» ففعل، فكان أَوَّل خُلْعٍ في الإِسلام. وفي «سُنَنِ أَبِي دَاوُد» : أنّ المرأة كانت حفصة بنت سهلٍ الأنصاري.
فإن قيل: قد شرط في هذه الآيةِ خوفهُما معاً، فكيف قُلْتُم: إنَّه يكفِي حُصُولُ الخوف منها فقط.
فالجواب: أنّ هذا الخوف - وإن كان أوّله من جهة المرأة - فقد يترَتَّب عليه الخوفُ الحاصلُ من جهة الزَّوج، فإنها إذا كانت مبغض للزَّوج إذا لم تعطه، فربَّما ضربها وشتمها، وربَّمَا زاد على قدر الواجب، فحصل الخَوْف لهما جميعاً؛ أمّا من جهتها فخوفها على نفسها من عصيان اللهِ، وأمَّا من جهته، فقد يزيد على قدرِ الواجب.
فأما أن يحصل الخوف من قبل الزَّوج فقط؛ بأن يضربها أو يُؤذِيها حتى تلتزم الفِدية، فهذا المال حرامٌ؛ للآية المتقدِّمة.
وأما القِسْم الثالث: ألا يحصل الخوف من أحدٍ منهما، فقد ذكرنا أنَّ أكثر المجتهدين قال بجواز الخلع، والمالُ المأخوذ حلالٌ، وقال قوم إنه حرامٌ.
وأما إن كان الخوفُ حاصلاً منهما، فالمال حرامٌ أيضاً؛ لأن الآياتِ المتقدِّمة تدُلُّ
141
على حُرمة أخذِ ذلك المَالِ، إذا كان السَّبَبُ حاصِلاً من قِبَل الزَّوج، وليس فيه تقييدٌ بأن يكون من جانب المرأة سبب أم لا؛ لأن الله - تعالى - أفرد بهذا القِسْم آية أخرى؛ وهي قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ﴾ [النساء: ٣٥]، ولم يذكر فيه أخذ المال، وهذا التقسيم إنما هو فيما بين المكلَّفين وبين الله - تعالى - فأمَّا في الظَّاهر، فهو جائزٌ.

فصل في قدر ما يجوز الخلع به


اختلفوا في قدر ما يجوز الخلع به:
فقال الشَّعبي والزُّهري والحسن البصري وعطاء وطاوس: لا يجوز أن يأخذ فوق ما أعطاها؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لامرأة ثاتبٍ حين قالت له: نعم، وأزيده، قال: «لا، حديقَتَهُ فَقَط»، وهو قول عليٍّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
قال سعيد بن المُسيَّب: بل دون ما أَعطاها حتّى يكون الفضل.
وأما سائر الفقهاء فإنَّهُم جوَّزوا المخالغة بالأَزيد والأَقَلِّ والمُساوي.

فصل


قال قومٌ: الخُلع تطليقةٌ، وهو قول علي، وعثمان، وابن مسعود، والحسن والشَّعبي، والنَّخعي، وعطاء، وابن السَّائب، وشُريح، ومجاهد، ومكحول، والزُّهري وهو قول أبي حنيفة وسُفيان وأحد قولي الشَّافعي وأحد الرِّوايتين عن أحمد.
والقول الثاني للشَّافعي، وبه قال محمَّد وإسحاق وأبو ثور.
حجَّة القول الأَوَّل: أنه لو كان فسخاً، لما صَحَّ الزِّيادة على المهر المُسَمَّى كالإِقالة في البيع، ولأَنَّه لو كان فَسْخاً فإذا خالعها ولم يذكُر المهر، وجب أن يجب عليها المهر؛ كالإقالةِ في البيع، فإن الثَّمَن يجب رَدُّه وََإِنْ لم يَذْكُرْه. ولما لم يكن كذلك، ثبت أن الخُلْعَ ليس بفسخٍ، وإذا بطل ذلك، ثبت أَنَّهُ طلاقٌ.
حجة القول الثَّاني: قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] ولو كان الخُلْعُ طلاقاً، لكان الطَّلاَق أربعاً، وهذا الاستدلال نقله الخطَّابي في «مَعَالم السُّنَن» عن ابن عبَّاسٍ، وأيضاً أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أذن لثابت بن قيس في مُخالعة امرأته، ولم يستكشف هل هي حائِضٌ أو في طُهْر جامعها فيه، مع أنَّ الطَّلاق في هاتين الحالتين حرامٌ منهيٌّ عنه،
142
يجب أن يستكشف عنه، فلما لم يستكشف بل أمره بالخلع مطلقاً، دلَّ على أن الخُلْع ليس بطلاقٍ.
وأيضاً روى أبو داود في «سُنَنِ» عن عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ: أن امرأة ثابت بن قيس لما اخْتَلَعَت، جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِدَّتها حيضَة.
قال الخطَّابي: وهذا أدلُّ شيء على أن الخُلع فسخٌ وليس بطلاقٍ؛ لأن الله - تعالى - قال: ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء﴾ [البقرة: ٢٢٨] فلو كانت هذه طلقة، لم يقتصر على قرءٍ واحدٍ.
قوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾ مبتدأٌ وخبرٌ، والمشارُ إليه جميعُ الآياتِ من قوله: ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات﴾ [البقرة: ٢٢١] إلى هنا.
وقوله: ﴿فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ أصلُه: تَعْتَدِيُوهَا، فاسْتُثْقِلَت الضمَّةُ على الياءِ؛ فحُذِفت، فسكنَتِ الياءُ وبعدَها واوُ الضميرِ ساكنةً، فحُذِفت الياءُ؛ لالتقاءِ الساكنَينِ، وضُمَّ ما قبلَ الواو؛ لتصِحَّ، ووزنُ الكَلِمَة تَفْتَعُوها.
قال أبو العبَّاس المُقْرِي: ورد لفظ: «الاعْتِدَاء» في القُرآن بإزاء ثلاثة معانٍ:
الأول: الاعتِداء: تعدِّي المأمُورات والمنهيَّات؛ قال - تعالى -: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ [البقرة: ٢٢٩].
والثاني: «الاعتِدَاء» القتل؛ قال تعالى: ﴿فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٧٨] أي: من قتل بعد قبُول التَّوْبة.
الثالث: «الاعْتِداء» الجزاء؛ قال - تعالى -: ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤] أي: جاوزهُ.

فصل


قال القرطبي: إذا اختلعت منه بِرِضاع ابنها منه حولين جاز، وفي الخُلْعِ بنفقتها على الابن بعد الحَوْلَيْن مُدَّة مَعْلُومة قولان:
أحدهما: يجوزُ؛ قاله سحنون.
والثاني: لا يجوزُ؛ رواه ابن القاسم عن مالك.
ولو اشترط على امرأته في الخُلْع نفقة حملِها، وهي لا شيء لها، فعليه النفقة إذا لم يَكُن لها مالٌ تنفق منه، فإن أيسَرت بعد ذلك رجع عَلَيْها.
143
قال مالك: ومن الحقِّ أن يكلِّف الرَّجل نفقة ولده وإن اشترط على أمِّه نفقته إذا لم يكن لها ما تنفق عليه.
قوله: ﴿وَمَن يَتَعَدَّ﴾ «مَنْ» شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وفي خبرها الخلاف المتقدِّم.
وقوله: ﴿فأولئك﴾ جوابها، ولا جائزٌ أن تكون موصولةٌ، والفاء زائدة في الخبر لظهور عملها الجزم فيما بعدها، و «هُمُ» من قوله: ﴿فأولئك هُمُ﴾ يحتمل ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون فصلاً.
والثاني: أن يكون بدلاً.
و ﴿الظالمون﴾ على هذين خبر «أُولَئِكَ» والإخبار بمفردٍ.
والثالث: أن يكون مبتدأً ثانياً، و «الظالمون» خبره، والجملة خبر «أُولَئِكَ»، والإخبار على هذا بجملةٍ.
ولا يخفى ما في هذه الجملة من التأكيد؛ من حيث الإتيان باسم الإشارة للبعيد، وتوسُّط الفصل والتعريف بالألف واللام في «الظالمون» أي: المبالغون في الظلم. وحمل أولاً على لفظ «مَنْ»، فأفرد في قوله «يَتَعَدَّ»، وعلى معناها ثانياً، فجمع في قوله: ﴿فأولئك هُمُ الظالمون﴾.

فصل


و ﴿حُدُودُ الله﴾ : أوامره ونواهيه، وهي: ما منع الشرع من المجاوزة عنه، وفي المراد من «الظُّلْمِ» هنا ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: اللَّعن لقوله تعالى: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين﴾ [هود: ١٨].
وثانيها: أنَّ إطلاق الظلم] هنا تنبيهٌ على أن الإنسان ظلم نفسه؛ حيث أقدم على المعصية، وظلم المرأة: بتقدير ألا تتمَّ عدَّة الرجل، أو كتمت شيئاً، ممَّا خلق الله في رحمها، أو ترك الرجل الإمساك بالمعروف، والتَّسريح بالإحسان، أو أخذ شيئاً مما أتاها بغيرِ سببٍ من نشوزٍ، فكل هذه المواضع تكون ظُلماً للغيرِ.
144
أي: من بعد الطلاق الثالث، فلمَّا قطعت «بعدُ» عن الإضافة بنيت على الضَّمِّ؛ لما تقدَّم تقريره. و «له» و «مِنْ بعد»، و «حتى» ثلاثتها متعلقةٌ ب «يَحِلُّ». ومعنى «مِنْ» :
144
ابتداء الغاية، واللام للتَّبليغ، وحتَّى للتعليل، كذا قال أبو حيَّان، قال شهاب الدِّين: والظَّاهر أنها للغاية؛ لأنَّ المعنى على ذلك، أي: يمتدُّ عدم التحليل له إلى أن تنكح زوجاً غيره، فإذا طلَّقها وانقضت عدَّتها منه حلَّت للأول المطلِّق ثلاثاً، ويدلُّ على هذا الحذف فحوى الكلام.
و «غيرَه» صفةٌ ل «زوجاً»، وإن كان نكرةً، لأنَّ «غَيْرَ» وأخواتِها لا تتعرَّف بالإضافة؛ لكونها في قوَّة اسم الفاعل العامل.
و «زَوْجاً» هل هو للتقييد أو للتوطئة؟ وينبني على ذلك فائدةٌ، وهي أنه إن كان للتقييد: فلو كانت المرأة أمةً، وطلَّقها زوجها، ووطئها سيِّدها، لم تحلَّ للأول؛ لأنه ليس بزوجٍ، وإن كانت للتوطئة حلَّت؛ لأنَّ ذكر الزوج كالملغى، كأنه قيل: حتى تنكح غيره، وإنَّما أتى بلفظ «زَوْج» ؛ لأنه الغالبُ.
فإن قيل: ما الحكمة في إسناد النِّكاح إلى المرأة دون الرجل فقال ﴿حتى تَنْكِحَ زَوْجاً﴾ ؟
فالجواب: فيه فائدتان:
إحداهما: ليفيد أنَّ المقصود من هذا النكاح الوطء، لا مجرَّد العقد؛ لأن المرأة لا تعقد عقد النكاح، بخلاف الرجل؛ فإنه يطلِّق عند العقد.
الثانية: لأنَّه أفصح، لكونه أوجز.
فإن قيل: فقد أُسند النِّكاح إلى المرأة في قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» وإنما أراد العقد.
فالجواب: أن هذا يدلُّ لنا؛ لأنَّ جَعْلَ إسناد النكاح إلى المرأة، والمراد به العقد، يكون باطلاً، وكلامنا في إسناد النِّكاح الصَّحيح.
قال أهل اللُّغة: النكاح في اللغة: هو الضَّمُّ والجمع، يقال: تَنَاكَحَتِ الأشْجَارُ، إذا انضم بعضها إلى بعضٍ.

فصل


الذين قالوا: بأن التسريح بالإحسان هو الطَّلقة الثالثة، قالوا: إنَّ قوله: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ تفسيرٌ للتسريح بالإحسان.
145
واعلم أن للزَّوج مع المرأة بعد الطلقة الثانية ثلاثة أحوالٍ:
إمَّا أن يراجعها، وهو المراد بقوله: «فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ».
أو يتركها؛ حتى تنقضي عدَّتها وتبين، وهو المراد بقوله: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ».
والثالث: أنه إذا راجعها، وطلَّقها ثالثةً؛ وهو المراد بقوله: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾.
فهذه الأقسام الثلاثة؛ يجب تنزيل الألفاظ الثلاثة عليها؛ ليطابق كلُّ لفظٍ معناه، فأمَّا إن جعلنا التَّسريح بالإحسان، عبارةٌ عن الطَّلقة الثَّالثة، كنَّا قد صرفنا لفظتين إلى معنى واحدٍ؛ على سبيل التِّكرار، وأهملنا القسم الثالث، ومعلومٌ أنَّ الأوَّل أولى، ووقوع الخلع بين هاتين الآيتين، كالأجنبي، ونظم الآية: «الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، فإن طلَّقها فلا تحل له من بعد حتَّى تنكح زوجاً غيره».
فإن قيل: إذا كان النَّظم الصَّحيح هو هذا، فما السبب في إيقاع الخلع فيما بين هاتين الآيتين؟
فالجواب: أنَّ الرجعة والخلع لا يصحَّان؛ إلاَّ قبل الطَّلقة الثالثة، وأمَّا بعدها، فلا يصحُّ شيءٌ من ذلك، فلهذا السَّبب ذكر الله حكم الرجعة، ثم أتبعه بذكر الخلع، ثم ذكر بعد الكلِّ حكم الطَّلقة الثالثة؛ لأنها كالخاتمة.

فصل في شروط حل المطلقة ثلاثاً لزوجها


مذهب الجمهور: أنَّ المطلقة ثلاثاً لا تحلُّ لزوجها؛ إلاَّ بشرُوطٍ وهي:
أن تعتدَّ منه، وتتزوَّج بغيره، ويطأها ثم يطلِّقها، وتعتدَّ من الآخر.
وقال سعيد بن جبيرٍ، وسعيد بن المسيِّب: تحلُّ بمجرد العقد.
واختلف العلماء في ثبوت اشتراط الوطء؛ هل ثبت بالكتاب، أو بالسنة؟ قال أبو مسلمٍ الأصفهانيُّ: الأمران معلومان بالكتاب.
قال ابن جنّي: سألت أبا عليٍّ عن قولهم: نكح المرأة، فقال: فرَّقت العرب بالاستعمال، فإذا قالوا: نكح امرأته، أو زوجته، أراد المجامعة، وعلى هذا فالزَّوجية مقدَّمةٌ على النكاح، الذي هو الوطء، وإذا كان كذلك فقوله: ﴿تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾، أي: تتزوَّج بزوجٍ، وينكحها، أي: يجامعها.
وروي في سبب النزول أنَّ الآية نزلت في تميمة، وقيل: عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك النضري كانت تحت ابن عمِّها، رفاعة بن وهب بن عتيك القرظيّ، فطلقها ثلاثاً، قالت عائشة: جاءت امرأة رفاعة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: إني كنت عند رفاعة،
146
فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنَّما معه مثل هدبة الثوب، وإنه طلَّقني قبل أن يمسَّني؛ أفأرجع إلى ابن عمِّي؟ فتبسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلى رِفَاعَةَ؟ لاَ؛ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» والمراد ب «العُسَيْلَة» : الجماع، فروي أنها لبثت ما شاء الله، ثم رجعت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت: إن زَوْجِي قد مَسَّنِي، فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «كَذَبْتِ فِي قَوْلِكِ الأَوَّلِ، فَلَنْ أُصَدِّقَكِ في الآخرِ»، فلبثت حتى قبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأتت أبا بكرٍ، فقالت: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرجع إلى زوجيَ الأول؛ فإن زوجي الآخر قد مسني؟ فقال لها أبو بكر: قد شهدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين أتيته، وقال لك ما قال؛ فلا ترجعي إليه، فلما قبض أبو بكرٍ، أتت عمر، وقالت له مثل ذلك، فقال: «لئن رجعت إليه لأَرْجُمنَّكِ».
ولأن المقصود من توقيف الحل على اشتراط الوطء هو زجر الزوج، وإنَّما يحصل بتوقيف الحل على اشتراط الوطء، فأما مجرد العقد، فليس فيه نفرةٌ، فلا يصلح جعله زاجراً.

فصل


قال بعض العلماء: إذا طلق زوجته، واحدةً أو اثنتين ثم نكحت زوجاً آخر، فأصابها، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد، عادت على ما بقي من طلاقها.
وقال أبو حنيفة: بل يملك عليها ثلاثاً، كما لو نكحت زوجاً بعد الثلاث.

فصل هل يلحق المختلعة الطلاق


قال القرطبيُّ: استدلَّ بعض الحنفية بهذه الآية، على أنَّ المختلعة يحلقها الطلاق؛ لأنَّ الله شرع صريح الطلاق بعد المفاداة، لأن «الفَاءَ» حرف تعقيبٍ، فيبعد أن يرجع إلى قوله: «الطَّلاقُ مرَّتَانِ» ؛ لأنَّ الأقرب عوده إلى ما يليه، كالاستثناء.

فصل


لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ.
147
قال القرطبيُّ: ومدار التحليل على الزوج سواء شرط التحليل، أو نواه، فمتى كان ذلك فسد نكاحه.

فصل


قال القرطبيُّ: وطءُ السيِّد لأمته التي طلقها زوجها، لا يحلّها؛ إذ ليس بزوجٍ وكذلك النكاح الفاسد.

فصل


قال القرطبيُّ: سئل سعيد بن المسيَّب، وسليمان بن يسار، عن رجل زوَّج عبداً له، جاريةً له، فطلَّقها العبد البتَّة، ثم وهبها سيِّدها له، هل تحل له بملك اليمين؟
فقالا: لا تَحِلُّ له، حتى تَنْكِحَ زوجاً غيره.

فصل


سئل ابن شهاب، عن رجلٍ كانت تحته أَمةٌ مملوكةٌ فاشتراها، وقد كان طلقها واحدةً؛ فقال: تحل له بملك يمينه، ما لم يبت طلاقها، فإن بتَّ طلاقها، فقال: لا تحلُّ له، حتى تنكح زوجاً غيره.
فإن قيل: إذا طلَّق المسلم الذمية ثلاثاً؛ فتزوجت بعده ذمياً، ودخل بها، حلت للأول؛ لأن الذِّمي زوجٌ.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ الضمير المرفوع عائدٌ على «زوجاً» النكرة، أي: فإن طلَّقها ذلك الزوج الثاني، وأتى بلفظ «إِنْ» الشرطية دون «إذا» ؛ تنبيهاً على أنَّ طلاقه يجب أن يكون باختياره، من غير أن يشترط عليه ذلك؛ لأنَّ «إذا» للمحقق وقوعه و «إِنْ» للمبهم وقوعه، أو المتحقِّق وقوعه المبهم زمان وقوعه؛ نحو قوله تعالى: ﴿أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون﴾ [الأنبياء: ٣٤].
قوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ﴾ الضمير في «عليهما» يجوز أن يعود على المرأة، والزوج
148
الأول المطلَّق ثلاثاً، أي: فإن طلَّقها الثاني، وانقضت عدَّتها منه، فلا جناح على الزوج المطلِّق ثلاثاً، ولا عليها؛ أن يتراجعا.
وهذا يؤيد قول من قال: إن الرجل إذا طلق زوجته طلقةً أو طلقتين، فتزوجت غيره، وأصابها، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديدٍ، أنَّها تعود على ما بقي من طلاقها؛ لأنه سمَّى هذا العود بعد الطلاق الثلاث رجعةً، فبعد طلقةٍ وطلقتين أولى بهذا الاسم، وإذا ثبت هذا الاسم، كان رجعةً، والرجعية تعود على ما بقي من طلاقها. ويجوز أن يعود عليها، وعلى الزوج الثاني، أي: فلا جناح على المرأة ولا على الزوج الثاني، أن يتراجعا ما دامت عدَّتها باقيةً، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف تلك الجملة المقدَّرة، وهي «وانْقَضَتْ عِدَّتُها»، وتكون الآية قد أفادت حكمين، أحدهما: أنها لا تحلُّ للأول؛ إلاَّ بعد أن تتزوج بغيره، والثاني: أنه يجوز أن يراجعها الثاني، ما دامت عدَّتها منه باقيةً، ويكون ذلك دفعاً لوهم من يتوهَّمُ أنها إذا نكحت غير الأول حلَّت للأول فقط، ولم يكن للثاني عيها رجعةٌ.
وهو الذي عوَّل عليه سعيد بن المسيَّب في أنَّ التحليل يحصل بمجرد العقد؛ لأن الوطء لو كان معتبراً، لكانت العدة واجبةً، وهذه الآية تدل على سقوط العدَّة؛ لأن «الفَاءَ» في قوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ﴾ يدلُّ على أنَّ حل المراجعة حاصل عقيب طلاق الزوج الثاني، إلاَّ أنه يجاب بأنَّ هذا المخصوص بقوله تعالى: ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء﴾ [البقرة: ٢٢٨].
قوله: ﴿أَن يَتَرَاجَعَآ﴾، أي: «في أَنْ»، ففي محلِّها القولان المشهوران: قال الفراء: موضعهما نصبٌ بنزع الخافض، وقال الكسائي، والخليل: موضعهما خفضٌ بإضمار، و «عليهما» خبر «لا»، و «في أن» متعلِّقٌ بالاستقرار، وقد تقدَّم أنه لا يجوز أن يكون «عليهما» متعلقاً ب «جُناح»، والجارُّ الخبر، لما يلزم من تنوين اسم «لا» ؛ لأنه حينئذٍ يكون مطوَّلاً.
قوله: ﴿إِن ظَنَّآ﴾ شرطٌ جوابه محذوفٌ عند سيبويه لدلالة ما قبله عليه، ومتقدِّم عند الكوفيين وأبي زيد. والظَّنُّ هنا على بابه من ترجيح أحد الجانبين، وهو مقوِّ أن الخوف المتقدِّم بمعنى الظَّنِّ. وزعم أبو عبيدة وغيره أنه بمعنى اليقين، وضعَّف هذا القول الزمخشري لوجهين، أحدهما من جهة اللفظ وهو أنَّ «أَنْ» الناصبة لا يعمل فيها يقينٌ، وإنما ذلك للمشدَّدة والمخففة منها، لا تقول: علمت أنَّ يقوم زيدٌ، إنما تقول: علمت أنْ يقوم زيدٌ. والثاني من جهة المعنى: فإنَّ الإنسان لا يتيقَّن ما في الغد وإنما يظنُّه ظناً.
149
قال أبو حيان: أمَّا ما ذكره من أنه لا يقال: «علمت أنَّ يقومَ زيد» فقد ذكره غيره مثل الفارسي وغيره، إلاَّ أن سيبويه أجاز: «ما علْتُ إلا أن يقومَ زيدٌ» فظاهرُ هذا الردُّ على الفارسي. قال بعضهم الجمع بينهما أنَّ «عَلِمَ» قد يراد بها الظَّنُّ القويُّ كقوله: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ﴾ [الممتحنة: ١٠]، وقوله: [الوافر]
١١١٣ - وَأَعْلَمُ عِلْمَ حَقٍّ غَيْرَ ظَنِّ وتَقْوَى اللهِ مِنْ خَيْرِ العَتَادِ
فقوله: «علمَ حق» يفهم منه أنه قد يكون علم غير حق، وكذا قوله «غيرِ ظَنٍّ» يفهم منه أنه قد يكون علمٌ بمعنى الظن. وممَّا يدلُّ على أنَّ «عَلِمَ» التي بمعنى «ظَنَّ» تعمل في «أَنْ» الناصبة، فليس بوهم من طريق اللفظ كما ذكره الزمخشري.
وأمَّا قوله: «لأنَّ الإنسانَ لا يعلمُ ما في الغدِ» فليسَ كما ذكر، بل الإنسان يعلم أشياء كثيرةً واقعةً في الغد ويجزم بها «قال شهاب الدين: وهذا الردُّ من الشيخ عجيبٌ جداً، كيف يقال في الآية: إنَّ الظن بمعنى اليقين، ثم يجعل اليقين بمعنى الظن المسوغ لعلمه في» أَنْ «الناصبة. وقوله:» لأنَّ الإنسانَ قد يَجْزِمُ بأشياءَ في الغد «مُسَلَّمٌ، لكن ليس هذا منها.
وقوله: ﴿أَن يُقِيمَا﴾ إمَّا سادٌّ مسدَّ المفعولين، أو الأول والثاني محذوفٌ، على حسب المذهبين المتقدمين.

فصل


كلمة»
إن «في اللغة للشرط، والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط؛ فظاهر الآية يقتضي: أنه متى لم يحصل هذا الظن لم يحصل جواز المراجعة وليس الأمر كذلك؛ فإنَّ جواز المراجعة ثابتٌ، سواءٌ حصل هذا الظنُّ، أو لم يحصل، إلاَّ أنا نقول: ليس المراد أنَّ هذا شرطٌ لصحة المراجعة؛ بل المراد منه أنه يلزمهم عند المراجعة بالنِّكاح الجديد رعاية حقوق الله تعالى، وقصد الإقامة لحدود الله.
قال طاوسٌ: إن ظنَّ كلٌّ واحدٍ منهما، أنه يحسن عشرة صاحبه.
وقيل: حدود الله: فرائضه، أي إذا علما أنه يكون منهما الصلاح بالنكاح الثاني.
150
فمتى علم الزوج أنه يعجز بنفقة زوجته، أو صداقها، أو شيءٍ من حقوقها الواجبة عليه؛ فلا يحلُّ له أن يتزوجها؛ حتى يبيِّن لها. وكذلك لو كانت تعلم أنها تمنعه من الاستمتاع، كان عليها أن تبين.
وكذلك لا يجوز له أن يغرَّها بنسبٍ يدعيه، ولا مال له، ولا صناعة يذكرها، وهو كاذبٌ، وكذلك لو كان بها علةٌ، تمنع من الاستمتاع من جنونٍ، أو جذامٍ، أو بَرَصٍ، أو داءٍ في الفرج؛ لم يجز لها أن تغرَّه، وعليها أن تبيِّن له ما بها، كما يجب على بائع السِّلعة. وكان النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - تزوج امرأة، فوجد بكشحها برصاً؛ فردَّها، وقال:» دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ «.

فصل هل على الزوجة خدمة الزوج؟


نقل القرطبيُّ عن ابن خويزمنداد قال: اختلف أصحابنا: هل على الزوجة خدمة الزوج؟
فقال بعضهم: ليس عليها خدمته؛ لأن العقد إنما يتناول الاستمتاع، لا الخدمة؛ قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾ [النساء: ٣٤].
وقال بعضهم: عليها خدمة مثلها؛ فإن كانت شريفة المحلِّ، فعليها التدبير للمنزل، وإن كانت متوسطة الحال، فعليها أن تفرش الفراش، ونحو ذلك، وإن كانت دون ذلك، فعليها أن تَقُمَّ البيت، وتطبخ، وتغسل، وإن كانت من نساء الكرد، والدّيلم والجبل في بلدهن كلِّفت ما تكلف نساؤهم المسلمين من ذلك؛ قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف﴾ [البقرة: ٢٢٨].
قوله: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ »
تلكَ «إشارةٌ إلى ما بينهما من التَّكاليف.
«يُبَيِّنُهَا»
في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها في محلِّ رفعٍ، خبراً بعد خبرٍ، عند من يرى ذلك.
والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال، وصاحبها «حدود الله» والعامل فيها اسم الإشارة.
وقرئ: «نبيِّنها» بالنون، ويروى عن عاصمٍ، على الالتفات من الغيبة إلى التكلم؛ للتعظيم.
151
فإن قيل: «تلك» إشارةٌ إلى ما بيَّنه من التكاليف؛ وقوله: «نُبَيِّنُهَا» إشارة إلى الاستقبال، والجمع بينهما متناقضَ!
فالجواب: أنَّ هذه النصوص التي تقدمت أكثرها عامةٌ، لا يتطرق إليها تخصيصاتٌ كثيرة، وأكثر تلك المخصِّصات إنَّما عرفت بالسُّنَّة، فكأنه قال: إن هذه الأحكام التي تقدمت، هي حدود الله، وسيبينها الله تعالى كمال البنيان، على لسان النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو كقوله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤].
وقيل: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ الله﴾ يعني: ما تقدَّم ذكره من الأحكام يبيِّنها الله لمن يعلم أن الله أنزل الكتاب، وبعث الرسل؛ ليعلموا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه.
و «لقوم» متعلِّقٌ ب «يُبَيِّنُهَا»، و «يعلمون» في محل خَفْض صفةً ل «قوم»، وخص العلماء بالذكر؛ لأنَّهم هم المنتفعون بالبيان دون غيرهم، وقيل: خصَّهم بالذّكر لقوله: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال﴾ [البقرة: ٩٨] وقيل: عنى به العرب؛ لعلمهم باللسان.
وقيل: أراد من له علمٌ، وعقلٌ؛ كقوله: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون﴾ [العنكبوت: ٤٣] والمقصود أنه لا يكلف إلاَّ عاقلاً، عالماً بما يكلِّف.
152
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ : شرطٌ، جوابه ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾، وقوله: ﴿فَبَلَغْنَ﴾ عطفٌ على فعل الشرط، والبلوغ: الوصول إلى الشيء: بلغه يبلغه بلوغاً؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
١١١٥ - وَمَجْرٍ كَغُلاَّنِ الأُنَيْعِمِ بالِغٍ دِيَارَ العَدُوِّ ذِي زُهَاءٍ وَأَرْكَانِ
ومنه: البلغة، والبلاغ: اسم لما يتبلَّغ به.
قوله تعالى: «بمعروفٍ» في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبها: إمَّا الفاعل أي: مصاحبين للمعروف، أو المفعول، أي: مصاحباتٍ للمعروف.
قوله: ﴿ضِرَاراً﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول من أجله، أي: لأجل الضِّرار.
152
والثاني: أنه مصدرٌ في موضع الحال، أي: حال كونكم مضارِّين لهنَّ.
قوله: ﴿لِّتَعْتَدُواْ﴾ هذه لام العلّة، أي: لا تضارُّوهنَّ على قصد الاعتداء عليهن، فحينئذٍ تصيرون عصاةً لله تعالى، وتكونوا معتدين؛ لقصدكم تلك المعصية.
وأجاز أبو البقاء: أن تكون لام العاقبة، أي: الصيرورة، كقوله: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨]، وفي متعلقها وجهان:
أحدهما: أنه ﴿لاَ تُمْسِكُوهُنَّ﴾.
والثاني: أنه المصدرُ، إنْ قلنا: إنه حالٌ، وإنْ قُلْنَا: إنه مفعولٌ من أجله، تعلَّقت به فقط؛ وتكون علةً للعلة؛ كما تقول: «ضربتُ ابني؛ تأديباً؛ لينتفع»، فالتأديب علةٌ للضرب، والانتفاع علةٌ للتأديب، ولا يجوز أن تتعلَّق - والحالة هذه - ب «لا تُمْسِكُوهُنَّ».
و «تَعْتَدُوا» منصوبٌ بإضمار «أنْ» وهي وما بعدها في محلِّ جر بهذه اللام، كما تقدَّم تقريره، وأصل «تَعْتَدُوا» : تَعْتَدِيُوا، فأُعِلَّ كنظائره.
قوله: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ أدغم أبو الحارث، عن الكسائي، اللام في الذال، إذا كان الفعل مجزوماً كهذه الآية، وهي في سبعة مواضع في القرآن: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ٣٣١] في موضعين، ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ﴾ [آل عمران: ٢٨]، ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً﴾ [النساء: ٣٠]، ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله﴾ [النساء: ١١٤]، ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً﴾ [الفرقان: ٦٨]، ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون﴾ [المنافقون: ٩]. وجاز لتقارب مخرجيهما، واشتراكهما في: الانفتاح، والاستفال، والجهر.
وتحرَّز من غير المجزوم نحو: يفعل ذلك. وقد طعن قومٌ على هذه الرواية، فقالوا: لا تصحُّ عن الكسائي؛ لأنها تخالف أصوله، وهذا غير صواب.

فصل في سبب النزول


هذه الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار يدعى: ثابت بن يسارٍ، طلّق امرأته، حتى إذا قارب انقضاء عدّتها، راجعها، ثمَّ طلَّقها؛ يقصد مضارَّتها.
فإن قيل: ذكر هذه الآية بعد قوله: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩] تكريرٌ لكلامٍ واحدٍ، في موضوعٍ واحدٍ، من غير زيادة فائدةٍ، وهو لا يجوز؟!
153
فالجواب: أمَّا على قول أصحاب أبي حنيفة، فالسؤال ساقطٌ عنهم؛ لأنهم حملوا قوله تعالى: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩] على أن الجمع بين الطلقات غير مشروعٍ، وإنَّما المشروع هو التفريق، فإن تلك الآية في بيان كيفية الجمع والتفريق، وهذه في بيان كيفية المراجعة.
وأمَّا على قول أصحاب الشافعي، الذين حملوا تلك الآية على كيفية المراجعة، فلهم أن يقولوا: إنَّ من ذكر حكماً يتناول صوراً كثيرة وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهمَّ، أن يعيد بعد ذلك الحكم العامِّ تلك الصورة الخاصَّة مرَّةً أخرى؛ ليدلَّ ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام، ما ليس في غيرها، وها هنا كذلك؛ لأن قوله: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩] فيه بيان أنه لا بدَّ في مدّضة العدَّة من أحد هذين الأمرين، ومن المعلوم أنَّ رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة، أولى بالوجوب من سائر الأوقات التي قبله؛ لأن أعظم أنواع الإيذاء، أن يطلقها، ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل؛ حتى تبقى في العدة تسعة أشهرٍ، فلمَّا كان هذا أعظم أنواع المضارة، حسن إعادة حكم هذه الصورة، تنبيهاً على أنّض هذه الصورة أعظم اشتمالاً على المضارة، وأولى بأن يحترز المكلف عنها.

فصل في معنى الإمساك بالمعروف


قال القرطبيُّ: الإمساك بالمعروف، هو القيام بما يجب لها من حقٍّ على زوجها؛ وكذلك قال جماعةٌ من العلماء: إنَّ من الإمساك بالمعروف أنَّ الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة، أن يطلقها، فإن لم يفعل خرج عن حدِّ المعروف، فيطلِّق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاَّحق بها؛ لأن في بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، ضرراً، والجوع لا يصبر أحدٌ عليه، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيدة، وأبو ثور، وعبد الرحمن بن مهدي، وهو قول عمر، وعلي، وأبي هريرة.
وقال سعيد بن المسيَّب: إنَّ ذلك سنةٌ، ورواه أبو هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقالت طائفةٌ: لا يفرٌَّ بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلّق النفقة بذمَّته، بحكم الحاكم؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠].
وحجّة الأوَّلين الآية، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «تقول المرأة إمَّا أَنْ تُطْعِمني وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي» رواه البخاري في «صحيحه».
154

فصل


قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ إشارةٌ إلى المراجعة، واختلف العلماء في كيفيتها؛ فقال الشَّافعيُّ: لما لم يكن النكاح والطلاق إلاَّ بكلامٍ، لم تكن الرجعة - أيضاً - إلاَّ بكلامٍ.
وقال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد: تصحُّ بالوطء.
حجة الشافعي: أنَّ ابن عمر طلَّق زوجته، وهي حائض؛ فسأل عمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذلك، فقال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» فأمره - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالمراجعة في تلك الحال. والوطء في زمن الحيض لا يجوز. وقد يجاب عن هذا؛ بأنَّنا لم نخصَّ الرجعة في الوطء، بل قد يكون في صورةٍ بالوطءِ، وفي صورة بالقول.
وحجَّة أبي حنيفة، قوله تعالى: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ أمرٌ بمجرد الإمساك، والوطء إمساكٌ، فوجب أن يكون كافياً.
فإن قيل: إنه تعالى أثبت حقَّ المراجعة عند بلوغ الأجل، وبلوغ الأجل وهو عبارةٌ عن انقضاء العدَّة، لا يثبت حقَّ المراجعة.
فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّ المراد مشارفة البلوغ لا نفس البلوغ؛ كقول الرجل إذا قارب البلد: «قد بلغنا»، وقول الرجل لصاحبه: «إذا بلغتَ مكَّةَ، فاغْتَسلْ بِذِي طُوى» يريد مشارفة البلوغ، لا نفس البلوغ، وهو من باب مجاز إطلاق اسم الكلِّ على الأَكْثر.
الثاني: الأَجَل اسمٌ للزمان، فنحمله على الزمان الذي هو آخر زمانٍ يمكن إيقاع الرجعة فيه، بحيث إذا مات، لا يبقى بعده إمكان الرجعة على هذا، فلا حاجة إلى المجاز
فإن قيل: لا فرق بين قوله: «أَمسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ»، وبين قوله: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً﴾ ؛ لأن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه، فما فائدة التكرار؟
155
فالجواب: الأمر لا يفيد إلاَّ مرةً واحدةً؛ فلا يتناول كلَّ الأوقات؛ أمَّا النهيُ فإنه يتناول
156
كلَّ الأوقات، فلعلَّه يمسكها بالمعروف في الحال، ولكن في قلبه أن يضارَّها في الزمان المستقبل، فلما قال: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً﴾ انْدَفَعَتْ الشبهات، وزالت الاحتمالات.

فصل في بيان معنى الضرار


و «الضرار» : هو المضارَّةُ؛ قال تعالى: ﴿والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً﴾ [التوبة: ١٠٧]، ومعناه راجعٌ إلى إثارة العداوة، وإزالة الألفة، وإيقاع الوحشة؛ وذكر المفسرون فيه وجوهاً:
أحدها: ما تقدَّم في سَببِ نُزولِ الآيةِ من تطويلِ العِدَّةِ تسعة أشْهُرٍ، فأكثر.
ثانيها: «الضرارُ» سوء العشرة.
وثالثها: تضييق النفقة، وكانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأعمال؛ لكي تختلع المرأة عنه بمالها.
157
قوله تعالى: ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ فيه وجوه:
أحدها: ظلم نفسه؛ بتعريضها للعذاب.
وثانيها: ظلم نفسه؛ بأن فوَّت عليها منافع الدنيا والدِّين:
أمَّا منافع الدنيا: فإنَّه إذا اشتهر بين الناس بهذه المعاملة القبيحة فلا يرغب أحدٌ في تزويجه، ولا معاملته.
وأما منافع الدِّين فتضييعه للثواب الحاصل على حسن عشرة الأهل، والثواب على الانقياد لأحكام الله تعالى.
قوله: ﴿وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً﴾ فيه وجوه:
أحدها: أنَّ من أمر بشيء، فلم يفعله بعد أن نصَّب نفسه منصب الطائعين، يقال: إنه استهزأ بذلك الأمر ولعب به؛ فعلى هذا يكون المراد أنَّ من وصلت إليه هذه التكاليف المتقدمة من العدَّة، والرَّجعة، والخلع، وترك المضارَّة، ويسأم لأدائها يكون كالمستهزئ بها، وهذا تهديدٌ عظيمٌ للعصاة من أهل الصلاة، وغيرهم.
وثانيها: ولا تتسامحوا في تكاليف الله تعالى، ولا تتهاونوا بها.
وثالثها: قال أبو الدَّرداء: كان الرجل يطلِّق في الجاهلية، ويقول: «طَلَّقْتُ، وَأَنَا لاَعِبٌ» ويعتق، وينكح، ويقول مثل ذلك؛ فنزلت هذه الآية، فقرأها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال: «مَنْ طَلَّقَ، أَوْ حَرَّرَ، أَوْ نَكَحَ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لاَعِبٌ فَهو جدٌّ».
وروى أبو هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «ثَلاَثٌ جَدُّهُنَّ جدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جدٌّ؛ الطَّلاَقُ وَالنِّكَاحُ وَالعتَاقُ».
ورابعها: قال عطاءٌ: معناه أنَّ المستغفِر من الذنبِ إذا كان مُصرّاً عليه، أو على غيره، كان مُسْتهزئاً بآيات الله تعالى.
وقال مالكٌ في «الموطأ» : بلغنا أَنَّ رجُلاً قال لابن عبَّاسٍ: إني طلقتُ امرأَتي مائةَ مَرَّةٍ، فماذا ترى؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ: طُلِّقَتْ منك بثلاثٍ؛ وسَبْعٌ وتسعون اخذت آياتِ الله هُزُواً.
158
والأَقربُ هو الأَوَّلُ؛ لأنه تهديد بعد ذكرِ تكاليفَ، فيكون تهدِيداً عليها، لا على غيرها. ولمَّا رَغَّبهم في أداءِ التكاليف بالتهديد، رغبهم - أيضاً - بذكر نعمِهِ عليهم في الدنيا والدين، فقال: «واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم» أي: بالإسلام، وبيان الأَحكام. ويجوز في «عليكم» وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق بنفسِ «المنعة»، إن أريدَ بها الإِنعامُ؛ لأنها اسمُ مصدرٍ؛ كنباتٍ من أَنْبَتَ، ولا تمنع تاءُ التأنيث من عملِ هذا المصدرِ؛ لأنه مبنيٌّ عليها كقوله: [الطويل]
١١١٦ - فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ
فأعملَ «رهبةٌ» في «عِقَابَكَ»، وإنما المحذُورُ أن يعمل المصدرُ الذي لاَ يُبنَى عليها، نحو: ضربٌ وضَرْبَةٌ، ولذلك اعتذر الناس عن قوله: [الطويل]
١١١٧ - يُحايي بِهِ الْجَلْدُ الَّذِي هُوَ حَازِمٌ بِضَربَةِ كَفَّيْهِ الْمَلاَ وَهْوَ رَاكِبُ
بأنَّ المَلاَ، وهو السرابُ، منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ لا بضربةٍ.
والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من «نِعْمَة» إنْ أريد بها المُنْعَمُ به، فعلى الأول تكون الجلالةُ في محلِّ رفعٍ، لأنَّ المصدرَ رافعٌ لها تقديراً؛ إذ هي فاعلةٌ به، وعلى الثاني في محلِّ جرٍّ لفظاً وتقديراً.
قوله: ﴿وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ﴾ يجوزُ في «ما» وجهان:
أحدهما: أن تكونَ في محلِّ نصب؛ عطفاً على «نعمة»، أي: اذكروا نعمتَه والمُنَزَّل عليكم، فعلى هذا يكون في قوله: «يَعِظُكُم» حالاً، وفي صاحبها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه الفاعلُ: في «أنزل» وهو اسمُ الله تعالى، أي: أنزله واعظاً به لكم.
والثاني: أنه «ما» الموصولةُ، والعاملُ في الحالِ: اذكروا.
والثالث: أنه العائد على «ما» المحذوفُ، أي: وما أنزلهُ موعوظاً به، فالعاملُ في الحالِ على هذا القولِ وعلى القولِ الأولِ «أَنْزَلَ».
والثاني: من وَجْهي «ما» : أَنْ تكونَ في محلِّ رفع بالابتداء، ويكونَ «يَعِظُكُم» على هذا في محل رفعٍ؛ خبراً لهذا المبتدإِ، أي: والمُنَزَّلُ عليكم موعوظٌ به. وأولُ الوَجْهَيْنِ أقوى وأحسنُ.
159
قوله: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلِّقٌ ب «أَنْزَلَ» و «من الكتابِ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ، وفي صاحبِهِ وجهان:
أحدهما: أنه «ما» الموصولةُ.
والثاني: أنه عائدُها المحذوفُ، إذ التقديرُ: أنزله في حالِ كونِهِ من الكتابِ.
و «مِنْ» يجوز أن تكونَ تَبْعِيضِيةٌ، وأَنْ تكونَ لبيانِ الجنسِ عند مَنْ يرى ذلك.
والضمير في «به» يعودُ على «ما» الموصولةِ «.
والمرادُ من»
الكِتابِ «: القرآنُ، ومن» الحِكْمَةِ «:» السُّنَّةُ «. يَعظُكُمْ بِهِ أي: يخوفكم به، ثم قال: ﴿واتقوا الله﴾ أي: في أَوَامرِه، ولا تُخالِفُوه في نواهيه، ﴿واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
160
الكلامُ في صدرِ هذه الآية كالتي قبلها، إلاَّ أنَّ الخِطابَ في: «طَلَّقتم» للأزواجِ، وفي: «فَلاَ تعضُلُوهُنَّ» للأولياء؛ لأنه يروَى في سبب نُزُولِ هذه الآيةِ وجهان:
الأول: أَنَّ معقل بن يسار زوَّج أخته جميل بن عبد الله بن عاصمٍ، وقيل: كانت تحت أبي الدَّحْدَاحِ عاصم بن عدي بن عجلان فطلقها، ثم تركها حتى انقضَتْ عدَّتها، ثم ندم؛ فجاء يخطبُها، فقال: زوجتُك، وفرشتُك، وأكرمتُك؛ فطلقتها ثم جئت تخطِبُها؟! لا والله، لا تعود إليك أبداً، وكانت المرأةُ تُرِيدُ أَنْ ترجع إليه، فقال لها معقل: إنه طلَّقكِ ثُمَّ تريدين مراجعته؟ وجهي مِنْ وَجْهِك حرامٌ، إنْ راجعته؛ فأنزل اللهُ هذه الآيةَ، فدعا رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معقل بن يسار، وتلا عليه الآيةَ، فقال: رغم أنْفِي لأَمْرِ
160
رِبِّي، اللَّهُمّ رضيتُ، وسلّمْتُ لأَمْرك، وأَنكح أُخْتَه زوْجَها.
الثاني: روَى مجاهد، والسدي: أَنَّ جابر بن عبد الله، كانت له ابنةُ عَمٍّ فطلقها زَوْجُها، وأراد رجعتها بعد العِدّة؛ فأَبَى جابر؛ فأنزل اللهُ - تعالى - هذه الآيةَ، وكان جابرٌ يقولَ: فِيَّ نزلت هذه الآيةُ.
وقيل: الخطابُ فيهما للأزواج، ونُسِبَ العَضْلُ إليهم؛ لأنهم كذلك كانوا يفعلون، يُطَلِّقُونَ، ويأْبَونَ أن تتزوج المرأَةُ بعدَهم؛ ظلماً وقهراً.
قوله: ﴿أَزْوَاجَهُنَّ﴾ مجازٌ؛ لأنه إذا أُريد به المطلَّقون، فتسميتُهم بذلك اعتباراً بما كانوا عليه، وإن أُريد بهم غيرُهم مِمَّن يُرِدْنَ تزويجهم فباعتبار ما يؤولون إليه. قال ابن الخطيب: وهذا هو المختارُ؛ لأن قوله: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء﴾ شرطٌ، والجزاءُ قوله: «فلا تَعْضُلُوهُنَّ» والشرطُ خطابٌ مع الأزواجِ، فيكون الجزاءُ خِطَاباً معهم أيضاً؛ لأنه لو لم يكن كذلك، لصار تقديرُ الآيةِ: إذا طلقتم النساء أَيُّها الأزواج، فلا تعضُلُوهُنَّ أيها الأولياءُ، وحينئذٍ لا يكونُ بين الشرطِ والجزاءِ مناسبةٌ أصلاً، وذلك يُوجِبُ تفكيك نظم الآيةِ، وتنزيه كلام اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عن مثل هذا، واجبٌ. ثم يتأكدُ بوجهين آخرين:
الأول: أَنَّه من أَوَّل آية الطَّلاق إلى هذا الموضع، خطابٌ مع الأزواجِ، ولم يجرِ للأولياءِ ذِكْرٌ أَلْبَتَّة، وصرفُ الخِطَابِ إلى الأَولياءِ خِلاَفُ النَّظْمِ.
الثاني: أَنَّ ما قبل هذه الآيةِ خطابٌ مع الأَزواجِ في كيفيةِ مُعاملتهم مع النساءِ بعد انقضاءِ العِدَّة، فكان صَرْفُ الخِطابِ إلى الأزواجِ، أولى؛ لأنه تَرتيبٌ حَسَنٌ لَطِيفٌ.
واستدلَّ الأولُونَ بما تقدَّمَ مِنْ سَبب النزولِ.
ويمكِنُ الجوابُ عنه من وجهين:
الأول: أَنَّ المحافظة على نظمِ كَلاَمِ الله - تعالى -، أَوْلى من المحافظة على خبر الواحِدِ.
161
الثاني: أَنَّ الرَّوايتين في سبب النزولِ تَعَارَضَتَا؛ فَرُوِيَ أَنَّ معقل كان يقولُ: فِيّ نزلت هذه الآية، وجابرٌ كان يقولُ فيّ نزلت، وإذا تعارضت الروايتان تساقطتا فبقي ما ذكرناه من التَّمَسك بنظم كَلاَمِ الله - تعالى - سليماً عن المعارِضِ، وفي هذه الاستدلالِ نظرٌ، ولا تعارُضَ بين الخبرين؛ لأن مدلولَهُمَا واحدٌ.
واحتجوا أيضاً بأن هذه الآيةَ لو كانت خطاباً مع الأزواج، فلا تخْلُوا إِمَّا أَنْ تكونَ خِطَاباً معهم قبل انقضاءِ العِدَّةِ، أو بعد انقضائِها.
والأولُ باطل؛ لأنَّ ذلك مستفادٌ من الآيةِ الأُولَى، فلما حملنا هذه الآيةَ على هذا المعنى، كان تكراراً من غير فائدةٍن وأيضاً فقد قال تعالى: ﴿فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف﴾ فنهى عن العضل حال حُصُولِ التراضي، ولا يحصلُ التراضِي بالنكاح، إلاَّ بعد التصريح بالخطبة ولا يجوزُ التصريح بالخطبة إلاَّ بعد انقضاء العِدَّة، وقال تعالى: ﴿وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٥].
والثاني - أيضاً - باطلٌ؛ لأنَّ بعد انقضاءِ العدَّةِ، ليس للزوج قدرةٌ على عضلِ المرأة، فكيف يُصْرفُ هذا النهي إليه؟!
ويمكنُ أن يُجابَ: بأن الرجل يمكن أَنْ يَكُونَ بحيثُ يشتد نَدَمُه على مفارقَةِ المرأة، بعد انقضاءِ عدَّتها، وتلحقُه الغيرة، إذا رأى مَنْ يخطبُها، وحينئذٍ يعضلها عن من يَنْكِحها، إِمَّا بأن يجحد الطلاق، أو يَدَّعي أنه كان راجعها في العدَّة، أو يدس إلى مَنْ يخطبها بالتهديد والوعيد، أو يسيء القول فيها: بأنْ ينسبها إلى أمورٍ تُنَفِّر الرجال عنها، فَنَهَى اللهُ تعالى الأزواج عن هذه الأَفعالِ، وعرَّفَهم أن تركها أزكَى، وأطهر، من دنسِ الآثام.
واحتجوا - أيضاً - بقوله تعالى: ﴿أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ قالوا: معناه: ولا يَمْنَعُوهن أَنْ يَنْكِحْنَ الذين كانوا أزواجاً لهُنَّ قبل ذلك، وهذا الكلامُ لا ينتظِمُ إلاَّ إذا جعلنا الآيةَ خطاباً للأولياءِ.
ويمكن الجوابُ: بأنَّ معنى قوله: ﴿أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ أن يَنكحنَ مَنْ يُرِدْنَ أن يتزوَّجنَه، فيكونون أزواجاً لهن والعربُ تسمي الشَّيْءَ بما يَؤُول إليه.
[وقيل: الخِطَابُ فيهما للأَولياء، وفيهِ بُعْدٌ؛ من حيثُ إنَّ الطلاقٌ لا يُنْسَبُ إليهم إلا بمجازٍ بعيدٍ، وهو أنْ جَعَلَ تَسَبُّبَهُمْ في الطَّلاقِ طَلاَقاً] والفاءُ في ﴿فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ جوابث «إذا».
والعَضْلُ: قيل: المَنْعُ، ومنه: «عَضَلَ أَمَتَهُ»، مَنَعَها من التزوُّجِ، يَعْضلُها بكسر العينِ وضَمِّها؛ قال ابن هرمزٍ: [الوافر]
162
١١١٨ - وَإِنَّ قَصَائِدِي لَكَ فَاصْطَنِعْنِي كَرَائِمُ قَدْ عُضِلْنَ عَنِ النِّكَاحِ
وقال: [الطويل]
١١١٩ - وَنَحْنُ عَضَلْنَا بِالرِّمَاحِ نِسَاءَنَا وَمَا فِيكُمُ عَنْ حُرْمَةِ اللهِ عَاضِلُ
ومنه: «دَجَاجَةٌ مُعْضِلٌ»، أي: احتبسَ بَيْضُها، وقيل: أَصلهُ الضِّيقُ؛ قال أوس: [الطويل]
١١٢٠ - تَرَى الأَرْضَ مِنَّا بِالْقَضَاءِ مَرِيضَةٌ مُعَضَّلَةٌ مِنَّا بِجَيْشٍ عَرَمْرَمِ
أي: ضَيِّقة بِهم، وعَضَلَتِ المَرْأَة، أي: نَشَبَ وَلَدُها في بَطْنِهَا، وكذلك عضلت الشَّاةُ، وأَعْضَلَ الدَّاءُ الأَطِبَّاء: إِذَا أَعياهُمْ، ويُقَالُ: دَاءٌ عُضَالٌ، أي: ضَيِّقُ العِلاج؛ وقالت ليلى الأخيلية: [الطويل]
١١٢١ - شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ العُضَالِ الَّذِي بِهَا غُلاَمٌ إِذَا هَزَّ القَنَاةَ شَفَاهَا
والمُعْضِلاتُ: المُشْكِلاَتُ؛ لضِيق فَهْمِها؛ قال الشافعيُّ: [المتقارب]
١١٢٢ - إِذَا المُعْضِلاَتُ تَصَدَّيْنَنِي كَشَفْتُ حَقَائِقَهَا بِالنَّظَرْ
قوله تعالى: ﴿أَن يَنكِحْنَ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدلٌ من الضميرِ المنصوبِ في «تَعْضُلُوهُنَّ» بدلُ اشْتِمالٍ، فيكون في محلِّ نصب، أي: فلا تَمْنَعُوا نكاحَهُنَّ.
والثاني: أَنْ يَكُونَ على إسقاط الخافِضِ، وهو إمَّا «مِنْ»، أو «عَنْ» فيكونُ في محلِّ «أَنْ» الوجهان المشهُورانِ: أعني مذهب سيبويه، ومذهب الخليل. و «يَنْكِحْنَ» مضارعُ «نَكَحَ» الثّلاثيّ، وكانَ قياسُه أنْ تُفْتَحَ عينُه؛ لأنَّ لامَه حرف حَلقٍ.
قوله: ﴿إِذَا تَرَاضَوْاْ﴾ في ناصبِ هذا الظَّرْفِ وجهان:
أحدهما: «ينكِحْنَ» أي: أَنْ ينكِحْنَ وقتَ التَّراضِي.
والثاني: أَنْ يكونَ «تَعْضُلُوهنَّ» أي: لا تعضُلوهنَّ وقتَ التَّراضِي، والأولُ أظهرُ. و «إذا» هنا مُتَمحِّضَة للظرفيةِ. والضميرُ في «تراضَوا» يجوزُ أَنْ يَعُودَ إلى الأوْلياءِ وللأزواج، وأَنْ يَعُودَ على الأَزْوَاجِ والزوجاتِ، ويكونُ مِنْ تَغْلِيبِ المذكرِ على المؤنثِ.
قوله: ﴿بَيْنَهُمْ﴾ ظرفُ مكانِ مجازيّ، وناصبُه «تراضَوا».
163
قوله: ﴿بالمعروف﴾ فيه أربعةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه متعلقٌ بتراضَوا، أي: تَرَاضَوا بما يَحْسُن مِنَ الدِّينِ والمروءَةِ.
والثاني: أن يتعلَّق ب «يَنْكِحْنَ» فيكون «ينكِحْنَ» ناصباً للظرفِ، وهو «إِذا» ؛ ولهذا الجارِّ أيضاً.
والثالث: أَن يتعلَّق بمحذوفٍ على أَنَّه حالٌ من فاعل تَرَاضَوا.
والرابع: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، دلَّ عليه الفعلُ، أي: تراضياً كائناً بالمعروف.

فصل


تمسّكَ بهذه الآيةِ مَنْ يشترط الوَلِيَّ في النكَاحِ؛ بناءَ على أَنَّ الخطاب في هذه الآية للأولياء، قال: لأَنَّ المرأة لو كانت تُزوِّج نفسها، أَوْ تُوكِّلُ مَنْ يُزوِّجها، ما كان الوليُّ قادراً على عضلها من النِّكاح، ولو لم يكن قادراً على العضلِ لما نهاهُ اللهُ عن العضل وقد تقدم ما فيه من البحث، وإِنْ سلم، فلم لا يجوزُ أَنْ يكون المرادُ بالنَّهي عنِ العضلِ أَنْ يخليها ورأيها في ذلك؛ لأَنَّ الغالب في الأَيَامَى أَن يرجعن إلى رأي الأَولياء، في بَابِ النكاحِ، وإِنْ كان الاستئذان الشرعي حاصِلاً لهن، وأَنْ يكُنَّ تحت رأيهم، وتدبيرهم، وحينئذٍ يكُونون مُتمكِّنين مِنْ منعهنَّ؛ لتمكنهم مِنْ تخليتهن، فيكون النَّهي محمولاً على هذا الوجه، وهذا منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، في تفسير هذه الآيةِ. وأيضاً فثبوتُ العضلِ في حَقِّ الولي مُمْتَنِعٌ؛ لأنه متى عضل القريبُ فلا يبقى لعضله أثرٌ.
وتمسَّك أبو حنيفة بقوله تعالى: ﴿أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ على أَنَّ النكاح بغير وَليٍّ جائزٌ، قال: لأنه أَضَافَ النكاح إليها إضافة الفعْل إلى فاعله، ونهى الوليَّ عَنْ منعها منه، قال: ويتأكَّدُ هذا بقوله تعالى: ﴿حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠]، وبقوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف﴾ [البقرة: ٢٣٤]، وتزويجها نفسها مِنَ الكُفءِ، فعلٌ بالمعروفِ؛ فوجب أَنْ يَصِحَّ.
وقوله تعالى: ﴿وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: ٥٠] دليلٌ واضِحٌ مع أَنَّهُ لم يحضر هناك ولي البتَّةَ.
وأجاب الأولون: بأن الفِعْل كما يُضافُ إلى المباشر، قد يُضافُ إلى المتسبّب، يقال: بنى الأمِيرُ داراً، وضرب ديناراً، وإنْ كان مجازاً، إلاَّ أنَّهُ يجب المصيرُ إليه؛ لدلالةِ الأَحاديث على بُطْلان هذا النِّكَاح.
164

فصل في اختلاف البلوغين


قال الشَّافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ ُ - دلَّ سياقُ الكلامينِ - أي في الآيتين - على افتراق البُلُوغين، ومعناه أَنَّه تعالى قال في الآية الأولى: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: ٢٣١] ولو كانت عِدَّتها قد انقضت، لما قال: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ لأن إمساكها بعد العدّة لا يجوزُ وتكون مُسَرَّحَةٌ، فلا حاجة إلى تسريحها، وأما هذه الآية، فإنه نهى عن عضلهن عن التَّزويج، وهذا النَّهْي إِنَّما يحسن في الوقت الذي يمكنها أَنْ تتزوَّج فيه، وذلك إِنَّما يكونُ بعد انقضاءِ العِدَّة، فهذا هو المرادُ مِنْ قول الشافعي «دَلَّ سياقُ الكَلاَمينِ على افْتِراق البلوغين».

فصل في معنى التراضي بالمعروف


في التَّراضي بالمعرُوف، وجهان:
أحدهما: ما وافَقَ الشَّرعَ مِنْ عقدٍ حلالٍ، ومهرٍ جائِزٍ، وشُهُودٍ عُدُول.
الثاني: هو ما يُضادُّ قوله: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ﴾ [البقرة: ٢٣١] فيكون معناه: أَنْ يرضى كُلُّ واحدٍ منهما بما لزمه بحق هذا العقد لصاحبه؛ حتى تحصل الصُّحبةُ الجميلةُ، وتدوم الأُلفَةُ.
قال بعضهم: التراضِي بالمعرُوف، هو مهرُ المِثْلِ، وفَرَّعُوا عليه مسأَلةً فقهيةً، وهي أنَّها إِذا زوَّجت نفسها بأَنْقص مِنْ مَهْرِ مِثْلِها، نقصاناً فاحشاً، فالنكاحُ صحيحٌ عند أَبِي حنيفة، وللوَلِي أَنْ يَعْتَرِض عليها بسبب ذلك النُّقْصَانِ.
وقال أَبُو يوسُف ومحمَّد ليس للوَلِيِّ ذلك.
قوله: ﴿ذلك﴾ مبتدأٌ و ﴿يُوعَظُ﴾ وما بعده خبرهُ. والمُخَاطبُ قيل: إمَّا الرسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أو كلُّ سامع، ولذلك جيءَ بالكافِ الدالَّةِ على الواحد، وقيل: للجماعةِ، وهو الظَّاهِرُ، فيكونُ «ذلك» بمعنى: «ذلكم»، ولذلك قال بعده: ﴿مِنكُمْ﴾ وهو جائِزٌ في اللُّغة، والتَّثْنِية والجمع أيضاً جائِزٌ، قال تعالى: ﴿ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي﴾ [يوسف: ٣٧] وقال: ﴿فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ [يوسف: ٣٢] وقال: ﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ﴾ [الطلاق: ٢] وقال: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة﴾ [الأعراف: ٢٢] وإِنَّما وحَّدَ الخطاب وهو للأَولياء؛ لأن الأَصل في مخاطبة الجمع «لَكُمْ» ثم كثر حتَّى توهَّموا أن «الكَافَ» مِنْ نفسِ الحرفِ، وليست بكافِ خِطابٍ؛ فقالوا ذلك، فإِذَا قالوا هذا، كانتِ الكافُ مُوَحَّدَةً منصوبةً في الاثنين، والجمع، والمؤَنَّثِ، و «مَنْ كان» في محلِّ رفعٍ؛ لقيامه مقامَ الفاعل. وفي «كان» اسمُها، يعودُ على «مَنْ» و «يؤمِنُ» في محلِّ نصبٍ، خبراً ل «كان» و «مِنْكُمْ» : إمَّا متعلِّقٌ بكانَ عندَ مَنْ يرى أنها تعمَلُ في الظَّرفِ وشبهِهِ، وإمَّا بمَحْذُوفٍ على أنه حالٌ من فاعل يُؤمِنُ. فإن قيل: لِمَ أتى باسمِ الإشارة
165
البعيدِ والمشارُ إليه قريب وهو الحكم المذكورُ في العَضْل؟
والجواب: أَنَّ ذلك دليلٌ على تعظيم المُشارِ إليه.
وخَصَّصَ هذا الوعظِ بالمؤمنينَ دون غيرهم؛ لأنَّهُم المنتفِعُون به فلذلك حسنَ تخصيصهم؛ كقوله: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] وهو هدى لِلْكُلِّ، كما قال: ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وقال: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: ٤٥] ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر﴾ [يس: ١١]، مع أَنَّهُ كان منذراً لِلْكُلِّ؛ كما قال: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ [الفرقان: ١].

فصل في خطاب الكفار بفروع الشريعة


احتجُّوا بهذه الآيةِ على أَنَّ الكفار ليسُوا بمخاطبين بفروع الإِسلام؛ لأن تَخْصِيصهُ
166
المؤمنين بالأَحكام المُشَار إليها، دليلٌ على أَنَّ التكليف مختصٌّ بِمَنْ يؤمنُ باللهِ واليوم الآخر.
وأُجيبوا بأَنَّ التكليف قد ورد عامّاً؛ قال تعالى ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران: ٩٧] وبيانُ الأَحكام وإن كان عامّاً في حق كل المكلَّفين، إلاَّ أَنَّه قد يكونُ ذلك البيانُ وعظاً للمؤمنين؛ لأن هذه التكاليف إِنَّما تتوجه على الكُفَّار على سبيل إثباتها بالدليل القاهر الملزم المعجز، وأَمَّا المؤمنُ المقرُّ فإِنَّما تدكرُ له وتُشْرَحُ على سبيل العظةِ، والتحذير.
قوله تعالى: ﴿أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ [البقرة: ٢٣٢] زكا الزرعُ إذا نما وأَلِفُ أزكى منتقلةٌ عن واو، وقوله: «أزكى» إشارةٌ إلى استحقاقِ الثَّوابِ، وقوله: ﴿وَأَطْهَرُ﴾ إشارة إلى إزالة الذنُوبِ.
قال المفَسِّرون: أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ مِنَ الرِّيبةِ. و «لكم» متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل «أزكى» فهو في محلِّ رفع وقوله: «وَأَطْهَرُ» أي: لَكُمْ، والمُفَضَّلُ عليه محذوفٍ؛ لِلْعِلْم به، أي: مِنَ العَضْل.
قوله: ﴿والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ معناه: أَنَّ المكلَّف وَإِنْ كان يعلمُ وجه الصَّلاح في هذه التكاليف على الجملة، إلاَّ أَنَّ التفصيل غير معلومٍ، واللهُ تعالى عالِمٌ في كل ما أَمَر ونهى، بالكمية والكَيْفية بحسب الواقِع وبِحسب التقدير؛ لأنَّه تعالى عالِمٌ بما لا نهايةَ له من المعلُوماتِ.
قال بعض المفسِّرين: معناه أَنَّ لكُل واحدٍ من الزوجين، قَدْ يكونُ في نفسه من
167
الآخر علاقةُ حُبٍّ لم يُؤمن أَنْ يتجاوزَ ذلك إلى غير ما أَحَلَّ اللهُ لهما، ولم يُؤمن من الأَولياء أنْ يسبق إلى قُلُوبهم منهما ما لعلهما أَنْ يكُونا بريئين من ذلك، فَيَأثمون واللهُ يعلم من حُبِّ كُلّش واحدٍ منهما لصاحبه، ما لا تعلمون أَنْتم.
168
قوله تعالى: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ﴾ كقوله ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٨] فليُلْتفتْ إليه.
قال القرطبي: لما ذكر اللهُ تعالى النِّكاح والطَّلاق ذكر الولد؛ لأن الزَّوجين قد يفترِقانِ وثمَّ وَلَدٌ فالآية إِذن في المطلَّقاتِ اللاتي لهُنَّ أولادٌ من أزواجهنَّ، قاله السُّدِّيُّ، وغيره.
قال: ﴿والوالدات﴾ ولم يقل والزَّوجاتُ، لأن أُمَّ الطِّفل قد تكُونُ مَطَلَّقَةً والوالدُ والوالدةُ صفتان غالبتانِ، جاريتانِ مَجْرى الجوامد؛ ولذلك لم يُذْكر موصوفهما.
وقوله: ﴿حَوْلَيْنِ﴾ منصُوبٌ على ظرفِ الزمانِ، ووصفهما بكاملين دفعاً للتجوُّز، إِذْ قَد يُطْلَقُ «الحَوْلاَنِ» على الناقصين شهراً وشهرين، من قولهم أَقَامَ فلانٌ بمكان كذا حَوْلَين أو شهرين وإِنَّما أقامَ حَوْلاً وبعض الآخر، ومثله: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٠٣] ومعلومٌ أنه يتعجَّل في يومٍ، وبعض اليوم الثَّاني، والحَولُ مِنْ حال الشَّيءُ يحولُ إذا انقلب، فالحَوْلُ مُنقلب من الوقْتِ الأَول إلى الثاني. وسُمِّيت السنةُ حولاً؛ لتحوُّلها، والحَوْلُ أيضاً: الحَيْلُ، ويُقالُ: لا حول ولا قوةَ، ولا حَيْلَ وَلاَ قُوَّةَ.

فصل في تفسير «الوالدات»


في «الوَالِدَات» ثلاثةُ أقوال:
أحدها: أَنَّ المراد منهُ جميعُ الوَالِدَاتِ سواءٌ كُنَّ مطلقاتٍ، أو متزوِّجاتٍ لعُمُومِ اللَّفظِ.
الثاني: المرادُ مِنْهُ المطلقاتُ؛ لأَنَّه ذكر هذه الآية عقيب آية الطَّلاقِ، ومناسبتهُ من وجهين:
الأول: أنه إذا طُلِّقَت المرأةُ، فيحصلُ التباغض، فقد تُؤذِي المرأةُ الطفلَ لأَمرين:
168
إِمَّا لأنَّ إيذاءَهُ يتضمَّنُ إيذاءَ الأَبِ، وإِمَّا لرغبتها في زوجٍ آخر فيفضي إلى إِهْمالِ أَمْرِ الطِّفْلِ.
الثاني: قال السُّدِّيُّ: ومما يدلُّ على أَنَّ المراد منه المطلقاتُ، قوله بعد ذلك: ﴿وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾. ولو كانت زوجةً، لوجب على الزَّوج ذلك مِنْ غير إرضاعٍ.
ويمكن الجوابُ عن الأَوَّل: أَنَّ هذه الآية مشتملةٌ على حُكم مستقلٍّ بنفسه، فلم يجب تعلُّقُها بما قبلها، وعن قول السديّ: أَنَّه لا يبعُدُ أَنْ تستحِقَّ المرأةُ قدراص مِنَ المالِ، لمكانِ الزوجيَّة، وقَدْراً آخر للإرضاع، ولا مُنافاة بين الأَمرينِ.
القول الثالث: قال الواحديُّ في «البَسيط» الأَولى أَنْ يحمل على الزوجاتِ في حالِ بقاء النكاحِ؛ لأن المُطلَّقة لا تستحقُّ إلاَّ الأجرة.
فإِنْ قيل: إذا كانت الزوجيةُ باقيةً، فهي مستحقةٌ للنفقة، والكُسْوةِ؛ بسبب النكاحِ سَوَاءٌ أَرْضَعت الولد، أَوْ لَمْ تُرضِعهُ، فما وجهُ تعليق هذا الاستِحقاق بالإِرضاع؟
قلنا: النفقةُ والكسوةُ يجبانِ في مُقابلةِ التمكين، فإذا اشتغلت بالحضانة والإرضاع ولم تتفرغْ لِخدمة الزوج، رُبَّما توهَّمَ مُتوهِّمٌ أَنَّ نفقتها وكسوتها تسقطُ بالخلل الواقع في خدمة الزوجِ؛ فقطعَ اللهُ ذلك الوَهْمَ بإيجاب الرِّزقِ إذا اشتغلت المرأَةُ بالرضاعِ.

فصل


هذا الكلامُ، وإِنْ كان خبراً فمعناه الأَمْرُ؛ وتقديره: يرضِعْنَ أَوْلادهنّ في حُكْمِ الله الذي أَوجبه؛ إِلاَّ أنه حذف ذلك للتصرف في الكَلامِ مع زوالٍ الإِيهامِن وهو أَمرُ استحباب، لا إيجابٍ؛ لأنها لو وجب عليها الرضاعُ لما استحقتِ الأُجرة، وقد قال:
﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٦] وقال: ﴿وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى﴾ [الطلاق: ٦] وإذا ثبت الاستحبابُ، فهو من حيث إِنَّ تربيةَ الطفلِ بلبنِ الأُمِّ أَصْلَحُ له من سائِرِ الأَلبان، ومن حيثُ إِنَّ شفقةَ الأُم أَتَمُّ مِنْ شفقةِ غيرها.

فصل


قال القُرطبي: اختلف الناسُ في الرضاع: هَلْ هو حَقٌّ عليها أو هو حق عليه؟ واللفظُ محتملٌ؛ لأنه لو أراد التَّصريح بوجوبه لقال: وعلى الوَالِدَاتِ رضاعُ أَولادهُنَّ؛ كما قال: ﴿وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ ولكن هو حقٌّ عليها في حَقّ الزَّوجيَّة؛ لأنه يلزمُ في العُرْفِ إذْ قد صار كالشَّرط، إلاَّ أنْ تكونَ شريفةً ذات ترفُّهٍ، فعُرفها ألاَّ تُرْضِعَ وذلك كالشرط؛ ويجب عليها إن لم يقبل غيرها، وهو عليها إذا كان الأبُ مُعدماً؛
169
لاختصاصها به، فإِن ماتَ الأَبُ ولا مال لِلصَّبِيِّ، فذهب مالكٌ في «المُدَوَّنَةِ» غلى أَنَّ الرضاعَ لازمٌ للأُمِّ بخلاف النَّفقةِ، وفي كتاب «ابن الجلاب» : رضاعه في بيتِ المالِ، فأَمَّا المطلَّقةِ طلاقاً بائِناً، فلا رضاع عليها، والرَّضَاعُ على الزَّوج إلاَّ أَنْ تشاء الأُمُّ، فهي أَحَقُّ بأجرةِ المثل، إذا كان الزوجُ مُوسِراً، فإِن كان معدماً، لم يلزمها الرضاعُ إلاَّ أَنْ يكون المولود لا يقبلُ غيرها فتجبر على الرَّضاع وكل من لزمها الإرضاعُ، فأَصابها عُذْرٌ يمنعها منه، عاد الإِرضاع على الأَبِ، وعن مالكٍ: أَنَّ الأَبَ إذا كان مُعدماً، ولا مال للصبي أَنَّ الرضاعَ على الأم لَمْ يكن لها لبنٌ؛ ولها مالٌ، فَإِنَّ الإِرضاع عليها في مالها. وقال الشَّافعيُّ: لا يلزم الرضاعُ إلاَّ والداً أو جَدّاً وإن عَلاَ.

فصل في تحديد الحولين


اختلف العلماءُ في تحديد الحولينِ فقال بعضهم: هو حَدٌّ لبعضِ المولُودين.
روى عكرمة عن ابن عبَّاس: أَنَّها إذا وضعت لستَّةِ أشهرٍ، فإِنَّها تُرْضِعه حولين كاملين، وإن وضعتْ لسبعةِ أشهُر، ترضعُه ثلاثةً وعشرينَ شهراً، وإنْ وضعت لتسعةِ أشهر، تُرضِعه إحدى وعشرين شهراً؛ كل ذلك تمامُ ثلاثين شهراً؛ لقوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾ [الأحقاف: ١٥].
وقال آخرون: هو حَدٌّ لكُلِّ مولُودٍ، لا يُنقصُ رضاعُهُ عن حولين، إلاَّ باتِّفاق الأَبوين فأَيُّهما أراد الفِطَامَ قبل تمام الحولينِ، ليس له ذلك إلاَّ أَنْ يجتمعا عليه؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا﴾ وهذا قولُ ابن جريجٍ، والثوري، ورواية الوالبي، عن ابن عباس.
وقيل: المرادُ من الآية: بيانُ الرضاع الذي يثبتُ به الحرمةُ، أن يكون في الحولينِ، ولا يحرم ما يكون بعدَ الحولين.
قال قتادة: فرض اللهُ على الوالداتِ إِرضاعُ حولينِ كاملين ثم أنزل التخفيف؛ فقال ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة﴾، أي: هذا منتهى الرضاع، ليس فيما دُونَ ذلك حَدٌّ محدودٌ، إِنَّمَا هو على قَدْرِ صلاحِ الصَّبي، وما يعيشُ به، وهذا قولُ عليّ، وابن مسعود، وابن عباسٍ، وابن عمر، وعلقَمة، والشَّعبيِّ، والزهريّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -.
وقال أبو حنيفة: مدةُ الرَّضاعِ ثلاثُون شهراً، واحتج الأَولون بقوله تعالى: {وَفِصَالُهُ
170
فِي عَامَيْنِ} [لقمان: ١٤] وقال - عليه السلام والصلاة - «لا رضاع بعد فصال»
وروى ابن عباس قال: قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «لاَ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلاَّ مَا كَانَ فِي الحَوْلَيْنِ».

فصل


رُوِيَ أَنَّ رجلاً جاء إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقال: تزوجتُ جاريةً بكراً، وما رأيتُ بها ريبةٌ، ثم وَلَدت لستَّةِ أشهرٍ، فقال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال الله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾ [الأحقاف: ١٥] وقال تعالى: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ فالحملُ ستَّةُ أشهرٍ؛ الولدُ ولدكَ.
وعن عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه جِيء بامرأةٍ، وضعت لستةِ أشهر، فشاور في رجمِها، فقال ابنُ عباسٍ: إِنْ خاصَمْتكُم بكتابِ اللهِ - تعالى - خَصَمْتُكُمْ، ثم ذكر هاتين الآيتين واستخرج منهما أَنَّ أَقَلَّ الحملِ ستةُ أشهرٍ، قال: فكأنما أَيْقَظَهُمْ.
قوله: ﴿لِمَنْ أَرَادَ﴾ في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه متعلقٌ بيُرْضِعْنَ، وتكونُ اللامُ للتعليل، و «مَنْ» وَاقِعَةٌ على الآباء، أي: الوالداتُ يُرْضِعْنَ لأجْلِ مَنْ أَرَادَ إِتْمام الرَّضاعةِ مِنَ الآباءِ، وهذا نظيرُ قولك: «أَرْضَعَتْ فلانةٌ لفلانٍ ولدَه».
والثانيك أنها للتَّبيين؛ فتتعلَّق بمحذوفٍ، وتكونُ هذه اللامُ كاللامِ في قوله تعالى: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف: ٢٣]، وفي قولهم: «سُقْياً لك». فاللامُ بيانٌ للمدعوِّ له بالسَّقْي وللمُهَيَّت به، وذلك أَنَّه لمّا ذكر أنَّ الوالداتِ يُرْضِعْنَ أولاَدَهُنَّ حولين كاملين، بيَّنَ أنَّ ذلك الحُكم إنما هو لمَنْ أرادَ أن يتُمَّ الرَّضاعة؛ و «مَنْ» تحتمِلُ حينئذٍ أَنْ يُرادَ بها الوَالِدَاتُ فقط، أَوْ هُنَّ والوالدون معاً، كلُّ ذلك محتملٌ.
والثالث: أنَّ هذه اللامَ خبرٌ لمبتدإ محذوفٍ، فتتعلَّقُ بمحذوفٍ، والتقديرُ: ذلك الحُكمُ لِمَن أرادَ. و «مَنْ» على هذا تكون للوالداتِ والوالدَيْنِ معاً.
قوله: ﴿أَن يُتِمَّ الرضاعة﴾ «أَنْ» وما في حَيَِّزها في محلِّ نصبٍ؛ مفعولاً بأراد، أي:
171
لِمَنْ أَرادَ إِتْمَامَها. والجمهورُ على «يُتمَّ الرَّضَاعَةَ» بالياء المضمومة من «أَتَمَّ» وإِعْمَالُ أنْ الناصبَة، ونصبِ «الرَّضَاعةَ» مفعولاً به، وفتح رائها.
وقرأ مجاهدٌ، والحسنُ، وابنُ محيصن، وأَبُو رجاء: «تَتِمَّ» بفتح التاءِ من تَمَّ، و «الرضَاعَةُ» بالرفعِ فاعلاً، وقرأ أبو حيوة، وابنُ أَبِي عبلة كذلك، إلا أنهما كَسَرا راءَ «الرَّضَاعَة»، وهي لغةٌ كالحَضارةِ، والحِضارة، والبَصْرِيُّونَ يقولون: فتحُ الرَّاءِ مع هاءِ التأنيث، وكسرُها مع عدمِ الهاء، والكُوفيُّون يزعمُونَ العكسَ. وقرأ مجاهدٌ - ويُرْوى عن ابن عبَّاسٍ -: «أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» برفعِ «يُتِمُّ» وفيها قولان:
أحدهما: قولُ البصريِّين: أنها «أَنْ» الناصبةُ، أُهْمِلت؛ حَمْلاً عَلَى «مَا» أُخْتِها؛ لاشتراكِهمَا في المَصْدرية، وأَنشدوا على ذلك قوله: [مجزوء الكامل]
١١٢٣ - إِنِّي زَعِيمٌ يَا نُوَيْ قَةُ إِنْ أَمِنْتِ مِنَ الرَّزَاحِ
أَنْ تَهْبِطِينَ بِلاَدَ قَوْ مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطِّلاَحِ
وقول الآخر: [البسيط]
١١٢٤ - يَا صَاحِبَيَّ فَدَتْ نُفُوسَكُمَا وَحَيْثُمَا كُنْتُمَا لَقِّيتُمَا رَشَدَا
أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا مِنِّي السَّلاَمَ وَأَلاَّ تُشْعِرَا أَحَدَا
فَأَهْمَلَها، ولذلك ثَبَتَ نونُ الرفع، وأَبَوْا أَنْ يَجعلُوها المخفَّفة مِنَ الثقيلةِ لوجهين:
أحدهما: أنه لم يُفْصَل بينها وبين الجملة الفعلية بعدها.
والثاني: أَنَّ ما قبلها ليس بفعلِ علمٍ ويقينٍ.
القول الثاني: وهو قول الكوفيِّين أنها المخفَّفة من الثَّقيلة، وشذَّ وقوعها موقع الناصبة، كما شذَّ وقوع «أنْ» الناصبة موقعها في قوله: [البسيط]
١١٢٥ -................ قَدْ عَلِمُوا... أَلاَّ يَدَانِيَنَا فِي خَلْقِهِ أَحَدٌ
172
وقرأ مجاهدٌ: «الرَّضْعَة» بوزن القصعة.
وعن ابن عباس أنّه قرأ أن يكمل الرضاعة.

فصل


قال القرطبيُّ: قوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة﴾ يدل على أنَّ إرضاع الحولين ليس حتماً؛ لأنه يجوز الفطام قبل الحولين ولكنه تحديد لقطع التَّنازع بين الزَّوجين في مدَّة الرضاع، ولا يجب على الأب إعطاء الأجرة، لأكثر من حولين، وإن أراد الأب الفطام قبل هذه المدة، ولم ترض الأمُّ، لم يكن له ذلك.
والرَّضْعُ: مصُّ الثدي، ويقال للَّئيم: راضعٌ، وذلك أنه يخاف أن يحلب الشاة؛ فيسمع منه الحلب؛ فيطلب منه اللبن، فيرتضع ثدي الشاة بفمه.
قوله: ﴿وَعلَى المولود لَهُ﴾ هذا الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ، والمبتدأ قوله: «رِزْقُهُنَّ»، و «أَلْ» في المولود موصولةٌ، و «لَهُ» قَائِمٌ مقام الفاعل للمولود، وهو عائد الموصول، تقديره: وعلى الذي ولد له رزقهنَّ، فحذف الفاعل، وهو الوالدات، والمفعول، وهو الأولاد، وأقيم هذا الجارُّ والمجرور مقام الفاعل.
وذكر بعض النَّاس أنه لا خلاف في إقامة الجارِّ والمجرور مقام الفاعل، إلاَّ السُّهيليَّ، فإنَّه منع من ذلك؛ وليس كما ذكر هذا القائل، فإنَّ البصريِّين أجازوا هذه المسألة مطلقاً، والكوفيُّون قالوا: إن كان حرف الجرِّ زائداً جاز نحو: ما ضربَ من أحدٍ، وإن كان غير زائدٍ، لم يجز، ولا يجوز عندهم أن يكون الاسم المجرور في موضع رفعٍ باتفاقٍ بينهم. ثم اختلفوا بعد هذا الاتفاق في القائم مقام الفاعل.
فذهب الفرَّاء: إلى أنَّ حرف الجرِّ وحده في موضع رفعٍ، كما أنَّ «يَقُومُ» من «زَيْدٌ يَقُومُ» في موضع رفع.
وذهب الكسائيُّ، وهشام: إلى أنَّ مفعول الفعل ضميرٌ مستترٌ فيه، وهو ضميرٌ مبهمٌ من حيث أن يراد به ما يدلُّ عليه الفعل من مصدرٍ، وزمانٍ، ومكانٍ، ولم يدلَّ دليلٌ على أحدها.
وذهب بعضهم إلى أنَّ القائم مقام الفاعل ضمير المصدر، فإذا قلت: «سِيرَ بزيدٍ» فالتقدير: سِير هو، أي: السَّيْرُ؛ لأنَّ دلالة الفعل على مصدره قويةٌ، ووافقهم في هذا بعض البصريين.
قوله
: ﴿بالمعروف
يجوز أن يتعلَّق بكلِّ من قوله: «رزقُهنَّ» و «كِسْوَتُهنَّ» على أنَّ
173
المسألة من باب الإعمالن وهو على إعمال الثاني، إذ لو أعمل الأول، لأُضمر في الثاني، فكان يقال: وكسوتهنَّ به بالمعروف. هذا إن أُريد بالرزق والكسوة، المصدران، وقد تقدَّم أنَّ الرزق يكون مصدراً، وإن كان ابن الطَّراوة قد رَّد على الفارسيّ ذلك؛ في قوله: ﴿مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض شَيْئاً﴾ [النحل: ٧٣] كما سيأتي تحقيقه في النَّحل، إن شاء الله تعالى. وإن أُريد بهما اسم المرزوق، والمكسوِّ كالطِّحن، والرِّعي، فلا بدَّ من حذف مضافٍ، تقديره: اتِّصال، أو دفع، أو ما أشبه ذلك، ممَّا يصحُّ به المعنى، ويكون «بالمعروف» متعلِّقاً بمحذوفٍ، على أنه حالٌ منهما. وجعل أبو البقاء العامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمَّنه «على».
والجمهور على «كِسْوَتهنَّ» بكسر الكاف، وقرأ طلحة بضمِّها، وهما لغتان في المصدر، واسم المكسوِّ وفعلها يتعدَّى لاثنين، وهما كمفعولي «أَعْطَى» في جواز حذفهما، أو حذف أحدهما؛ اختصاراً أو اقتصاراً، قيل: وقد يتعدَّى إلى واحدٍ؛ وأنشدوا: [المتقارب]
١١٢٦ - وَأَرْكَبُ في الرَّوْعِ خَيْفَانَةٌ كَسَا وَجْهَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ
ضمَّنه معنى غطَّى، وفيه نظرٌ؛ لاحتمال أنَّه حذف أحد المفعولين؛ للدلالة عليه، أي: كَسَا وجهها غبار أو نحوه.

فصل


و ﴿المولود لَهُ﴾ هو الوالد، وإنَّما عبَّر عنه بهذا الاسم لوجوه:
أحدها: قال الزَّمخشريُّ: والسَّبب فيه أن يعلم أنَّ الوالدات إنما ولدت الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمَّهات؛ وأنشدوا للمأمون: [البسيط]
١١٢٧ - وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أَبْنَاءُ
وثانيها: أنّه تنبيهٌ على أَنَّ الولد إنما يلتحق بالوالد؛ لكونه مولوداً على فراشه، على ما قاله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» فكأنّه قال: إذا ولدت المرأة الولد
174
لأجل الرَّجل وعلى فراشه، وجب عليه رعاية مصالحه، [فنبه على أنَّ سبب النَّسب، والالتحاق محدودٌ بهذا القدر.
وثالثها: ذكر الوالد بلفظ «المَوْلُودِ [لَهُ] » تنبيهاً على أنَّ نفقته عائدةٌ إليه، فيلزمه رعاية مصالحه] كما قيل: كلُّه لك، وكلُّه عليك.
فإن قيل: فما الحكمة في قول موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لأخيه: ﴿قَالَ ياابنأم﴾ [طه: ٩٤] ولم يذكر أباه.
فالجواب: أنّه أراد بذكر الأم [أنْ] يذكر الشفقة فإنَّ شفقة الأمِّ أعظم من شفقة الأب.

فصل


اعلم أنَّ الله تعالى كما وصَّى الأمَّ برعاية جانب الطِّفل، في قوله: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ - وصَّى برعاية جانب الأمِّ، حتَّى تقوى على رعاية مصلحة الطفل، فأمره برزقها، وكسوتها بالمعروف، وهذا المعروف قد يكون محدوداً بشرطٍ وعقدٍ، وقد يكون غير محدودٍ إلاَّ من جهة العرف لأنّه إذا قام بما يكفيها من طعام وكسوتها، فقد استغنى عن تقدير الأجرة فإنه إن لم يقم بما يكفيها من ذلكن تضرَّرت وضررها يتعدى إلى الود، ولمّا وصَّى الأمَّ برعاية الطفل أوّلاً ثم وصَّى الأب برعايته ثانياً، دلَّ على أنَّ احتياج الطفل إلى رعاية الأمِّ أشدُّ من احتياجه إلى رعاية الأب؛ لأنَّه ليس بين الطفل وبين رعاية الأمّ واسطةٌ أَلْبَتَّةَ؛ ورعاية الأب إنَّما تصل إلى الطفل بواسطة، فإنّه يستأجر المرأة على رضاعته، وحضانته بالنفقة، والكسوة، وذلك يدلُّ على أنَّ حقَّ الأمِّ أكثر من حقِّ الأب، والأخبار المطابقة لهذا المعنى كثيرةٌ مشهورةٌ.
قوله: ﴿لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ﴾ الجمهور على «تُكَلَّفُ» مبنياً للمفعول، «نفسٌ» قائم مقام الفاعل، وهو الله تعالى، ﴿وُسْعَهَا﴾ مفعول ثانٍ، وهو استثناءٌ مفرغٌ؛ لأنَّ «كَلَّفَ» يتعدَّى لاثنين. قال أبو البقاء: «ولو رُفِعَ الوُسْعُ هنا، لم يَجُزْ؛ لأنه ليس ببدَلٍ».
وقرأ أبو جراء: «لاَ تَكَلَّفُ نَفْسٌ» بفتح التَّاء، والأصل: «تَتَكَلَّفُ» فحذفت إحدى التاءين؛ تخفيفاً: إمَّا الأولى، أو الثانية على خلافٍ في ذلك تقدَّم، فتكون «نَفْسٌ» فاعلاً، و «وُسْعَها» مفعولٌ به، استثناء مفرَّغاً أيضاً. وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء أيضاً: «لا يُكَلِّفُ نَفْساً» بإسناد الفعل إلى ضمير الله تعالى، فتكون «نَفْساً» و «وُسْعَها» مفعولين.
175
والتكليفُ: الإلزام، وأصله من الكلف، وهو الأثر من السَّواد في الوجه؛ قال: [البسيط]
١١٢٨ - يَهْدِي بِهَا أَكْلَفُ الخَدَّيْنِ مُخْتَبَرٌ مِنَ الْجِمَالِ كَثِيرُ اللَّحْمِ عَيْثُومُ
فمعنى «تَكَلَّفَ الأَمْرَ»، أي: اجتهد في إظهار أثره.
وفلانٌ كَلِفٌ بكذا: أي مُغْرًى به.
و «الوُسْعُ» هنا ما يسع الإنسان فيطيق أخذه من سعة الملك أي الغرض، ولو ضاق لعجز عنه، فالسَّعة بمنزلة القدرة، ولهذا قيل: الوسع فوق الطَّاقة، والمراد منه: أنَّ أبا الصّبي لا يتكلّف الإنفاق عليه، وعلى أُمِّه، إلاَّ ما تتسع له قدرته، لأنَّ الوسع ما تتَّسع له القدرة، ولا يبلغ استغراق القدرة؛ وهو نظير قوله تعالى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا﴾ [الطلاق: ٧].

فصل في احتجاج المعتزلة بالآية


تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في أنَّ الله - تعالى - لا يكلّف العبد ما لا يقدر عليه.
وقوله: ﴿لاَ تُضَآرَّ﴾ ابن كثير، وأبو عمرو: «لا تُضَارُّ» برفع الراء مشددةً، وتوجيهها واضح، لأنه فعلٌ مضارعٌ لم يدخل عليه ناصبٌ ولا جازمٌ فرفع، وهذه القراءة مناسبةٌ لما قبلها، من حيث إنه عطف جملة خبريّةٌ على خبرية مثلها من حيث اللفظ وإلاَّ فالأولى خبريةٌ لفظاً ومعنًى، وهذه خبريةٌ لفظاً نهييَّةٌ معنًى ويدل عليه قراءة الباقين كما سيأتي.
قال الكسائيُّ والفراء: هو نسقٌ على قوله: «لاَ يُكَلِّفُ».
قال عليبن عيسى: هذا غلطٌ؛ لأنَّ النَّسق ب «لا» إنَّما هو إخراج على إخراج الثَّاني مما دخل فيه الأوَّل نحو: «ضربتُ زيداً لا عمراً» فأمّا أن يقال: يقوم زيدٌ لا يقعد عمرو، فهو غير جائزٍ على النِّسق، بل الصواب أنَّه مرفوعٌ على الاستئناف في النَّهي كما يقال: لا تضرب زيداً لا تقتل عمراً.
وقرأ باقي السَّبعة: بفتح الراء مشدّدةً، وتوجيهها أنَّ «لا» ناهيةٌ، فهي جازمةٌ،
176
فسكنت الراء الأخيرة للجزم، وقبلها راء ساكنةٌ مدغمةٌ فيها، فالتقى ساكنان؛ فحرَّكنا الثانية لا الأولى، وإن كان الأصل الإدغام، وكانت الحركة فتحةًن وإن كان أصل التقاء الساكنين الكسر؛ لأجل الألف؛ إذ هي أُخت الفتحة، ولذلك لمَّا رخَّمت العرب «إِسْحَارّ» وهو اسم نباتٍ، قالوا: «إِسحارَ» بفتح الراء خفيفةً، لأنهم لمَّا حذفوا الراء الأخيرة، بقيت الراء الأولى ساكنةً، والألف قبلها ساكنةٌ؛ فالتقى ساكنان، والألف لا تقبل الحركة؛ فحرَّكوا الثاني وهو الراء، وكانت الحركة فتحةً؛ لأجل الألف قبلها ساكنة، ولم يكسروا وإن كان الأصل، لما ذكرنا من مراعاة الألف.
وقرأ الحسن بكسرها مشدَّدةً، على أصل التقاء السَّاكنين، ولم يراع الألف.
وقرأ أبو جعفرٍ بسكونها مشدَّدةً، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف، فسكَّن، وروي عنه وعن ابن هرمز: بسكونها مخففة، وتحتمل هذه وجهين:
أحدهما: أن يكون من «ضارَ» «يَضِيرُ»، ويكون السكون لإجراء الوصل مجرى الوقف.
والثاني: أن يكون من ضارَّ يُضَارُّ بتشديد الراء، وإنما استثقل تكرير حرف هو مكرر في نفسه؛ فحذف الثاني منهما، وجمع بين الساكنين - أعني الألف والراء - إمَّا إجراءً للوصل مجرى الوقف، وإمَّا لأنَّ الألف قائمةٌ مقام الحركة، لكونها حرف مدٍّ.
وزعم الزمخشريُّ «أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ إنما اخْتَلَسَ الضَّمة، فتَوَهَّم الراوي أنه سَكَّنَ، وليس كذلك» انتهى. وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك عند ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾ [البقرة: ٦٧] ونحوه.
ثم قراءة تسكين الرَّاء: تحتمل أن تكون من رفعٍ، فتكون كقراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويحتمل أن تكون من فتح، فتكون كقراءة الباقين، والأول أولى؛ إذ التسكين من الضمة أكثر من التسكين من الفتحة؛ لخفَّتها.
وقرأ ابن عبَّاس: بكسر الراء الأولى، والفكِّ، وروي عن عمر بن الخطاب: «لا تُضَارَرْ» بفتح الرَّاء الأولى، والفكِّ؛ وهذه لغة الحجاز، أعني: [فكَّ] المثلين فيما سكن ثانيهما للجزم أو للوقف، نحو: لم نمرر، وامرُرْ، وبنو تميم يدغمون، والتنزيل جاء باللغتين نحو: ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾ [المائدة: ٥٤] في المائدة، قرئ في السَّبع بالوجهين، وسيأتي بيانه واضحاً.
ثمَّ قراءة من شدَّد الراء: مضمومةً أو مفتوحةً، أو مكسورةً، أو مسكَّنةً، أو خفَّفها تحتمل أن تكون الراء الأولى مفتوحة، فيكون الفعل مبنياً للمفعول، وتكون «وَالِدَة» مفعولاً لم يسمَّ فاعله، وحذف الفاعل؛ للعلم به، ويؤيده قراءة عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
177
ويكون معنى الآية ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه ﴿وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾ أي: لا تلقيه المرأة إلى أبيه بعدما ألفها؛ تُضَارُّهُ بذلك.
وقيل: معناه لا تضارُّ والدةٌ؛ فتكره على إرضاعه، إذا كرهت إرضاعه، وقبل الصّبيُّ من غيرها؛ لأنَّ ذلك ليس بواجبٍ عليها، ولا مولودٌ له بولده فيحتمل أن يعطي الأمَّ أكثر مما يجب لها، إذا لم يرتضع الولد من غيرها.
وأن تكون مكسورةٌ، فيكون الفعل مبنياً للفاعل، وتكون «والدة» حينئذٍ فاعلاً به، ويؤيده قراءة ابن عباسٍ.
وفي المفعول على هذا الاحتمال ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو الظاهر - أنه محذوف تقديره: لا تُضَارِرْ والدةٌ زوجَها، بسبب ولدها بما لا يَقْدِرُ عليه مِنْ رِزْقٍ وكُسْوةٍ ونحو ذلك، ولا يُضَارِرْ مَوْلُود له زوجته بسبب ولده بما وجب لها من رزق وكسوةٍ، فالباء للسببية.
والثاني: - قاله الزمخشريُّ - أن يكون «تُضارَّ» بمعنى تضرُّ، وأن تكون الباء من صلته أي: لا تضرُّ والدةٌ بولدها، فلا تسيءُ غداءه، وتعهُّده، ولا يضرُّ الوالد به بأن ينزعه منها بدما ألفها انتهى. ويعني بقوله «الباءُ مِنْ صِلتِه»، أي: تكون متعلقةً به، ومعدِّيةً له إلى المفعول، كهي في «ذَهَبْتُ بزيدٍ» ويكون ضارَّ بمعنى أضرَّ، فاعل بمعنى أفعل، ومثله: ضاعفتُ الحسابَ وأضعفته، وباعدته وأبعدته، فعلى هذا، نفس المجرور بهذه الباء، هو المفعول به في المعنى، والباء على هذا للتَّعدية، كما نظَّرنا بِ «ذَهَبْتُ بزيدٍ»، فإنه بمعنى أذهبته.
والثالث: أنَّ الباء مزيدةٌ، وأنَّ «ضَارَّ» بمعنى ضرَّ، فيكون «فَاعَلَ» بمعنى «فَعَل» المجرّد، والتقدير: لا تضرُّ والدةٌ ولدها بسوء غذائه وعدم تعهُّده، ولا يضرُّ والدٌ ولده بانتزاعه من أمه بعدما ألفها، ونحو ذلك. وقد جاء «فاعل» بمعنى فعل المجرَّد نحو: واعدته، ووعدته، وجاوزته وجزته، إلاَّ أنَّ الكثير في فاعل الدَّلالة على المشاركة بين مرفوعه ومنصوبه، ولذلك كان مرفوعه منصوباً في التَّقدير، ومنصوبه مرفوعاً في التقدير، فمن ثمَّ كان التوجيه الأول أرجح من توجيه الزمخشريُّ، وما بعده، وتوجيه الزمخشريِّ أوجه ممَّا بعده.
فإن قيل: لم قال «تُضَارّ» والفعل واحد؟
قلنا: معناه لا يضار الأمُّ والأب بألاَّ ترضع الأم، أو يمنعها الأب وينزعه منها، أو يكون معناه أنّ كلَّ واحدٍ يقصد بإضرار الولد إضرار الآخر؛ فيكون في الحقيقة مضارَّة.
178

فصل في أحكام الحضانة


قال القرطبي: في هذه الآية دليلٌ لمالك على أنَّ الحضانة للأم، وهي في الغلام إلى البلوغ، وفي الجارية إلى النِّكاح، وذلك حقٌّ لها.
وقال الشَّافعيُّ: إذ بلغ الولد ثماني سنين، وهو سنُّ التَّمييز، خيَّر بين أبويه، فإنه في تلك الحالة تتحرّك همّته لتعلُّم القرآن، والأدب، والعبادات، وذلك يستوي فيه الغلام والجارية.
وروى أبو هريرة: «أنَّ امرأَةً جاءت إلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت له: إنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يذْهَبَ بابني، وقد سَقَانِي من بئرِ أبي عنبة وقد نفعني، فقال النَّبيُّ لله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» اسْتَهِما عليه «فقال زوجها: من يحاقُّني في ولدي؟ فقال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هذا أبُوكَ، وهذه أُمُّكَ، فَخُذْ بِيد أيِّهمَا شِئْتَ «فأخذ بيد أُمه فانطلقت به».
ودليلنا ما روى أبو داود، عن عبد الله بن عمرو: أَنَّ امرأةً قَالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ إِنَّ ابني هذا كَانَتْ بَطْنِي له وِعَاء، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاء، وحِجْرِي لَهُ حِوَاء، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقني، وأراد أن ينزعه مني، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَنْتِ أَحَقُّ به ما لم تُنْكَحِي».

فصل من أحق بالحضانة إذا تزوجت الأم؟


قال ابن المنذر: أجمع كلُّ من نحفظ عنه من أهل العلم على ألاَّ حقَّ للأمّ في الولد إذا تزوَّجت.
وقال مالك، والشَّافعيُّ، والنُّعمان، وأبو ثور: إنَّ الجدَّة أُمَّ الأُمِّ أحقُّ بحضانة الولد، واختلفوا إذا لم يكن له أُمٌّ، وكانت له جدَّةٌ أمُّ أبٍ، فقال مالكٌ: أمُّ الأب أحقُّ إذا لم يكن للصَّبي خالةٌ. وقال الشَّافعيُّ: أمُّ الأب أحقُّ من الخالة.

فصل الحضانة للقادر على حقوق الولد


ولا حضانة لفاجرةٍ، ولا لضعيفة عاجزةٍ عن القيام بحقِّ الولد.
179
وروي عن مالك: أنَّ الحضانة للأُمّ، ثم الجدَة للأمّ، ثم الخالة، ثمّ الجدة للأب، ثم أخت الصَّبيِّ، ثم عمَّته.

فصل


قال القرطبيُّ: إذا تزوّجت الأمُّ لم ينزع منها ولدها حتى يدخل بها زوجها في المشهور عندنا.
وقال ابن المنذر: إذا خرجت الأمُّ عن بلد ولدها، ثمَّ رجعت إليه، فهي أحقُّ بولدها: في قول الشَّافعيِّ، وأبي ثور، وأصحاب الرّأي وكذلك لو تزوَّجت ثمَّ طلِّقت، أو توفِّي عنها زوجها، رجعت إلى حقّها في الولد، فإن تركت حقَّها من الحضانة، ولم ترد أخذه، وهي فارغةٌ غير مشغولةٍ، بزوجٍ، ثم أرادت بعد ذلك أخذه كان لها ذلك.
وقال القرطبيُّ: إن كان تركها له من عذر، كان لها ذلك، وإن تركته رفضاً له، ومقتاً، لم يكن لها بعد ذلك أخذه.

فصل


فإن طلَّقها الزَّوج، وكانت الزَّوجة ذِمّيةٌ، فلا حضانة لها.
وقال أبو ثورٍ، وأصحاب الرَّأي، وابن القاسم: لا فرق بين الذِّميَّة والمسلمة. وكذلك اختلفوا في الزَّوجين؛ يفترقان أحدهما [حرٌّ] والآخر مملوكٌ.
قوله: «له» في محلِّ رفعٍ لقيامه مقام الفاعل.
قوله: ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ﴾ فيه دلالةٌ على ما يقوله النَّحويُّون، وهو أنَّه إذا اجتمع مذكَّرٌ ومؤنَّثٌ، معطوفاً أحدهما على الآخر، كان حكم الفعل السابق عليهما للسابق منهما، تقول: قام زيدٌ وهندٌ، فلا تلحق علامة تأنيثٍ، وقامت هندٌ وزيدٌ، فتُلحق العلامة، والآية الكريمة من هذا القبيل، ولا يستثنى من ذلك إلاَّ أن يكون المؤنث مجازيّاً، فيحسن ألاَّ يراعى المؤنَّث، وإن تقدَّم؛ كقوله تعالى:
﴿وَجُمِعَ الشمس والقمر﴾ [القيامة: ٩].
وفي هذه الجمل من علم البيان: الفصل، والوصل.
أما الفصل: وهو عدم العطف بين قوله: «لا تُكَلَّفُ نفسٌ» على ما قبلها؛ لأنها مع ما بعدها تفسيرٌ لقوله «بالمعروف».
180
وأمَّا الوصل: وهو العطف بين قوله: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ﴾، وبين قوله: ﴿وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ﴾ ؛ فلأنَّهما جملتان متغايرتان في كلٍّ منهما حكمٌ ليس في الأخرى. ومنه أيضاً إبراز الجملة الأولى مبتدأً وخبراً، وجعل الخبر فعلاً؛ لأنَّ الإرضاع مما يتجدَّدُ دائماً. وأُضيفت الوالداتُ للأولاد؛ تنبيهاً على شفقتهنَّ، وحثاً لهنَّ على الإرضاع.
وجيء بالوالدات بلفظ العموم، وإن كان جمع قلَّة؛ لأنَّ جمع القلَّة متى حلِّي بأل، عمَّ، وكذلك «أَوْلاَدَهُنَّ» عامٌّ؛ لإضافته إلى ضمير العامِّ، وإن كان - أيضاً - جمع قلَّةٍ.
وفيها أيضاً إبراز الجملة الثانية مبتدأً وخبراً، والخبر جارٌّ ومجرورٌ بحرف «على» الدالِّ على الاستعلاء المجازيّ في الوجوب، وقدِّم الخبر؛ اعتناءً به. وقدِّم الرزقُ على الكسوة؛ لأنه الأهمُّ في بقاء الحياة، ولتكرره كل يومٍ.
وأبرزت الثالثة فعلاً، ومرفوعه، وجعل مرفوعه نكرةً في سياق النفي؛ ليعمَّ، ويتناول ما سبق لأجله من حكم الوالدات في الإرضاع، والمولود له في الرزق، والكسوة الواجبتين عليه للوالدة.
وأبرزت الرابعة كذلك؛ لأنَّها كالإيضاح لما قبلها؛ والتفصيل بعد الإجمال؛ ولذلك لم يعطف عليها كما ذكرته لك. ولمَّا كان تكليف النفس فوق الطاقة، ومضارَّةُ أحد الزوجين للآخر ممَّا يتكرَّر ويتجدَّد، أتى بهاتين الجملتين فعليتين، وأدخل عليهما حرف النَّفي وهو «لا» ؛ لأنه موضوعٌ للاستقبال غالباً.
وأمَّا في قراءة من جزم، فإنَّها ناهيةٌ، للاستقبال فقط، وأضاف الولد إلى الوالدة والمولود له؛ تنبيهاً على الشفقة والاستعطاف، وقدَّم ذكر عدم مضارَّة الوالدة على ذكر عدم مضارة الوالد؛ مراعاةً لما تقدَّم من الجملتين، إذ قد بدأ بحكم الوالدات وثنَّى بحكم الوالد.
قوله: ﴿وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك﴾ هذه جملةٌ من مبتدأ وخبر، قدَّم الخبر؛ اهتماماً، ولا يخفى ما فيها، وهي معطوفة على قوله: ﴿وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ﴾ وما بينهما اعتراضٌ؛ لأنه كالتَّفسير لقوله: «بِالْمَعْرُوفِ» كما تقدَّم التنبيه عليه.
والألف واللاَّم في «الوَارِثِ» بدلٌ من الضَّمير عند من يرى ذلك، ثم اختلفوا في ذلك الضَّمير هل يعود على المولود له، وهو الأب، فكأنه قيل: وعلى وارثه، أي: وارث المولود له، أو يعود على الولد نفسه، أي: وارث الولد؟ وهذا على حسب اختلافهم في الوارث.
وقرأ يحيى بن يعمر: «الوَرَثَةِ» بلفظ الجمع، والمشار إليه بقوله: «مثلُ ذلك» إلى
181
الواجب من الرزق والكسوة، وهذا أحسن من قول من يقول: أشير به إلى الرزق والكسوة. وأشير بما للواحد للاثنين؛ كقوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨]. وإنما كان أحسن؛ لأنه لا يحوج إلى تأويلٍ، وقيل: المشار إليه هو عدم المضارَّة، قاله الشعبيُّ، والزهري، والضحاك، وقيل: منهما وهو قول الجمهور.
وقيل: أجرة المثل.

فصل في المراد ب «الوارث»


في المراد ب «الوارث» أربعة أقوالٍ:
أحدها: قال ابن عباس: المراد وارث الأب؛ لأنَّ قوله: ﴿وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك﴾ معطوفٌ على قوله: ﴿وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف﴾ وما بينهما اعتراضٌ لبيان المعروف، والمعنى أنَّ المولود له إن مات، فعلى وارثه مثل ما وجب عليه، أي: يقوم وارثه مقامه في رزقها وكسوتها بالمعروف وتجنُّب الإضرار.
قال أبو مسلم الأصبهانيُّ: وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ الولد أيضاً يرثه فيؤدِّي ذلك إلى وجوب نفقته على غيره حال ما له مال ينفق منه، وهذا غير جائزٍ.
قال ابن الخطيب: ويمكن أن يجاب بأنَّ الصبيَّ إذا ورث من أبيه مالاً، فإنَّه يحتاج إلى من يقوم بتعهُّده والنَّفقة عليه بالمعروف، ويدفع الضَّرر عنه، وهذه الأشياء يمكن إيجابها على وارث الأب.
القول الثاني: أنَّ المراد وارث الصبيِّ، فيجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب، هذا قول الحسن، وقتادة، وأبي مسلم، والقاضي، ثم اختلفوا في أنه أيُّ وارثٍ هو؟ فقيل: العصبات من الرِّجال، وهو قول عمر بن الخطَّاب، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وسفيان، وإبراهيم.
وقيل: هو وارث الصبيِّ من الرِّجال والنساء على قدر مواريثهم منه، وهو قول قتادة وابن أبي ليلى، ومذهب أحمد وإسحاق.
وقيل: المراد من كان ذا رحمٍ محرمٍ دون غيرهم؛ كابن العمِّ والمولى، وهو قول أبي حنيفة.
وظاهر الآية يقتضي أَلاَّ فرق بين وارثٍ ووارثٍ، ولولا أن الأمَّ خرجت من حيث إنَّه أوجب الحقَّ لها، لصحَّ دخولها تحت الكلام؛ لأنَّها قد تكون وارثةً للصبيِّ كغيرها.
182
القول الثالث: المراد من الوارث الباقي من الأبوين، كا جاء في الدعاء: «واجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا» أي: الباقي، وهو قول سفيان وجماعة.
القول الرابع: المراد الصبيُّ نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفَّى، فإن كان له مالٌ، وجب أجرة رضاعه في ماله، وإن لم يكن له مال، فعلى الأمِّ، ولا يجبر على نفقة الصبيِّ إلاَّ الوالدان، وهو قول مالكٍ والشافعيِّ.
قوله: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً﴾.
في الفصال قولان:
أحدهما: أنَّه الفطام؛ لقوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾ [الأحقاف: ١٥] وإنَّما سمي الفطام بالفصال؛ لأنَّ الولد ينفصل عن الاغتذاء بثدي أمِّه إلى غيره من الأقوات.
والثاني: قال أبو مسلم: ويحتمل أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الولد والأمِّ، إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك، ولم يرجع بسبب ذلك ضررٌ إلى الولد.
قال المبرِّد: والفصال، يقال: فصل الولد عن الأمِّ فصلاً وفصالاً، والفصال أحسن؛ لأنَّه إذا انفصل عن أمِّه، فقد انفصلت منه، فبينهما فصالٌ، نحو القتال والضِّراب، وسمِّي الفصيل فصيلاً؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمِّه؛ ويقال: فصل من البلد، إذا خرج عنها وفارقها؛ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود﴾ [البقرة: ٢٤٩]، وحمل الفصال على الفطام هو قول أكثر المفسرين.
اعلم أنَّه لمَّا بيَّن تمام مدَّة الرضاع بقوله: ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ وجب حمل هذه الآية على غير ذلك، حتى لا يلزم التَّكرار، واختلفوا في ذلك: فمنهم من قال: إنَّها تدلُّ على جواز الفطام قبل الحولين وبعدهما، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس.
قوله تعالى: ﴿عَن تَرَاضٍ﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ إذ هو صفةٌ ل «فِصَالاً» فهو في محلِّ نصبٍ، أي: فصالاً كائناً عن تَرَاضٍ، وقدَّره الزمخشريُّ: صادراً عن تَرَاضٍ، وفيه نظرٌ من حيث كونه كوناً مقيَّداً.
183
والثاني: أنه متعلقٌ ب «أَرَادَا»، قاله أبو البقاء، ولا معنى له إلاَّ بتكلّف. والفصال، والفصل: الفطام، وأصله التفريق، فهو تفريقٌ بين الصبيِّ والثَّدي، ومنه سمِّي الفصيل؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمه.
و «عَنْ» للمجاوزة مجازاً؛ لأنَّ التَّراضي معنًى، لا عينٌ.
و «تَرَاضٍ» مصدر تفاعل، فعينه مضمومةٌ، وأصله: تفاعلٌ تراضوٌ، ففعل فيه ما فعل ب «أدْلٍ» جمع دلوٍ، من قلب الوالو ياءً، والضمة قلبها كسرةً، إذ لا يوجد في الأسماء المعربة واوٌ قبلها ضمةٌ لغير الجمع إلا ويفعل بها ذلك تخفيفاً.
قوله تعالى: ﴿مِّنْهُمَا﴾ في محلِّ جرٍّ صفةً ل «تَرَاضٍ»، فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي: تَرَاضٍ كائنٍ أو صادرٍ منهما، و «مِنْ» لابتداء الغاية.
وقوله: ﴿وَتَشَاوُرٍ﴾ [حذفت «مِنْهُمَا» لدلالة ما قبلها عليها، والتقدير: وتشاور منهما]، ويحتمل أن يكون التَّشاور من أحدهما، مع غير الآخر؛ لتتفق الآراء منهما، ومن غيرهما على المصلحة.
قوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ الفاء جواب الشَّرط، وقد تقدَّم نظير هذه الجملة، ولا بُدَّ قبل هذا الجواب من جملةٍ قد حذفت؛ ليصحَّ المعنى بذلك، تقديره: ففصلاه أو فعلا ما تراضيا عليه، فلا جناح عليهما في الفصال، أو في الفصل.

فصل في التشاور


التشاور في اللُّغة: استخراج الرَّأْي، وكذلك المشورة كالمعونة، وشرت العسل، إذا استخرجته.
وقال أبو زيدٍ: شُرت الدَّابَّةَ، وشَوَّرْتُهَا، أجريتها لاستخراج جريها في الموضع الذي تعرض فيه الدوابُّ، يقال له: الشّوار، والشَّوار بالفتح متاع البيت؛ لأنَّه يظهر للنَّاظر، ويقال: شوَّرته فتشوَّر، أي: خجلته، والشَّارة: هيئة الرَّجل؛ لأنَّه ما يظهر من زينته ويبدو منها، والإشارة: إخراج ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنُّطق وغيره.

فصل في مدة الفطام


دلَّت الآية على أن الفطام في أقلَّ من حولين لا يجوز إلاَّ عند رضا الوالدين، وعند المشاورة مع أرباب التَّجارب، وذلك لأنَّ الأمَّ قد تملُّ من الرَّضاع فتحاول الفطام؛ والأب أيضاً قد يملُّ من عطاء الأجرة على الإِرْضَاع، فيحاول الفِطَام؛ دَفْعاً لذلك، لكنهما قلَّما يتوافقان على الإضرار بالولد؛ لغرض النَّفس، ثم بتقدير توافقهما: اعتبر
184
المشاورة مع غيرهما، وعند ذلك يبعد حصول موافقة الكلِّ على ما يكون فيه ضرر الولد، فعند اتِّفاق الكلِّ على أنَّ الفطام قبل الحولين لا يضرُّ الولد ألبتَّة يجوز الفطام.
فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير، كم شرط في جواز فطامه من الشروط؛ دفعاً للمضارِّ عنه، ثم عند اجتماع هذه الشَّرائط لم يصرِّح بالإذن، بل قال: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾.
قوله: ﴿وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ﴾.
«أن» وما في حيِّزها في محلِّ نصبٍ، مفعولاً ب «أَرَاد» وفي «اسْتَرْضَعَ» قولان للنَّحويين:
أحدهما: أنه يتعدَّى لاثنين، ثانيهما بحرف الجرِّ، والتقدير: أن تسترضعوا المراضع لأولادكم، فحذف المفعول الأوَّل وحرف الجر من الثاني، فهو نظير «أَمَرْتُ الخَيْرَ»، ذكرت المأمور به، ولم تذكر المأمور؛ لأنَّ الثاني منهما غير الأوَّل، وكلُّ مفعولين كانا كذلك، فأنت فيهما بالخيار بين ذكرهما وحذفهما، وذكر الأوَّل، دون الثاني والعكس.
قال الواحديُّ: «أن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ»، أي: لأَوْلاَدِكُمْ وحذف اللام، اجتزاءً بدلالة الاسترضاع؛ لأنَّه لا يكون إلاَّ للأولاد، ولا يجوز: «دَعَوْتُ زَيْداً» وأنت تريد لزيد؛ لأنَّه لا يلتبس ها هنا خلاف ما قلنا في الاسترضاع، ونظير حذف «اللاَّم» قوله تعالى: ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: ٣] أي: كالو لهم، أو وزنوا لهم.
والثاني: أنه متعدٍّ إليهما بنفسه، ولكنه حذف المفعول الأول، وهذا رأي الزمخشريِّ، ونظَّر الآية الكريمة بقولك: «أَنَجَحَ الحَاجَةَ» «وَاسْتَنْجَحَتْهُ الحَاجَةُ» وهذا يكون نقلاً بعد نقلٍ؛ لأنَّ الأصل «رَضِعَ الوَلَدُ»، ثم تقول: «أَرْضَعَت المَرْأَةُ الوَلَدَ»، ثم تقول: «اسْتَرْضَعْتُهَا الوَلَدَ» ؛ هكذا قال أبو حيَّان.
قال شهاب الدين: وفيه نظر؛ لأنَّ قوله «رضِعَ الوَلَدُ» يشعر أنَّ هذا لازمٌ، ثم عدَّيته بهمزة النقل، ثم عدَّيته ثانياً بسين الاستفعال، وليس كذلك، لأنَّ «رَضِعَ الوَلَدُ» متعدٍّ، غاية ما فيه أنَّ مفعوله غير مذكورٍ، وتقديره: رَضِعَ الوَلَدُ أُمَّهُ؛ لأنَّ المادَّة تقتضي مفعولاً به؛ كضرب، وأيضاً فالتعدية بالسين قول مرغوبٌ عنه، والسين للطلب على بابها؛ نحو: اسْتَسْقَيْتُ زَيْداً مَاءً، واسْتَطْعَمْتُهُ خُبْزاً؛ فكما أنَّ ماءً وخبزاً منصوبان، لا على إسقاط الخافض كذلك «أَوْلاَدَكُمْ»، وقد جاء [استفعل] للطَّلب، وهو معدًّى إلى الثاني بحرف جرٍّ، وإن كان «أَفْعَلَ» الذي هو أصله متعدِّياً لاثنين، نحو: «أَفْهَمَنِي زَيْد المَسْأَلَةَ» واستفهمته عنها، ويجوز حذف «عَنْ»، فلم يجيء مجيءَ «اسْتَسْقَيْتُ» و «اسْتَطْعَمْتُ» من كون ثانيهما منصوباً، لا على إسقاط الخافض.
185
وفي هذا الكلام التفاتٌ وتلوينٌ، أمَّا الالتفات: فإنه خروجٌ من ضمير الغيبة في قوله: «فَإِنْ أَرَادُوا» إلى الخطاب في قوله: «وَإِنْ أَرَدتُّمْ» ؛ إذ المخاطب الآباء والأمهات، وأمَّا التلوين في الضمائر، فإنَّ الأول ضمير تثنيةٍ، وهذا ضمير جمعٍ، والمراد بهما الآباء والأمهات أيضاً؛ وكأنه رجع بهذا الضمير المجموع إلى الوالدات والمولُودِ له، ولكنه غَلَّبَ المُذَكَّرَ، وهو المولودُ له، وإنْ كان مفرداً لفظاً، و «فَلاَ جُنَاحَ» جوابُ الشرطِ.
قوله: ﴿إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم﴾ «إِذَا» شرطٌ حذف جوابه؛ لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه، قال أبو البقاء: وذلك المعنى هو العاملُ في «إذا» وهو متعلِّق بما تعلَّق به «عَلَيْكُم»، وهذا خطأٌ في الظاهر؛ لأنه جعل العامل فيها أولاً ذلك المعنى المدلول عليه بالشَّرط الأوَّل وجوابه، فقوله ثانياً «وهو متعلِّق بما تعلَّق به عَلَيْكُم» تناقضٌ، اللهم إلا أن يقال: قد يكون سقطت من الكاتب ألفٌ، وكان الأصل «أَوْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ» فيصحُّ، إلاَّ أنه إذا كان كذلك، تمحَّضت «إِذَا» للظرفية، ولم تكن للشرط، وكلام هذا القائل يشعر بأنها شرطيةٌ في الوجهين على تقدير الاعتذار عنه.
وليس التَّسليم شرطاً للجواز والصحَّة، وإنَّما هو ندب إلى الأولى، والمقصود منه أن يسلِّم الأجرة إلى المرضعة يداً بيدٍ، حتى تطيب نفسها، ويصير ذلك سبباً لصلاح حال الطِّفل، والاحتياط في مصالحه.
وقرأ الجمهور: «آتَيْتُمْ» بالمدِّ هنا وفي الرُّوم: ﴿وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً﴾ [الروم: ٣٩] وقصرهما ابن كثير. وروى شيبان عن عاصم «أُوتِيتُمْ» مبنيّاً للمفعول، أي: ما أقدركم الله عليه، فأمَّا قراءة الجمهور، فواضحةٌ؛ لأنَّ «آتَى» بمعنى «أَعْطَى»، فهي تتعدَّى لاثنين، أحدهما ضمير يعود على «مَا» الموصولة، والآخر ضميرٌ يعود على المراضع، والتقدير: ما آتيتموهنَّ إيَّاه، ف «هُنَّ» هو المفعول الأوَّل؛ لأنه الفاعل في المعنى، والعائد هو الثاني؛ لأنه هو المفعول في المعنى، والكلام على حذف هذا الضمير، وهو منفصلٌ قد تقدَّم ما عليه من الإشكال، والجواب عند قوله: ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣].
وأمَّا قراءة القصر، فمعناها جئتم وفعلتم يقال: أَتَيْتُ جميلاً، إذا فعلته؛ قال زهيرٌ: [الطويل]
186
أي: فعلوه، والمعنى: إذا سلَّمتم ما جئتم وفعلتم.
فعلى هذه القراءة يكون التَّسليم بمعنى الطَّاعة، والانقياد، لا بمعنى تسليم الأجرة، يعني: إذا سلَّمتم لأمره وانقدتم لحكمه.
وقال أبو عليٍّ: ما أتيتم نقده أو إعطاءه، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهو عائد الموصول، فصار: آتيتموه، أي: جئتموه.
وأما قراءة عاصم، فمعناها: ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة، وهو في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: ٧].
ثم حذف عائد الموصول، وأجاز أبو البقاء أن يكون التقدير: ما جئتم به، فحذف، يعني: حذف على التَّدريج بأن حذف حرف الجرِّ أولاً؛ فاتَّصل الضمير منصوباً بفعلٍ، فحذف.
و «ما» فيها وجهان:
أظهرهما: أنها بمعنى «الَّذِي» وأجاز أبو عليٍّ فيها أن تكون موصولةً حرفيَّةً، ولكن ذكر ذلك مع قراءة القصر خاصَّةً، والتقدير: إذا سلَّمتم الإتيان، وحينئذٍ يستغنى عن ذلك الضَّمير المحذوف، ولا يختصّ ذلك بقراءة القصر، بل يجوز أن تكون مصدريَّةً مع المدِّ أيضاً؛ على أن المصدر واقعٌ موقع المفعول، تقديره: إذا سلَّمتم الإعطاء، أي: المعطى.
والظاهر في «مَا» أن يكون المراد بها الأُجرة التي تتعاطاها المرضع، والخطاب على هذا في قوله: «سَلَّمْتُمْ» و «آتَيْتُمْ» لآباء خاصَّة، وأجازوا أن يكون المراد بها الأولاد، قاله قتادة والزهري، وفيه نظرٌ؛ من حيث وقوعها على العقلاء؛ وعلى هذا فالخطاب في «سَلَّمْتُمْ» للآباء والأمَّهات.
قوله تعالى: ﴿بالمعروف﴾ فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن يتعلَّق ب «سَلَّمْتُمْ» أي: بالقول الجميل.
والثاني: أن يتعلَّق ب «آتَيْتُمْ».
والثالث: أن يكون حالاً من فاعل «سَلَّمْتُمْ»، أو «آتَيتُمْ»، فالعامل فيه حينئذٍ محذوفٌ، أي: مُلْتَبِسِينَ بالمعروف.

فصل


قد تقدَّم أنَّ الأمَّ أحقُّ بالرَّضاع، فإن حصل ثمَّ مانعٌ عن ذلك، جاز العدول عنها إلى غيرها، مثل أن تتزوَّج بزوجٍ آخر، فإنَّ قيامها بحقِّ ذلك الزوج يمنعها من الرَّضاع.
ومنها: إذا طلَّقها الزوج الأوَّل، فقد تكره الرَّضاع؛ حتى يتزوَّج بها زوجٌ آخر.
ومنها: أن تأبى المرأة إرضاع الولد؛ إيذاءً للزَّوج المطلِّق وإيحاشاً له.
187
ومنها: أن تمرض، أو ينقطع لبنها.
فعند أحد هذه الوجوه، إذا وجدنا مرضعةً أخرى، وقبل الطفل لبنها، جاز العدول عن الأمِّ إلى غيرها.
فأمَّا إذا لم نجد مرضعةً أخرى أو وجدناها، لكنَّ الطفل لا يقبل لبنها، فهاهنا الإرضاع واجبٌ على الأمِّ.
ثم إنَّه تعالى ختم الآية بالتَّحذير، فقال: ﴿واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
188
في «الَّذِينَ» أوجهٌ:
أحدها: أنَّها مبتدأٌ لا خبر له، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهنَّ به؛ لأنَّ الحديث معهنَّ في الاعتداد، فجاء الخبر عن المقصود، إذ المعنى: من مات عنها زوجها، تربَّصت، وإليه ذهب الكسائيُّ والفراء؛ وأنشد الفراء: [الطويل]
١١٢٩ - وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ
١١٣٠ - لَعَلِّيَ إِنْ مَالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً عَلَى ابْنِ أَبِي ذِبَّانَ أَنْ يَتَنَدَّمَا
فقال: لَعَلِّيَ «ثم قال:» أَنْ يَتَنَدَّمَ «فأخبر عن ابن أبي ذِبَّانَ، فترك المتكلم؛ إذ التقدير: لعلَّ ابن أبي ذبَّان أن يتندَّم إن مالت بي الرِّيح ميلةً. وقال آخر: [الطويل]
١١٣١ - بَنِي أَسَدٍ إِنَّ ابْنَ قَيْسٍ وَقَتْلَهُ بِغَيْرِ دَمٍ دَارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ
فأخبر عن قتله بأنه دار مذلَّةٍ، وترك الإخبار عن ابن قيسٍ.
وتحرير مذهب الكسائيِّ والفرَّاء: أنه إذا ذكر اسمٌ، وذكر اسم مضافٌ إليه فيه معنى الإخبار ترك عن الأول، وأخبر عن الثاني؛ نحو:»
إنَّ زَيْداً وَأُخْتهُ مُنْطَلِقَةٌ «، المعنى: إن أخت زيدٍ منطلقةٌ، لكنَّ الآية الكريمة والبيت الأول ليسا من هذا الضَّرب، وإنما الذي أورده شبيهاً بهذا الضرب. قوله: [الوافر]
188
وأنكر المبرد والزجاج ذلك؛ قالا: لأن مجيء المبتدأ بدون الخبر محال، وليس هذا موضع البحث في هذا المذهب ودلائله.
الثاني: أنَّ له خبراً اختلفوا فيه على وجوه:
أحدها: أنه» يَتَرَبَّصْنَ «، ولا بدَّ من حذفٍ يصحِّحُ وقوع هذه الجملة خبراً عن الأول؛ لخلوِّها من الرابط، والتقدير: وأزواجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ يَتَرَبَّصْنَ؛ ويدلُّ على هذا المحذوف قوله: ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً﴾ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لتلك الدلالة عليه. والتقدير: يتربَّصن بعدهم، أو بعد موتهم، قاله الأخفش.
وثالثها: أنَّ»
يَتَرَبَّصْنَ «خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، التقدير: أزواجهم يتربَّصْنَ، وهذه الجملة خبرٌ عن الأوَّل، قاله المبرِّد.
ورابعها: أنَّ الخبر محذوفٌ بجملته قبل المبتدأ، تقديره: فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفَّون، ويكون قوله»
يَتَرَبَّصْنَ «جملةً مبيِّنَةً للحكم، ومفسِّرة له، فلا موضع لها من الإعراب، ويعزى هذا لسيبويه.
قال ابن عطيَّة: وَحَكَى المَهْدَوِيُّ عن سيبويه أنَّ المعنى:»
وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُم الذين يُتَوَفَّونَ «، ولا أعرفُ هذا الذي حكاه؛ لأنَّ ذلك إنما يتَّجه إذا كان في الكلام لفظ أمرٍ بعد المبتدأ، نحو قوله تعالى: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا﴾ [المائدة: ٣٨] ﴿الزانية والزاني فاجلدوا﴾ [النور: ٢] وهذه الآية فيها معنى الأمر، لا لفظه، فتحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر.
وخامسها: أن بعض الجملة قام مقام شيء مضافٍ إلى عائدِ المبتدأ، والتقدير:»
وَالَّذِينَ يُتَوفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ أَزْوَاجُهُمْ «فحذف» أَزْوَاجُهُمْ «بجملته، وقامت النون التي هي ضمير الأزواج مقامهنَّ بقيد إضافتهنَّ إلى ضمير المبتدأ.
وقال القرطبيُّ: المعنى: والرِّجَالُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مِنْكُمْ «»
وَيَذَرُونَ «- أي: يتركون -» أَزْوَاجاً «- أي: ولهم زوجاتٌ - فالزَّوجات» يَتَرَبَّصْنَ «قال معناه الزَّجَّاج واختاره النَّحاس، وحذف المبتدأ في القرآن كثيرٌ؛ قال تعالى: ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار﴾ [الحج: ٧٢] أي هو النَّار.
وقرأ الجمهور»
يُتَوَفَّوْنَ «مبنيّاً لما لم يسمَّ فاعله، ومعناه: يموتون ويقبضون؛ قال تعالى: ﴿الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا﴾ [الزمر: ٤٢]، وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً كاملاً، فمن مات، فقد وجد عمره وافياً كاملاً.
189
وقرأ علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ورواها المفضَّل عن عاصم - بفتح الياء على بنائه للفاعلن ومعناه: يَسْتَوْفُونَ آجَالَهُمْ، قاله الزمخشريُّ.
ويُحكى أن أبا الأسود كان خلف جنازةٍ، فقال له رجلٌ: من المتوفِّي؟ بكسر الفاء، فقال: الله، وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - على أن أمره بوضع كتابٍ في النَّحو.
وقد تقدَّم البحث في قوله تعالى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء﴾ [البقرة: ٢٢٨] وهل» بِأَنْفُسِهِنَّ «تأكيدٌ أو لا؟ وهل نصبُ» قُرُوء «على الظرف، أو المفعوليَّة؟ وهو جارٍ ها هنا.
قوله: ﴿مِنكُمْ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال من مرفوع»
يتَوَفَّوْنَ «والعامل فيه محذوفٌ، تقديره: حال كونهم منكم، و» مِنْ «تحتمل التبعيض وبيان الجنس والأزواج ها هنا.

فصل في معنى» التربص «


و»
التَّرَبُّصُ «: التأنِّي والتصبُّر عن النِّكاح، وترك الخروج عن مسكن النكاح بألاَّ تفارقه ليلاً، ولم يذكر الله تعالى السُّكنى للمتوفَّى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلَّقة بقوله: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾ [الطلاق: ٦]، وليس في لفظ العدَّة في القرآن ما يدلُّ على الإحداد وإنما قال:» يَتَرَبَّصْنَ «فبينت السُّنَّة جميع ذلك.
190
قوله: ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾ إنما قال» عَشْراً «من غير تاء تأنيثٍ في العدد والمراد عشرة أيام؛ لوجوه:
الأول: أنَّ المراد»
عَشْرَ لَيَالٍ «مع أيامها، وإنما أوثرت الليالي على الأَيام في التاريخ لسبقها؛ قال الزمخشريُّ:» وقيل «عَشْراً» ذهاباً إلى الليالي، والأيام داخلةٌ فيها، ولا تراهم قطُّ يستعملون التذكير ذاهبين فيه إلى الأيام، تقولك «صُمْتُ عَشْراً»، ولو ذكَّرْت خرجت من كلامهم، ومن البيِّن قوله تعالى: ﴿إِلاَّ عَشْراً﴾ [طه: ١٠٣]، ﴿إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً﴾ [طه: ١٠٤].
الثاني: قال المبرِّد: إنَّ حذف التاء؛ لأجل أنَّ التقدير عشر مددٍ كلُّ مدة منها يومٌ وليلةٌ، تقول العرب: «سِرْنَا خَمْساً» أي: بين يوم وليلة؛ قال: [الطويل]
١١٣٢ - فَمَنْ يَكُ سَائِلاً عَنِّي فَإِنِّي وَجِرْوَةَ لاَ تَرُودُ وَلاَ تُعَارُ
١١٣٣ - فَطَافَتْ ثَلاَثاً بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَكَانَ النَّكِيرُ أَنْ تُضِيفَ وَتَجْأَرَا
والثالث: أنَّ المعدود مذكَّرٌ وهو الأيام، وإنما حذفت التاء؛ لأنَّ المعدود المذكر، إذا ذكر وجب لحاق التاء في عدده؛ قالوا «صُمْنَا خَمْسَةَ أَيَّام»، وإذا حذف لفظاً، جاز في العدد الوجهان: ذكر التاء وعدمها، حكى الكسائيُّ: «صُمْنَا مِنَ الشَّهْرِ خَمْساً»، ومنه الحديث:
«وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ»، وقال الشاعر: [الطويل]
١١٣٤ - وَإِلاَّ فَسِيرِي مِثْلَ مَا سَارَ رَاكِبٌ تَيَمَّمَ خَمْساً لَيْسَ فِي سَيْرِهِ أَمَمْ
نصَّ النحويون على ذلك.
قال أبو حيَّان: «فَلا يُحْتَاجُ إلى تأويلها بالليالي ولا بالمدد؛ كما قدَّره الزَّمخشريُّ والمُبَرِّد على هذا»، قال: «وإذا تقرر هذا، فجاء قوله:» وَعَشْراً «على أحد الجازئين، وإنما حسن حذف التاء هنا؛ لأنه مقطع كلام، فهو شبيهُ بالفواصل؛ كما حسَّن قوله: ﴿إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً﴾ [طه: ١٠٣] كونه فاصلةً، فقوله:» ولو ذَكَّرْتَ لَخَرجْتَ من كَلاَمِهِمْ «ليس كما ذكر، بل هو الأفصح، وفائدة ذكره» إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً «بعد قوله» إِلاَّ عَشْراً «أنه على زعمه أراد الليالي، والأيام داخلةٌ معها، فقوله:» إِلاَّ يَوْماً «دليلٌ على إرادةِ الأيَّام». قال أبو حيان: «وهذا عندنا يدلُّ على أنَّ المراد بالعشر الأيَّام؛ لأنهم اختلفوا في مدَّة اللَّبث، فقال بعضهم:» عَشْراً «وقال بعضهم:» يَوْماً «فدلَّ على أنَّ المقابل باليوم إنما هو أيام؛ إذ لا يحسن في المقابلة أن يقول بعضهم: عَشْرُ لَيَالٍ، فيقول البعضُ: يَوْمٌ».
الرابع: أنَّ هذه الأيَّام [أيَّام حزن ومكروه، ومثل هذه الأيَّام] تسمَّى بالليالي على
191
سبيل الاستعارة؛ كقولهم: «خَرَجْنَا لَيَالِيَ الفِتْنَةِ، وجئنا لياليَ إِمَارَة الحَجَّاج».
الخامس: أنَّ المراد بها الليالي، وإليه ذهب الأوزاعيُّ وأبو بكر الأصمُّ، وبعض الفقهاء قالوا: إذا انقضى لها أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ، حلَّت للأزواج.

فصل


لما ذكر الله تعالى عدَّة الطلاق، واتصل بذكرها ذكر الرَّضاع، ذكر عدَّة الوفاة أيضاً؛ لئلاَّ يتوهَّم أن عدة الوفاة مثل عدَّة الطلاق.

فصل فيمن تستثنى من هذه العدَّة


هذه العدَّة واجبةٌ على كلِّ امرأةٍ مات عنها زوجها، إلاَّ في صورتين:
الأولى: أن تكون أمَةً، فإنَّها تعتدُّ عند أكثر الفقهاء نصف عدة الحرَّة.
وقال أبو بكر الأصمُّ: عدتها عدَّة الحرَّة؛ لظاهر هذه الآية، ولأن الله تعالى جعل وضع الحمل في حقِّ الحامل بدلاً عن هذه المُدَّة؛ فوجب أن يشتركا فيه.
وأجاب الفقهاء بأنَّ التنصيف في هذه المدة ممكنٌ، وفي وضع الحمل غير ممكن، فظهر الفرق.
الصُّورة الثانية: أن تكون حاملاً، فعدَّتها بوضع الحمل، ولو كان بعد وفاة الزَّوج بلحظة.
وعن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أن تتربّصن بأبعد الأجلين.
واستدلَّ الجمهور بقوله تعالى: ﴿وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤].
فإن قيل: هذه الآية إنما وردت عقيب ذر المطلَّقات؛ [فيكون للمطلَّقات] لا للمتوفَّى عنها زوجها.
فالجواب: أنَّ دلالة الاقتران ضعيفةٌ، والاعتبار إنَّما هو بعموم اللفظ.
وأيضاً: قال عبد الله بن مسعود: «أُنْزِلَتْ سورةُ النِّساء القُصْرَى بعد الطُّولى» أراد بالقصرى «سُورَة الطَّلاَقِ»، وبالطُّولى «سُورَة البَقَرَةِ»، وأراد به قوله تعالى في سورة الطلاق: ﴿وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ نزلت بعد قوله: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾ فحمله على الفسخ، وعامَّة الفقهاء خصُّوا الآية بحديث سبيعة، وهو ما
192
روي في «الصَّحِيحَينِ» : أنَّ سُبَيْعَة الأسلميَّة كانت تحت سعد بن خولة، فتوفِّي عنها في حجَّة الوداع، وهي حاملٌ، فولدت بعد وفات زوجها بنصف شهرٍ، فلمَّا طهرت من دمها تجمَّلت للخطَّاب، فدخل عليها أبو السَّنابل بن بعكك، رجلٌ من بني عبد الدَّار، فقال لها: ما لي أراك متجمِّلةً، لعلَّك تريدين النِّكاح، والله ما أنت بناكح حتَّى تمرَّ عليك أربعة أشهرٍ وعشرٌ، قالت سبيعة: فسألت النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذلك، قالت: فأفتاني بأنِّي قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتَّزويج، إن بدا لي.
ولا فرق في عدَّة الوفاة بين الصَّغيرة والكبيرة، وقال ابن عبَّاس: لا عدَّة عليها قبل الدُّخول.

فصل في عدة أم الولد المتوفى عنها سيدها


اختلفوا في عدَّة أمِّ الولد، إذا توفِّي عنها سيِّدها، فقال سعيد بن المسيَّب، والزُّهريُّ، والحسن البصريُّ، وجماعةٌ: عدَّتها أربعة أشهرٍ وعشرٌ، وبه قال الأوزاعيُّ، وإسحاق.
وروي عن عليٍّ، وابن مسعود: أن عدَّتها ثلاث حيضٍ، وهو قول عطاء وإبراهيم النَّخعيِّ وسفيان الثوريِّ وأصحاب الرَّأي.
قال مالكٌ: لا تنقضي عدَّتها في هذه المدَّة حتى ترى عادتها من الحيض في تلك المدَّة، مثل إن كانت عادتها أن تحيض في كلِّ شهر فعليها حيضتان، وإن كانت عادتها أن تحيض في كلِّ أربعة أشهر مرَّة، فهاهنا يكفيها الشُّهور، وهذا خلاف ظاهر الآية، فإن ارتابت، استبرأت نفسها من الرِّيبة؛ كما أنَّ ذات الأقراء، لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط.

فصل


إذا مات الزوج، وقد بقي من شهر الوفاة أكثر من عشرة أيَّامٍ، فالشَّهر الثاني والثالث والرابع يؤخذ بالأهلَّة، سواءٌ خرجت ناقصةً أو كاملةً، ثم تكمل الشهر الأوَّل من الخامس ثلاثين يوماً، ثم تضمُّ إليها عشرة أيَّامٍ.
وإن مات، وقد بقي من الشَّهر أقلُّ من عشرة أيامٍ، اعتبر أربعة أشهر بعد ذلك بالأهلَّة، وكمل العشرين من الشَّهر السادس.
193

فصل في كون الآية ناسخة


أجمع الفقهاء على أنَّ هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول، وإن كانت متقدِّمة في التِّلاوة غير أبي مسلم الأصفهاني، فإنّه أبى نسخها، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى. والتقدُّم في التلاوة لاّ يمنع التأخُّر في النزول.
فصل في ابتداء هذه المدَّة، فقال بعضهم: ابتداؤها من حين العلم بالوفاة؛ لقوله تعالى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ والتربص بأنفسهن لا يحصل إلاَّ بقصد التربُّص، والقصد لا يكون إلا مع العلم.
وقال الأكثرون: ابتداؤها من حيث الموت؛ لأنَّه سببها، فلو انقضت المدَّة أو أكثرها، ثم بلغها خبر الوفاة، اعتدَّت بما انقضى من المدَّة، ويدلُّ على ذلك أنَّ الصَّغيرة الَّتي لا علم لها يكفي في انقضاء عدَّتها مضيُّ هذه المدة.

فصل في وجوب نفقة الحامل


قال القرطبيُّ: أجمع العلماء على أنَّ نفقة المطلَّقة إذا كانت حاملاً واجبة؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٦]، واختلفوا في وجوب نفقة الحامل المتوفّى عنها زوجها، فقال ابن عبّاس، وسعيد بن المسيَّب، وعطاء، والحسن، وعكرمة، ويحيى الأنصاريُّ، وربيعة، ومالك، وأحمد، وإسحاق: ليس لها نفقةٌ، وحكاه أبو عبيد عن أصحاب الرأي.
وروي عن عليّ، وعبد الله: أنَّ لها النفقة من جميع المال، وبه قال ابن عمر، وشريحٌ، وابن سيرين، والشَّعبيُّ، وأبو العالية، والنَّخعيُّ، وحماد بن أبي سلمان، وأيُّوب السَّختيانيُّ وسفيان الثوريُّ، وأبو عبيدٍ.

فصل


روي عن أبي العالية وسعيد بن المسيَّب؛ أن الله تعالى حدَّ العدة بهذا القدر؛ لأنَّ الولد ينفخ فيه الرُّوح في العشر بعد الأربعة، وهو منقولٌ عن الحسن البصريِّ.

فصل


احتجَّ من قال إنَّ الكفَّار ليسوا مخاطبين بفروع الإسلام؛ بقوله تعالى: {والذين
194
يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} قالوا: هذا خطابٌ مع المؤمنين، فاختصَّ بهم، وجوابه أنَّ المؤمنين، لمَّا كانوا هم العالمين بذلك، خصَّهم بالذِّكر؛ كقوله: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: ٤٥] مع أنَّه كان منذراً للكلِّ؛ لقوله تعالى: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ [الفرقان: ١].
قوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: مِن اختيار الأَزواج دون العقد، فإن العقد إلى الوَلِيِّ.
وقيل: فيما فَعَلْنَ من التَّزَيُّن للرجالِ زينةً لا يشكرها الشَّرْع.

فصل في وجوب الإحداد في عدَّة الوفاةِ


يجب عليها الإحدادُ في عدَّة الوفاة، وهو الامتناع من الزِّينة والطّ] ب، فلا يجُوز لها تدهينُ رأسها بأيِّ دُهْن كان، سواء كان فيه طِيبٌ أو [لم يكن]، [ولها تدهِينُ جسدها بدُهن لا طيب فيه، فإن كان فيه طيبٌ، فلا يجوز]، ولا يجُوزُ لها أن تكتحل بكُحلٍ فيه طيبٌ وفيه زينةٌ، كالكُحْل الأسود، ولا بأس بالكُحل الفارسيِّ الذي لا زينة فيه، فإن اضطرت إلى كُحل فيه زينةٌ فرخص فيه كثيرٌ من أهْل العلم منهم سالم بنُ عبد الله، وسليمان بنُ يسارٍ، وعطاءٌ والنخعيُّ، وبه قال مالكٌ وأصحاب الراي.
وقال الشَّافعيُّ: تكتحلُ به ليلاً وتمسحهُ نهاراً.
قالت أمُّ سلمة: دخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين تُوُفِّي أبو سلمة، وقد جعلت عليَّ صبراً، فقال: إنَّه يَشُبُّ الوجه، فلا تجعليه إلاَّ باللَّيل وتنزعيه بالنَّهار.
ولا يجوز لها الخضابُ، ولا لُبسُ الوشي والدِّيباج والحُليِّ، ويجوزُ لها لُبْس البيض من الثِّياب، ولُبْسُ الصوف والوبر، ولا تلبسُ الثَّوب المصبوغ؛ كالأَحمر، والأصفر، والأَخضر النَّاضر، ويجوزُ ما صُبغ لغير زينةٍ؛ كالسَّواد والكُحْليِّ.
وقال سفيان: لا تلْبَسُ المصبُوغ بحالٍ.

فصل في العدة في بيت الزوج


قال القرطبيُّ: إذا كان الزوج يملكُ رقبة المَسكن، فإنَّ للزوجة العدَّة فيه، وعليه
195
أكثرُ الفقهاءِ، وإِن كان للزَّوج السكنى دون الرَّقبة، فلها السكنى في مدَّة العدَّة؛ خلافاً لأبي حنيفة والشَّافعيِّ؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - للفُريعة - وقد علم أن زوجها يملك رقبة المسكن -: «أمْكُثي في بيتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ».
وهذا إذا كان قد أدَّى الكراء، فإِن كان لم يُؤَدِ الكراء، فالذي في «المُدَوَّنَة» أنَّه لا سكْنَى لها في مالِ المَيِّت، وإن كان مُوسِراً؛ لأنَّ حقَّها إنما يتعلق بما يمكله مِنَ السُّكْنَى ملكاً تامّاً، وما لَمْ ينقد عوضه لم يملكه مِلكاً تامّاً، وإنَّما ملك العوضَ الذي بيده، ولا حقَّ في ذلك للزَّوجة إلاَّ بالميراثِ، دون السُّكْنَى؛ لأنَّ ذلك مالٌ، وليس بسكْنَى. ورُوي عن مالكٍ: أن الكِراء لازمٌ للميِّت في ماله.

فصل


ولها أن تخْرج في حوائجها نهاراً إلى بعد العتمة، ولا تبينُ إِلاَّ في منزلها، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - «لا يحلُّ لامْرَأَةٍ تؤمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِر» يدلُّ على أنَّ الكتابيَّة لا إحداد عليها، وبه قال أبو حنيفة، ورُوِيَ عن مالك أَنَّ عليها الإحداد؛ كالمسلمة، وبه قال الشافعيُّ.

فصل


والإحدادُ واجبٌ على جميع الزَّوجات الحرائِر والإِماء والصغار والكبار، وذهب أبو حنيفة أنَّه لا إحدادَ على أمة، ولا على صغيرة، وقال الحسن: الإحْدَادُ ليس بواحبٍ.
قوله: ﴿بالمعروف﴾ فيه أربعةُ أوجهٍ:
أحدها: أن يكونَ حالاً من فاعل «فَعَلْنَ»، أي: فَعَلْنَ مُلْتَبسَاتٍ بالمعروف ومُصَاحِباتٍ له.
والثاني: أنه مفعولٌ به، أي: تكونُ الباءُ باءَ التعدية.
الثالث: أن يكونَ نعتَ مصدر محذوفٍ، أي: فَعَلْنَ فِعْلاً بالمعروف، أي: كائناً، ويجيءُ فيه مذهب سيبويه: أنه حالٌ من ضميرِ المصدرِ المعرفةِ، أي: فَعَلْنَهُ - أي الفعلَ - ملتبساً بالمعروف، وهو الوجهُ الرابعُ.
قوله: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ متعلق ب «خَبِيرٌ»، وَقُدِّمَ لأجلِ الفاصلةِ، و «مَا» يجوزُ أن تكونَ مصدريةً، وأن تكونَ بمعنى «الذي» أو نكرةً موصوفة، وهو ضعيفٌ، وعلى هذين القولين، فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ، وعلى الأَوَّل لا يُحتاجُ إليه، إلا على رأي ضعيفٍ.
196

فصل


تَمَسَّكَ أصحابُ أبي حنيفة في جواز النِّكاح بغير وليِّ بقوله تعالى: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف﴾ قالوا: وإضافةُ الفعل إلى الفاعل محمولٌ على المباشرة؛ لأنَّ هذا هو الحقيقة في اللفظ.
والجوابُ أنَّ هذا الخطابَ مع الأَولياء، أو الحُكَّام؛ كما تقدَّم، وتقدير الآية: لا جُنَاحَ على النِّسَاء وعلَيْكُم، ثم قال: ﴿فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف﴾ أي: ما يحسُنُ عقلاً وشرعاً؛ لأَنَّ المعروف ضدُّ المنْكَر الذي لا يحْسُن، وذلك هو الحلالُ من التزويج إذا كان مستجمعاً لِشرائط الصِّحَّة، والله أعلم.
197
قال القرطبيُّ: لا جناح، أي: لا إِثْمَ والجناحُ: الإثمُ، وهو أصح في الشَّرع.
وقيل: بل هو الأَمر الشاقُّ، وهو أصحُّ في اللغة؛ قال الشَّمَّاخ: [الوافر]
١١٣٥ - إِذَا تَعْلُو بِرَاكِبِهَا خَلِيجاً تَذَكَّرُ مَا لَدَيْهِ مِنَ الجُنَاحِ
و «التَّعْريضُ» في اللغة: ضدُّ التصريح، ومعناه: أن يضمِّن كلامَهُ ما يصلحُ للدَّلالة على مقصُوده، ويصلُحُ للدَّلالة على غير مقصُوده، إلا أن إشعَاره بجانب المقصُود أتَمُّ وأرجحُ.
وأصلُهُ مِنْ عُرض الشيء، وهو جانبُهُ؛ كأنَّه يحوم حولَهُ؛ ولا يظهر، ونظيره أن يقول المُحتاج للمحتاج إليه: جئتُكَ لأُسلمَ عَلَيك، ولأنْظر إلى وجهك الكريم؛ ولذلك قال: [الطويل]
١١٣٦ -................................. وَحَسْبُكَ بِالتَّسْلِيمِ مِنِّي تَقَاضِيَا
والتعريض قد يُسمَّى تلويحاً؛ لأنَّه يَلُوحُ منه ما يريدُه، والفرقُ بين الكناية والتعريض: أنَّ الكناية ذكرُ الشَّيء بذكر لوازمه؛ كقولك فلانٌ طويلُ النجادِ، كثيرُ الرماد؛ لأنَّ النجاد عبارةٌ عن حَمِيلَةِ السَّيفِ، إذا كانت حميلةُ سيفهِ طويلةً، لزم منه أن يكونَ الرَّجُل طويلاً، وكذلك إذا كان كثير الرمَادِ، لزم منه أن يكون كثير الطَّبخ للأَضياف،
197
وغيرهم، والتعريضُ أنْ يذكر كلاماً يحتمل المقصُود وغيره، إلاَّ أنَّ قرينة الحال تؤكِّد حمله على المقصُود.
وقال الفراء: الخِطْبَةُ مصدرٌ بمعنى الخَطْب، وهي مثل قولك: إِنَّه لَحَسَنُ القِعْدةِ والجِلْسَةِ تريد: القُعُود والجُلُوس والخطبَةُ مصدرٌ في الأصل بمعنى الخَطْبِ، والخَطْب: الحاجة، ثم خُصَّت بالتماس النكاح؛ لأنه بعضُ الحاجات، يقال: ما خَطْبُكَ؟ أي: ما حاجتُك. وفي اشتقاقه وجهان:
الأول: الأمر والشأن يقال ما خطبُكَ؟ أي: ما شأنُكَ؟ فقولهم: خَطَبَ فلانٌ فُلانَةً، أي: سَأَلَهَا أَمراً وشأناً في نفسِها.
والثاني: أصلُ الخِطْبة من الخطابة الَّذي هو الكلامُ، يقال: خَطَبَ المرأة، أي: خاطبها في أمر النِّكاح، والخطب: الأمر العظيم؛ لأ، َّه يحتاجُ لخطاب كثيرٍ. والخطبة بالضَّم، الكلامُ المشتملُ على الوعظِ والزَّجرِ، وكلاهما من الخَطْبِ الذي هو الكلامُ، وكانت سَجاح يُقال لها خِطْبٌ فتقول: نِكْحٌ.
قوله تعالى: ﴿مِنْ خِطْبَةِ النسآء﴾ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: الهاءُ المجرورةُ في «بِهِ».
والثاني: «مَا» المجرورة ب «فِي»، والعاملُ على كِلا التقديرين محذوفٌ، وقال أبو البقاء: حالٌ من الهاءِ المجرورةِ، فيكونُ العاملُ فيه «عَرَّضْتُمْ»، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من «مَا» فيكونُ العاملُ فيه الاستقرارَ. قال شهاب الدين: وهذا على ظاهره ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ العاملَ فيه محذوفٌ؛ على ما تقرَّر، إلا أَنْ يريدَ من حيث المعنى لا الصناعةُ، فقد يجوزُ له ذلك.
والخِطبة بكسر الخاء - فعلُ الخاطِب -: من كلام وقصدٍ، واستلطافٍ، بفعل أَو قولٍ. يقال: خطبها يخطبها خطباً، أو خطبةً، ورجل خَطّاب كثيرُ التصرفِ في الخطبةِ، والخطيبُ: الخاطِبُ، والخِطِّيبَى: الخِطْبة، والخطبة فعلهُ: كجلسةٍ، وقعدةٍ، وخُطبة - بضمِّ الخاءِ - هي الكلامُ الذي يقال في النكاح، وغيره.
قال النحاس: «والخُطبة» ما كان لها أَوَّل وآخر، وكذلك ما كان على فعله، نحو الأَكلة، والضَّغطَة.

فصل في جواز التعريض بالخطبة في عدة الوفاة


التعريضُ بالخطبة مباحٌ في عدَّة الوفاة، وهو أَنْ يقول: رُبَّ راغبٍ فيك، ومَنْ يجدُ
198
مثلك، إنَّك لجميلة إنَّك لصالِحَةٌ، إنّك عليّ كريمةٌ، إنِّي فيك لراغِبٌ، وإن مِنْ غرضي أَنْ أَتزوَّج، وإِنْ جمع اللهُ بيني وبينك بالحلالِ أعجبتني، وإِنْ تزوَّجتُك لأُحسن إليك، ونو ذلك من الكلامِ، من غير أَنْ يقول: أَنْحكيني.
والمرأةُ تجيبه بمثله، إِنْ رغبتْ فيه.
وقال إبراهيم: لا بأس أَنْ يُهدي لها ويقوم بشغلها في العدة، إذا كانت غير شابةٍ.
روي أَنَّ سُكَيْنةَ بنت حنظلة؛ بانت من زوجها، فدخل عليها أَبُو جعفرٍ محمَّد بن علي الباقر في عِدّتها، وقال: يا ابنة حنظلة، أنا مَنْ قد عَلِمْت قرابتي مِنْ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وحقَّ جَدِّي عليِّ، وقدَمي في الإسلام، فقالت له سُكينة: أَتخطبني وأنا في العدَّة، وأَنْتَ يؤخذُ عنك؟ فقال أو قد فعلت؟ إِنَّما أخبرتُك بقرابتي مِنْ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وقد دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أُمِّ سلمة، وهي في عِدَّةٍ من زوجها، أبي سلمة، فذكر لها منزلتهُ مِنَ الله - عَزَّ وَجَلَّ َّ - وهو متحامِلٌ على يده؛ حتَّى أثَّر الحصيرُ في يده من شدَّة تحامله على يده.

فصل


والنٍّساء في حكم الخِطبة على ثلاثة أقسامٍ:
الأول: التي يجوز خِطْبتُها تعريضاً، وتصريحاً، وهي الخاليةُ عن الأَزْوَاجِ والعدد إلاَّ أَنْ يكونَ خطبها غيره؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا يَخْطِبَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيْهِ»، وهذا الحديثُ وإِنْ كان مطلقاً ففيه ثلاثةُ أجوالٍ:
الحالة الأولى: أَنْ يخطب الرجلُ، فيجاب صريحاً؛ فهاهنا لا يَحِلُّ لغيره أَنْ يخطبها.
الحالة الثانية: أَنْ يُجابَ بالردِّ صريحاً؛ فها هنا يَحِلُّ لغيره أَنْ يخطبها.
الحالة الثالثة: ألاَّ يوجد صريحُ الإجابة، ولا صريحُ الرَّدِّ؛ فهاهنا فيه خلافٌ.
فقال بعضهم تجوزُ خطبتها؛ لأَن السكوتَ لَمْ يدُلَّ على الرِّضا وهو الجديدُ عن الشَّافعيَّ.
وقال مالكٌ: لا يجوزث، وهو القديمُ؛ لأنَّ السكوت وإِنْ لم يدُلَّ على الرضا، لكنه لا يدلُّ أيضاً على الكراهة، فربَّمَا حصلت الرغبةُ مِنْ بعضِ الوجوه؛ فتصيرُ هذه الخِطبةُ الثانية مزيلة لذلك القدر من الرغبة.
199
القسم الثاني: التي لا تجوز خِطْبتُها؛ لا تصريحاً، ولا تعريضاً، وهي زوجة الغير؛ لأَنَّ خطبتها ربما صارت سبباً لتشويش الأَمر على زوجها، مِنْ حيثُ إنها إذا علمت رغبة الخاطب، فربما حملها ذلك على الامتناع مِنْ تأدية حُقُوق الزوج، والتسبب إلى هذا حرامٌ، والرجعية كذلك؛ لأنها في حكم الزوجة؛ لصحة طلاقها، وظهارها، ولعانها، وعِدَّتُها منه عِدَّة الوفاة إذا مات عنها ويتوارثان.
القسم الثالث: أَنْ يفصل في حقِّها بين التعريض، والتَّصريح، وهي المعتدة غير الرجعيَّة، وهي ثلاثة أقسامٍ:
الأول: المعتدة عِدَّة الوفاةِ، يجوز خطبتها تعريضاً؛ لقوله تعالى: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء﴾ فظاهره أنها المتوفَّى عنها زوجها؛ لأنها مذكورةٌ عقب تلك الآية، ولمّا خُصِّصَ التعريضُ بعدم الجناح، دلّ على أنّ التصريحَ بخلافشهِ، والمعنى يُؤكِّدُه؛ لأن التصريح لا يحتمل غير النكاح، فربما حملها الحِرص على النكاح، على الإِخبار بانقضاء العِدَّة قبل أَوانها بخلافِ التعريضِ، فإنَّه يحتمل غير ذلك، فلا يدعوها إلى الكذب.
الثاني: المعتدةُ عن الطلاق الثلاث، والبائن باللِّعان والرَّضاع ففي جواز التعريض بخطبتها خلافٌ.
فقيل: يجوز التعريض بخطبتها، لأنّها ليست في نكاحٍ، فأشبهت المتوفى عنها.
وقيل: لا يجوزُ لأنّ عدتها بالأَقراءِ، فلا يُؤمن عليها الكَذِب في الإخبارِ بانقضاء عدَّتها؛ لرغبتها في الخُطَّاب.
الثالث: البائِنُ لطلاقٍ أَوْ فسخٍ، وهي التي يجوزُ لزوجها نكاحُها في عدَّتها كالمختلعة، والتي انفسخ نكاحُها بعيبٍ أو عُنَّةٍ، أَو إعسار نفقةٍ، فهذه يجوزُ لزوجها التصريحُ، والتعريضُ؛ وأَمَّا غيرُ الزوج، فلا يحلُّ له التصريحُ، وفي التعريض خلافٌ، والصحيحُ: أنّه لا يحِلُّ لأنها مُعتدةٌ، تحلُّ للزوجِ أَنْ يستنكحها في عِدَّتها، فلم يحلَّ التعريض لها كالرجعية.
وقيل: هي كالمتوفَّى عنها زوجها، والمطلقة ثلاثاً.
قوله تعالى: ﴿وْ أَكْنَنتُمْ﴾ «أَوْ» هنا للإباحةِ، أو التخيير، أو التفصيلِ، أو الإِبهامِ على المخاطبِ، «وأَكَنَّ» في نفسِهِ شيئاً، أي: أَخْفَاهُ، وكَنَّ الشيء بثوبٍ ونحوه: أي سَتَرَهُ به، فالهمزةُ في «أَكَنَّ» للتفرقة بين الاستعمالَيْنِ ك «أَشْرَقَتْ، وشَرَقَتْ».
وقال الفراءُ: للعرب في «أَكْنَنْتُ الشَيْءَ» أي: سترتهُ، لغتان: كنَنْتُه، وأَكْنَنْتُه في
200
الكِنِّ، وفي النَّفْس؛ بمعنى، ومنه ﴿مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾ [القصص: ٦٩]، و ﴿بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ [الصافات: ٤٩] وفرَّق قومٌ بينهما، فقالوا: كننتُ الشيء، إذا صُنته حتَّى لا تُصيبه آفةٌ، وإن لم يكن مستُوراً يقال: دُرٌّ مكنونٌ وجاريةٌ مكنونةٌ، وبيضٌ مكنونٌ مصونٌ عن التدحرج؛ وأمَّا «أَكْنَنْتُ» فمعناه: أضمرت ويستعمل ذلك في الشيء الذي يُخفيه الإنسانُ، ويستره عن غيره، وهو ضِدُّ أَعْلنتُ وأظهرت، ومفعول «أكنَّ» محذوفٌ يعودُ على «ما» الموصولة في قوله: ﴿فِيمَا عَرَّضْتُمْ﴾ أي: أو أكْنَنْتُمُوهُ، ف ﴿في أَنْفُسِكُمْ﴾ متعلِّقٌ ب ﴿أَكْنَنتُمْ﴾، ويضعُفُ جعلُهُ حالاً من المفعولِ المقدَّرِ.

فصل في عدوم وجوب الحد بالتعريض


استدلَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّه لا يجب الحدُّ بالتعريض بالقذف [لأن الله تعالى لمَّا دفع الجَرَج في التعريض بالنِّكاح، دلَّ على أنَّ التعريض بالقذف] لا يوجب الحد.
وأُجيب بأنّ الله - تعالى - لم يحلَّ التصريح بالخطبة في النكاح للمعتدَّة، وأَذِن في التعريض الذي يُفهم منه النكاحُ، فهذه يدلُّ على أَنَّ التعريض يُفهم منه القذف والأعراضِ يجب صيانتها، وذلك يوجب الحدَّ على المعرِّض؛ لئلا يتعرض الفسقةُ إلى أخذ الأَعراضِ بالتعريض الذي يُفهم منه ما يُفهم بالتصريح.

فصل في المقصود من الآية


والمقصودُ من الآية أَنّه لا حرج في التعريض للمرأة في عِدَّة الوفاة، ولا فيما يُضمره الرجلُ من الرغبة فيها.
فإن قيل: إنَّ التعريضَ بالخطبة أعظم حالاً مِنْ أَنْ يميل بقلبه إليها، ولا يذكر باللِّسان شيئاً، فلمّا قدّم جواز التعريض بالخطبة، كان قوله بعد ذلك ﴿أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ﴾ جارٍ مجرى إيضاح الواضحات.
فالجواب: ليس المرادُ ما ذكرتم، بل المرادُ أنّه أباح التعريض، وحرّم التصريح في الحالِ، ثم قال: ﴿أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ﴾ والمرادُ: أَنْ يعقد قلبه على أنه سيصرحُ بذلك في المستقبلِ، ففي أوَّل الآيةِ أباح التعريض في الحالِ، وحرَّم التصريح في الحالِ، وها هنا أباح له أن يعقد عليه على أنَّه سيصرِّحُ بذلك بعد انقضاء العدّة، ثم إنّه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله أباح ذلك، فقال: «عَلِمَ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ» لأنَّ شهوةَ النفس إذا حصلت للنكاح، لا يكاد يخلُو ذلك المشتهي من العزم، والتَّمَنِّي، فلمّا كان دفع هذا
201
الخَاطر، كالشيء الشَّاقِّ أَسقط عنه هذا الحرج، وأباحَ له ذلك، ثُمَّ قال: ﴿ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً﴾ وهذا الاستدراك فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه استدراكٌ من الجملةِ قبله، وهي قوله: ﴿سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ ؛ فإنَّ الذِّكر يقع على أنحاء كثيرةٍ، ووجوهٍ متعددةٍ، فاسْتُدْرِكَ منه وجهُ نُهِيَ فيه عن ذِكْرٍ مخصُوص، ولو لم يُسْتَدْرَكْ، لكانَ من الجائز؛ لاندراجِهِ تحت مطلقِ الذِّكْرِ، وهو نظيرٌ: «زَيْدٌ سَيَلْقَى خَالِداً، ولَكِنْ [لاَ] يواجهُهُ بِشَرٍّ»، لمَّا كانت أَحوالُ اللقاءِ كثيرةً، من جملتها مواجته بالشَّرِّ، استُدْرِكَتْ هذه الحالةُ من بينها.
والثاني: - قاله أبو البقاء -: أنه مستدرَكٌ من قوله: ﴿فِيمَا عَرَّضْتُمْ﴾ وليس بواضحٍ.
والثالث: - قاله الزمخشريٌّ - أنَّ المُسْتَدْرَكَ منه جملةٌ محذوفةٌ قبل «لَكِنْ» تقديرُهُ: «فَاذْكُرُوهُنَّ، وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً» وقد تقدَّم أنَّ المعنى على الاستدرَاكِ من الجملةِ قبلَه، فلا حاجة إلى حذف؛ وإنما الذي يحتاجُهُ ما بعدَ «لَكِنْ» وقوعُ ما قبلها من حيث المعنى، لا من حيثُ اللفظُ؛ لأنَّ نَفْيَ المواجهةِ بالشَّرّ يستدعي وقوعَ اللقاءِ.
قوله: ﴿سِرّاً﴾ فيه خمسةُ أوجهٍ:
أحدها: أن يكونَ مفعولاً ثانياً.
والثاني: أنه حالٌ من فاعلِ «تُوَاعِدُوهُنَّ»، أي: لا تُوَاعِدُوهُنَّ مُسْتَخِفين بذلك.
والثالث: أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ، أي: مواعدةً سِرّاً.
والرابع: أنه حالٌ من ذلك المصدر المُعَرَّف، أي: المواعدةَ مستخفيةً.
والخامس: أَنْ ينتصِبَ على الظرف مجازاً، أي: في سِرٍّ.
وعلى الأقوالِ الأربعةِ: فلا بُدَّ من حذفِ مفعولٍ، تقديرهُ: لا تُوَاعِدُوهُنَّ نِكَاحاً.
والسِّرُّ: ضدُّ الجهرِ: وقيل: يُطْلَقُ على الوَطْءِ، وعلى الزِّننا بخُصُوصيَّةٍ؛ وأنشدوا للحُطَيْئة: [الوافر]
١١٣٧ - وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهمْ وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أُنُفَ القِصَاعِ
وقول الآخر - هو الأعشى -: [الطويل]
١١٣٨ - وَلاَ تَقْرَبَنَّ جَارَةَ إِنَّ سِرَّهَا حَرَامٌ عَلَيْكَ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا
وقال الفرزدق: [الطويل]
202
١١٣٩ - مَوَانِعُ لِلأَسْرَارِ إِلاَّ مِنَ أهْلِهَا وَيُخْلِفْنَ مَا ظَنَّ الغَيُورُ الْمُشَفْشِفُ
أي: الذي شَغفه بهن، يعني: أنهنَّ عفائفُ يمنعن الجماعَ إلاَّ من أَزواجِهِنَّ؛ وقال امرؤ القيس: [الطويل]
١١٤٠ - أَلاَ زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ اليَوْمَ أَنَّني كَبِرتُ وَأَلاَّ يُحْسِنُ السَّرَّ أَمْثَالِي

فصل في بيان السر في الآية


اختلفوا في السِّرِّ هنا، فقال قومٌ: هو الزِّنا، كان الرجلُ يدخل على المرأةِ مِنْ أجلِ الزِّنْيَة وهو يُعرِّضُ بالنِّكاح، ويقول لها: دعيني أُجامِعْكِ، فإذا وَفَيْتِ عشدَّتك، أظهرتُ نكاحك قاله الحسن، وقتادة، وإبراهيم، وعطاءٌ، ورواه عطيةٌ عن ابن عباس.
وقال زيد بن أسلم: أي: لا يُنْكِحها سرّاً فيمسكها فإذا حلّت، أظهرت ذلك.
وقال مجاهدٌ: هو قول الرجل لا تفوِّتيني بنفسك، فإنِّي ناكِحُك. وقال الشعبيُّ، والسدِّيُّ: لا يؤخَذُ ميثاقها، ألاَّ ينكح غيرها. وقال عكرمة: لا يخطبها في العِدَّة.
وقال الكلبيُّ ورُوِيَ عن ابن عباس: أي تصفُوا أنفُسكم لهُنَّ بكثرةِ الجماع، فيقول آتيتك الأَربعة والخَمْسة، وأشباه ذلك، وإنما قيل للزِّنا والجماع سِرّاً؛ لأنه يكون في خفاءٍ بين الرجل والمرأةِ.

فصل في كراهة المواعدة في العدّة


حكى القرطبيُّ، عن ابن عطيَّة، قال: أجمعتِ الأُمَّةُ على كراهة المواعدة في
203
العدة للمرأة في نفسها، وللأَبِ في ابنته البِكْر، والسيّد في أمتِه. قال ابن المواز: وأمّا الوليّ الذي لا يملكُ الجبر، فأكرهُهُ.
وقال مالكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ ُ - فيمَنْ يواعد في العدَّة، ثم يتزوج بعدها: فراقها أَحَبُّ إليّ، دخل بها، أو لم يدخل، وتكون تطليقةً واحدةً هذه رواية ابن وهبٍ، وروى أشهب عن مالكٍ، أنّه يفرِّق بينهما إيجاباً، وقاله ابنُ القاسِمِ، وحكى ابن الحارِث مثلهُ عن ابن الماجشون، ورأى ما يقتضي أَنَّ التحريم يتأبدُّ، وقال الشافعيُّ إِنْ صرَّح بالخطبة، وصرَّحت له بالإجابة، ولم ينعقد النكاح [حتى] تنقضي العِدَّة، فالنكاح ثابت [والتصريح لهما مكروهٌ]
قوله: ﴿إِلاَّ أَن تَقُولُواْ﴾ في هذا الاستثناءِ قولان:
أحدهما: أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنه لا يندرج تحت «سِرّ» على أيِّ تفسيرٍ فَسَّرْتَه به، كأنه قال لكنْ قولُوا قولاً معروفاً.
والثاني: أنه متصلٌ، وفيه تأويلان ذكرهما الزمخشري فإنه قال: فَإِنْ قلتَ: بِمَ يَتَعَلَّقُ حرفُ الاستثناء؟ [قلتُ] : ب ﴿لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ﴾، أي: لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً قطٌّ إلا مواعدةً معروفةً غيرَ مُنْكَرَةٍ، أو لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إلا بأَنْ تقولوا، أي: لا تواعِدُوهُنَّ إلاَّ بالتعريضِ، ولا يكونُ استثناءً منقطعاً من «سِرّاً» ؛ لأدائِهِ إلى قولك: «لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إلاَّ التعرِيضَ» انتهى، فجعلَهُ استثناءً متصلاً مُفَرَّغاً على أحدِ تأويلين:
الأول: أنه مستثنىً من المصدرِ؛ ولذلك قدَّره: لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً إلاَّ مواعدةً معروفةً.
والثاني: أنه من مجرور محذوفٍ؛ ولذلك قَدَّره ب «إِلاَّ بَأَنْ تَقُولُوا» ؛ [لأنَّ التقدير عنده: لا تُوَاعِدُوهُنَّ بشيءٍ، إلا بَأَنْ تقولُوا، ثم أَوْضَحَ قوله بأنْ تَقُولُوا] بالتعريض، فلمَّا حُذِفَت الباءُ من «أَنْ»، وهي باءُ السببيةِ بقي في «أَن» الخلافُ المشهورُ بعد حذفِ حرفِ الجرِّ، هل هي في محلِّ نصبٍ أم جَرٍّ؟ وقوله: «لأدائِهِ إلى قولك... إلى آخره» يعني أنه لا يصِحُّ تسلُّط العامِل عليه، فإنَّ القولَ المعروفَ عندَهُ المرادُ به التعريضُ، وأنت لو قلْتَ: «لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إِلاَّ التَّعْرِيض ليس مواعداً.
وردَّ عليه أبو حيان: بأنَّ الاستثناء المنقطع ليس مِنْ شرطِهِ صحَّةُ تسلُّطِ العامِل عليه، بل هو على قسمين: قسم يَصِحُّ فيه ذلك، وفيه لغتان: لغةُ الحجازِ وجوبُ النصب مطلقاً، نحو:»
مَا جَاءَ أَحَدٌ إِلاَّ حِمَاراً «ولغةُ تميم إجراؤه مجرى المتصل، فيجرونَ فيه النصبَ والبدلية بشرطه. وقِسْم لا يصحُّ فيه ذلك، نحو:» مَا زَادَ إِلاَّ مَا نَقَصَ «، و» مَا نَفَعَ إِلاَّ مَا ضَرَّ «، وحكمُ هذا النّصبُ عند العرب قاطبةً، فالقسمان يشتركان في التقديرِ ب» لَكِنْ «عند البصريين، إلاَّ أنَّ أحدهما يصحُّ تسلُّط العامِل عليه في قولك:» مَا جَاءَ أَحَدٌ
204
إِلاَّ حِمَار «لو قلت:» مَا جَاءَ إِلاَّ حِمَارٌ «، صَحَّ؛ بخلافِ القسمِ الثاني؛ فإنَّه لا يتوجَّه عليه العامل وقد تقدم البحثُ في مثل هذا كثيراً.

فصل في القول المعروف ما هو؟


قال بعضُ المفسرين: هو التعريض بالخطبة.
وقال آخرون: لمّا أُذِن في أوّل الآيةِ بالتعريض، ثم نهي عن المسارَّة معها؛ دفعاً للريبةِ، استثني منه المسارَّة بالقولِ بالمعروفِ، وهو أَنْ يعدها في السرِّ بالإحسان إليها، والاهتمام بشأنها، والتكفُّل بمصالحها؛ حتى يصير ذِكرُ هذه الأَشياء الجميلة، مُؤكَّداً لذلك التعريض.
قوله: ﴿وَلاَ تعزموا﴾ في لفظ»
العَزْمِ «وجوه:
الأول: أنّه عبارةٌ عن عقدِ القلب على فعلٍ من الأَفعالِ، قال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ [آل عمران: ١٥٩] فلا بُدَّ في الآيةِ من إضمار فعلٍ، وهذا اللفظ إنما يُعَدَّى للفعل بحرفِ»
عَلَى «فيقال: فلان عزم على كذا، فيكونُ تقدير الآيةِ:» ولا تَعْزمُوا على عُقدة النكاح حتى يبلُغَ الكِتَابث أَجَلَهُ «والمقصودُ منه المبالغة في النهي عن النكاح في زمان العِدَّة، فإنّ العزم متقدمٌ على المعزوم عليه، فإذا ورد النهي عن الإِقدام على المعزوم عليه كان أولى.
الثاني: أنَّ العزم عبارةٌ عن الإِيجاب، يقال: عزمتُ عليكم، أي: أَوجبتُ، ويقال هذا من باب العزائم، لا من باب الرُّخَصِ؛ وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -»
عَزْمَةٌ مِنْ عَزَائِمِ رَبِّنَا «وقال:» إِنَّ اللهَ تَعالى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخْصُهُ كَمَا تُؤْتَى عَزَائِمُهُ «
، فالعزمُ بهذا المعنى جائزٌ على الله تعالى، وبالوجه الأول لا يجوز.
وإذا ثبتَ هذا فنقولُ: الإيجابُ سببُ الوجود ظاهراً، فلا يبعد أَنْ يُستفاد لفظ العزمِ من الوجودِ، وعلى هذا فقوله: ﴿وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح﴾، أي: لا تحقِّقُوا، ولا تُنْشئَوا، ولا تُفرِّعوا منه فعلاً؛ حتى يبلغ الكتابُ أَجَلَهُ وهذا اختيارُ أَكْثَر المحققين.
الثالث: قال القفَّال: إنما لم يقُلْ: ولا تعزِمُوا على عقدةِ النكاح؛ لأن معناهُ: ولا تعقدوا عُقْدة.
قال القرطبيُّ: عزم الشيء عليه قال تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق﴾ [البقرة: ٢٢٧]
205
وقال هنا: ﴿وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح﴾. وحكى سيبويه: ضُرِبَ فلانٌ الظهر والبطنَ أي: «عَلَى».
قال سيبويه: والحذفُ في هذه الأَشياء لا يقاسُ عليه.
وقال النحاسُ: ويجوز أَنْ يكون ولا تعقِدُوا عُقدة النكاح؛ لأَنَّ معنى «تَعْزِمُوا» و «تَعْقِدُوا» واحدٌ.
ويقال: تعزُمُوا، بضم الزاي.

فصل


اعلم أنَّ الإِنسان إذا فعل فعلاً فلا بُدَّ أَنْ يتقدَم ذلك الفعلَ ستُّ مُقَدِّماتٍ.
الأولى: أن يسنح له ذلك الفعل، ومعنى «يَسْنَحْ له» : أن يَجْنح إلى فعله، ويعرضُ له فعله.
وثانيها: أَنْ يفكِّر في فعله، بمعنى أن يفعله، أم لا. وثالثها: أن يخطِرَ بباله فعله، بمعنى أنه يترجَّحُ فعله على تركه. ورابعها: أن يريدُ فِعْلَهُ.
وخامسها: أَنْ يَهمّ بفعله، وهو عزمٌ غيرَ جازِمٍ.
وسادسها: أَنْ يعزِم عَزْماً جازِماً فيفعله.

فصل في أصل العقد


وأَصل العقد: الشدُّ، والمعهود، والأنكحةُ تُسمَّى عُقُوداً لأنها تعقد كعقود الحبل في التوثيق.
قوله: «عُقْدَةَ» في نصبه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مفعولٌ به على أنه ضمَّن «عَزَمَ» معنى ما يتعدَّى بنفسه، وهو: تَنْوُوا أو تُبَاشِرُوا، ونحو ذلك.
والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر، وهو «عَلَى» ؛ فإنَّ «عَزَمَ» يتعدَّى بها، قال: [الوافر]
١١٤١ - عَزَمْتُ عَلَى إقَامةِ ذِي صَبَاحٍ لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
وحذفها جائز، كقول عنترة، [الكامل]
206
أي: وَأَظَلُّ عليه.
والثالث: أنه منصوبٌ على المصدر؛ فإنَّ المعنى: ولا تعقدوا عقدة؛ فكأنه مصدرٌ على غير الصَّدر؛ نحو: قعدت جلوساً، والعقدة مصدرٌ مضاف للمفعول، والفاعل محذوفٌ، أى: عُقْدتكم النِّكاح.
قوله تعالى: ﴿حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ﴾ فى «الكتاب» وجهان:
أحدهما: أن المراد به المكتوب، والمعنى: حتى تبلغ العدَّة المفروضة آخرها.
الثانى: أن يكون المراد «الكتابَ» نفسه، لأنه فى معنى الفرض؛ كقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام﴾ [البقرة: ١٨٣] فيكون المعنى: حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾ [النساء: ١٠٣] أى: مفروضة.
قال القرطبى: وقيل: فى الكلام حذف، أى: حتى يبلغ فرض الكتاب أجله، فالكتاب على هذا المعنى بمعنى القرآن.
ثم قال تعالى: ﴿واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ﴾ وهذا تنبيه على أنّه تعالى لمّا كان عالماً بالسرّ، والعلانية؛ وجب الحذر منه فى السرِّ، والعلانية، فالهاء فى «فاحذروه» تعود على الله تعالى، ولا بدَّ من حذف مضاف، أى: فاحذروا عقابه. ويحتمل أن تعود على «مَا» فى قوله «مَا فِى أَنْفُسِكُمْ» بمعنى ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز، قاله الزمخشريُّ.
ثم قال: ﴿واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ أي: لا يعجِّل بالعقوبة.
207
قوله: «مَا لَمْ» فى «مَا» ثلاثة أقوالٍ:
أظهرها: أن تكون مصدريةً ظرفيةً، تقديره: مدَّة عدم المسيس، كقوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض﴾ [هود: ١٠٧] وقوله: ﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ [المائدة: ١١٧].
وقول الآخر: [الكامل]
١١٤٢ - وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأظَلُّهُ حَتَّى أَنَالَ بِهِ كَرِيمَ المَطْعِمِ
207
والثاني: أن تكون شرطيةً، بمعنى «إِنْ» نقله أبو البقاء. وليس بظاهرٍ؛ لأنه يكون حينئذٍ من باب اعتراض الشرط على الشرط، فيكون الثانى قيداً فى الأول؛ نحو: «إِنْ تَأْتِ إِنْ تُحْسِنْ إِلَيَّ أُكْرِمْكَ» أي: إن أتيت محسناً، وكذا فى الآية الكريمة: إن طلَّقتموهنَّ غير ماسِّين لهنَّ، بل الظاهر: أنَّ هذا القائل إنما أراد تفسير المعنى؛ لأنَّ «مَا» الظرفية مشبَّهة بالشرطيَّة، ولذلك تقتضي التعميم.
والثالث: أن تكون موصولة بمعنى «الَّذِي»، وتكون للنساء؛ كأنه قيل: إن طلَّقتم النِّساء اللاَّئى لم تمسُّوهنَّ، وهو ضعيفٌ، لأنَّ «مَا» الموصولة لا يوصف بها، وإن كان يوصف ب «الَّذِي»، و «الَّتي»، وفروعهما.
وقرأ الجمهور: «تَمَسُّوهُنَّ» ثلاثيّاً وهى واضحةٌ؛ لأن الغشيان من فعل الرجل؛ قال تعالى حكاية عن مريم ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ [مريم: ٢٠]. وقرأ حمزة والكسائيُّ فى الأحزاب «تُمَاسُّوهُنَّ» من المفاعلة، فيحتمل أن يكون «فَاعَلَ» بمعنى «فَعَلَ» ك «سَافَرَ»، فتوافق الأولى، ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة؛ كما قال تعالى: ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا﴾ [المجادلة: ٣]، وأيضاً: فإنَّ الفعل من الرجل والتمكين من المرأة، ولذلك قيل لها زانيةٌ، ورجَّح الفارسيّ قراءة الجمهور؛ بأنَّ أفعال هذا الباب كلَّها ثلاثيّةٌ؛ نحو: نَكَحَ، فَرَعَ، سَفَدَ، وضَرَبَ الفَحْلُ.
قال تعالى: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾ [الرحمن: ٧٤]، وقال: ﴿فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾ [النساء: ٢٥]، وأمّا قوله فى الظّهار: ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا﴾ [المجادلة: ٣] فالمراد به المماسَّة التى هي غير الجماع، وهي حرام فى الظهار.
قوله: ﴿أَوْ تَفْرِضُواْ﴾ فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه مجزوم عطفاً على «تَمَسُّوهُنَّ»، و «أَوْ» على بابها من كونها لأحد الشيئين، قاله ابن عطيَّة.
والثاني: أنه منصوب بإضمار «أَنْ» عطفاً على مصدر متوهِّم، و «أَوْ» بمعنى «إِلاَّ»، التقدير: ما لم تَمَسُّوهُنَّ إلا أن تفرضوا؛ كقولهم: «لأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِيَني حَقِّي» قاله الزمخشريُّ.
والثالث: أنه معطوف على جملةٍ محذوفةٍ، تقديره: «فَرَضْتُمْ أَوْ لَم تَفْرِضُوا»، فيكون هذا من باب حذف الجزم وإبقاء عمله، وهو ضعيفٌ جدًّا، وكأنَّ الذي حسَّن هذا كون لفظ «لَمْ» موجوداً قبل ذلك.
208
والرابع: أن تكون «أَوْ» بمعنى الواو.
قال تعالى: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] أي: وهم قائلون ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧] أي: ويزيدون، وقوله: ﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾ [الإنسان: ٢٤] وقوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى﴾ [النساء: ٤٣] معناه وجاء أحدٌ منكم من الغائط، وأنتم مرضى أو مسافرون.
قال ابن الخطيب: فإذا تأمَّلت هذا القول، علمت أنّه متكلفٌ، بل خطأٌ قطعاً، والفرض في اللغة: التقدير، أي: تقدِّروا لهن شيئاً.
قوله: «فَرِيضَةً» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعولٌ به، وهو بمعنى مفعولة، أي: إلاَّ أن تفرضوا لهنَّ شيئاً مفروضاً.
والثاني: أن تكون منصوبةٌ على المصدر بمعنى فرضاً، واستجود أبو البقاء الوجه الأول؛ قال: «وأَنْ يكونَ مفعولاً به، وهو الجَيِّدُ» والموصوف محذوفٌ، تقديره: متعةً مفروضةً.

فصل في سبب النزول


هذه الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار تزوج امرأة من بنى حنيفة ولم يسمِّ لها مهراً، ثم طلَّقها قبل أن يمسَّها؛ فنزلت هذه الآية؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَتِّعْهَا وَلَوْ بِقَلَنْسُوَتِك».
قوله: «وَمَتِّعُوهُنَّ» : قال أبو البقاء: «وَمَتِّعُوهِنَّ» معطوف على فعل محذوفٍ، تقديره: «فَطلِّقوهنَّ ومتِّعوهنَّ»، وهذا لا حاجة إليه؛ فإنَّ الضمير المنصوب في «مَتِّعُوهُنَّ» عائدٌ على المطلَّقات قبل المسيس، وقبل الفرض، المذكورين في قوله: ﴿إِن طَلَّقْتُمُ النسآء... ﴾ إلى آخرها.
فإن قيل: ظاهر الآية مشعرٌ بأن نفي الجناح عن المطلق مشروطٌ بعدم المسيس، وليس كذلك، فإنّه لا جناح عليه - أيضاً - بعد المسيس.
فالجواب من وجوه:
الأول: أنّ الآية دالةٌ على إباحة الطلاق قبل المسيس مطلقاً في زمان الحيض،
209
وغيره؛ فكان عدم المسيس شرطاً في إباحة الطلاق مطلقاً.
الثاني: ما قدمناه من أنَّ «مَا» بمعنى «الذي»، والتقدير: إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسُّوهنَّ؛ إلاَّ أنَّ «ما» اسمٌ جامدٌ لا ينصرف، ولا يبين فيه الإعراب، وعلى هذا فلا تكون «مَا» شرطاً فزال السؤال.
الثالث: قال القفال: إن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر، وتقديره: لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسُّوهنَّ أو تفرضوا لهنَّ فريضة، يعني: لا يجب المهر إلاّ بأحد هذين الأمرين، فإذا فقدا جميعاً لم يجب المهر.
قال ابن الخطيب: وهذا ظاهر، وبيان أنّه قوله: «لاَ جُنَاحَ» معناه: لاَ مَهْرَ؛ لأنَّ إطلاق لفظ «الجنَاحِ» على المهر محتملٌ؛ لأن أصل الجناح في اللغة: الثقل، يقال: جَنَحتِ السفينة، إذا مالت بثقلها، والذنب يسمَّى جناحاً؛ لما فيه من الثِّقل، قال تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: ١٣]، وإذا ثبت أن الجناح هو الثقل، ولزوم أداء المال ثقل، فكان جُنَاحاً، ويدلُّ على أنَّ هذا هو المراد وجهان:
الأول: أنه تعالى قال: ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ نفى الجناح محدوداً إلى غاية، وهي إمَّا المسيس، أو الفرض والتقدير، فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين، ثم إنَّ الجناح الذي يثبت عند أحد هذين الأمرين، هو لزوم المهر.
الوجه الثاني: أنَّ تطليق النساء قبل المسيس، وبعد تقدير المهر، وهو المذكور في الآية التي بعدها، هو تقدير المهر، وقد أوجب فيه نصف المهر وهذا كالمقابل له، فوجب أن يكون الجناح المنفي عنه هناك، هو المثبت ها هنا، فلما كان المثبت في الآية التي بعدها، هو لزوم المهر، وجب أن يقال: الجناح المنفي في هذه الآية هو لزوم المهر.
قوله: ﴿لَى الموسع قَدَرُهُ﴾ جملةٌ من مبتدأ وخبر، وفيها قولان:
أحدهما: أنها لا محلَّ لها من الإعراب، بل هي استئنافيةٌ بيَّنت حال المطلِّق بالنسبة إلى إيساره وإقتاره.
والثاني: أنها في موضع نصب على الحال، وذو الحال فاعل «مَتِّعُوهُنَّ».
قال أبو البقاء: «تقديره: بقَدر الوُسْعِ»، وهذا تفسير معنًى، وعلى جعلها حاليةً: فلا بدَّ من رابطٍ بينها وبين صاحبها، وهو محذوفٌ، تقديره: على المُوسِع مِنْكُمْ، ويجوز على مذهب الكوفيين ومن تابعهم: أن تكون الألف واللام قامت مقام الضمير المضاف إليه، تقديره: «عَلَى مُوسِعِكُمْ قَدَرُهُ».
210
وقرأ الجمهور: «المُوسِعِ» بسكون الواو وكسر السين، اسم فاعل من أوسَعَ يُوسِعُ، وقرأ أبو حيوة بفتح الواو وتشديد السين، اسم مفعولٍ من «وَسَّعَ». وقرأ حمزة والكسائيُّ وابن ذكوان وحفصً: «قَدَرهُ» بفتح الدال في الموضعين، والباقون بسكونها.
واختلفوا: هل هما بمعنًى واحدٍ، أو مختلفان؟ فذهب أبو زيد والأخفش، وأكثر أئمة العربية إلى أنهما بمعنًى واحدٍ، حكى أبو زيدٍ: «خُذْ قَدَرَ [كَذَا] وقَدْرَ كَذَا»، بمعنًى واحدٍ، قال: «ويُقْرَأُ في كتاب الله: ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد: ١٧]، و» قَدْرِهَا «، وقال: ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: ٩١] ولو حركت الدال، لكان جائزاً. وذهب جماعةٌ إلى أنهما مختلفان، فالساكن مصدرٌ والمتحرك اسمٌ؛ كالعدِّ والعدد، والمدِّ والمدد، وكأنَّ القدر بالتسكين الوسع، يقال:» هُوَ يُنْفِقُ عَلَى قَدْرِهِ «أي وسعه، وقيل: بالتَّسكين الطاقة، وبالتحريك المقدار، قال أبو جعفر:» وَأَكثرُ ما يُسْتَعْمَل بالتحْرِيكِ، إذا كان مساوياً للشيء، يقال: هَذَا عَلَى قَدَرِ هَذَا «.
وقرأ بعضهم بفتح الراء، وفي نصبه وجهان:
أحدهما: أن يكون منصوباً على المعنى.
قال أبو البقاء: وهو مفعولٌ على المعنى؛ لأنَّ معنى»
مَتِّعُوهُنَّ « [لِيُؤَدِّ كُلٍّ مِنْكُمْ قَدَرَ وُسْعِهِ» وشرح ما قاله: أن يكون من باب التضمين، ضمَّن «مَتِّعُوهُنَّ» ] معنى «أَدُّوا».
والثاني: أن يكون منصوباً بإضمار فعلٍ، تقديره: فأوجبوا على الموسع قدره، وجعله أبو البقاء أجود من الأول، وفي السَّجاونديِّ: «وقال ابن أبي عبلة: قَدَرَهُ، أي: قَدَرَهُ اللهُ» انتهى.
وظاهر هذا: أنه قرأ بفتح الدال والراء، فيكون «قَدَرَهُ» فعلاً ماضياً، وجعل فيه ضميراً فاعلاً يعود على الله تعالى، والضمير المنصوب يعود على المصدر المفهوم من «مَتِّعُوهُنَّ»، والمعنى: أنَّ الله قدر وكتب الإمتاع على الموسع وعلى المقتر.
قوله: «مَتَاعاً» في نصبه وجهان:
211
أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدر، وتحريره أنه اسم مصدرٍ؛ لأنَّ المصدر الجاري على صدره إنَّما هو التمتيع، فهو من باب: ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧]. وقال أبو حيَّان: قالوا: انتصَبَ على المصدرِ؛ وتحريرُهُ: أن المتاع هو ما يمتع به، فهو اسمٌ له، ثم أطلق على المصدر؛ على سبيل المجاز، والعامل فيه: «وَمَتِّعُوهُنَّ» قال شهاب الدين: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعهود أن يطلق المصدر على أسماء الأعيان؛ كضربٍ بمعنى مضروبٍ، وأمَّا إطلاق الأعيان على المصدر، فلا يجوز، وإن كان بعضهم جوَّزه على قلَّةٍ؛ نحو قولهم: «تِرْباً وَجَنْدَلاً» و «أَقَائِماً، وَقَدْ قَعَدَ النَّاسُ»، والصحيح أن «تِرْباً» ونحوه مفعولٌ به، و «قائماً نصبٌ على الحال.
[والثاني من وجهي»
مَتَاعاً «أن ينتصب على الحال]، والعامل فيه ما تضمَّنه الجارُّ والمجرور من معنى الفعل، وصاحب الحال ذلك الضمير المستكنُّ في ذلك العامل، والتقدير: قدر الموسع يستقرُّ عليه في حال كونه متاعاً.
قوله:»
بالمعروف «فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق ب»
مَتِّعُوهُنَّ «، فتكون الباء للتعدية.
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل»
مَتَاعاً «؛ فيكون في محلِّ نصبٍ، والباء للمصاحبة، أي: متاعاً ملتبساً بالمعروف.
قوله:»
حَقّاً «في نصبه أربعة أوجه:
أحدها: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملة قبله؛ كقولك:»
هَذَا ابْنِي حَقّاً «وهذا المصدر يجب إضمار عامله، تقديره: حَقَّ ذلك حقّاً، ولا يجوز تقديم هذا المصدر على الجملة قبله.
والثاني: أن يكون صفةً ل»
مَتَاعاً «، أي: متاعاً واجباً على المحسنين.
والثالث: أنه حالٌ ممَّا كان حالاً منه»
مَتَاعاً «وهذا على رأي من يجيز تعدُّد الحال.
والرابع: أن يكون حالاً من»
المَعْرُوفِ «، أي: بالذي عرف في حال وجوبه على المحسنين، و» عَلَى المُحْسِنِينَ «يجوز أن يتعلَّق ب» حَقًّا «؛ الواجب، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ له.

فصل


اعلم أن المطلقات أربعة أقسام:
القسم الأول: وهو ألاَّ يؤخذ منهم على الفراق شيءٌ ظلماً، وأخبر أن لهن كمال المهر، وعليهن العدَّة.
القسم الثاني: المطلقة قبل الدُّخول، وقد فرض لها - وهي المذكورة في الآية التي بعد هذه - وبيَّن أنَّ لها نصف المفروض لها، وبيّن في سورة الأحزاب أنَّ لا عدَّة على
212
غير المدخول بها؛ فقال:
﴿إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: ٤٩].
القسم الرابع: المطلقة بعد الدُّخول، ولم يكن فرض لها، وحكم هذا القسم، مذكورٌ في قوله تعالى: ﴿فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [النساء: ٢٤].
والقياس أيضاً يدلّ عليه، فإنّ الأمَّة مجمعةً على أن الموطوءة بشبهةٍ لها مهر المثل، والموطوءة بنكاحٍ صحيحٍ، أولى بهذا الحكم.

فصل


تمسك بعضهم بهذه الآية على أنَّ جمع الثلاثة ليس بحرامٍ، قالوا: لأن قوله: ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء﴾ يتناول جيميع أنواع التطليق بدليل أنّه يصحُّ استثناء الثلاث منها، فيقال: لا جناح عليكم إن طلَّقتم النساء إلاّ إذا طلَّقتموهنَّ بثلاث تطليقاتٍ فإنّ عليكم الجناح، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، وعلى هذا فتتناول هذه الآية جميع أنواع التطليق مفرداً أو مجموعاً.
قال ابن الخطيب: وهذا الاستدلال ضعيفا؛ لأن الآية دالَّةٌ على تحصيل هذه الماهيَّة في الوجود، ويكفي في العمل بها إدخاله في الوجود مرَّةً واحدةً، ولهذا قلنا: إنَّ الأمر المطلق لا يفيد التكرار، كما إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالقٌ، فإن اليمين انعقدت على المرّة الواحدة فقط، فثبت أنَّ هذا اللفظ لا يتناول حالة الجمع، وأمَّا الاستثناء فإنَّه يشكل بالأمر، لأنّه لا يفيد التكرار بالاتفاق من المحقّقين، مع أنَّه يصحُّ أن يقال: صلِّ إلاَّ في الوقت الفلانيّ.

فصل في جواز عقد النكاح بغير مهر


قال بعض العلماء: دلَّت هذه الآية على أنَّ عقد النكاح بغير المهر جائزٌ.
وقال القاضي: لا تدلُّ على الجواز، لكنها تدلُّ على الصِّحة، فإنّه لو لم يكن صحيحاً، لم يكن الطلاق مشروعاً، ولم تلزم المتعة، ولا يلزم من الصِّحة الجواز، بدليل أنّ الطلاق في زمن الحيض حرامٌ وإذا أوقعه صحَّ.

فصل


بيَّن في هذه الآية أن المطلقة قبل الدخول والفرض، لها المتعة، وقد تقدّم تفسير «
213
المُتْعَةِ» في قوله: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة﴾ [البقرة: ١٩٦].
واعلم أنَّ المطلَّقة قبل الدخول، إن كان قد فرض لها، فلا متعة لها في قول الأكثرين؛ لأن الله تعالى أوجب في حقِّها نصف المهر، ولم يذكر المتعة، ولو كانت واجبةً، لذكرها. وإن لم يكن فرض لها فلها المتعة؛ لهذه الآية.
قال القرطبي: من جهل المتعة حتَّى مضت أعوامٌ، فليدفع ذلك إليها، وإن تزوَّجت، وإلى ورثتها إن ماتت، رواه ابن المواز، عن ابن القاسم.
وقال أصبغ: لا شيء عليه، إن ماتت؛ لأنها تسليةٌ للزوجة عن الطَّلاق، وقد فات ذلك.
ووجه الأول: أنه حقٌّ ثبت عليه، فينتقل إلى ورثتها، كسائر الحقوق.
واختلفوا في المطلَّقة بعد الدُّخول، فذهب جماعةٌ: إلى أنه لا متعة لها؛ لأنها تستحق المهر، وهو قول أصحاب الرأي.
وذهب جماعةٌ: إلى أنَّ لها المتعة؛ لقوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف﴾ [البقرة: ٢٤١]، وهو قول عبد الله بن عمر، وبه قال عطاء، ومجاهد، والقاسم بن محمد، وإليه ذهب الشافعيُّ قال: لأنها تستحقُّ المهر بمقابلة إتلاف منفعة البضع، ولها المتعة على وحشة الفراق.
وقال الزُّهريُّ: متعتان يقضي بإحداهما السلطان، وهي المطلقة قبل الفرض، والمسيس، وهي قوله: ﴿حَقّاً عَلَى المحسنين﴾ ومتعةٌ تلزمه فيما بينه وبين الله تعالى لا يقضي بها السلطان وهي المطلقة بعد الفرض والمسيس وهي قوله: «حَقّاً عَلَى المتَّقين».
وذهب الحسن، وسعيد بن جبير: إلى أنَّ لكل مطلقةٍ متعةٌ، سواء كان قبل الفرض، والمسيس، أو بعده؛ كقوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف﴾ [البقرة: ٢٤١] ؛ ولقوله في سورة الأحزاب: ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٤٩] وقال الآخر: المتعة غير واجبةٍ، والأمر بها أو ندبٍ، واستحباب.
روي أنَّ رجلاً طلّق امرأته، وقد دخل بها؛ فخاصمته إلى شريح في المتعة؛ فقال شريحٌ: لا تأب أن تكون من المحسنين، ولا تأب أن تكون من المتَّقين، ولم يجبره على ذلك.

فصل في بيان مقدار المتعة


اختلفوا في قدر المتعة، فروي عن ابن عباس: أعلاها خادمٌ، وأوسطها ثلاثة
214
أثواب: درع، وخمار، وإزار، ودون ذلك وقاية، أو شيء من الورق.
وبه قال الشَّعبيُّ، والزُّهريُّ، وهو مذهب الشافعي، وأحمد. قال الشافعي: أعلاها على الموسع: خادم، وأوسطها: ثوبٌ، وأقلُّها: أقل ماله ثمن حسنٌ ثلاثون درهماً، «وَعَلَى المقتر» مقنعة.
وروي عن ابن عباس أنّه قال: أكثر المتعة خادمٌ، وأقلها مقنعة، وأيُّ قدر أدَّى، جاز في جانبي الكثرة، والقلة.
وطلَّق عبد الرحمن بن عوف امرأته وجمعها جاريةً سوداء، أي: متَّعها.
ومتَّع الحسن بن عليٍّ امراته بعشرة آلاف درهم، فقالت: متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مفارق.
وقال أبو حنيفة: المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل، قال: لأن حال المرأة التي يسمَّى لها المهر، أحسن من حال التي لم يسمَّ لها، فإذا لم يجب لها زيادةٌ على نصف المسمَّى، إذا طلَّقت قبل الدُّخول، فلأن لا يجب زيادةٌ على نصف مهر المثل أولى.

فصل في دلالة الآية على حال الزوج من الغنى والفقر.


دلَّت الآية على أنَّه يعتبر حال الزوج: في الغنى، والفقر؛ لقوله: ﴿عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ﴾.
وقال بعض العلماء: يعتبر حالهما وهو قول القاضي.
وقال أبو بكرٍ الرَّازي: يعتبر في المتعة حال الرجل؛ للآية، وفي مهر المثل حالها، وكذلك في النفقة، واحتج القاضي بقوله: «بالمعروف» فإنّ ذلك يدلُّ على حالهما؛ لأنه ليس من المعروف أن يسوِّي بين الشريفة، الوضيعة.

فصل


إذا مات أحدهما قبل الدُّخول، والفرض؛ اختلف أهل العلم في أنها هل تستحقُّ المهر، أم لا؟ فذهب عليٌّ، وزيد بن ثابتٍ، وعبد الله بن عمرن وعبد الله بن عباسٍ: إلى أنَّه لا مهر لها، كما لو طلَّقها قبل الفرض، والدخول.
215
وذهب قومٌ إلى أنَّ لها المهر، لأن الموت كالدخول في تقدير المسمَّى، فكذلك في إيجاب مهر المثل، إذا لم يكن في العقد مسمى، وهو قول الثَّوريَّ، وأحمد، وأصحاب الرَّأي.
واحتجَّوا بما روى علقمة، عن ابن مسعود: أنَّه سئل عن رجل تزوَّج امرأةً، ولم يفرض لها صداقاً، ولم يدخل بها حتى مات.
قال ابن مسعود: لها صداق نسائها؛ لا وكس، ولا شطط؛ وعليها العدَّة، ولها الميراث؛ فقام معقل بن يسار الأشجعيِّ، فقال: «قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بَروعَ بنت واشقٍ - امْرَأَةٍ مِنَّا - مِثْلَ مَا قَضَيْتَ»، ففرح بها ابن مسعود.
وقال الشَّافعيُّ: فإن ثبت حديث بروع بنت واشق، فلا حجَّة في قول أحد دون النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وإن لم يثبت، فلا مهر لها؛ ولها الميراث. وكان عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يقول في حديث بروع: لا تقبل قول أعربيٌّ من أشجع، على كتاب الله، وسنَّة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.

فصل في اختلافهم في الخلوة


إنَّما خصَّ المحسنين؛ لأنهم المنتفعون بهذا البيان، كقوله: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: ٤٥].
وقال أبو مسلم: من أراد أن يكون من المحسنين، فهذا شأنه، وطريقه، والمحسن: هو المؤمن؛ فيكون المعنى: أنَّ العمل بما ذكرت هو طريق المؤمنين، وقيل: «حَقّاً عَلَى المحسنين» إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى.
216
هذه الآية في المطلَّقة قبل المسيس المفروض لها؛ فبيَّن أنَّ لها نصف ما فرض لها.
واختلف أهل العلم في الخلوة، فقال الشَّافعيُّ: إنها تقرر نصف المهر.
وقال أبو حنيفة: الخلوة الصَّحيحة: أن يخلو بها، وليس هناك مانعٌ حسي، ولا شرعيٍّ، فالحسِّي: كالرَّتق، والقرن والمرض أو معهما ثالثٌ.
والشرعي: كالحيض، والنُّفاس، وصوم الفرض، وصلاة الفرض، والإحرام المطلق؛ فرضاً كان، أو نفلاً.
216
واحتجَّ الشَّافعيُّ: بأن الطلاق قبل المسيس يوجب سقوط نصف المهر؛ لأن قوله تعالى: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ ليس كلاماً تاماً، بل لا بدَّ من إضمار، [شيءٍ، ليتم] الكلام، فإمَّا أن يضمر: «فنصفُ مَا فَرضْتُمْ سَاقِطٌ»، أو يضمر: «فنصفُ مَا فَرَضْتُمْ ثَابِتٌ»، والإضمار الأوّل هو المقصود؛ لوجوه:
أحدها: أنّ المعلّق على الشَّيء بكلمة «إِنْ» عدمٌ عند عدم ذلك الشيء ظاهراً؛ فلو حملناه على الوجوب، تركنا العلم بمقتضى التعليق، لأنّه غير منفي قبله، وإذا حملناه على السقوط، عملنا بمقتضى التَّعليق؛ لأنه منفيٌّ قبله.
وثانيها: أنَّ قوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ يقتضي وجوب كلِّ المهر عليه، لأنه لمّا التزم كلَّ المهر، لزمه الكلُّ بقوله تعالى: ﴿أَوْفُواْ بالعقود﴾ [المائدة: ١] فلا حاجة إلى بيان ثبوت النصف، وإنَّما المحتاج إليه بيان سقوط النصف؛ لأن المقتضي لوجوب الكل قائمٌ، فكان سقوط البعض ها هنا، هو المحتاج إلى البيان، فكان حمل الآية على بيان السقوط، أولى من حملها على بيان الوجوب.
وثالثها: أن الآية الدَّالة على وجوب إيتاء المهر، قد تقدمت في قوله: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً﴾ [البقرة: ٢٢٩] فحمل الآية على سقوط النِّصف أولى.
ورابعها: أن المذكور في هذه الآية، هو الطلاق قبل المسيس، وهو يناسب سقوط نصف المهر، ولا يناسب وجوب شيءٍ، فلمّا كان إضمار السقوط أولى، لا جرم استقصينا هذه الوجوه؛ لأن منهم من قال: معنى الآية: فنصف ما فرضتم واجبٌ، وتخصيص النصف بالوجوب، لا يدلُّ على سقوط الآخر، إلاّ من حيث دليل الخطاب، وهو عند أبي حنيفة ليس بحجَّة. وقد ذكرنا هذه الوجوه؛ دفعاً لهذا السؤال.
واستدلَّ أبو حنيفة بقوله تعالى: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً﴾ [النساء: ٢٠] إلى قوله: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٢١] فنهى تعالى عن أخذ المهر، ولم يفرّق بين الطلاق، وعدم الطَّلاق، إلاَّ إن توافقنا على تخصيص الطلاق قبل الخلوة فمن ادّعى التخصيص - ها هنا - فعليه البيان، وأيضاً فإنّه تعالى نهى عن أخذ المهر، وعلَّل بعلَّة الإفضاء، وهي الخلوة، لأنَّ الإفضاء: مشتقٌّ من الفضاء، وهو المكان الخالي فعلمنا أنَّ الخلوة تقرَّر المهر.
والجواب عن ذلك: بأن دليلهم عامٌّ، ودليلنا خاصٌّ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامِّ.
قوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ﴾ : هذه الجملة في موضع نصب على الحال، وذو الحال يجوز أن يكون ضمير الفاعل، وأن يكون ضمير المفعول؛ لأنَّ الرباط موجودٌ فيهما،
217
والتقدير: وإن طلقتموهن فارضين لهن، أو مفروضاً لهنَّ، و «فَرِيضَة» فيها الوجهان المتقدمان.
والفاء في «فَنِصْفُ» جواب الشرط، فالجملة في محلِّ جزمٍ؛ جواباً للشرط، وارتفاع «نِصْفُ» على أحد وجهين: إمَّا الابتداء، والخبر حينئذٍ محذوفٌ، وإن شئت قدَّرته قبله، أي: فعليكم أو فلهنَّ نصف، وإن شئت بعده، أي: فنصف ما فرضتم عليكم - أو لهنَّ - وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فالواجب نصف.
وقرأت فرقةٌ: فَنِصْفَ «بالنصب على تقدير:» فَادْفَعُوا، أَوْ أَدُّوا «، وقال أبو البقاء:» ولو قُرِئَ بالنصبِ، لكان وجهه فَأَدَّوا [نِصْفَ] «فكأنه لم يطَّلع عليها قراءة مرويَّةً.
والجمهور على كسر نون»
نِصْف «، وقرأ زيدٌ وعليٌّ، ورواها الأصمعيُّ قراءة عن أبي عمرو:» فَنُصْف «بضمِّ النون هنا، وفي جميع القرآن، وهما لغتان، وفيه لغةٌ ثالثة:» نَصِيف «بزيادة ياءٍ، ومنه الحديث:» مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ «.
والنَّصيف - أيضاً -: القناع، قاله القرطبي، والنِّصف: الجزء من اثنين، يقال: نصف الماء القدح، أي: بَلَغَ نِصْفَهُ، ونَصَفَ الإزار السّاق، وكلُّ شيءٍ بلغ نصف غيره، فقد نصفه.
و»
مَا «في» مَا فَرَضْتُمْ «بمعنى» الَّذِي «، والعائدُ محذوف لاستكمالِ الشروطِ، ويضعفُ جعلُها نكرةً موصوفةً.
قوله تعالى: ﴿إَلاَّ أَن يَعْفُونَ﴾ في هذا الاستثناء وجهان:
أحدهما: أن يكونَ استثناءً منقطعاً، قال ابن عطيَّة وغيره: لأنَّ عَفْوَهُنَّ عَنِ النِّصْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَخْذِهِنَّ»
.
والثاني: أنه متصلٌ، لكنه من الأحوال؛ لأَنَّ قوله: «فنصفُ ما فَرَضْتُمْ» معناه: فالواجبُ عليكم نصفُ ما فَرَضْتُمْ في كلِّ حال، إلا في حال عَفْوِهِنَّ، فإنه لا يجب، وإليه نَحَا أبو البقاء، وهذا ظاهرٌ، ونظيرُه: ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ﴾ [يوسف: ٦٦] وقال
218
أبو حيان «إِلاَّ أَنَّ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَقعَ» أَنْ «وصلتُها حالاً، كسيبويه؛ فإنه يمنعُ ذلك، ويكونُ حينئذٍ منقطعاً».
وقرأ الحسن «يَعْفُونَهُ» بهاء مضمومةٍ وفيها وجهان:
أحدهما: أنها ضميرٌ يعودُ على النِّصف، والأصلُ: إِلاّض أَنْ يَعْفُونَ عَنْهُ، فحُذِف حرفُ الجَرِّ، فاتصل الضميرُ بالفعلِ.
والثاني: أنها هاءُ السكتِ والاستراحةِ، وإنما ضَمَّها؛ تشبيهاً بهاءِ الضميرِ، كقول الآخر [الطويل]
١١٤٤ - هُمُ الفَاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ.............................
على أحدِ التأويلين في البَيت أيضاً.
وقرأ ابن أبي إسحاق: «تَعْفُونَ» بتاءِ الخطابِ، ووجهها الالتفاتُ من ضميرِ الغَيبة إلى الخطابِ، وفائدةُ هذا الالتفاتِ التحضيضُ على عَفْوِهنَّ، وأنه مندوبٌ.
و «يَعْفُونَ» منصوبٌ ب «أَنْ» تقديراً؛ فإنَّه مبنيٌّ؛ لاتصاله بنونِ الإِناثِ، هذا رأيُ الجمهور، وأمَّا ابن درستويه، والسُّهَيْليُّ: فإنه عندهما معربٌ، وقد فَرَّق الزمخشريُّ وأبو البقاء بين قولك: «الرِّجَالُ يَعْفُونَ» و «النِّسَاءُ يَعْفُونَ» وإنْ كان [هذا] من الواضحاتِ بأنَّ قولك «الرِّجَالُ يَعْفُونَ» الواو فيه ضميرُ جماعة الذكور، وحُذف قبلها واوٌ أخرى هي لام الكلمة، فإن الأصل: «يَعْفُوونَ»، فاسْتُقْقلت الضمةُ على الواوِ الأولى، فحُذِفت، فبقيت ساكنةً، وبعدها واو الضمير أيضاً ساكنةٌ، فحُذِفت الواو الأولى؛ لئلاَّ يلتقي ساكنان، فوزنهُ «يَعْفُونَ»، والنونُ علامة الرفع؛ فإنه من الأمثلةِ الخمسةِ - وأَنَّ قولك: «النِّسَاءُ يَعْفُونَ»، الواوُ لامُ الفعل، والنون ضميرُ جماعةِ الإِناثِ، والفعل معها مبنيٌّ، لا يظهرُ للعامِل فيه أَثَرٌ قال شهاب الدين: وقد ناقش الشيخ الزمخشريُّ بأنَّ هذا من الواضحات التي بأدنى قراءة في هذا العلم تُعْرَفُ، وبأنه لم يبيِّنْ حذف الواو من قولك: «الرِّجَالُ يَعْفُونَ»، وأنه لم يذكُرْ خلافاً في بناء المضارع المتَّصلِ بنون الإناث، وكُلُّ هذا سهلٌ لا ينبغي أن يُناقَشَ بمثله.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ يَعْفُوَاْ الذي﴾ «أَوْ» هنا فيها وجهان:
أحدهما: هي للتنويع.
والثاني: أنها للتخيير، والمشهورُ فتحُ الواو؛ عطفاً على المنصوبِ قبله، وقرأ
219
الحسن بسكونها واستثقل الفتحة على الواو، فقدَّرها كما يقدِّرها في الألف، وسائرُ العرب على استخفافها، ولا يجوز تقديرها إلا في ضرورةٍ؛ كقوله - هو عامر بن الطُّفَيل -[الطويل]
١١٤٣ - إِنِّي بِحَبْلِكَ وَاصِلٌ حَبْلِي وَبِرِيشِ نَبْلِكَ رَائِشٌ نَبْلِي
مَا لَمْ أَجِدْكَ عَلَى هُدَى أَثَرٍ يَقْرُو مَقَصَّكَ قَائِفٌ قَبْلِي
١١٤٥ - فَمَا سَوَّدَتْني عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ أَبَى اللهُ أَنْ أَسْمُوْ بَأُمِّ وَلاَ أَبِ
ولمَّا سكَّن الواوَ، حُذِفَت للساكن بعدها، وهو اللامُ من «الَّذِي»، وقال ابنُ عطية «والذي عندي أنه استثقل الفتحةَ على واو متطرِّفةٍ قبلها متحرِّكٌ؛ لقلِّةِ مجيئها في كلامهم» وقال الخليل: «لم يجئ في الكلام واوٌ مفتوحةٌ متطرفةٌ قبلها فتحةٌ إلا قولهم» عَفْوَة «جمع عَفْو»، وهو ولدُ الحِمَارِ، وكذلك الحركة - ما كانت - قبل الواو المفتوحةِ فإنَّها ثقيلةٌ «انتهى. قال أبو حيَّان: فقوله:» لقلَّةِ مجيئها «، يعني مفتوحةً، مفتوحاً ما قبلَها، وهذا الذي ذكره فيه تفصيلٌ، وذلك أنَّ الحركةَ قبلها: إمَّا أَنْ تكونَ ضمةً، أو كسرةً، أو فتحةً، فإنْ كانَتْ ضمَّةً: فإمَّا أَنْ يكونَ ذلك في اسم أو فعلٍ، فإنْ كان في فعلٍ، فهو كثيرٌ، وذلك جميعُ أمثلةِ المضارع الداخلِ عليها حرف نصبٍ؛ نحو:» لَنْ يَغْزُوَ «، والذي لحِقَه نونُ التوكيد منها؛ نحو» هلَ يَغْزُوَنَّ «، وكذلك الأمر؛ نحو:» اغْزُوَنَّ «، وكذا الماضي على» فَعُلَ «في التعجب؛ نحو: سَرُوَ الرَّجُل؛ حتى إن ذوات الياء تُرَدُّ إلى الواو في التعجُّب، فيقولون:» لَقَضُوَ الرَّجُلُ «، على ما قُرِّرَ في بابِ التصريف، وإنْ كان ذلك في اسم: فإمَّا أن يكونَ مبنيّاً على هاءِ التأنيث، فيكثر أيضاً؛ نحو: عَرْقُوة وتَرْقُوة وقمحدوة، وإنْ كان قبلها فتحة، فهو قليل؛ كما ذكر الخليل، وإن كان قبلها كسرةٌ، قُلِبت الواوُ ياءً؛ نحو: الغازي والغازية، وشَذَّ من ذلك» أَفْرِوَة «جمع» فَرِوَة «، وهي مَيْلَغَةُ الكَلْب، و» سَوَاسِوَة «وهم: المستوون في الشَّرِّ، و» مَقَاتِوَة «جمع مُقْتَو، وهو السائسُ الخادِمُ، وتَلَخَّصَ من هذا أنَّ المراد بالقليل واوٌ مفتوحةٌ متطرِّفة مفْتُوحٌ ما قبلها [في] اسمٍ غير ملتبسٍ بتاءِ التأنيثِ، فليس قولُ ابن عطية» والَّذي عندي إلَى آخره «بظاهر.
والمرادُ بقوله: ﴿الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾ قيل: الزوجُ، وقيلَ: الولِيُّ و «أل»
في النكاح للعهدِ، وقيل بدلٌ من الإِضافةِ، أي: نكاحُه؛ كقوله: [الطويل]
١١٤٦ - لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِهَا اللهُ غَيْرَهُمْ مِنَ الجُودِ، وَالأَحْلاُمُ غَيْرُ عَوَازِبِ
أي: أحلامُهم، وهذا رأيُ الكوفيِّين. وقال بعضهم: في الكلامِ حذفٌ، تقديره:
220
بيده حِلُّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ؛ كما قيل ذلك في قوله: ﴿وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح﴾ [البقرة: ٢٣٥]، أي عَقْدَ عُقْدَةِ النكاح، وهذا يؤيِّد أنَّ المرادَ الزَّوْجُ.

فصل فيمن بيده عقدة النكاح


المراد بقوله: «يَعفُونَ» أي: المطلقاتُ يعفُون عن أزواجهنَّ، فلا يطالبنهم بنصفِ المهرِ.
واختلفوا في ﴿الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾ فقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وسعيدُ بن جُبير، والشعبي، وشُرَيحٌ، ومجاهدٌ، وقتادة: هو الزَّوج، وبه قال أبو حنيفة.
وقال علقمةُ، وعطاءُ، والحسنُ، والزهريُّ، وربيعةُ: هو الولي، وبه قال أصحابُ الشَّافعيِّ.
واحتج الأَوَّلون بوجوهٍ:
الأول: أنَّه ليس للولِيّ أَنْ يهب مهرَ وليَّته، صغيرةً كانت، أو كبيرةً.
الثاني: أنَّ الَّذي بيد الولِيّ هو عقدُ النكاحِ، فإذا عقد، فقد حصل النكاحُ، والعقدةُ الحاصلةُ بعد العقدِ في يدِ الزَّوج، لا في يدِ الولي.
الثالث: روي عن جُبير بن مطعم: أَنَّهُ تزوج امرأةً وطلَّقها قبل أن يدخل بها، فأكمل الصداق، وقال: أنا أحَقُّ بالعفوِ، وهذا يدل على أنّ الصحابةَ فهموا من الآية العفو الصادر من الزوج.
واحتج القائِلون بأنّه الوَلِيُّ بوجوهٍ.
أحدها: أن عفو الزوج هو أن يعطيها المهرَ كُلَّهُ، وذلك يكون هبةً، والهبةُ لا تُسمَّى عفواً.
وأُجيبوا بأنه كان الغالب عندهم، أَنْ يسوق المهرَ كُلَّه إليها، عند التزوج، فإذا طلّق، فقد استحقَّ المُطَالبة بنصفِ ما ساقَهُ إليها، فإذا ترك المطالبة، فقد عفا عنها.
221
وأيضاً، فالعفو قد يُراد به التسهيلُ، يقال: فلانٌ وجد المالَ عفواً صَفْواً، وقد تقدَّم وجهه في تفسير قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ [البقرة: ١٧٨] فعلى هذا عفو الرجل: أَنْ يبعث إليها كُلَّ الصداقِ على وجهِ السهُولةِ.
الثاني: أَنَّ ذكر الزَّوج، قد تقدَّم في قوله تعالى: ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ﴾ فلو كان المرادُ ب ﴿الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾ هو الزوج، لقال: أَوْ تَعْفُو على سبيل المخاطبةِ فلمَّا عبّر عنه بلفظ الغائب، علِمْنا الغائب، علِمْنا أَنَّ المرادَ منه غيرُ الأَزواج.
وأجيبوا بأَنَّ سبب العُدُولِ عن الخطاب إلى الغيبة؛ التنبيه على المعنى الذي لأجله رغب الزوج في العقد، والمعنى: أَوْ يَعْفُو الزوج الذي حبسها مالك عقد نكاحها عن الأزواج، ولم يكن منها سبب في الفراق وَإِنَّما فارقها الزوج، فلا جرم كان حقيقاً بأَلاَّ ينقصها من مهرِها شيئاً.
الثالث: أَنَّ الزوج ليس بيده عَقْدُ عُقْدة النكاح أَلْبَةَّةَ؛ لأنه قبل النكاح كان أَجْنبيّاً عن المرأة، ولا قُدْرة له على التصرف فيها بوجهٍ من الوجوهِ، وأمَّا بعد النكاح، فقد حصل النكاحُ، ولا قُدْرة له على إيجاد الموجودِ، بل له قدرةٌ على إِزالة النكاح، والله - تعالى - أثبت العفو لمن في يدِه، وفي قُدرته عقد النكاح.
قوله تعالى: ﴿وَأَن تعفوا أَقْرَبُ﴾ :«أَنْ تَعْفُوا» في محلِّ رفع بالابتداء؛ لأنه في تأويل «عَفْوُكُمْ»، و «أَقْرَبُ» خبره، وقرأ الجمهور «تَعْفُوا» بالخطاب، والمرادُ الرجالُ والنساءُ، فغلَّبَ المذكَّر لأنه الأصلُ، والتأنيث، قلتَ: «قَائِمَة» فاللفظ الدالُّ على المذكر هو الأَصل، والدالُّ على المؤنَّثِ فرعٌ عليه، وأمَّا المعنى: فلأَنَّ الكمال للذُّكور، والنُّقصانَ للإِناثِ؛ فلهذا متى اجتمع المذكرُ، والمؤنثُ - غُلِّب التذْكير، والظاهِرُ أنه للأزواج خاصَّةً؛ لأنهم المخاطبون في صدر الآيةِ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً من غائبٍ، وهو قوله: ﴿الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾ - على قولنا إنَّ المرادَ به الزوجُ -[وهو المختارُ]- إلى الخطابِ الأولِ في صدرِ الآية، وقرأ الشَّعبيُّ وأبو نهيك «يَعْفُوا» بياء من تحت، قال أبو حيَّان جعله غائباً، وجُمِع على معنى: ﴿الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾ ؛ لأنه للجنس لا يُراد به واحدق يعني أنَّ قوله: «وَأْنْ يَعْفُوا» أصله «يَعْفُوُونَ»، فلمَّا دخل الناصبُ، حُذِفت نونُ الرفعِ، ثم حُذِفَت الواوُ التي هي لامُ الكلمةِ، وهذه الباقية هي ضميرُ الجماعةِ، جُمِعَ على معنى الموصُول؛ لأنه وإِنْ كان مفرداً لفظاً، فهو مجموعٌ في المعنى؛ لأنه جنسٌ، ويظهر فيه
222
وجهٌ آخرُ، وهو أن تكونَ الواوُ لامَ الكلمةِ، وفي هذا الفعل ضميرٌ مفردٌ يعودُ على الذي بيده عُقدةُ النِّكَاح، إلا أنه قَدَّر الفتحةَ في الواوِ استثقالاً؛ كما تقدَّم في قراءةِ الحسن، تقديره: وأَنْ يَعْفُو الذي بيده عقدةُ النِّكاح.
قوله: ﴿للتقوى﴾ متعلِّقٌ ب «أَقْرَبُ» وهي هنا للتعديةِ، وقيلَ: بل هي للتعليل، و «أَقْرَبُ» تتعدَّى تارةً باللام، كهذه الآيةِ، وتارةً ب «إِلَى» ؛ كقوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ [ق: ١٦]، وليست «إِلَى» بمعنى «اللام»، وقيل: بل هي بمعناها، وهذا مذهبُ الكوفيين، أعنى التجوُّزَ في الحروفِ، ومعنى اللامِ و «إِلَى» في هذا الموضع يتقارَبُ.
وقال أبو البقاء: يجوزُ في غير القرآن: «أَقْرَبُ مِنَ التقوَى، وإِلَى التقْوَى»، إلاَّ أَنَّ اللامَ هنا تَدُلُّ على [معنًى] غير معنى «إِلَى»، وغير معنى «مِنْ»، فمعنى اللامِ: العفو أَقربُ مِنْ أَجْلِ التقوى، واللام تدلُّ على علَّة قُرب العفو، وإذا قلتَ: أقربُ إلى التقوى، كان المعنى: يقاربُ التقوى؛ كما تقول: «أَنْتَ أَقْرَبُ إِلَيَّ»، و «أَقْرَبُ مِنَ التَّقْوَى» يقتضي أن يكون العفو والتقوَى قريبَيْن، ولكنَّ العفوَ أشدُّ قُرباً من التقوَى، وليس معنى الآية على هذا. انتهى. فجعل اللام للعلة، لا للتعدية، و «إِلَى» للتعدية.
واعلم أَنَّ فِعْلَ التعجُّب، وأفعلَ التفضيلِ يتعدَّيان بالحرفِ الذي يتعدَّى به فعلهما قبل أن يكونَ تعجُّباً وتفضيلاً؛ نحو: «مَا أَزْهَدَنِي فِيهِ وَهُوَ أَزْهَدُ فِيهِ»، وإِنْ كان من متعدٍّ في الأصلِ: فإِنْ كان الفعلُ يُفهم علماً أو جَهْلاً، تعدَّيا بالباءِ؛ نحو: «هُوَ أَعْلَمُ بالفِقْهِ»، وإِنْ كان لا يفهم ذلك، تعدَّيا باللامِ، نحو: «مَا أَضْرَبَكَ لِزَيْدٍ» و «أَنْتَ أَضْرَبُ لِعَمرو» إِلاَّ في باب الحُبِّ والبُغْضِ، فإنهما يتعَدَّيان إلى المفعول ب «في»، نحو: «مَا أَحَبَّ زَيْداً فِي عَمرو، وَأَبْغَضَهُ فِي خَالِدٍ، وهو أَحَبُّ في بكرٍ، وأَبْغَضُ في خَالِدٍ» وإلى الفاعل المعنويِّ ب «إِلَى»، نحو «زَيْدٌ أَحَبُّ إِلَى عمرو من خالِدٍ، ومَا أَحَبَّ زَيْداً إِلَى عَمْرو»، أي: إِنَّ عَمْراً يُحِبُّ زَيْداً، وهذه قاعدةٌ جليلةٌ.
والمفضَّلُ عليه في الآيةِ الكريمةِ محذوفٌ، تقديرُه: أقربُ للتقوَى من تَرْكِ العَفْوِ، والياءُ في التقوَى بدلٌ من واو، وواوها بدلٌ من ياءٍ؛ لأنها من وَقَيْتُ أَقِي وِقَايَةً، وقد تقدَّم ذلك أوَّلَ السورة.

فصل


وإنَّما كان العفو أقرب إلى حُصُول التقوى؛ لأن مَنْ سمح بترك حَقِّه، فهو محسنٌ، ومَنْ كان مُحْسِناً، استحقَّ الثواب، وإذا استحق الثواب، فقد اتقى بذلك الثواب ما هو دونه مِنَ العقاب، وأيضاً فإن هذا الصنع يدعوه إلى ترك الظُّلم، وترك الظلم تقوى في
223
الحقيقة؛ لأن مَنْ سمح بحقِّه تقرُّباً إلى ربه، كان أبعد مِنْ أَنْ يظلم غيره.
قوله: ﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ﴾ قرأ الجمهور بضمِّ الواو مِنْ «تَنْسَوا» ؛ لأنها واوٌ ضمير، وقرأ ابن يعمر بكسرها تشبيهاً بواو «لَوْ» كما ضَمّوا الواو من «لَو» ؛ تشبيهاً بواو الضمير، وقال أبو البقاء في واوِ «تَنْسَوا» من القراءات ووجوهها ما ذكرناه في ﴿اشتروا الضلالة﴾ [البقرة: ١٦]، وكان قد قَدَّم فيها خمسَ قراءاتٍ، فظاهرُ كلامه عودُها كلِّها إلى هنا، إلاَّ أنه لم يُنْقَل هنا إلا الوجهان اللذان ذَكَرْتُهما.
وقرأ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «وَلاَ تَنَاسَوا» قال ابن عطيَّة: «وهي قراءة متمكِّنةٌ في المعنى؛ لأنه موضعُ تَنَاسٍ، لا نِسْيَانٍ، إلاَّ على التشبيه»، وقال أبو البقاء: «على باب المفاعلةِ، وهي بمعنى المتاركةِ، لا بمعنى السهو، وهو قريبٌ من قولِ ابن عطيَّة.
قوله تعالى:»
بَيْنَكُمْ «فيه وجهان.
أحدهما: أنه منصوبٌ ب»
تَنْسَوا «.
والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الفضل، أي كائناً بينَكثمْ، والأولُ أَوْلَى؛ لأنَّ النهيَ عن فِعْلٍ يكونُ بينَهم أبلغ من فعلٍ لا يكونُ بينَهُم والمرادُ بالفضلِ، أي: إفضال بعضكم لى بعض بإعطاء الرجل تمامَ الصداقِ، أو تركِ المرأَةِ نصيبها، حثَّهما جميعاً على الإحسان، ثم ختم الآية بما يجري مجرى التهديد، فقال: ﴿إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
قال القرطبي: هذا خبرٌ في ضمنه الوعد للمحسنين، والحِرمانُ لغير المحسنين، أي: لا يخفى عليه عفوكم، واستقضاؤكم.
224
قوله تعالى: ﴿حَافِظُواْ﴾ : في «فَاعَلَ» هنا قولان:
أحدهما: أنه بمعنى «فَعِلَ»، كطارَقْتُ النَّعْلَ، وعاقَبْتُ اللصَّ، ولمَّا ضمَّن المحافظة معنى المواظبةِ، عدَّاها ب «عَلَى».
224
الثاني: أنَّ «فَاعَلَ» على بابها من كونها بين اثنين، فقيلَ: بين العبدِ وربِّه، كأنه قيل: احفَظْ هذه الصلاةَ يحفظْكَ اللهُ، وقيل: بين العبدِ والصلاةِ، أي: احفَظْها تَحْفَظْك. وحفظُ الصَّلاة للمُصلِّي على ثلاثة أوجهٍ:
الأول: أنها تحفظه مِنَ المعاصي؛ كقوله: ﴿إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر﴾ [العنكبوت: ٤٥].
الثاني: تحفظه من البَلايا، والمِحَن؛ لقوله: ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾ [البقرة: ٤٥]، وقال الله: ﴿إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمْ الزكاة﴾ [المائدة: ١٢] أي: معكم بالصَّبر، والحفظ.
الثالث: تحفظُه: بمعنى تشفعُ له؛ لأن الصلاة فيها القرآنُ؛ والقرآن يشفع لقارئه، وهو شافِعٌ مُشَفَّعٌ.
وقال أبو البقاء: ويكون وجوبُ تكرير الحِفْظ جارياً مجرى الفاعلين؛ إذْ كان الوجوبُ حاثّاً على الفعلِ، وكأنه شريكُ الفاعلِ للحفظ؛ كما قالوا في ﴿وَاعَدْنَا موسى﴾ [البقرة: ٥١] فالوعدُ من اللهِ، والقَبُولُ من موسى بمنزلةِ الوعد؛ وفي «حَافِظُوا» معنى لا يُوجَدُ في «احْفَظُوا» وهو تكريرُ الحفْظِ وفيه نظرٌ؛ إذ المفاعلةُ لا تدُلُّ على تكريرِ الفعلِ ألبتةَ.
قوله تعالى: ﴿والصلاة الوسطى﴾ ذكر الخاصَّ بعد العامِّ، وقد تقدَّم فائدته عند قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ﴾ [البقرة: ٩٨] والوُسطى: فعلى معناها التفضيلُ، فإنها مؤنثةٌ للأوسطِ؛ كقوله - يمدح الرسول عليه والصلاة والسلام -: [البسيط]
١١٤٧ - يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرّاً فِي مَفَاخِرِهِمْ وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وَأَبَا
وهي [من] الوسط الذي هو الخيارُ، وليست من الوسطِ الذي معناه: متوسِّطٌ بين شيئين؛ لأنَّ فُعْلى معناها التفضيلُ؛ ولا يُبْنى للتفضيل، إلا ما يَقْبَلُ الزيادةَ والنقصَ، والوَسَطُ بمعنى العَدْل والخيارِ يقبلُهما بخلافِ المتوسِّطِ بين الشيئين؛ فإنه لا يَقْبَلُهما، فلا ينبني منه أفعلُ التفضيل.
وقرأ علي: «وَعَلَى الصَّلاَةِ» بإعادة حرفِ الجرِّ توكيداً، وقرأَتْ عائشةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «وَالصَّلاَةَ» بالنصبِ، وفيها وجهان:
أحدهما: على الاختصاصِ، ذكرَه الزمخشريُّ.
225
والثاني: على موضع المجرورِ قَبْلَهُ؛ نحو: مَرَرْتُ بزيدٍ وَعَمْراً، وسيأتي بيانُه في المائدة - إن شاء الله تعالى -.
قال القرطبي: وقرأ أبو جعفر الواسطي «والصَّلاَةَ الوُسْطَى» بالنصب على الإِغراء أي: والْزَمُوا الصَّلاة الوُسْطَى وكذلك قرأ الحلواني، وقرأ قالُونُ، عن نافع «الوُصْطَى» بالصَّادِ؛ لمجاورَة الطاءِ؛ لأنهما مِنْ واحدٍ، وهما لغتان؛ كالصراط ونحوه.

فصل


لمّا ذكر الأحكام المتعلّقة بمصالح الدُّنيا مِنْ بيان: النكاح، والطلاقِ، والعُقُودِ، أتبعه بذكر الأَحكامِ المتعلِّقة بمصالح الآخرة.
وأَجمع المسلمون على وجوب الصلوات الخمس، وهذه الآيةُ تدلُّ على كونها خَمْساً؛ لأن قوله: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصلوات﴾ تدل على الثَّلاثة مِنْ حيثُ إِنَّ أَقلَّ الجمع ثلاثةٌ، ثم قال: ﴿والصلاة الوسطى﴾ يدلُّ على شيءٍ زائدٍ عن الثلاثة؛ وإلاَّ لزم التكرارُ، والأصلُ عدمهُ، ثم إنَّ الزَّائد يمتنع أَنْ يكون أربعةً، لأنها لا يبقى لها وسطى فلا بُدَّ وأَنْ ينضمَّ إلى تلك الثلاثة عددٌ آخرٌ؛ حتى يحصلَ به للجموع واسطةٌ، وأقلُّ ذلك خمسةٌ، فدلَّت هذه الآيةُ على أن الصلوات المفروضات خمسٌ بهذا الطَّريق، وهذا الاستبدال إنما يتم، إذا قُلنا: إنَّ المراد من الوُسْطَى ما يكونُ وسطاً في العدد، لا ما يكون وسطاً بسبب الفضيلة.

فصل


هذه الآيةُ وإِنْ دلّت على وجوب الصلوات الخمس لكنَّها لا تدلُّ على أوقاتها.
قالوا: والآياتُ الدالةُ على تفصيل الأَوقاتِ أَربعٌ:
أحدها: قوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: ١٧].
فقوله: «سُبْحَانَ اللهِ» أي: فسبِّحوا اللهَ، معناه: صلُّوا للهِ حين تمسون، أراد به صلاة المغربِ، والعِشَاءِ، «وَحِينَ تُصْبِحُونَ» أراد صلاة الصُّبح، و «عَشيّاً» أراد به [صلاة] العصر، و «حِينَ تُظْهِرُونَ»، صلاة الظهر.
الثانية: قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل﴾ [الإسراء: ٧٨] أراد ب «الدلوك» زوالها، فدخل في الآية: صلاةُ الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم قال: ﴿وَقُرْآنَ الفجر﴾ [الإسراء: ٧٨] أراد صلاة الصُّبح.
الثالثة: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار﴾ [طه: ١٣٠] قالوا: لأَنَّ الزمان إِمَّا أَنْ يكون قبل طُلُوعِ الشَّمسِ، أو قبل غروبها، فالليل والنهارُ داخلان في هاتين اللفظتين.
226
الرابعة: قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل﴾ [هود: ١١٤] فالمراد ب «طَرَفَي النَّهَارِ» الصُّبحُ والعَصْر، وبقوله «وزُلْفاً من الليل» المغرب، والعشاء.

فصل في الصلاة الوسطى


اختلفوا في الوسطى على سبعة مذاهب:
الأول: أنَّ الله - تعالى - لمّا لم يبينها بل خصَّها بمزيد التوكيد، جاز في كُلِّ صلاةٍ أَنْ تكون هي الوسطَى، فيصير ذلك داعياً إلى أداء الكل بصفةِ الكمالِ، والتمام؛ كما أنّه أخفى ليلة القَدْرِ في رمضان، وأخفى ساعةَ الإجابةَ في يوم الجُمُعةِ، وأَخْفَى اسمه الأَعظم في جميع الأَسماءِ، وأخفى وقتَ الموتِ في الأوقات؛ ليكون المكلَّف خائِفاً من الموتِ في كل الأوقات، وهذا قولُ جماعةٍ من العُلَماءِ.
قال محمَّد بن سيرين: سأل رجلٌ زيد بن ثابتٍ، عن الصلاة الوسطى، فقال: حافِظ على الصلوات كُلِّها تصبها.
وعن الربيع بن خيثم أنّه سأله واحدٌ عنها، فقال: قال ابن عمر: الوُسطى واحدة منهن، فحافِظ على الكُلِّ تكُنْ محافظاً على الوسطى، ثم قال الربيع: فإنْ حافظتَ عليهن، فقد حافظت على الوسْطى.
الثاني: أَنَّ الوسطى هي مجموعُ الصلوات الخَمْس؛ لأَن هذه الصلوات الخمس: هي الوسطى من الطاعات، وتقريره: أنَّ الإِيمان بضعٌ وسبعون درجة: أعلاها شهادةث أَنْ لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى، فهي واسطة بين الطرفين.
وقيل: الوسطى صلاةُ الجمعة؛ لأن وقتها وسطُ النهارِ، ولها شروط ليست لبقيَّة الفرائض: من أشتراط الخُطبة، والأَربعين، ولا تصلي في المِصْر أكثر مِنْ جمعةٍ واحدةٍ، إِلاَّ أَنْ تدعُو الحاجة إلى أكثر منها؛ وتفوتُ بفواتِ وقتها ولا تقضى؛ لأن العطف يقتضي المغايرة.
الثالث: أنها صلاةُ الصبح، وهو قول علي وعمر وابن عباس، وابن عمرو وجابر بن عبد الله، ومعاذ وأبي أمامة الباهِليّ، وهو قول عطاء، وطاوسٍ، وعكرمة ومجاهد، وإليه ذهب مالكٌ، والشافعي. واستدلُّوا بوجوه:
227
أحدها: أنَّ هذه الصلاة تُؤدَّى بعد طُلُوع الفجر، وقبل طلوع الشمس، وهذا الزمان ليس فيه ظُلمة باقية، ولا ضوء تام فكأنّه ليس بليلٍ ولا نهارٍ، فكان مُتوسِّطاً بينهما.
وثانيها: أَنََّ النهار حصل فيه صلاتان: الظهر، والعصر؛ وفي الليل صلاتان: المغرب، والعشاء؛ وصلاةُ الصبح كالمتوسطة بين صلاتي الليل، وصلاتي النهار.
فإنْ قيل: هذه المعاني حاصِلةٌ في صلاة المغرب.
فالجوابُ: أنَّا نرجِّح صلاة الصُّبح على صلاة المغرب؛ بكثرة الفضائلِ، على ما سيأتي إِنْ شاء الله تعالى.
وثالثها: أَنَّ الظهر، والعصر صلاتا جمعٍ، وكذلك: المغربُ والعِشاءُ، وصلاة الصبح منفردةٌ بوقتِ واحدٍ؛ فكانت وسطاً بينهما.
ورابعها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً﴾ [الإسراء: ٧٨] وقد ثبت أَنَّ المراد منه صلاةُ الفجر، يعنى تشهدُه ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار، فلا تجتمعُ ملائِكةُ الليل وملائكةُ النهار في وقتٍ واحد، إِلاّ في صلاةِ الفجر؛ فثبت أَنَّ صلاةَ الفجرِ قد أخذت بطرفي الليل والنهار من هذا الوجه؛ فكانت كالشيءِ المتوسِّط.
وخامسها: قوله تعالى: ﴿وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ﴾ وصلاة الصبح مخصوصةٌ بطول القيام، والقنوت، وهذا ضعيف، لأنه يقال لا نُسلِّمُ أَنَّ المراد بالقنوت طولُ القيام، كما سيأتي في تفسير هذه الكلمة، ولا نُسَلّم أَنَّ القنوت مخصوص بالفجر؛ بل يقنت في سائر الصَّلوات إِذَا نزل بالمسلمين، إِلاَّ فلا قنوت في شيءٍ من الفرائض.
وسادسها: أَنَّهُ تعالى إنَّما أفردها بالذكر؛ لأَجل التأكيد؛ لأنها أحوجُ الصلوات إلى التَّأكيد، إِذْ ليس في الصلواتِ أشقّ منها؛ لأنها تجب على الناس في ألذ أوقاتِ النَّوم؛ فيترك النومَ اللذيذ إلى استعمال الماء البارِدِ، والخُروج إلى المسجد والتَّأهب للصلاة، ولا شَكَّ أن هذا شاق صعبٌ على النفس.
وسابعها: أنها أفضلٌ الصلواتِ، فوجب أَنْ تكونَ هي الوسطى، ويدل على فضيلتها وجوه:
الأول: قوله تعالى: ﴿والمستغفرين بالأسحار﴾ [آل عمران: ١٧] فختم طاعاتهم بكونهم
228
مُسْتغفرين بالأَسحارِ، وأَعظمُ أَنواع الاستغفار الفرائضُ؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حاكياً عن رَبّه: «لن يتقرّب المتقرّبون إليّ بمِثْل أَدَاءِ ما افترضتُ عَلَيْهِمْ».
الثاني: رُوِيَ أَنَّ التكبيرة الأُولى فيها في الجماعة خيرٌ مِنَ الدُّنْيا وما فيها.
الثالث: أنه ثبتَ أَنَّ صلاة الصبح مخصوصة بالأَذانِ مرَّتين: مرَّة قبل طُلُوع الفجر، ومرةً بعده.
فالأول: لإيقاظِ الناس من نومِهم، وتأهبهم.
والثاني: الإِعلامُ بدخول الوقت.
الرابع: أَنَّ الله سمّاها بأسماء، فقال في بني إسرائيل ﴿وَقُرْآنَ الفجر﴾ وقال في النور
﴿مِّن
قَبْلِ
صلاة
الفجر﴾
[النور: ٥٨] وقال في الروم ﴿وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: ١٧] وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن المراد من قوله ﴿وَإِدْبَارَ النجوم﴾ [الطور: ٤٩] صلاة الفجر.
الخامس: أن الله تعالى أقسَمَ بها، فقال: ﴿والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر: ١ - ٢].
فإن قيل: قد أقسم الله تعالى - أيضاً - بالعصر فقال: ﴿والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ﴾ [العصر: ١ - ٢] قلنا: سلمنا أن المراد منه القسم بصلاة العصر، لكن في صلاة الفجرمزيدُ تأكيدٍ وهو قوله: ﴿وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار﴾ [هود: ١٤] فكما أنّ أحدَ الطرفين، وهو الصبحُ، وهو واقعٌ قبل الطلُوع والطرف الآخرُ هو المغرب؛ لأنه واقعٌ قبل الغُرُوب، فقد اجتمع في الفجر القسمُ به، مع التأكيد بقوله: ﴿وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار﴾ [هود: ١٤] هذا التأكيدُ لم يوجد في العصر.
السادس: أن التثويب في أذان الصُّبح معتبرٌ، وهو قولُ المؤذن: الصلاةُ خيرٌ من النَّومِ، وهذا غيرُ حاصل في سائر الصلواتِ.
السابع: أَنَّ الإنسان إذا قام مِنْ نومِه فكأنه كان معدُوماً، ثم صار موجوداً أو كان مَيْتاً، ثم صار حياً، فإذا شاهد العَبْدُ هذا الأمر العظيم، فلا شكَّ أنَّ هذا الوقت أليقُ الأَوقاتِ، بأَن يظهر العبدُ الخضوع، والذلة والمسكنة في هذه العبادة.
وثامنها: رُوي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه سُئِل عن الصلاةِ الوسطى، فقال: كنا نرى أنَّها الفجرُ.
229
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه صلى الصبح، ثم قال: هذه هي الصلاةُ الوسْطى.
القول الرابع: أَنَّهُ صلاةُ الظهرِ، وهو قول عمر، وزيدٍ بن ثابت، وأبي سعيد الخدري، وأُسامة بن زيدٍ، وهو قول أبي حنيفة، وأصحابه، واحتجُّوا بوجوه:
الأول: أن الظهرَ كان شاقّاً عليهم؛ لوقوعه في وقتِ القَيْلُولة، وشدَّةِ الحرِّ، فصرفُ المبالغة فيه أولى.
الثاني: روى زيد بن ثابت أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يصلي بالهاجرة، وكان أثقلَ الصلواتِ على أصحابه، وربما لم يكُن وراءه إلاّ الصَّفُّ، والصَّفَّاِ، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُحْرِّقَ عَلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَة في بُيُوتهم» فنزلت هذه الآيةُ.
الثالث: أن صلاة الظُّهر تقع في وسط النهار، وليس في المكتوباتِ صلاة تقع في وسطِ النهارِ، وهي أَوسطُ صلاةِ النَّهارِ في الطول.
الرابع: قال أبو العالية: صليتُ مع أصحابِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الظهرَ، فلمّا فرغُوا سأَلتُهم عن الصلاةِ الوسطى فقالوا: التي صلَّيتَها.
الخامس: روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنها كانت تقرأ «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَة الوُسْطَى وَصَلاَةَ العَصْرِ»، وكانت تقولُ سمعتُ ذلك من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
230
وجهُ الاستدلالِ أنها عطفت صلاةَ العَصْرِ على الصلاةِ الوُسْطى، والمعطوفُ عليه قبل المعطُوفِ، والذي قبل العصر هي صلاةُ الظهر.
السادس: رُوي أنَّ قوماً كانوا عند زيد بن ثابتٍ، فأرسلوا إلى أُسامة بن زيدٍ، وسأَلُوه عن الصَّلاةِ الوُسطى، فقال: هي صلاةُ الظهرِ كانت تقامُ في الهَاجِرة.
السابع: روي في الحديث أن أوَل إِمامة جبريل - عليه السلام - كانت في صلاةِ الظهر، فَدَلَّ على أنّها أشرف، فكان صرفُ التَّأكيد إليها أولى.
الثامن: أَنَّ صلاةَ الجمعة هي أشرفُ الصَّلواتِ، وهي صلاةُ الظهرِ فصرف المبالغة إليها أولى روى الإمامُ أحمدُ، وصحَّحَه: أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِل عن الصلاة الوسطى [فقال] العصرُ. ورَوى أحمدُ، والترمذيُّ، وصحَّحه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِل عن صلاةِ الوسطى فقال: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ والصَّلاةِ والوُسْطَى وَصَلاةَ العَصْرِ» ثم نُسِخَت هذه الكلمةُ، وبقي قولُه: «وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ».
فإن قيل قد روي أنَّ عائشة أمرت أن يكتب لها مصحف، وقالت للكاتب: إذا بلغت قوله تعالى: ﴿والصلاة الوسطى﴾ فآذِنِّي، فلما وصل الكاتب إلى قوله تعالى: ﴿والصلاة الوسطى﴾ آذنها فأمرته أن يكتب: «وَصَلاَةَ العَصْرِ» وقالت: هكذا سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
231
فالجواب أن هذا لم يروه غير واحدٍ تفرَّد به. وقد روى جماعةٌ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنها صلاة العصر، كما سيأتي، وكثرة الأدلة، والرُّواة يرجّح بها.
القول الخامس: أنها صلاة العصر، وهو مرويٌّ عن عليّ، وابن مسعودٍ، وابن عبَّاسٍ، وأبي هريرة، وأبي أيُّوب، وعائشة، وبه قال إبراهيم النخعي، وقتادة، والحسن، والضحاك، ويروى عن أبي حنيفة.
واحتجوا بوجوه:
الأول: روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال يوم الخندق: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى صَلاَة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً» وروى زرُّ بن حبيش، قال: قلنا لعبيدة: سل علياً عن الصلاة الوسطى، فسأله فقال: كنَّا نرى أنها صلاة الفجر، حتى سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول يوم الخندق: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى صَلاَة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً» وعن عبد الله بن مسعودٍ، قال: حَبَسَ المشركون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن صَلاة العصر، حتَّى احمرَّت الشمس، أو اصفرَّت؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى صَلاَة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً، أو حَشَا اللهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً».
الثاني: أنَّ العصر أولى بالتأكيد من غيرها؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَى صَلاَةِ العَصْرِ فَقَدْ وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ»، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَى صَلاَةِ العَصْرِ أو مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبَطَ عَمَلُهُ» وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَنْ حَافَظَ عَلَى صَلاَةِ العَصْرِ آتَاهُ اللهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ» ولأن المحافظة على سائر الصلوات، أخفُّ وأسهل من المحافظة على وقت العصر أخفى الأوقات.
232
وذلك لأن الصُّبح يدخل وقتها بطلوع الفجر المستطير ضوؤه، ودخول الظهر بزوال الشَّمس، والمغرب بغروب القرص، ودخول العشاء بمغيب الشَّفق الأحمر، لا جرم كانت الفضيلة فيها أكثر.
الثالث: أنَّ الناس عند العصر يكونون مشغولين بمهماتهم، فكان الإقبال عليها أشقُّ.
الرابع: أنَّها متوسطةٌ بين صلاةٍ نهاريَّة، وهي الظهر، وصلاةٍ ليليَّةٍ، وهي المغرب، وأيضاً، فهي متوسِّطة بين صلاتين بالليل وصلاتين بالنهار.
فإن قيل: قد ثبت عن عائشة أنها قرأت: «وَصَلاَةَ العَصْرِ».
فالجواب أن يقال: إن هذه قراءة شاذَّة، ولأنه ثبت عن خلق كثير في أحاديث صحيحةٍ أنها العصر ورووها بغير واوٍ؛ فدل على أنّ الواو زائدةٌ، ولأنَّ الراوي لا يجوز له أن يسقط من الحديث حرفاً واحداً يتعلق به حكمٌ شرعي.
أو يقال: هذا من باب عطف الخاصِّ على العامِّ، أو من عطف الصفات؛ لقولك: زيدٌ الكريم والعالم.
والقول السادس: أنها صلاة المغرب، وهو قول عبيدة السلماني وقبيصة بن ذؤيب، واحتجُّوا بوجهين:
أحدهما: أنه بين بياض النَّهار، وسواد اللَّيل، وهذا المعنى وإن كان حاصلاً في الصُّبح، إلاّ أن الغرب ترجَّح بوجوهٍ أُخر: وهي أنها أزيدُ من الرَّكعتين؛ كما في الصبح، وأقلُّ من الأربع؛ كما في الظهر، والعصر، والعشاء، فهي وسطٌ في الطُّول، والقصر.
الوجه الثاني: أنَّ صلاة الظهر تسمَّى بالصلاة الأولى، ولذلك ابتدأ جبريل بالإمامة فيها، وإذا كان الظهر أوَّل الصلوات، كانت المغرب، هي الوسطى، لا محالة، ولأنَّ قبلها صلاة سرٍّ، وبعدها صلاة جهرٍ.
القول السابع: أنها العشاء، قالوا: لأنها متوسِّطة بين صلاتين لا تقصران: المغرب، والصبح.
وعن عثمان بن عفَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنّه قال: «مَنْ صَلَّى صَلاَةَ العِشَاءِ الآخِرَةِ في جَمَاعَةٍ، كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَة».
قال القرطبي: وقال أبو بكر الأبهري: إن الوسطى صلاة الصُّبح، وصلاة العصر
233
تبعاً؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «إن اسْتَطَعْتُمْ أَلاََّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» يعنى: العصر، والفجر، ثم قرأ جرير: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ [طه: ١٣٠]. وروى عمَّار بن رؤيبة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِهَا» يعني الفجر والعصر، وقيل: العشاء والصبح؛ لأن أبا الدَّرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال في مرضه الذي مات فيه: اسمعوا، وبلِّغوا من خلفكم: حافظوا على هاتين الصَّلاتين، يعني في جماعة - العشاء والصُّبح، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على مرافقكم.
قوله: ﴿وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ﴾ قال ابن عباس: القنوت: الدعاء، والذكر، بدليل قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً﴾
[الزمر: ٩]. ومنه الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قنت يدعو على رعل، وذكوان، وعصيّة، وأحياء من سليم. وقيل: مُصلِّين؛ لقوله: «أَمْ هُوَ قَانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ».
وقال الشعبيُّ، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، وطاوسٌ، وقتادة، والضحاك، ومقاتلٌ: القنوت: الطاعة، ويدلُّ عليه وجهان:
الأول: ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنّه قال: «كُلُّ قُنُوتٍ في القُرْآنِ فَهُوَ طَاعَةٌ».
234
والثاني: قوله تعالى: ﴿وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الأحزاب: ٣١] وقال: ﴿فالصالحات قَانِتَاتٌ﴾ [النساء: ٣٤] فالقنوت عبارةٌ عن كمال الطَّاعة، وإتمامها والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها. قال الكلبيُّ، ومقاتلٌ: لكلِّ أهل دينٍ صلاةٌ يقومون فيها عاصين فقوموا أنتم لله في صلاتكم مطيعين.
وقيل: القنوت: السكوت، وهو قول ابن مسعود، وزيد بن أرقم، قال زيد بن أرقم: كنَّا نتكلّم في الصلاة، فيسلِّم الرجل؛ فيردون عليه ويسألهم كيف صليتم؟ كفعل أهل الكتاب. فنزل قوله تعالى: ﴿وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ﴾ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام.
وقال مجاهد: القنوت: عبارةٌ عن الخشوع، وخفض الجناح، وسكون الأطراف، وترك الالتفات من هيبة الله، وكان العلماء إذا قام أحدهم يصلي، يهاب الرحمن، فلا يلتفت أو يقلب الحصى، أو يعبث، أو يحدّث نفسه بشيءٍ من أمر الدنيا ناسياً حتى ينصرف.
وقيل: القنوت: عبارة عن طول القيام.
قال جابر: سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيُّ الصَّلاة أفضل؟ قال: طول القنوت، يريد طول القيام.
قال ابن الخطيب: وهذا القول ضعيفٌ؛ وإلاَّ صار تقدير الآية: وقوموا لله قائمين؛ اللَّهم إلاَّ أن يقال: وقوموا لله مديمين لذلك القيام؛ فيصير القنوت مفسَّراً بالإدامة، لا بالقيام.
وقيل: القنوت في اللغة: عبارةٌ عن الدوام على الشيء، والصَّبر عليه والملازمة له.
وفي الشريعة مختصٌّ بالمداومة على طاعة الله تعالى؛ وهو اختيار عليٍّ بن عيسى، وعلى هذا يدخل فيه جميع ما قاله المفسِّرون.
235
قوله: «قَانِتِينَ» حالٌ من فاعل «قُومُوا» و «لِلَّهِ» يجوز أن تتعلَّق اللام ب «قُومُوا»، ويجوز أن تتعلَّق ب «قَانِتِينَ»، ويدلُّ للثاني قوله تعالى: ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ [البقرة: ١١٦]. ومعنى اللام التعليل.

فصل


قال أبو عمرو: أجمع المسلمون على أنّ الكلام، عامداً في الصلاة، إذا كان المسلم يعلم أنّه في صلاةٍ، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته أنّه يفسد الصلاة، إلاّ ما روي عن الأوزاعي أنّه قال إن تكلم في الصَّلاة لإحياء نفسٍ، ونحوه من الأمور الجسام، لم يفسد ذلك صلاته.
واختلفوا في كلام السَّاهي، فقيل: لا يفسد الصلاة.
وقيل: يفسدها.
وقال مالكٌ: إذا تكلم عامداً لمصلحة الصَّلاة، لم تفسد، وهو مذهب أحمد.
قوله تعالى: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ﴾.
قال الواحديُّ: معنى الآية: فإن خفتم عدوّاً، فحذف المفعول لإحاطة العلم به.
وقال الزمخشريُّ: «فإن كان لكم خوفٌ من عَدُوٍّ، أو غيرِه» فهو أصحُّ؛ لأن هذا الحكم ثابتٌ عند حصول الخوف، سواءٌ كان الخوف من عدوٍّ، أو غيره.
وقيل: المعنى: فإن خفتم فوات الوقت، إذا أَخَّرْتُمُ الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم، فصلُّوا رِجالاً، أو ركْبَاناً، وعلى هذا التقدير الآية تدلُّ على تأكيد فرض الوقت؛ حتى يترخَّص لأجل المحافظة عليه في ترك القيام، والركوع، والسجود.
قوله تعالى: ﴿فَرِجَالاً﴾ : منصوبٌ على الحال، والعامل فيه محذوفٌ، تقديره: «فَصَلُّوا رِجَالاً، أو فحَافِظُوا عَلَيْهَا رِجَالاً» وهذا أولى؛ لأنه من لفظ الأول.
و «رِجَال» جمع راجلٍ؛ مثل قيامٍ وقائم، وتجارٍ وتاجرٍ، وصِحَابٍ وصاحب، يقال منه: رَجِلَ يَرْجَلُ رَجْلاً، فهو رَاجِلٌ، ورَجُل بوزن عضدٍ، وهي لغة الحجاز. يقولون: رَجِلَ فُلاَنٌ، فهو رَجُلٌ، ويقال: رَجْلاَن ورَجِيلٌ؛ قال الشاعر: [الطويل]
236
كلُّ هذا بمعنى مشى على قدميه؛ لعدم المركوب.
وقيل: الراجل الكائن على رجله، ماشياً كان أو واقفاً، ولهذا اللفظ جموعٌ كثيرة: رجالٌ؛ كما تقدَّم؛ وقال تعالى: ﴿يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ [الحج: ٢٧] وقال [الكامل]
١١٤٨ - عَلَيَّ إِذَا لاَقَيْتُ لَيْلَى بِخُفْيَةٍ أَنَ ازْدَارَ بَيْتَ اللهِ رَجْلاَنَ حَافِيَا
١١٤٩ - وَبَنُو غُدَانَةَ شَاخِصٌ أَبْصَارُهُمْ يَمْشُونَ تَحْتَ بُطُونِهِنَّ رِجَالاً
ورَجِيلٌ، ورُجَالَى، وتروى قراءةً عن عكرمة، ورَجَالَى، ورَجَّالَة، ورُجَّال، وبها قرأ عكرمة وابن مخلدٍ، ورُجَّالَى، ورُجْلاَن، ورِجْلَة، ورَجْلَة بسكون الجيم وفتحها، وأرجِلَة، وأرَاجِلٍ، وأرَاجِيل، ورجَّلاً بضم الراء وتشديد الجيم من غير ألفٍ، وبها قرئ شاذّاً.
وقال القفَّال: يجوز أن يكون «رِجَالٌ» جمع الجمع؛ لأن رجلاً يجمع على «رَاجِلٍ»، ثمَّ يجمع راجلٌ على رِجالٍ.
والرُّكبان جمع راكب مثل فُرْسَان وفَارس، قال القفَّال: قيل: ولا يقال إلاَّ لمن ركب جملاً، فأمَّا راكب الفرس، ففارسٌ، وراكب [الحمار] والبغل حمَّار وبغَّال، والأجود صاحب حمار وبغلٍ، و «أو» هنا للتقسيم، وقيل: للإباحة، وقيل: للتخيير.

فصل


قال القرطبيُّ: لمّا أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة، بحال القنوت، وهو الوقار، والسكينة، وهدوء الجوارح، وهذه هي الحالة الغالبة من الأمن، والطُّمأنينة، ذكر حالة الخوف الطارئة أحياناً، وبيَّن أن هذه العبادة لا تسقط عن العبد في حالٍ، ورخَّص لعبيده في الصلاة رجالاً على الأقدام، أو ركباناً على الخيل والإبل، ونحوه إيماءً، وإشارةً بالرأس حيث ما توجهوا.

فصل في صلاة الخوف


صلاة الخوف قسمان:
أحدهما: حال القتال مع العدو، وهي أقسام:
أحدها: حال التحام الحرب، وهو المذكور في هذه الآية، وباقيها مذكورٌ في سورة النِّساء [١٠٢] والقتال إمَّا واجبٌ، أو مباحٌ، أو محظورٌ.
237
فالواجب: كالقتال مع الكفار، وهو الأصل في صلاة الخوف، وفيه نزلت الآية، ويلحق به قتال أهل البغي، بقوله تعالى: ﴿فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفيء إلى أَمْرِ الله﴾ [الحجرات: ٩].
والمباح: كدفع الصائل بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه؛ فإنه يجب الدفع، وفي الدفع عن كل حيوانٍ محترم، فإنَّه يجوز فيه صلاة الخوف.
وأمَّا المحظور فلا يجوز فيه صلاة الخوف؛ لأن هذا رخصةٌ، والرخصة إعانة؛ والعاصي لا يستحقّ الإعانة.
القسم الثاني: في الخوف الحاصل في غير القتال، كالهارب من الحرق، أو الغرب، أو السَّبع، أو المطالبة بدينٍ، وهو معسر خائفٌ من الحبس عاجزٌ عن بيِّنة الإعسار فلهم أن يصلُّوا صلاة الخوف؛ لأن قوله تعالى: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ﴾ مطلقٌ يتناول الكلَّ، فإن قيل: المراد منه الخوف من العدوِّ حال المقاتلة.
قلنا: سلمنا ذلك، ولكن علمنا أنّه إنّما ثبت هناك، لدفع الضَّرر، وهذا المعنى قائمٌ هنا، فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعاً هنا.

فصل في عدد ركعات صلاة الحضر والسفر والخوف


ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم.
وروى مجاهد، عن ابن عباسٍ قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السَّفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.
وقال سعيد بن جبير: إذا كنت في القتال، وضرب الناس بعضهم بعضاً، فقل سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، واذكر الله فتلك صلاتك.

فصل


قال القرطبي: والمقصود من هذه الآية، أن تفعل الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط بحالٍ، حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها، وبهذا تميزت عن باقي العبادات؛ لأنها تسقط بالأعذار.
قال ابن العربيّ: ولهذا قال علماؤنا: إن تارك الصلاة يقتل لأنها أشبهت الإيمان
238
الذي لا يسقط بحالٍ، ولا تحوز النيابة فيها ببدنٍ، ولا مالٍ، فيقتل تاركها كالشهادتين.
قوله: ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾ يعني بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة ﴿فاذكروا الله﴾ أي: فصلُّوا الصلوات الخمس. والصلاة قد تسمَّى ذكراً، قال تعالى: ﴿فاسعوا إلى ذِكْرِ الله﴾ [الجمعة: ٩]. وقيل: ﴿فاذكروا الله﴾ أي: فاشكروه؛ لأجل إنعامه عليكم بالأمن.
وطعن القاضي في هذا القول؛ بأن الشُّكر يلزم مع الخوف، كما يلزم مع الأمن؛ لأن نعم الله تعالى متصلة في الحالين.
وقيل: إنَّ قوله تعالى: ﴿فاذكروا الله﴾ يدخل تحته الصلاة، والشكر جميعاً.
قوله: ﴿كَمَا عَلَّمَكُم﴾ الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدر محذوفٍ، أو حالاً من ضمير المصدر المحذوف، وهو الظاهر، ويجوز فيها أن تكون للتعليل، أي: فاذكروه لأجل تعليمه إيَّاكُمْ، و «مَا» يجوز أن تكون مصدريةً، وهو الظاهر، ويجوز أن تكون بمعنى «الَّّذِي»، والمعنى: فصلُّوا الصَّلاة كالصَّلاة التي عَلَّمَكُمْ، وعبَّر بالذكر عن الصلاة، ويكون التشبيه بين هيئتي الصلاتين الواقعة قبل الخوف وبعده في حالة الأمن. قال ابن عطيَّة: «وعَلَى هذا التأويلِ يكون قوله:» مَا لَمْ تَكُونُوا «بدلاً من» مَا «في» كَمَا «وإلاَّ لم يتَّسق لفظ الآية» قال أبو حيان: «وهو تخريجٌ مُمْكِنٌ، وأحسن منه أن يكون» مَا لَمْ تَكُونُوا «بدلاً من الضمير المحذوف في» عَلَّمَكُم «العائد إلى الموصول؛ إذ التقدير: عَلَّمَكُمُوهُ، ونصَّ النحويون على أنه يجوز: ضَرَبْتُ الذي رَأَيْتُ أَخَاكَ» [أي: رَأَيْتُهُ أَخَاكَ]، ف «أَخَاكَ» بدلٌ من العائد المحذوف «.
239

فصل في صلاة الخوف


صلاة الخوف قسمان :
أحدهما : حال القتال مع العدو، وهي أقسام :
أحدها : حال التحام الحرب، وهو المذكور في هذه الآية، وباقيها مذكورٌ في سورة النِّساء [ ١٠٢ ] والقتال إمَّا واجبٌ، أو مباحٌ، أو محظورٌ.
فالواجب : كالقتال مع الكفار، وهو الأصل في صلاة الخوف، وفيه نزلت الآية، ويلحق به قتال أهل البغي، بقوله تعالى :﴿ فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ ﴾ [ الحجرات : ٩ ].
والمباح : كدفع الصائل بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه ؛ فإنه يجب الدفع، وفي الدفع عن كل حيوانٍ محترم، فإنَّه يجوز فيه صلاة الخوف.
وأمَّا المحظور فلا يجوز فيه صلاة الخوف ؛ لأن هذا رخصةٌ، والرخصة إعانة ؛ والعاصي لا يستحقّ الإعانة.
القسم الثاني : في الخوف الحاصل في غير القتال، كالهارب من الحرق، أو الغرق، أو السَّبع، أو المطالبة بدينٍ، وهو معسر خائفٌ من الحبس عاجزٌ عن بيِّنة الإعسار فلهم أن يصلُّوا صلاة الخوف ؛ لأن قوله تعالى :" فَإنْ خِفْتُمْ " مطلقٌ يتناول الكلَّ، فإن قيل : المراد منه الخوف من العدوِّ حال المقاتلة.
قلنا : سلمنا ذلك، ولكن علمنا أنّه إنّما ثبت هناك، لدفع الضَّرر، وهذا المعنى قائمٌ هنا، فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعاً هنا.

فصل في عدد ركعات صلاة الحضر والسفر والخوف


ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم.
وروى مجاهد، عن ابن عباسٍ قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السَّفر ركعتين، وفي الخوف ركعة١.
وقال سعيد بن جبير : إذا كنت في القتال، وضرب الناس بعضهم بعضاً، فقل سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، واذكر الله فتلك صلاتك٢.

فصل


قال القرطبي٣ : والمقصود من هذه الآية، أن تفعل الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط بحالٍ، حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها، وبهذا تميزت عن باقي العبادات ؛ لأنها تسقط بالأعذار.
قال ابن العربيّ : ولهذا قال علماؤنا : إن تارك الصلاة يقتل لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحالٍ، ولا تحوز النيابة فيها ببدنٍ، ولا مالٍ، فيقتل تاركها كالشهادتين.
قوله :" فَإِذَا أَمِنتُمْ " يعني بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة ﴿ فَاذْكُرُواْ اللهَ ﴾ أي : فصلُّوا الصلوات الخمس. والصلاة قد تسمَّى ذكراً، قال تعالى :
﴿ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ﴾ [ الجمعة : ٩ ]. وقيل :﴿ فَاذْكُرُواْ اللهَ ﴾ أي : فاشكروه ؛ لأجل إنعامه عليكم بالأمن.
وطعن القاضي٤ في هذا القول ؛ بأن الشُّكر يلزم مع الخوف، كما يلزم مع الأمن ؛ لأن نعم الله تعالى متصلة في الحالين.
وقيل : إنَّ قوله تعالى :﴿ فَاذْكُرُواْ اللهَ ﴾ يدخل تحته الصلاة، والشكر جميعاً.
قوله :" كَمَا عَلَّمَكُم " الكاف في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدر محذوفٍ، أو حالاً من ضمير المصدر المحذوف، وهو الظاهر، ويجوز فيها أن تكون للتعليل، أي : فاذكروه لأجل تعليمه إيَّاكُمْ، و " مَا " يجوز أن تكون مصدريةً، وهو الظاهر، ويجوز أن تكون بمعنى " الَّّذِي "، والمعنى : فصلُّوا الصَّلاة كالصَّلاة التي عَلَّمَكُمْ، وعبَّر بالذكر عن الصلاة، ويكون التشبيه بين هيئتي الصلاتين الواقعة قبل الخوف وبعده في حالة الأمن. قال ابن عطيَّة :" وعَلَى هذا التأويلِ يكون قوله :" مَا لَمْ تَكُونُوا " بدلاً من " مَا " في " كَمَا " وإلاَّ لم يتَّسق لفظ الآية " قال أبو حيان :" وهو تخريجٌ مُمْكِنٌ، وأحسن منه أن يكون " مَا لَمْ تَكُونُوا " بدلاً من الضمير المحذوف في " عَلَّمَكُم " العائد إلى الموصول ؛ إذ التقدير : عَلَّمَكُمُوهُ، ونصَّ النحويون على أنه يجوز : ضَرَبْتُ الذي رَأَيْتُ أَخَاكَ " [ أي : رَأَيْتُهُ أَخَاكَ ]، ف " أَخَاكَ " بدلٌ من العائد المحذوف ".
١ - أخرجه مسلم (١/٤٧٨) كتاب صلاة المسافرين باب صلاة المسافرين (٥/٦٨٧) وأبو داود (٢/١٧) رقم (١٢٤٧) والنسائي (١/٢٢٦) والبيهقي (٣/٢٦٣-٢٦٤) وأحمد (٢١٧٧- شاكر) والطبري في تفسيره (٥/٢٤٧)..
٢ - ينظر: تفسير البغوي ١/٢٢٢..
٣ - ينظر: تفسير القرطبي ٣/١٤٨..
٤ - ينظر: تفسير الفخر الرازي ٦/١٣٣..
قرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي، وأبو بكرٍ، عن عاصم: «وَصِيَّةٌ» بالرفع والباقون: بالنصب. وفي رفع ﴿الذين يُتَوَفَّوْنَ﴾ ثمانية أوجهٍ، خمسةٌ منها على قراءة من رفع «وَصِيَّةً»، وثلاثةٌ على قراءة من نصب «وصيةٌ» ؛ فأوّل الخمسة، أنه مبتدأ، و «وَصِيَّةٌ» مبتدأ ثانٍ، وسوَّغ الابتداء بها كونها موصوفة تقديراً؛ إذ التقدير: «وَصِيَّةٌ مِنَ اللهِ» أو «مِنْهُمْ» ؛ على حسب الخلاف فيها: أهي واجبةٌ من الله تعالى، أو مندوبةٌ للأزواج؟ و «لأَزْوَاجِهِمْ» خبر المبتدأ الثاني، فيتعلَّق بمحذوفٍ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول، وفي هذه الجملة ضمير الأول، وهذه نظير قولهم: «السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ» تقديره: «مَنَوَانِ مِنْهُ»، وجعل ابن عطية
239
المسوِّغ للابتداء بها كونها في موضع تخصيص؛ قال: «كما حَسُنَ أَنْ يرتفع:» سَلاَمٌ عَلَيْكَ «و» خَيْرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ «؛ لأنها موضع دعاءٍ» قال شهاب الدين: وفيه نظرٌ.
الثاني: أن تكون «وَصِيَّةٌ» مبتدأ، و «لأَزْوَاجِهِمْ» صفتها، والخبر محذوفٌ، تقديره: فعليهم وصيةٌ لأزواجهم، والجملة خبر الأوَّل.
الثالث: أنها مرفوعة بفعل محذوفٍ، تقديره: كتب عليهم وصيَّةٌ و «لأَزْوَاجِهِمْ» صفةٌ، والجملة خبر الأول أيضاً؛ ويؤيِّد هذا قراءة عبد الله: «كُتِبَ عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ» وهذا من تفسير المعنى، لا الإعراب؛ إذ ليس هذا من المواضع التي يضمر فيها الفعل.
الرابع: أن «الَّذِينَ» مبتدأٌ، على حذف مضافٍ من الأول، تقديره: ووصيَّةُ الذين.
الخامس: أنه كذلك إلا أنه على حذف مضافٍ من الثاني، تقديره: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أَهْلُ وَصيَّةٍ» ذكر هذين الوجهين الزمخشريُّ، قال أبو حيان: «ولا ضرورة تدعونا إلى ذلك».
فهذه الخمسة الأولى التي على رفع «وَصِيَّةٌ». وأمَّا الثلاثة التي على قراءة النصب في «وَصِيَّةٌ» :
فأحدها: أنه فاعل فعل محذوفٍ، تقديره: وليوص الذين، ويكون نصب «وَصِيَّةٌ» على المصدر.
الثاني: أنه مرفوع بفعل مبني للمفعول يتعدَّى لاثنين، تقديره: «وأُلْزِمَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ» ويكون نصب «وَصِيَّةً» على أنها مفعولٌ ثانٍ ل «أُلْزِمَ»، ذكره الزمخشريُّ، وهو والذي قبله ضعيفان؛ لأنه ليس من مواضع إضمار الفعل.
الثالث: أنه مبتدأٌ، وخبره محذوف، وهو الناصب لوصية، تقديره: والذين يتوفون يوصون وصيَّة، وقدره ابن عطية: «لِيُوصُوا» و «وَصِيَّةً» منصوبةٌ على المصدر أيضاً، وفي حرف عبد الله: «الوَصِيَّةُ» رفعاً بالابتداء، والخبر الجارُّ بعدها، أو مضمرٌ أي: فعليهم الوصية، والجارُّ بعدها حالٌ، أو خبرٌ ثانٍ، أو بيانٌ.
قوله تعالى: ﴿مَّتَاعاً﴾ في نصبه سبعة أوجهٍ:
أحدها: أنَّه منصوبٌ بلفظ «وَصِيَّة» لأنها مصدرٌ منونٌ، ولا يضرُّ تأنيثها بالتاء؛ لبنائها عليها؛ فهي كقوله: [الطويل]
١١٥٠ - فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّضْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ
والأصل: وصية بمتاع، ثم حذف حرف الجرِّ، اتساعاً، فنصب ما بعده، وهذا إذا لم تجعل «الوصيَّة» منصوبةٌ على المصدر؛ لأن المصدر المؤكَّد لا يعمل، وإنما يجيء
240
ذلك حال رفعها، أو نصبها على المفعول؛ كما تقدَّم تفصيله.
والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ، إمَّا من لفظه، أي: متِّعوهنَّ متاعاً، أي: تمتيعاً، أو من غير لفظه، أي: جعل الله لهنَّ متاعاً.
الثالث: أنه صفةٌ لوصية.
الرابع: أنه بدل منها.
الخامس: أنه منصوبٌ بما نصبها، أي: يوصون متاعاً، فهو مصدر أيضاً على غير الصدر؛ ك «قَعَدْتُ جُلُوساًَ»، هذا فيمن نصب «وَصِيَّةٌ».
السادس: أنه حالٌ من الموصين: أي ممتَّعين أو ذوي متاعٍ.
السابع: أنه حالٌ من أزواجهم، [أي] : ممتَّعاتٍ أو ذوات متاعٍ، وهي حالٌ مقدَّرة إن كانت الوصية من الأزواج.
وقرأ أُبيٌّ: «مَتَاعٌ لأَزْوَاجِهِمْ» بدل «وَصِيَّةٌ»، وروي عنه «فَمَتَاعٌ»، ودخول الفاء في خبر الموصول؛ لشبهه بالشرط، وينتصب «مَتَاعاً» في هاتين الروايتين على المصدر بهذا المصدر، فإنه بمعنى التمتيع؛ نحو: «يُعْجِبُنِي ضَرْبٌ لَكَ ضَرْباً شَدِيداً»، ونظيره: ﴿قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً﴾ [الإسراء: ٦٣]، و «إِلَى الحَوْلِ» متعلِّقٌ ب «مَتَاع» أو بمحذوفٍ؛ على أنه صفة له.
قوله تعالى: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ في نصبه ستة أوجهٍ:
أحدها: أنه نعتٌ ل «مَتَاعاً».
الثاني: أنه بدلٌ منه.
الثالث: أنه حالٌ من الزوجات، أي: غير مخرجات.
الرابع: أنه حالٌ من الموصين، أي: غير مخرجين.
الخامس: أنه منصوب على المصدر، تقديره: لا إخراجاً، قاله الأخش.
السادس: أنه على حذف حرف الجرِّ، تقديره: من غير إخراجٍ، قاله أبو البقاء، قال شهاب الدين: وفيه نظر.

فصل في المراد بقوله «غير إخراج»


معنى قوله: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ أي: ليس لأولياء الميِّت ووارثي المنزل؛ إخراجها، «فَإِنْ خَرَجْنَ» أي: باختيارهن قبل الحول «فلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُم»، أي: لا حرج على وليِّ أحدٍ وُلِّيَ، أو حاكم، أو غيره؛ لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولاً.
وقيل: لا جناح في قطع النّفقة عنهن، أو لا جناح عليهنَّ في التشرُّف إلى الأزواج،
241
إذ قد انقطعت عنهنَّ مراقبتكم أيُّها الورثة، ثم عليها أنها لا تتزوج قبل انقضاء العدَّة بالحول أو لا جناح في تزويجهنَّ بعد انقضاء العدّة، لأنه قال: «بالمَعْرُوفِ»، وهو ما يوافق الشرع.
و ﴿والله عَزِيزٌ﴾ صفةٌ تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحدَّ في هذه النازلة، في إخراج المرأة، وهي لا تريد الخروج ﴿حَكِيمٌ﴾، أي مُحْكِمٌ لما يريد من أمور عباده والله أعلم.
قوله: ﴿فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ﴾ هذان الجارَّان يتعلَّقان بما تعلَّق به خبر «لا» وه «عَلَيْكُمْ» من الاستقرار، والتقدير: لا جناح مستقرٌّ عليكم فيما فعلن في أنفسهنَّ، و «مَا» موصولةٌ اسميةٌ، والعائد محذوف، تقديره: فعلنه، و «مِنْ مَعْرُوفٍ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من ذلك العائد المحذوف، وتقديره: فيما فعلنه كائناً من معروفٍ.
وجاء في هذه الآية ﴿مِن مَّعْرُوفٍ﴾ نكرةً مجرورةً ب «مِنْ»، وفي الآية قبلها «بِالمَعْرُوفِ» معرَّفاً مجروراً بالباء؛ لأنَّ هذه لام العهد؛ كقولك: «رَأَيْتُ رَجُلاً فَأَكْرَمْتُ الرَّجُلَ» إلاَّ أنَّ هذه، وإن كانت متأخِّرةً في اللفظ، فهي متقدِّمة في التنزيل، ولذلك جعلها العلماء منسوخةً بها، إلا عند شذوذٍ، وتقدَّم نظائر هذه الجمل، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيها.

فصل في سبب النزول


في هذه الآية ثلاثة أقوالٍ:
الأول: وهو اختيار جمهور المفسرين أنها منسوخةٌ، قالوا: نزلت الآية في رجل من أهل الطائف، يقال له: حكيم بن الحرث، هاجر إلى المدينة، وله أولاد، ومعه أبواه وامرأته، فمات، فأنزل الله هذه الآية؛ فأعطى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والديه، وأولاده ميراثه، ولم يعط امرأته شيئاً، وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً كاملاً، وكانت عدَّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً، كاملاً، وكانت عدَّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، وكان نفقتها وسكناها واجبةً في مال زوجها تلك السَّنة، ما لم يخرج، ولم يكن لها الميراث، فإن خرجت من بيت زوجها، سقطت نفقتها، وكان على الرجل أن يوصي بها، فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث، فنسخ الله تعالى نفقة الحول بالرُّبع، والثُّمن، ونسخ عدَّة الحول ب «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً».
قال ابن الخطيب: دلَّت هذه الآية على وجوب أمرين:
أحدهما: وجوب النفقة، والسُّكنى من مال الزَّوج، سواءٌ قراءة «وَصِيَّةٌ ووصِيَّةً» بالرفع، أو بالنصب.
242
والثاني: وجوب الاعتداد، ثم نسخ الله تعالى هذين الحكمين، أمّا الوصية بالنفقة، والسكنى، فلثبوت ميراثها بالقرآن، والسنة، دلَّت على أنَّه لا وصيَّة لوارثٍ، فصار مجموع القرآن والسنَّة ناسخاً لوجوب الوصيَّة لها بالنفقة والسكنى في الحول.
أمَّا وجوب العدة في الحول، فنسخ بقوله: ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾ [البقرة: ٢٣٤].
القول الثاني: وهو قول مجاهد: أنَّ الله تعالى أنزل في عدَّة المتوفى عنها زوجها آيتين:
إحداهما: قوله ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾ [آية: ٢٣٤]، والأخرى هذه الآية؛ فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين، فنقول: إنَّها إن لم تختر السُّكنى في دار زوجها، والأخذ من ماله، وتركته؛ فعدَّتها هي الحول، قال ابن الخطيب: وتنزيل الآيتين على هذين التَّقديرين أولى؛ حتى يكون كل منهما معمولاً به، والجمع بين الدَّليلين، والعمل بهما أولى من اطراح أحدهما، والعمل بالآخر.
القول الثالث: قال أبو مسلم الأصفهاني: معنى الآية: أنَّ من يتوفَّى منكم، ويذرون أزواجاً، وقد وصّوا وصيَّة لأزواجهم، بنفقة الحول، وسكنى الحول، فإن خرجن قبل ذلك، وخالفن وصيَّة أزواجهنَّ، بعد أن يقمن أربعة أشهرٍ وعشراً؛ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروفٍ، أي: نكاحٌ صحيحٌ؛ لأن إقامتهنَّ بهذه الوصيَّة غير لازمة.
قال: والسَّبب: أنَّهم كانوا في الجاهليَّة يوصون بالنَّفقة، والسُّكنى حولاً كاملاً، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول فبيَّن الله تعالى في هذه الآية أنَّ ذلك غير واجبٍ، وعلى هذا التَّقدير، فالنَّسخ زائلٌ، واحتجَّ على ذلك بوجوهٍ:
أحدها: أنَّ النَّسخ خلاف الأصل؛ فوجب المصير إلى عدمه، بقدر الإمكان.
الثاني: أنَّ النَّاسخ يكون متأخِّراً عن المنسوخ في النُّزول، وإذا كان متأخِّراً عنه في النُّزول، يجب أن يكون متأخِّراً عنه في التِّلاوة، وهو إن كان جائزاً في الجملة إلاَّ أنَّ قولنا يعدّ من سوء التَّرتيب، وتنزيه كلام الله واجبٌ بقدر الإمكان، ولمَّا كانت هذه الآية متأخِّرةً عن تلك في التِّلاوة؛ كان الأولى ألاّ يحكم بكوها منسوخةً بتلك.
الثالث: أنَّه ثبت عند الأصوليِّين متى وقع التَّعارض بين التَّخصيص، والنَّسخ، كان النَّسخ أولى، وها هنا إن خصَّصنا هاتين الآيتين بحالتين على ما هو قول مجاهد؛ اندفع النَّسخ، فكان قول مجاهد أولى من التزام النَّسخ من غير دليلٍ، وأمَّا على قول أبي مسلم، فيكون أظهر؛ لأنكم تقولون: تقدير الآية: فعليهم وصيَّةٌ لأزواجهم، أو تقديرها:
243
فليوصوا وصيَّةً، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى، وأبو مسلم يقول: بل تقدير الآية: والذين يتوفون منكم، ولهم وصيَّةٌ لأزواجهم، أو تقديرها: وقد أوصوا وصيَّةً لأزواجهم فهو يضيف هذا الكلام إلى الزَّوج، وإذا كان لا بدَّ من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضمارنا ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكره أبو مسلمٍ؛ لم يلزم تطرُّق النَّسخ إلى الآية، فيكون أولى.
وإذا ثبت هذا فنقول: الآية من أولها إلى آخرها، تكون جملةً واحدةً شرطيَّةً، فالشَّرط هو قوله: ﴿والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ فهذا كلُّه شرطٌ والجزاء هو قوله: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ﴾ فهذا تقرير قول أبي مسلمٍ.
قال ابن الخطيب: وهو ف ي غاية الصِّحَّة، وعلى تقدير باقي المفسِّرين، فالمعنى: والذين يتوفَّون منك أيُّها الرِّجال، ويذرون زوجاتٍ فليوصوا وصيَّةٌ، وكتب عليكم الوصيَّة بأن تمتِّعوهنَّ متاعاً، أي: نفقة سنةٍ لطعامها، وكسوتها، وسكناها، غير مخرجين لهن، فإن خرجن من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة، فلا جناح عليكم يا أولياء الميِّت، فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف، يعني: التَّزين للنِّكاح، ولرفع الجناح عن الرِّجال، وجهان:
أحدهما: لا جناح عليكم في ترك منعهنّ من الخروج؛ لأنَّ مقامها في بيت زوجها حولاً، غير واجبٍ عليها، فخيَّرها الله تعالى بين: أن تقيم حولاً، ولها النَّفقة والسُّكنى، وبين أن تخرج إلى أن نسخت بأربعة أشهر وعشراً.
فإن قيل: إن الله تعالى ذكر الوفاة، ثم أمرنا بالوصيَّة، فكيف يوصي المتوفى؟!
فالجواب أنَّ معناه: والذين يقارون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا، فجعل المقاربة للوفاة عبارة عنها.
وقيل: إنّ هذه الوصيّة يجوز أن تكون مضافةً إلى الله تعالى، بمعنى: «أمره، وتكليفه»، كأنَّه قيل: وصيّة من الله لأزواجهم، كقوله: ﴿يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ﴾ [النساء: ١١].

فصل


المعتدَّة من فرقة الوفاة، لا نفقة لها، ولا كسوة حاملاً كانت، أو حائلاً.
وروي عن عليٍّ، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّ لها النَّفقة إذا كانت حاملاً،
244
وعن جابر، وابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنهما قالا: لا نفقة لها، حسبها الميراث، وهل تستحقُّ السُّكنى؟ قال عليٌّ، وابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: لا تستحقُّ السُّكنى، وهذا مذهب أبي حنيفة والمزنيّ.
وقال عمر، وابن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وأمُّ سلمة: إنها تستحقُّ السُّكنى، وبه قال مالك، والثَّوريُّ، وأحمد.
واحتجَّ كلٌّ من الطائفتين بخبر فريعة بنت مالك، أخت أبي سعيدٍ الخدريِّ، قتل زوجها؛ فسألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: إنّي أرجع إلى أهلي، فإنَّ زوجي ما تركني في منزل يملكه؛ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «نَعَمْ»، فانصرفت حتى إذا كنت في المسجد، أو في الحجرة دعاني فقال: «امْكُثِي في بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ»، فاختلفوا في تنزيل هذا الحديث.
فقيل: لم يوجب في الابتداء، ثمَّ أوجب؛ فصار الأوَّل منسوخاً.
وقيل: أمرها بالمكث في بيتها أجراً على سبيل الاستحباب، لا على سبيل الوجوب.
واحتجَّ المزنيُّ على أنَّه لا سكنى لها فقال: أجمعنا على أنَّه لا نفقة لها؛ لأنَّ الملك انقطع بالموت، فكذلك السُّكنى بدليل: أنهم أجمعوا على أنَّ من وجب له نفقةً، وسكنى عن ولد ووالد على رجلٍ؛ فمات؛ انقطعت نفقتهم، وسكناهم؛ لأنّ ماله صار ملكاً للوارث، فكذا ها هنا.
وأجيب بأنَّه لا يمكن قياس السُّكنى على النفقة؛ لأنَّ المطلقة ثلاثاً تستحقُّ السُّكنى بكلِّ حالٍ، ولا تستحقُّ النَّفقة لنفسها عند المزنيّ. ولأن النَّفقة وجبت في مقابلة التَّمكين من الاستمتاع، ولا يمكن ها هنا، وأمَّا السُّكنى وجبت لتحصين النساء، وهو موجودٌ ها هنا فافترقا.
245
إنَّما أعاد ذكر المتعة ها هنا؛ لزيادة معنًى؛ وذلك أنَّ في غيرها بيان حكم غير الممسوسة، وفي هذه الآية: بيان حكم جميع المطلّقات في المتعة.
وقيل: لأنَّه لما نزل قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ﴾ [البقرة: ٢٣٦]، إلى قوله: {حَقّاً
245
عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: ٢٣٦] قال رجلٌ من المسلمين: إن أردت؛ فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل فقال الله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف﴾ جعل المتعة لهن بلام الملك، وقال: ﴿حَقّاً عَلَى المتقين﴾ يعنى المؤمنين المتَّقين الشِّرك.
وقيل: المراد بهذه المتعة: النَّفقة، والنَّفقة قد تسمَّى متاعاً، فاندفع التَّكرار.
واعلم أنَّ القائل بوجوب المتعة لكلِّ المطلقات: هو سعيد بن جبير، وأبو العالية والزُّهريّ.
وقال الشَّافعيُّ: لكلّ مطلقة إلاّ المطلقة التي فرض لها المهر، ولم يوجد في حقّها المسيس.
قال أبو حنيفة: لا تجب المتعة إلاَّ للمطلَّقة التي لم يفرض لها، ولم يوجد المسيس.
وقول الله تعالى في زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٢٨] محمولٌ على أنَّه تطوُّع من النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا على سبيل الوجوب.
وقوله: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٤٩] محمولٌ على غير المفروض لها أيضاً.
قال القرطبيُّ: وأوجب الشَّافعيُّ المتعة للمختلعة، والمبارئة، وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطى، فكيف تأخذ متاعاً، لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة، أو مفتدية، أو مبارئة، أو مصالحة، أو ملاعنة، أو معتقة تختار الفراق، دخل بها أم لا، سمى لها صداقاً أم لا؛ وقد تقدَّم ذلك، ثم قال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
246
اعلم أنَّ عادته تعالى: أن يذكر القصص بعد بيان الأحكام ليفيد الاعتبار للسَّامع.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين﴾ : هذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النَّفي، فصيَّرت النَّفي تقريراً، وكذا كلُّ استفهام دخل على نفي نحو: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: ١] ﴿أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: ٣٦] فيمكن أن يكون المخاطب علم هذه القصّة قبل نزول هذه الآية، فيكون التَّقرير ظاهراً، أي: قد رأيت حال هؤلاء، كقول
246
الرَّجل لغيره يريد تعريفه ابتداء: «ألم تر إلى ما جرى على فلان؟».
قال القرطبيُّ: والمعنى عند سيبويه: تنبُّه إلى أمر الذين، ولا تحتاج هذه الرواية إلى مفعولين والمخاطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو كل سامع، إلاَّ أنَّه قد وقع الخطاب معه ابتداءً كقوله: ﴿ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء﴾ [الطلاق: ١] ويجوز أن يكون المراد بهذا الاستفهام: التعجب من حال هؤلاء، وأكثر ما يرد كذلك: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً﴾ [المجادلة: ١٤] ﴿أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل﴾ [الفرقان: ٤٥] ؛ وقال الشاعر: [الطويل]
١١٥١ - أَلَمْ تَرَ أَنِّي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقاً وَجَدْتُ بِهَا طِيباً وإنْ لَمْ تَطَيَّبِ
والرُّؤية هنا علميَّة، فكان من حقِّها أن تتعدَّى لاثنين، ولكنَّها ضمِّنت معنى ما يتعدَّى بإلى.
والمعنى: ألم ينته علمك إلى كذا. وقال الرَّاغب: «رأيت: يتعدَّى بنفسه دون الجارِّ، لكن لما استعير قولهم:» ألم تَرَ «بمعنى ألم تنظر؛ عدِّي تعديته، وقلَّما يستعمل ذلك في غير التقدير، لا يقال: رأيت إلى كذا».
وقرأ السُّلمي: «تَرْ» بسكون الرَّاء، وفيها وجهان:
أحدهما: أنه توهَّم أنَّ الراء لام الكلمة، فسكَّنها للجزم؛ كقوله: [الرجز]
١١٥٢ - قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا وَاشْتَرْ فَعَجِّلْ خَادِماً لَبِيقَا
وقيل: هي لغة قومٍ، لم يكتفوا في الجزم بحذف حرف العلَّة.
والثاني: أنه أجرى الوصل مجرى الوقف، وهذا أولى، فإنَّه كثيرٌ في القرآن؛ نحو: «الظُّنُونَا»، و «الرَّسُولاَ»، و «السَّبِيلاَ»، و «لَمْ يَتَسَنَّهُ»، و «بِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ» وقوله: «وَنُصْلِهِ»، و «نُؤْتِهِ»، و «يُؤَدِّه»، وسيأتي ذلك، إن شاء الله تعالى.
قوله: ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ، وهذه الجملة في [موضع] نصب على الحال، وهذا أحسن مجيئها، إذ قد جمع فيها بين الواو والضمير، و «أُلوفٌ» فيه قولان:
أظهرهما: أنه جمع «ألْف» لهذا العدد الخاصِّ، وهو جمع الكثرة، وجمع القلّة: آلاف كحمول، وأحمال.
247
والثاني: أنه جمع «آلِف» على فاعل كشاهدٍ وشهود، وقاعدٍ وقُعودٍ، أي: خرجوا وهم مؤتلفون، قال الزَّمخشريُّ: «وهذا من بِدَع التَّفاسير».
قوله تعالى: ﴿حَذَرَ الموت﴾ أي من خوف الموت وهو مفعولٌ من أجله، وفيه شروط النَّصب، أعني المصدرية، واتحاد الفاعل، والزمان.
قوله: ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوفٌ على معنى: فقال لهم الله: موتوا، لأنَّه أمرٌ في معنى الخبر تقديره: فأماتهم الله ثم أحياهم.
والثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ، تقديره: فماتوا ثم أحياهم بعد موتهم، و «ثم» تقتضي تراخي الإحياء عن الإماتة. وألف «أَحْيَا» عن ياء؛ لأنَّه من «حَيِيَ»، وقد تقدَّم تصريف هذه المادّة عند قوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً﴾ [البقرة: ٢٦].

فصل


قال السُّدِّيُّ وأكثر المفسرين: «كانت قرية يقال لها:» دَاوْردَان «قيل واسط، وقع بها الطَّاعون، فخرج عامَّة أهلها، وبقيت طائفةٌ، فهلك أكثر الباقين وبقي منهم بقيَّةٌ في المرض والبلاء، فلما ارتفع الطَّاعون؛ رجع الَّذين هربوا سالمين فقال من بَقِيَ من المرضى: هؤلاء أحزم منّا، لو صنعنا كما صنعوا لنجونا، ولئن وقع الطَّاعون ثانيةً لنخرجنّ إلى أرض لا وباء فيها، فوقع الطاعون من قابِلٍ؛ فهرب عامَّة أهلها، وهم بضعةٌ وثلاثون ألفاً؛ حتى نزلوا وادياً أفيح فلمّا نزلوا المكان الذين يبتغون فيه النَّجاة، ناداهم ملك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه:» أنْ مُوتُوا «فماتوا جميعاً وبليت أجسامهم، فمرَّ بهم نبيٌّ يقال له:» حِزْقِيل بن يوذي «: ثالث خلفاء بني إسرائيل، بعد موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وذلك أن القيم بعد موسى بأمر بني إسرائيل يُوشَعُ بْنُ نُون ثم كالب بن يوفنا، ثم حزقيل، وكان يقال له: ابن العجوز؛ لأنَّه أمَّه كانت عجوزاً، فسألت الله الولد بعدما كبرت، وعقمت، فوهبه الله لها».
قال الحسن، ومقاتل: هو ذو الكفل، وسمِّي: ذا الكفل؛ لأنَّه تكفَّل بسبعين نبيّاً، وأنجاهم من القتل، فلمَّا مرَّ حزقيل على أولئك الموتى، وقف متفكّراً فيهم متعجِّباً، فأوحى الله إليه أتريد أن أُريك آيةً؟ قال: نعم، فقيل له: نادِ! يَا أَيُّهَا العِظَامُ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكِ أن تَجْتَمِعِي، فجعلتِ العِظَامُ يَطِيرُ بعضها إلى بعض، حتى تمّت العِظَامُ، ثم أوحى اللهُ
248
إليه ثانياً أن ينادي: يا أيَّتُها العِظَامُ؛ إنَّ اللهَ يأمرك أنَّ تَكْتَسِي لحماً ودماً، ثم نادي: إنَّ اللهَ يأمرك أن تَقُومي؛ فقامت، فلمَّا صاروا أحياءً قاموا، وكانوا يقولون: «سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ» ثم رجعوا إلى قريتهم، بعد حياتهم، وكانت أمارات موتهم ظاهرةً في وجوههم، ثمَّ بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم.
روى عبد الله بن عامر بن ربيعة أنَّ عمر بن الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: خرج إلى الشَّام، فلمَّا جاء «سَرْغَ» بلغه أنَّ الوباء قد وقع بالشَّام؛ فأخبره عبد الرحمن بن عوف: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلاَ تَقْدُمُوا عَلَيْهِ، وإذا وَقَعَ بِأَرْضٍ وأَنْتُمْ بِهَا؛ فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً» ؛ فرجع عمر من «سرغ».
وقال ابن عبَّاس، والكلبيُّ ومقاتل والضَّحَّاك: إنَّ ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال؛ فخافوا القتال، وجبنوا، وكرهوا الموت، فاعتلُّوا، وقالوا لملكهم: إنَّ الأرض التي تذهب إليها بها الوباء، فلا نأتيها حتى يزول ذلك الوباء منها؛ فأرسل الله عليهم الموت؛ فخرجوا من ديارهم فراراً من الموت، فلما رأى الملك ذلك قال: اللَّهمّ ربّ يعقوب، وإله موسى، وهارون قد ترى معصية عبادك، فأرهم آيةً في أنفسهم، حتى يعلموا أنَّهم لا يستطيعون الفرار منك، فلمَّا خرجوا قال لهم الله «مُوتُوا»، فماتوا جميعاً، وماتت دوابهم كموت رجل واحدٍ، وبقوا ثمانية أيَّام، حتَّى انتفخوا وأروحت أجسادهم، وبلغ بني إسرائيل موتهم، فخرجوا لدفنهم؛ فعجزوا لكثرتهم، فحظروا عليهم حظائر دون السِّباع، فأحياهم الله بعد الثمانية أيَّام، وبقي فيهم شيءٌ من ذلك النتن، وفي أولادهم إلى هذا اليوم.
واحتجُّوا على هذه الرِّواية بقوله عقيب ذلك: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٤٤] وقال مقاتل والكلبي كانوا قوم حزقيل، أحياهم الله تعالى بعد ثمانية أيَّام، وذلك أنه لمَّا أصابهم ذلك، خرج حزقيل في طلبهم، فوجدهم موتى؛ فبكى وقال: «يا ربِّ؛ كُنْتُ من قومٍ يحمدونَكَ ويسبِّحُونَكَ ويقدِّسُونَكَ، ويكبِّرُونَكَ، ويهللونَكَ؛ فبقيت واحداً لا قوم
249
لي» ؛ فأوحى الله إليه: إنِّي جعلت حياتهم إليك، فقال حزقيل: احيوا بإذن الله تعالى؛ فعاشوا.
قال مجاهدٌ: إنهم قالوا حين أُحيوا: سبحانك ربنا، وبحمدك لا إله إلاّ أنت، فرجعوا إلى قومهم، وعاشوا دهراً طويلاً وسحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوباً إلاَّ عاد دنساً مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التي كتب لهم.
قال ابن عباس: إنَّها لتوجد اليوم في ذلك السِّبط من اليهود تلك الرِّيح.
قال الحسن: أماتهم الله قبل آجالهم عُقُوبَةً لهم، ثم بعثهم إلى بقيَّة آجالهم.
قال ابن العربيّ: أماتهم الله عقوبة لهم، ثم أحياهم، وميتة العقوبة بعدها حياةٌ، وميتة الأجل لا حياة بعدها.
قوله تعالى: ﴿فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ﴾.
قال ابن الخطيب: قيل: هو من قوله: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠] والمراد سرعة وقوع المراد، ولا قول هناك.
وقيل: أمر الرَّسول أن يقول لهم: «مُوتُوا» أو الملك، والأوَّل أقرب.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ يقتضي أنهم أُحيوا بعد موتهم، وذلك ممكنٌ، وقد أخبر الصَّادق به؛ فوجب القطع.
وقالت المعتزلة: إحياء الميِّت فعلٌ خارق للعَادَةِ، ولا يجوز إظهاره إلا معجزة للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن الخطيب: وأصحابنا يجوّزون خرق العادة كرامةً للأولياء، ولغير ذلك.
قالت المعتزلة: وهذا الإحياء، وقع في زمن حزقيل ببركة دعائه. وها هنا بحثٌ وهو أنَّه قد ثبت بالدَّليل أن المعارف تصير ضروريّة عند القرب من الموت ومعاينة الأهوال والشدائد، فهؤلاء إن كانوا عاينوا تلك الأهوال الموجبة للعلم الضَّروريِّ؛ وجب
250
إذا عاشوا أن يبقوا ذاكرين لذلك؛ لأن الأشياء العظيمة لا تنسى مع كمال العقل؛ لتبقى لهم تلك العلوم، ومع بقائها يمتنع التَّكليف كما في الآخرة، ولا مانع يمنع من بقائهم غير مكلَّفين وإن كان جاءهم الموت بغتةً، كالنَّوم ولم يعاينوا شدَّةَ، ولا هولاً، فذلك أيضاً ممكن.
وقال قتادة: إنَّما أحيوا ليستوفوا بقيَّة آجالهم.

فصل


واختلفوا في عدّتهم.
قال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يكنوا دون ثلاثة آلاف، ولا فوق سبعين ألفاً.
والوجه من حيث اللَّفظ: أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف؛ لأنَّ الألوف جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف، وقيل: إنَّ الألوف جمع ألفٍ، كقعودٍ وقاعدٍ، وجلوسٍ، وجالسٍ، والمعنى: أنَّهم كانوا مؤتلفي القلوب.
قال القاضي: والوجه الأوَّل أولى؛ لأنَّ ورود الموت عليهم دفعةً واحدةً، وهم كثرةٌ عظيمةٌ، تفيد مزيد اعتبار بحالهم؛ لأنَّ موت الجمع العظيم دفعةً واحدةً لا يتَّفق وقوعه، وأمَّا ورود الموت على قوم تآلفوا حب الحياة، وبينهم ائتلافٌ ومحبةٌ كوروده وبينهم اختلاف، فوجه الاعتبار لا يتغيَّر.
قال ابن الخطيب: ويمكن أن يجاب بأنَّ المراد كون كلّ واحد منهم آلفاً لحياته، محباً لهذه الدُّنيا، فرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ﴾ [البقرة: ٩٦]، ثم إنهم مع غاية حبِّهم للحياة وألُفهم بها أماتهم الله تعالى، وأهلكهم ليعلم أنّ حرص الإنسان على الحياة، لا يعصمه من الموت، فهذا القول ليس ببعيدٍ.

فصل


قال القرطبيُّ: الطَّاعون وزنه فاعول من الطَّعن، غير أنَّه لما عدل به عن أصله؛ وضع دالاً على الموت العام بالوباء. قاله الجوهريُّ. وردت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ» قالت: الطَّعن قد عرفناه فما الطَّاعون، قال: «غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعِيرِ تَخْرُجُ في المراقِّ والآبَاطِ» قال
251
العلماء: وهذا الوباء يرسله الله نقمة، وعقوبة على من يشاء من عصاة عبيده، وكفرتهم، وقد يرسله الله شهادة، ورحمة للصَّالحين، كقول معاذٍ في طاعون عمواس: إنَّه شهادةٌ ورحمةٌ لكم، ودعوة نبيكم، وهي قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُعَاذاً وَأَهْلَهُ نَصِيبَهُم مِنْ رَحْمَتِكَ»، فَطُعِنَ في كَفِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.

فصل


وروى البخاريُّ: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال حين ذكره الوباء: «إنَّه رجزٌ، أو عذابٌ عذِّب به بعض الأمم، ثمَّ بقي منه بقيَّةٌ، فيذهب المرَّة، ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرضٍ، فلا يقدمنَّ عليه، ومن كان بأرضٍ وقع بها، فلا يخرج فراراً منه» وعمل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بمقتضى هذا الحديث لمَّا رجعوا من «سَرْغ» حين أخبرهم ابن عوف بهذا الحديث.
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «الفَارُّ مِنَ الوَبَاءِ كالفَارِّ مَنَ الزَّحْفِ».
قال الطَّبريُّ: يجب على المرء توقّي المكاره قيل نزولها، وتجنُّب الأشياء المخيفة قبل هجومها، وكذلك كلّ متَّقًى من غوائل الأمور، سبيله إلى ذلك سبيل الطَّاعون، ونظيره قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «لاَ تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا»، ولما خرج عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - مع أبي عبيدة إلى الشَّام فسمع عمر أنَّ الوباء بها فرجع، فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله، فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! نعم نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، والمعنى لا محيص للإنسان عمَّا قدَّره الله عليه، لكن أمرنا الله من التَّتحرُّز من المخاوف، والمهلكات، وباستفراغ الوسع في التَّوقِّي من المكروهات، ثمَّ قال له: أرأيت لو كانت لك إبل، فهبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصبةٌ والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة، رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة.
قوله: ﴿إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾.
252
أَتَى بهذه الجملة مؤكَّدة ب «إِنْ» واللام، وأتى بخبرٍ «إِنَّ» :«ذو» الدَّالة على الشَّرفِ بخلافِ «صاحبِ»، و «عَلَى النَّاسِ» متعلقٌ بفَضْل تقول: تَفَضَّل فلان عليَّ، أو بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ له فَهُوَ في محلّ جرٍّ، أي: فضلٍ كائنٍ على النَّاسِ. وأل في النَّاسِ لِلْعمُوم. والمعنى أَنَّ هذه القِصَّة تشجع الإِنسان على الإِقدام على طاعة الله تعالى، وتزيل على قَلبه الخَوفَ، فكان ذِكْرُ هذه القِصَّة سبباً لبعد العبد عن المعصية، وقربه من الطَّاعةِ، فكان ذِكرُ هذه القصَّةِ فضلاً وإحساناً من اللهِ على عبدهِ وقيل للعهدِ والمُرادُ بهم: الَّذشين أَمَاتَهُم لأنهم خرجُوا من الدُّنيا على المعصيةِ، ثم أعادهُم إلى الدُّنيا؛ حتى تَابُوا.
وقيل: المُرادُ بالعَهدِ أَنَّ العرب الذين كانُوا منكرين للمعاد؛ كانوا مُتمسكين بقول اليهُود في كثير من الأُمور إذا سمِعُوا بهذه الواقعة، فالظَّاهِرُ أَنَّهُم يرجعون من الدين الباطل الَّذِي هو الإِنكارُ إلى الدِّين الحَقّ، وهو الإِقرار بالبعث، فيتخلَّصُون مِنَ العقاب، وكان ذكر هذه القصَّة؛ فضلاً من الله في حقّ هؤلاء.
قوله: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس﴾ هذا استدراكٌ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قوله ﴿إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾ ؛ لأنَّ تقديره: فيجب عليهم أَنْ يَشْكُروه لتفضُّلِهِ عليهم بالإِيجادِ، والرَّزْق، ولكنَّ أكثرَهم غيرُ شاكرٍ. وهو كقوله: ﴿فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً﴾ [الإسراء: ٨٩].
253
قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا﴾ هذه الجملة فيها أقوالٌ:
أحدها: أنه عطفٌ على قوله: «مُوتُوا» وهو أمرٌ لِمَنْ أَحياهُم اللهُ بعد الإِماتةِ بالجهاد، [أي] فقال لهم: مُوتوا وقاتِلوا، رُوي ذلك عن ابن عبَّاسٍ، والضَّحاك. قال الطَّبريِّ: «ولا وجهَ لهذا القَوْلِ».
والثاني: [أنها معطوفةٌ على قوله: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ» وما بينهما اعتراضٌ.
والثالث] : أَنَّها معطوفةٌ على محذوفٍ تقديره: «فَأَطِيعُوا وَقَاتلوا، أو فلا تَحْذَروا الموتَ كما حَذِرَهُ الذين مِنْ قَبْلكُم، فلم يَنْفَعهم الحذرُ، قاله أبو البقاء.
والظَّاهر أنَّ هذا أمرٌ لهذه الأمةِ بالجهاد، بعد ذكره قوماً لم ينفعهم الحذرُ من المَوتِ، فهو تشجيعٌ لهم، فيكونُ من عطفِ الجملِ؛ فلا يُشْتَرَطُ التوافقُ في أمرٍ ولا غيره.
قوله: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فالسَّبيلُ: هو الطَّريق، وسمِّيتُ العباداتُ سبيلاً إلى اللهِ مِن حيثُ إِنَّ الإنسان بسلوكها يتوصَّلُ إلى ثوابِ اللهِ.
قال القرطبي: وهذا قول الجمهور: وهو الَّذِي ينوى به أن تكون كلمة الله هي
253
العُليا، وسُبُلُ الله كثيرةٌ، فهي عامَّةٌ فِي كُلِّ سبيل. قال تعالى: ﴿قُلْ هذه سبيلي﴾ [يوسف: ١٠٨] قال مالكٌ: سبل الله كثيرة، وما مِنْ سبيلٍ إِلاَّ يقاتل عليها أو فيها أو لها، وأعظمها دينُ الإسلامِ، فلا جرم كان المُجاهِدُ مُقاتِلاً في سبيلِ اللهِ. ثُمَّ قال: ﴿واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أَي: يسمعُ كلامكم في ترغيب الغير في الجهاد، أو في ترعيب الغيرِ عنه، و» عليمٌ «بما في ضمائركُم من البواعثِ، والأَعراضِ: أَنَّ ذلك الجهاد لغرض الدِّينِ، أو لغرض الدُّنيَا.
254
«مَّن» للاستفهام ومحلُّها الرَّفع على الابتداءِ، و «ذا» اسمُ إشارةٍ خبرُهُ، و «الذي» وصلتُهُ نعتٌ لاسم الإِشارةِ، أو بدلٌ منه، ويجوزُ أن يكونَ «مَنْ ذا» كلُّه بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ تركَّبا كقولك: «مَاذَا صَنَعْتَ» كما تقدَّمَ في قوله: ﴿مَاذَآ أَرَادَ الله﴾ [البقرة: ٢٦]. ومَنَع أبو البقاء هذا الوجه وفرَّق بينه وبين قولِكَ: «ماذا» حيثُ يُجْعَلان اسماً واحداً بأنَّ «ما» أشدُّ إيهاماً مِنْ «مَنْ» ؛ لأنَّ «مَنْ» لمَنْ يعقِلُ. ولا معنى لهذا المنعِ بهذه العلةِ، والنحويون نَصُّوا على أنَّ حكمَ «مَنْ ذا» حكمُ «ماذا».
ويجوز أن يكونَ «ذا» بمعنى الّذي، وفيه حينئذٍ تأويلان:
أحدهما: أنَّ «الَّذِي» الثاني تأكيدٌ له؛ لأنَّه بمعناه، كأَنَّهُ قيل: مَنِ الَّذِي يُقرِضُ الله قرضاً.
والثاني: أَنْ يكونَ «الذي» خبرَ مبتدأ محذوفٍ، والجملةُ صلةُ ذا، تقديرُه: «مَنْ الذي [هو الّذي] يُقْرِضُ، وذا وصلتهُ خبرُ» مَنِ «الاستفهاميّة. أجاز هذين الوجهين ابن مالك، قال شهاب الدين وهما ضعيفان، والوجهُ ما قدَّمتُهُ.
وانتصَبَ»
قَرْضاً «على المصدر على حذفِ الزَّوائِد، إِذ المعنى: إقراضاً كقوله: ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧]، وعلى هذا فالمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُهُ:» يُقْرِضُ اللهَ مالاً وصدقةً «، ولا بدَّ من حذفِ مُضَافٍ تقديرهُ: يقرضُ عِبادَ اللهِ المحاويجَ، لتعاليه عن ذلك، أو يكونُ على سبيل التَّجُّوزِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى المفعول نحو: الخَلْق بمعنى المخلُوق، وانتصابُهُ حينئذٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ ل» يُقْرِض «.
قال الواحديُّ: والقَرْضُ في هذه الآيةِ اسمٌ لا مصدر، ولو كان مصدراً؛ لكان إقراضاً. و»
حَسَناً «يجوزث أَن يكونَ صفةً لقرضاً بالمعنيينِ المذكورين، ويجوزُ أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، إذا جعلنا» قَرْضاً «بمعنى مفعول أي: إقراضاً حسناً.
254
قوله:» فَيُضَاعِفَهُ «قرأ عاصمٌ وابن عامر هنا، وفي الحديد بنصب الفاء، إلاَّ أنَّ ابنَ عامر وعاصماً ويعقوب يشدِّدون العينَ من غير ألفٍ وبابه التشديد وقرأ أبو عمرو في الأحزاب والباقون برفعِها، إلاَّ أنَّ ابن كثير يشدِّد العينَ من غير ألفٍ؛ فحصَلَ فيها أربعُ قراءتٍ.
أحدها: قرأ أبو عمرو ونافع، وحمزة، والكسائيُّ فيضاعفُهُ بالألف ورفع الفاء.
والثانية: قراءة عاصم»
فيضاعفه «بالألف ونصب الفاء.
والثالثة: قرأ ابن كثير:»
فَيُضَعِّفُهُ «بالتَّشديد، ورفع الفاءِ.
والرابعة: قرأ ابن عامرٍ فيضعِّفَه بالتَّشْديد، ونصب الفاء. فالرَّفْعُ من وجهين:
أحدهما: أنَّهُ عطفٌ على»
يقرض «الصِّلةِ.
والثاني: أَنَّهُ رفعٌ على الاستئناف أي: فهو يُضاعِفُهُ، والأولُ أحسنُ لعدَمِ الإِضمارِ.
والنصبُ من وجهين:
أحدهما: أنَّهُ منصوبٌ بإضمارٍ «أَنْ»
عطفاً على المصدر المفهوم من «يقرضُ» في المعنى، فيكونُ مصدراً معطوفاً على مصدرٍ تقديرُهُ: مَنْ ذا الذي يكونُ منه إقراضٌ فمضاعفةٌ مِنَ اللهِ تعالى كقوله: [الوافر]
١١٥٣ - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
والثاني: أنه نصبٌ على جوابِ الاستفهام في المعنى؛ لأَنَّ الاستفهام وإِنْ وَقَعَ عن المُقْرِضِ لفظاً، فهو عن الإِقراضِ معنى كأنه قال: أيقرضُ اللهَ أَحَدٌ فيضاعفَه.
قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكونَ جوابَ الاستفهام على اللفظ؛ لأنَّ المُسْتَفْهَمَ عنه في اللَّفْظِ المُقرِضُ أي الفاعلُ للقَرْضِ، لا عن القَرْضِ، أي: الذي هو الفِعْلُ» وقد مَنَع بعضُ النَّحويّين النَّصبَ بعد الفاء في جواب الاستفهام الواقع عن المسندِ إليه الحكمُ لا عن الحُكم، وهو مَحْجوجٌ بهذه الآيةِ وغيرها، كقوله: «مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي؛ فأغفرَ له، مَنْ يَدْعُونِي؛ فأَسْتَجِيبَ له» بالنصبِ فيهما.
قال أبو البقاء: فإنْ قيلَ: لِمَ لاَ يُعْطَفُ [الفعل على] المصدرِ الذي هو «قرضاً» كما يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ بإضمار «أَنْ» كقولِ الشاعر [الوافر]
255
١١٥٤ - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي...............................
قيل: هذا لا يصحُّ لوجهين:
أحدهما: أنَّ «قرضاً» هنا مصدرٌ مؤكِّدٌ، والمصدرُ المُؤكِّدِ لا يُقَدَّرُ ب «أَنْ» والفعلِ.
والثاني: أنَّ عطفَهُ عليه يُوجبُ أن يكونَ معمولاً ليقرضُ، ولا يصِحُّ هذا في المعنى؛ لأَنَّ المضاعفةَ ليستُ مُقْرِضَةً، وإِنَّما هي فعلُ اللهِ تعالى، وتعليله في الوجهِ الأولِ يُؤذِنُ بأنه يُشترط في النصبِ أنْ يُعْطَفَ على مصدرس يتقدَّر ب «أَنْ» والفعلِ، وهذا ليس بشرطٍ؛ بل يجوزُ ذلك وإن كان الاسمُ المعطوفُ عليه غيرَ مصدرٍ؛ كقوله: [الطويل]
١١٥٥ - وَلَوْلاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أَعِزَّةٍ وآلُ سُبَيْعٍ أَوْ أَسُوءَكَ عَلْقَمَا
ف «أَسُوءَكَ» منصوبٌ ب «أَنْ» ؛ عطفاً على «رِجَالٌ»، فالوجهُ في مَنْعِ ذلك أنْ يُقال: لو عُطفَ على «قرضاً» ؛ لشاركه في عامِلِه، وهو «يُقْرض» فيصيرُ التَّقْدِيرُ: مَنْ ذا الذي يَقْرِضُ مضاعفةً، وهذا ليسَ صحيحاً معنى.
وقد تقدَّم أَنَّه قرئ «يُضاعِفُ»، و «يُضَعِّفُ» فقيل: هما بمعنى، وتكونُ المفاعلَةُ بمعنى فَعَل المجرد، نحو عاقَبْت، وقيل: بل هما مختلفان، فقيل: إنَّ المضعَّفَ للتكثير.
وقيل: إنَّ «يُضَعِّف» لِما جُعِلَ مثلين، و «ضاعَفَه» لِما زيد عليه أكثرُ من ذلك.
والقَرْضُ: القَطْعُ، ومنه: «المِقْرَاضُ» لِمَا يُقْطَع به وانقطع القوم هلكوا وانقطع أثرهم وقيل للقَرْض «قرض» ؛ لأنه قَطْعُ شيءٍ من المالِ، وهذا أصلُ الاشتقاقِ، ثم اختلف أهل العِلْمِ في «القَرْض» فقيل: هو اسمٌ لكلِّ ما يُلْتَمَسُ الجزاءُ حَسَناً كان أو سيئاً «، تقول العرب: لك عندي قرضٌ حسنٌ وسيّئ، والمرادُ منه الفعل الذي يجازى عليه.
قال أَميَّة بن الصَّلت: [البسيط]
١١٥٦ - كُلُّ امْرِىءٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرْضَهُ حَسَناً أَوْ سَيِّئاً وَمَدِيناً مِثْلٌ ما دَانَا
واختلفوا في أَنَّ إِطلاق لفظ القَرْضِ على هذا، هل هو حقيقة أو مجازٌ.
256
قال الزَّجَّاج: هو حقيقةٌ، واستدلَّ بما ذكرناه، وقيل: مجازٌ، لأَنَّ القَرْضَ: هو أَنْ يعطي الإنسان ليرجع إليه مثله وهنا إِنَّما ينفق ليرجع إِلَيه بدله، و «القِرض» بالكَسْرِ - لغةٌ فيه حكاها الكِسَائِيُّ، نقله القرطبي.
قوله: «أَضْعَافاً» فيه ثلاثة أوجهٍ:
أظهرها: أَنَّهُ حالٌ من الهاءِ في «فيضاعِفُ»، وهل هذه حالٌ مؤكِّدَةٌ أو مبيِّنة، الظَّاهِرُ أنها مُبَيِّنَةٌ؛ لأنَّها وإنْ كانَتْ من لفظِ العامِلِ، إلاَّ أنَّها اختصَّتْ بوصفِها بشيءٍ آخَر، ففُهِم منها ما لم يُفْهَمُ من عامِلها، وهذا شأنُ المبيِّنة.
والثاني: أنه مفعولٌ به على تضمين «يضاعفُ» معنى يُصَيِّر، [أي: يُصَيِّره] بالمضاعَفَةِ أضْعافاً.
الثالث: أنه منصوبٌ على المصدر.
قال أبو حيان: [قيل] ويجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ على المصدرِ باعتبار أَنْ يُطْلَقَ الضِّعْفُ - وهو المضَاعفُ، أو المضعِّفُ - بمعنى المضاعفة، أو التضعيف، كما أُطلِقَ العطاء، وهو اسمُ المُعْطَى بمعنى الإِعطاء. وجُمِعَ لاختلافِ جهاتِ التضعيفِ باعتبارِ اختلاف الأشخاص، واختلاف المُقْرِضِ واختلافِ أنواعِ الجَزَاءِ. وسبقه إلى هذا أبُو البقاءِ، وهذه عبارتُهُ، وأنشد: [الوافر]
١١٥٧ - أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي وَبَعْدَ عَطَائِكَ المِائَةَ الرِّتَاعَا
والأَضْافُ جمعُ «ضِعْف»، والضِّعْفُ مثل قَدْرَيْنِ مُتَسَاوييْن. وقيل: مثلُ الشَّيء في المِقْدَارِ. ويقالُ: ضِعْفُ الشَّيء: مثلُهُ ثلاثَ مرات، إلاَّ أنه إذا قيل «ضعفان»، فقد يُطْلَقُ على الاثنين المِثْلَيْنِ في القَدْرِ من حيثُ إِنَّ كلَّ واحدٍ يُضعِّفُ الآخرَ، كما يُقالُ زَوْجان، من حيث إنَّ كلاً منهما زوجٌ للآخر.

فصل


لما أمر اللهُ تعالى بالجهادِ، والقتال على الحَقّ؛ إذ ليس شيءٌ من الشَّريعة، إِلاَّ ويجوز القِتَالُ عليه وعنه، وأعظمها دينُ الإِسلام، حرَّض تعالى على الإِنفاقِ في ذلك؛ فَدَخل في ذلك: المُقَاتِلُ في سبيلِ اللهِ، فإِنَّهُ يَقْرضُ رجاء الثَّوابِ، كما فعلَ عثمانُ - رضي اللهُ عنه - في جيشِ العُسْرَةِ.

فصل


اختلف المُفَسِّرُون في هذه الآية على قولين:
257
أحدهما: أنَّ هذه الآية متعلِّقةٌ بما قبلها، والمرادُ منها القرض في الجهادِ خاصَّةً، فندب العاجز عن الجهاد أَنْ ينفق على الفقير القادر عليه، وأمر القادر على الجهاد: أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد، ثمَّ أكد ذلك بقوله تعالى: ﴿والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾.
القول الثاني: أَنَّ هذا الكلام مبتدأٌ لا تعلُّق له بما قبله، ثم اختلفوا هؤلاء، فمنهم من قال: المراد من القرض إنفاق المال، ومنهم من قال: إِنَّه غيره والقائلون بأَنَّه إنفاق المال، اختلفوا على ثلاثة أقوال:
الأول: أَنَّه الصَّدقةُ غير الواجبة، وهو قول الأَصم، واحتجَّ بوجهين:
أحدهما: أَنَّهُ تعالى سمَّاه قرضاً والقَرْضُ لا يكون إِلاَّ تبرعاً.
الوجه الثاني: قال ابن عبَّاسٍ: إِنَّ هذه الآية «نزلت في أبي الدَّحداح، قال: يا رسول اللهِ! إِنَّ لي حديقتين، فإِنْ تصدّقت بأحدهما، فهل لي مثلها في الجنَّة.
قال:»
نَعَمْ «، قال: وأمّ الدَّحداح معي؟ قال:» نعم «. فتصدق بأفضل حديقته، وكانت تُسَمَّى» الحنيبة «قال: فرجع أبُو الدَّحداح إلى أهله، وكانوا في الحديقة التي تصدّق بها، فقام على باب الحديقة وذكر ذلك لامرأته فقالت أم الدَّحداح: بارك اللهُ لك فيما اشتريتَ، ثمَّ خرجوا منه وسلموها؛ فكان عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: كم مِنْ نخلةٍ رداحٍ تُدلي عروقها في الجنَّة لأَبي الدَّحداح
القول الثاني: أَنَّ المراد من هذا القرض: الإنفاقُ الواجب في سبيل اللهِ. قالوا: لأَنَّه تعالى ذكر في آخر الآية قوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، وذلك كالزَّجر وهو إِنَّما يليقُ بالواجب.
القول الثالث: أَنَّه يشتمل قسمين كقوله تعالى: ﴿مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾ [البقرة: ٢٦١] وأمَّا من قال: إِنَّ المُراد: إِنفاقُ شيء سوء المال. قالوا: رُوِيَ عن بعضِ أصحاب ابن مسعودٍ أنه قول الرَّجل سبحان اللهِ، والحمد للهِ، ولا إله إلاَّ الله، واللهُ أكْبَرُ. قال ابنُ الخطيب [قال القاضي] وهذا بعيدٌ؛ لأَنَّ لفظ الإِقراض لا يقعُ في عرف اللُّغة عليه، ولا يمكن حمل هذا القولِ على الصِّحَّة إِلاَّ أَنْ نقول: إذا كان
258
الفقيرُ لا يملك شيئاً، وكان في قلبه أنه لو قدر على الإِنفاق لأنفق، وأعطى، فحينئذٍ تكون نيته قائمةً مقام الإِنفاق، فقد روي أَنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام قال: «مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ فَلْيَلْعَنِ اليهُود، فإنَّه لهُ صَدَقَة».

فصل


قال القرطبي: وذكر القَرْضِ ها هنا إِنَّما هو تأنيسٌ، وتقريبٌ للنَّاسِ بما يفهمونه، واللهُ هو الغنيُّ الحميدُ، لكنَّهُ تعالى شبَّه عطاء المؤمنين في الدُّنيا، بما يرجون به ثوابه في الآخرةِ بالقرض كما شبَّه إِعطاء النُّفوسِ، والأموال في أَخذِ الجنَّةِ، بالبيع والشراء.
قوله تعالى: «حَسَناً» قال الواقديُّ: محتسب طيبة به نفسه.
وقال عمرو بن عثمان الصَّدفيُّ: «لا يتبعه مَنّاً، ولا أَذى».
وقال سهلُ بن عبد اللهِ: لا يعتقِدث في قرضه عوضاً.
واعلم: أَنَّ هذا الإِقراض إِذَا قلنا: المرادُ به الإِنفاقُ في سبيل الله، فهو يخالف القرضَ من وجوهٍ:
الأول: أَنَّ القرض إِنَّما يأخذه من يحتاج ُ إليه لفقره، وذلك في حقّ اللهِ تعالى مُحالٌ.
الثاني: أَنَّ البدل في القرضِ المعتاد لا يكون إِلاّ المثل، وفي هذا الإنفاق هو الضِّعفُ.
الثالث: أَنَّ المالَ الذي يأخُذُه المستقرضُ، لا يكون ملكاً له، وها هنا المالُ المأخُوذ ملك له، ومع هذه الفُروق سمَّاه الله تعالى قرضاً، والحكمةُ فيه التَّنبيهُ على أَنَّ ذلك لا يضيعُ عند اللهِ كما أَنَّ القرض يجبُ أداؤه، ولا يجوزُ الإخلالُ به، فكذا الثَّوَابُ الواجبُ على هذا الإنفاقِ واصلٌ إلى المكلف لا محالة.

فصل


قال القرطبيُّ: القرضُ: قد يكون بالمالِ، وقد بَيَّنَّا حُكْمَهُ، كما قال عليه الصّلاة
259
والسَّلام «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كأَبِي ضَمْضَم، كان إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قال: اللَّهُمَّ إِنِّي تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ».
وقال ابن عمر: «أَقْرِضْ من عِرْضِكَ ليوم فَقْرِكَ» يعني مَنْ سبَّك فلا تأخذ منه حقّاً، ولا تقم عليه حَدّاً، حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز التَّصَدُّق بالعرض؛ لأَنَّه حقُّ اللهِ تعالى وهو مروي عن مالكٍ.
قال ابن العربيّ: وهذا فاسِدٌ لقوله عليه الصَّلاة والسّلام: «إِنَّ دِمَاءَكم وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» هذا يقتضي أَنْ تكون هذه المحرمات الثَّلاث تجري مجرًى واحداً، في كونها باحترامها حقاً للآدمي

فصل


وكون القرض حسناً يحتملُ وجوهاً:
أحدها: أنه أراد به أن يكون حلالاً خالصاً من الحرام.
الثاني: ألاَّ يتبع ذلك منّاً ولا أذى.
الثالث: أن يفعله بنية التَّقرُّب إلى اللهِ تعالى.
والمراد من التَّضعيف، والإضعاف، والمضاعفة واحد، وهو: الزِّيَادَةُ على أصل الشَّيء حتَّى يصير مثليه، أو أكثر، وفي الآية حذفٌ والتقدير: فيضاعف ثوابه.

فصل


والمراد بالأضعاف الكثيرة:
قال السُّدِّيُّ: هذا التَّضعيفُ لا يعلمه إلاَّ الله - عزَّ وجلَّ - وإِنَّما أبهم ذلك؛ لأَنَّ ذكر المبهم في باب التَّرغيب، أقوى من المحدود وقال غيره: هو المذكورُ في قوله تعالى: ﴿مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾ [البقرة: ٢٦١]، فيحمل المجمل على المُفسَّرِ؛ لأَنَّ كلتا الآيتين وردتا في الإنفاق.
قوله تعالى: ﴿والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ قرأ أبو عمر، وحمزة، وحفص، وقنبلٌ «
260
وَيَبْسُطُ» ها هنا وفي الأعراف بالسِّين على الأصل، والباقُون بالصَّادِ لأجل الطاء. وقد تقدَّم تحقيقه في ﴿الصراط﴾ [الفاتحة: ٦].

فصل


قوله: «يقبض» بإمساك الرّزق والنفس، والتقتير، و «يَبْسُطُ» بالتَّوسيع، وقيل: يقبضُ بقبول التوبة الصَّادقة، ويبسط بالخلف، والثَّواب. وقيل: هو الإِحياءُ والإماتة، فمن أَمَاتهُ فقد قبضه ومن مَدَّ له في عمره فقد بسط له.
وقيل: يقبضُ بعض القلوب، حتَّى لا تقدم على هذه الطَّاعة. والمعنى: أَنَّهُ كما أمرهم بالصَّدقةِ أخبر أَنَّهُ لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه، وإعانته، وقيل: ذكر ذلك ليعلمَ الإِنسان أَنَّ القبض والبسط بيد اللهِ، فإذا علم ذلك؛ انقطع نظره عن مال الدُّنيا، وبقي اعتمادُهُ على اللهِ، فحينئذٍ يَسْهُلُ عليه الإنفاق ثمَّ قال: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فيجزيكم بأعمالكم، حيث لا حاكم ولا مُدَبِّرَ سواه.
وقال قتادة: الهاء في «إليه» راجعة إلى التّراب كنايةً عن غير مذكور، أي من التُّراب خلقتم، وإليه تُرْجعون، وتعودون.
261
الملأُ من القَوْمِ وجوههم، وأشرافهم، وهو اسم للجماعة من النَّاس لا واحد لهُ من لفظه كالرَّهْطِ والقومِ، والجيشِ، والمَلأُ: الأَشرافُ سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يملئون العيونَ هيبةً، أو المجالسَ إذا حضروا؛ أو لأنهم مليئون بما يُحْتاج إليهم فيه، وقال الفرَّاءُ: «المَلأُ» الرجالُ في كلِّ القرآن، وكذلك القومُ والرَّهطُ والنَّفَرُ، ويُجْمع على أَمْلاء؛ قال: [الطويل]
١١٥٨ - وَقَالَ لَهَا الأَمْلاَءُ مِنْ كُلِّ مَعْشَرٍ وَخَيْرُ أَقَاوِيلِ الرِّجَالِ سَدِيدُهَا
قال القرطبي: والملأ أيضاً حسن الخلق، ومنه الحديث: «أَحْسنُوا الملأَ فكلُّكُمْ سيروى» أخرجه مسلم.
261
قوله تعالى: ﴿مِن بنيا﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أَنَّهُ صلةٌ للملأ على مذهب الكُوفيين؛ لأنهم يجعلون المُعَرَّفَ بأل موصولاً؛ ويُنْشِدُون: [الطويل]
١١٥٩ - لَعَمْرِي لأَنْتَ الَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ وأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأصائِلِ
و ﴿مِن بَعْدِ موسى﴾ متعلِّقٌ بما تعلَّقَ [به] الجارُّ الأولُ، وهو الاستقرار، ولا يضُرُّ اتحادُ الحرفين لفظاً لاختلافِهما معنًى، فإِنَّ الأولى للتبعيض والثانية لابتداءِ الغاية. وقال أبو البقاء: «مِنْ بعدِ» متعلِّقٌ بالجار الأول، أو بما تعلَّق به الأول يعني بالأولِ: «من بني»، وجعله عاملاً في «مِنْ بعد» لِما تضمنَّه من الاستقرار، فلذلك نَسَبَ العملَ إليه، وهذا على رأي بعضِهم، يَنْسِبُ العمل للظرف والجارِّ الواقِعَيْن خبراً أو صفةً أو حالاً أو صلةً، فتقول في نحو: «زيدٌ في الدار أبوه» أبوه: فاعلٌ بالجارِّ، والتحقيقُ أنه فاعلٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الجارُّ، وهو الوجهُ الثاني. وقدَّر أبو البقاء مضافاً محذوفاً. تقديرُه: من بعدِ موسى، ليصِحَّ المعنى بذلك.
قوله: ﴿إِذْ قَالُواْ﴾ العاملُ في هذا الظرفِ أجازوا فيه وجهين:
أحدهما: أنه العاملُ في «مِنْ بعد» لأنَّه بدلٌ منه، إذ هما زمانان، قاله أبو البقاء: والثاني: أنه «ألم تر» قال شهاب الدين وكلاهما غيرُ صحيحٍ.
أمَّا الأول فلوجهين:
أحدهما من جهة اللفظِ والآخرُ من جهة المعنى. فأمّا الذي من جهة اللفظِ فإنه على تقدير إعادة «مِنْ» و «إذ» لا تُجَرُّ ب «مِنْ». الثاني: أنه ولو كانَتْ «إذ» من الظروف التي تُجَرُّ ب «مِنْ» كوقت وحين لم يصِحَّ [ذلك أيضا لأنَّ العاملَ في «مِنْ بعد» محذوفٌ فإنه حالٌ تقديره: كائنين من بعد، ولو قلت: كائن من حين قالوا لنبيٍّ لهم ابعثْ لنا ملكاً لم يصِحَّ] هذا المعنى.
وأمَّا الثاني فلأنه تقدَّم أن معنى «ألم تر» تقريرٌ للنفي، والمعنى: ألم ينته علمُك، أو قد نَظَرْتَ إلى الملأ وليس انتهاءُ علمِه إليهم ولا نظرُه إليهم كان في وقتِ قولهم ذلك، وإذا لم تكنْ ظرفاً للانتهاءِ ولا للنظر فكيف تكونُ معمولاً لهما أو لأحدِهما؟
وإذ قد بَطَلَ هذان الوجهان فلا بُدَّ له من عاملٍ يصِحُّ به المعنى وهو محذوفٌ، تقديره: ألم تَر إلى قصة الملأ أو حديث الملأ ما في معناه؛ وذلك لأنَّ الذواتِ لا يُتَعَجَّبُ منها، إنما يُتَعَجَّبُ من أحداثها، فصار المعنى: ألم تَرَ إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل إلى آخرها، فالعاملُ هو ذلك المجرورُ، ولا يصحُّ المعنى إلا به لِما تقدَّم.
262
قوله تعالى: ﴿لِنَبِيٍّ﴾ متعلِّقٌ ب «قالوا» واللامُ فيه للتبليغ، و «لهم» متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لنبي، ومحلُّه الجرُّ، و «ابعَثْ» وما في حيَّزه في محلِّ نصبٍ بالقولِ. و «لنا» الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بابعَثْ، واللامُ للتعليلِ أي: لأجلِنا.
قوله: ﴿نُّقَاتِلْ﴾ الجمهورُ بالنونِ والجزم على جواب الأمر. وقرئ بالياء والجزم على ما تقدَّم، وابن أبي عبلة بالياءِ ورفعِ اللام على الصفةِ لملكاً، فمحلُّها النصبٌ أيضاً. [وقرئ بالنونِ ورفع اللام على أنها حالٌ من «لنا» فمحلُّها النصبُ أيضاً] أي: ابعَثْه لنا مقدِّرين القتال، أو على أنها استئنافُ جوابٍ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قال لهم: ما يَصْنعون بالملكِ؟ فقالوا نقاتِلْ.
قوله: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ عسى واسمها، وخبرها «أَنْ لا تقاتِلوا» والشرطُ معترضٌ بينهما، وجوابهُ محذوفٌ للدلالة عليه، وهذا كما توسَّط في قوله: ﴿وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٧٠]، وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ «عسى» داخلةً على المبتدأ والخبر، ويقولُ إنَّ «أَنْ» زائدةٌ لئلا يُخْبَرَ بالمعنى عن العين. وأمّا مَنْ يرى أنّها تُضَمَّنُ معنى فعل متعدٍّ فيقول: «عَسَيْتم» فعلٌ وفاعلٌ، و «أَنْ» وما بعدها مفعولٌ به تقديره: هل قارَبْتُم عدم القتالِ، فهي عنده ليسَتْ من النواسخِ، والأولُ هو المشهورُ.
وقرأ نافع «عَسِيْتُم» هنا وفي القتال: بكسر السينِ، وهي لغةٌ مع تاءِ الفاعلِ مطلقاً ومع ن [ومع] نونِ الإناثِ نحو: عَسِينا وعَسِين، وهي لغةُ الحجاز، ولهذا غَلِطَ مَنْ قال: «عسى تُكْسَرُ مع المضمر» وأَطْلَقَ، بل كان ينبغي له أن يُقَيِّدَ الضمير بما ذكرنا، إذ لا يقال: الزيدان عَسِيا والزيدون عَسِيوا بالكسرِ البتة.
وقال الفارسي: «ووجهُ الكسرِ قولُ العربِ:» هو عَس بكذا «مثل: حَرٍ وشَج، وقد جاء فَعَل وفَعِل في نحو: نَقَم ونَقِم، فكذلك عَسَيْتُ وعَسِيْتُ، فإِنْ أُسْنِدَ الفعلُ إلى ظاهرٍ فقياسُ عَسِيتم - أي بالكسر - أن يقال:» عَسِيَ زيدٌ «مثل:» رَضِي زيدٌ «.
فإن قيل: فهو القياسُ، وإِنْ لم يُقَلْ فسائِغٌ أن يُؤْخَذَ باللغتين، فتُسْتَعملَ إحداهما موضعَ الأخرى كما فُعِل ذلك في غيره»
فظاهرُ هذه العبارة أنه يجوز كسرُ سينِها مع الظاهِر بطريق القياسِ على المضمرِ، وغيرهُ من النحويين يمنعُ ذلك حتى مع المضمر مطلقاً، ولكن لا يُلتفت إليه لورودِه متواتراً، وظاهرُ قوله «قولُ العرب: عَسٍ» أنه مسموعٌ منهم
263
اسمُ فاعلها، وكذلك حكاه أبو البقاء أيضاً عن ابن الأعرابي، وقد نَصَّ النحاة على أن «عسى» لا تتصرَّف «.
واعلم أنَّ مدلولَ «عسى» إنشاءٌ لأنها للترجي أو للإِشفاق، فعلى هذا: فكيف دَخَلت عليها «هل» التي تقتضي الاستفهامَ؟ فالجوابُ أن الكلامَ محمولٌ على المعنى، قال الزمخشري: «والمعنى: هل قارَبْتم ألاَّ تقاتلوا، يعني: هل الأمرُ كما أتوقّعه أنكم لا تقاتلون، أراد أن يقول: عَسَيْتُم ألا تقاتلوا، بمعنى أتوقَّعُ جبنَكم عن القتالِ، فأدخلَ» هل «مستفهِماً عما هو متوقعٌ عنده ومَظْنونٌ، وأرادَ بالاستفهام التقريرَ، وثَبَتَ أنَّ المتوقَّع كائنٌ وأنه صائبٌ في توقعه؛ كقوله تعالى: ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان﴾ [الإنسان: ١] معناه التقريرُ» وهذا من أَحسنِ الكلامِ، وأحسنُ مِنْ قول مَنْ زعم أنها خبرٌ لا إنشاءٌ؛ مُسْتَدِلاً بدخولِ الاستفهام عليها؛ وبوقوعها خبراً ل «إنَّ» في قوله: [الرجز]
١١٦٠ - لاَ تُكْثِرَنْ إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمَا... وهذا لا دليلَ فيه؛ لأنه على إضمار القول؛ كقوله: [البسيط]
١١٦١ - إِنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا
ولذلك لا توصلُ بها الموصولات؛ خلافاً لهشامٍ.
قوله: ﴿وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ﴾ هذه الواوُ رابطةٌ لهذا الكلام بما قبلَه، ولو حُذِفَتْ لجازَ أن يكونَ منقطعاً مِمَّا قبله. و «ما» في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، ومعناها الاستفهامُ، وهو استفهامُ إنكارٍ. و «لنا» في محلِّ رفع خبر ل «ما».
و «أَلاَّ نُقَاتِلَ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ.
أظهرها: أنَّها على حذفِ حرفِ الجرِّ وهو قول الكسائي والتقديرُ: وما لنا في ألاَّ نقاتل، أي: في تركِ القتالِ، ثم حُذِفَتْ «في» مع «أَنْ» فجرى فيها الخلافُ المشهورُ بين الخليل وسيبويه: أهي في محلِّ جر أم نصبٍ؟ وهذا الجارَّ يتعلَّقُ بنفسِ الجارِّ الذي هو «لنا» أو بما يتعلَّق هو به على حسبِ ما تقدَّم في «مِنْ بعد موسى».
قال البغوي: فإن قيل: فما وجه دخول «أن» في هذا الموضع، والعرب لا
264
تقول ما لك ألاَّ تفعل، وإنما يقال: ما لك لا تفعل؟ قيل: دخول «أن» وحذفها لغتان صحيحتان، فالإثبات كقوله تعالى: ﴿مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين﴾ [الحجر: ٣٢]، والحذف كقوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله﴾ [الحديد: ٨] وقال الفراء: الكلام ها هنا محمول على المعنى؛ لأن قولك: ما لك لا تقاتل؟ معناه: ما يمنعك أن تقاتل، فلما كان معناه المنع حسن إدخال «أن» فيه كقوله ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ﴾ [ص: ٧٥] وقوله: ﴿أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين﴾ [الحجر: ٣٢] ورجح الفارسي قول الكسائي على قول الفراء.
قال: لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر تقديره ما يمنعنا من أن نقاتل فإذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين، فعلى قول الكسائي يبقى الإضمار على ظاهره وعلى قول الفراء لا يبقى، فكان قول الكسائي أولى.
الثاني: مذهب الأخفش أنَّ «أَنْ» زائدةٌ، ولا يضرُّ عملها مع زيادتها، كما لا يضرُّ ذلك في حروف الجر الزائدة، وعلى هذا فالجملة المنفيَّة بعدها في محلِّ نصبٍ على الحال، كأنه قيل: ما لنا غير مقاتلين، كقوله: ﴿مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ [نوح: ١٣] ﴿وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ﴾ [المائدة: ٨٤] وقول العرب: «ما لك قائماً»، وقول الله تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩] وهذا المذهب ضعيفٌ لأنَّ الأصل عدم الزيادة، فلا يصار إليها دون ضرورةٍ.
الثالث: - وهو أضعفها - وهو مذهب الطبري أنَّ ثمَّ واواً محذوفةً قبل قوله: «أن لا نقاتلَ». قال: «تقديره: وما لنا ولأن لا نقاتل، كقولك: إياك أن تتكلَّم، أي: إياك وأن تتكلم، فحذفت الواو» وهذا كما ترى ضعيفٌ جداً. وأمَّا قوله: إنَّ قولهم إياك أن تتكلم على حذف الواو؛ فليس كما زعم، بل «إياك» ضمِّنت معنى الفعل المراد به التحذير، و «أَنْ تتكلمَ» في محلِّ نصبٍ به تقديره: احذر التكلم.
قوله: ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا﴾ هذه الجملة في محلِّ نصبٍ على الحال، والعامل فيها: «نقاتلْ»، أنكروا ترك القتال وقد التبسوا بهذه الحال. وهذه قراءة الجمهور، أعني بناء الفعل للمفعول.
وقرأ عمرو بن عبيد: «أَخْرَجَنا» على النباء للفاعل. وفيه وجهان:
أحدهما: أنه ضمير الله تعالى، أي: وقد أخرجنا الله بذنوبنا.
والثاني: أنه ضمير العدوّ.
﴿وَأَبْنَآئِنَا﴾ عطفٌ على «ديارنا» أي: ومن أبنائنا، فلا بدَّ من حذف مضافٍ تقديره: «
265
ومن بين أبنائنا» كذا قدره أبو البقاء. وقيل: إنَّ هذا على القلب، والأصل: وقد أُخرج أبناؤنا منا، ولا حاجة إلى هذا.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ﴾، فاعلم أن في الكلام محذوفاً تقديره: فسألوا الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فتولوا.
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ نصبٌ على الاستثناء المتصل من فاعل «تَوَلَّوا» فإن قيل المستثنى لا يكون مبهماً، لو قلت: «قام القومُ لا رجالاً» لم يصحَّ، فالجواب إنما صحَّ هذا لأنَّ «قليلاً» في الحقيقة صفةٌ لمحذوفٍ، ولأنه قد تخصَّص بوصفه بقوله: «منهم»، فقرب من الاختصاص بذلك.
وقرأ أُبي: «إلاَّ أن يكون قليلٌ منهم» وهو استثناءٌ منقطعٌ، لأنَّ الكون معنًى من المعاني والمستثنى منه جثثٌ. ولا بدّ من بيان هذه المسألة لكثرة فائدتها. وذلك أنّ العرب تقول: «قام القوم إلا أنْ يكونَ زيدٌ وزيداً» بالرفع والنصب، فالرفع على جعل «كان» تامةً، و «زيدٌ» فاعلٌ، والنصب على جعلها ناقصةً، و «زيداً» خبرها، واسمها ضميرٌ عائدق على البعض المفهوم من قوة الكلام، والتقدير: قام القوم إلا أن يكون هو - أي بعضهم - زيداً، والمعنى: قام القوم إلا كون زيدٍ في القائمين، وإذا انتفى كونه قائماً انتفى قيامه، فلا فرق من حيث المعنى بين العبارتين، أعني «قام القوم إلا زيداً» و «قاموا إلا أن يكون زيداً»، إلا أن الأول استثناءٌ متصلٌ، والثاني منقطعٌ لما قررناه.

فصل


وجه تعلُّق هذه الآية بما قبلها أنَّه تعالى لما فرض القتال بقوله: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٤٤]، ثمَّ أمر بالإنفاق فيه بقوله: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله﴾ [البقرة: ٢٤٥] ذكر بعد ذلك هذه القصة تحريضاً على عدم تركهم مخالفة الأمر بالقتال، فإنَّهم لما أُمروا تولَّوا، وخالفوا؛ فذمهم الله تعالى ونسبهم إلى الظُّلم بقوله: ﴿والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾ والمراد التَّرغيب في الجهاد.

فصل فيمن هو النبي الذي نادى بالبعث في الآية


اختلفوا في ذلك النبيِّ الذي قالوا له ﴿ابعث لَنَا مَلِكاً﴾ من هو فقال قتادة: هو يوشع ابن نون بن أفرائيم بن يوسف لقوله تعالى: ﴿مِن بَعْدِ موسى﴾ وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله ﴿مِن بَعْدِ موسى﴾ كما لا يحتمل الاتصال بالتَّعاقب يحتمل البعديَّة بغير تعاقب، وإن كان
266
بينهما غير يوشع؛ لأنَّ البعديّة حاصلة، وذكر ابن عطيَّة في تضعيف هذا القول أنَّ مدَّة داود بعد موسى بقرون من النَّاس، ويوشع هو فتى موسى عليهما الصَّلاة والسَّلام.
وقال السُّدِّيُّ: اسمه شمعون سمَّته أُمُّه بذلك؛ لأنَّها دعت الله أن يرزقها غلاماً، فاستجاب الله دعاءها، فسمته سمعون، أي: سمع الله دعائي، والسِّين تصير شيناً بالعبرانية وهو شمعون ابن صفيَّة بنت علقمة، من ولد لاوي بن يعقوب.
وقال سائر المفسِّرين: هو اشمويل بن هلقايا.

فصل


كان سبب مسألتهم إيّاه ذلك؛ لأنَّه لمَّا مات موسى خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم التَّوراة، وأمر الله، حتى قبضه الله، ثمَّ خلف فيهم «كالِب بْنَ يُوفَنَا» ؛ حتى قبضه الله، ثمَّ حزقيل حتى قبضه الله، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ونسوا عهد الله؛ حتى عبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم «إِلْياسَ» نبياً، فدعاهم إلى الله، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى، يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التَّوراة، ثم خلف بعد «إِلْيَاسَ» «اَلْيَسَع»، وكان فيهم ما شاء الله؛ حتَّى قبضه الله، وخلف فيهم الخلوف، وعظمت الخطايا وظهر لهم عدوٌّ يقال له البلثاثا، وهم قوم «جَالُوتَ»، كانوا يسكنون ساحل بحر الرُّوم، بين مصر، وفلسطين، وهم العمالقة، فظهروا على بني إسرائيل، وغلبوا على كثير من أرضهم، وسبوا كثيراً من ذراريهم، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعين وأربعمائة غلام، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاءً شديداً، ولم يكن لهم نبيٌّ يدبِّر أمرهم، وكان سبط النُّبوَّة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلاَّ امرأة حبلى؛ فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جاريةً، فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً؛ فولدت غلاماً فسمته شمويل تقول: سمع الله دعائي، فكبر الغلام فأسلموه ليتعلم التَّوراة في بيت المقدس، وكفله شيخٌ من علمائهم وتبنَّاه، فلمَّا بلغ الغلام أتاه جبريل، وهو نائم إلى جنب الشَّيخ، وكان لا يأتمن عليه أحداً، فدعاه جبريل بلحن الشيخ: يا أُشمويل، فقام الغلام فزعاً إلى الشَّيخ قوال: يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشَّيخ أن يقول: لا فيفزع الغلام، فقال: يا بنيّ ارجع فنم، فرجع الغلام، فَنَامَ، ثمَّ دعاه الثَّانية، فقال الغلام: يا أَبَتِ دَعَوْتَنِي!؟ فقال: ارجع فنم فإنْ دعوتُكَ الثَّالثة؛ فلا تجبني، فلمَّا كانت الثَّالثة ظهر له جبريل فقال له: اذهب إلى قومك؛ فبلغهم رسالة ربِّك، فإن الله قد بعثك فيهم نبيّاً، فلمَّا أتاهم كذَّبوه، وقالوا له: استعجلت بالنُّبوَّة، ول تَنَلْكَ، وقالوا: إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آيةً من نبوَّتك، وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على
267
الملوك، وطاعة الملوك لأنبيائهم، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنَّبيُّ يقوم له بأمره، ويشير عليه برشده، ويأتيه بالخبر من عند ربِّه.
قال وهبٌ: بعث الله أُشمويل نبيّاً، فلبثوا أربعين سنةً بأحسن حال، ثمَّ كان من أمر جالوت، والعمالقة ما كان فقالوا لأُشمويل: «ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِل»، فقال: «هَلْ عَسَيْتُم» ؟! استفهام شكٍّ، أي: لعلكم «إِنْ كُتِبَ» أي: فرض «عَلَيْكُمُ القِتَالُ» مع ذلك الملك ألا تفوا بما تقولون، ولا تقاتلوا معه «قَالُوا: وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا»، فجعلوا ذلك علَّةً قويَّة توجب التَّشديد في أمر الجهاد؛ لأنَّ من بلغ منه العدوُّ هذا المبلغ، فالظَّاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوِّه ومقاتلته، وظاهر الكلام العموم، والمراد الخصوص؛ لأنَّ الذين قالوا لنبيِّهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله؛ كانوا في ديارهم وأوطانهم، وإنَّما أخرج من أسر منهم، ومعنى الآية أنهم قالوا مجيبين لنبيِّهم: إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا، لا يظهر علينا عدوٌّ، فأمَّا إذْ بلغ ذلك منَّا، فنطيع ربَّنا في الجهاد، ونمنع نساءنا، وأولادنا، ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ﴾ : أعرضوا عن الجهاد، وضيَّعوا أمر الله ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ - وهم الذين عبروا النَّهر مع طالوت، واقتصروا على الغرفة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قيل: كان عدد هذا القليل ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدرٍ.
268
قوله تعالى: ﴿طَالُوتَ مَلِكاً﴾ :«مَلِكاً» حال من «طالوت» فالعامل في الحال «بَعَثَ». و «طالوتُ» فيه قولان:
أظهرهما: أنه اسمٌ أعجميٌّ فلذلك لم ينصرف للعلتين، أعني: العلمية والعجمة الشَّخصية.
والثاني: أنه مشتقٌّ من الطول، ووزنه فعلوت كرهبوت ورحموت، وأصله طولوت، فقلبت الواو ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وكأن الحامل لهذا القائل بهذا القول ما روي في القصَّة أنه كان أطول رجلٍ في زمانه وبقوله «وزاده بسطة في العلم والجسم» إلا أنَّ هذا القول مردودٌ بأن لو كان مشتقاً من الطُّول، لكان ينبغي أن ينصرف، إذ ليس فيه إلاَّ العلمية. وقد أجابوا عن هذا بأنه وإن لم يكن أعجمياً لكنَّه شبيه بالأعجمي، من حيث إنَّه
268
ليس في أبينة العرب ما هو على هذه الصِّيغة، وهذا كما قالوا في حمدون، وسراويل، ويعقوب، وإسحاق عند من جعلهما من سحق وعقب وقد تقدم.
وأجاب آخرون: بأنه اسمٌ عبراني وافق عربيّاً مثل حطة وحنطة، وعلى هذا يكون أحد سببيه العجمة؛ لكونه عبرانياً.
قوله: ﴿أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا﴾ في «أَنَّى» وجهان:
أحدهما: أنَّها بمعنى كيف، وهذا هو الصَّحيح.
والثاني: أنها بمعنى من أين، اختاره أبو البقاء، وليس المعنى عليه. ومحلُّها النّصب على الحال، وسيأتي الكلام في عاملها ما هو. و «يَكُونُ» فيها وجهان:
أحدهما: أنها تامَّةٌ، و «المُلْكُ» فاعلٌ بها و «له» متعلّقٌ [بها، و «عَلَيْنَا» متعلقٌ] بالملك، تقول: «فلان مَلَك على بني فلان أمرهم»، فتتعدى هذه المادة ب «على»، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «المُلْك»، و «يَكُونُ» هي العاملة في «أنَّى»، ولا يجوز أن يعمل فيها أحد الظَّرفين، أعني «له»، و «علينا» ؛ لأنه عاملٌ معنوي والعامل المعنويُّ لا تتقدَّم عليه الحال على المشهور.
والثاني: أنها ناقصةٌ، و «له» الخبر، و «علينا» متعلِّقٌ: إمَّا بما تعلَّق به هذا الخبر، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «المُلك» كما تقدَّم، والعامل في هذه الحال «يكون» عند من يجيز في «كَانَ» الناقصة أن تعمل في الظرف وشبهه، وإمَّا بنفس الملك كما تقدَّم تقريره، والعامل في «أنَّى» ما تعلَّق به الخبر أيضاً، ويجوز أن يكون «عَلَيْنَا» هو الخبر، و «لَهُ» نصبٌ على الحال، والعامل فيه الاستقرار المتعلِّق به الخبر، كما تقدَّم تقريره، أو «يَكُونُ» عند من يجيز ذلك في الناقصة، ولم أر من جوَّز أن تكون «أنى» في محلِّ نصب خبراً ل «يَكُونُ» بمعنى «كَيْفَ يَكُونُ المُلْكُ عَلَيْنَا لَهُ» ولو قيل به لم يمتنع معنًى ولا صناعةً.
قوله: ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ﴾ : جملةٌ حاليَّةٌ، و «بالمُلْكُ» و «مِنْهُ» كلاهما متعلّقٌ ب «أَحَقُّ». «ولم يُؤْتَ سَعَةً» هذه الجملة الفعلية عطفٌ على الاسميَّة قبلها، فهي في محلِّ نصب على الحال، ودخلت الواو على المضارع؛ لكونه منفياً و «سعةً» مفعول ثانٍ ليؤت، والأول قام مقام الفاعل.
و «سَعَةً» وزنها «عَلَة» بحذف الفاء، وأصلها «وُسْعَة»، وإنما حذفت الفاء في المصدر حملاً له على المضارع، وإنما حذفت في المضارع لوقوعها بين ياء - وهي حرف المضارعة - وكسرة مقدَّرة، وذلك أنَّ «وَسِع» مثل «وَثِق» فحقٌّ مضارع أن يجيء على
269
يفعل بكسر العين، وإنما منع ذلك في «يَسَع» كون لامه حرف حلقٍ، ففتح عين مضارعه لذلك، وإن كان أصلها الكسر، فمن ثم قلنا: بين ياء وكسرة [مقدرةٍ، والدَّليل على ذلك أنَّهم قالوا: وَجِلَ يَوْجَل فلم يحذفوها لمَّا كانت الفتحة أصلية غير عارضةً، بخلاف فتحة «يَسَع» و «يَهَب» وبابهما.
فإن قيل: قد رأيناهم يحذفون هذه الواو، وإن لم تقع بين ياءٍ وكسرةٍ]، وذلك إذا كان حرف المضارعة همزة نحو: «أَعِدُ»، أو تاءً نحو: «تَعِد» أو نوناً نحو: «نَعِد»، وكذلك في الأمر والمصدر نحو:: عِدْ عِدَةَ حَسَنَةً «.
فالجواب أنَّ ذلك بالحمل على المضارع مع الياء طراً للباب، كما تقدَّم لنا في حذف همزة أفعل، إذا صار مضارعاً لأجل همزة المتكلِّم، ثم حمل باقي الباب عليه. وفتحت سين»
السَّعة «لمَّا فتحت في المضارع لأجل حرف الحلق، كما كسرت عين» عِدة «لمَّا كسرت في» يَعِد «إلا أنَّه يشكل على هذا: وَهَبَ يَهَبُ هِبة، فإنهم كسروا الهاء في المصدر، وإن كانت مفتوحة في المضارع لأجل أنَّ العين حرف حلقٍ، فلا فرق بين» يَهَبُ «، و» يَسَع «في كون الفتحة عارضةً والكسرة مقدرةً، ومع ذلك فالهاء مكسورةٌ في» هِبة «، وكان من حقِّها الفتح لفتحها في المضارع ك» سَعَة «.
و»
من المال «فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ بيؤت.
والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لسعة، أي: سَعَةً كائنةً من المال.

فصل


اعلم أنَّه تعالى لما بيَّن في الآية أنَّه لمَّا أجابهم إلى سؤالهم تولَّوا، بيَّن في هذه الآية أنَّ أوّل تولِّيهم إنكارهم إِمْرَة طالوت، وذلك أنَّهم لمَّا طلبوا من نبيِّهم أن يطلب من الله أن يعيِّن لهم ملكاً؛ فأجابهم بأنَّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، أظهروا التَّولي عن طاعة الله، وأعرضوا عن حكمه، وقالوا:»
أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا «، واستبعدوا ذلك.
قال المفسِّرون: وسبب هذا الاستبعاد: أنَّ النبوَّة كانت مخصوصةً بسبط معيَّن من أسباط بني إسرائيل، وهم سبط لاوي بن يعقوب، ومنه «مُوسَى وهارون»
وسبط المملكة سبط «يَهُوذا»، ومنه «دَاوُدُ، وسُلَيْمَانُ» و «طَالُوت» لم يكن من أحد هذين السِّبطين، بل كان من ولد «بِنْيَامِين» فلذها السَّبب؛ أنكروا كونه ملكاً عليهم، وزعموا أنَّهم أحقُّ بالملك منه، ثمَّ أكدوا هذه الشُّبهة بشبهة أخرى وهي قولهم: «وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ»، أي: فقير.
270
قال وهبٌ: كان دبَّاغاً.
وقال السدِّيُّ: مكارياً.
وقال آخرون: كان سقَّاء، واسمه بالعبرانية ساول بن قيس، وكان من سبط بنيامين ابن يعقوب، وكانوا عملوا ذنباً عظيماً، كانوا ينكحون النِّساء على ظهر الطَّريق نهاراً، فغضب الله عليهم ونزع الملك والنبوة عنهم وكانوا يسمون سبط الإثم، ثمَّ إنَّ الله تعالى أجابهم عن شُبْهتهم بقوله: ﴿إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم﴾.
والاصطفاء: أخذ الملك من غيره صافياً، واصطفاه واستصفاه، بمعنى: الاستخلاص، وهو أخذ الشَّيء خالصاً.
وقال الزَّجَّاج: مأخوذٌ من الصَّفوة، فأصله اصتفى بالتاء، فأبدل التَّاء بالطَّاء ليسهل النُّطق بها بعد الصَّاد.

فصل


اعلم أنَّهم لمَّا طعنوا في استحقاقه للملك بأمرين:
أحدهما: كونه ليس من بيت المملكة.
والثاني: القدرة، وهذان الوصفان أشدُّ مناسبة لاستحقاق الملك من الوصفين الأوَّلن لوجوه:
أحدها: أنَّ العلم، والقدرة من باب الكمالات الحقيقيَّة، والمال والجاه ليسا كذلك.
الثاني: أنَّ العلم، والقدرة يمكن التَّوصُّل بهما إلى المال والجاه، ولا ينعكس.
الثالث: أنَّ المال والجاه، يمكن سلبهما عن الإنسان، والعلم والقدرة، لا يمكن سلبهما عنه.
الرابع: أنَّ العالم بأمر الحرب، والقويّ الشَّديد على المحاربة، ينتفع به في حفظ مصلحة الملك، ودفع شرِّ الأعداء، أكثر من الانتفاع بالرجل النَّسيب الغنيِّ الذي لا قدرة له على دفع الأعداء، ولا يحفظ مصلحة الملك.
271

فصل


دلَّت هذه الآية على بطلان قول من يقول: إنَّ الإمامة موروثةٌ، وذلك؛ لأنَّ بني إسرائيل لمَّا أنكروا أن يكون الملك من غير بيت المملكة؛ أسقط الله هذا الشَّرْط، وبيَّن أنَّ المستحقَّ للملك من خصَّه الله به فقال: ﴿والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ﴾، وهذه الآية نظير قوله: ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ﴾ [آل عمران: ٢٦].

فصل


والمراد بالبسطة في الجسم: الجمال، وقيل: المراد: طول القامة. قيل: كان أطول من كل أحدٍ برأسه، وبمنكبه. وقيل: المراد القوَّة.
قال ابن الخطيب: وهذا القول عندي أصحُّ؛ لأنَّ المنتفع به في دفع الأعداء هو القوَّة، والشِّدة، لا الطُّول، والجمال.
قوله: ﴿فِي العلم﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه متعلِّقٌ ب «بَسْطَة» كقولك: «بَسَطْتُ لَهُ في كَذَا».
والثاني: أنه متعلّقٌ بمحذوفً؛ لأنه صفةٌ ل «بَسْطَة»، أي: بَسْطَة مستقرةً أو كائنة.
قوله: ﴿والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ﴾.
قال بعض المفسِّرين: هذا من كلام الله تعالى لمحمّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام -، والمشهور: أنَّه من قول أشمويل، قال لهم ذلك، لمَّا علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج، فأراد أن يتمِّم كلامه بالقطعي، الذي لا اعتراض عليه فقال: ﴿والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ﴾، وأضاف ملك الدُّنيا إلى الله إضافة مملوكٍ إلى ملكٍ.
قوله: ﴿والله وَاسِعٌ﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه على النسب، أي: ذو سعة رحمة، كقولهم: لابنٌ، وتامرٌ، أي: صاحب تمرٍ ولبنٍ.
والثاني: أنَّه جاء على حذف الزوائد من أوسع، وأصله مُوسِعٌ. وهذه العبارة إنَّما يتداولها النَّحويون في المصادر فيقولون: مصدرٌ على حذف الزوائد.
والثالث: أنه اسمُ فاعلٍ من «وَسِع» ثلاثياً؛ قال أبو البقاء: «فالتَّقدير على هذا: واسع الحِلم؛ لأنَّك تقول وسع حلمه».

فصل في تفسير قوله ﴿وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾


في قوله: ﴿وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ثلاثة أقوال:
272
أحدها: أنَّه واسع الفضل، والرَّزق، والرَّحمة، وسعت رحمته كلَّ شيءٍ، والتَّقدير: أنتم طعنتم في طالوت، لكونه فقيراً، فالله تعالى واسع الفضل، يفتح عليه أبواب الرِّزق، والسَّعة، كما في المال؛ لأنه فوّض إليه الملك، والملك لا يتمشَّى إلاَّ بالمال.
والثاني، والثالث: ما تقدَّم في الإعراب آنفاً من كونه بمعنى: «مُوسِعٌ» وذو سعة، والعليم العالم وقيل: العالم بما كان، والعليم بما يكون.
273
اعلم أنَّه لما أخبرهم نبيهم: بأنَّ الله تعالى، بعث لهم طالوت ملكاً، وأبطل حجَّتهم قالوا: «فَمَا آيَةُ مُلْكِهِ؟ قال: ﴿أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت﴾.
قوله تعالى: ﴿أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت﴾
أَنْ «، وما في حيِّزها في محلِّ رفع خبرٍ ل» إِنَّ «تقديره: إنَّ علامة ملكه إيتاؤكم التَّابوت.
وفي»
التَّابوتِ «، قولان:
أحدهما: أنه فاعولٌ، ولا يعرف له اشتقاقٌ، ومنع قائل هذا أن يكون وزنه فعلوتاً مشتقاً من تاب يتوب كملكوت من الملك ورهبوت من الرُّهب، قال: لأنَّ المعنى لا يساعد على ذلك.
الثاني: أن وزنه فعلوت كملكوت، وجعله مشتقاً من التَّوب وهو الرُّجوع، وجعل معناه صحيحاً فيه، لأنَّ التَّابوت هو الصُّندوق الذي توضع فيه الأشياء، فيرجع إليه صاحبه عند احتياجه إليه، فقد جعلنا فيه معنى الرجوع.
والمشهور أن يوقف على تائه بتاءٍ من غير إبدالها هاءً؛ لأنَّها إمَّا أصلٌ إن كان وزنه فاعولاً، وإمَّا زائدةٌ لغير التَّأنيث كملكوت، ومنهم من يقلبها هاءً، وقد قرئ بها شاذّاً، قرأها أُبيّ، وزيد بن ثابت، وهي لغة الأنصار، ويحكى أنهم لمَّا كتبوا المصاحف زمن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - احتلفوا فيه فقال زيد:»
بالهَاءِ «، وقال: [أُبَيّ:] » بالتَّاءِ «، فجاءوا عثمان فقال:» اكْتبوه على لغة قريش «يعني بالتَّاءِ.
273
وهذه الهاء هل هي أصل بنفسها، فيكون فيه لغتان، ووزنه على هذا فاعول ليس إلاَّ، أو بدلٌ من التَّاء؛ لأنها قريبةٌ منها لاجتماعهما في الهمس، أو إجراءٌ لها مجرى تاء التَّأنيث؟ قال الزَّمخشريُّ:» فإنْ قلت: ما وزنُ التابوت؟ قلت: لا يَخْلو أن يَكُونَ فَعَلوتاً، أو فاعُولاً، فلا يَكُونُ فاعُولاً لقلته نحو سَلِسٌ وقَلِقٌ «يعني: في الأوزان العربيَّة، ولا يجوز ترك المعروف [إليه] فهو إذاً فعلوت من التَّوب وهو الرُّجوع؛ لأنَّه ظرفٌ تودع فيه الأشياء، فيرجع إليه كلَّ وقتٍ.
وأمَّا من قرأ بالهاء فهو فاعول عنده، إلاَّ من يجعل هاءه بدلاً من التَّاء لاجتماعهما في الهمس، ولأنَّهما من حروف الزِّيادة، ولذلك أُبدلت من تاء التَّأنيث.
قوله: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾ يجوز أن يكون»
فيه «وحده حالاً من التَّابوت، فيتعلَّق بمحذوفٍ، ويرتفع» سَكِينَة «بالفاعليَّة، والعامل فيه الاستقرار، والحال هنا من قبيل المفردات، ويجوز أن يكون» فيه «خبراً مقدّماً، و» سكينةٌ «مبتدأ مؤخراً، والجملة في محلِّ نصب على الحال، والحال هنا من قبيل الجمل، و» سكينةٌ «فعيلة من السكون، وهو الوقار. أي هو سبب سكون قلوبكم، فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت، ونظيره ﴿فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ [التوبة: ٤٠] قيل: كان التَّابوت سبب سكون قلوبهم، فأينما كانوا سكنوا إليه، ولم يفرّوا عن التَّابوت، إذا كان معهم في الحرب.
وقرأ أبو السَّمَّال بتشديد الكاف، قال الزَّمخشريُّ: «وَهُوَ غريبٌ»
.
قوله: ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ يجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ ل «سَكِينَة»، ومحلُّه الرَّفع. ويجوز أن يتعلَّق بما تعلَّق به «فيه» من الاستقرار. و «مِنْ» يجوز أن تكون لابتداء الغاية، وأن تكون للتبعيض. وثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: من سكينات ربكم.

فصل


اعلم أنَّ مجيء التَّابوت لا بدَّ وأن يكون على وجهٍ خارقٍ للعادة؛ حتى يصح كونه آية من عند الله دالَّة على صدق تلك الدَّعوة، وذلك يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المعجز نفس التَّابوت.
قال أصحاب الأخبار: إنَّ الله تعالى، أنزل على آدم تابوتاً فيه صور الأنبياء من أولاده، وكان من عود من الشمشار نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين، فكان عند آدم إلى أن مات فتوارثه أولاده إلى أن وصل إلى يعقوب، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -، فكان موسى يضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه، وكان عنده إلى أن مات، ثمَّ تداولته أنبياء بني إسرائيل، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلَّم، وحكم بينهم، وإذا حضروا القتال قدَّموه بين أيديهم، ليستفتحوا على عدوِّهم، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر، ثمَّ يقاتلون العدوَّ، فإذا سمعوا من
274
التَّابوت صيحةً؛ استيقنوا النَّصر، فلمَّا عصوا، وفسدوا سلَّط الله عليهم العمالقة، فغلبوهم على التَّابوت وسلبوه، فلمَّا سألوا نبيَّهم على ملك طالوت؛ قال لهم النَّبيُّ: «إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ» أنكم تجدون التَّابوت في داره، ثمَّ إنَّ الكفَّار حين سلبوا التَّابوت؛ جعلوه في موضع البول والغائط، فدعا نبيُّ ذلك الوقت عليهم، فسلَّط الله عليهم البلاء حتى كل من بال، أو تغوّط ابتلاه الله بالبواسير، فعلم الكفَّار أن ذلك سبب استخفافهم بالتَّابوت، فأخرجوه ووضعوه على ثورين، فأقبل الثَّوران يسيران، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، حتى أتوا منزل طالوت، ثمَّ إنَّ قوم ذلك النَّبيّ رأوا التَّابوت عند طالوت، فعلموا أنَّ ذلك دليل على كونه ملكاً لهم.
وقيل: إنَّ التَّابوت صندوقٌ كان موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - يضع التوراة فيه، وكان من خشب يعرفونه، ثم إنَّ الله - تعالى - رفعه لمّا قبض موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لسخطه على بني إسرائيل، ثمَّ قال نبيُّ أولئك القوم: إنّ آية ملك طالوت أن يأتيكم التَّابوت من السَّماء، والملائكة يحفظونه، والقوم كانوا ينظرون إليه؛ حتَّى نزل عند طالوت، وهذا قول ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين، لأنَّ من حفظ شيئاً في «الطَّريق؛ جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء، وإن لم يحمله، كقول القائل: حملت الأمتعة إلى زيدٍ، إذا حفظها في الطَّريق، وإن كان الحامل غيره.
الثاني: ألا يكون التَّابوت معجزاً، بل يكون المعجز فيه بأن يشاهدوا التَّابوت خالياً، ثمَّ إنَّ ذلك النَّبيّ يضعه بمحضرٍ من القوم في بيتٍ، ويغلقون البيت عليه، ثمَّ يدعي ذلك النَّبي أنَّ الله تعالى يخلق فيه ما يدلُّ على ما وصفنا، فإن فتحوا باب البيت، ونظروا في التَّابوت؛ رأوا فيه كتاباً يدلُّ على أنَّ ملكهم هو طالوت، وأنَّ الله ينصرهم على عدوِّهم، فهذا يكون معجزاً قاطعاً دالاً على أنَّه من عند الله، ولفظ القرآن محتملٌ للوجهين.

فصل في المراد بالسكينة


اختلفوا في السَّكينة: قال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هي ريحٌ تخرج، أي: شديدة هفَّافةٌ لها رأسان، ووجه كوجه الإنسان.
وقال ابن عبَّاسٍ، ومجاهدٌ: هي صورةٌ من زبرجدٍ وياقوت لها رأسٌ كرأس الهِرّ وذنبٌ كذنبه، ولها جناحان، وقيل: لها عينان لهما شعاعٌ، وكانوا إذا سمعوا صوتها تيقنوا بالنَّصر، وكانوا إذا خرجوا، وضعوا التَّابوت قدَّامهم، فإذا سار ساروا، وإذا وقف وقفوا.
275
وعن ابن عبَّاس: هي طستٌ من ذهب من الجنَّة؛ كان يغسل فيها قلوب الأنبياء.
وقال أبو مسلم: كان في التَّابوت بشارات من كتب الله المنزَّلة على موسى وهارون - عليهما الصَّلاة والسَّلام - ومن بعدهما من الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام بأن الله تعالى ينصر طالوت، وجنوده، ويزيد خوف العدوّ عنهم.
وعن وهب بن منبّه قال: هي روحٌ من الله تتكلَّم إذا اختلفوا إلى شيءٍ من أمورهم تخبرهم ببيان ما يريدون. وقال أبو بكر الأصمٌّ: معنى السَّكينة؛ أي: تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك، وتزول نفرتكم عنه؛ لأنه متى جاءهم التَّابوت من السَّماء، وشاهدوا تلك الحالة، فلا بد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم.
وقال قتادة، والكلبيُّ: السَّكينة فعيلة من السّكون، أي: طمأنينة من ربكم، ففي أي مكان كان التَّابوت اطمأنوا إليه وسكنوا.
قوله: ﴿وَبَقِيَّةٌ﴾ وزنها فعيلة والأصل: بَقِيْبَة بياءين، الأولى زائدة، والثانية لام الكلمة، ثم أُدغم، ولا يستدلُّ على أنَّ لام «بَقِيَّة» ياء بقولهم: «بَقِيَ» في الماضي، لأنَّ الواو إذا انكسر ما قبلها قلبت ياء، ألا ترى أنَّ «رَضِي» و «شَقِيَ» أصلهما من الواو: الشِّقْوَة والرِّضوان.
و «مِمَّا تَرَكَ» في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل «بَقِيَّة» فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي: بقيةٌ كائنةٌ. و «مِنْ» للتَّبعيض، أي: من بقيَّات ربِّكم، و «مَا» موصولةٌ اسميَّةٌ، ولا تكون نكرةً ولا مصدريةً.
و «آل» تقدم الكلام فيه، وقي: هو هنا زائدٌ؛ كقوله: [الطويل]
١١٦٢ - بُثَيْنَةُ مِنْ آلِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا يَكُنَّ لِوَصْلٍ لاَ وِصَالَ لِغَائِبِ
يريد «بُثَيْنَةُ» من النساء.
قال الزَّمخشريُّ: وَيَجُوزُ أن يريد: ممَّا تَرَكَ موسى وهارون، والآلُ مقحمٌ لتفخيم شأنهما، أي زائدٌ للتعظيم، واستشكل أبو حيان كيفيَّة إفادة التَّفخيم بزيادة الآل. و «هَارُون» أعجميٌّ. قيل: لم يرد في شيءٍ من لغة العرب، قاله الراغب، أي: لم ترد مادته في لغتهم.

فصل في المقصود بالبقية


اختلفوا في البقية، فقيل: ﴿مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ﴾ من الدِّين، والشَّريعة،
276
والمعنى: أنَّ بسبب هذا التَّابُوت ينتظمُ ما بَقِيَ من دينهما، وشريعتهما.
وقيل: كان فيه لوحان من التَّوراة، ورضاض الألواح الَّتي تكسَّرت، وعصا موسى ونعلاهُ، وثيابه، وعمامة هارون وعصاه، وقفيزٌ من المنّ الذي كان ينزلُ على بني إسرائيل، واختلفوا في الآلِ على قولين:
أحدهما: المراد موسى، وهارون نفسهما كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لأبي موسى الأَشعريّ: «لَقَدْ أُوتِيَ هذا مِزْماراً مِنْ مَزَامِير آل داوُدَ» وأراد به داود نفسه؛ لأنه لم يكُن لأحد من آلِ داوُدَ من الصَّوتِ الحسن مثل ما كان لداود.
الثاني: قال القفَّال: إنَّما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون؛ لأَنَّ ذلك التَّابوت تداولته القُرُونُ بعدهما إلى وقتِ طالُوت، وما في التَّابُوت توارثه العلماء عن أتباع موسى وهارون، فيكون الآل: هم الأتباع قال تعالى: ﴿أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب﴾ [غافر: ٤٦].
قوله: ﴿تَحْمِلُهُ الملاائكة﴾ هذه الجملةُ تحتمِلُ أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ على أنها حالٌ من التَّابُوت أي: محمولاً للملائكةِ وألاَّ يكونَ لها محلٌّ لأنها مستأنفةٌ، إِذْ هي جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قيل: كيف يأتي؟ فقيل: تحمِلُهُ الملائكةُ.
وقرأ مجاهد «يَحْمِلُه» بالياءِ من أسفلِ؛ لأنَّ الفِعْل مُسْنَدٌ لجمعِ تكسيرٍ، فيجوزُ في فعله الوجهان. و «ذلك» مشارٌ به قيل: إلى التَّابوت. وقيل: إلى إتيانه، وهو الأَحسنُ ليناسِبَ آخرُ الآيةِ أولها [و «إِنْ» ] الأظْهَرُ فيها [أنها] على بابها من كونِها شرطيةً وجوابُها محذوفٌ. وقيل: هي بمعنى «إذ» فإنّ هذه الآية معجزة باهِرَة للمؤمنين.
قال ابن عبَّاسٍ: إِنَّا التَّابُوت، وعصا موسى في بحيرة طبرية وإنهما يخرجان قبل يوم القيامة.
مِنَ النَّاسِ من قال: إن طالُوتَ كان نبيّاً؛ لأن اللهَ تعالى أظهر المعجزة على يديه، ومن كان كذلك كان نبيّاً.
فإن قيل: هذه من باب الكرامات، قلنا: الفَرْقٌ بين الكرامةِ والمُعجزة: أنَّ الكرامة لا تكون على سبب التَّحَدِّي؛ فتكون معجزةً، وقد يُجابُ بأن ذلك معجزةٌ لنبيّ ذلك الزّمان وأنه آية قاطِعَةٌ في ثبوت ملك طَالُوتَ.
277
[قوله تعالى: «فَصَلَ» : أي: انْفَصَلَ، فلذلك كان قاصِراً. وقيل إِنَّ أصلَه التَّعدِّي إلى مفعولٍ ولكن حُذِفَ، والتقديرُ: فَصَلَ نفسه ثم إن هذا المفعول حذف حتى صار الفعلُ كالقاصِرِ.
و ﴿بالجنود﴾ متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من «طَالُوت» أي مصاحباً لهم]. وبين جملةِ قوله: «فلمَّا فَصَلَ» وبين ما قبلَها من الجملِ جُمل محذوفةٌ يَدُلُّ عليها فحوى الكلامِ وقوتُه، تقديرُهُ: فلما أتاهم بالتَّابُوت أذعنوا له وأجابوا فَمَلَّكُوا طالوتَ، وتأهَّبوا للخروجِ، وهي كقوله: ﴿فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق﴾ [يوسف: ٤٥، ٤٦]. ومعنى الفصل: القَطْعُ.
يقال: فصلت اللَّحْمَ عن العَظم فَصْلاً، وفاصل الرَّجُل شريكهُ وامرأته فصالاً. ويُقالُ للفطام فِصالٌ؛ لأَنَّه يقطعُ عن الرَّضاع وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ العير﴾ [يوسف: ٩٤] والجنود جمع جُنْدٍ، وكل صنف من الخلق جُنْدٌ على حدةٍ، يقال للجراد الكثيرة: إنَّها جنود اللهِ، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «الأَرْوَاح جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ».

فصل


روي أنَّ طَالُوت خرج من بيت المقدس بالجنود، وهم يومئذٍ سبعون ألفاً، وقيل: ثمانُون ألف مُقاتل، وذلك أَنَّهُم لمَّا رأَوا التَّابُوت لم يشكوا في النَّصْر، فساروا إلى الجهاد، فقال طالُوتُ: لا حاجة لي في كُلِّ ما أَرى، لا يخرجُ معي رجُلٌ بنى بيتاً لم يفرغ منه، ولا تاجِرٌ مشتغلٌ بالتِّجارة، ولا مَنْ تزوّج امرأة لم يبنِ بها، ولا يتبعني إلا الشاب النّشيط الفارغ، فاجتمع إليه مما اختار ثَمَانُون ألفاً، وكان في حَرٍّ شديد، فشكوا قلَّة الماءِ بينهم، وبين عدوِّهم وقالوا: إِنَّ المياه قليلة لا تحملنا، فادعُ اللهَ أن يجري لنا نهراً فقال: ﴿إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾، واختلفوا في هذا القائل، فقال الأكثرون هو طالوت؛ لأنَّهُ المذكور السَّابِقُ، وعلى هذا، فإِنَّه لم يقلهُ عن نفسه، فلا بُدَّ وأن يكُون عن وحي أَتَاهُ عن رَبِّهِ وذلك يقتضي أَنَّه كان مع الملك نبيٌّ، وقيل: القائِلُ هو النَّبِيُّ المذكور في أول
278
القِصَّةِ، وهو أشمويل عليه الصَّلاة والسَّلام، وعلى هذا التَّقدير إن قلنا: هذا الكلامُ من طالُوت، فيكون تحمَّلَهُ عن ذلك النَّبي، وحينئذٍ لا يكون طالُوت نبيّاً، وإن قلنا: الكلام من النَّبيّ فتقديره: فَلَمَّا فصل طالُوت بالجنود قال لهم نبيهم: إن اللهَ مبتليكم بنهرٍ، وفي هذا الابتلاء وجهان:
الأول: قال القاضي: كان المشهورُ من أمر بني إسرائيل مخالفة الأنبياء، والملوك مع ظهور الآيات، والمعجزات، فأراد اللهُ تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدوّ يتميز بها الصَّابِرُ على الحرب من غيره.
الثاني: أَنَّهُ تعالى ابتلاهم ليتعوَّدُوا الصَّبر على الشَّدائد والابتلاء الامتحان وفيه لغتان من «بَلاَ يَبْلُو» و «ابْتَلَى يَبْتَلِي» ؛ قال: [الكامل]
١١٦٣ - وَلَقَدْ بَلَوْتُكَ وَابْتَلَيْتُ خَلِيفَتِي وَلَقَدْ كَفَاكَ مَوَدَّتِي بِتَأَدُّبِ
فجاء باللُّغتين، وأصلُ الياءِ في مبتليكم واوٌ لأَنَّهُ من بلا يبلُو؛ وابتلى يَبْتَلِي، أي: اختبر، وإِنَّما قلبت لانكِسَارِ ما قبلها.
قوله ﴿بِنَهَرٍ﴾ الجمهورُ على قراءتَه بفتح الهاء وهي اللَّغة الفصيحةُ، وفيه لغةٌ أخرى: تسكينُ الهاءِ، وبها قرأ مجاهد وأبو السَّمَّال في جميع القرآن وكلُّ ثلاثي حشوه حرف حلق، فإِنّهُ يجيء على هذين الوجهين؛ كقوله: صَخَرَ وَصَخْر وشَعَر وشَعْر وَبَحَر وَبَحْر؛ قال: [البسيط]
١١٦٤ - كَأَنَّمَا خُلِقَتْ كَفَّاهُ مِن حَجَرٍ فَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالنِّى عَمَلُ
يَرَى التَّيَمُّمَ فِي بَرٍّ وفي بَحَرٍ مَخَافَةَ أَنْ يُرَى فِي كَفِّهِ بَلَلُ
وتقدم اشتقاقُ هذه اللَّفظة عند قوله تعالى: ﴿مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ [البقرة: ٢٥].
قوله: ﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾، أي: من أَشياعي وأصحابي، و «مِنْ» للتَّبعيض؛ كأنه يجعلُ أصحابَه بعضه؛ ومثله قول النَّابغة: [الوافر]
279
ومعنى يَطْعَمْهُ: يَذُقْهُ؛ تقولُ العربُ: «طَمِعْتُ الشَّيْءَ» أي: ذُقْتُ طَعْمَهُ؛ قال: [الطويل]
١١٦٥ - إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُوراً فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
١١٦٦ - فَإِنْ شِئْتَ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ وَإِنْ شِئْتَ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلاَ بَرْدَا
والنقاخ: الماءُ العذبُ المروِي، والبردُ: هو النَّومُ.

فصل


قال أهلُ اللُّغة: وإِنَّما اختير هذا اللَّفظُ لوجهين:
أحدهما: أَنَّ الإِنسانَ إذا عطش جدّاً، ثم شربَ الماء، وأراد وصف ذلك الماء، فإِنَّهُ يصفُهُ بالطُّعُومِ اللَّذِيذة، فقوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ﴾، أي: وَإِنْ بلغ به العطشُ إلى حيث يكون الماءُ في فَمِهِ موصوفاً بالطُّعوم الطَّيِّبة؛ فإنه يجب عليه الاحتراز عنه، وألا يشرب.
الثاني: أَنَّ مَنْ جعل الماءَ في فمه، وتمضمض به، ثم أخرجه فإنّه يصدق عليه أَنَّهُ ذاقه وطعمه، ولا يصدُق عليه أَنَّه شربه، فلو قال: ومن لم يشربه فإِنَّهُ مني، كان المنعُ مقصوراً على الشّرب. فلما قال: ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ﴾ حصل المنعُ في الشُّربِ، والمضمضة، ومعلومٌ أَنَّ هذا التَّكليف أَشَقُّ، فإِنَّ الممنُوع من الشُّربِ، إِذَا تَمَضْمضَ بالماءِ وجد نوع خِفَّةٍ وراحةٍ.
فإن قيل: هَلاَّ قيل: «وَمَنْ لَمْ يَطْْعَمْ مِنْهُ» ليكون آخر الآية مُطابقاً لأَوَّلها؟
فالجواب: إِنَّما اختير ذلك لفائدة وهي أَنَّ الفُقهاء اختلفوا في أَنَّ مَنْ حَلَفَ ألاَّ يشرب مِنَ هذا النَّهرِ. قال أبو حنيفة: لا يحنثُ إلا إِذَا كرع منهُ؛ حتى لو اغترف بكوزٍ من النَّهرِ، وشرب لا يحنث؛ لأَنَّ الشُّرب من الشَّيء هو: أَنْ يكُونَ ابتداء شُربِهِ مُتَّصلاً بذلك الشَّيء، وهذا لا يحصل إِلاَّ بالشُّرب مِنَ النَّهر.
وقال الباقون: يحنثُ بالشُّرب مِنَ الكُوزِ، إذا اغترف به مِنَ النَّهر؛ لأَنَّ هذا وَإِنْ كان مجازاً، فهو مجازٌ معروفٌ، وإذا تقرَّر هذا فقوله: ﴿مَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ ظاهره: أَنَّ النَّهْيَ مقصورٌ على الشُّرب من النَّهْرِ، حتّى لو اغترف بكُوزٍ، وشرب، لا يكُونُ داخلاً تحت النَّهي فلما كان هذا الاحتمالُ قائِماً في اللَّفظ الأَوَّل ذكر في اللَّفظ الثَّاني ما يزيلُ هذا الاحتمال، فقال: ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني﴾ أضاف الطَّعم والشّرب إلى الماء لا إلى النهر إزالة لذلك الاحتمال.

فصل


قال ابنُ عبَّاس، والسُّدِّيُّ: إِنَّه نهر فلسطين، وقال قتادة والرَّبيع: هو نهرٌ بين
280
الأُردن وفلسطين قال القاضي: والتوفيقُ بين القولين: أَنَّ النَّهر المُمتد من بلدٍ إلى بلدٍ قد يُضافُ إلى أحد البلدين. وروى الزَّمخشريُّ أَنَّ الوقت كان قيظاً، فسلكوا مفازةً فسألوا أَنْ يجري اللهُ لهم نهراً، فقال: إِنَّ اللهَ مبتليكم بما اقترحتُمُوهُ مِنَ النَّهرِ.
قوله: ﴿إِلاَّ مَنِ اغترف﴾ منصوبٌ على الاستثناء، وفي المُستَثنى منه وجهان:
الصَّحيح أَنَّهُ الجملةُ الأولى، وهي: ﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾، والجملةُ الثانيةُ معترِضةٌ بين المُستَثنى والمُستَثنى مِنْهُ وأصلُها التَّأخيرِ، وإِنَّما قُدِّمَتْ، لأنها تَدلُّ عليها الأولى بطريقِ المفهوم، فإنَّه لمَّا قال تعالى: ﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾، فُهِمَ منه أَنَّ من لم يشرب فإنَّه منه، فَلَمَّا كانت مدلولاً عليها بالمفهوم، صارَ الفصلُ بها كلا فصلٍ.
وقال الزمخشريُّ: والجُمْلَةُ الثَّانيةُ في حُكم المُتَأَخِّرة، إلاَّ أَنَّها قُدِّمَتْ للعناية، كما قُدِّمَتْ للعناية، كما قُدِّمَ «والصَّابِئُونَ» في قوله: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون﴾ [المائدة: ٦٩].
والثاني: أَنَّهُ مستثنى من الجملة الثَّانية، وإليه ذهب أبو البقاء. قال شهاب الدين: وهذا غيرُ سديدٍ لأنه يؤدِّي إلى أَنَّ المعنى: ومَنْ لم يطعمْه فإِنَّهُ مِنِّي، إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرفة بيده؛ فإنه ليس مني، لأَنَّ الاسْتثناء من النَّفْي إثباتٌ، ومن الإِثبات نفيٌ، كما هو الصَّحيحُ، ولكن هذا فاسدٌ في المعنى؛ لأنهم مفسوحٌ لهم في الاغترافِ غرفةً واحدةً.
والاستثناءُ إذا تعقَّبَ الجُمَلَ، وصلح عَوْدُهُ على كلٍّ منها هل يختصُّ بالأخيرة، أم لا؟
خلافٌ مشهورٌ، فإنْ دلَّ دليلٌ على اختصاصِهِ بإحدى الجُمَلِ عمِلَ به، والآيةُ من هذا القبيل، فإنَّ المعنى يعودُ إلى عودِهِ إلى الجُملة الأولى، لا الثَّانية لِمَا قَرَّرْنَاهُ.
وقرأ الحرمِيَّان وأبو عمرو: «غَرْفَة» بفتح الغين وكذلك يعقوب وخلفٌ. والباقون بضمها. فقيل: هما بمعنى المصدر، إلاَّ أنهما جاءا على غير الصَّدر كنبات من أَنْبَتَ، وَلَوْ جاءَ على الصَّدر لقيل: اغترافاً. وقيل: هما بمعنى المُغْتَرف كالأَكل بمعنى المأكولِ. وقيل: المَفْتُوح مصدرٌ قُصِدَ به الدَّلالة على الوحدةِ، فإنَّ «فَعْلَة» يدُلُّ على المَرَّة الواحدة، ومثله الأكلة يقال فلان يأكل بالنهار أكلة واحدة والمضمُومُ بمعنى المفعول، فحيثُ جعلتهما مَصْدراً فالمفعولُ [محذوفٌ، تقديره: إلاَّ مَن اغترف ماءً، وحيثُ جعلتهما بمعنى المفعول] كانا مفعولاً به، فَلا يُحتاج إلى تقديرِ مَفْعُولٍ.
ويدل على الشَّيء الَّذي يحصُلُ بالكَفِّ كاللُّقمة والحُسْوة والخُطوةِ بالضم،
281
والحُزَّة القطعة اليسيرة من اللحم. قال القرطبيُّ: وقال بعضهم: الغرقة بالكَفّ الواحد، والغُرفة بالكفين.
وقال المبرِّدُ «غَرْفَةً» بالفتح مصدر يقعُ على قليل ما في يده وكثيره وبالضَّمِّ اسم ملء الكف، أو ما اغترف به، فحيثُ جعلتهما مصدراً، فالمفعولُ محذوفٌ تقديره: إِلاَّ من اغترف ماءً، وحيثُ جعلتهما بمعنى المفعول كان مفعولاً به، فلا يحتاجُ إلى تقديره مفعولٍ ونُقِلَ عن أبي علي أَنَّهُ كان يُرَجِّح قراءة الضَّمِّ؛ لأَنَّه في قراءةِ الفتح يجعلها مصدراً، والمصدرُ لا يوافق الفعل في بنائِهِ، إِنَّما جاءَ على حذفِ الزوائد وجعلُها بمعنى المفعول لا يحوج إلى ذلك فكان أرجح.
قوله: ﴿بِيَدِهِ﴾ يجوزُ أن يتعلَّق ب «اغْتَرَفَ» وهو الظَّاهر. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل «غُرْفَة»، وهذا على قولنا: بأن «غُرْفَة»، بمعنى المفعول أَظْهر منه على قولنا: بأنها مَصْدَرٌ، فإنَّ الظَّاهِرَ من الباء على هذا أن تكون ظرفيَّةٌ، أي: غُرفةً كائِنَةً في يده.

فصل


قال ابن عباس: كانت الغرْفَةَ تَشْرَبُ منها هو، ودوابُّهُ، وخدمه، ويحمل منها. قال ابن الخطيب: وهذا يحتملُ وجهين:
أحدهما: أَنَّهُ كان مَأْذوناً له أَنْ يأخذ من الماء ما شاء مرَّةً واحِدَةً بغرفةٍ واحدةٍ بحيثُ كان المأْخُوذُ من المرَّةِ الواحدة يكفيه، ودوابُّهُ، وخدمه، ويحمل باقيه.
والثاني: أَنَّهُ كان يأخذُ القليل فيجعل اللهُ فيه البركة حتَّى يكفِي كُلَّ هؤلاء؛ فتكون معجزة لنبيّ ذلك الزَّمان كما أَنَّهُ تعالى كان يَروِي الخلق العظيم من الماءِ القليل في زمن محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام -.

فصل


قال القرطبي: قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني﴾ يدلُّ على أَنَّ الماء طعامٌ، فإذا كان طعاماً، كان قُوتاً للأَبدان به، فوجب أن يجري فيه الرِّبا.
قال ابن العربيّ وهو الصَّحيح من المذهب، ورَوَى أبو عمر عن مالكٍ قال: لا بأس ببيع الماء بالماءِ متفاضلاً، وإلى أجلٍ، وهو قول أَبي حنيفة، وأبي يوسف وقال محمَّد بن الحسن: هو مِمَّا يُكال ويوزن فعلى هذا لا يجُوزُ عندهُ التفاضل.
282

فصل


قال ابن العربيِّ: قال أبو حنيفة: إذا قال الرَّجُلُ إذا شرب عبدي من الفراتِ فهو حرّ، فلا يُعتق إِلاَّ أَنْ يكرع فيه، والكرعُ: أَنْ يشرب الرَّجُلُ بفيه مِنَ النَّهر، فَإِنْ شرب بيده، أو اغترف منه بإِناءٍ، لم يعتق، لأنَّ اللهَ - تعالى - فرَّق بين الكرع في النَّهر، وبين الشّرب باليدِ. قال: وهذا فاسِدٌ لأَنَّ شُرب الماء يُطلق على كُلِّ هيئةٍ وصفةٍ في لسان العرب من غرف باليد، أو كرع بالفم انطلاقاً واحداً.
قال القرطبي: وقول أبي حنيفة أصحّ؛ لأَنَّ أهل اللُّغة فرَّقوا بينهما، كما فرَّق الكتابُ والسُّنَّةُ.
قال الجوهريُّ وغيره: كرع من الماء كروعاً: إذا تناوله بفيه من موضعه، من غير أَنْ يشرب بكفيه، أو بإناءٍ، وفيه لغة أخرى «كرعَ» بكسر الرَّاء كَرَعاً.
وَأَمَّا السُّنَّة، فما رُويَ عن ابن عمر قال: مررنا على بِرْكةٍ، فجعلنا نكرعُ فيها فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لاَ تَكْرَعُوا وَلَكِن اغْسِلُوا أَيْدِيكُمْ ثُمَّ اشْرَبُوا فيها، فَإِنَّها ليس إِناءٌ بأَطيب مِنَ اليَدِ»
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ شَرِبَ بيَدِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ على إِناءٍ يُريدُ بِهِ التَّواضُع كَتَبَ اللهُ بِعَدَدِ أَصَابِعِهِ حَسَنَاتٍ وهو إِناء عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسّلام - إذا اطَّرَح القدح فقال أَفّ هذا مع الدّنيا» أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر.
قوله: ﴿فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ هذه القراءةُ المشهورةُ، وقرأ عبد الله، وأُبَيّ والأعمش «إِلاَّ قَليلٌ» وتأويله أنّ هذا الكلام وإِنْ كان موجباً لفظاً فهو منفيّ معنى، فإنه في قُوَّة: لم يُطيعوه إلا قليلٌ منهم، فلذلك جعلهُ تابعاً لِمَا قبلهُ في الإِعْرابِ. قال الزَّمخشريُّ: وهذا مِنْ مَيْلِهم مع المعنى والإِعراضِ عن اللَّفظ جانباً، وهو بابٌ جليلٌ من عِلْم العربيةِ، فلمَّا كان معنى «فَشَرِبُوا مِنْهُ» في معنى «فلم يُطِيعوه» حمل عليه، ونحوه قول الفرزدق: «لم يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ» يشير إلى قوله: [الطويل]
283
فإنَّ معنى «لَمْ يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً» لم يبقَ من المالِ إِلاَّ مُسْحَتٌ، فلذلك عطف عليه «مُجَلَّفُ» بالرَّفع مُراعاة للمعنى المذكور. وفي البيت وجهان آخران، أحدهما..
ولا بُدَّ من ذكر هذه المسألة لعموم فائدتها فأقول: إذا وقع في كلامهم استثناءٌ موجبٌ نحو: «قَامَ القَوْمُ إِلاَّ زَيْداً» فالمشهورُ وجوبُ النَّصب على الاستثناءِ. وقال بعضهم: يجوزُ أن يَتْبَعَ ما بعدَ «إِلا» ما قبلها في الإِعراب فتقول: «مَرَرْتُ بالقوم إلا زيدٍ» بجرّ «زَيْدٍ» واختلفوا في تابعيَّة هذا، فعبارةُ بعضهم أَنَّهُ نعتٌ لما قبلَه، ويقولُ: إنه يُنْعَتُ بإِلاَّ، وما بعدها مُطْلقاً سواءً كان متبوعُها معرفةً، أم نكرةً مضمراً، أم ظاهراً، وهذا خارجٌ عن قياس باب النَّعتِ لما قد عرَفْتَ فيما تقدَّم.
ومنهم مَنْ قال: لا يُنْعَتُ بها إِلاَّ نكرةً، أو معرفةً بأل الجنسيّةِ لقربها من النّكرة. ومنهم مَنْ قال: قَولُ النَّحويين هنا نعتٌ: إِنَّما يعنُون به عطفَ البيانِ؛ ومن مَجِيء الإتباع بما بعد «إِلاَّ» قوله: [الوافر]
١١٦٧ - وَعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أَوْ مُجَلَّفُ
١١٦٨ - وَكُلُّ أَخٍ مُفارِقُهُ أَخُوهُ لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ

فصل


لما ذكر تعالى أَنّ هذا الابتلاء ليتميز المُطِيعُ مِنَ المخالف، أخبر بعد ذلك بأَنَّهُم لما هجموا على النَّهرِ شرب أَكثرهم، وأطاع قليلٌ، فلم يشربوا، فأَمَّا الَّذين شربُوا فَرُوي أَنَّهم اسودَّت شفاههم وغلبهم العطش، ولم يرووا، وبقوا على شَطّ النَّهر وجبنوا عن لقاءِ العدُوّ، وأَمَّ الَّذين أطاعوا، فقوي قلبهم، وصحَّ إِيمانهُمُ.
قال السُّدِّيُّ: كانوا أربعة آلاف، وقال الحسن، وهو الصَّحيح: أنهم كانُوا على عَدَدِ أهل بدرِ ثلاثمائة، وبضعة عشر، ويدُلُّ عليه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام لأصحابه يوم بدر:
«أَنَّتُمُ اليَوْمَ عَلَى عَدَدِ أَصْحَابِ طَالُوت حين عَبَرُوا النَّهَر، وَمَا جَازَ مَعَهُ إِلاَّ مُؤمنٌ».
قال البراء بن عازب: وكنا يومئذٍ ثلاثمائة، وثلاثة عشر رجلا ولا خلاف بين
284
المُفسِّرين أَنَّ الذين عصوا رجعوا إلى بلدهم، وإنما اختلفوا هل كان رجوعهم بعد مجاوزة النهر أو قبله؟ والصَّحيح: أنَّهُم لم يجاوزوا النَّهر، وإِنَّما رجعوا قبل المجاوزة لقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾.
قال ابن عبَّاس والسُّدِّيُّ: كان المُخالِفون أهل شكٍّ، ونِفاقٍ، فقالوا: ﴿لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ﴾ فانحرفوا، ولم يجاوزُوا النَّهرَ.
وقال آخرون: بل جاوزُونا النَّهرَ، وإنما كان رجوعهم بعد المجاوزة، ومعرفتهم بجالوت، وجنوده؛ لقولهم ﴿لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ﴾.
قوله: ﴿قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً﴾ وهذا يدلُّ على أَنَّهُم حين لا قوا العدوّ، وعاينوا كثرتهم انقسموا فرقتين إحداهما: رجعت وهي المخالفة، وبقيت المطيعة.
قوله: ﴿جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾ «هو» ضميرٌ مرفوعٌ منفصِلٌ مؤكِّدٌ للضّمير المستكنِّ في «جَاوَزَ».
قوله: «والَّذِين» يحتملُ وجهين:
أظهرهما: أنه عطفٌ على الضَّمير المستكنِّ في «جَاوَزَ» لوجود الشَّرط، وهو توكيدُ المعطوفِ عليه بالضَّمير المنفصلِ.
والثاني: أَنْ تكُون الواوُ للحالِ، قالوا: ويلزَمُ من الحالِ أن يكونُوا جاوزوا معه، وهذا القائلُ يجعلُ «الَّذِينَ» مبتدأ، والخبرَ قالوا: «لاَ طَاقَةَ» ؛ فصار المعنى: «َفَمَّا جَاوَزَهُ، والحالُ أنَّ الَّذِين آمنوا قالوا هذه المقالة»، والمعنى ليس عليه.
ويجوزُ إدغامُ هاء «جَاوَزَهُ» في هاء «هُو»، ولا يُعْتدُّ بفصلِ صلةِ الهاءِ؛ لأنها ضعيفةٌ، وإِنْ كان بعضهم استضعف الإِدغام، قال: «إِلاَّ أَنْ تُخْتَلَسَ الهاءُ»، يعني: فلا يبقى فاصلٌ. وهي قراءة أبي عمرو، وأدغم أيضاً واوَ «هُوَ» في واو العطف بخلاف عنه، فوه الإِدغام ظاهرٌ لالتقاءِ مثلين بشروطِهما. ومَنْ أظهر وهو ابن مجاهدٍ، وأصحابُهُ قال: «لأَنَّ الواو إِذا أُدْغِمَت سَكَنَتْ، وإذا سكنت صَدَقَ عليها أنها واوٌ ساكنة قبلها ضمَّةٌ، فصارَت نظير: ﴿آمَنُواْ وَكَانُواْ﴾ [يونس: ٦٣] فكما لا يُدغم ذاك لا يدغم هذا. وهذه العِلَّةُ فاسدةٌ لوجهين:
أحدهما: أنها ما صارَتْ مثلَ»
آمنوا، وكانوا «إلا بعد الإِدغام، فكيف يُقال ذلك؟
285
وأيضاً فإِنَّهُم أدغموا: ﴿يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٤] وهو نظيرُ: ﴿فِي يَوْمٍ﴾ [إبراهيم: ١٨] و ﴿الذى يُوَسْوِسُ﴾ [الناس: ٤] بعين ما عَلَّلوا به.
وشرطُ هذا الإِدغام في هذا الحرف عند أبي عمرو ضمُّ الهاءِ، كهذه الآية، ومثله: ﴿هُوَ والملائكة﴾ [آل عمران: ١٨] ﴿هُوَ وَجُنُودُهُ﴾ [القصص: ٣٩]، فلو سكنت الهاءُ؛ امتنع الإِدغامُ نحو ﴿وَهُوَ وَلِيُّهُمْ﴾ [الأنعام: ١٢٧] ولو جرى فيه الخلافُ أيضاً لم يكن بعيداً، فله أُسوة بقوله: ﴿خُذِ العفو وَأْمُرْ﴾ [الأعراف: ١٩٩] بل أولى لأَنَّ سكون هذا عارضٌ بخلافِ:» الْعفوَ وأمر «.
قوله تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾.
ليس المراد منه المعيّة في الإِيمان، لأنَّ إيمانهم لم يكُن مع إِيمان طَالُوت، بل المراد: أَنَّهم جاوزا النَّهر معه لأَنَّ لفظ «مع»
لا تقتضي المعيَّة لقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً﴾ [الشرح: ٥] واليسر لا يكون مع العسر.
قوله: ﴿لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم﴾ [لنَا] هو: خبر «لا»، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بطاقة، وكذلك ما بعده من قوله «اليَومَ» و «بِجَالُوتَ» ؛ لأنه حينئذٍ يصير مُطَوَّلاً والمُطَوَّلُ ينصبُ منوناً، وهذا كما تراهُ مبنياً على الفتح، بل «اليَوْمَ» و «بِجَالُوتَ» متعلِّقان بالاستقرار الَّذي تعلَّق به «لنَا».
وأجاز أبو البقاء: أن يكون «بِجَالُوتَ» هو خبرَ «لا»، و «لنَا» حينئذٍ: إِمَّا تبيينٌ أو متعلِّقٌ بمحذوف على أَنَّه صفةٌ لطاقة.
والطَّاقةُ: القُدرةُ وعينُها واو؛ لأَنَّها مِنَ الطَّوقِ وهو القُدرةُ، وهي مصدرٌ على حذفِ الزَّوائدِ، فإِنَّها من «أَطَاقَ» ونظيرها: أجَابَ جابةً، وأَغَارَ غارةً، وَأَطَاعَ طَاعةً.
و «جالوت» اسمٌ أعجميٌّ ممنوعُ الصرفِ، لا اشتقاقَ له، وليس هو فَعَلوتاً من جال يَجُول، كما تقدَّم في طَالُوت، ومثلهما داود.
قوله: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ﴾ «كَمْ» خبريةٌ، فإنَّ معناها التَّكثيرُ، ويدلُّ على ذلك قراءة أبي: «وكَائِن»، وهي للتكثير، ومحلُّها الرَّفعُ بالابتداء، و «مِنْ فِئَةٍ» تمييزُها، و «مِنْ» زائدةٌ فيه. وأكثرُ ما يجيءُ مميِّزها، ومميِّز «كَائِن» مجروراً بمِنْ، ولهذا جاء التنزيلُ على ذلك، وقد تُحْذفُ «مِنْ» فيُجَرُّ مميِّزها بالإِضافة لا بمِنْ مقدرةً على الصَّحيح، وقد يُنصَبُ حَمْلاً على مُميِّز «كَم» الاستفهامية، كما أَنَّهُ قد يُجَرُّ مميِّز الاستفهاميّةِ حَمْلاً عليها، وذلك بشروطٍ ذكرها النُّحاةُ.
قال الفرَّاء: لو ألغيت «مِنْ» ها هنا جاز فيه الرَّفع والنَّصبُ والخفضُ.
286
أَمَّا النَّصبُ فلأنّ «كم» بمنزلة عددٍ، فينصب ما بعدهُ نحو: عشرونَ رجلاً. وَأَمَّا الخَفْضُ، فبتقدير دخول حرف «من» عليه.
وأَمَّا الرَّفعُ، فعلى نيَّة الفِعْل تقديره «كم غلبت فئةٌ» ومِنْ مجيءِ «كَائِن» منصوباً قولُ الشاعر: [الخفيف]
١١٦٩ - أُطْرُدِ اليَأْسَ بالرَّجَاءِ فَكَائِنْ آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ
وَأَجازُوا أَنُ يكونَ «مِنْ فِئَةٍ» في محلِّ رفع صفةً ل «كم» فيتعلَّق بمحذوفٍ. و «غَلَبَت» هذه الجملةُ هي خبرُ «كم» والتقديرُ: كثيرٌ من الفئاتِ القليلةِ غالبٌ الفئاتِ الكثيرةَ.
وفي اشتقاق «فئة» قولان:
أحدهما: أنها من فاء يَفِيء، أي: رجع فَحُذِفَتْ عينُها ووزنُها فِلَة.
والثاني: أَنَّها مِنْ فَأَوْتُ رأسَه أي: كسرتُه، فحُذِفت لامُها ووزنُها فِعَة كمئة، إِلاَّ أَنَّ لامَ مئة ياءٌ، ولامَ هذه واوٌ، والفِئَةُ: الجماعةُ من النَّاسِ قلَّت، أو كثرت، وهي جمعٌ لا واحد له من لفظه، وجمعها: فئات وفئون في الرَّفع، وفئين في النَّصب والجرِّ، ومعناها على كلٍّ من الاشتقاقين صحيحٌ، فإنَّ الجماعَةَ من النَّاسِ يَرْجِعُ بعضهم إلى بعضٍ، وهم أيضاً قطعةٌ من النَّاسِ كقطَعِ الرَّأْسِ المكسَّرة.
قوله: ﴿بِإِذْنِ الله﴾ فيه وجهان.
أَظهرهُمَا: أنَّه حالٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، والتَّقدير: ملتبسين بتيسير الله لهم.
والثاني: أَنَّ الباءَ للتَّعْدية، ومجرورها مفعولٌ به في المعنى، ولهذا قال أبو البقاء: «وإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَها مَفْعُولاً به».
وقوله: ﴿والله مَعَ الصابرين﴾ مبتدأٌ وخبرٌ، وتحتمِل وجهين:
أحدهما: أن يكون محلُّها النَّصْبَ على أنها من مقولهم.
والثاني: أنَّها لا محلَّ لها من الإِعراب، على أَنّها استئنافٌ أَخْبَرَ اللهُ تعالى بها.

فصل في المقصود بالظن في الآية


اختلفوا في الظن المذكور في قوله تعالى: ﴿قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله﴾. وذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: قال قتادة: المراد من لقاء الله الموت. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ
287
أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لقاءَه وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ» وهؤلاء المؤمنون، لما وطَّنُوا أنفسهم على القتل، وغلب على ظنهم أَنَّهُم يموتون وصفهم بأنهم يظنون أنهم ملاقوا ثواب الله.
وثانيها: قال أبو مسلم: معناه يظنون أَنَّهُم ملاقو ثواب الله بسبب هذه الطاعة، وذلك لأَنَّ أحداً لا يعلمُ بما فيه عاقبة أمره وَإِنَّما يكون ظاناً راجياً وإِن بلغ في طاعة الله ما بلغ.
وثالثها: أَنَّهم ذكروا في تفسير السَّكينة قول بعض المفسِّرين: إِنَّ التَّابوت كان فيه كُتُبٌ إِلَهيَّةٌ، نزلت على الأَنبياء المُتَقَدِّمين دالَّةٌ على حُصًولِ النَّصر، والظّفر لِطَالُوتَ، وجنوده ولكنه لم يكن في تلك الكُتُبِ أَنَّ النَّصْر والظّفر يحصلُ في المرةِ الأولى، أو بعدها، فهم وإِنْ كانوا قاطعين بالنصر ولكنهم ظَنُّوا: هل هُوَ في تلك المَرَّةِ، أو بعدَها؟!
رابعها: قال كثير من المفسرين: يظنون: أي يعلمون، فأطلق الظن وأراد به العلم كقوله تعالى: ﴿الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: ٤٦] ووجه المجاز ما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكيد الاعتقاد.
والمراد من قولهم: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله﴾ تَقْويةُ قلوب الَّذِينَ قالوا: ﴿لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ﴾، والمعنى: لا عِبرة بكثرةِ العددِ، وإِنَّما العبرةُ بالتَّأْييد الإِلهي، ثم قال: ﴿والله مَعَ الصابرين﴾. وهذا من تَمامِ قولهم، ويحتمل أَنْ يكُونَ قولاً من اللهِ تعالى، والأَوَّلُ أَظهرُ.
288
قوله تعالى: ﴿بَرَزُواْ لِجَالُوتَ﴾ في هذه اللام وجهان:
أحدهما: أنَّها تتعلَّق ب «برزوا».
والثاني: أنها تتعلَّقُ بمحذُوفٍ على أَنَّها ومجرورها حالٌ من فاعل: «بَرَزوا» قال أبو البقاء: «وَيَجُوزُ أن تكُونَ حالاً أي: برزوا قاصِدِين لِجَالُوتَ». ومعنى برزوا: صاروا إلى بَراز من الأرض، وهو ما انْكَشَفَ منها وَاسْتَوَى، وسميت المبارزة لظهور كُلّ قرنٍ
288
لصاحبه، واعلم أَنَّ عسكر طالُوت لما برزوا عسكر جالوت، ورأوا قِلَّة جانبهم، وكثرة عدوهم، لا جرم اشتغلوا بالدُّعاء، والتَّضرع، فقالوا: ﴿رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً﴾. وفي ندائِهِم بقولهم: «رَبَّنَا» : اعترافٌ منهم بالعُبُوديَّة، وطلبٌ لإِصلاحهم؛ لأَنَّ لفط «الرَّبَّ» يُشْعر بذلك دونَ غيرها، وأَتوا بلفظِ «عَلَى» في قولهم «أَفْرغ عَلَيْنَا» طلباً؛ لأنْ يكونَ الصَّبْرُ مُسْتعلِياً عليهم، وشاملاً لهم كالظرفِ. ونظيره ما حكى اللهُ عن قوم آخرين أَنَّهُم قالوا حين لاقوا عدوَّهم: ومَا كَانوا قَوْلَهُم إِلاَّ أَنْ قالُوا: ﴿ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ [آل عمران: ١٤٧] ﴿وانصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾ [آل عمران: ١٤٧] وكذلك كان عليه الصَّلاة والسَّلام يفعل في المواطن كما رُوِيَ عنه في قصّة بدرٍ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يَزَلْ يُصَلِّي، ويستنجز من الله وعده، وكان إِذَا لقي عدُوّاً قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِم وَاجْعَلْ كَيْدَهُم فِي نُحُورِهِمْ» وكان يقول: «اللَّهُمَّ بِكَ أَصُولُ وَأَجُولُ».
والإفراغ: الصَّبُّ، يقال: أفرغت الإِناءَ: إذا صببت ما فيه، أصله: من الفراغ يقال: فلان فارغٌ معناه: خالٍ ممَّا يشغله، والإفراغ: إخلاءُ الإناء من كلِّ ما فيه.
واعلم أنَّ الأمور المطلوبة عند لقاء العدو ثلاثة:
الأول: الصَّبر على مشاهدة المخاوف وهو المراد بقولهم: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾.
الثاني: أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات ما يمكنه أن يقف ويثبت، ولا يصير ملجأ إلى الفرار.
الثالث: زيادة القوَّة على العدوِّ؛ حتى يقهره، وهو المراد من قولهم «وانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ».

فصل في دفع شبه المعتزلة في خلق الأفعال


احتجَّ أهل السُّنَّة بقوله: ﴿رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً... ﴾ الآية على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنه لا معنى للصَّبر إلاّ: القصد على الثبات ولا معنى للثبات إلاّ السُّكون والاستقرار، وهذه الآية دالَّة على أنَّ ذلك القصد بالصَّبر من الله تعالى.
أجاب القاضي: بأنَّ المراد من الصبر، وتثبيت الأقدام: تحصيل أسباب الصّبر، وأسباب ثبات القدم: إمَّا بأن يلقي في قلوب أعدائهم الاختلاف، فيعتقد بعضهم أنَّ البعض الآخر على الباطل، أو يحدث في ديارهم وأهليهم البلاء، كالموت، والوباء، أو يبتليهم بالموت، والمرض الذي يعمهم، أو يموت رئيسهم، ومن يدبّر أمرهم، فيكون ذلك سبباً لجرأة المسلمين عليهم.
289
والجواب عما قاله القاضي من وجهين:
الأول: أنَّا بيَّنَّا أنَّ الصَّبر عبارة عن القصد إلى السكون والثبات عبارة عن السكون وهو الذي أراده العبد من الله - تعالى -، وأنتم تصرفون الكلام عن ظاهره، وتحملونه على أسباب الصَّبر، وترك الظَّاهر لغير دليل لا يجوز.
الثاني: أنَّ هذه الأسباب التي سلمتم أنَّها بفعل الله تعالى إذا حصلت ووجدت فهل لها أثر في التَّرجيح الدَّاعي، أو ليس لها أثرٌ في التَّرجيح؛ فعند صدور هذه الأسباب المرجحة يحصل الرجحان، وعند حصول الرُّجحان، يمتنع الطَّرف المرجوح، فيجب حصول الطَّرف الرَّاجح، لأنه لا خروج عن طرفي النقيض وهو المطلوب.
290
«الهَزَمُ» : أصله الكسر، يقال «سِقَاءٌ مَتَهزِّم» إذا انشق و «قَصَبٌ مُتَهَزِّمٌ»، أي متكسِّر.
والهزمة: نقرة في الجبل، أو في الصَّخرة. قال سفيان بن عيينة في زمزم: وهي هزمة جبريل، يريد هزمها برجله فخرج الماء. ويقال: سمعت هزيمة الرعد كأنَّه صوت تشقُّقٍ. ويقال للسَّحاب هزيم؛ لأنَّه ينشق بالمطر.
قوله: ﴿بِإِذْنِ الله﴾ فيه الوجهان المتقدِّمات أعني كونه حالاً، أو مفعولاً به.

فصل


أخبر تعالى أنَّ تلك الهزيمة كانت بإذن الله تعالى وإعانته وتيسيره، ثم قال: ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ﴾.
قال القرطبيُّ: وكان جالوت رأس العمالقة وملكهم، ظلُّه ميل ويقال: إنَّ البربر من نسله.
قال ابن عبَّاس: إنَّ داود - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان راعياً، له سبعة إخوة مع طالوت، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم «إِيشَا» ؛ أرسل إليهم داود ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وهم في المصاف وبدر جالوت الجياد إلى البراز، وكان من قوم عاد، فقال داود لإخوته: أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا فذهب إلى ناحية أخرى من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت، وهو يحرض الناس.
290
فقال له داود: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟
فقال طالوت: أنكحه ابنتي، وأعطيه نصف ملكي، فقال داود: فأنا أخرج إليه؛ وكانت عادته أنه يقاتل الأسد والذِّيب بالمقلاع في المرعى، وكان طالوت عارفاً بجلادته، فلما همَّ داود بالخروج إلى جالوت، مرّ بثلاثة أحجار فقلن: يا داود، خذنا معك ففينا منيَّة جالوت، ثمَّ لما خرج إلى جالوت، رماه، فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه، وقتل بعده ناساً كثيرة، فهزم الله جنود جالوت، وقتل داود جالوت وهو داود بن إيشى بكسر الهمزة. وقيل داود بن زكريَّا بن مرشوى من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وكان من أهل بيت المقدس، فحسده طالوت، وأخرجه من مملكته، ولم يف له بوعده، ثم ندم على صنعه، فذهب يطلبه إلى أن قتل، وملك داود، وحصلت له النُّبوَّة، وهو المراد من قوله: ﴿وَآتَاهُ الله الملك والحكمة﴾ هو العلم مع العمل والحكمة: هي وضع الأمور موضعها على الصَّواب، والصَّلاح.
قوله: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ... ﴾.
قال الكلبيُّ وغيره: «صنعة الدُّرُوعِ».
قال تعالى: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السرد﴾ [سبأ: ١٠ - ١١] وقيل: منطق الطَّير والنّمل، وقيل الزّبور، وعلم الدّين، وكيفية الحكم، والفصل.
قال تعالى: ﴿وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً﴾ [الأنبياء: ٧٩].
وقيل: الألحان الطَّيِّبة. قيل كان إذا قرأ الزَّبور؛ تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، وتظله الطّير مصغية له، ويركد الماء الجاري، وتسكن الرّيح.
وروى الضَّحَّاك عن ابن عباس: هو أنَّ الله تعالى أعطاه سلسلةً موصولة بالمجرّة، ورأسها عند صومعته، وقوّتها اللُّؤلؤ قوّة الحديد، ولونها لون النّار وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر، مدسَّرة بقضبان اللُّؤلؤ الرطب، فلا يحدث في الهواء حدث إلاّ صلصلت السلسلة، فيعلم داود ذلك الحدث، ولا يمسُّها ذو عاهة إلاَّ برأ، فكانوا يتحاكمون إليها بعد داود إلى أن رفعت فمن تعدَّى على صاحبه، وأنكر حقه أتى إلى السِّلسلة، فمن كان صادقاً مدّ يده إلى السِّلسلة، فنالها، ومن كان كاذباً، لم ينلها، وكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة، فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلاً جوهرة ثمينة، فلما استردَّها أنكرها فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي عنده الجوهرة إلى عكَّازه، فنقرها وضمنها الجوهرة، واعتمد عليها حتى حضروا السلسلة، فقال صاحب الجوهرة:
291
ردَّ عليَّ الوديعة.
فقال له صاحبه: ما أعرف لك عندي من وديعة، فإن كنت صادقاً فتناول السلسلة، فقام صاحب الجوهرة، فتناولها بيده. فقيل للمنكر قم أنت، فتناولها.
فقال لصاحب الجوهرة: خذ عكَّازي هذا، فاحفظها حتى أتناول السِّلسلة، فأخذها فقال الرجل: «اللَّهم إِن كنت تَعْلم أنَّ هذه الوديعة التي يدّعيها، قد وصلت إليه فقرب مني السّلسلة، فمد يده فتناولها، فتعجب القوم، وشكُّوا فيها، فأصبحوا وقد رفع الله السِّلسلة.
قوله ﴿مِمَّا يَشَآءُ﴾ : فاعلٌ،»
يشاء «ضمير الله تعالى.
وقيل: ضمير داود، والأول أظهر.
قوله: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ﴾ ؛ قرأ نافعٌ هنا، وفي الحج:»
دِفَاع «، والباقون:» دَفْع «. فأمَّا» دَفْع «، فمصدر» دَفَعَ «» يَدْفَعُ «ثلاثياً، وأمَّا» دِفَاع «فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مصدر»
دَفَعَ «الثلاثيِّ أيضاً، نحو: كَتَب كتاباً، وأن يكون مصدر» دَافَعَ «؛ نحو: قاتل قتالاً؛ قال أبو ذؤيبٍ: [الكامل]
١١٧٠ - وَلَقَدْ حَرِصْتُ بَأَنْ أُدَافِعُ عَنْهُمُ فَإِذَا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لاَ تُدْفَعُ
قالوا وفعال كثيراً يجيء مصدراً للثلاثي من فَعَلَ وفَعِلَ، تقول: جمح جماحاً وطمح طماحاً وتقول لقيته لقاءً، وقمت قياماً، وأن يكون مصدر لدفع تقول: دفعته، دفعاً، ودفاعاً نحو: قتل قتلاً وقتالاً.
و»
فاعل «هنا بمعنى فَعَلَ المجرد، فتتَّحد القراءتان في المعنى ويحتمل أن يكون من المفاعلة، والمعنى أنه سبحانه إنَّما يكفّ الظَّلمة، والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه، ورسله، وأئمة دينه، وكان يقع بين أولئك المحقين، وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات، فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة كقوله تعالى: ﴿يُحَارِبُونَ الله﴾ [المائدة: ٣٣] و ﴿شَآقُّواْ الله﴾ [الأنفال: ١٣] ونظائره كثيرة.
ومن قرأ»
دِفَاع «، وقرأ في الحجّ ﴿يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا﴾ [الحج: ٣٨] أو قرأ» دَفْع «، وقرأ» يَدْفَع «- وهما أبو عمرو وابن كثير - فقد وافق أصله، فجاء بالمصدر على وفق الفعل، وأمَّا من قرأ هنا:» دَفْع «، وفي الحجّ» يُدافِع «، وهم الباقون، فقد جمع بين اللُّغتين، فاستعمل الفعل من الرُّباعي والمصدر من الثلاثي.
والمصدر هنا مضافٌ لفاعله وهو الله تعالى، و «النَّاس»
مفعول أول، و «بعضهم» بدلٌُ من «الناسِ» بدل بعضٍ من كلٍّ.
292
و «ببعضٍ» متعلِّقٌ بالمصدر، والباء للتعدية، فمجرورها المفعول الثاني في المعنى، والباء إنَّما تكون للتعدية في اللاَّزم، نحو: «ذَهَبَ بِهِ» فأمَّا المتعدِّي لواحدٍ فإنَّما يتعدَّى بالهمزة، تقول: «طَعِمَ زيدٌ اللَّحْمَ، وأَطْعَمْتُه اللَّحْم، ولا تقول:» طَعِمْته باللَّحْم «، فتعدِّيه إلى الثاني بالباء، إلاَّ فيما شذَّ قياساً، وهو» دَفَعَ «، و» صَكَّ «، نحو: صككت الحجر بالحجر، أي: جعلت أحدهما يصكُّ الآخر، ولذلك قالوا: صككت الحجرين أحدهما بالآخر.

فصل في المدفوع والمدفوع به


اعلم أنَّه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع، والمدفوع به، وأمَّا المدفوع عنه، فغير مذكورٍ، وهو يحتمل وجوهاً:
الأول: أن يكون المعنى: ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض، فيكون الدَّافعون هم الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام والأئمة الذين يمنعون النَّاس عن الكفر بسبب البعض بإظهار الدَّلائل.
قال تعالى: ﴿أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾ [إبراهيم: ١].
الثاني: دفع بعض الناس عن المعاصي، والمنكرات بسبب البعض، فيكون الدافعون هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ لقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ [آل عمران: ١١٠].
الثالث: ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج، والمرج، وإثارة الفتن في الدُّنيا بسبب البعض، فيكون الدَّافعون هم الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - ثم الأئمة والملائكة والدّابّون عن شرائعهم، وذلك أنَّ الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده، ما لم يخبز هذا لذاك، ويطحن ذاك لهذا، ويبني هذا لذاك، وينسج ذاك لهذا، ولا تتمّ مصلحة الإنسان.
فالظَّاهر أن مصلحته لا تتمُّ إلاّ باجتماع جمع في موضع واحد، ولهذا قيل إن الإنسان مدنيٌّ بالطبع، ثم إنَّ الاجتماع سبب للمنازعة المفضية إلى المخاصمة، ثم إلى المقاتلة، فلا بدّ في الحكمة الإلهيَّة من وضع شريعةٍ بين الخلق ليقطع بها الخصومات، والمنازعات، فبعث الله الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بالشَّرائع؛ ليدفع بهم، وبشرائعهم الآفات، والفساد عن الخلق فإنَّ الخلق ما داموا متمسكين بالشَّرائع لا يقع بينهم خصامٌ ولا نزاعٌ، والملوك والأئمة متى كانوا متمسكين بالشرائع كانت الفتن زائلة والمصالح حاصلة، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام:»
الإِسْلاَمُ والسُّلْطَانُ أَخَوَان «وقال أيضاً:» الإِسْلاَمُ أميرٌ، والسُّلْطَانُ حَارِسٌ، فمن لا أمير له فهو مُنْهَزِمٌ، ومن لا حَارِسَ له فَهُو ضَائِعٌ «.
293
وعلى هذا الوجه فيكون تفسير قوله: ﴿لَفَسَدَتِ الأرض﴾، أي: لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي، وذلك يسمّى فساداً. قال تعالى: ﴿وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد﴾
[البقرة: ٢٠٥] وقال: ﴿أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين﴾ [القصص: ١٩].
الرابع: ولولا دفع الله بالمؤمنين، والأبرار عن الكفّار، والفجّار، لفسدت الأرض ولهلكت بمن فيها. قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «إِنَّ اللهَ لَيَدْفَعُ بِالمُسْلِم الصَّالِح عَنْ مائَةِ أَهْلِ بَيٍْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ» وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «إِنَّ اللهَ يَدْفَعُ بمن يُصَلِّي مِنْ أُمَّتِي عمَّن لا يصلِّي، وبمن يزكّي عمن لا يُزكِّي، وبمن يصوم عمَّن لا يصوم وبمن يحجّ عمَّن لا يحجّ، وبمن يجاهد عمَّن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين» ثم تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآية.
ويدلُّ على صحَّة هذا القول قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً﴾ [الكهف: ٨٢]. وقال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [الفتح: ٢٥] وقال: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: ٣٣]. وعلى هذا التأويل يكون معنى قوله: ﴿لَفَسَدَتِ الأرض﴾، أي: لأهلك الله أكثر أهلها الكفّار والعصاة.
قال القرطبيُّ: وقيل: هم الأبدال، وهم أربعون رجلاً، كلّما مات واحدٌ أبدل آخر، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم اثنان وعشرون بالشَّام، وثمانية عشر بالعراق.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إِنَّ الأَبْدَالَ يَكُونُونَ بالشَّام وَهُمْ أَرْبعُونَ رَجُلاً كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُم رَجُلٌ أبدل اللهُ مكانه رَجُلاً يُسْتَقَى بِهِمُ الغَيْث وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى الأَعْدَاءِ وَيُصْرَفُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الأَرْضِ البَلاَء».
294
ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول، وخرج أيضاً عن أبي الدرداء قال: إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوماً من أمة محمد يقال لهم الأبدال، لم يفضلوا النَّاس بكثرة صوم، ولا صلاة، ولكن بحسن خلق، وصدق الورع، وحسن النِّية، وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنَّصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله، بصبر، وحلم، ولبٍّ، وتواضع في غير مذلَّةٍ فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله سبحانه لنفسه، واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صدِّيقاً ثلاثون رجلاً على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن بهم يرفع الله المكاره، والبلايا عن النَّاس، وبهم يمطرون، ويرزقون، لا يموت الرَّجل منهم، حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه.
وقال سفيان الثَّوري: «هم الشُّهود الذين تستخرج بهم الحقوق».
الخامس: قال ابن عبَّاس ومجاهد: ولولا دفع الله بجنود المسلمين؛ لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المؤمنين، وخربوا المساجد، والبلاد.
السادس: أن يحمل اللفظ على الكل؛ لأن بين هذه الأقسام قدراً مشتركاً، وهو دفع المفسدة، فإذا حملنا اللَّفظ عليه، دخلت الأقسام بأسرها فيه.

فصل في بطلان مذهب الجبر


قال القاضي: هذه الآية من أقوى الدَّلائل على بطلان الجبر؛ لأنه إذا كان الفساد من خلقه لم يكن لقوله: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض﴾ تأثير في زوال الفساد؛ لأن على قولهم إنَّما لا يقع الفساد بسبب ألا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى النَّاس، والجواب: أنَّ الله تعالى لمّا كان عالماً بوقوع الفساد، فإذا صح مع ذلك العلم ألاَّ يقع الفساد كان المعنى أنه لا يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد، فيلزم أن يكون العبد قادراً على الجمع بين النَّفي والإثبات، وهو محال ويؤيد ذلك قوله تعالى مستدركاً ﴿ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين﴾ بين أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم فلو كان دفع الفساد بهذا الطريق فعل العبد لكان الفضل للعبد؛ لأنه الدَّافع على قولهم، ولم يكن لله تعالى على العالمين فضل سبب ذلك الدَّفع. فإن قالوا: نحمل هذا على البيان، والإرشاد.
قلنا: كلُّ ذلك قائم في حقّ الكفَّار، والفجَّار، ولم يحصل منهم دفاع.
قوله: ﴿ولكن الله﴾ وجه الاستدراك أنه لمَّا قسَّم النَّاس إلى مدفوع ومدفوع به، وأنَّه بهذا الدَّفع امتنع فساد الأرض، فقد يهجس في نفس من غُلب عمّا يريد من الفساد أنَّ الله
295
غير متفضِّلٍ عليه، حيث لم يبلغه مقاصده وطلبه، فاستدرك عليه [أنّه] وإن لم يبلغ مقاصده أنَّ الله متفضّلٌ عليه، ومحسن إليه؛ لأنه مندرجٌ تحت العالمين، وما من أحدٍ إلاّ ولله عليه فضلٌ، وله فضل الاختراع [والإيجاد].
و «عَلَى» يتعلَّق ب «فَضْل» ؛ لأنَّ فعله يتعدَّى بها، وربَّما حذفت مع تخفيف الفعل؛ وقد جمع [بين] الحذف والإثبات في قوله: [الوافر]
١١٧١ - وَجَدْنَا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقِيْماً كَفَضْل ابْنِ المَخَاضِ عَلَى الفَصِيلِ
أمَّا إِذا ضُعِّف، فإنه لا تحذف «على» أصلاً كقوله: ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ [البقرة: ٢٥٣]، ويجوز أن تتعلَّق «عَلَى» بمحذوفٍ لوقوعها صفةً لفضل.
296
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الله﴾ : مبتدأٌ وخبرٌ، و «نَتْلُوهَا» فيه قولان:
أحدهما: أن تكون حالاً، والعامل فيها معنى الإشارة.
والثاني: أن تكون مستأنفةً فلا محلَّ لها. ويجوز غير ذلك، وهو يؤخذ مما تقدم.
قال القرطبيُّ: وإن شِئْتَ كان «آيَاتُ الله» بدلاً، والخبر نتلوها عليك بالحقّ وأشير إليها إشارة البعيد لما بينا في قوله: ﴿ذَلِكَ الكتاب﴾ [البقرة: ٢] أن «تلك» و «ذَلِكَ» يرجع إلى معنى هذه، وهذا، وأيضاً فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشَّيء الذى انقضى، ومضى، فكانت في حكم الغائب، فلذها التأويل قال: «تِلْكَ» وأشير إليها إشارة البعيد لما تقدَّم في قوله: ﴿ذَلِكَ الكتاب﴾. قوله: «بالحق» يجوز فيه أن يكون حالاً من مفعول «نَتْلُوها»، أي: ملتبسةً بالحقّ، أو من فاعله؛ أي: نتلوها ومعنا الحقُّ، أو من مجرور «عَلَيْكَ»، أي: ملتبساً بالحقّ.
قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾. قال القرطبيُّ: خبر إن أي: وإنك لمرسل.

فصل


اعلم أنَّه أشار بقوله: «تِلْكَ» إلى القضيَّة المذكورة من نزول التَّابوت، وغلب الجبابرة على يد داود، وهو صبيٌّ فقير. ولا شكّ أنَّ هذه الأحوال آياتٌ باهرةٌ دالّة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته، وفي معنى قوله: «بالحق» وجوه:
أحدها: أنَّ المراد: أن تعتبر بها يا محمَّد أنت، وأمتك في احتمال الشَّدائد في الجهاد، كما احتملها المؤمنون، فيما مضى، وقال «نَتْلُوهَا»، أي: يتلوها جبريل، وأضاف ذلك إليه تشريفاً له كقوله: ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: ١٠].
296
وثانيها: «بالحق» أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب؛ لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت أصلاً.
وثالثها: أنَّا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالَّة على نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة.
ورابعها: «بالحق»، أي: يجب عليك أن تعلم: أنَّ نزول هذه الآيات من قبل الله تعالى، وليس من قبل الشياطين، ولا تحريف الكهنة والسحرة، وقوله عقيب ذلك: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾. يحتمل وجهين:
الأول: أن إخبارك عن هذه القصص من غير تعلُّم، ولا دراسة دليل على أنَّك رسول وإنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى.
الثاني: أن يكون المراد منه تسلية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والمعنى أنك إذا عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء من الخلاف والرد لقولهم، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك، وخلاف من خالفك، لأنَّ لك بهم أسوة وإنَّما بعثوا لتأدية الرِّسالة على سبيل الاختبار، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك إنَّما يرجع عليهم.
297
قال القرطبيُّ: قال «تِلْكَ»، ولم يقل «ذَلِكَ» مراعاةً لتأنيث لفظ الجماعة، وهي رفع بالابتداء، و «الرُّسُلُ» نعته، وخبر الابتداء الجملة وقيل: «الرسل» عطف بيان، و «فضَّلنا» الخبر.

فصل في مناسبة الآية لما قبلها


قال أبو مسلمٍ: وجه تعلق هذه الآية بما قبلها، ما ذكر في الآية التي قبلها من تسلية الرَّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو أنَّه أخبر النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأخبار الأنبياء المتقدّمين، وأقوال أُممهم لهم، كسؤال قوم موسى: ﴿أَرِنَا الله جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣]، وقولهم: ﴿اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: ١٣٨]. وكقوم عيسى بعد مشاهدة إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، فكذبوه، وراموا قلته، ثم أقام فريقٌ منهم على الكفر به، وهم اليهود، وزعم فريقٌ منهم أنَّهم أولياؤه، وكالملأ من بني إسرائيل الذين حسدوا طالوت،
297
ودفعوا ملكه بعد المسألة، وكذلك ما جرى من أمر النهر، فذكر ذلك كلَّه تسلية للرَّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عمّا رأى من قومه من التّكذيب والحسد، فقال: هؤلاء الرُّسل الذين كلَّم الله بعضهم، ورفع الباقين درجات، وأيّد عيسى بروح القدس، قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك من مشاهدة المعجزات، فلا يحزنك ما ترى من قومك، فلو شاء الله لم يختلف أمم أولئك، ولكن ما قضى الله فهو كائن، وما قدَّره، فهو واقع.

فصل


في المراد من تلك الرُّسل أقوال:
أحدها: أنَّ المراد من تقدم ذكرهم من الأنبياء في القرآن كإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وموسى وغيرهم - صلوات الله عليهم -.
الثاني: أنَّ المراد من تقدّم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل، وداود، وطالوت على قول من يجعله نبيّاً.
الثالث: قال الأصمُّ: المراد منه الرُّسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد، وأشار إليهم بقوله: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض﴾ قوله تعالى: ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ﴾ : يجوز أن يكون حالاً من المشار إليه، والعامل معنى الإشارة كما تقدَّم، وقال «تلك» ولم يقل أولئك الرُّسل؛ لأنه ذهب إلى معنى الجماعة كأنه قيل: تلك الجماعة، ويجوز أن يكون مستأنفاً، ويجوز أن يكون خبر «تِلْكَ» على أن يكون «الرُّسل» نعتاً ل «تِلْكَ»، أو عطف بيان أو بدلاً.

فصل في تفاضل الأنبياء


أجمع الأمَّة على أنَّ الأنبياء بعضهم أفضل من بعضٍ، وأنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل من الكلِّ، ويدلُّ على ذلك وجوه:
الأول: قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] فلما كان رحمة للعالمين، لزم أن يكون أفضل من كلِّ العالمين.
الثاني: قوله: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ٤] قيل فيه لأنه قَرَنَ ذكره بذكره في الشَّهادتين والأذان، والتّشهد، ولم يكن ذلك لسائر الأنبياء.
الثالث: أنه تعالى قرن طاعته بطاعته فقال: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾ [النساء: ٨٠] وبيعته ببيعته فقال: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: ١٠] وعزته بعزته فقال: ﴿وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ﴾ [المنافقون: ٨] ورضاه برضاه فقال: ﴿أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢]، وإجابته بإجابته فقال: ﴿استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم﴾ [الأنفال: ٢٤].
298
الرابع: أنَّ معجزات سائر الأنبياء قد ذهبت، ومن بعض معجزاته - عليه الصَّلاة والسَّلام - القرآن، وهو باقٍ إلى آخر الدَّهر.
الخامس: قوله تعالى بعد ذكر الأنبياء: ﴿أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾ [الأنعام: ٩٠] فأمر محمداً بالاقتداء بهم، وليس هو الاقتداء في أصول الدين؛ لأن شرعه نسخ سائر الشّرائع، فلم يبق إلا أن يكون الاقتداء في محاسن الأخلاق، فكأنه تعالى قال: إنّي أطلعتك على أحوالهم وسيرهم، فاختر أنت أجودها، وأحسنها. فمقتضى ذلك أنه اجتمع فيه من الخصال ما كان متفرقاً فيهم، فوجب أن يكون أفضل منهم.
السادس: أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - بعث إلى الخلق كلهم، فوجب أن يكون مشقته أكثر من بعث إلى بعضهم، فإذا كانت مشقته أكثر كان أجره أكثر، فوجب أن يكون أفضل.
السابع: أن دين محمَّد أفضل الأديان؛ فيلزم أن يكون محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل الأنبياء.
بيان الأول: أنَّ الله تعالى جعل دينه ناسخاً لسائر الأديان، والنَّاسخ أفضل من المنسوخ، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠]. وإنَّما نالت الأمة هذه الفضيلة لمتابعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع.
الثامن: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ» وذلك يدل على أنه أفضل من آدم، ومن كل أولاده، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ النَّبيِّين حَتَّى أَدْخُلَهَا أَنَا، ولا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ مِنَ الأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتي» وروى أنس أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أَنَا أَوَّل النَّاسِ خُرُوجاً إِذَا بُعِثُوا، وَأَنا خَطِيبُهُم إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَّا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أيسُوا، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلى رَبِّي وَلاَ فَخْرَ».
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: جلس ناسٌ من الصَّحابة يتذاكرون فسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حديثهم فقال بعضهم: عجبأ إنَّ الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه. وقال آخر:
299
آدم اصطفاه الله، فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: «سَمِعْتُ كَلاَمَكُم، وحُجَّتُكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللهِ وهُوَ كَذَلِك، ومُوسَى نَجِيُّ الله، وَهُوَ كَذلِكَ، أَلاَ وَأَنَا حَبِيبُ اللهِ، وَلاَ فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الحَمْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا فَخْرَ، وَأَنَا أوّل مَنْ يُحَرِّكُ حَلَقَة الجَنَّة فَيُفْتَحُ لي، فَأَدْخُلها، ومَعِي فُقَرَاءُ المُؤْمِنِينَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ وَلاَ فَخْرَ».
التاسع: روى البيهقي في «فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ» - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - «أنه ظهر علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - من بعيد؛ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هَذَا سَيِّدُ العَرَبِ «فقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: ألَسْتَ أَنْتَ سَيِّدَ العَرَبِ؟ فقال:» أَنَا سَيِّدُ العَالَمِينَ وهو سيِّدُ العرب «.
العاشر: جاء في الصحيحين أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:»
أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ من الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، وَلاَ فَخْرَ، بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ، والأَسْوَدِ، وكان النَّبي قبل يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ، وجُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِداً وطَهُوراً وَنُصِرْتُ بالرُّعْبِ أَمَامِي مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ ولَمْ تُحَلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، وأُعْطِيتِ الشَّفَاعَةَ، فادَّخَرْتُهَا لأُمَّتِي، فهِيَ نائلة إن شاء الله تعالى مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيئاً «.
الحادي عشر: عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال:»
إِنَّ الله تعالى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ومُوسَى نَجِيّاً وَاتَّخَذَنِي حَبيباً. قال: وعزَّتي لأوثرنّ حبيبي على خليلي «.
الثاني عشر: أنَّ الله تعالى كلما نادى نبيّاً في القرآن ناداه باسمه قال: ﴿يَاآدَمُ اسكن﴾ [البقرة: ٣٥] ﴿ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر﴾ [المائدة: ١١٦] ﴿يانوح اهبط﴾ [هود: ٤٨] ﴿ياداوود﴾ [ص: ٢٦] ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم﴾ [الصافات: ١٠٤] ﴿ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ﴾ [طه: ١١ - ١٢] وأما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فناداه بقوله: ﴿ياأيها النبي﴾ [الأنفال: ٦٤] ﴿ياأيها الرسول﴾ [المائدة: ٤١] وذلك يفيد التفضيل.
300
قال القرطبي رحمة الله عليه: فإن قيل: قد روى الثِّقات أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ وَلاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ «، فأجاب بعض العلماء عن ذلك، فقال: كان هذا قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وقبل أن يعلم أنه سيّد ولد آدم، وأن القرآن ناسخٌ للمنع من التَّفضيل.
وقال قوم: إنَّ المنع من التَّفضيل إنما هو من جهة النُّبوة، التي هي خصلة واحدة، لا تفاضل فيها، وإنَّما التَّفاضل في زيادة الأحوال، والكرامات، والألطاف، والمعجزات المتباينة.
وأما النُّبوَّة في نفسها، فلا تفاضل فيها، وإنما التَّفاضل في أمورٍ أخر زائدةٍ عليها؛ ولذلك منهم»
أُولُو العَزْمِ «، ومنهم من اتُّخِذَ خَليلاً، ومنهم مَنْ كَلَّم اللهُ، ورفع بعضهم درجات.
قال القرطبي: وهذا أحسن الأقوال، فإنَّه جمع بين الآي، والأحاديث من غير نسخ، وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى اشتركوا في الصُّحبة، ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب، والوسائل، مع أنَّ الكلَّ شملتهم الصُّحبة والعدالة.
قال ابن الخطيب: فإن قيل إنَّ معجزات سائر الأنبياء، كانت أعظم من معجزاته، فإن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - جعل مسجود الملائكة، وإبراهيم ألقي في النَّار العظيمة؛ فانقلبت برداً وسلاماً عليه، وموسى أوتي تلك المعجزات العظيمة من قلب العصا حية تسعى، وتلقفها ما صنعوا، وإخراج اليد البيضاء من غير سوء، وفلق البحر، وفلق الحجر، ومكالمة ربه، وداود ألان له الحديد، وسخّر الجبال يسبحن معه والطّير، وسخر لسليمان الجن، والإنس، والطير والوحوش والرِّياح، وعيسى أنطقه في المهد، وأقدره على إحياء الموتى، ونفخ فيه من روحه، وجعله يبرئ الأكمه، والأبرص، ولم يكن ذلك حاصلاً لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -:
«لاَ تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى»
وقال: «لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ خَيْراً مِنْ يَحْيى بين زَكَرِيَّا»، وذكر أنه لم يعمل سيئة قط.
301
فالجواب: أن كون آدم - عليه الصّلاة والسّلام - مسجوداً للملائكة؛ لا يوجب أَنْ يكون أفضل من محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بدليل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ» وقال: «كُنْتُ نَبِيّاً وَآدَمُ بَيْنَ المَاءِ والطِّينِ»، وروي أَنَّ جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - أخذ بركاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليلة المعراج، وهذا أعظم من السُّجُود. وقال تعالى: ﴿إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي﴾ [الأحزاب: ٥٦]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فصلّى بنفسه على محمَّد، وأمر الملائكة، والمؤمنين بالصَّلاة عليه، وذلك أفضل من سُجُود الملائكة، وأيضاً، فإِنَّ سُجُودَ الملائكة لآدم كان تأديباً، وأمرهم بالصَّلاة على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تقريباً، وأيضاً فالصَّلاة على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[دائمة إلى يوم القيامة وسجود الملائكة لآدم عليه السَّلام] لم يكن إلا مرَّةً واحدة، وأيضاً فإِنَّ الملائكة، إِنَّما أمروا بالسُّجود لآدم لأجل أَنَّ نور محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في جبهة آدم.
قال القرطبي: وقال ابن قتيبة: إِنَّما أراد بقوله: «أَنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» يوم القيامة؛ لأَنَّه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض، وأراد بقوله: «لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى يُونسَ بن مَتَّى» على طريق التواضع، لأنَّ قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت﴾ [القلم: ٤٨] يدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أفضل منه.
فإن قيل: إنه تعالى خصّ آدم بالعلم فقال: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا﴾ [البقرة: ٣١] وقال في حقّ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان﴾ [الشورى: ٥٢] وأيضاً فمعلم آدم هو الله تعالى ومحمد معلمه جبريل كما قال: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى﴾ [النجم: ٥].
فالجواب: أن الله تعالى قال في علم محمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً﴾ [النساء: ١١٣]، وقال: ﴿الرحمن عَلَّمَ القرآن﴾ [الرحمن: ١ - ٢] وقال: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ [طه: ١١٤]، وأما قوله: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى﴾، فذلك بحسب التلقين والمعلم هو الله كقوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: ١١] وقال: ﴿الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا﴾ [الزمر: ٤٢].
فإن قيل: قال نوحٌ - عليه الصَّلاة والسَّلام - ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا﴾
[هود: ٢٩] وذلك خلق منه. وقيل لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ [الأنعام: ٥٢].
فالجواب: قد قيل لنوح: ﴿أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [نوح: ١] فكان أوَّل أمره العذاب. وقيل لنبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧]، وعاقبة نوح أن قال: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ [نوح: ٢٦] وعاقبة النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الشّفاعة. قال تعالى: ﴿عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾ [الإسراء: ٧٩] فما
302
أوتي نبي آية إلا أُوتي نبينا مثل تلك الآية، وفضل على غيره بآيات مثل انشِقاق القمر بإشارته، وحنين الجذع على مفارقته، وتسليم الحجر والشّجر عليه، وكلام البهائم، والشَّهادة برسالته، ونبع المَاءِ من بين أصابعه وغير ذلك من المُعجزات، والآيات الَّتي لا تحصى وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السَّماء والأَرض عن الإتيان بمثله.
قوله: ﴿مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله﴾ هذه الجملة تحتملُ وجهين:
أحدهما: أَنْ تكونَ لا مَحَلَّ لها من الإِعرابِ لاستئنافها.
والثاني: أنها بدلٌ من جملةِ قوله «فَضَّلْنا». والجمهورُ على رفع الجلالة على أنه فاعلٌ، والمفعولُ محذوفٌ وهو عائدُ الموصولِ أي: مَنْ كَلَّمه الله كقوله: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين﴾ [الزخرف: ٧١].
وقُرئ بالنصبِ على أنَّ الفاعل ضميرٌ مُستترٌ وهو عائدُ الموصولِ أيضاً، والجلالةُ نَصْبٌ على التَّعظيم.
وقرأ أبو المتوكل وابن السَّميفع: «كالَمَ اللهَ» على وزن فاعَلَ، ونصبِ الجلالةِ، و «كَليم» على هذا معنى مُكَالِم نحو: جَلِيس بمعنى مُجالِس، وخليط بمعنى مخالطٍ. وفي هذا الكلامِ التفاتٌ؛ لأنه خروجٌ من ضَمِيرِ المتكلّمِ المعظِّم نفسَه في قوله: «فَضَّلْنا» إلى الاسمِ الظَّاهِر الَّذشي هو في حُكْمِ الغائِبِ.
فضل في كلام اللهِ المسموع
اختلفوا في ذلك الكلامِ، فقال الأشعري وأتباعه هو الكلامُ القديم الأزليُّ الذي ليس بحرف، ولا صوت قالوا: كما أَنَّه لم يمتنع رُؤية ما ليس بمكيف، فهكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف.
وقال الماتريديُّ: سماع ذلك الكلام محالٌ إِنَّما المَسْموع هو الحرف والصَّوت.

فصل في المراد بالمُكلَّم


اختلفوا هل المُرادُ بقوله: ﴿مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله﴾ هل هو موسى وحده أم هو وغيره فقيل: موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وحده، وقيل: بل هو وغيره.
قالوا: وقد سمع من قوم موسى السّبعون المختارون، وسمع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليلة المِعراج بدليل قوله: ﴿فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى﴾ [النجم: ١٠] فإن قيل: قوله تعالى: ﴿مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله﴾ إِنَّما ذكره في بيان غاية المنقبة والشّرف لأولئك الأَنبياء الذين كلّمهم
303
الله تعالى، وقد جاء في القرآن، مكالمة بين الله، وبين إبليس، حيث قال: ﴿فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم﴾ إلى آخر الآيات [الحجر: ٣٦ - ٣٨] وظاهرها يدلُّ على مكالمة كثيرة بين اللهِ، وبين إبليس، فإن كان ذلك يوجب غاية الشَّرف، فكيف حصل لإبليس؟ فإن لم يوجب شَرَفاً، فكيف ذكره في معرض التَّشريف لموسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حيث قال:
﴿وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً﴾ [النساء: ١٦٤].
فالجواب: من وجهين:
أحدهما: أَنَّهُ ليس في قِصَّة إبليس ما يدلُّ على أَنَّ الله تعالى قال في تلك الأجوبة معه من غير واسطة، فلعلَّ الواسطة كانت موجودة.
الثاني: هَبْ أَنَّهُ كان من غير واسطةٍ، ولكن مكالمة بالطَّرد واللَّعن فإِنَّ الله يكلِّم خاصَّتَهُ بما يحبُّونَ من التَّقرُّب والإكرام، ويكلّم من يَهينُهُ بالطَّرْدِ واللَّعْنِ والكلام الموحش فإنه وإِن كان منهما مكالمة لكن إحداهما توجب التَّقرُّبَ والتَّشريف والإكرام، والأخرى تُوجِبُ البُعدَ، والإِهانة والطَّرد.
قوله: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾.
في نصبه ستَّةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال.
الثاني: أَنَّهُ حالٌ على حذفِ مُضَافٍ، أي: ذوي درجاتٍ.
الثالث: أَنَّهُ مفعولٌ ثانٍ ل «رفع» على أَنَّهُ ضُمِّنَ معنى بلَّغ بعضهم درجات.
الرابع: أنه بدلُ اشتمالٍ، أي: رفع درجاتٍ بعضهم، والمعنى: على درجاتِ بعض.
الخامس: أنه مصدرٌ على معنى الفعل لا لفظه؛ لأَنَّ الدّرجة بمعنى الرَّفعة، فكأنه قيل: ورَفَع بعضهم رَفعاتٍ.
السادس: أنه على إِسْقاط الخافضِ، وذلك الخافضُ يَحْتمل أن يَكُون «عَلَى» أو «فِي»، أو «إلى» تقديره: على درجاتٍ أو في درجاتٍ أو إلى درجات، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجر انتصَبَ ما بعده.

فصل في المراد بالدَّرجات


في تلك الدَّرجات وجوهٌ:
أحدها: أَنَّ المُراد منه بيان أَنَّ مراتِب الرُّسل، ومناصبهم متفاوتة؛ وذلك لأَنَّه تعالى اتَّخَذ إبراهيم خَلِيلاً، ولم تكن هذه الفضيلة لغيره وجمع لِدَاوُد بين المُلْكِ، والنُّبوَّةِ، ولم يحصل هذا لغيره، وسخَّر لِسُليمان الجِنّ والإنس، والطير، والريح، ولم يحصل هذا
304
لأبيه داود، وخصّ محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأَنَّه مبعوث إِلى الجن والإنس، وبِأَنَّ شرعه نسخ سائِرَ الشَّرائع.
الثاني: أَنَّ المراد منه المعجزات، فَإِنَّ كل واحد من الأَنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزات على ما يَليقُ بزمانه، فمعجزات موسى هي قلب العصا حيّة، واليد البيضاء، وفلق البحر كان كالشّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدّمين فيه، وهو السّحر. ومعجزات عيسى، وهي إِبراءُ الأَكمه، والأَبْرَص، وإِحياء الموتى كالشَّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدِّمين فيه، وهو الطِّبُّ.
ومعجزة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهي القرآن كانت من جنس الفصاحة، والبلاغة والخطَب، والأَشعارِ، وبالجملة فالمعجزاتُ متفاوتةٌ بالقلَّةِ والكثرة وعدم البقاء، وبالقوة وعدم القُوَّةِ.
الثالث: أن المراد بتفاوت الدّرجات ما يتعلّق بالدُّنيا من كثرة الأَتباع والأصحاب وقوَّة الدَّولة، وإذا تَأَمَّلْتَ هذه الوجوه؛ علمت أَنَّ محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان جامعاً لِلْكُلِّ، فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى، وأقوى، وقومه أكثر، ودولتُهُ أعظمُ وأوفر.
الرابع: أَنَّ المراد بقوله: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ هو محمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لأنَّه هو المفضل على الكُلّ، وإنما قال «وَرَفَعَ بَعْضَهُم» على سبيل الرَّمْزِ، لمن فعل فعلاً عظيماً فيقال له: من فعل هذا الفعل؛ فيقول: أحدكم، أو بعضكم، ويرِيدُ به نفسهُ وذلك أفخمُ من التَّصريح به، وقد سُئِل الحُطَيئَةُ عن أَشعرِ النَّاسِ، فذكر زهيراً، والنَّابغة، ثم قال: «ولو شئت لذكرت الثَّالِث» أراد ن فسه.
وقيل: المراد إدريس عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾ [مريم: ٥٧] ومراتب الأنبياء في السَّمواتِ.
فإن قيل: المفهومُ من قوله ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ هو المفهوم من قوله: «تلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ»، فما فائدة التكرير؟
فالجواب: أَنَّ قوله: ﴿تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ [يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض، ولكنّه لا يدلُّ على أَنَّ ذلك التّفضيل، حصل بدرجة، أو بدرجات، فبيَّن بالثَّاني أَنَّ التَّفضِيل بدرجات.
فإن قيل: قوله: ﴿تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ ] كلام كلي، وقوله بعد ذلك ﴿مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله﴾ شروع في تفصيل تلك الجملة وقوله بعد ذلك: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾، إعادة لذلك الكلام الكُلّي، ومعلومٌ أَنَّ إعادَة الكَلاَمِ الكليّ بعد الشُّرُوعِ في تفصيل جُزْئِيَّاتِهِ، يكون تكراراً.
305
فالجواب: أَنَّ فيه زيادة على الأَوَّل بقوله: «دَرَجَات» إذ التفصيل أَعَمُّ درجة ودرجات، فلا تكرار في شيءٍ من ذلك.
قوله: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات﴾. فيه سؤالان:
السُّؤال الأَوَّل: قال في أوَّل الآية: ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ [ثمَّ عَدَل عن هذا النَّوع من الكلام إلى المغايبة فقال: ﴿مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ ]، ثم عدل من المغايبة إلى النَّوع الأَوَّل فقال: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات﴾ فما الفائدة في العدول عن المُخاطبة إلى المغايبة، ثم عوده إلى المُخاطبة مرَّة أخرى.
والجوابُ: أَنَّ قوله: ﴿مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله﴾ أهيب وأكثر وَقْعاً من أن يُقال: منهم من كلمنا، ولذلك قال: ﴿وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيما﴾ فلهذا اختَارَ لفظ الغيبة.
وأَمَّا قوله ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات﴾ فإِنَّما اختار لفظ المخاطبة؛ لأن الضَّمير في قوله «وآتَيْنَا» ضمير التَّعظيم، وضمير تعظيم إحياء الموتى يدلُّ على عظمة الإيتاء.
السُّؤال الثاني: لم خصَّ موسى، وعيسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - بذكر معجزاتهما؟
والجواب: سبب التَّخصيص: أنَّ معجزاتهما أبهر، وأقوى من معجزات غيرهما، وأيضاً، فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزَّمان، وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين، فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطَّعن في أمتهما، كأنه قيل هذان الرسولان مع علو درجتهما، وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما، بل نازعوهما وخالفوهما وأعرضوا عن طاعتهما.
السُّؤال الثالث: تخصيص عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - بإيتاء البيِّنات يوهم أنه مخصوص بالبيِّنات دون غيره، وليس الأمر كذلك، فإن موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أوتي أقوى منها، أو مساوٍ.
والجواب: أنَّ المقصود من هذا الكلام: التَّنبيه على قبحِ أفعال اليهود، حيث شاهدوا هذه البيِّنات الواضحة الباهرة، وأعرضوا عنها.
السُّؤال الرابع: «البيِّنات» جمع قلَّة، وذلك لا يليق بهذا المقام!
والجواب: لا نسلِّم أنه جمع قلَّة، لأنَّ جمع السّلامة إنما يكون جمع قلَّة إذا لم يعرَّف بالألف واللام، فأما إذا عرف بهما؛ فإنه يصير للاستغراق، ولا يدلُّ على القلَّة.
قوله: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس﴾ «القُدُس» تثقله أهل الحجاز، وتخففه تميم.
306
واختلفوا في تفسيره، فقال الحسن: القُدُسُ، هو الله - تعالى - وروحه جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - والإضافة للتَّشريف.
والمعنى أعناه بجبريل في أوَّل أمره، ووسطه، وآخره.
أمَّا أوله؛ فلقوله تعالى: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ [التحريم: ١٢].
وأما الوسط، فلأن جبريل علَّمه العلوم، وحفظه من الأعداء.
وأما آخر أمره، فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - ورفعه إلى السَّماء، ويدلُّ على أنَّ روح القدس جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ قوله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس﴾ [النحل: ١٠٢].
ونقل عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّ روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي عيسى عليه السلام به الموتى.
وقال أبو مسلم: روح القدس الذي أيَّده به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وميزه بها عن غيره من المخلوقات ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى.
قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله﴾ مفعوله محذوف، فقيل: تقديره: ألاّ تختلفوا وقيل: ألاَّ تقتتلوا.
وقيل: ألاَّ تؤمروا بالقتال.
وقيل: أن يضطرَّهم إلى الإيمان، وكلُّها متقاربة.
و «مِنْ بَعْدِهِمْ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لأنه صلةٌ، والضَّمير يعود على الرُّسل.
وقيل يعود على موسى، وعيسى، والاثنان جمع.
قال القرطبيُّ: والأوَّل ظاهر اللَّفظ، وأنَّ القتال إنَّما وقع ممَّن جاءوا بعدهم وليس كذلك، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كلِّ نبي، وهذا كما تقول: «اشتريت خيلاً، ثمَّ بِعْتُهَا». وهذه عبارة جائزة، وأنت إنَّما اشتريت فرساً وبعته ثم آخر وبعته، ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النَّوازل، إنما اختلف النَّاس بعد كلِّ نبي، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر بغياً وحسداً.
و ﴿مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ﴾ فيه قولان:
أحدهما: أنه بدلٌ من قوله: «مِنْ بَعْدِهِم» بإعادة العامل.
والثاني: أنه متعلِّقٌ باقتتل، إذ في البيِّنات - وهي الدلالات الواضحة - ما يغني عن
307
التَّقاتل والاختلاف. والضَّمير في «جَاءَتْهم» يعود على الَّذشين من بعدهم، وهم أمم الأنبياء.

فصل


تعلق هذه الآية بما قبلها: أنَّ الرسل - عليهم الصَّلاة والسَّلام - لما جاءوا بالبيِّنات، وأوضحوا الدَّلائل، والبراهين، اختلف أقوامهم فمنهم من آمن، ومنهم من كفر وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا، وتحاربوا، ولو شاء الله ألاَّ يقتتلوا لم يقتتلوا.
واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الحوادث إنَّما تحدث بقضاء الله وقدره.
ثم قال: ﴿ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ﴾ وإذا اختلفوا، فلا جرم اقتتلوا.
وهذه الآية دالَّةٌ على أنَّ الفعل لا يقع إلاَّ بعد حصول الدَّاعي؛ لأنَّه بيَّن أن الاختلاف مستلزم للتقاتل، والمعنى: أنَّ اختلافهم في الدِّين يدعو إلى المقاتلة، وذلك يدلُّ على أنَّ المقاتلة لا تقع إلا لهذا الدَّاعي، ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكلَّ بقضاء الله وقدره؛ لأنَّ الدَّواعي تستند لا محالة إلى داعية خلق الله تبارك وتعالى في العبد دفعا للتَّسلسل، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه أيضاً على صحَّة هذا المذهب.
قوله: ﴿ولكن اختلفوا﴾ وجه الاستدراك واضحٌ، فإنَّ «لَكِنْ» واقعةٌ بين ضدّين، إذ المعنى: ولو شاء الله الاتِّفاق لاتَّفقوا؛ ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا. وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «لكنْ» استدراك لما دلَّ الكلام عليه، لأنَّ اقتتالهم كان لاختلافهم، ثم بيَّن الاختلاف بقوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ﴾، فلا محلَّ حينئذٍ لقوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ﴾.
وكسرت النُّون من ﴿ولكن اختلفوا﴾ لالتقاء السَّاكنين ويجوز حذفها في غير القرآن الكريم، وأنشد سيبويه: [الطويل]
١١٧٢ - فَلَسْتُ بِآتِيهِ، وَلاَ أَسْتَطِيعُهُ وَلاَكِ اسْقِنِي إِنْ كَانَ مَاؤُكَ ذَا فَضْلِ
قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا﴾ فيه قولان:
308
أحدهما: أنها الجملة الأولى كرِّرت تأكيداً قاله الزمخشري.
وقال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما كرَّر ذلك تأكيداً للكلام، وتكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء من الله، ولا قدر.
الثاني: أنها ليست لتأكيد الأولى، بل أفادت فائدة جديدة، والمغايرة حصلت بتغاير متعلَّقهما، فإنَّ متعلَّق الأولى مغايرٌ لمتعلَّق المشيئة الثانية، والتقدير في الأولى: وَلَوْ شَاءَ اللهُ أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول، وفي الثانية: ولو شاء لم يأمر المؤمنين بالقتال، ولكن شاء أمرهم بذلك.
قوله: ﴿ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ من اختلافهم، فيوفق من يشاء، ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله، وهذه الآية دالَّةٌ على أنَّه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين، والخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن.
ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد، فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى، ولما دلَّت على أنه يفعل ما يريد، فلو كان يريد الإيمان من الكفَّار لفعل فيهم الإِيمان، ولكانوا مؤمنين، ولما لم يكن كذلك، دلَّ على أنَّه تعالى لا يريد الإيمان منهم فدلَّت الآية على مسألة خلق الأعمال وعلى مسألة إرادة الكائنات.
وقالت المعتزلة: يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه، وهذا ضعيفٌ لوجهين:
أحدهما: أنه تقييدٌ للمطلق.
والثاني: أنَّه على هذا التّقييد تصير الآية من باب إيضاح الواضحات؛ لأنه يصير معنى الآية: أنَّه يفعل ما يفعله.
سأل رجل عليَّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: يا أمير المؤمنين؛ أخبرني عن القدرِ! فقال: طريقٌ مظلمٌ فلا تسلكه. فأعاد السُّؤال فقال: بحرٌ عميقٌ لا تلِجْه، فأعاد السُّؤال، فقال: «سِرُّ الله في الأَرْضِ، قَد خَفِي عَلَيْكَ، فَلاَ تَفْتِشْهُ».
309
اعلم أنه تعالى لما أمر بالقتال بقوله: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٤٤] أعقبه بالحض على النفقة في الجهاد فقال: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ [البقرة: ٢٤٥] والمقصود منه الإنفاق في الجهاد، ثمَّ إنَّه أكد الأمر بالقتال بذكر قصَّة طالوت، ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد في هذه الآية الكريمة.
309
قوله: ﴿أَنْفِقُواْ﴾ : مفعوله محذوفٌ، تقديره: شيئاً ممَّا رزقناكم، فعلى هذا ﴿مِمَّا رَزَقْنَاكُم﴾ متعلّقٌ بمحذوفٍ في الأصل لوقوعه صفةً لذلك المفعول، وإن لم تقدِّر مفعولاً محذوفاً، فتكون متعلِّقة بنفس الفعل. و «مَا» يجوز أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوفٌ، أي: رزقناكموه، وأن تكون مصدريَّةً، فلا حاجة إلى عائدٍ، ولكن الرّزق المراد به المصدر لا ينفق، فالمراد به اسم المفعول، وأن تكون نكرةً موصوفةً وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله تعالى: ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣].
قوله: ﴿مِّن قَبْلِ﴾ متعلِّقٌ أيضاً بأنفقوا، وجاز تعلُّقُ حرفين بلفظٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ لاختلافهما معنًى؛ فإنَّ الأولى للتَّبعيض والثانية لابتداء الغاية، و «أَنْ يَأْتي» في محلِّ جرٍّ بإضافة «قبل» إليه، أي: من قبل إتيانه.
وقوله: ﴿لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ﴾ إلى آخره: الجملة المنفيَّة صفةٌ ل «يَوم» فمحلُّها الرَّفع. وقرأ «بَيْعٌ» وما بعده مرفوعاً منوناً نافع والكوفيون وابن عامر، وبالفتح أبو عمرو وابن كثير، وتوجيه ذلك تقدم في قوله تبارك وتعالى: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ﴾ [البقرة: ١٩٧].
والخلَّة: الصَّداقة، كأنها تتخلَّل الأعضاء، أي: تدخل خلالها، أي وسطها.
والخلَّة: الصديق نفسه؛ قال: [الطويل]
١١٧٣ - وَكَانَ لَهَا في سَالِفِ الدَّهْرِ خُلَّةٌ يُسَارِقُ بِالطَّرْفِ الخِبَاءَ المُسَتَّرَا
وكأنه من إطلاق المصدر على العين مبالغةً، أو على حذف مضافٍ، أي: كان لها ذو خلَّة، والخليل: الصَّديق لمداخلته إيَّاك، ويصلح أن يكون بمعنى فاعل، أو مفعول، وجمعه «خُلاَّن»، وفعلان جمع فعيل يقل في الصّفات، وإنما يكثر في الجوامد نحو: «رُغْفَانٍ».
قال القرطبيُّ: والخُلَّة: خالص المودَّة [مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين والخِلالة والخَلالة، والخُلالة: الصداقة، والمودة] ؛ قال الشاعر: [المتقارب]
١١٧٤ - وَكَيْفَ تُواصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ
وأبو مرحب كنية الظِّلّ، ويقال: هو كنية عرقوب الذي قيل فيه: «مواعيد عرقوب».
310
والخَلَّة - بالضَّمِّ - أيضاً - ما خالل من النبت يقال: الخلة خبز الإبل، والحمض فاكهتها.
والخَلَّة: - بالفتح - الحاجة والفقر، يقال: سدَّ خلته، أي: فقره.
والخِلَّة بالكسر ابن مَخَاض، عن الأصمعي: يقال أتاهم بقرص كأنَّه فِرْسِنُ خلة.
والأنثى خلَّة أيضاً، والخلّة: الخمرة الحامضة.
والخِلَّة - بالكسر - واحدة خلل السُّيوف، وهي بطائن كانت تغشى بها أجفان السُّيوف منقوشة بالذَّهب وغيره، وهي أيضاً سُيُور تلبس ظهور سيتي القوس، والخلّة أيضاً ما يبقى بين الأسنان.
و «هم» يجوز أن تكون فصلاً أو مبتدأ ثانياً، و ﴿الظالمون﴾ خبره والجملة خبر الأوَّل.

فصل


قالت المعتزلة: لما أمر بالإنفاق من كلِّ ما كان رزقاً، وبالإجماع لا يجوز الإنفاق من الحرام وجب القطع بأنَّ الرّزق لا يكون إلاّ حلالاً.
وأجاب ابن الخطيب: بأنَّ الأصحاب مخصَّصة بالأمر بالإنفاق ما كان رزقاً حلالاً أو حراماً. واختلفوا في هذه النَّفقة، فقال الحسن: هذا الأمر مختص بالزكاة قال: لأنَّ قوله ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ﴾ كالوعد والوعيد، ولا يتوجه الوعيد إلاَّ على الواجب، وهو قول السُّدي.
وقال الأكثرون: هذا الأمر يتناول الواجب، والمندوب وليس في الآية وعيد، فكأنه قال: حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدُّنيا، فإنكم في الآخرة لا يمكنكم تحصيلها.
311
وقال الأصمُّ: المراد منه الإنفاق في الجهاد.
وفي المراد من البيع هنا وجهان:
أحدهما: أنَّه بمعنى الفدية كما قال: ﴿فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ﴾ [الحديد: ١٥] وقال: ﴿وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: ١٢٣]، وقال: ﴿وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ﴾ [الأنعام: ٧٠] فكأنه قيل من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه، فتكسب ما تفتدي به من العذاب.
الثاني: أن يكون المعنى: قدِّموا لأنفسكم من المال الذي هو ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة يكتسب بسببها شيء من المال.
﴿وَلاَ خُلَّةٌ﴾ ولا صداقة، ونظيره قوله تعالى: ﴿الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين﴾ [الزخرف: ٦٧] وقال ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب﴾ [البقرة: ١٦٦].
وقوله: ﴿وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ يقتضي نفي كلّ الشَّفَاعَاتِ، فقوله: ﴿وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ عام في الكل إلاَّ أنَّ سائر الدَّلائل دلَّت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين، وعلى ثبوت الشفاعة بين المؤمنين والسبب في عدم الخلة والشفاعة أمور:
أحدها: أنَّ كل واحد يكون مشغولاً بنفسه. قال تبارك وتعالى: ﴿لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: ٣٧].
الثاني: أنَّ الخوف الشَّديد يغلب على كلِّ أحدٍ] ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ﴾ [الحج: ٢].
الثالث: أنَّه إذا نزل العذاب بسبب الكفر، أو الفسق صار مبغضاً لهذين الأمرين وإذا صار مبغضاً لهما؛ صار مبغضاً لمن اتَّصف بهما.
وقوله: ﴿والكافرون هُمُ الظالمون﴾، ولم يقل «والظَّالِمُونَ هم الكافرون».
وذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً:
أحدها: أنَّ نفي الخلَّة، والشَّفاعة مختص بالكافرين، لأنّه أطلقه ثم عقبه بقوله ﴿والكافرون هُمُ الظالمون﴾ وعلى هذا تصير الآية دالَّةً على إثبات الشَّفاعة في حقّ الفسَّاق.
قال القاضي: هذا التأويل غير صحيحٍ؛ لأن قوله: ﴿والكافرون هُمُ الظالمون﴾ كلام مبتدأ، فلم يجب تعليقه بما تقدَّم.
والجواب: أنَّا لو جعلناه كلاماً مبتدأً تطرق الخُلْفُ إلى كلام الله تعالى؛ لأنَّ غير
312
الكافرين قد يكون ظالماً، وإذا علَّقناه بما تقدَّم زال الإشكال.
الثاني: أنَّ معناه أنَّ الله لم يظلم الكافر بإدخاله النَّار، وإنَّما الكافر هو الذي ظلم نفسه، حيث اختار الكفر والفسق، ونظيره قوله تعالى:
﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ [الكهف: ٤٩].
الثالث: معناه: أنَّكم أيُّها الحاضرون لا تقتدوا بالكفَّار حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم، وحاجتهم، ولكن قدّموا لأنفسكم ما يفديها يوم القيامة.
الرابع: ﴿الكافرون هُمُ الظالمون﴾ حيث وضعوا أنفسهم في غير مواضعها لتوقعهم الشَّفاعة بمن لا يشفع لهم عند الله، لأنهم كانوا يقولون عن الأوثان ﴿هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله﴾ [يونس: ١٨] وقالوا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣].
الخامس: المراد من الظلم ترك الإنفاق قال تعالى: ﴿آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً﴾ [الكهف: ٣٣] أي أعطت فلم تمنع فيكون معنى الآية الكريمة والكافرون هم التاركون للإنفاق في سبيل الله، وأمَّ المسلم فلا بدَّ أن ينفق شيئاً قلَّ أو كثر.
السادس: ﴿والكافرون هُمُ الظالمون﴾ أي هم الكاملون في الظلم البالغون الأمر العظيم فيه. ذكر هذه الوجوه القفال.
313
اعلم أنَّ عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أن يذكر علم التَّوحيد، وعلم الأحكام، وعلم القصص، فإنَّ الإنسان إذا بقي في النَّوع الواحد، كان يوجب بعض الملال فإذا انتقل من نوع إلى نوع آخر، كان كأنَّه انشرح صدره، وفرح قلبه، فكأنه سافر من بلدٍ إلى بلدٍ آخر، وانتقل من بستان إلى بستان آخر، أو من تناول طعام لذيذ إلى تناول طعام آخر، ولا شكّ أنه يكون ألذَّ، وأشهى، فلمَّا تقدَّم من علم الأحكام وعلم القصص ما رآه مصلحة، ذكر الآن ما يتعلَّق بالتَّوحيد.
قوله تعالى: ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي﴾ : مبتدأٌ وخبرٌ وهو مرفوعٌ محمولٌ على المعنى، أي: ما إله إلاَّ هو، ويجوز في غير القرآن لا إله إلاَّ إيَّاه، نصب على الاستثناء.
وقيل: ﴿الله﴾ مبتدأٌ، و ﴿لاَ إله﴾ مبتدأ ثان، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود.
و ﴿الحي﴾ فيه سبعة أوجه:
أحدها: أن يكون خبراً ثانياً للجلالة.
الثاني: أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، أي: هو الحيُّ.
313
الثالث: بدل من موضع: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ فيكون في المعنى خبراً للجلالة، وهذا في المعنى كالأول، إلا أنَّه هنا لم يخبر عن الجلالة إلاَّ بخبرٍ واحدٍ بخلاف الأول.
الرابع: أن يكون بدلاً من «هُوَ» وحده، وهذا يبقى من باب إقامة الظاهر مقام المضمر، لأنَّ جملة النَّفي خبرٌ عن الجلالة، وإذا جعلته بدلاً حلَّ محلَّ الأول، فيصير التقدير: الله لا إله إلا الله.
الخامس: أن يكون مبتدأٌ وخبره ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾.
السادس: أنه بدلٌ من «اللهِ».
السابع: أنه صفة لله، وهو أجودها، لأنه قرئ بنصب «الحيَّ القَيُّومَ» على القطع، والقطع إنَّما هو في باب النَّعت، ولا يقال في هذا الوجه الفصل بين الصِّفة والموصوف بالخبر، لأنَّ ذلك جائزٌ حسن [تقول: قائمٌ العاقلُ].
و ﴿الحي﴾ فيه قولان:
أحدهما: أن أصله حييٌ بياءين من حيي يحيا فهو حيٌّ، وإليه ذهب أبو البقاء.
والثاني: أنَّ أصله حيوٌ فلامه واو فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها متطرِّفة، وهذا لا حاجة إليه، وكأنَّ الذي أحوج هذا القائل إلى ادِّعاء ذلك أنَّ كون العين، واللام من واد واحدٍ هو قليل في كلامهم بالنسبة إلى عدم ذلك فيه، ولذلك كتبوا «الحَيَاةَ» بواوٍ في رسم المصحف العزيز تنبيهاً على هذا الأصل، ويؤيده «الحَيَوَانُ» لظهور الواو فيه. ولناصر القول الأول أن يقول: قلبت الياء الثانية واواً تخفيفاً؛ لأنَّه لمَّا زيد في آخره ألفٌ ونونٌ استثقل المثلان.
وفي وزنه أيضاً قولان:
أحدهما: أنه فعل.
والثاني: أنَّه فيعل فخُفِّف، كما قالوا ميْت، وهيْن، والأصل: هيّن وميّت.
قال السُّدِّيُّ المراد ب «الحَيّ» الباقي؛ قال لبيدٌ: [الطويل]
١١٧٥ - فَإِمَّا تَرَيْنِي اليَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِماً فَلَسْتُ بِأَحْيَا مِنْ كِلاَبٍ وَجَعْفَرِ
وقال قتادة: والحيُّ الذي لا يموتُ والحيُّ اسمٌ من أسمائه الحسنى، ويقال إنه اسم الله الأعظم.
314
وقيل إنَّ عيسى ابن مريم - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الدعاء «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ».
ويقال: إنَّ آصف بن برخيا، لمَّا أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان - عليه الصَّلاة والسَّلام - دعا بقوله: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ».
ويقال إن بني إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم «أيا هيا شراهيا» يعني «يا حي يا قيوم»، ويقال هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يا حي يا قيوم وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لما كان يوم بدر جئت أنظر ما يصنع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإذا هو ساجدٌ يقول «يَا حَيُّ يَا قيُّومُ»، فترددت مرات، وهو على حاله لا يزيدعلى ذلك إلى أن فتح الله له.
وهذا يدلُّ على عظمة هذا الاسم.
والقيُّوم: فيعولٌ من: قام بالأمر يقوم به، إذا دبَّره؛ قال أميَّة: [الرجز]
١١٧٦ - لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ والنُّجُومُ... وَالشَّمْسُ مَعْهَا قَمَرٌ يَعُومُ
قَدَّرَهُ مُهَيْمِنٌ قَيُّومُ... وَالحَشْرُ وَالجَنَّةُ والنَّعِيمُ
إلاَّ لأَمْرٍ شَأْنُهُ عَظِيمُ... وأصله «قَيْوُومٌ»، فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فصار قيُّوماً.
وقرأ ابن مسعود والأعمش ويروى عن عمر: «الحَيُّ القَيَّام»، وقرأ علقمة: «القَيِّم» وهذا كما يقولون: ديُّور، وديار، وديِّر. ولا يجوز أن يكون وزنه فعُّولاً ك «سَفُّود» إذ لو كان كذلك؛ لكان لفظه قوُّوماً؛ لأنَّ العين المضاعفة أبداً من جنس الأصليَّة كسُبُّوح، وقُدُّوس، وضرَّاب، وقتَّال، فالزَّائد من جنس العين، فلمَّا جاء بالياء دون الواو؛ علمنا أنَّ أصله فيعول، لا فعُّول، وعدَّ بعضهم فيعولاً من صيغ المبالغة كضروبٍ، وضرَّاب.
قال بعضهم: هذه اللَّفظة عبريَّة؛ لأنَّهم يقولون «حياً قياماً»، وليس الأمر كذلك؛ لأنا قد بيَّنا أن له وجهاً صحيحاً في اللُّغة.
315

فصل


اعلم أنَّ تفسير الجلالة قد تقدَّم في أوَّل الكتاب، والإله؛ قال بعضهم: هو المعبود، وهو خطأ من وجهين:
الأول: أنه تبارك وتعالى كان إلهاً في الأزل، وما كان معبوداً.
الثاني: أنَّه تعالى أثبت معبوداً سواه في قوله: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ [الأنبياء: ٩٨].
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ: وإنما «الإله» هو القادر على ما إذا فعله كان مستحقاً للعبادة، وأما «الحيُّ» قال المتكلِّمون: هو كلُّ ذاتٍ يصحُّ أن يعلم، ويقدر، واختلفوا في أنَّ هذا المفهوم صفةٌ وجوديَّةٌ أم لا، فقال بعضهم: إنَّه عبارةٌ عن كون الشَّيء بحيث لا يمتنع أنَّه يعلمُ ويقدرُ، وعدم الامتناع صفةٌ موجودة، أم لا؟
قال المحقِّقون: لما كانت الحياة عبارةٌ عن عدم الامتناع، وقد ثبت أنَّ الامتناع أمر عدمي، إذ لو كان وصفاً موجوداً؛ لكان الموصوف به موجوداً، فيكون ممتنع الوجود موجوداً، وهو محالٌ، وإذا ثبت أنَّ الامتناع عدمٌ وثبت أن الحياة عدم هذا الامتناع، وثبت أنَّ عدم العدم: وجودٌ، لزم أن يكون المفهوم من الحياة صفة موجودة، وهو المطلوب.
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ولقائل أن يقول لمّا كان الحيّ أنَّه الذي يصحّ أن يعلم، ويقدر، وهذا القدر حاصلٌ لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات.
والذي عندي في هذا الباب: أنَّ الحيَّ عبارةٌ عن الكامل في نفسه، ولما لم يكن كذلك مقيداً بأنه كاملٌ في هذا دون ذاك دلّ على أنه كاملٌ على الإطلاق.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّه كان يقول: أعظم أسماء الله - تعالى - «الحيّ القيوم».
روي أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان يزيد على ذكره في السجود يَومَ بَدْرٍ.
والقيوم؛ قال مجاهدٌ: القائم على كلِّ شيءٍ وتأويله قائمٌ بتدبير الخلائق في إيجادهم وأرزاقهم.
وقال الكلبيُّ: القائم على كلّ نفس بما كسبت.
316
وقال الضحاك: القيُّوم الدَّائم الوجود الذي يمتنع عليه التغيير.
وقيل: القيُّوم الذي لا ينام، وهذا القول بعيد؛ لأنه يصير قوله - تعالى - ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ تكراراً.
وقال أبو عبيدة: القيُّوم الذي لا يزول.
قوله: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ في هذه الجملة خمسة أوجه:
أحدها: أنها في محلِّ رفع خبراً للحيّ كما تقدَّم في أحد أوجه رفع الحيّ.
الثاني: أنَّها خبرٌ عن الله تعالى عند من يجيز تعدُّد الخبر.
الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضَّمير المستكنِّ في «القَيُّومِ» كأنَّه قيل: يقوم بأمر الخلق غير غافل، قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.
الرابع: أنها استئناف إخبارٍ، أخبر - تبارك وتعالى - عن ذاته القديمة بذلك.
الخامس: أنها تأكيد للقيُّوم؛ لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيُّوماً، قاله الزَّمخشريُّ، فعلى قوله إنَّها تأكيدٌ يجوز أن يكون محلُّها النصب على الحال المؤكَّدة، ويجوز أن تكون استئنافاً، وفيها معنى التأكيد، فتصير الأوجه أربعةً.
والسِّنة: النُّعاس، وهو ما يتقدَّم النَّوم من الفتور؛ قال عديّ بن الرقاع: [الكامل]
١١٧٧ - وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ
وهي مصدر وسن يَسِنُ؛ مثل: وَعَد، يَعِد، وقد تقدَّم علة الحذف عند قوله ﴿سَعَةً مِّنَ المال﴾ [البقرة: ٢٤٧].
فإن قيل: إذا كانت السِّنة عبارةٌ عن مقدِّمة النَّوم، فقوله تعالى: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ يدلُّ على أنَّه لا يأخذه نومٌ بطريق الأولى، فيكون ذكر النَّوم تكراراً.
فالجواب: تقدير الآية: لا تأخذه سنة، فضلاً عن أن يأخذه نومٌ.
وقيل هذا من باب التكميل.
وقال ابن زيد: «الوَسْنَانُ: الَّذِي يَقُومُ مِنَ النَّومِ وهو لا يَعْقِلُ؛ حَتَّى إنَّه رُبَّمَا جَرَّدَ السَّيْفَ على أهْلِهِ»، وهذا القول ليس بشيء، لأنَّه لاَ يفهم من لغة العرب ذلك، وقال المفضَّل: «السِّنَةُ: ثِقَلٌ في الرَّأْسِ، والنُّعَاسُ في العَيْنَيْنِ، والنَّوْمُ في القَلْبِ».
317
وكُرّرت «لاَ» في قوله تعالى: ﴿وَلاَ نَوْمٌ﴾ تأكيداً، وفائدتها انتفاء كلِّ واحدٍ منهما، ولو لم تذكر لاحتمل نفيهما بقيد الاجتماع، ولا يلزم منه نفيُ كلِّ واحدٍ منهما على حدته، ولذلك تقول: «مَا قَامَ زيدٌ، وعمرو، بل أحدهما»، [ولو قلت: «مَا قَامَ زيدٌ وَلاَ عمْرو، بل أحدهما» ] لم يصحَّ.

فصل في تفسير «الوَسْنَانِ»


والوسنان: بين النَّائم، واليقظان، والنَّوم: هو الثَّقيل المزيل للقوَّة والعقل.
وقيل السِّنة: أوَّل النَّوم، وهو النُّعاس، والنَّوم: غشيةُ ثقيلةٌ تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء.
قيل: إنَّ النَّوم عبارةٌ عن ريح تخرج من أعصاب الدِّماغ فإذا وصلت العينين، حصل النُّعاس، وإذا وصلت إلى القلب، حصل النوم.

فصل


والمعنى: لا يغفل عن شيءٍ دقيقٍ، ولا جليلٍ، فعبَّر بذلك عن الغفلة، لأنه سببها، فأطلق اسم السَّبب على مسببه.
نفى الله - تعالى - عن نفسه النَّوم، لأنَّه آفةٌ وهو منزَّهٌ عن الآفات؛ ولأنَّهُ تغيُّرٌ، ولا يجوز عليه التَّغيُّر.
عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بخمس كلمات، فقال: «إنَّ اللهَ لاَ يَنَامُ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، وَلَكِنَّهُ يَخْفِضُ بَالْقِسْطِ، ويَرْفَعُهُ وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وجهه مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ».
يروى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه حكى عن موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّه وقع في نفسه هل ينام الله تعالى! فأرسل إليه ملكاً فأرَّقه ثلاثاً، ثمَّ أعطاه قارورتين في كلِّ يدٍ واحدة، وأمره بالاحتفاظ بهما وكان يتحرَّز بجهده ألا ينام، فنام في آخر الأمر، فاطفقت يداه وانكسرت القارورتان فضرب الله - تعالى - ذلك مثلاً له في بيان أنَّه لو كان ينام؛ لم يقدر على حفظ السَّموات والأرض.
318
واعلم أنَّ مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فإن كلَّ من جوَّز النَّوم على الله - تعالى - أو كان شاكاً في جوازه كفر، فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى - عليه السَّلام - فإن صحَّت هذه الرواية فالواجب نسبة هذا السُّؤال إلى جهال قومه.
قوله: ﴿لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ هي كالتي قبلها إلاَّ في كونها تأكيداً، و «ما» للشُّمول، واللاّم في «لَهُ» للملك، وكرَّر «مَا» تأكيداً، وذكرها هنا المظروف دون الظرف؛ لأنَّ المقصود نفي الإلهيَّة عن غير الله تعالى، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلاّ هو، لأنَّ ما عبد من دونه في السَّماء كالشَّمس، والقمر، والنجوم أو في الأرض كالأصنام وبعض بني آدم، فكلُّهم ملكه تعالى تحت قهره، واستغنى عن ذكر أنَّ السَّموات، والأرض ملكٌ له بذكره قبل ذلك أنه خالق السَّموات والأرض.

فصل


لما كان المراد من هذه الإضافة الخلق، والملك، احتجوا بهذه الآية الكريمة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
قالوا: لأنَّ قوله تعالى ﴿لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ يتناول كل ما في السموات والأرض، وأفعال العباد من جملة ما في السَّموات والأرض، فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق.
فإن قيل: لم قال «لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض» ولم يقل من في السموات.
فالجواب: لما كان المراد إضافة كلِّ ما سواه إليه بالمخلوقيّة، وكان الغالب عليه ما لا يعقل، أجرى الغالب مجرى الكلِّ، فعبر عنه بلفظة «مَا»، وأيضاً فهذه الأشياء إنَّما أسندت إليه من حيث إنَّها مخلوقة، وهي غير عاقلةٍ، فعبر عنه بلفظ «مَا» للتنبيه على أنَّ المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة.
قوله: ﴿مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ﴾ كقوله: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله﴾ [البقرة: ٢٤٥].
قال القرطبيُّ: «مَنْ» رفع بالابتداء، و «ذَا» خبره، و «الَّذِي» نعتٌ ل «ذَا»، أو بدل ولا يجوز أن تكون «ذا» زائدة كما زيدت مع «مَا» ؛ لأنَّ «ما» مبهمة، فزيدت «ذا» معها لشبهها بها.
و «مَنْ»، وإن كان لفظها استفهاماً فمعناه النَّفي، ولذلك دخلت «إلاَّ» في قوله: ﴿إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾.
و «عِنْدَهُ» فيه وجهان:
319
أحدهما: أنَّه متعلِّق بيشفع.
والثاني: أنه متعلِّق بمحذوف لكونه [حالاً] من الضَّمير في «يَشْفَعُ»، أي: يشفع مستقراً عنده، وقوي هذا الوجه بأنه إذا لم يشفع عنده من هو عنده وقريبٌ منه فشفاعة غيره أبعد وضعَّف بعضهم الحاليَّة بأنَّ المعنى: يشفع إليه.
و ﴿إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ متعلِّققٌ بمحذوف، لأنَّه حال من فاعل، «يَشْفَع» فهو استثناءٌ مفرَّغ، والباء للمصاحبة، والمعنى: لا أحد يشفع عنده إلاَّ مأذوناً له منه، ويجوز أن يكون مفعولاً به، أي: بإذنه يشفعون كما تقول: «ضَرَب بِسَيْفِهِ»، أي: هو آلةٌ للضَّرب، والباء للتعدية.
و «يَعْلَمُ» هذه الجملة يجوز أن تكون خبراً لأحد المبتدأين المتقدمين، أو استئنافاً، أو حالاً. والضَّمير فِي «أيْدِيهم» و «خَلْفَهُم» يعود على «مَا» في قوله تعالى: ﴿لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ إلا أنَّه غلَّب من يعقل على غيره. وقيل: يعود على العقلاء ممَّن تضمَّنه لفظ «ما» دون غيرهم. وقيل: يعود على ما دلَّ عليه «مَنْ ذَا» من الملائكة والأنبياء. وقيل: من الملائكة خاصّةً.

فصل


قال مجاهدٌ وعطاءٌ والسديُّ: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» ما كان قبلهم من أمور الدُّنيا «وَمَا خَلْفَهُم» ما يكون خلفهم من أمور الآخرة بعدهم.
وقال الضَّحَّاك والكلبي: «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» يعني الآخرة؛ لأنَّهم يقدمون عليها. «وَمَا خَلفَهُمْ» يعني الدُّنيا؛ لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم.
وقال عطاءٌ عن ابن عبَّاس: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِم» من السماء إلى الأرض «وَمَا خَلْفَهُم» يريد ما في السَّموات.
وقال ابن جريج: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» : مضيّ آجالهم «وما خَلْفَهُم» : ما يكون بعدهم.
وقال مقاتل: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ» ما كان قبل الملائكة. «وَمَا خَلْفَهُم» أي: ما كان بعد خلقهم.
وقيل: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» ما قدموا من خير وشر «وَمَا خَلْفَهُمْ» ما هم فاعلوه.
320
والمقصود من هذا الكلام: أنَّه عالم بأحوال الشَّافع، والمشفوع له، فيما يتعلَّق باستحقاق الثَّواب والعقاب؛ لأنَّه عالمٌ بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيءٌ والشُّفعاء لا يعلمون من أنفسهم أنَّ لهم من الطَّاعة ما يستحقُّون به هذه المنزلة العظيمة عند الله، ولا يعلمون أنَّ الله هل أذن لهم في تلك الشَّفاعة، أم لا.
قوله: ﴿بِشَيْءٍ﴾ متعلِّقٌ ب «يحيطون». والعلم عنا بمعنى المعلوم؛ لأنَّ علمه تعالى الذي هو صفةٌ قائمةٌ بذاته المقدَّسة لا يتبعَّض، ومن وقوع العلم موقع المعلوم قولهم: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا» وحديث موسى، والخَضِر - عليهما الصَّلاة والسَّلام - «مَا نَقَص علمي وعلمُك من علمه إلاَّ كَمَا نقص العُصْفُورُ من هذا البَحْر» ولكون العلم بمعنى المعلوم، صحَّ دخول التَّبعيض، والاستثناء عليه. و «مِنْ عِلْمِهِ» يجوز أن يتعلَّق ب «يحيطون»، وأن يتعلَّق بمحذوف لأنه صفة لشيء، فيكون في محلِّ جر. و «بمَا شَاءَ» متعلِّقٌ ب «يحيطون» أيضاً، ولا يضرُّ تعلُّق هذين الحرفين المتَّحدين لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ؛ لأنَّ الثاني ومجروره بدلان من الأول، بإعادة العامل بطرق الاستثناء، كقولك: «مَا مَرَرْتُ بأحدٍ إلاَّ بِزَيْدٍ»، ومفعول «شَاءَ» محذوفٌ تقديره: إلا بما شَاءَ أن يحيطوا به، وإنما قدَّرته كذلك لدلالة قوله: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ﴾.

فصل


هؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكونوا هم الملائكة، ويحتمل أن يكونوا الملائكة وسائر من يشفع يوم القيامة من النَّبيين، والصِّديقين والشهداء والصالحين.
وفي معنى الاستثناء قولان:
أحدهما: أنَّهم لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا ما أراد هو أن يعلمهم كما قالوا: ﴿لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ﴾ [البقرة: ٣٢].
الثاني: أنَّهم لا يعلمون الغيب إلاَّ بما شاء أن يطلع بعض أنبيائه على بعض الغيب كقوله تعالى ﴿عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ﴾ [الجن: ٢٦ - ٢٧].
قوله: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض﴾ : الجمهور على «وَسِعَ» بفتح الواو وكسر السِّين وفتح العين فعلاً ماضياً.
و «كُرْسِيُّه» بالرَّفع على أنَّه فاعله، وقرئ «وَسْعَ» سكَّن عين الفعل تخفيفاً نحو: عَلْمَ في عَلِمَ. وقرئ أيضاً: «وَسْعُ كُرْسِيِّه» بفتح الواو وسكون السين ورفع العين على الابتداء، و «كُرْسِيِّه» خفضٌ بالإضافة «السَّمَوَاتُ» رفعاً على أنه خبر للمبتدأ.
321
واعلم أنه يقال: وَسِعَ فلاناً الشَّيء يَسعهُ سَعَةً إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به، ولا يسعك هذا أي: لا تطيقه ولا تحتمله، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيّاً مَا وَسِعَهُ إِلاَّ اتِّبَاعِي» أي: لا يحتمل غير ذلك.
والكُرْسِيُّ: الياء فيه لغير النَّسب، واشتقاقه من الكِرْسٍ، وهو الجمع؛ ومنه الكُرَّاسة للصَّحائف الجامعة للعلم؛ ومنه قول العجَّاج: [الرجز]
١١٧٨ - يَا صَاحِ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسا؟... قَالَ: نَعَمْ، أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
وقيل: أصله من تراكب الشَّيء بعضه على بعض، ومنه الكرس أبوال الدَّوابِّ وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض. [وأكرست الدَّار: إذا كثرت الأبعار والأبوال فيها، وتلبَّد بعضها فوق بعض]، وتكارس الشَّيء: إذا تركب ومنه الكرَّاسة، لتركب بعض الأوراق على بعضٍ. و «الكُرْسِيُّ» هو هذا الشَّيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعضٍ.
وجمعه كراسيّ كبُخْتِيّ وبَخَاتِيّ، وفيه لغتان: أشهرهما ضمُّ كافه، والثانية كسرها، وقد يعبَّر به عن الملك؛ لجلوسه عليه، تسميةً للحالِّ باسم المحلِّ؛ ومنه: [الرجز] في مَعْدِنِ المَلْكِ القَدِيمِ الكُرْسِي... وعن العلم؛ تسميةً للصفة باسم مكان صاحبها؛ ومنه قيل للعلماء: «الكَرَاسِيّ» ؛ قال القاتل: [الطويل]
١١٧٩ - قَدْ عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلَى القُدْسِ أَنَّ أَبَا العَبَّاسِ أَوْلَى نَفْسِ
١١٨٠ - يَحُفُّ بِهِمْ بِيضُ الوُجُوهِ وَعُصْبَةٌ كَرَاسِيُّ بِالأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ
وصفهم بأنهم عالمون بحوادث الأمور، ونوازلها؛ ويعبَّر به عن السَّرِّ، قال: [البسيط]
١١٨١ - مَا لِي بِأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكَاتِمُهُ وَلاَ بِكُرْسِيِّ - عَلْمَ اللهُ - مَخْلُوقِ
وقيل: الكرسيُّ لكلِّ شيء: أصله.

فصل في حقيقة «الكُرْسِيّ»


واختلفوا فيه على أربعة أقوال:
322
أحدها: أنَّه جسم عظيم يسع السَّموات، والأرض قال الحسن: هو العرش نفسه.
وقال أبو هريرة: الكرسيُّ: موضوعٌ أمام العرش ومعنى قوله: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض﴾ أي: سعته مثل سعة السَّموات والأرض.
وقال السُّدِّيُّ: إنَّه دون العرش، وفوق السَّماء السَّابعة، وفي الأخبار أن السموات والأرض في جنب الكرسيّ كحلقة في فلاةٍ، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاةٍ.
وأمّا ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الكرسيُّ: موضع القدمين فمن البعيد أن يقول ابن عباس هو موضع القدمين لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن الجوارح.
وثانيها: أنَّ «الكرسي» هو السُّلطان، والقدرة، والملك.
ثالثها: هو العلم، لأنَّ العلم هو الأمر المعتمد عليه «والكُرْسِيُّ» هو الشَّيء الذي يعتمد عليه، وقد تقدَّم هذا.
ورابعها: ما ختاره القفَّال وهو: أنَّ المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه؛ لأنَّه خاطب الخلق في تعريف ذاته، وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم، وعظمائهم كما جعل الكعبة بيتاً له يطوف النَّاس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم، وأمر النَّاس بزيارته، كما يزورون بيوت ملوكهم.
وذكر في الحجر الأسود: «أنَّهُ يمين اللهِ في أَرْضِهِ» وجعله موضوعاً للتقبيل كما
323
يقبل الناس أيضاً أيدي ملوكهم، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشُّهداء، ووضع الميزان، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه العرش في قوله: ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ [طه: ٥] ووصف العرش بقوله: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء﴾ [هود: ٧] ثم قال: ﴿وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش﴾ [الزمر: ٧٥] ثم قال: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [الحاقة: ١٧] وقال: ﴿الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ [غافر: ٧]، وكذلك إثبات الكرسيّ.
وقال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا جوابٌ مبيّن إلاَّ أنَّ المعتمد هو الأوَّل، وأنَّ ترك الظَّاهر بغير دليل لا يجوز.
قوله: ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ يقال: آده كذا، أي: أثقله، ولحقه منه مشقَّةٌ؛ قال القائل: [الطويل]
١١٨٢ - أَلاَ مَا لِسَلْمَى اليَوْمَ بَتَّ جَدِيدُهَا وَضَنَّتْ وَمَا كَانَ النَّوَالُ يُؤُودُها
أي: يثقلها، ومنه الموءودة للبنت تدفن حيّة، لأنَّهم يثقلونها بالتُّراب. وقرئ: «يَوْدُهُ» بحذف الهمزة، كما تحذف همزة «أُنَاسٍ»، وقرئ «يُوُودُهُ» بإبدال الهمزة واواً.
و «حِفْظ» : مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، أي: لا يَئُودُهُ أن يحفظهما.
و «العَلِيُّ» أصله: «عَلْيِوٌ»، فأُدْغِمَ؛ نحو: مَيِّتٍ؛ لأنَّه من علا يعلو؛ قال القائل في ذلك البيت: [الطويل]
١١٨٣ - فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ

فصل في المراد بالعلو


والمراد بالعلو علو القدر والمنزلة لا علو المكان لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن التحيز والعلي والعالي القاهر الغالب للأشياء تقول العرب: علا فلان فلاناً أي غلبه وقهره؛ قال الشاعر: [الطويل]
324
١١٨٤ - فَلَمَّا عَلَوْنَا.....................................................
البيت المتقدِّم، وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض﴾
[القصص: ٤].
قال ابن الخطيب: لو كان علوُّه بالمكان لكان متناهياً؛ فإنَّ الجزء المفروض فوقه، أعلى منه، فلا يكون عليّاً مطلقاً، وإن كان غير متناه، وقد دلَّت البراهين اليقينيَّة على استحالة بعدٍ غير متناهٍ.
وأيضاً فلو فرضنا في ذلك نقطاً غير متناهية، فإن لم يحصل فوق تلك النّقط نقطة، أخرى، وكانت تلك النُّقطة طرفاً، لذلك البعد، فيكون متناهياً، وإن لم يوجد في ذلك البعد سفلاً فلا يكون فيها ما هو فوق على الإطلاق، وذلك ينفي حصول العلوّ المطلق، ولأنَّ العالم كرة، فكل علوّ بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض هو سفل بالنسبة للوجه الثاني، فينقلب العلوُّ سفلاً، ولأن لو كان علُّوه بالمكان، لكان حصول العلوّ للمكان بالذَّات، والله تعالى بالعرض، وما بالذات أشرف منها بالعرض، فيكون علوُّ المكان أشرف من علوِّه سبحانه، وذلك باطلٌ.
و ﴿العظيم﴾ تقدَّم معناه، وقيل: هو هنا بمعنى المعظَّم؛ كما قالوا: «عَتِيقٌ» بمعنى: مُعَتَّق؛ قال القائل: [الخفيف]
١١٨٥ - فَكَأَنَّ الخَمْرَ العَتِيقَ مِنَ الإِسْ فَنْطِ مَمْزُوجَةً بِمَاءٍ زُلاَلِ
قيل: وَأُنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف. وقيل في الجواب عنه: إنَّه صفة فعلٍ، كالخلق، والرِّزق، والأوَّل أصحُّ.
قال الزَّمخشريُّ: «فإنْ قلت: كَيْفَ تَرَتَّبَتِ الجُملُ في آية الكرسيّ من غير حَرْفِ عطفٍ؟ قلت: ما منها جملةٌ إلاَّ وهي واردةٌ على البيان لما ترتَّبت عليه، والبيان متَّحدٌ بالمبيَّن، فلو توسَّط بينهما عاطفٌ لكان كما تقول العرب:» بَيْنَ العَصَا وَلِحَائِهَا «فالأولى بيانٌ لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه، والثانية لكونه مالكاً لما يدبِّره، والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم، المستوجب للشَّفاعة وغير المرتضى، والخامسة لسعة علمه، وتعلُّقه بالمعلومات كلِّها، أو لجلاله وعظم قدرته» انتهى. يعني غالب الجمل وإلاَّ فبعض الجمل فيها معطوفة وهي قوله: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ﴾، وقوله: ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ﴾ وقوله ﴿وَهُوَ العلي العظيم﴾.
325

فصل في فضل هذه الآية


في فضل هذه الآية الكريمة روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «ما قُرِئَت هذه الآية في دَارٍ إلاَّ اهْتَجَرَهَا الشَّيْطَانُ ثَلاَثِينَ يَوْماً، ولاَ يَدْخُلُهَا سَاحِرٌ وَلاَ سَاحِرَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً».
وعن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: سمعت نبيَّكم على أعواد المنبر وهو يقول: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ، لم يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّة إِلاَّ المَوْتُ، ولا يواظب عليها إلاَّ صدّيق، أو عابدٌ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه؛ أمَّنه الله على نفسه وجاره، وجار جاره، والأبيات التي حوله».
وتذاكر الصَّحابة أفضل ما في القرآن، فقال لهم عليٌّ: أين أنتم من آية الكرسيّ قال قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يَا عَلِيُّ سَيِّدُ البَشَرِ آدَمُ، وسَيِّدُ العَرَبِ مُحَمَّدٌ، وَلاَ فَخْرَ، وَسَيِّدُ الكَلاَمِ القُرْآنُ، وسَيِّد القُرْآنِ البَقَرَةُ وسَيِّدُ البَقَرَةِ آيةُ الكُرْسِيّ»
وعن أبيّ بن كعبٍ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يَا أبا المنذر؛ أيُّ آيةٍ في كِتَابش اللهِ أعْظَم» ؟ قلت: اللهُ لا إله إلاَّ هو الحيُّ القَيُّومُ، قال: فضرب صدري ثم قال: «ليَهْنِكَ العِلْمُ يَا أَبَا المُنْذِرِ» ثم قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ لهذه الآية لِسَاناً وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ المَلِكَ عِنْدَ سَاقِ العَرْشِ».
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «وكلني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بحفظ زَكَاةِ رمضان فأتاني آت، فجعل يحثو من الطَّعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: [إنّي محتاج، ولي عيالٌ، ولي حاجة شديدةٌ قال: فخلّيت عنه، فأصبحت فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] » يا أبا هريرة مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ «؛ قلت يا رسول الله؛ شَكَا حَاجَةً شديدة، وعيالاً؛ فرحمته، فخلَّيت سبيله. قال:» أَمَا إِنَّهُ قَدُ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ «فعرفت أنه سيعود، بقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرصدته، فجاء يحثو من الطَّعام، فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: دعني فإنِّي محتاج ولي عيال ولا أعود فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة «قلت: يا رسول الله شكا حاجةً،
326
وعيالاً فرحمته وخلَّيت سبيله قال:» أمَا إنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وسيعود «فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنه سيعود فرصدته الثالثة: فجاء يحثو من الطَّعام؛ فأخذته، فقلت لأرفعنَّك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهذا آخر ثلاث مرات أنَّك تزعم ألاَّ تعود، ثم تعود قال: دعني أُعلّمك كلمات، ينفعك الله بها، قلت: ما هي قال: إذا أَوَيْتَ إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسيّ ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم﴾ حتى تختم الآية، فإنَّك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطانٌ، حتّى تصبح، فخلَّيت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مَا فَعَلْتَ بِأَسِيركَ البَارِحَةَ؟ قلت: يا رسول الله - عليك الصَّلاة والسَّلام - زَعَمَ أنَّه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخلّيت سبيله - قال: ما هي قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسيّ من أولها، حتى تتمّ الآية، وقال لي لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان، حتى تصبح، وكانوا أحرص شيءٍ على الخير، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ، وهو كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِب منذ ثَلاَث لَيَالٍ يا أبا هُرَيْرَةَ؟ «قلت: لا، قال:» ذَلِكَ شَيْطَانٌ «.
327
قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين﴾ : كقوله: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] وقد تقدَّم. وأل في «الدِّين» للعهد، وقيل: عوضٌ من الإضافة أي «في دِينِ اللهِ» لقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى﴾ [النازعات: ٤١]، أي: تأوي.
والجمهور على إدغام دال «قَد» في تاء «تَبَيَّن» ؛ لأنها من مخرجها.
والرُّشد: مصدر رشد بفتح العين يرشد بضمِّها، ومعناه في اللُّغة، إصابة الخير. وقرأ الحسنُ «الرُّشُد» بضمتين كالعنق، فيجوز أن يكون هذا أصله، ويجوز أن يكون إتباعاً، وهي مسألة خلاف أعني ضمَّ عين الفعل. وقرأ أبو عبد الرحمن الرَّشد بفتح الفاء والعين، وهو مصدر رشد بكسر العين يرشد بفتحها، وروي عن أبي عبد الرَّحمن أيضاً: «الرَّشَادُ» بالألف.
ومعنى الإكراه نسبتهم إلى كراهة الإسلام. قال الزَّجَّاج: «لاَ تَنْسُبوا إلى الكَرَاهَةِ مَنْ أَسْلَمَ مُكْرِهاً»، يقال: «أَكْفَرَهُ» نسبه إلى الكفر؛ قال: [الطويل]
327
١١٨٦ - وَطَائِفَةٌ قَدْ أَكْفَرُوني بِحُبِّهِمْ وَطَائِفَةٌ قَالُوا مُسِيٌ وَمُذنِبُ
قوله: ﴿مِنَ الغي﴾ متعلِّقٌ بتبيَّن، و «مِنْ» للفصل، والتمييز كقولك: ميَّزت هذا من ذاك. وقال أبو البقاء: «في موضع على أنَّه مفعولٌ» وليس بظاهرٍ؛ لأنَّ معنى كونه مفعولاً به غير لائقٍ بهذا المحلِّ. ولا محلِّ لهذه الجملة من الإعراب؛ لأنَّها استئنافٌ جارٍ مجرى التّعليل لعدم الإكراه في الدين.
والتّبيين: الظهور والوضوح، بان الشَّيء، واستبان، وتبيَّين: إذا ظهر ووضح ومنه المثل: تَبَيَّنَ الصُّبح لذي عينين.
قال ابن الخطيب: وعندي أنَّ الإيضاح، والتعريف، إنَّما سمِّي بياناً؛ لأنَّه يوقع الفصلة، والبينونة بين المقصود وغيره.
والغيُّ: مصدر غوى بفتح العين قال: ﴿فغوى﴾ [طه: ١٢١]، ويقال: «غَوَى الفَصِيلُ» إذا بَشِمَ، وإذا جاع أيضاً، فهو من الأضداد. وأصل الغيّ: «غَوْيٌ» فاجتمعت الياء والواو، فأُدغمت نحو: ميّت وبابه.
والغيُّ: نقيض الرُّشد: يقال: غَوَى يَغْوِي، غيّاً، وغَوَايَةٌ إذا سلك خلاف طريق الرُّشد.

فصل في معنى «الدِّين» في الآية


قال القرطبيُّ: المراد «بالدِّينِ» في هذه الآية الكريمة المعتقد، والملة بدليل قوله ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي﴾.
قال سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة، لا يعيش لها ولد، فكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنَّه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهوديَّة. فلمَّا جاء الإسلام، وفيهم منهم، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عددٌ من أولاد الأنصار، فأرادت الأنصار استردادهم، وقالوا: أبناؤنا وإخواننا، فنزلت: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين﴾، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ، فإن اخْتَارُوكم فهم منكم، وإن اخْتَارُوهم، فأجلوهم مَعَهمْ».
وقال مجاهد: كان ناسٌ مسترضعين في اليهود من الأوس، فلما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإجلاء بني النّضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم: لنذهبنّ معهم ولندينن بدينهم،
328
فمنهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام فنزلت ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين...
.
وقال مسروقٌ: كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصّران قبل مبعث النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قدما المدينة في نفر من النَّصارى يحملون الطَّعام فلزمهما أبوهما، وقال لا أدعكما حتى تسلما فأبيا أن يسلما فاختصموا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «يَا رَسُولَ الله أَيَدْخُلُ بعضي النَّار وأنا أَنْظُرُ، فأنزل الله تعالى ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين﴾، فخلى سبيلهما.
وقال قتادة وعطاء: نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية، وذلك أنَّ العرب كانت أُمَّة أمّية لم يكن لهم كتاب، فلم يقبل منهم إلاَّ الإسلام، فلما أسلموا طوعاً، أو كرهاً؛ أنزل الله تعالى ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين﴾ ؛ فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا، أو يقرُّوا بالجزية، فمن أعطى منهم الجزية، لم يكره على الإسلام.
وقال ابن مسعود كان هذا في ابتداء الإسلام، قبل أن يؤمر بالقتال، فصارت منسوخة بآية السَّيف. ومعنى ﴿تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي﴾، أي: تميَّز الحقّ من الباطل، والإيمان من الكفر، والهدى من الضّلالة بالحجج والآيات الظَّاهرة.
قوله: ﴿بالطاغوت﴾ متعلِّقٌ ب»
يَكْفر «، والطاغوت بناء مبالغةٍ كالجبروت والملكوت. واختلف فيه، فقيل: هو مصدرٌ في الأصل، ولذلك يوحَّد ويذكَّر، كسائر المصادر الواقعة على الأعيان، وهذا مذهب الفارسيّ، وقيل: هو اسم جنس مفردٍ، فلذلك لزم الإفراد والتَّذكير، وهذا مذهب سيبويه رَحِمَهُ اللَّهُ. وقيل هو جمعٌ، وهذا مذهب المبرّد، وهو مؤنّث لقوله تعالى ﴿والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت﴾ [البقرة: ٢٥٧] قال أبو علي الفارسي: وليس الأمر كذلك، لأن» الطَّاغُوتَ «مصدر كالرّغبوت، والرَّهبوت، والملكوت، فكما أنَّ هذه الأسماء آحاد، كذلك هذا الاسم مفردٌ، وليس بجمع ومما يدلّ على أنَّه مصدر مفرد وليس بجمع قوله تبارك وتعالى: ﴿أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت﴾، فأفرد في موضع الجمع، كما يقال هم رضاً، وهم عدل انتهى. وهو مؤنَّث لقوله تعالى ﴿والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا﴾ [الزمر: ١٧].
329
وأجاب من ادَّعى التّذكير عن هذا الاستدلال بأنَّه إنما أنَّث هنا؛ لإرادة الآلهة وقال آخرون: ويكون مذكراً، ومؤنثاً، وواحداً وجمعاً قال تعالى في المذكر والواحد: ﴿يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾ [النساء: ٦٠] قوال في المؤنث: ﴿والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا﴾ [الزمر: ١٧] وقال في الجمع: ﴿يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات﴾ [البقرة: ٢٥٧]. واشتقاقه من طغَى يَطْغَى، أو من طَغَا يَطْغُو، على حسب ما تقدَّم أول السورة، هل هو من ذوات الواو أو من ذوات الياء؟ وعلى كلا التّقديرين، فأصله طَغَيُوت، أو طَغَوُوت لقولهم:» طُغْيان «في معناه، فقلبت الكلمة بأن قدِّمت اللاّم وأُخِّرت العين، فتحرَّك حرف العلَّة، وانفتح ما قبله فقلب ألفاً، فوزنه الآن فلعوت، وقيل: تاؤه ليست زائدةً، وإنَّما هي بدلٌ من لام الكلمة، ووزنه فاعول من الطُّغيان كقولهم» حانوت «، و» تابوت «، والتاء فيهما مبدلة من» هَا «التأنيث.
قال مكي «وقد يجُوز أن يكون أصلُ لامه واواً، فيكون أصله طغووتاً؛ لأنه يقال: طَغَى يَطْغى ويَطْغو، وطَغَيْتُ وطَغَوْتُ، ومثله في القلب والاعتلال، والوزن: حانوت؛ لأَنَّه من حَنا يحنو وأصله حَنَووت، ثم قُلِب وأُعِلَّ، ولا يجوزُ أن يكونَ من: حانَ يَحِين لقولهم في الجمعِ حَوانيت»
انتهى قال شهاب الدين: كأنَّه لمَّا رأى أنَّ الواوَ قد تُبْدَل تاءً كما في تُجاه، وتُخَمَة، وتُراث، وتُكَأة، ادَّعى قَلْبَ الواوِ التي هي لامٌ تاءً، وهذا ليس بشيءٍ.
وقدَّم ذِكْرَ الكفر بالطَّاغوت على ذِكْرِ الإِيمان باللهِ - تعالى - اهتماماً بوجوبِ الكفرِ بالطَّاغوتِ، وناسبَهَ اتصالُهُ بلفظ «الغَيّ».

فصل في المراد بالطاغوت


واختلف في الطَّاغوت فقال عمر، ومجاهدٌ، وقتادة: هو الشَّيطان.
وقال سعيد بن جبير: هو الكاهن. وقال أبو العالية: هو الساحر. وقال بعضهم: الأَصنام.
وقيل مردة الجنّ والإنس، وكلُّ ما يطغى الإِنسان.
330
وقيل: الطَّاغُوتُ هو كلّ ما عُبِدَ مِنْ دون الله، وكان راضياً بكونه معبُوداً، فعلى هذا يكُونُ الشَّيطان والكهنة، والسَّحرة، وفرعون والنمروذ كلُّ واحد منهم طاغوتاً؛ لأنهم راضون بكونهم معبودين وتكونُ الملائكة، وعزير، وعيسى ليسوا بطواغيت، لأنهم لم يرضوا بأن يكونوا معبودين.
قوله: ﴿وَيْؤْمِن بالله﴾ عطف على الشَّرط وقوله ﴿فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى﴾ جواب الشَّرط، وفيه دليل على أنَّهُ لا بدّ للكافر من أن يتوب عن الكفر، ثم يؤمنُ بعد ذلك.
وفيه دليل على أَنَّ درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح؛ لأنَّهُ قدّم الكُفر بالطَّاغوت [على الإيمان باللهِ اهتماماً به فإن قيل الإيمان باللهِ مستلزم لِلْكُفر بالطَّاغُوت.
قلنا: لا نسلم، قد يكفر بالطَّاغوت] ولا يؤمن بالله واستمسك أي: استمسك واعتصم ﴿بالعروة الوثقى﴾ أي العقد الوثيق المحكم في الدِّين.
و «العُرْوَة» : موضعُ شَدِّ الأَيدي، وأصلُ المادّةِ يَدُلُّ على التَّعلُّق، ومنه: عَرَوْتُه: أَلْمَمْتُ به متعلِّقاً، وَاعتراه الهَمُّ: تعلَّق به، و «الوُثْقى» : فُعْلى للتفضيل تأنيث الأوثق، كفُضْلى تأنيث الأفضل، وجمعُها على وُثَق نحو: كُبْرى وكُبَر، فأمَّا «وُثُق» بضمّتين فجمع وَثيق. وهذا استعارة المحسُوس للمعقول؛ لأَنَّ من أراد إمساك هذا الدِّين تعلّق بالدلائل وأوضحها الدّالة عليه، ولما كانت دلائِلُ الإِسلام أقوى الدَّلائل وأوضحها وصفها الله تبارك وتعالى بأَنَّها العروة الوثقى.
331
قال مجاهِدٌ: «العُرْوَةُ الوثقى» الإيمان.
وقال السُّدِّي: الإِسلام.
وقال ابن عباسٍ، وسعيد بن جبير والضحاك: لا إِله إلاَّ الله.
قوله: ﴿لاَ انفصام لَهَا﴾ كقوله: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] والجملةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أن تكونَ استئنافاً، فلا مَحَلَّ لها حينئذٍ.
والثاني: أنها حالٌ من العُرْوة، والعاملُ فيها «اسْتَمْسَكَ».
والثالث: أنها حالٌ من الضميرِ المستتر في «الوُثْقَى». و «لها» في موضعِ الخبرِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائنٌ لها. والانفصامُ - بالفَاءِ - القَطْعُ من غير بَيْنُونة، والقصمُ بالقافِ قَطْعُ بينونةٍ، وقد يُستعمل ما بالفاءِ مكانَ ما بالقافِ.
والمقصودُ من هذا اللَّفظ المُبالغةُ؛ لأَنَّهُ إذا لم يكن لها انفِصَام، فأن لا يكون لها انقطاع أولى، ومعنى الآية: بالعُرْوَة الوثقى التي لا انفصام لها، والعرب تُضْمِرُ «الَّتي» و «الذي» و «مَن» وتكتفي بصلاتها منها.
قال سلامة بن جندل: [البسيط]
١١٨٧ - وَالعَادِيَاتُ أَسَالِيُّ الدِّمَاءِ بِهَا كَأَنَّ أَعْنَاقَهَا أَنْصَابُ تَرْجِيبِ
يريد والعاديات التي قال تعالى: ﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الصافات: ١٦٤] أي من له.
قوله: ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فيه قولان:
أحدهما: أنَّهُ تعالى يسمع قول من يتكلم بالشَّهادتين، وقول من يتكلَّم بالكُفْر، ويعلمُ ما في قلب المؤمِنِ من الاعتقاد الطاهر، وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث.
الثاني: روى عطاء عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يحب إسلام أهل الكِتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة، وكان يَسْأَلُ الله ذلك سِرّاً، وعلانية، فمعنى قوله ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يريدُ لدعائك يا محمَّد عليم بحرصك واجتهادك.
332
«الوليّ» فعيل بمعنى: فاعل من قولهم: ولي فلان الشَّيء يليه ولاية، فهو وَال وولى، وأصله من الوَلْي الَّذي هو القُرْبُ؛ قال الهُذليُّ: [الكامل]
١١٨٨ -.......................... وَعَدَتْ عَوَادٍ دُونَ وَلْيِكَ تَشْعَبُ
ومنه يقال داري تلي دارها، أي: تقرب منها ومنه يُقالُ للمحبّ المقارب ولي؛ لأَنَّهُ يقرب منك بالمحبَّةِ والنُّصرة، ولا يفارقك، ومنه الوالي؛ لأَنَّه يلي القوم بالتَّدبير والأمر والنّهي، ومنه المولى، ومن ثمّ قالوا في خلاف الولاية: العداوة من عدا الشَّيء: إذا جاوزه، فلأجل هذا كانت العَدَاوةُ خلاف الوِلاَية ومعنى قوله تبارك وتعالى: ﴿الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ﴾، أي: ناصرهم ومعينهم، وقيل: مُحبهم.
وقيل: متولي أمورهم لا يكلهم إلى غيره.
وقال الحسنُ: ولي هدايتهم.
قوله: ﴿يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾، أي: من الكُفْرِ إلى الإيمان.
قال الواقدي: كلّ ما في القرآن من الظُلُماتِ، والنور فالمرادُ منه: الكفر والإيمان غير التي في سورة الأنعام ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ [الأنعام: ١] فالمراد منه اللَّيل والنَّهار، سُمي الكفر ظُلمة لالتباس طريقه، وسُمي الإسلام نُوراً، لوضوح طريقه.
وقال أَبو العبَّاس المُقْرىءُ «الظُّلُمَات» على خمسة أوجه:
الأول: «الظُّلُمَاتُ» الكفر كهذه الآية الكريمة.
الثاني: ظُلمة اللَّيلِ قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ يعني اللَّيل والنهار.
الثالث: الظُّلُمَات ظلمات البر والبحر والأهوال قال تعالى: ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر﴾ [الأنعام: ٦٣] أي من أهوالهما.
الرابع: «الظُّلُمَات» بطون الأُمَّهات، قال تعالى: ﴿فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ﴾ [الزمر: ٦] يعني المشيمة والرحم والبطن.
الخامس: بطنُ الحُوتِ قال تعالى: ﴿فنادى فِي الظلمات﴾ [الأنبياء: ٨٧] أي في بطنِ الحوت.
333

فصل في سبب النُّزولِ


ظاهر الآية يقتضي أنهم كانُوا في الكفر، ثم أخرجهم اللهُ تعالى من ذلك الكُفْرِ إلى الإِيمان، وها هنا قولان:
الأول: أَنَّ هذه الآية مختصَّةٌ بمن كان كافراً، ثم أَسلم، وذكر في سبب النُّزول روايات:
أحدها: قال مجاهدٌ: نزلت هذه الآية في قوم آمنوا بعيسى، وقوم كفروا به، فلما بعث اللهُ سبحانه وتعالى محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - آمن به من كفر بعيسى وكفر به من آمن بعيسى.
وثانيتهما: أنها نزلت في قوم آمنوا بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - على طريقة النَّصَارى، ثم آمنوا بعده بمحمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فقد كان إِيمانهم بعيسى حين آمنوا به كفراً، وظلمةً، لأَنَّ القول بالاتِّحاد كفرٌ باللهِ تعالى، أخرجهم من تِلْكَ الظُّلمات إلى نور الإِسلامِ.
وثالثتها: أنها نزلت في كُلِّ كافر أسلم وآمن بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
القول الثاني: أَنْ يحمل اللَّفظ على كُلِّ مَنْ آمن بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سواء كان ذلك الإيمان بعد كُفْرٍ، أو لم يكن؛ لأنه إخراج من ظُلُمات الكفر إلى نور الإِسلامِ؛ لقوله تعالى:
﴿وَكُنْتُمْ
على
شَفَا
حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا﴾
[آل عمران: ١٠٣] ومعلومٌ أَنهم ما كانوا في النار أَلْبَتَّةَ، وقال في قِصَّة يُوسُف عليه الصَّلاة والسَّلام ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: ٣٧] ولم يكن فيها قطّ، وسمي النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إنساناً يقولُ: أشهد ألا إله إِلا الله، فقال: «عَلَى الفِطْرَةِ»، فلما قال: أشهَدُ أَنَّ محمداً رسول اللهِ قال: «خَرَجَ مِنَ النَّارِ»، ومعلوم أنه ما كان فيها.
روي أنه عليه السَّلامُ أقبل على أَصحابه، فقال «تَتَهَافَتُونَ فِي النَّارِ تَهَافُتَ الجَرَادِ، وَهَا أَنَا آخِذٌ بِحُجزِكُم» ومعلوم أَنَّهم ما كانوا متهافتين في النَّارِ.

فصل


استدلَّ بعضُ العُلماء بهذه الآية على أَنَّ الغاية تدخل في المُغيَّا. لقوله تعالى على لسانه -
334
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ» فلو لم يدخلون في النُّور لم يخرجهم من الظُّلمات إِلى النُّور، ولو لم تدخل الغايةُ في المُغيّا، لما أدخلوهم في النُّور.

فصل


فإن قيل: هذه الآية صريحة في أَنَّ الله سبحانه وتعالى هو الَّذي أخرج الإِنسان من الكُفْر، وأدخله في الإيمان، فيلزمُ أن يكون الإِيمانُ بخلق الله تعالى؛ لأَنَّهُ لو حصل بخلق العبد، لكان العبدُ هو الذي أخرجَ نفسهُ من الكُفر إلى الإِيمان وذلك يناقض صريح الآية.
أَجَاب المعتزلةُ بأَنَّ هذا محمولٌ على نصبِ الأَدلَّةِ وإِرسال الأنبياء، وإِنزالِ الكُتُبِ، والتَّرغيب في الإِيمانِ، والتَّحذير عن الكُفْرِ بأقصى الوجوه:
قال القاضي: وقد نَسَبَ اللهُ الإِضلال إِلى الصَّنَم بقوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس﴾ [إبراهيم: ٣٦]، لأجل أَنَّ الأَصْنَامَ سبب بوجه ما لضلالهم، فبأن يضاف الإِخراج من الظُّلمات إلى النُّور إلى الله تعالى مع قوَّةِ الأسبابِ التي فعلها بمن يؤمن أولى.
والجواب: من وجهين:
أحدهما: أَنَّ هذا حمل للَّفظ على خلاف حقيقته.
الثاني: أَن هذه التَّرغيبات إِنْ كانت مؤثرة في ترجيح الدَّاعية، صار الرَّاجح واجباً والمرجوح ممتنعاً، وحينئذٍ يبطلُ قولهم، وإن لم تؤثر في التَّرجيح لم يصحّ تسميتها بالإِخراج.
قوله تعالى: ﴿والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت﴾ :«الذين» مبتدأ أولُ، وَأَوْلياؤهم مبتدأ ثانٍ، وَالطَّاغُوتُ: خبرهُ، والجملةُ خبرُ الأَوَّلِ. وقرأ الحسنُ «الطَّوَاغيت» بالجمع، وإن كان أصلُه مصدراً؛ لأنه لمَّا أطلق على المعبود مِنْ دُونِ الله اختلفَت أنواعهُ، ويؤيِّد ذلك عَوْدُ الضميرِ مَجْمُوعاً من قوله: «يُخْرِجونهم».
قوله: «يُخْرِجونهم» هذه الجُملة وما قبلها من قوله: «يُخْرِجُهم» الأحسنُ ألاَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ، لأَنَّهُمَا خَرَجا مخرجَ التفسير للولاية، ويجوزُ أن يكونَ «يُخْرِجُهم» خبراً ثانياً لقوله: «الله» وَأَنْ يكونَ حالاً من الضَّمير في «وليُّ»، وكذلك «يُخْرِجُونَهُم» والعاملُ في الحالِ ما في معنى الطَّاغُوتِ، وهذا نظيرُ ما قاله الفارسيُّ في قوله تعالى:
﴿نَزَّاعَةً للشوى﴾ [المعارج: ١٦] إنها حالٌ العاملُ فيها «لَظَى» وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى و «مَنْ» [و] «إِلى» مُتعلِّقان بفعلي الإِخراج.
335
فإن قيل كيف قال «يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلى الظُّلماتِ» وهم كفارٌ لم يكونوا في نور قطّ.
فالجواب هم اليهود كانوا مؤْمنين بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل أنْ يُبعث لما يجدون في كتبهم من نعته، فلما بُعث كَفَرُوا به.
وقال مُقاتلٌ: يعني كعب بن الأَشرف وحيي بن أخطب، وسائر رؤوس الضلالة؛ «يُخْرِجُونَهُم» يدعونهم.
وقيل هو على العُموم في حقِّ جميع الكُفَّار، وقالوا: منعهم إياهم من الدخول فيه إخراج، كما يَقُولُ الرَّجُل لأبيه أخرجتني من مالك، ولم يكن فيه، ولما قدَّمنا في التي قبلها.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة


احتجت المعتزلةُ بهذه الآية الكريمة على أَنَّ الكُفْر ليس من الله تعالى، قالوا: لأنه تعالى أضافه إلى الطَّاغوت لا إلى نفسه.
وأُجيبوا بأَنَّ إسناد هذا إلى الطَّاغُوت مجاز بالاتفاق بيننا وبينكم؛ لأن المراد ب «الطَّاغُوت» على أظهر الأقوال هو الصَّنَمُ، وإذا كانت هذه الإضافة مجازية بالاتفاق، خرجت عن أن تكُون حجة لكم.
قوله: ﴿أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ يحتمل أَنْ يرجع ذلك إلى الكُفَّار فقط ويحتمل أَنْ يرجع إلى الكُفَّار والطَّواغيت معاً.
336
تقدَّم الكلامُ في ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى﴾ في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٤٣] قال القرطبيّ: وهذه ألف التوقيف، وفي الكلام معنى التَّعجب، أي: أعجبوا له قال الفرَّاء: «أَلَمْ تَرَ»، بمعنى: هل رأيتَ الَّذي حاجَّ إبراهيم، وهل رأَيْتَ الَّذي مرَّ على قرية؟
وقرأ عليٌّ رضي اللهُ عنه: بِسُكون الرَّاء وتقدَّم أيضاً توجيهها. والهاءُ في «رَبِّهِ» فيها قولان:
أظهرهما: أنها تعود على «إبراهيم».
336
والثاني: على «الَّذِي»، ومعنى حاجَّه: أظهرَ المغالبة في حجته.

فصل


أعلم أَنَّه تعالى ذكر ها هنا قصصاً ثلاثاً.
الأولى: في بيان إِثبات العالم بالصَّانع، والثانية والثالثة: في إثبات الحشرِ والنَّشرِ والبعث.
فالأولى مناظرة إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع ملك زمانِهِ، وهي هذه.
قال مجاهِدٌ هو النُّمروذُ بن كنعانَ بن سام بن نُوح، هو أول من وضع التَّاجَ على رأسه، وتجبر وادَّعى الرُّبوبية؛ حاجَّ إبراهيم أي: خاصمَهُ وجادله، واختلفوا في وقتِ هذه المحاجَّةِ. فقال مقاتل: لمّا كسَّرَ الأَصنامَ سجنه النمروذ، ثم أخرجه ليحرقهُ فقال [له] : من رَبُّكَ الذي تَدعُونا إليه؛ فقال: ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾.
وقال آخرون: كان هذا بعد إلقائه في النَّار.
وقال قتادةُ: هو أَوَّلُ من تَجَبَّرَ، وهو صاحب الصَّرح ببابل.
وقيل هو نُمروذُ بن فالج بن عابر بن شالخ بن أَرفخشذ بن سام، وحكى السُّهيليُّ أنه النُّمروذُ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح، وكان ملكاً على السَّواد، وكان ملكه الضحاك الَّذي يُعْرَفُ بالأزدهاق وذلك أن النَّاس قحطوا على عهد نمروذ، وكان النَّاسُ يمتارون من عنده الطَّعام، وكان إذا أتاه الرَّجلُ في طلب الطَّعام سأَلَ: مَنْ رَبُّكَ فإن قال: أَنْت؛ نال من الطعام فأتاه إبراهيم فيمن أتاه، فقال له نمروذُ: من رَبُّكَ؛ فقال له إبراهيم: ربيّ الّذِي يُحْيي وَيُمِيتُ. فاشتغل بالمحاجَّة، ولم يعطه شيئاً، فرجع إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فمر على كثيبٍ من رَمْلٍ أعفرٍ، فأخذ منه تطييباً لقلوبِ أهْلِه إذا دخل عليهم؛ فلما أَتى أَهلهُ، ووضع متاعه نام فقامت امرأته إلى متاعه، ففتحته فإذا هو بأجود طعام رأَتهُ؛ فصنعت له منه فقربته إليه، فقال من أين هذا؟ قالت مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جئت به، فعرف أن الله - تعالى - رزقه فَحَمَدَ اللهَ تعالى.
قوله: ﴿أَنْ آتَاهُ الله﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أَنَّهُ مفعولٌ من أجله على حذفِ العِلّة، أي: لأَنْ آتاه، فحينئذٍ في محلِّ «أَنْ» الوجهان المشهوران، أعني النَّصب، أو الجرِّ، ولا بُدَّ من تقديرِ حرفِ الجرِّ قبل «
337
أَنْ» ؛ لأَنَّ المفعول مِنْ أجلهِ هنا نَقَّص شرطاً، وهو عدمُ اتِّحادِ الفاعلِ، وإنما حُذفت اللامُ، لأَنَّ حرف الجرِّ يطَّرد حذفُهُ معها، ومع أنَّ، كما تقدَّم.
وفي كونِهِ مفعولاً من أجلِهِ وجهان:
أحدهما: أَنَّهُ من باب العكسِ في الكلام بمعنى: أنه وضعَ المُحاجَّة موضع الشُّكْر، إذ كان مِنْ حقِّه أن يشكرَ في مقابلة إتيانِ المُلْكِ، ولكنَّهُ عَمِلَ على عكس القضية، كقوله تعالى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: ٨٢]، وتقول: «عَادَاني فُلانٌ؛ لأني أَحسنت إليه» وهو باب بليغٌ.
والثاني: أَنَّ إيتاءَ المُلْكِ حَمَلَه على ذلك؛ لأَنَّهُ أورثه الكِبْرَ وَالبَطَرَ، فَنَشَأَ عنهما المُحاجَّةُ.
الوجه الثاني: أنَّ «أَنْ»، وما في حيِّزها واقعةٌ موقعَ ظرفِ الزَّمانِ، قال الزَّمخشريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ «وَيَجُوزُ أن يكونَ التَّقديرُ: حاجَّ وقتَ أَنْ آتاهُ اللهُ». وهذا الذي أجازه الزمخشريُّ فيه نظر؛ لأَنَّهُ إِنْ عنى أَنَّ ذلكَ على حذفِ مُضافٍ ففيه بُعْدٌ من جهةِ أَنَّ المحاجَّة لم تقع وقتَ إِيتاءِ اللهِ له المُلْك، إِلاَّ أَنْ يُتَجَوَّز في الوقتِ، فلا يُحْمَل على الظَّاهر، وهو أنَّ المُحاجَّة وَقَعَت ابتداء إيتاءِ المُلْك، بل يُحْمَلُ على أنَّ المُحاجَّة وقعت وقتَ وجود المُلْك، وإن عنى أَنَّ «أَنْ» وما حيِّزها واقعةٌ موقع الظَّرف، فقد نصَّ النَّحويون على منع ذلك وقالوا: لا يَنُوب عن الظَّرف الزَّماني إلا المصدرُ الصَّريحُ، نحو: «أَتيتُكَ صِيَاحَ الدِّيكِ» ولو قلت: «أَنْ يصيحَ الدِّيكُ» لم يَجز. كذا قاله أبو حيَّان قال شهاب الدين وفيه نظرٌ، لأنه قال: «لا ينوبٌ عن الظَّرفِ إلا المصدرُ الصّريح»، وهذا معارضٌ بأنهم نَصُّوا على أنَّ «ما» المصدريةَ تنوبُ عن الزَّمانِ، وليست بمصدرٍ صريحٍ.
والضمير في «آتاه» فيه وجهان:
أظهرهما: أَنْ يعودَ على «الَّذِي»، وهو قول جمهور المفسرين وأَجاز المهدويُّ أن يعودَ على «إِبْرَاهِيم»، أي: ملك النُّبُوَّة. قال ابن عطيَّة: «هذا تَحاملٌ من التَّأْوِيل»، وقال أبو حيان: هذا قولُ المعتزلة، قالوا: لأنَّ الله تعالى قال: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ [البقرة: ١٢٤] والمُلْك عهدٌ، ولقوله تبارك وتعالى: ﴿فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً﴾ [النساء: ٥٤]. وعودُ الضَّمير إِلى أقرب مذكور واجب، وأقرب مذكورٍ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأجيب عن الأَوَّل بأَنَّ الملك حصل لآل إبراهيم، وليس فيها دلالةٌ على حصوله لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
وعن الثاني: بأن الذي حاج إبراهيم كان هو المَلِكُ، فعود الضَّمير إليه أَوْلَى.
قوله: «إِذْ قَالَ» فيه أربعةُ أوجهٍ:
أظهرها: أَنَّهُ معمولٌ لحاجَّ.
338
والثاني: أن يكون معمولاً لآتاه، ذكرهُ أبو البقاء. وفيه نظرٌ من حيثُ إنَّ وقت إيتاءِ المُلْكِ ليس وقتَ قولِ إبراهيم، ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾، إِلاَّ أَنْ يُتَجَوَّز في الظَّرفِ كما تقدَّم.
والثالث: أن يكون بدلاً من ﴿أَنْ آتَاهُ الله الملك﴾ إذا جُعِلَ بمعنى الوقت، أجازه الزَّمخشريّ بناءً منه على أَنَّ «أَنْ» واقعةٌ موقعَ الظَّرف، وقد تقدَّم ضعفُهُ، وأيضاً فإِنَّ الظّرفين مختلفان، كما تقدَّم إلا بالتَّجوز المذكورِ.
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ «وَذَكَرَ بَعْضُهم أنه بَدَلٌ من» أَنْ آتَاهُ الملك «وليس بشيءٍ؛ لأَنَّ الظرفَ غيرُ المصدرِ، فلو كان بدلاً لكان غلطاً إلا أَنْ تُجْعَل» إذ «بمعنى» أَنْ «المصدرية، وقد جاء ذلك» انتهى. وهذا بناءً منه على أنَّ «أَنْ» مفعولٌ من أجله، وليست واقعةً موقع الظَّرفِ، أمَّا إِذَا كانت «أَنْ» واقعةٌ موقع الظرف فلا تكون بدل غلط، بل بدلُ كلِّ من كُلِّ، كما هو قول الزمخشري وفيه ما تقدَّم بجوابه، مع أَنَّه يجوزُ أَنْ تكون بدلاً مِنْ «أَنْ آتاهُ»، و «أَنْ آتَاهُ» مصدرٌ مفعولٌ من أجلِهِ بدلَ اشتمالٍ؛ لأَنَّ وقتَ القولِ لاتِّسَاعِهِ مُشتملٌ عليه وعلى غيره.
الرابع: أَنَّ العامِلَ فيه «تَرَ» منق وله: «أَلَمْ تَرَ» ذكره مكيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأَنَّ الرُّؤية على كِلاَ المذكورين في نظيرها لم تكن في وقتِ قوله: ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾.
قوله: ﴿الذي يُحْيِي﴾ مبتدأٌ في محلِّ نصب بالقول.

فصل


الظَّاهر أن هذا جواب سؤالٍ سابق غير مذكورٍ؛ لأَنَّ الأَنبياء بعثوا للدَّعوة ومتى ادَّعى الرسالة والدَّعوة، فلا بدَّ وأن يطالبه المنكر بإثبات أَنَّ للعالم إلهاً؛ ألا ترى لما قال موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: ١٦] ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين﴾ [الشعراء: ٢٣] فاحتجَّ موسى على إثبات الإِله بقوله ﴿رَبُّ السماوات والأرض﴾ [الشعراء: ٢٤] فكذا ها هنا لما ادَّعى إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - الرِّسالة قال النُّمروذ من ربك؟ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت.
وقرأ حمزة: ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ بإسكان الياء، وكذلك ﴿حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش﴾ [الأعراف: ٣٣] ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض﴾ [الأعراف: ١٤٦]، و ﴿قُل لِّعِبَادِيَ الذين﴾ [إبراهيم: ٣١]، و ﴿آتَانِيَ الكتاب﴾ [مريم: ٣٠] و ﴿مَسَّنِيَ الضر﴾ [الأنبياء: ٨٣] و ﴿مَسَّنِيَ الشيطان﴾ [ص: ٤١] و ﴿عِبَادِيَ الصالحون﴾ [الأنبياء: ١٠٥]، و ﴿عِبَادِيَ الشكور﴾ [سبأ: ١٣] و ﴿إِنْ أَرَادَنِيَ الله﴾ [الزمر: ٣٨]، و ﴿إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله﴾ [
339
تبارك: ٢٨] أسكن الياء فيهن حمزة؛ وافق ابن عامر والكسائي في «لعبادي الذين آمنوا» وابن عامر في «آيَاتِي الَّذِين»، وفتحها الآخرون.

فصل


استدلَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام على إثبات الإله بالإحياء والإماتة، وهو دليلٌ في غاية القُوَّة لأَنَّهُ لا سبيل إلى معرفةِ اللهِ تعالى إِلاَّ بواسطة أفعاله التي لا يُشاركُهُ فيها أحدٌ من القادرين، والإحياء والإماتة كذلك؛ لأَنَّ الخلق عاجزون عنهما والعلم بعد الاختيار ضروري، وهذا الدَّليل ذكره اللهُ تعالى في مواضع من كتابه كقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] إلى آخرها وقوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ [التين: ٤، ٥] وقال: ﴿الذي خَلَقَ الموت والحياة﴾
[الملك: ٢].
فإن قيل: لِمَ قدَّم هنا ذِكر الحياةِ على الموتِ في قوله ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾، وقدَّمَ الموتَ على الحياةِ في آياتٍ كقوله ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] وقال ﴿الذي خَلَقَ الموت والحياة﴾ [الملك: ٢]، وحكى عن إِبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قوله في ثنائِهِ على الله تعالى ﴿والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ [الشعراء: ٨١].
فالجواب: أَنَّ الدَّليل إذا كان المقصود منه الدَّعوة إلى اللهِ - تعالى - يجب أَنْ يكون في غاية الوضُوح، ولا شكّ أَنَّ عجائب الخلقة حال الحياة أكثر، واطلاع الإِنسان عليها أتم، فلا جرم قَدَّم ذكر الحياة هُنا.
﴿قَالَ أَنَا أُحْيِي﴾ مبتدأٌ، وخبرٌ منصوب المحلِّ بالقول أيضاً. وأخبر عن «أَنَا» بالجملة الفعلية، وعن «رَبّي» بالموصولِ بها؛ لأَنَّه في الإِخبار بالموصولِ يُفيد الاختصاص بالمُخبَرِ عنه بخلافِ الثاني، فإِنَّهُ لم يدَّعِ لنفسه الخسيسة الخصوصية بذلك.
و «أَنَا» : ضميرٌ مرفوعٌ مُنفصلٌ، والاسمُ منه «أَنَ» والألفُ زائدةٌ؛ لبيان الحركةِ في الوقفِ، ولذلك حُذِفت وصلاً، ومن العربِ مَنْ يثبتها مطلقاً، فقيل: أُجريَ الوصلُ مجرى الوقف؛ قال القائل في ذلك: [المتقارب]
١١٨٩ - وَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالي القَوَا فِي بَعْدَ المَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارا
وقال آخر: [الوافر]
340
والصحيح أنه فيه لغتان، إحداهما: لغةُ تميم، وهي إثباتُ ألفه وصلاً ووقفاً، وعليها تُحْمَلُ قراءةُ نافع فإِنَّه قرأ بثبوت الألف وصلاً قبل همزةٍ مضمومة نحو: ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾، أو مفتوحةٍ نحو: ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ﴾ [الأعراف: ١٤٣]، واختلف عنه في المكسروة نحو: ﴿إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ﴾ [الشعراء: ١١٥]، وقرأ ابن عامرٍ: ﴿لَّكِنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً﴾ [الكهف: ٣٨] على ما سيأتي إن شاء الله تعالى وهذا أحسنُ من توجيه مَنْ يَقُولُ «أُجْري الوصلُ مجرى الوَقْفِ». واللُّغة الثانية: إثباتُها وَقْفاً وحَذفُها وَصْلاً، ولا يجوزُ إثباتُها وصلاً إِلاَّ ضرورةً كالبيتين المتقدِّمين. وقيل: بل «أَنَا» كلُّه ضمير.
وفيه لغاتٌ: «أَنا وأَنْ» - كلفظ أَنِ النَّاصبةِ - و «آن» ؛ وكأنه قَدَّم الألف على النون، فصار «أانَ»، قيل: إنَّ المراد به الزَّمان، وقالوا: أَنَهْ، وهي هاءُ السَّكْتِ، لا بدلٌ من الألف؛ قال: «هكذا فَرْدِي أَنَهْ» ؛ وقال آخر: [الرجز]
١١٩٠ - أَنَا سَيْفُ فَاعْرِفُونِي حُمَيْداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَاما
١١٩١ - إِنْ كُنْتُ أَدْرِي فَعَلَيَّ بَدَنَهْ مِنْ كَثْرَةِ التَّخْلِيطِ أَنِّي مَنْ أَنَهْ
وإنما أثبت نافعٌ ألفَه قبل الهمز جمعاً بين اللُّغتين، أو لأَنَّ النُّطقَ بالهمزِ عسرٌ فاستراح له بالألف لأنها حرفُ مدٍّ.

فصل


قال أكثرُ المفسِّرين: لما احتج إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - على إثبات الإله بالإحياء، والإماتة؛ دعا النُّمروذ برجلين، فقتل أحدهما، واستبقى الآخر، وقال: أَنَا أيضاً أحيي وأُميت، فجعل تَرْكَ القتلِ إِحياءً.
قال ابن الخطيب: وعندي أَنَّه بعيد؛ لأَنَّ الظَّاهر من حال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه شرح حقيقة الإحياء وحقيقة الإماتة ومتى شرحه امتنع أَن يشتبه على العاقل الإِماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة والإحياء بمعنى القتل وتركه ويبعد في الجمع العظيم أَنْ يكونُوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق، والمرادُ من الآية - واللهُ أعْلَمُ -
341
أن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما احتجّ بالإحياء، والإِماتة قال المنكر: أتدعي الإِحياء والإِماتة مِن اللهِ ابتداء من غير واسطة الأَسباب الأرضيَّة والسَّماويَّة، أو بواسطتها.
أَمَّا الأَوَّل: فلا سبيل إليه، وأَمَّا الثَّاني، فلا يدلُّ على المقصود، لأَنَّ الواحد منا يقدر على الإِحياء والإِماتة بواسطة سائر الأسباب فإِنَّ الجماع قد يُفْضي إلى الولد الحيّ بواسطة الأَسباب الأرضيَّة والسَّماويَّة، وتناول السّم قد يفضي إلى الموت، فلما ذكر النُّمروذ هذا السُّؤَال على هذا الوجه؛ أجاب إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فقال: [هب أَنَّ الإِحياء، والإماتة] حصلا من الله تعالى بواسطة الاتِّصالات الفلكية إلاَّ أنه لا بُدَّ لتلك الاتصالات والحركات الفلكية من فاعل مُدَبّر، فإذا كان المُدبِّر لتلك الحركات الفلكيّة هو اللهُ تعالى؛ كان الإِحياءُ والإماتةُ الصَّادران من البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية ليست كذلك؛ لأنه لا قدرة للبشر على الاتِّصالات الفلكية؛ فظهر الفرقُ.
إذا عرف هذا فقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق﴾ ليس دليلاً آخر، بل من تمام الدَّليل الأَوَّل؛ ومعناه: أَنَّهُ وإن كان الإحياء والإماتة [من اللهِ] بواسطة حركات الأَفلاك إِلاَّ أن حركات الأفلاك من اللهِ تعالى فكان الإِحياء والإماتة أيضاً من الله تعالى، وأما البشر فإنه وإن صدر منه الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأَسباب السَّماويَّة والأَرضيَّة إلاَّ أن تلك الأَسباب ليس واقعة بقدرته؛ فثبت أَنَّ الإِحياء والإِماتة الصَّادرين عن البشر ليسا على ذلك الوجه، فلا يصلح نقضاً عليه، فهذا هو الَّذي اعتقده في كيفيَّة جريان هذه المناظرة، لا ما هو المشهورُ عند الكلِّ واللهُ أَعلمُ بحقيقة الحال.
قوله: ﴿فَإِنَّ الله﴾ هذه الفاءُ جواب شرطٍ مقدَّر تقديره: قال إبراهيم - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - إِنْ زعمتَ، أو موَّهْتَ بذلك فإِنَّ اللهَ. ولو كانت الجملةُ محكيَّةً بالقول، لما دخلت هذه الفاءُ، بل كان تركيب الكلام: قال إبراهيم: إِنَّ اللهَ يَأْتِي، وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «دَخَلَتِ الفاءُ؛ إيذاناً بتعلُّق هذه الكلام بما قبلَه، والمعنى: إذا ادَّعيت الإِحياءَ والإِماتة، ولم تفهم، فالحُجَّة أَنَّ الله تعالى يأتي، هذا هو» المعنى «والباءُ في» بالشَّمْسِ «للتعديةِ، تقول: أَتَتِ الشَّمْسُ، وأَتَى اللهُ بها، أي: أجاءها، و» مِنَ المَشْرِقِ «و» مِنَ المَغْرِبِ «متعلِّقان بالفعلين قبلهما، وأجاز أبو البقاء فيهما بعد أَنْ مَنع ذلك أن يكونا حالين، وجعل التقدير: مُسخَّرةً أو منقادةً قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وليته استمر على منعه ذلك.

فصل


للناس ها هنا طريقان:
أحدهما: طريقة أكثر المفسِّرين: وهو أنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما
342
رأى من النُّمروذ إِلقاءَ تلك الشُّبهة، عدل إلى دليل آخَرَ أوضح من الأَوَّل، فقال: ﴿فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق، فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب﴾ فزعم هؤلاء أن الانتقال مِنْ دليل إلى دليلٍ أوضح منه جائزٌ للمستدلِّ.
فإن قيل: هلاَّ قال النمروذُ فليأتِ بها ربُّك من المغربِ.
قلنا: الجوابُ من وجهين:
أحدهما: أن هذه المُحاجَّة كانت بعد إلقاء إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في النَّار وخروجه منها سالماً، فعلم أَنَّ من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق، يقدر على أن يأتي بالشَّمس من المغرب.
والثاني: أن الله تعالى خذله وأنساه إيرادَ هذه الشُّبهة؛ نصرةً لنبيِّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
والطريقُ الثاني: قاله المحقِّقون: إن هذا ليس بانتقالٍ من دليل إلى دليلٍ، بل الدليلُ واحدٌ في الموضعين، وهو أنا نرى حدوث الأشياء لا يقدر الخلق على إحداثها، فلا بُدَّ من قادر آخر يتولَّى إحداثها، وهو سبحانه وتعالى، ثم إنَّ قولنا: نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها، أمثلةٌ؛ منها: الإِحياء والإِماتة، ومنها: السحاب، والرعد، والبرق، ومنها: حركات الأفلاك، والكواكب، والمستدلُّ لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليلٍ، ولكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالاً، فله أن ينتقل مِنْ ذلك المثال إلى مثالٍ آخر، فيكون ما فعله إبراهيم - عليه السَّلامُ - من باب ما يكونُ الدليلُ فيه واحداً، إلاَّ أنه يقع الانتقال عند إيضاحه مِنْ مثالٍ إلى مثالٍ آخر، وليس ما يقع [من باب الانتقال من دليل إلى دليل آخر].
قال ابن الخطيب: وهذا الوجه أحسن من الأوَّل وأليقُ بكلام أهل التحقيق، وعليه إشكالات من وجوه:
الإشكال الأول: أن صاحب الشُّبهة، إذا ذكرها وقعت في الأسماع، وجب على المحقِّ القادر على الجواب أن يجيب في الحال؛ إزالةً لذلك التلبيس والجهل عن العقول، فلما طعن الملك الكافر في الدَّليل الأوَّل أو في المثال الأول بتلك الشبهة، كان الاشتغال بإبطال تلك الشبهة واجباً مضيِّقاً، فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب.
الإشكال الثاني: أن المبطل لمَّا أورد تلك الشُّبهة، فإذا ترك المحق الجواب عنها، وانتقل إلى كلام آخر، أوهم أن كلامه الأوَّل، كان ضعيفاً ساقطاً، وأنه ما كان عالماً بضعفه، وأن ذلك المبطل، علم وجه ضعفه، ونبَّه عليه، وهذا ربما يوجب سقوط شأن المحقِّ، وهو لا يجوز.
343
الإشكال الثالث: أنَّه وإن كان يحسن الانتقال من دليلٍ إلى دليلٍ آخر، أو من مثالٍ إلى مثالٍ آخر، لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب، وها هنا ليس كذلك؛ لأنَّ جنس الإحياء والإماتة لا قدرة للخلق عليهما، وأما جنس تحريك الأجسام، فللخلق قدرةق عليه ولا يبعد في العقل وجود ملكٍ عظيم في الجثة أعظم من السموات، وأنه هو الذي يحرِّك السموات، وعلى هذا التقدير فالاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من الاستدلال بطلوع الشَّمس على وجود الصانع، فكيف يليق بالمعصوم أن ينتقل من الدَّليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفيِّ.
الإشكال الرابع: أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من دلالة طلوع الشَّمس عليه؛ لأنَّا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبدّلات واختلافات، والتبدُّل قويّ الدلالة على الحاجة إلى المؤثِّر القادر، وأمَّا الشمس فلا نرى في ذاتها تبدُّلاً، ولا في صفاتها، ولا في منهج حركاتها ألبتَّة، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى، فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالاً من الأجلى لأقوى للأضعف الأخفى، وإنه لا يجوز.
الإشكال الخامس: أنَّ النمروذ، لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تبارك وتعالى بالقتل والتخلية، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشَّمس أن يقول: طلوع الشمس من المشرق مني، فإن كان لك إلهٌ، فقل له يطلعها من المغرب؛ وعند ذلك التزم المحقِّقون من المفسِّرين ذلك، فقالوا: إنه لو أورد هذا السُّؤال، لكان من الواجب أن تطلع الشَّمس من المغرب، ومن المعلوم: أن إفساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثيرٍ من إلزامه بطلوع الشَّمس من المغرب، ولا يكون طلوع الشَّمس من المشرق دليلاً على وجود الصَّانع، وحينئذٍ يصير دليله الثَّاني ضائعاً؛ كما صار دليله الأوَّل ضائعاً، فالذي حمل سيدنا إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - على أن يترك الجواب عن ذلك السؤال الرَّكيك، والتزام الانقطاع، واعترف بالحاجة إلى الانتقال والتمسُّك بدليلٍ لا يمكنه تمشيته، إلا بالتزام طلوع الشَّمس من المغرب، وبتقدير أن يأتي بإطلاع الشمس من المغرب، فإنه يضيع دليله الثَّاني أيضاً كما ضاع الأوَّل، والتزام هذه المحذورات لا يليق بأقلِّ الناس علماً؛ فضلاً عن أفضل العقلاء، وأعلم العلماءس، فظهر بهذا أنَّ الذي أجمع جمهور المفسِّرين عليه ضعيفٌ.
قال ابن الخطيب: وأما الوجه الذي ذكرناه، فلا يتوجَّه عليه شيءٌ من هذه الإشكالات، لأنَّا نقول: لما احتجَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالإحياء والإماتة، أورد الخصم عليه سؤالاً لا يليق بالعقلاء، وهو أنَّك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا
344
بواسطةٍ، فلا تجد إلى إثبات ذلك سبيلاً، وإن ادعيت حصولها بواسطة حركات الأفلاك، [فنظيره أو ما يقرب منه حاصلٌ للبشر؛ فأجاب إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بأن الإحياء والإماتة، وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك]، لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى، وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى؛ بخلاف الخلق، فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الأفلاك، فلا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم، وعلى هذا تزول الإشكالات المذكورة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[قال القرطبيُّ: وروي في الخبر أن الله تعالى قال: «وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى آتِيَ بِالشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ لِيُعْلَمَ أَنِّي أَنَا القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ.
»
] «قوله: ﴿فَبُهِتَ الذي كَفَرَ﴾ الجمهور:» بُهِتَ «مبنيّاً للمفعول، والموصول مرفوعٌ به، والفاعل في الأصل هو إبراهيم، لأنه المناظر له، ويحتمل أن يكون الفالع في الأصل ضمير المصدر المفهوم من» قَالَ «، أي: فبهته قول إبراهيم، وقرأ ابن السَّميفع:» فَبَهَتَ «بفتح الباء والهاء مبنيّاً للفاعل، وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون الفعل متعديّاً، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -، و»
الَّذِي «هو المفعول، أي: فبهت إبراهيم الكافر، أي: غلبه في الحجَّة، أو يكون الفاعل الموصول، والمفعول محذوفٌ، وهو إبراهيم، أي: بهت الكافر إبراهيم، أي: لمَّا انقطع عن الحجَّة بهته، أي: سبَّه وقذفه حين انقطع، ولم تكن له حيلةٌ.
والثاني: أن يكون لازماً، والموصول فاعلٌ، والمعنى معنى بهت، فتتَّحد القراءتان، أو بمعنى أتى بالبهتان، وقرأ أبو حيوة:»
فَبَهُتَ «بفتح الباء، وضمِّ الهاء، كظرف، والفاعل الموصول، وحكى الأخفش: فَبَهِتَ بكسر الهاء، وهو قاصر أيضاً، فيحصل فيه ثلاث لغاتٍ: بَهَت بفتحهما، بَهُتَ بضم العين، بَهِتَ بكسرها.
قال عروة العدويُّ: [الطويل]
١١٩٢ - فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً فَأُبْهَتَ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ
فالمفتوح يكون لازماً ومتعدياً، قال تعالى: ﴿فَتَبْهَتُهُمْ﴾ [الأنبياء: ٤٠].
345
والبَهْتُ: التحيُّر، والدَّهش، وبَاهَتَهُ وَبَهَتَهُ واجهه بالكذب، ومنه الحديث:» إنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ «، وذلك أن الكذب يحيِّر المكذوب عليه.
ومعنى الآية: أنَّه: بقي مغلوباً لا يجد مقالاً، ولا للمسألة جواباً.
قوله: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾. وتأويله على قول أهل السُّنة ظاهر، وأما المعتزلة، فقال القاضي: يحتمل وجوهاً:
منها: أنه لا يهديهم؛ لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق، كما يهدي المؤمن، فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع.
ومنها: لا يهديهم بزيادة الهدى والألطاف.
ومنها: لا يهديهم إلى الثواب أو لا يهديهم إلى الجنَّة.
والجواب عن الأول: أنَّ قوله:»
لاَ يَهْدِيهِمْ «إلى الحجاج إنما يصحُّ إذا كان الحجاج موجوداً؛ إذ لا حجاج على الكفر.
وعن الثاني: أن تلك الزيادة، إذا كانت ممتنعةً في حقِّهم عقلاً، لم يصحَّ أن يقال: إنه تبارك وتعالى لا يهديهم كما لا يقال إنه تبارك وتعالى لا يجمع بين الضِّدَّين، فلا يجمع بين الوجود والعدم.
وعن الثالث: أنه لم يهدهم للثواب ولم يجز للجنة ذكر فيبعد صرف اللَّفظ إليهما، بل اللائق بسياق الآية الكريمة أن يقال: إنه تعالى لما أخبر أن الدليل، لمَّا بلغ في الظهور والحجَّة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عن سماعه، إلاَّ أن الله تعالى لم يقدِّر له الاهتداء، لم ينفعه ذلك الدليل الظَّاهر، ونظير هذا التفسير قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الأنعام: ١١١].
346
هذه القصة الثانية والجمهور على سكون واو «أَوْ» وهي هنا للتفضيل، وقيل: للتخيير بين التعجُّب من شأنهما، وقرأ سفيان بن حسين «أَوَ» بفتحها، على أنها واو العطف، والهمزة قبلها للاستفهام.
346
وفي قوله: «كَالَّذِي» أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه عطفٌ على المعنى وهو قولٌ عند الكسائي والفرَّاء وأبي علي الفارسيِّ وأكثر النحويّين، قالوا: ونظيره من القرآن قوله تعالى: ﴿قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ [المؤمنون: ٨٤ - ٨٥] ثم قال: ﴿مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ [المؤمنون: ٨٦ - ٨٧]. فهذا عطف على المعنى؛ لأنَّ معناه: لمن السَّموات؟! فقيل لله؛ وقال الشَّاعر: [الوافر]
١١٩٣ - مُعَاوِيَ، إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وَلاَ الحَدِيدَا
فحمل على المعنى، وترك اللفظ، وتقدير الآية:
هل رأيت كالذي حاجَّ إبراهيم، أو كالذي مرَّ على قريةٍ، هكذا قال مكيٌّ، أمَّا العطف على المعنى، فهو وإن كان موجوداً في لسانهم؛ كقوله: [الطويل]
١١٩٤ - تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةٌ بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ
وقول الأخر في هذين البيتين: [الوافر]
١١٩٥ - أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ وَلاَ بَيْدَانَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ
وَلاَ مُتَدَارِكٍ وَاللَّيْلُ طَفْلٌ بِبَعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُمُولاَ
فإنَّ معنى الأول: ليس بمكثِّر، ولذلك عطف عليه «وَلاَ بِحَقَلَّد»، ومعنى الثاني: أجِدَّك لست بِرَاءٍ، ولذلك عطف عليه «وَلاَ مُتَدَارِكٍ»، إلا أنهم نصُّوا على عدم اقتياسه.
الثاني: أنه منصوبٌ على إضمار فعل، وإليه نحا الزمخشريُّ، وأبو البقاء، قال الزمخشريُّ: «أو كالَّذِي: معناه أوَ رَأَيْتَ مَثَلَ الَّذِي»، فحذف لدلالة «أَلَمْ تَرَ» عليه؛ لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ، وهو حسنٌ؛ لأنَّ الحذف ثابتٌ كثيرٌ، بخلاف العطف على المعنى.
347
الثالث: أنَّ الكاف زائدةٌ؛ كهي في قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]، وقول الآخر: [السريع أو الرجز]
١١٩٦ - فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ... والتقدير: ألم تر إلى الذي حاجَّ، أو إلى الذي مرَّ على قريةٍ. وفيه ضعفٌ؛ لأنَّ الاصل عدم الزيادة.
والرابع: أنَّ الكاف اسم بمعنى مثل، لا حرفٌ؛ وهو مذهب الأخفش. قال شهاب الدِّين: وهو الصحيح من جهة الدليل، وإن كان جمهور البصريين على خلافه، فالتقدير: ألم تر إلى الذي حاجَّ، أو إلى مثل الذي مرَّ، وهو معنى حسنٌ. وللقول باسمية الكاف دلائل مذكورةٌ في كتب القوم، ذكرنا أحسنها في هذا الكتاب.
منها: معادلتها في الفاعلية ب «مِثْل» في قوله: [الطويل]
١١٩٧ - وَإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرٍ ضَعِيفٍ وَلَمْ يَغْلِبْكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ
ومنها دخول حروف الجر، والإسناد إليها. وتقدَّم [الكلام] في اشتقاق القرية.
قوله: «وهي خَاوِيَةٌ» هذه الجملة فيها خمسة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون حالاً من فاعل «مَرَّ» والواو هنا رابطةٌ بين الجملة الحالية وصاحبها، والإتيان بها واجبٌ؛ لخلوِّ الجملة من ضمير يعود إليه.
الثاني: أنها حالٌ من «قرية» : إمَّا على جعل «عَلَى عُرُوشِهَا» صفةٌ لقرية على أحد الأوجه الآتية في هذا الجارِّ، أو على رأي من يجيز الإتيان بالحال من النكرة مطلقاً؛ وهو ضعيف عند سيبويه.
الثالث: أنها حالٌ من «عُرُوشِهَا» مقدَّمةٌ عليه، تقديره: مرَّ على قرية على عروشها خاويةٌ.
الرابع: أن تكون حالاً من «هَا» المضاف إليها «عُرُوش» قال أبو البقاء: «والعَامِلُ مَعْنَى الإِضَافَةِ، وهو ضَعِيفٌ مع جوازه» انتهى. والذي سهَّل مجيء الحال من المضاف إليه، كونه بعض المضاف؛ لأنَّ «العُرُوشَ» بعض القرية، فهو قريب من قوله تعالى: ﴿مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً﴾ [الحجر: ٤٧].
348
الخامس: أن تكون الجملة صفةً لقرية، وهذا ليس بمرتضى عندهم؛ لأنَّ الواو لا تدخل بين الصفة والموصوف، وإن كان الزمخشريُّ قد أجاز ذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الحجر: ٤] [فجعل: «وَلَهَا كِتَابٌ» ] صفةً، قال: «وتَوَسَّطَتِ الواوُ؛ إيذاناً بإلصاق الصفة بالموصوف» وهذا مذهب سبقه إليه أبو الفتح ابن جنِّي في بعض تصانيفه، وفي ما تقدَّم، وكأنَّ الذي سهَّل ذلك تشبيه الجملة الواقعة صفةً، بالواقعة حالاً، لأنَّ الحال صفةٌ في المعنى، ورتَّب أبو البقاء جعل هذه الجملة صفةً لقرية، على جواز جعل «عَلَى عُرُوشِهَا» بدلاً من «قَرْيَةٍ» على إعادة حرف الجرِّ، ورتَّب جعل «وَهِي خَاوِيَةٌ» حالاً من العروش، أو من القرية، أو من «ها» المضاف إليها، على جعل «عَلَى عُرُوشِهَا» صفةٌ للقرية، وهذا نصُّه، قد ذكرته؛ ليتضح لك، فإنه قال: وقد قيل: هو بدلٌ من القرية تقديره: مرَّ على قريةٍ على عروشها، أي: مَرَّ على عروش القرية، وأعاد حرف الجرِّ مع البدل، ويجوز أن يكون «عَلَى عُرُوشِهَا» على هذا القول صفةً للقرية، لا بدلاً، تقديره: على قرية ساقطةٍ على عروشها، فعلى هذا لا يجوز أن تكون «وَهِيَ خَاوِيَةٌ» حالاً من العروش وأن تكون حالاً من القرية؛ لأنها قد وصفت، وأن تكون حالاً من «هَا» المضاف إليه، وفي هذا البناء نظرٌ لا يخفى.
قوله: ﴿على عُرُوشِهَا﴾ فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون بدلاً من «قرية» بإعادة العامل.
الثاني: أن يكون صفةً ل «قَرْيَةٍ» كما تقدَّم فعلى الأول: يتعلَّق ب «مَرَّ» ؛ لأنَّ العامل في البدل العامل في المبدل منه، وعلى الثاني: يتعلَّق بمحذوفٍ، أي: ساقطةٍ على عروشها.
الثالث: أن يتعلَّق بنفس خاوية، إذا فسَّرنا «خَاوِيَةٌ» بمعنى متهدِّمة ساقطة.
الرابع: أن يتعلَّق بمحذوفٍ يدلُّ عليه المعنى، وذلك المحذوف قالوا: هو لفظ «ثَابِتَةٌ» ؛ لأنهم فسَّروا «خَاوِيَةٌ» بمعنى: خاليةٌ من أهلها ثابتةٌ على عروشها، وبيوتها قائمة لم تتهدَّم، وهذا حذفٌ من غير دليلٍ، ولا يتبادر إليه الذهن، وقيل: «عَلَى» بمعنى «مَعَ»، أي: مع عروشها، قالوا: وعلى هذا فالمراد بالعروش الأبنية.
وقيل: «عَلَى» بمعنى «عَنْ» أي: خاويةٌ عن عروشها، جعل «عَلَى» بمعنى «عَنْ» كقوله: ﴿إِذَا اكتالوا عَلَى الناس﴾ [المطففين: ٢] أي: عنهم.
والخاوي: الخالي. يقال: خوت الدار تخوي خواءً بالمد، وخويّاً، وخويت - أيضاً - بكسر العين تَخْوَى خَوّى بالقصر، وخَوْياً، والخَوَى: الجوع؛ لخلوِّ البطن من الزَّاد. والخويُّ على فعيل: البطن السَّهل من الأرض، وخوَّى البعير: جَافَى جنبه عن الأرض؛ قال القائل في ذلك: [الرجز]
349
١١٩٨ - خَوَّى عَلَى مُسْتَوِيَاتٍ خَمْسِ كِرْكِرَةٍ وَثَفِنَاتٍ مُلْسِ
ومنه الحديث: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا سَجَدَ خَوَّى» أي: خلا عن عضده، وجنبيه، وبطنه، وفخذيه، وخوَّى الفرس ما بين قوائمه، ويقال للبيت إذا انهدم خوى؛ لأنه بتهدمه يخلو من أهله، وكذلك خوت النجوم وأخوت إذا سقطت.
والعُرُوشُ: جمع عرش، وهو سقف البيت، وكذلك كلُّ ما هُيِّىءَ ليستظلَّ به، وقيل: هو البنيان نفسه؛ قال القائل في ذلك: [الكامل]
١١٩٩ - إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ بِعُتَيْبَةَ بْنِ الحَارِثِ بِنْ شِهَابِ
اختلفوا في الذي مرَّ بالقرية فقال مجاهد، وأكثر المفسرين من المعتزلة: كان رجلاً كافراً شاكّاً في البعث.
وقال قتادة، وعكرمة، والضحاك، والسديُّ: هو عُزَيرُ بن شرخيا.
وقال وهب بن منبه، ورواه عطاء، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هو إرمياء بن خلقيا، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: إنَّ إرمياء هو الخضر - عليه السَّلام -، وهو من سبط هارون بن عمران - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو قول محمد بن إسحاق.
وقال وهب بن منبِّه: إنَّ إرمياء، هو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الذي بعثه الله عندما خرَّب بخت نصَّر بيت المقدس، وأحرق التوراة.
واحتجَّ من قال إنه كان كافراً بوجوه:
الأول: استبعاده الإحياء بعد الإماتة من الله وذلك كفرٌ.
فإن قيل: يجوز وقوع ذلك منه قبل البلوغ.
350
قلنا: لو كان كذلك، لم يجز أن يعجب الله رسوله منه إذ الصَّبيُّ لا يتعجَّب من شكِّه في مثل ذلك، وضعَّفوا هذه الحجة؛ بأن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشَّكِّ في قدرة الله تعالى، بل يحتمل أن يكون بسبب اطِّراد العادات في أنَّ مثل ذلك الموضع الخراب قلَّما يصيِّره الله معموراً، كما أنَّ الواحد إذا رأى جبلاً، فيقول: متى يقلب الله هذا ذهباً، أو ياقوتاً؟ لا أن مراده الشَّكُّ في قدرة الله، بل إنَّ ذلك لا يقع في مطرد العادات، فكذا ها هنا.
الحجة الثانية: قوله تعالى في حقه: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾ وهذا يدلُّ على أنه قبل ذلك لم يحصل له التبين، وضعِّف ذلك بأن تبيُّن الإحياء على سبيل المشاهدة، ما كان حاصلاً له قبل ذلك، وأمَّا التبين على سبيل الاستدلال فلا يسمل أنه لم يكن حاصلاً له.
الحجة الثالثة: قوله: ﴿أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وهذا يدلُّ على أنَّ هذا العلم إنما حصل له في ذلك الوقت، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن تلك المشاهدة أفادت نوع توكيد، وطمأنينة، وذلك إنما حصل في ذلك الوقت، وهذا يدلُّ على أنَّ أصل العلم ما كان موجوداً قبل ذلك.
الحجة الرابعة: انتظامه مع النمروذ في سلكٍ واحدٍ، وهذا - أيضاً - ضعيفٌ؛ لأنه وإن كان قبله قصَّة النمروذ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فوجب أن يكون نبياً من جنس إبراهيم.
واحتج من قال إنه كان مؤمناً بوجوه:
منها قوله تعالى: ﴿أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ وهذا يدلُّ على أنَّه كان عالماً بعد موتها بالله تعالى وبأنَّه يصحُّ منه الإحياء في الجملة، لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء، إنما يصحُّ إذا حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة، فأما من يعتقد أنَّ القدرة على الإحياء ممتنعةٌ لم يبق لهذا التخصيص فائدة.
ومنها مخاطبة الله تعالى له بقوله: ﴿كَمْ لَبِثْتَ﴾ وبقوله: ﴿بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ﴾، وبقوله: ﴿فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ﴾، وبقوله: ﴿وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ﴾، وبقوله ﴿وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً﴾ وهذه المخاطبات لا تليق بالكافر، قال تعالى: ﴿والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٩١]، فجعله آية للناسن دليلٌ على مزيد التشريف.
ومنها ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير، ومنهم العزير وكان من علمائهم، فجاء بهم إلى «بابل» فدخل عُزَيرٌ يوماً تلك القرية ونزل تحت ظلِّ شجرةٍ، وهو على حمارٍ، فربط حماره، وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً، فعجب من ذلك، وقال ﴿أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ لا على سبيل الشَّكِّ في القدرة، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة، وكانت الأشجار مثمرة، فتناول من الفاكهة التين والعنب، وشرب من عصير العنب، ونام فأماته الله في منامه مائة عام
351
وهو شابٌّ ثم أعمى عنه عيون الإنس والسِّباع والطَّير، ثمَّ أحياه الله بعد المائة، ونودي من السَّماء يا عزير «كَمْ لَبِثْتَ» بعد الموت، فقال: «يَوْماً» وذلك أن الله أماته ضحًى في أول النهار، وأحياه بعد مائة عامٍ آخر النَّهار قبل غيبوبة الشَّمس، فلما أبصر من الشَّمس بقيةً قال: «أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» فقال الله تبارك وتعالى: ﴿بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ﴾ من التِّين، والعنب «وَشَرَابِكَ» من العصير لم يتغير طعمه، فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما قال: «وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ» فنظر فإذا هو عظامٌ بيض تلوح وقد تفرَّقت أوصاله، وسمع صوتاً: أيَّتها العظام البالية، إنِّي جاعلٌ فيك روحاً، فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعضٍ، ثم التصق كلُّ عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع، والذِّراع إلى مكانه، ثم جاء الرأس إلى مكانه، ثم العصب والعروق، ثم أنبت طراء اللحم عليه ثم انبسط الجلد عليه ثم خرجت الشعور من الجلد، ثمَّ نفخ فيه الروح، فإذا هو قائم ينهق، فخرَّ عزير ساجداً، وقال: ﴿أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ثم إنَّه دخل بيت المقدس.
فقال القوم: حدَّثنا آباؤنا: أنَّ عزير بن شرخيا مات ببابل، وقد كان بختنصر قد قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً من قراء التوراة، وكان فيهم عزير، والقوم ما عرفوا أنَّه يقرأ التوراة، فلمَّا أتاهم بعد مائة عام جدَّد لهم التوراة، وأملاها عليهم عن ظهر قلبه، فلم يخرم منها حرفاً، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورض بما أملاها فما اختلفا في حرفٍ واحدٍ، فعند ذلك قالوا: عزير ابن الله، وهذه الرواية مشهورة.
ويروى أنه أرميا - عليه الصَّلاة والسَّلام - فدلَّ على أنَّ المارَّ كان نبيّاً؛ واختلفوا في تلك القرية:
فقال وهبٌ، وقتادة، وعكرمة، والربيع هي: إيلياء، وهي بيت المقدس، وقال ابن زيد هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت، وعن ابن زيد أيضاً أن القوم الذين خرجوا من ديارهم، وهم ألوفٌ حذر الموت فقال الله لهم: موتوا، مرَّ عليهم رجلٌ، وهم عظامٌ تلوح فوقف ينظر؛ فقال: ﴿أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ﴾.
قال ابن عطية: وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذا الآية إنما تضمَّنت قريةً خاويةً، لا أنيس فيها، والإشارة ب «هذه» إنَّما هي إلى القرية، وإحياؤها إنما هو بالعمارة، ووجود البناء والسكان.
قال القرطبي: روي في قصص هذه الآية: أنَّ الله تعالى بعث لها ملكاً من
352
الملوك، فعمرها وجدَّ في ذلك، حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل. وقيل: إنه لمَّا مضى لمدته سبعون سنةً، أرسل الله ملكاً من ملوك فارس عظيماً يقال له «كُوشَك» فعمَّرها في ثلاثين سنةً.
وقال الضحاك: هي الأرض المقدَّسة.
وقال الكلبيُّ: هي دير سابر أباد وقال السديُّ مسلم أباد، وقيل: دير هرقل.
وقوله: ﴿أنى يُحْيِي هذه الله﴾ في «أَنَّى» وجهان:
أحدهما: أن تكون بمعنى «متى».
قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «فَعَلى هذا تكون ظرفاً».
والثاني: أنَّها بمعنى كيف.
قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: فيكون مَوْضِعُها حالاً من «هذه»، وتقدَّم لما فيه من الاستفهام، والظاهرُ أنها بمعنى كيف، وعلى كلا القولين: فالعاملُ فيها «يُحْيِي»، و «بعد» أيضاً معمول له. والإحياء، والإماتة: مجازٌ؛ إن أريد بهما العمران والخراب، أو حقيقةٌ إن قدَّرنا مضافاً، أي: أنَّى يحيي أهل هذه القرية بعد موت أهلها، ويجوز أن تكون هذه إشارة إلى عظام أهل القرية البالية، وجثثهم المتمزقة، دلَّ على ذلك السياق.
قوله: ﴿مِئَةَ عَامٍ﴾ قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «مائَة عامٍ» : ظرفٌ لأماته على المعنى؛ لأنَّ المعنى ألبثه مئة عام، ولا يجوز أن يكون ظرفاً على ظاهر اللفظ، لأنَّ الإماتة تقع في أدنى زمانٍ، ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل محذوف، تقديره: «فأَمَاتَه اللهُ فلبِثَ مائة عام» ويدلُّ على ذلك قوله: «كَمْ لَبِثْتَ»، ولا حاجة إلى هذين التأويلين، بل المعنى جعله ميِّتاً مائة عام.
و «مِئة» عقدٌ من العدد معروفٌ، ولامها محذوفة، وهي ياء، يدلُّ على ذلك قولهم: «أَمْأَيْتُ الدَّرَاهِمَ»، أي: صيَّرتها مئة، فوزنها فعة ويجمع على «مِئَات»، وشذَّ فيها مئون؛ قال القائل: [الطويل]
١٢٠٠ - ثَلاَثُ مِئِينٍ لِلْمُلُوكِ وَفَى بِهَا رِدَائِي وَجَلَّتْ عَنْ وُجُوهِ الأَهَاتِمِ
كأنَّهم جروها بهذا الجمع لما حذف منها؛ كما قالوا: سنون: في سنة.
353
والعام: مدَّة من الزمان معلومةٌ، وعينه واوٌ؛ لقولهم في التصغير: عويم، وفي التكسير: «أَعْوَام».
وقال النقَّاش: «هو في الأصل مصدرٌ وسمِّي به الزمان؛ لأنه عومةٌ من الشمس في الفلك، والعوم: هو السبح؛ وقال تعالى: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٤٠] فعلى هذا يكون العوم والعام كالقول والقال».
فإن قيل: ما الحكمة في أنْ أماته الله مائة عامٍ، مع أنَّ الاستدلال بالإحياء بعد يومٍ، أو بعض يومٍ حاصل.
فالجواب: أنَّ الإحياء بعد تراخي المدَّة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدَّة، وبعد تراخي المدَّة يشاهد منه، ويشاهد هو من غيره، ما هو عجبٌ.
قوله: «ثُمَ بَعَثَهُ»، أي: أحياه، ويوم القيامة يسمَّى يوم البعث؛ لأنهم يبعثون من قبورهم، وأصله: من بعثت الناقة، إذا أقمتها من مكانها.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله - تبارك وتعالى - «ثُمَّ بَعَثَهُ» ولم يقل: ثمَّ أحياه؟
فالجواب: أن قوله: «بَعَثَهُ» يدلُّ على أنه عاد كما كان أوَّلاً: حيّاً، عاقلاً، فاهماً، مستعداً للنظر، والاستدلال، ولو قال: ثمَّ أحياه، لم تحصل هذه الفوائد.
قوله: «كَمْ» منصوبٌ على الظرف، ومميِّزها محذوفٌ تقديره: كم يوماً، أو وقتاً.
والناصب له «لَبِثْتَ»، والجملة في محلِّ نصب بالقول، والظاهر أنَّ «أَوْ» في قوله: «يوماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» بمعنى «بَلْ» للإضراب، وهو قول ثابت، وقيل: هي للشك.

فصل


قال ابن الخطيب: من الخوارق ما يمكن في حالة، ومن الناس من يقول في قصة أهل الكهف، والعزير: إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب فيه، ولكنه لا مؤاخذة به، وإلاَّ فالكذب: الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، وذلك لا يختلف بالعمل، والجهل؛ فعلى هذا يجوز أن يقال: إنَّ الأنبياء لا يعصمون عن السَّهو والنِّسيان، والقول الأوَّل أصحُّ.
قوله: «قَالَ بَلْ لَبِثْتَ» عطفت «بل» هذه الجملة على جملةٍ محذوفةٍ، تقديره: ما لبثتَ يوماً أو بعض يوم، بل لبثت مئة عام. وقرأ نافع، وعاصم، وابن كثير: بإظهار الثَّاء في جميع القرآن الكريم، والباقون: بالإدغام.
354

فصل فيمن قال: كم لبثت


أجمعوا على أن ذلك القائل هو الله تعالى؛ لأنَّ ذلك الخطاب كان مقروناً بالمعجز، ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره، وظهور البلى في عظامه، ما عرف به أنَّ تلك الخوارق لم تصدر إلاَّ من الله تعالى.
وقيل: سمع هاتفاً من السماء، يقول له ذلك.
وقيل: خاطبه جبريل، وقيل: نبيٌّ.
وقيل: مؤمنٌ شاهده من قومه عند موته، وعمِّر إلى حين إحيائه.
قال القرطبي: والأظهر أنَّ القائل هو الله - عَزَّ وَجَلَّ -، لقوله تعالى: ﴿وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً﴾.
فإن قيل: إنه تعالى كان عالماً بأنه كان مَيْتاً، والميِّت لا يمكنه بعد أن صار حيّاً أن يعلم مدَّة موته طويلةً كانت أم قصيرةً؛ فلأيِّ حكمةٍ سأله عن مقدار المدة؟
فالجواب: أنَّ المقصود منه التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق، بقوله: ﴿لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ على حسب ظنِّه؛ كما روي في القصة: أنه أماته ضحًى، وأحياه بعد المائة قبل غروب الشمس؛ فظن أنَّ اليوم لم يكمل، كما حكي عن أصحاب الكهف: ﴿قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [الكهف: ١٩] على ما توهَّموه، ووقع في ظنِّهم.
وقول إخوة يوسف ﴿ياأبانا إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا﴾ [يوسف: ٨١] وإنما قالوا ذلك؛ بناءً على إخراج الصُّواع من رحله.
قوله: ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال، وزعم بعضهم: أنَّ المضارع المنفيَّ ب «لَمْ» إذا وقع حالاً، فالمختار دخول واو الحال؛ وأنشد: [الطويل]
١٢٠١ - بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشِيْمُوا سُيُوفَهُمْ وَلَمْ تَكْثُرِ القَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ
وزعم آخرون: أنَّ الأولى نفي المضارع الواقع حالاً بما، ولمَّا. وهذان الزَّعمان غير صحيحين؛ لأنَّ الاستعمالين واردان في القرآن، قال تعالى: ﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء﴾ [آل عمران: ١٧٤]، وقال تعالى: ﴿أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾
[الأنعام: ٩٣] فجاء النفي ب «لم» مع الواو ودونها.
355
فإن قيل: قد تقدَّم شيئان، وهما «طَعَامِكَ وشَرَابِكَ» ولم يعد الضَّمير إلاَّ مفرفاً، قلنا فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدهما: أنها لمَّا كانا متلازمين، بمعنى أنَّ أحدهما لا يكتفى به بدون الآخر، صارا بمنزلة شيء واحد؛ حتى كأنه [قال:] فانظر إلى غذائك.
الثاني: أنَّ الضمير يعود إلى الشَّراب فقط؛ لأنه أقرب مذكور، وثمَّ جملة أخرى حذفت لدلالة هذه عليها. والتقدير: وانظر إلى طعامك لم يتسنَّه، وإلى شرابك لم يتسنَّه، وقرأ ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «فانْظُرْ إِلى طَعَامِكَ وهذا شَرابُك لم يتسنه»، أو يكون سكت عن تغيُّر الطعام؛ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، وذلك أنه إذا لم يتغيَّر الشراب مع نزعة النَّفس إليه، فعدم تغيُّر الطعام أولى، قال معناه أبو البقاء.
الثالث: أنه أفرد في موضع التثنية، قاله - أيضاً - أبو البقاء؛ وأنشد: [الكامل]
١٢٠٢ - فَكَأَنَّ في الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ أَوْ سُنْبَلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ
وليس بشيءٍ.
وقرأ حمزة، والكسائي: «لَمْ يَتَسَنَّهْ» بالهاءِ وقفاً، وبحذفها وصلاً، والباقون: بإثباتها في الحالين. فأمَّا قراءتهما، فالهاءُ فيها للسكتِ. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ: فالهاءُ تحتملُ وجهين:
أحدهما: أن تكون - أيضاً - للسكت، وإنما أُثبتت وصلاً إِجراءً للوصل مجرى الوقف، وهو في القرآن كثيرٌ، [سيمرُّ بك منه مواضع] فعلى هذا يكون أصل الكلمة: إِمَّا مشتقاً من لفظ «السَّنَةِ» على قولنا إِنَّ لامَها المحذوفة واوٌ، ولذلك تُرَدُّ في التصغير والجمع؛ قالوا: «سُنَيَّة وَسَنَوات» ؛ وعلى هذه اللغة قالوا: «سَانَيْتُ» أُبْدِلَتِ الواو ياءً؛ لوقوعها رابعةً، وقالوا: أَسْنَتَ القومُ إذا أصابتهُمُ السَّنَةُ؛ قال الشاعر: [الكامل]
١٢٠٣ -............................. وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ
356
ويقولون في جمعها: سنوات فقلبوا الواو تاءً، والأصلُ: أَسْنُووا، فأَبْدلوها كما أَبْدلُوها في تُجاه وتُخمة؛ كما تقدَّم، فأصله: يَتَسَنَّى فحُذِفت الألف جزماً.
وإما من لفظ «مَسْنُون» وهو المتغيرُ، ومنه ﴿حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٨]، والأصلُ: يتَسَنَّنُ، بثلاثٍ نونات، فاسْتُثْقل توالي الأَمثال، فأَبدلنا الأخيرة ياءً؛ كما قالوا في تظنَّن: تظنَّى، وفي قصَّصت أظفاري: قصَّيتُ، ثم أبدلنا الياء ألفاً؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، ثم حُذِفت جزماً، قاله أبو عمرو، وخطَّأَه الزجاج، قال: «لأنَّ المسنونَ: المصبوبُ على سنن الطريق».
وحُكِيَ عن النقَّاش أنه قال: «هو مأخوذٌ من أَسِن الماءُ» أي: تغيَّر، وهذا وإِنْ كان صحيحاً معنًى، فقد رَدَّ عليه النحاةُ قوله؛ لأنه فاسِدٌ اشتقاقاً، إذ لو كان مشتقاً من «أَسِنَ الماءُ» لكان ينبغي حين منه تفعَّل، أَنْ يقال تأسَّنَ. ويمكن أَنْ يُجاب عنه: أنه يمكنُ أن يكون قد قُلبت الكلمةُ بأن أُخِّرت فاؤها - وهي الهمزة - إلى موضع لامها، فبقي: يَتَسَنَّأ، بالهمزة آخراً، ثمَّ أُبدلت الهمزةُ ألفاً، كقولهم في قرأ: «قَرَا»، وفي استهزأ: «اسْتَهْزا» ثم حُذفت جزماً.
والوجه الثاني: أن تكون الهاءُ أصلاً بنفسها، ويكونُ مشتقاً من لفظ «سَنَة» أيضاً، ولكن في لغةِ من يجعلُ لامها المحذوفة هاءً، وهم الحجازيون، والأصلُ: سُنَيْهة، يدلُّ على ذلك التصغير والتكسير، قالوا: سُنَيْهةٌ، وسُنَيْهَاتٌ، وسَانَهْتُ؛ قال شاعرهم:
١٢٠٤ - وَلَيْسَتْ بِسَهْنَاءٍ وَلاَ رُجَبِيَّةٍ وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوَائِحِ
ومعنى «لم يَتَسَنَّهْ» على قولنا: إِنَّهُ من لفظ السَّنَة، أي: لم يتغيَّر بمَرِّ السنين عليه، بل بقي على حالِهِ، وهذا أَوْلَى من قول أَبي البقاء في أثناء كلامه: «مِنْ قولك: أَسْنَى يُسْنِي، إذا مَضَتْ عليه سِنُون» ؛ لأنه يصير المعنى: لم تمضِ عليه سِنُون، وهذا يخالفه الحِسُّ، والواقع.
وقرأ أُبَيّ؛ «لَمْ يَسَّنَّهْ» بإِدْغَام التَّاءِ في السِّينِ، والأَصْلُ: «لم يَتَسَنَّهْ».
357
كما قُرِئ: ﴿لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ﴾ [الصافات: ٨]، والأصل: يَتَسَمَّعُونَ؛ فأُدغم، وقرأ طلحة بن مصرفٍ: «لِمِئَةِ سَنَةٍ».
فإن قيل: لما قال تعالى: ﴿بَلْ لبثت مائة عام﴾ كان مِنْ حقِّه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله: ﴿فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ لا يدلُّ على أنه لبث مائة عامٍ، بل يدلُّ ظاهراً على قول المسؤول إنه لبث يوماً أو بعض يوماً.
فالجواب أنه ذكر ذلك ليعظم اشتياقه إلى طلب الدَّليل الذي يكشف هذه الشبهة، فلما قال تعالى: ﴿وانظر إلى حِمَارِكَ﴾ فرأى الحمار صار رميماً وعظاماً نخرة، فعظُم تعجبه من قُدرة الله تعالى؛ فإنَّ الطعامَ، والشراب يسرع التغير إليهما، والحمارُ ربما بقي دهراً طويلاً عظيماً، فرأى ما لا يبقى باقياً، وهو الطعامُ، والشَّرابُ، وما يبقى غير باقٍ، وهو العظامُ فعظُم تعجبه من قدرة الله تعالى، وتمكّنت الحجةُ في قلبه، وعقله.
قوله: ﴿وانظر إلى حِمَارِكَ﴾ معناه أَنَّه عرَّفه طُول مدة موته، بأن شاهد انقلاب العِظام النخرة حيّاً في الحال، فإنه إذْ شاهد ذلك، علِمَ أن القادر على ذلك قادِرٌ على أَنْ يُميته مائة عام، ثم يُحْييه.
فإن قيل: إنَّ القادِرَ على إحياء العِظام النخرة، قادِرٌ على أَنْ يجعل الحمار عظاماً نخرة في الحال، وحينئذٍ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طُول مدة الموت.
فالجواب: أَنَّ انقلاب العِظام إلى الحياة معجزةٌ دالَّةٌ على صدق قوله: «بَلْ لَبِثْتَ مائةَ عامٍ». قال الضحاك: إنَّهُ تعالى بعثهُ شابّاً أسود الرأس، وبنو بنيه شيوخٌ بيض اللِّحى، والرُّؤوس.
قوله: «وَلِنَجْعَلَكَ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدَّرٍ بعده، تقديره: ولنجعلك فعلنا ذلك.
الثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ تقديره: فعلنا ذلك، لتعلَمَ قُدْرتنا ولنجعلك.
الثالث: أن الواو زائدة واللامُ متعلقةٌ بالفعلِ قبلها، أي: وانظر إلى حِمارِك، لنجعلَكَ.
قال الفرَّاء: وهذا المعنى غير مطلوبٍ من الكلامِ؛ لأنه لو قال فانظر إلى حِمارك لنجعلك آيةً للناسِ، كان النظرُ إلى الحمار شرطاً، وجعله آية جزاءً أَمَّا لمَّا قال: «وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً» [كان المعنى: ولنجعلك آيةً فعلنا ما فعلنا، من الإماتة، والإحياء. وليس في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، كما زعم بعضهم؛ فقال: إن قوله: «وَلِنَجْعَلَكَ» مؤخر بعد قوله
358
تعالى: ﴿وانظر إِلَى العظام﴾، وأَنَّ الأَنظارَ الثلاثةَ منسوقةٌ بعضها على بعضٍ، فُصِل بينها بهذا الجارّ؛ لأنَّ الثالث مِنْ تمامِ الثاني، فلذلك لم تجعل هذه العلةُ فاصلةً معترضةً. وهذه اللامُ لامُ كي، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار «أَنْ» وهي وما بعدها من الفعلِ في محلِّ جرٍّ على ما سبق بيانُهُ غير مرةٍ. و «آية» مفولٌ ثانٍ؛ لأنَّ الجَعْلَ هنا بمعنى: التصيير. و «لِلنَّاسِ» صفةٌ لآيةٍ، و «أَلْ» في الناس، قيل: للعهدِ، إِنْ عَنَى بهم بقيةَ قومِهِ، وقيل: للجنس، إِنْ عَنَى بهم جميع بني آدم].
قوله: ﴿وانظر إِلَى العظام﴾.
أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام حمارُه، وقال آخرون: أراد بها عظام الرجلِ نفسه، قالوا: إِنَّ الله أَحْيَا رأسهُ وعينيه، وكانت بقيةُ بدنه، عظاماً نخرةً، فكان ينظرُ إلى أَجزاء عظام نفسه فرآها تجتمعُ، وينضمُّ بعضها إلى بعضٍ وكان يرى حمارَه واقفاً كما ربطه حين كان حيّاً لم يأكل، ولم يشرب مائة عام، وتقدير الكلام على هذا الوجه وانظر إلى عظامك؛ وهو قولُ قتادة، والرَّبيع، وابن زيدٍ، وضُعِّف ذلك بوجوه:
منها: أَنَّ قوله «لَبِثْتُ يَوْمَا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» إنما يليقُ بمن لا يرى أثر التغير في نفسه، فيظن أنه كان نائِماً في بعض يومٍ، وأَمَّا من شاهد بعض أجزاءِ بدنه متفرقةً، وعظامُه رميمة نخرةً، فلا يليقُ به ذلك.
ومنها أنه خاطبُه، وأَجاب، والمجيب، هو الذي أَماتهُ اللهُ، فإذا كانت الإِماتةُ راجعةً إلى كله، فالمجيب - أيضاً - الذي بعثه اللهُ، يجب أن يكون جملة الشَّخص.
ومنها أَنَّ قوله - تعالى - ﴿فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ يدلُّ على أَنَّ تلك الجملة أَحياها، وبعثها.
قوله: «كَيْفَ» منصوبٌ نصبَ الأَحوال، والعاملُ فيها «نُنْشِزُها» وصاحبُ الحالِ الضميرُ المنصوبُ في «نُنْشِزُها»، ولا يعملُ في هذا الحالِ «انظُرْ» إذ الاستفهامُ له صدرُ الكلام، فلا يعملُ فيه ما قبله، هذا هو القولُ في هذه المسألة، ونظائرها.
وقال أبو البقاء: «كيف نُنْشِزُها» في موضِعِ الحالِ من «العِظَامِ»، والعاملُ في «كيف» نُنْشِزُها، ولا يجوز أن يعمل فيها «انظُرْ» لأنَّ هذه جملة استفهام، والاستفهامُ لا يقعُ حالاً، وإنما الذي يقعُ حالاً «كَيْفَ»، ولذلك تُبْدَلُ منه الحالُ بإعادة حرفِ الاستفهامِ، نحو: «كيف ضَرَبْتَ زيداً؛ أقائماً أم قاعداً» ؟
والذي يَقْتَضِيه النظرُ الصحيحُ في هذه المسألة، وأمثالها: أَنْ تكونَ جملةُ «كَيْفَ نُنْشِزُها» بدلاً مِنَ «العِظَامِ» فيكونَ في محلِّ جَرٍّ أو محلِّ نصبِ، وذلك أنَّ «نظر» البصرية
359
تتعدَّى ب «إِلَى»، ويجوزُ فيها التعليقُ، كقوله تعالى:
﴿انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ [الإسراء: ٢١] فتكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأنَّ ما يتعدى بحرف الجرِّ يكونُ ما بعده في محلِّ نصبٍ به. ولا بُدَّ مِنْ حذف مضافٍ؛ لتصِحَّ البدليَّة، والتقدير: إلى حال العظام، ونظيرُهُ قولهم: عَرفْتُ زيداً: أبو مَنْ هُوَ؟ ف «أَبُو مَنْ» هو بدلٌ من «زَيْداً»، على حذفٍ تقديرُهُ: «عَرَفْتُ قِصَّةَ زَيْدٍ». والاستفهامُ في بابِ التعليقِ، لا يُراد به معناه؛ بل جرى في لسانِهم مُعلَّقاً عليه، حكُم اللفظِ دونَ المعنى، و [هو] نظيرُ «أي» في الاختصاص، نحو: «اللهُمَّ اغفِرْ لنا أَيَّتُها العِصَابَةُ» فاللفظُ كالنداء في جميعِ أَحكامه، وليس معناه عليه.
وقرأ أبو عمروٍ، والحرميَّان: «نُنْشِزُهَا» بضم النون، وكسر الشِّين، والراءِ المُهملةِ، والباقُون: كذلك؛ إلاَّ أَنَّها بالزاي المُعْجمة. وابن عباسٍ: بفتح النونِ، وضمِّ الشِّين، والراءِ المهملةِ أيضاً والنخعيّ: كذلك؛ إلا أنها بالزاي المعجمةِ، ونُقِل عنه أيضاً ضمُّ الياءِ، وفتحِها مع الراءِ، والزاي.
فأَمَّا قراءة الحرميّين: فمن «أَنشَرَ اللهُ الموتى» بمعنى: أَحْيَاهم، وأمَّا قراءةُ ابن عباس: فَمِنْ «نَشَر» ثُلاَثيّاً، وفيه حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أَنْ يكون بمعنى أَفعلَ، فتتحدَ القراءتان.
والثاني: أَنْ يكونَ مِنْ «نَشَرَ» ضِدَّ: طَوى، أي: يَبسُطها بالإِحياء، ويكونُ «نَشَرَ» أيضاً مطاوِع أَنْشَرَ، نحو: أَنْشَرَ الله الميتَ، فَنَشَرَ، فيكونُ المتعدي، واللازمُ بلفظٍ واحدٍ؛ إلاَّ أنَّ كونه مطاوعاً لا يُتَصَوَّر في هذه الآيةِ الكريمة؛ لتعدِّي الفعل فيها، وإنْ كان في عبارة أبي البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ في هذا الموضع بعضُ إبهامٍ؛ ومِنْ مجيء «نَشَر» لاَزِماً قوله: [السريع]
١٢٠٥ - حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا يَا عَجَباً لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
فناشِر: مِنْ نَشَر؛ بمعنى: حَيِيَ. والمراد بقوله ننشرها، أي: نُحْييها، يقال أنشر الله الميتَ ونشرَهُ، قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ﴾ [عبس: ٢٢] وقد وصف اللهُ العِظِام بالإِحياءِ في قوله: ﴿مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ﴾ [يس: ٧٨، ٧٩].
360
وأَمَّا قراءةُ الزَّاي فمن «النَّشْزِ» وهو الارتفاعُ، ومنه: «نَشْزُ الأَرْضِ» وهو المرتفع، ونشوزُ المرأةِ، وهو ارتفاعها عن حالها إلى حالةٍ أُخرى، فالمعنى: يُحرِّك العِظام، ويرفعُ بعضها إلى بعضٍ للإِحياء.
قال ابن عطية: «وَيَقْلَقُ عندي أَنْ يكونَ النشوزُ رفعَ العِظَامِ بعضها إلى بعضٍ، وإنما النشوزث الارتفاعُ قليلاً قليلاً»، قال: «وانظر استعمال العربِ، تَجده كذلك؛ ومنه:» نَشَزَ نَابُ البَعِير «و» أَنْشَزُوا، فَأَنْشَزوا «، فالمعنى هنا على التدرُّج في الفعلِ» فجعل ابنُ عطية النشوزَ ارتفاعاً خاصّاً.
ومَنْ ضَمَّ النونَ جعلهُ مِنْ «أَنْشَزَ»، ومَنْ فَتَحها، فَمِنْ «نَشَزَ»، يقال: «نَشَزه» و «أَنْشَزَه» بمعنى. ومَنْ قرأَ بالياءِ، فالضميرُ لله تعالى. وقرأ أُبيّ «نُنْشِئُها» من النَّشْأَةِ. ورجَّح بعضهم قراءة الزاي على الراء، بِأَنْ قال: العِظامُ لا تُحْيَا على الانفرادِ؛ بل بانضمام بعضِها إلى بعضٍ، والزايُ أَوْلى بهذا المعنى؛ إذ هو بمعنى الانضمام دونَ الإِحياءِ، فالموصُوفُ بالإِحياءِ الرجلُ دونَ العظامِ، ولا يقال: هذا عظمٌ حيٌّ. وهذا ليس بشيءٍ؛ لقوله: ﴿مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨].
ولا بُدَّ من ضميرِ محذوفٍ من قوله: «العِظام» أي؛ العظامِ منه، أي: من الحمارِ، أو تكونُ «أَلْ» قائمةً مقامَ الإِضافة، أي: عظامِ حمارِك.
قوله: «لَحْماً» مفعولٌ ثانٍ لِ «نَكْسُوها» وهو من باب أَعْطَى، وهذا من الاستعارة، ومثله قول لبيدٍ: [البسيط]
١٢٠٦ - الحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِيني أَجَلِي حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلاَمِ سِرْبَالا
قوله: «فَلَمَّا تَبَيَّنَ» في فاعل «تَبيَّن» قولان:
أحدهما: مُضمرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلامِ، تقديرُهُ: فلمَّا تبيَّن له كيفيةُ الإِحياءِ التي استقر بها، وقدَّره الزمخشريُّ: «فلمَّا تبيَّن له ما أَشْكَل عليه» يعني مِنْ أَمْرِ إِحياءِ الموتى، والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّ قوةَ الكلامِ تدِلُّ عليه بخلافِ الثاني.
والثاني: - وبه بدأ الزمخشري -: أن تكون المسألةُ من بابِ الإِعمالِ، يعني أن «تَبَيَّن» يطلُبُ فاعلاً، و «أَعْلَمُ» يطلبُ مفعولاً، و «أَنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ» يصلُح أَنْ يكونَ فاعلاً لتبيَّن، ومفعولاً لأعلَمُ، فصارَتِ المسألةُ من التنازع، وهذا نصُّه، قال: وفَاعِلُ «تبيَّن» مضمرٌ تقديره: فلمَّا تبيَّن له أَنَّ الله على كل شيءٍ قدير قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ
361
على كل شيء قديرٌ، فحُذف الأَوَّل؛ لدلالةِ الثاني عليه، كما في قولهم: «ضَرَبَنِي، وضَرَبْتُ زَيْداً» فجعله مِنْ باب التنازع وجعله من إعمال الثاني، وهو المختارُ عند البصريين، فلمَّا أعملَ الثاني، أَضْمَرَ في الأَولِ فاعلاً، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ من إعمال الأَولِ؛ لأنه كان يلزَمُ الإِضمارُ في الثاني بضميرِ المفعول، فكأنه قال: فلمَّا تبيَّن له، قال أعلمه أن الله. ومثله في إعمال الثاني: ﴿آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً﴾ [الكهف: ٩٦] ﴿هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ﴾ [الحاقة: ١٩] لما ذكرت.
إِلاَّ أَنَّ أبا حيَّان ردَّ عليه بأنَّ شرط الإِعمالِ على ما نصَّ عليه النحويون اشتراكُ العاملَينِ، وأَدْنى ذلك بحرفِ العطفِ - حتى لا يكون الفصلُ معتبراً - أو يكونُ العاملُ الثاني معمولاً للأول، نحو: «جاءني يَضْحَكُ زيدٌ» فإنَّ «يَضْحَكُ» حالٌ عاملها «جاءني» فيجعل في: «جاءني»، أو في: «يضحك» ضميراً؛ حتَّى لا يكونَ الفعلُ فاصلاً، ولا يَردُ على هذا جعلُهُم «آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً»
﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة﴾ [النساء: ١٧٦] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله﴾ [المنافقون: ٥] و ﴿هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ﴾ [الحاقة: ١٩] من باب الإِعمال؛ لأنَّ هذه العوامل مشتركةٌ بوجهٍ ما من وجوهِ الاشتراكِ، ولم يُحْصَرِ الاشتراكُ في العطفِ ولا العَمَلِ، فإذا كان على ما نصُّوا، فليس العاملُ الثاني مُشْتركاً مع الأولِ بحرفِ العطفِ، ولا بغيره، ولا هو معمولٌ للأول؛ بل هو معمولٌ لقال، و «قال» جوابُ «لَمَّا» إِنْ قلنا: إنَّها حرفٌ، وعاملةٌ في «لَمَّا» إن قلنا: إنها ظرفٌ، و «تبيَّن» على هذا القول مخفوضٌ بالظرف، ولم يذكر النحاةُ التنازع في نحو: «لَوْ جَاءَ قَتَلْتُ زيداً»، ولا «لَمَّا جاء ضربت زيداً»، ولا «حِينَ جاء قتلْتُ زيداً»، ولا «إذا جاء قتلتُ زيداً»، ولذلك حكى النحاةُ أَنَّ العربَ لا تقول: «أَكْرَمْتُ أَهْنتُ زيداً» - يعني لعدم الاشتراكِ بين العاملين - وقد ناقضَ قوله؛ حيثُ جعل الفاعل محذوفاً، كما تقدَّم في عبارتِهِ، والحذفُ ينافي الإِضمارَ، فإنْ كان أرادَ بالإِضمار في قوله: «وفاعِلُ تبيَّن مُضْمَرٌ» الحذفَ فهو قول الكسائيِّ؛ لأنه لا يُجيزُ إضمارَ المرفوع قبل الذكر فيدَّعي فيه الحذف، ويُنشد: [الطويل]
١٢٠٧ - تَعَفَّقَ بِالأَرْطَى لَهَا وَأَرَادَهَا رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُمْ وَكَلِيبُ
ولهذا تأويل مذكورٌ؛ ورُدَّ عليه بالسماع قال القائِلُ: [البسيط]
362
فقال: «هَوَيْنَنِي» فجاءَ في الأَوَّل بضمير الإِناث، من غير حذفٍ. انتهى ما رُدَّ به عليه، قال شهاب الدِّين - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفيه نظرٌ لا يخفى.
وقرأ ابن عبَّاس: «تُبُيِّن» مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ، الجارُّ والمجرورُ بعدَه. وابنُ السَّمَيْفع «يُبَيِّن» من غير تاء مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامه ضميرُ كيفية الإِحياء أو الجارُّ والمجرورُ.
قوله: ﴿قَالَ أَعْلَمُ﴾ الجمهورُ على: «قال» مبنيّاً للفاعلِ. وفي فاعله على قراءة حمزة والكسائي: «اعْلَمْ» أمراً من «عَلِمَ» قولان:
أظهرهما: أنه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى أو على المَلِك، أي: قال اللهُ تعالى أو الملكُ لذلك المارِّ اعْلَمْ.
الثاني: أنه ضميرٌ يعودُ على المارِّ نفسه، نزَّل نفسه منزلة الأجنبي، فخاطبها؛ ومنه: [البسيط]
١٢٠٩ - وَدِّعْ أُمَامَة إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ...........................
وقوله: [المتقارب]
١٢١٠ - تَطَاوَلَ لَيْلُكَ..............................................
يعني نفسه، قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «كما تقول لنفسك: اعلم يا عبد الله، ويُسَمَّى هذا التجريدَ» يعني: كأنه جَرَّد من نفسه مُخَاطباً يخاطِبُه.
وأمَّا على قراءةِ «أَعْلَمُ» مضارعاً [للمتكلم] وهي قراة الجمهور ففاعل «قال» ضميرُ المارِّ، أي: قال المارُّ: أعلمُ أنا. وقرأ الأَعمشُ: «قِيل» مبنيّاً للمفعولِ. والقائمُ مقام الفاعل: إمَّا ضميرُ المصدرِ من الفعلِ، وإمَّا الجملةُ التي بعده، على حسبِ ما تقدَّم أول السورة.
[وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ: «اعلمْ» على الأَمر، والباقون: «أَعْلَمُ» مضارعاً] وقرأ الجعفيّ عن أبي بكر: «أَعْلِمْ» أَمْراً من «أَعْلَمَ»، والكلامُ فيها كالكلامِ في قراءةِ حمزة والكسائي بالنسبةِ إلى فاعل «قال» ما هو؟
363

فصلٌ في معنى قوله: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾


قال الطبريُّ: معنى قوله: «فلمَّا تبيَّنَ لهُ» أي: لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه، قال: أَعلمُ. قال ابن عطيَّة: وهذا خطأٌ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذِّ، وهذا عندي ليس بإِقرارٍ بما كان قبل ينكره، كما زعم الطبريُّ، بل هو قولٌ بعثه الاعتبارُ؛ كما يقول المؤمنُ إذا رأى شيئاً غريباً من قدرة الله تعالى: لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ، ونحو هذا. وقال أبو عليّ: معناه أعلم هذا الضرب من العلمِ الذي لم أكُن أَعْلَمه.
و «أَنَّ الله» في محلّ نصب، سادَّةً مسد المفعولين، أو الأَوَّل والثاني محذوفٌ على ما تقدّم من الخلاف.
364
هذه القصة الثالثة الدالَّةُ على صحَّة البعث.
في العامل في «إذْ» ثلاثةُ أوجه:
أظهرها: أنه قال: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِن﴾، أي: قال له ربَّه وقتَ قوله ذلك.
والثاني: أنه «أَلَمْ تَرَ» أي: ألم تر إذ قال إبراهيم.
والثالث: أنه مضمرٌ تقديره: واذكر قاله الزجاح ف «إِذْ» على هذين القولين مفعولٌ به، لا ظرفٌ. و «ربِّ» منادى مضافٌ لياءِ المتكلم، حُذفَتْ؛ استغناءً عنها بالكسرةِ قبلَها، وهي اللغةُ الفصيحةُ، وحُذِف حرفُ النداءِ.
وقوله: «أَرِنِي» تقدَّم ما فيه من القراءات، والتوجيه في قوله: ﴿وَأَرِنَا﴾ [البقرة: ١٢٨] والرؤية - هنا - بصرية تتعدَّى لواحدٍ، ولمَّا دخلَتْ همزةُ النقل، أكسبته مفعولاً ثانياً، والأولُ ياءُ المتكلم، والثاني الجملة الاستفهامية، وهي معلقة للرؤية و «رأى» البصرية تُعَلَّق، كما تعلق «نَظر» البصرية، ومن كلامهم: «أَمَا تَرَى أَيُّ بَرْقٍ هَهُنَا».
و «كَيْفَ» في محلِّ نصب: إمَّا على التشبيه بالظرف، وإمَّا على التشبيه بالحال، كما تقدَّم في قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ [البقرة: ٢٨]. والعاملُ فيها «تُحيي» وقدَّره مكي: بأي حالٍ تُحْيي الموتى، وهو تفسيرُ معنًى، لا إعرابٍ.
قال القرطبيُّ: الاستفهامُ بكيف، إنما هو سؤالٌ عن حالةِ شيءٍ موجودٍ متقرر
364
الوجوه عند السائل، والمسؤول؛ نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا: ومتى قلت: كيف ثوبُكَ؟ وكيف زيدٌ؟ فإِنَّما للسؤال عن حالٍ من أحواله، وقد تكون «كَيْفَ» خبراً عن شيءٍ شأنه أَنْ يُسْتفهم عنه بكيف، نحو قولك: كيف شِئتَ فكُنْ، ونحو قول البخاريّ: «كَيْفَ كان بَدْءُ الوَحْي»، و «كَيْفَ» في هذه الآية إِنَّما هي استفهامٌ عن هيئة الإِحياء، والإحياءُ متقرِّرٌ، ولكن لمَّا وجدنا بعض المنكرين لوجود شيءٍ، قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة ذلك الشيء، يعلم أنها لا تصح؛ فيلزم من ذلك أَنَّ الشيء في نفسه لا يصحُّ؛ مثاله أَنٍْ يقول مُدَّعٍ أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذِّب له: أَرِني كيف ترفعه فهذه طريقةُ مجاز في العبارة، ومعناها تسلِيمٌ جدلي، كأنه يقول: افرِض أَنَّكَ ترفعه، فأرني كيف ترفعه فلما كان في عبارة الخليل - عليه الصَّلاة والسَّلام - هذا الاشتراك المجازي، خلص اللهُ له ذلك، وحمله على أَنْ بيَّن له الحقيقة، فقال لله: «أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قال: بَلَى» فكمل الأَمر، وتخلص من كُلِّ شكٍّ.
فإِن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى لم يُسَمِّ عزيراً، بل قال: ﴿أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩]، وها هُنَا سمَّى إبراهيم، مع أَنَّ المقصُودَ في كِلتا القصَّتين شيءٌ واحِدٌ؟!
فالجواب: قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والسببُ فيه: أَنَّ عزيراً لم يحفظِ الأَدَبَ، بل قال
﴿أنى
يُحْيِي
هذه
الله بَعْدَ مَوْتِهَا﴾
[البقرة: ٢٥٩] ولذلك جعل الإِحياء، والإِماتة في نفسه، وإبراهيم - عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام - حفظ الأَدب، ورَاعاهُ؛ فقال أَوَّلاً «رَبِّ» ثُمَّ دعا فقال: ﴿أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾ ولذلك جعل الإِحياء، والإِماتة في الطيور.
قوله: ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن﴾ في هذه الواوِ وجهان:
أظهرهما: أنها للعطفِ قُدِّمت عليها همزةُ الاستفهامِ، لأنها لها صدرُ الكلامِ والهمزةُ هنا للتقريرِ؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي، قَرَّره؛ كقول القائل: [الوافر]
١٢٠٨ - هَوَيْنَنِي وَهَوَيْتُ الخُرَّدَ الْعُرُبَا أَزْمَانَ كُنْتُ مَنُوطاً بِي هَوًى وَصِبَا
١٢١١ - أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
و ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: ١]، المعنى: أنتم خيرُ، وقد شرحنا.
والثاني: أنها واوُ الحالِ، دخلت عليها ألفُ التقرير، قال ابن عطية؛ وفيه نظرٌ من حيث إنها إذا كانَتْ للحالِ، كانت الجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ، وإذا كانت كذلك، استدعَتْ ناصباً، وليس ثمَّ ناصبٌ في اللفظِ، فلا بُدَّ من تقديره؛ والتقديرُ «أَسأَلْتَ وَلَمْ تُؤْمِنْ»، فالهمزةُ في الحقيقة، إِنما دخَلَتْ على العامل في الحالِ. وهذا ليس بظاهر، بل الظاهرُ الأَوَّلُ، ولذلك أُجيبت ببلى، وعلى ما قال ابنُ عطية يَعْسُر هذا المعنى.
وقوله: ﴿بلى﴾ جوابٌ للجملة المنفيَّة، وإنْ صار معناه الإِثبات اعتباراً باللفظ لا
365
بالمعنى، وهذا من قسم ما اعتبر فيه جانبُ اللفظِ دون المعنى، نحو: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ﴾ [البقرة: ٦] وقد تقدَّم تحقيقه واللهُ أَعْلَمُ.
قوله: ﴿لِّيَطْمَئِنَّ﴾ اللامُ لامُ كَيْ، فالفعلُ منصوبٌ بعدها، بإضمار «أَنْ»، وهو مبنيٌّ لاتِّصاله بنون التوكيد واللامُ متعلِّقة بمحذوفٍ بعد «لكنْ» تقديرُه «ولكن سألتُكَ كيفية الإِحياء للاطمئنان، ولا بُدَّ من تقدير حذفٍ آخر، قبل» لكنْ «؛ حتَّى يصحَّ معه الاستدراكُ، والتقديرُ: بلى آمنْتُ، وما سألتُ غير مؤمنٍ، ولكنْ سألتُ ليطمئِنَّ قَلْبي ليحصل الفرقُ بين المعلوم بالبرهان وبين المعلوم عياناً.
قال السُّدِّيُّ، وابن جبير: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِن﴾ بأَنَّكَ خليلي ﴿قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ بالخُلَّةِ.
والطُّمأنينةُ: السكونُ، وهي مصدرُ»
اطمأنَّ «بوزن: اقْشَعَرَّ، وهي على غير قياس المصادر، إذ قياسُ» اطْمَأنَّ «أَن يكون مصدرُه على الاطمئنان. واختلف في» اطْمَأَنَّ «هل هو مقلوبٌ؛ أم لا؟ فمذهب سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه مقلوبٌ من» طَأْمَنَ «، فالفاءُ طاءٌ، والعينُ همزةٌ، واللامُ ميمٌ، فقُدِّمت اللامُ على العينِ فوزنه: افْلَعَلَّ بدليل قولهم: طامنتُه، فتطامَنَ. ومذهبُ الجرمي: أنه غيرُ مقلوب، وكأَنَّه يقول: إِنَّ اطمَأَنَّ وطَأْمَنَ مادَّتانِ مُسْتَقلَّتانِ، وهو ظاهرُ كلام أبي البقاء فإنه قال: والهَمزةُ في» لِيَطْمَئِنَّ «أصلٌ، ووزنه يفعَلِلُّ، ولذلك جاء ﴿فَإِذَا اطمأننتم﴾ [النساء: ١٠٣] مثل:» اقْشَعْرَرْتُمْ «. انتهى. فوزنه على الأصل دونَ القلب، وهذا غيرُ بعيدٍ؛ ألا ترى أَنَّهم في» جَبَذَ، وجَذَبَ، قالوا: ليس أحدهما مقلُوباً من الآخر لاستواءِ المادَّتين في الاستعمال.
ولترجيح كلٍّ من المذهبين موضعٌ غير هذا.

فصلٌ في الداعي على السؤال


ذكروا في سبب سؤال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وجوهاً:
أحدها: قال الحسنُ، والضحاكُ، وقتادةُ، وعطاءٌ، وابن جريج: أَنَّهُ رأى جيفةً مطروحةً على شطّ البحر، قال ابن جريج: جيفة حمارٍ، بساحل البحر وقال عطاءٌ: بحيرة طبريَّة؛ فإذا مَدَّ البحر أكل منها دوابُّ البحر، وإذا جزر البحر، جاءت السِّباعُ وأَكلت، وإذا ذهب السابع، جاءت الطيورُ، فأكلت وطارت، فقال إبراهيم: ربِّ أَرِنِي كيف تجمعُ أجزاءَ الحيوانِ من بطون السباع، والطيور، ودوابِّ البحر؟ فقيل: أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قال: بلى، ولكن المطلُوبُ من السؤال أن يصير العلمُ الاستدلاليُّ ضروريًّا.
366
الثاني: قال محمد بن إسحاق، والقاضي إِنَّ سببهُ أَنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في مناظرته مع النُّمروذ، لما قال: ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨] قال الملعون ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨] فأطلق محبوساً، وقتل رجلاً، فقال إبراهيم ليس هذا بإحياءٍ وإماتة، وإنما الإِحياءُ، أن [الله] يقصد إلى جسد ميِّت فيُحْييه. فقال له نمروذ: أَنتَ عانيته؟ فلم يقدر أن يقول: نعم، فقال له نمروذ: قُل لربّك حتَّى يحيي، وإِلاَّ قتلتك، فسأل اللهَ - تعالى - ذلك.
وقوله: ﴿لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ يعني: بنجاتي من القتل، أو ليطمئِنَّ قلبي بقوة حُجَّتي، وإذا قيل لي: أنت عانيته؟ فأقول: نعم، وأَنَّ عدولي منها إلى غيرها، ما كان بسبب ضعفِ تلك الحُجَّة، بل بسبب جهل [المستمع].
الثالث: قال ابن عباسٍ، وسعيد بن جبير، والسديُّ: إِنَّ الله تعالى أوحى إليه إِنِّي متَّخذٌ بشراً خليلاً، فاستعظم إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذلك، وقال: إِلهي، ما علامةُ ذلك؟ فقال تعالى: علامتُه: أَنْ يُحْيي الميِّت بدعائه فلمَّا عظُم مقام إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في مقام العُبُودية وأداءِ الرسالة خطر بباله إنّي لعلِّي أكون ذلك الخليل فسأل إحياء الميت، فقال الله: أَوَ لَمْ تُؤْمِنُ؟ قال: بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بأَنِّي خليلٌ لك.
الرابع: أنه - عليه السلام - إِنَّما سأل ذلك لقومه؛ لأَنَّ أَتْبَاع الأَنبياءِ كانوا يُطالبونهم بأشياء: تارةً باطلةٌ وتارةً حقة، كقولهم لموسى ﴿اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: ١٣٨] فسأل إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذلك. والمقصودُ أَنْ يُشاهِدَه قومه فيزول الإنكارُ عنهم.
الخامس: قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنَّ الأمَّة لا يحتاجون إلى العلم بأَنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - صادق في ادِّعاء الرسالة إلى معجزة تظهر عليه، فكذلك الرسولُ، عن وصول الملك إليه، وإِخباره بأَنَّ اللهَ بعثه رسولاً يحتاج إلى معجزة تظهرُ على يد ذلك الملك؛ ليعلم الرسولُ أَنَّ ذلك الواصل ملكٌ لا شيطانٌ، فلا يبعد أَن يقال: إنه لمَّا جاء الملك إلى إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأخبره بأن اللهَ بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجزة، فقال ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ على أَنَّ الآتي ملكٌ كريمٌ لا شيطانٌ رجيمٌ.
[قال ابن الخطيب: وعلى قول المتكلمين طلب العلم الضروريِّ، لأَنَّ الاستدلاليَّ مما يتطرقُ إليه الشكوكُ، والشُّبهاتُ، ولعلَّه طالع في الصُّحف المتقدمة أَنَّ
367
عيسى يُحيي الموْتَى بدعائه، ومعنى ﴿لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ على أَني لستُ أَقَلَّ منزلةً من عيسى، أو أَنَّهُ سارع في الطَّاعة بذبح ولده، كأنه قال أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح، ففعلتُ، فأنا أسألُك أن تجعل غير ذي روح رُوحانيّاً؛ ليطمئن قلبي بإجابتك، أو أَنَّ المعنى أَرِني كيف يكونُ الحشرُ يوم القيامة؟ أَي: ليطمئِنَّ قلبي بهذا التشريف أو يكون قصَّة سماع الكلام، لا نفس الإِحياء].
قال ابن الخطيب: وها هنا سؤالٌ صعبٌ، وهو أنَّ الإنسان حال حصول العلم له إمَّا يكون مجوِّزاً لنقيضه أو لا.
فإن جوَّز نقيضه بوجهٍ من الوجوه، فذلك ظنٌّ قويٌّ لا اعتقاد جازم، وإن لم يجوّز نقيضه بوجه من الوجوه، امتنع وقوع التفاوت في المعلوم.
وهذا الإشكال إنما يتوجَّه إذا قلنا: المطلوب هو حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء، أمَّا إذا قلنا: المقصود شيءٌ آخرن فالسؤال زائلٌ.
روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «نَحْنُ أَوْلَى بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ورحم اللهُ لوطاً، لَقَد كَانَ يَأْوِي إلى ركْن شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي» وأخرج مسلم بن الحجَّاج هذا الحديث عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب مثله. وقال: نَحْنُ أحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِني كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى «.
حكى محمد بن إسحاق بن خزيمة عن أبي إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى المزني أنه قال على هذا الحديث: لم يشكَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّ الله قادرٌ على أن يحيي الموتى، وإنَّما شكَّا أنه: هل يجيبهما إلى ما سألاه؟ وقال أبو سليمان الخطَّابي لي في قوله»
نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ «اعترافٌ بالشكِّ على نفسه، ولا على إبراهيم، ولكن فيه نفي الشَّكِّ عنهما يقول: إذا لم أشُكُّ أنا في قدرة الله، على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى ألا يشكَّ، وقال ذلك على سبيل التَّواضع، وهضم النَّفس، فكذلك قوله:» لَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي «وفيه إعلامٌ بأنَّ المسألة من إبراهيم لم تعرض من جهة الشك، لكن من قبل زيادة العلم بالعيان؛ فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال.
368
وقيل: لما نزلت هذه الآية الكريمة قال قوم: شكَّ إبراهيم، ولم يشك نبيُّنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هذا القول تواضعاً منه؛ وتقديماً لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
[قال القرطبيُّ: اختلف النَّاس في هذا السؤال: هل صدر من إبراهيم - عليه الصلاة والسَّلام - عن شكٍّ، أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - شاكّاً في إحياء الله الموتى قطُّ، وإنَّما طلب المعاينة؛ وذلك أنَّ النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به؛ ولهذا قال - عليه السلام -: «لَيْسَ الخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» رواه ابن عباس قال أبو عمر: لم يروه غيره].
قوله: ﴿مِّنَ الطير﴾ في متعلِّقه قولان:
أحدهما: أنه محذوفٌ لوقوع الجارِّ صفةً لأربعة، تقديره: أربعةً كائنةً من الطير.
والثاني: أنه متعلقٌ بخذ، أي: خذ من الطير.
و «الطير» اسم جمع، كركبٍ وسفر، وقيل: بل هو جمع طائرٍ، نحو: تاجر وتجر، وهذا مذهب أبي الحسن. وقيل: بل هو مخفَّف من «طَيَّر» بتشديد [الياء]، كقولهم: «هَيْن ومَيْت» في «هَيِّن ومَيِّت.
قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ:»
هو في الأصل مصدر طارَ يطِير، ثم سمِّي به هذا الجنسُ «. فتحصَّل فيه أربعة أقوال.
وجاء جرُّه ب»
مِنْ «بعد العدد على أفصح الاستعمال، إذ الأفصح في اسم الجمع في باب العدد أن يفصل بمن كهذه الآية الكريمة، ويجوز الإضافة كقوله تعالى: ﴿تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾ [النمل: ٤٨] ؛ وقال ذلك القائل: [الوافر]
369
وزعم بعضهم: إن إضافته نادرةٌ، لا يقاس عليها، وبعضهم: أنَّ اسم الجمع لما يعقل مؤنث، وكلا الزعمين ليس بصوابٍ؛ لما تقدَّم من الآية الكريمة، واسم الجمع لما لا يعقل يذكَّر، ويؤنَّث؛ وهنا جاء مذكراً لثبوت التاء في عدده.
قوله: ﴿فَصُرْهُنَّ﴾ قرأ حمزة، والكسائي: بكسر الصَّاد، والباقون: بضمِّها، وتخفيف الراء. واختلف في ذلك، فقيل: القراءتان يحتمل أن تكونا بمعنًى واحدٍ، وذلك أنه يقال: صاره يصوره ويَصِيرُهُ، بمعنى قطعه، أو أماله، فاللغتان لفظٌ مشتركٌ بين هذين المعنيين، والقراءتان تحتملهما معاً، وهذا مذهب أبي عليّ.
وقال الفراء:» الضمُّ مشتركٌ بين المعنيين، وأمَّا الكسر: فمعناه القطع فقط «.
وقال غيره:»
الكَسْرُ بمعنى القطع، والضمُّ بمعنى الإمالة «. يقال رجل أصور، أي: مائلُ العنق، ويقال: صار فلان إلى كذا، إذا قال به، ومال إليه، وعلى هذا يصير في الكلام محذوفٌ، كأنه قيل أملهنَّ إليك، وقطِّعهنَّ.
وقال ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد: صرهنَّ بالضم: بمعنى قطِّعهنَّ، يقال صار الشَّيء يصوره صوراً، إذا قطعه، قال رؤبة يصف خصماً ألد: [الرجز]
١٢١٣ - صُرْنَاهُ بِالحُكْمِ وَيَبْغِي الحَكَمَا... أي: قطعناهُ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار، وقال عطاء: معناه اجمعهنَّ، واضممهنَّ إليك، يقال: صار يصور صوراً، إذا اجتمع، ومنه قيل لجماعة النَّحل: صورٌ.

فصل في لفظ «الصِّرِّ» في القرآن


قال أبو العبَّاس المقرئ: ورد لفظ الصِّرِّ في القرآن على ثلاثة أوجهٍ:
الأول: بمعنى القطع؛ كهذه الآية، أي: قطِّعهنَّ إليك صوراً.
الثاني: بمعنى الريح الباردة، قال تعالى: ﴿رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ [آل عمران: ١١٧] أي: بردٌ.
الثالث: يعني الإقامة على الشيء؛ قال تعالى ﴿وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ﴾ [آل عمران: ١٣٥]، أي: لم يقيموا، ومثله: ﴿وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم﴾ [الواقعة: ٤٦].
370
ونقل عن الفرَّاء أيضاً: أنه قال: «صَارَه» مقلوبٌ من قولهم: «صَرَاهُ عَنْ كَذَا»، أي: قطعه عنه، ويقال: صُرْتُ الشيء، فانصار، أي: انقطع؛ قالت الخنساء: [البسيط]
١٢١٢ - ثَلاثَةَ أَنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي
١٢١٤ - فَلَوْ يُلاَقِي الَّذي لاَقَيْتُهُ حَضِنٌ لَظَلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهْيَ تَنْصَارُ
أي: تنقطع.
قال المبرد: وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ كلَّ واحد من اللفظين أصل بنفسه فرع على الآخر.
واختلف في هذه اللفظة: هل هي عربيةٌ، أو معرَّبة؟ فعن ابن عباس: أنها معرَّبة من النَّبطية، وعن أبي الأسود، أنَّها من السُّريانية، والجمهور على أنها عربيةٌ، لا معرَّبةٌ.
و «إِلَيْكَ» إن قلنا: إِنَّ «صُرْهُنَّ» بمعنى أملهنَّ: تعلَّق به، وإن قلنا: إنه بمعنى: قطِّعهنَّ، تعلَّق ب «خُذْ».
ولمَّا فسَّر أبو البقاء «فَصُرْهُنَّ» بمعنى: أَمْلْهُنَّ «قدَّر محذوفاً بعده تقديره: فأملهنَّ إليك، ثم قطِّعهنَّ، ولمَّا فسَّره بقطِّعهن - كما تقدم - قدَّر محذوفاً يتعلَّق به» إِلَى «تقديره: قطِّعهنَّ بعد أن تميلهنَّ إليك. ثم قال:» والأجودُ عندي أن يكون «إليك» حالاً من المفعول المضمر تقديره: فقطِّعهنَّ مقرَّبةً إليك، أو ممالةً، أو نحو ذلك «.
وقرأ ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -:»
فَصُرْهُنَّ «بتشديد الراء، مع ضم الصاد وكسرها، مِنْ: صرَّه يَصُرّه، إذا جمعه؛ إلاَّ أنَّ مجيء المضعَّف المتعدِّي على يفعل - بكسر العين في المضارع - قليلٌ.
ونقل أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى عمَّن شدَّد الراء: أنَّ منهم من يضمُّها، ومنهم من يفتحها، ومنهم من يكسرها، مثل:»
مُدَّهُنَّ «فالضمُّ على الإتباع، والفتح للتخفيف، والكسر على أصل التقاء الساكنين.
قال القرطبي: قرئ»
صَرِّهِنَّ «بفتح الصاد، وتشديد الراء مكسورة؛ حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة؛ بمعنى فاحبسهنَّ، من قولهم:» صرَّى يُصَرِّي «: إذا حبس، ومنه الشاة المصرَّاة، قال القرطبي: وها هنا اعتراضٌ ذكره الماوردي، وهو أن يقال: كيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى - عليه السلام - في قوله: ﴿رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٤٣] ؟
371
فعنه جوابان:
أحدهما: أن ما سأله موسى لا يصحُّ مع بقاء التكليف، وما سأله إبراهيم خاصٌّ يصحُّ معه بقاء التكليف.
الثاني: أن الأحوال تختلف، فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة، وفي قوتٍ آخر المنع، فيما لا يتقدَّم فيه إذنٌ.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أمر الله تعالى إبراهيم بهذا، قبل أن يولد، وقبل أن ينزل عليه الصُّحف.

فصل في الطير المأخوذة


قال مجاهدٌ، وعطاءٌ، وابن جريج: أخذ طاووساً، وديكاً، وحمامةً، وغراباً. ونقل عن ابن عباس: ونسراً بدل الحمامة. وقال عطاء الخراساني: بطَّة خضراء، وغراباً أسود، وحمامةً بيضاء، وديكاً أحمر «فَصُرْهُنَّ» أي: قطِّعهنَّ، ومزقهن، وقيل أملهُنَّ على ما تقدَّم.

فصل في الحكمة في نوع الطير وعدده


وها هنا سؤالات:
الأول: ما الحكمة في كونه أمره بأخذ أربعةٍ من الطير، ولم يأمره بأكثر، ولا بأقل؟ ﴿
الثاني: ما الحكمة في كونها من الطير، دون غيرها من الحيوان؟﴾

الثالث: هل كان من حيوان البحر، ثم الوحش، والطير وبهم الأنعام؟
الرابع: هل كان الأربعة كلُّ واحدٍ مخلوقٌ من غالب عنصرٍ من العناصر الأربعة، كالطير، مخلوق من غالب عنصر الهواء، والسمك مخلوق من غالب عنصر الماء، وحيوان البرّ مخلوقٌ من غالب عنصر التراب، وسراج البحر، والدرّاج التي هي تطيرُ بالليل كلُّها نارٌ، والسَّمندل الذي يعيش في النار فإنهم مخلوقون من غالب عنصر النار.
372
فإن قيل: ما الفائدة في أمره بضمِّها إلى نفسه بعد أخذها؟
فالجواب: فائدته أن يتأمل فيها، ويعرف أشكالها، وهيئاتها؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء، ولا يتوهَّم أنَّها غير تلك، وأجمع المفسِّرون على أن المراد من الآية الكريمة قطعهن، وأنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قطع أعضاءها، ولحومها، وريشها، ودماءها، وخطل بعضها ببعضٍ؛ غير أبي مسلم؛ فإنه أنكر ذلك، وقال: إنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما طلب إحياء الميت من الله تعالى، أراه مثالاً قرب به الأمر عليه.
والمراد ب ﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ الإمالةُ والتمرين على الإجابة، وتعلمها، أي: فعوَّد الطير الأربعة، بحيث تصير إذا دعوتها، أجابتك. والغرض منه ذكر مثالٍ محسوسٍ في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر القول بأن المراد منه: فقطعهن.
واحتجَّ على ذلك بوجوهٍ:
أحدها: أنَّ المشهور في قوله: «فَصُرْهُنَّ» أي: أملهنَّ، وأمَّا التقطيع والذبح، فليس في الآية ما يدل عليه، فكان إدراجه في الآية الكريمة زيادة بغير دليل، وهو لا يجوز.
وثانيها: لو كان المراد قطِّعهنَّ، لم يقل إليك؛ فإنَّ ذلك لا يتعدى بإلى.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديمٌ، وتأخيرٌ، تقديره: فخذ إليك أربعةً من الطير، فصرهن؟
قلنا: التزام التقديم والتَّأخير من غير ضرورة خلاف الظاهر.
وثالثها: أن الضمير في قوله: ﴿ثُمَّ ادعهن﴾ عائدٌ إليها لا إلى أجزائها، وإذا كانت الأجزاء متفرقةً، وكان الموضوع على كلِّ جبلٍ بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائداً إلى تلك الأجزاء لا إليها، وهو خلاف الظاهر، وأيضاً في قوله: ﴿يَأْتِينَكَ سَعْياً﴾ عائد إليها، لا إلى أجزائها، وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض، كان الضمير في «يَأْتِينَكَ» عائداً إلى أجزائها لا إليها.
373
واحتجَّ الجمهور بوجوهٍ:
الأول: أنَّ المفسِّرين قبل أبي مسلم أجمعوا على أنه ذبح تلك الطيور، وقطَّعها أجزاءً، فيكون إنكار ذلك إنكاراً للإجماع.
الثاني: أنَّ ما ذكره غير مختصٍّ بإبراهيم؛ فلا يكون له فيه مزية على الغير.
الثالث: أن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - إنما أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى، وظاهر الآية، يدلُّ على أنه أجيب إلى ذلك، وعلى قول أبي مسلمٍ لم تحصل الإجابة في الحقيقة.
الرابع: أنَّ قوله ﴿ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا﴾ يدلُّ على أنَّ تلك الطيور جعلت أجزاءً.
قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه: إنَّه أضاف الجزء إلى الأربعة، فيجب أن يكون المراد بالجزء، هو الواحد من تلك الأربعة.
وأُجيب بأنَّ ما ذكرتم، وإن كان محتملاً إلاَّ أنَّ ما ذكرناه أظهر، والتقدير: فاجعل على كل جبلٍ من كلِّ واحدٍ منهن جزءاً أو بعضاً.
قوله: ﴿ثُمَّ اجعل﴾ «جَعَلَ» يحتمل أن يكون بمعنى الإلقاء، فيتعدَّى لواحدٍ، وهو «جُزْءاً»، فعلى هذا يتعلَّق «عَلَى كُلِّ» و «مِنْهُنَّ» ب «اجعل»، وأن يكون بمعنى «صَيَّر»، فيتعدَّى لاثنين، فيكون «جُزءاً» الأول، و «عَلَى كُلِّ» هو الثاني، فيتعلَّق بمحذوفٍ.
و «منهنَّ» يجوز أن يتعلَّق على هذا بمحذوفً على أنَّه حالٌ من «جُزْءاً»، لأنه في الأصل صفة نكرة، فلمَّا قُدِّم عليها، نصب حالاً.
وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً ل «اجْعَلْ» يعني: إذا كانت «اجْعَلْ» بمعنى «صَيَّر»، فيكون «جُزْءاً» مفعولاً أول، و «منهنَّ» مفعولاً ثانياً قدِّم على الأول، ويتعلَّق حينئذٍ بمحذوف. [ولا بد من حذف صفةٍ مخصِّصة بعد] قوله: «كُلِّ جَبَلٍ» تقديره: «عَلَى كُلِّ جبلٍ بحضرتك، أو يليك» حتى يصحَّ المعنى.
وقرأ الجمهور: «جُزْءاً» بسكون الزاي والهمز، وأبو بكر ضمَّ الزاي، وأبو جعفر شدَّد الزاي، من غير همزٍ؛ ووجهها: أنَّه لمَّا حذف الهمزة، وقف على الزاي، ثم ضعَّفها، كما قالوا: «هذا فَرَجّ»، ثم أُجري الوصل مجرى الوقف. وقد تقدم تقرير ذلك عند قوله: ﴿هُزُواً﴾ [البقرة: ٦٧]. وفيه لغةٌ أخرى وهي: كسر الجيم.
374
قال أبو البقاء: «وَلاَ أَعْلَمُ أَحَداً قرأ بها». والجزء: القطعة من الشيء، وأصل المادَّة يدلُّ على القطع، والتفرق، ومنه: التجزئة والأجزاء.

فصل في المعنيِّ بالجبل في الآية


ظاهر قوله: ﴿على كُلِّ جَبَلٍ﴾ جميع جبال الدنيا، فذهب مجاهد، والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان، كأنه قيل: فرقها على كلِّ جبلٍ يمكنك التفرقة عليه.
وقال ابن عبَّاس، والحسن، وقتادة، والربيع: أُمر أن يجعل كلَّ طائرٍ أربعة أجزاءٍ، ويجعلها على أربعة أجبلٍ، على كل جبلٍ ربعاً من كل طائرٍ.
وقيل: على حسب الجهات الأربع: أعني المشرق، والمغرب، والشمال، والجنوب. وقال السديُّ، وابن جريج: سبعةٌ من الجبال؛ لأنَّ المراد على كل جبل يشاهده إبراهيم حتى يصح منه دعاء الطائر، وكانت الجبال التي يشاهدها - عليه الصَّلاة والسَّلام - سبعةٌ.
قوله: ﴿يَأْتِينَكَ﴾ جواب الأمر، فهو في محلِّ جزمٍ، ولكنه بُني لاتصاله بنون الإناث.
قوله: ﴿سَعْياً﴾ فيه أوجه:
أحدها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال من ضمير الطير، أي: يَأتينك ساعياتٍ، أو ذوات سعي.
والثاني: أن يكون حالاً من المخاطب، ونقل عن الخليل ما يقوِّي هذا، فإنه روي عنه: «أن المعنى: يأتينك وأنت تسعى سعياً» فعلى هذا يكون «سعياً» منصوباً على المصدر، وذلك الناصب لهذا المصدر في محلِّ نصب على الحال من الكاف في «يَأْتِينَكَ». قال شهاب الدين: والذي حمل الخليل - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا التقدير؛ أنه لا يقال عنده: «سَعَى الطائرُ» فلذلك جعل السَّعي من صفات الخليل - عليه السلام - لا من صفة الطيور.
الثالث: أن يكون «سَعْياً» منصوباً على نوع المصدر؛ لأنه نوعٌ من الإتيان، إذ هو إتيانٌ بسرعةٍ، فكأنه قيل: يأتينك إتياناً سريعاً.
وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكون مصدراً مؤكِّداً؛ لأنَّ السعي، والإتيان يتقاربان»، وهذا فيه نظرٌ؛ لأن المصدر المؤكِّد لا يزيد على معنى عامله، إلاَّ أنه تساهل في العبارة.
375

فصل في معنى «سَعْياً»


قيل: معنى «سَعْياً» عدواً ومشياً على أرجلهنَّ؛ لأن ذلك أبلغ في الحجة.
وقيل: «طَيَراناً». ولا يصحُّ؛ لأنه لا يقال للطائر إذا طار: سعى، ومنهم من أجاب عنه: بأن «السَّعْي» هو الاشتداد في الحركة، فإن كانت الحركة طيراناً، فالسَّعيُ فيها هو الاشتداد في تلك الحركة.
روي أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذبحها، ونتف ريشها، وقطَّعها أجزاءً، وخلط لحمها، وريشها، ودمها، ووضع على كلِّ جبلٍ جزءاً من ذلك المجموع، وأمسك رؤوسهن، ثم دعاهنَّ فقال: تَعَالَيْن بإذن الله تعالى، فجعلت كلُّ قطرةٍ من دم طائرٍ تطير إلى القطرة الأخرى، وكل عظم يصير إلى الآخر من جثَّته، وكل بضعةٍ تصير إلى الأخرى، وإبراهيم - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - ينظر؛ حتى لقيت كل جثَّة بعضها بعضاً في الهواء بغير رأسٍ، ثم أقبلن إلى رؤوسهنَّ سعياً: كلّث جثَّةٍ إلى رأسها، فانضمَّ كلَّ رأسٍ إلى جثَّته، وصار الكلُّ أحياءً بإذن الله. ﴿واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ﴾ غالبٌ على جميع الممكنات ﴿حَكِيمٌ﴾ عالمٌ بعواقب الأمور، وغاياتها.
376
لمَّا بين تعالى أصل العلم بالمبدأ، والمعاد، وبيَّن دلائل صحَّتها، أتبع ذلك ببيان الشرائع، والأحكام، فبدأ ببيان التكليف، بالإنفاق.
قال القاضي في كيفية النَّظم: إنه تعالى لمَّا أجمل قوله تعالى ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾ [البقرة: ٢٤٥] فصل بهذه الآية الكريمة تلك الأضعاف، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلَّة على قدرته بالإحياء والإماتة، من حيث: لولا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق، لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب، لكان الإنفاق، وسائر الطاعات عبثاً فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق: قد عرفت أنِّي خلقتك، وأكملت نعمتي عليك، بالإحياء، والإقدار، وقد علمت قدرتي على المجازاة، فليكن علمك بهذه الأحوال داعياً إلى إنفاق المال؛ فإنه يجازي القليل بالكثير، ثمَّ ضرب لذلك الكثير مثلاً.
وقال الأصم: إنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتجّ على الكلِّ بما يوجب تصديق النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ ليرغبوا بالمجاهدة بالنفس، والمال، في نصرته، وإعلاء شريعته.
376
وقيل: لما بيَّن تعالى أنَّه وليُّ المؤمنين، وأن الكفَّار أولياؤهم الطاغوت، بيَّن مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله، وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت.

فصل في سبب نزول الآية


[روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفَّان، وعبد الرحمن بن عوف]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ «وذلك أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما حثَّ الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة» تَبُوك «، جاءه عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم، فقال: يا رسول الله، كان عندي ثمانية آلافٍ، فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلافٍ، وأربعة آلافٍ أقرضتها لربِّي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ وَفِيمَا أَعْطَيْتَ «وقال عثمان: يا رسول الله، عليَّ جهاز من لا جهاز له؛ فنزلت هذه فيهما.
وروى البستي عن ابن عمر، قال:»
لما نزلت هذه الآية قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «رَبِّ، زِدْ أُمَّتِي» ؛ فنزلت: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾ [البقرة: ٢٤٥] قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رَبِّ، زِدْ أُمَّتِي»، فنزلت ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: ١٠].
قوله «مَثَلُ» مبتدأُ، و «كَمَثَلِ حَبَّةٍ» خبره. ولا بدَّ من حذفٍ، حتى يصحَّ التشبيه؛ لأنَّ الذين ينفقون لا يشبَّهون بنفس الحبة.
واختلف في المحذوف، فقيل: من الأول، تقديره: ومثل منفق الذين، أو نفقة الذين.
وقيل: من الثاني، تقديره: ومثل الذين ينفقون كزارع حبةٍ؛ أو من الأول، والثاني باختلاف التقدير، أي: مثل الذين ينفقون، ونفقتهم كمثل حبَّةٍ وزارعها.
وهذه الأوجه قد تقدَّم تقريرها محررةً عند قوله تعالى:
﴿وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ﴾ [البقرة: ١٧١]. والقول بزيادة الكاف، أو «مِثْلَ» بعيدٌ جدّاً، فلا يلتفت إليه.
377
والحبَّة: واحدة الحبِّ، وهو ما يزرع للاقتيات، وأكثر إطلاقه على البر، قال المتلمِّس: [البسيط]
١٢١٥ - آلَيْتُ حَبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُهُ وَالحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ
و «الحِبَّة» بالكسر: بذور البقل ممَّا لا يقتات به، و «الحُبَّة» بالضَّمِّ: الحُبُّ.
والحُبُّ: المحبة، وكذلك «الحِبّ» بالكسر، والحِبُّ أيضاً: الحبيب، وحبة القلب سويداؤه، ويقال ثمرته، وهو ذاك.
قوله: ﴿أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾ أي: أخرجت وهذه الجملة في محلِّ جرٍّ؛ لأنها صفةٌ لحبة، كأن قيل: كمثل حبَّةٍ منبتةٍ.
وأدغم تاء التأنيث في سين «سَبْع» أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وهشامٌ. وأظهر الباقون، والتاء تقارب السين، ولذلك أُبدلت منها؛ قالوا: ناسٌ، وناتُ، وأكياسٌ، وأكياتٌ؛ قال: [الرجز]
١٢١٦ - عَمْرو بْنَ يَرْبُوعٍ شِرَارَ النَّاتِ لَيْسُوا بَأَجْيَادٍ وَلاَ أَكْيَاتِ
أي: شرار الناس، ولا أكياسِ.
وجاء التَّمييز هنا على مثال مفاعل، وفي سورة يوسف مجموعاً بالألف والتَّاء، فقال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: هلاَّ قيل:» سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ «على حقِّه من التمييز بجمع القلَّة، كما قال: ﴿وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ﴾ [يوسف: ٤٣ و٤٦]. قلت: هذا لما قدَّمت عند قوله: ﴿ثَلاَثَةَ قرواء﴾ [البقرة: ٢٢٨] من وقوع أمثلة الجمع [متعاورةً] مواقعها».
يعني: أنه من باب الاتساع، ووقوع أحد الجمعين موقع الآخر، وهذا الذي قاله ليس بمخلِّص، [ولا محَصِّلٍ]، فلا بدَّ من ذكر قاعدةٍ مفيدة في ذلك:
قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اعلم أن جمعي السَّلامة لا يميَّز بهما عددٌ إلا في موضعين:
أحدهما: ألا يكون لذلك المفرد جمعٌ سواه، نحو: سبع سموات، وسبع بقرات، وسبع سنبلات، وتسع آيات، وخمس صلوات، لأنَّ هذه الأشياء لم تجمع إلا جمع السلامة، فأمَّا قوله: [الطويل]
١٢١٧ -.......................................
378
فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَا
فشاذٌ، منصوصٌ على قلَّته، فلا يلتفت إليه.
والثاني: أن يعدل إليه لمجاوزة غيره، كقوله: ﴿وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ﴾ [يوسف: ٤٣ و٤٦] عدل من «سَنَابِلَ» إِلى «سُنْبُلاَتٍ» ؛ لأجل مجاورته «سَبْعَ بَقَرات»، ولذلك إذا لم توجد المجاورة، ميِّز بجمع التكسير دون جمع السلامة، وإن كان موجوداً نحو: «سَبْعَ طَرَائِق، وسَبْعِ لَيَالٍ» مع جواز: طريقات، وليلات.
والحاصل أنَّ الاسم إذا كان له جمعان: جمع تصحيح، وجمع تكسيرٍ، فالتكسير إمَّا للقلة، أو للكثرة، فإن كان للكثرة: فإمَّا من باب مفاعل، أو من غيره، فإن كان من باب مفاعل، أُوثر على التصحيح، تقول: ثلاثة أحَامِدَ، وثَلاَثُ زَيَانِبَ، ويجوز قليلاً: أَحْمَدِينَ وَزَيْنَبَات.
وإن كان من غير باب مفاعل: فإمَّا أن يكثر فيه من غير التصحيح، وغير جمع الكثرة، أو يقلَّ.
فإن كان الأول: فلا يجوز التصحيح، ولا جمع الكثرة إلا قليلاً؛ نحو: ثَلاثَةُ زُيُودٍ، وَثَلاثُ هُنُودٍ، وثَلاَثَةُ أَفْلُسٍ، ولا يجوز: ثلاثةُ زيْدِينَ، ولا ثَلاَثُ هِنْدَات، ولا ثَلاَثةُ فُلُوسٍ، إلاَّ قليلاً.
وإن كان الثاني: أُوثر التصحيح وجمع الكثرة، نحو: ثلاثُ سُعَادَات، وثلاثة شُسُوع، وعلى قلّة يجوز: ثَلاثُ سَعَائد، وثلاثةُ أشْسُع. فإذا تقرَّر هذا، فقوله: «سَبْعَ سَنَابِلَ» جاء على المختار، وأمَّا قوله «سَبْعِ سُنْبُلاَتٍ» ؛ فلأجل المجاورة كما تقدَّم.
وقيل: لمَّا كان الكلام - ها هنا - في تضعيف الأجر، ناسبها جمع الكثرة، وفي سورة يوسف ذكرت في سياق الكلام في سني الجدب؛ فناسبها التقليل؛ فجمعت جمع القلة.
والسُّنْبُلَةُ فيها قولان:
أحدهما: أنَّ نونها أصليةٌ؛ لقولهم: «سَنْبَلَ الزرعُ» أي: أخرج سنبله.
والثاني: أنها زائدةٌ، وهذا هو المشهور؛ لقولهم: «أَسْبَلَ الزرعُ»، فوزنها على الأول: فُعلُلَةٌ، وعلى الثاني: فُنْعُلَة، فعلى ما ثبت من حكاية اللُّغتين: سَنْبَلَ الزرعُ، وأسْبَلَ تكون من باب سَبِط وسِبَطْر.
قال القرطبي: من أسْبَلَ الزرعُ: إذا صار فيه السُّنبل، كما يسترسل الستر بالإسبال وقيل: معناه: صار فيه حبٌّ مستورٌ، كما يستر الشيء بإسبال السَّتر عليه.
379
قوله: ﴿فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ﴾ هذا الجارُّ في محلِّ جر؛ صفةً لسنابل، أو نصبٍ؛ صفةً لسبع، نحو: رأيت سبع إماءٍ أحرارٍ، وأحراراً، وعلى كلا التقديرين فيتعلَّق بمحذوفٍ.
وفي رفع «مئة» وجهان:
أحدهما: بالفاعلية بالجارِّ؛ لأنه قد اعتمد إذ قد وقع صفةً.
والثاني: أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره، والجملة صفةٌ، إمَّا في محلِّ جرٍّ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم، إلاَّ أنَّ الوجه [الأول] أولى؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات، دون الجمل. ولا بدَّ من تقدير حذف ضميرٍ، أي: في كلِّ سنبلة منها، أي: من السنابل.
والجمهور على رفع: «مِئَة» على ما تقدَّم، وقرئ: بنصبها.
وجوَّز أبو البقاء في نصبها وجهين:
أحدهما: بإضمار فعلٍ، أي: أَنْبَتَتْ، أو أَخْرَجَتْ.
والثاني: أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره، والجملة صفةٌ، إمَّا في محلِّ جرٍّ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم، إلاَّ أنَّ الوجه [الأول] أولى؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات، دون الجمل. ولا بدَّ من تقدير حذف ضميرٍ، أي: في كلِّ سنبلة منها، أي: من السنابل.
والجمهور على رفع: «مِئَة» على ما تقدَّم، وقرئ: بنصبها.
وجوَّز أبو البقاء في نصبها وجهين:
أحدهما: بإضمار فعلٍ، أي: أَنْبَتَتْ، أو أَخْرَجَتْ.
والثاني: أنها بدلٌ من «سَبْعِ»، وردَّ بأنَّه لا يخلو: إمَّا أن يكون بدل [كلِّ] من كلٍّ، أو بدل بعضٍ من كلٍّ، أو بدل اشتمالٍ.
فالأول: لا يصحُّ؛ لأنَّ المائة ليست كلَّ السبع سنابل.
والثاني: لا يصحُّ - أيضاً؛ لعدم الضمير الراجع على المبدل منه، ولو سلِّم عدم اشتراط الضمير، فالمئة ليست بعض السبع؛ لأنَّ المظروف ليس بعضاً للظرف، والسنبلة ظرفٌ للحبة، ألا ترى قوله: ﴿فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ﴾ فجعل السُّنْبُلَة وعاءٌ للحَبِّ.
والثالث - أيضاً - لا يصحُّ؛ لعدم الضَّمير، وإن سُلِّم، فالمشتمل على «مِئَةِ حَبَّةٍ» هو سنبلة من سبع سنابل، إلا أن يقال إنَّ المشتمل على المشتمل على الشيء، هو مشتملٌ على ذلك الشيء، فالسنبلة مشتملةٌ على مائة والسنبلة مشتمل عليها سبع سنابل، فلزم أنَّ السبع مشتملةٌ على «مائة حبة».
وأسهل من هذا كلِّه أن يكون ثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: حبَّ سَبْع سَنَابِلَ، فعلى هذا يكون «مِئَةُ حَبَّةٍ» بدل بعضٍ من كل.

فصل في المقصود بسبيل الله


معنى ﴿يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ يعني: دينه، قيل: أراد النفقة في الجهاد خاصَّةً، وقيل: جمع أبواب الخير من الواجب والنَّفل.
قال القرطبيُّ: شبَّه المتصدِّق بالزَّارع، وشبَّه البذر بالصدقة، فيعطيه بكل صدقةٍ
380
له سبعمائة حسنة، ثمَّ قال ﴿والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ﴾ يعني على سبعمائة، فيكون مثل المتصدق مثل الزَّارع، إن كان حاذقاً في عمله فيكون البذر جيّداً، وتكون الأرض عامرةً يكون الزرع أكثر، فكذلك المتصدق إذا كان صالحاً، والمال طيِّباً، ويضعه موضعه، فيصير الثواب أكثر.
فإن قيل: لم نر سُنبُلَةً فيها مائة حبَّةٍ، فكيف ضرب المثل بها؟
فالجواب: قال القفَّال: المقصود أنه لو علم طالب الزيادة والرِّبح أنَّه إذا بذر حبَّةً واحدةً، أخرجت له سبعمائة حبةٍ ما كان ينبغي له ترك ذلك، فكذلك ينبغي لطالب الآخرة والأجر عند الله ألاَّ يتركه إذا علم أنه يحصل له على الواحدة عشرة ومائة وسبعمائة، وإذا كان المراد منه هذا المعنى فسواء وجدت هذه السنبلة، أو لم توجد، فإنَّ المعنى حاصل مستقيم. وقيل: وجد ذلك في الدُّخن.
﴿والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ﴾.
قيل: معناه يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء.
وقيل يضاعف على هذا، ويزيد لمن يشاء، ما بين سبع إلى سبعين، إلى سبعمائة، إلى ما شاء الله من الأضعاف، مما لا يعلمه إلا الله تعالى. ﴿والله وَاسِعٌ﴾ أي: القدرة على سبيل المجازاة على الجود، والإفضال عليهم بنية من ينفق ماله.

فصل في الاستدلال بالآية على فضل الزراعة


قال القرطبيُّ: دلَّت هذه الآية على أنَّ حرفة الزَّرع من أعلى الحرف، التي يتخذها الناس، والمكاسب التي يشتغل بها العمَّال، ولذلك ضرب الله به المثل وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً، أو يَزْرَعُ زَرْعاً فَتأَكْلُ مِنْهُ الطَّيْرُ، أو إِنْسَانٌ، أوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَة» رواه مسلم.
وروى الترمذي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالت -: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «الْتَمِسُوا الرِّزْقَ في خَبَايَا الأَرْضِ»، يعني: الزَّرع، والزِّراعة من فروض الكفايات،
381
يجب على الإمام أن يجبر النَّاس عليها، وما كان في معناها من غرس الأشجار.
382
﴿الذين يُنْفِقُونَ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداء، وخبره الجملة من قوله تعالى: ﴿لَّهُمْ أَجْرُهُمْ﴾، ولم يضمَّن المبتدأ هنا معنى الشَّرط، فلذلك لم تدخل الفاء في خبره، لأنَّ القصد بهذه الجملة تفسير الجملة التي قبلها؛ لأنَّ الجملة قبلها أخرجت مخرج الشَّيء الثَّابت المفروغ منه، وهو تشبيه نفقتهم بالحبَّة المذكورة، فجاءت هذه الجملة كذلك، والخبر فيها أُخرج مخرج الثَّابت المستقرِّ غير المحتاج إلى تعليق استحقاق بوقوع [غيره] ما قبله.
والثاني: أنَّ ﴿الذين﴾ خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: هم الذين ينفقون، وفي قوله: ﴿لَّهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ على هذا وجهان:
أحدهما: أنَّها في محل نصبٍ على الحال.
والثاني: - وهو الأولى - أن تكون مستأنفةٌ، لا محلَّ لها من الإعراب، كأنها جواب سائل قال: هل لهم أجرٌ؟ وعطف ب «ثمّ» جَرْياً على الأغلب؛ لأنَّ المتصدِّق لغير وجه الله لا يحصل منه المنُّ عقيب صدقته، ولا يؤذي على الفور، فجرى هذا على الغالب، وإن كان حكم المنِّ والأذى الواقعين عقيب الصّدقة كذلك.
قال الزَّمخشريُّ: ومعنى «ثُمَّ» : إظهار التَّفاوت بين الإنفاق، وترك المنِّ والأذى، وأنَّ تركهما خبرٌ من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدُّخول فيه بقوله: ﴿ثُمَّ استقاموا﴾ [فصلت: ٣٠]، فجعلها للتَّراخي في الرُّتبة، لا في الزَّمان، وقد تكرَّر له ذلك غير مرَّةٍ.
و «مَا» في قوله تعالى: ﴿مَآ أَنْفَقُواُ﴾ يجوز أن تكون موصولةً اسميّةً، فالعائد محذوفٌ، أي: ما أنفقوه، وأن تكون مصدريةً، فلا تحتاج إلى عائدٍ، أي: لا يتبعون إنفاقهم. ولا بدَّ من حذفٍ بعد «مَناً»، أي: مناً على المنفق عليه، ولا أذى له، فحذف للدّلالة عليه.
والمنُّ: الاعتداد بالإحسان، وهو في الأصل: القطع، ولذلك يطلق على النِّعمة؛ لأنَّ المنعم يقطع من ماله قطعةً للمنعم عليه. يقال: قد منَّ الله على فلان، إذا أنعم عليه، ولفلان عليَّ منَّةٌ، أي: نعمة؛ وأنشد ابن الأنباريّ: [الطويل]
382
ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «ما مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَمَنَّ عَلَيْنَا في صُحْبَتِهِ، وَلاَ ذَات يَدِهِ مِنْ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ» يريد أكثر إنعاماً بماله، وأيضاً فالله تعالى يوصف بأنَّه منَّانٌ، أي: منعمٌ، و «المنّ» أيضاً النَّقص من الحقّ. قال تبارك وتعالى: ﴿وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ [القلم: ٣] أي: غير مقطوع وغير ممنوع؛ ومنه سمي الموت منوناص؛ لأنه ينقص الحياة، ويقطعها، ومن هذا الباب: المنَّةُ المذمومة؛ لأنَّها تنقص النّعمة، وتكدّرها، والعرب يمتدحون بترك المنّ بالنِّعمة قال قائلهم: [الرمل]
١٢١٨ - فَمُنِّي عَلَيْنَا بالسَّلاَمِ فَإِنَّمَا كَلاَمُكِ يَاقُوتٌ وَدُرٌّ مُنَظَّمٌ
١٢١٩ - زَادَ مَعْرُوفُكَ عِنْدِي عِظَماً أَنَّهُ عِنْدَكَ مَسْتُورٌ حَقِيرْ
تَتَنَاسَاهُ كَأَنْ لَمْ تَأْتِهِ وَهْوَ في العَالَمِ مَشْهُودٌ كَثِيرْ
والمنُّ: الذي يوزن به، ويقال في هذا: «مَنَا» مثل: عَصَا. وتقدَّم اشتقاق الأذى.
و «مَنّاً» مفعولٌ ثانٍ، و «لاَ أَذًى عطفٌ عليه، وأبعد من جعل» وَلاَ أَذًى «مستأنفاً، فجعله من صفات المتصدِّق، كأنَّ قال: الذين ينفقون، ولا يتأذَّون بالإِنفاق، فيكون» أَذى «اسم لا، وخبرها محذوفٌ، أي: ولا أذًى حاصل لهم، فهي جملةٌ منفيةٌ في معنى النَّهي.
قال شهاب الدِّين: وهذا تكلُّفٌ، وحقُّ هذا القائل أن يقرأ»
وَلاَ أَذَى «بالألف غير منوَّنٍ؛ لأنَّه مبنيٌّ على الفتح على مشهور مذهب النُّحاة.

فصل في سبب النزول


قال الكلبيُّ: نزلت في عثمان بن عفَّان، وعبد الرَّحمن بن عوف.
أمَّا عثمان فجهّز جيش العسرة في غزوة»
تبوك «، بألف بعيرٍ بأقتابها، وأحلاسها، وألف دينارٍ.
»
قال عبد الرَّحمن بن سمرة: جاء عثمان بألف دينارٍ في جيش العسرة، فصبّها في حجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يدخل فيها يده الكريمة ويقلبها، ويقول: «مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْم» وقال «يَا رَبِّ؛ عُثْمَانُ رَضِيتُ عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ» فنزلت هذه الآية الكريمة.
«وأمَّا عبد الرحمن بن عوفٍ، فإنَّه جاء بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
383
فقال: كانت عندي ثمانية آلاف، فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلافٍ أقرضتها ربّي، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ، وفِيمَا أَعْطَيْتَ «فنزلت الآية. وقال بعض المفسِّرين: إن الآية المتقدمة مختصّة فيمن أنفق على نفسه وهذه الآية الكريمة فيمن أنفق على غيره، فبين تعالى أنَّ الإنفاق على الغير، يوجب الثَّواب المذكور في الآية المتقدِّمة، إذا لم يتبعه» مَنّ «،» ولا أَذًى «قال القفَّال: وقد يحتمل أن يكون هذا الشَّرط معتبراً أيضاً فيمن أنفق على نفسه كمن ينفق على نفسه في الجهاد مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والمؤمنين، ولا يؤذي أحداً من المؤمنين، مثل أن يقول: لو لم أحضر لما تمَّ هذا الأمر، ويقول لغيره: أنت ضعيفٌ لا منفعة بك في الجهاد.
وقال بعضهم:»
فِي سبيلِ «، أي: طاعة الله - تعالى -؛ ولا يمنّ بعطائه، ولا يعدّ عليه نعمه، فيكدرها عليه ولا يؤذيه بأن يعيره، فيقول: إلى كم تسأل، وكم تؤذيني؟ وقيل: الأذى أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه.
وقال سفيان:»
مَنّاً وَلاَ أَذًى «: هو أن قول: قد أعطيتك، فما شكرت. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلاً شيئاً، ورأيت أنَّ سلامك يثقل عليه، فكف سلامك عنه، فحظر الله على عباده المنَّ بالصَّنيعة، واختصّ به صفةً لنفسه؛ لأنَّه من العباد تعييرٌ وتكديرٌ، ومن الله إفضال، وتذكير، وإنَّما كان المنُّ، والأذى مذموماً، لأنَّ الفقير الآخذ للصَّدقة منكسر القلب، لأجل حاجته إلى صدقة غيره معترف باليد العليا للمعطي، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك: إظهار ذلك الإنعام، زاد ذلك في انكسار قلبه، فيكون في حكم المضرَّة بعد المنفعة، وينفّر أهل الحاجة عن الرَّغبة في صدقته إذا اشتهر بتلك الطَّريقة، وأمَّا» الأذَى «، فمنهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين، وليس بظاهرٍ، بل اختصاصه بما تقدَّم من أذى الفقير أولى.
فإن قيل: ظاهر اللَّفظ: أنَّ مجموع المنّ، والأذى يبطلان الأجر، فيلزم منه أنَّه لو وجد أحدهما دون الآخر، لا يبطل الأجر.
قلنا: بل الشَّرط ألاَّ يوجد واحدٌ منهما؛ لأن قوله: ﴿لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى﴾ يقتضي ألاَّ يقع منه، لا هذا، ولا ذاك.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة


قالت المعتزلة: الآية الكريمة دلَّت على أنَّ الكبائر تحبط ثواب فاعلها؛ وذلك لأنَّ الله - تعالى - بين أنَّ هذا الثَّواب إنَّما يبقى إذا لم يوجد المنّ والأذى؛ لأنَّه لو ثبت مع
384
فقدهما، ومع وجودهما؛ لم يكن لهذا الاشتراط فائدة.
وأُجيبوا بأنَّ المراد منها أنَّ حصول المنّ والأذى يخرجان الإنفاق عن أن يكون فيه أجر وثواب أصلاً من حيث يدلاَّن على أنَّه إنَّما أنفق لكي يمنّ، ولم ينفق، لطلب رضوان الله، ولا على وجه القربة والعبادة، فلا جرم، بطل الأجر.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة


احتجَّت المعتزلة بقوله تعالى: ﴿لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ على أنَّ العمل موجبٌ للأجر على الله - تعالى -.
وأجيبوا بأنَّ حصول الأجر بسبب الوعد، لا بسبب نفس العمل؛ لأن العمل واجبٌ على العبد، وأداء الواجب لا يوجب الأجر.

فصل


وأجمعت الأمَّة على أنَّ قوله: ﴿لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ مشروطٌ بعدم الكفر، وذلك يدلُّ على جواز التَّكلُّم بالعام لإرادة الخاصّ، ومتى جاز ذلك في الجملة لم تكن دلالة اللَّفظ العام على الاستغراق دلالة قطعية، وذلك يوجب سقوط دلائل المعتزلة في التَّمسُّك بالعمومات على القطع بالوعيد.
قوله: ﴿وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ فيه قولان:
أحدهما: أنَّ إنفاقهم في سبيل الله، لا يضيع، بل يجدونه يوم القيامة، فلا يخافون فقده «وَلاَ يَحْزَنُونَ» بسبب ألاَّ يوجد، ونظيره ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً﴾ [طه: ١١٢].
الثاني: أنهم يوم القيامة، لا يخافون العذاب ألبتة، ونظير ﴿وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ [النمل: ٨٩] وقال ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر﴾ [الأنبياء: ١٠٣].
385
في قوله: ﴿مَّعْرُوفٌ﴾ ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه مبتدأٌ، وساغ الابتداء بالنَّكرة لوصفها، وللعطف عليها. و «مَغْفِرةٌ» عطفٌ عليه، وسوَّغ الابتداء بها العطف، أو الصِّفة المقدَّرة، إذ التَّقدير: ومغفرةٌ من السَّائل، أو من الله. و «خَيْرٌ» خبرٌ عنهما. وقال أبو البقاء في هذا الوجه: «والتَّقدير:
385
وسبب مغفرة، لأنَّ المغفرة من الله تعالى، فلا تفاضل بينهما، وبين فعل العبد، ويجوز أن تكون المغفرة: مجاوزة المتصدّق، واحتماله للفقير، فلا يكون فيه حذف مضافٍ».
الثاني: أنَّ ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ﴾ مبتدأٌ وخبره محذوفٌ، أي: أمثل، أو أولى بكم، و «مَغْفِرَةٌ» مبتدأق، و «خَيْرٌ» خبرها، فهما جملتان، ذكره المهدوي وغيره. قال ابن عطيَّة: «وهذا ذهابٌ برونق المعنى».
والثالث: أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ تقديره: المأمور به قولٌ معروفٌ.
وقوله: ﴿يَتْبَعُهَآ أَذًى﴾ في محلِّ جرِّ صفةً لصدقةٍ، فإن قيل لم يعد ذكر المنِّ فيقول: يتبعها منٌّ، وأذى. فالجواب؛ لأنَّ الأذى يشمل المنَّ، وغيره، وإنَّما نصَّ عليه في قوله: ﴿لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى﴾ [البقرة: ٢٦٢] لكثرة وقوعه من المتصدِّقين، وعسر تحفُّظهم منه، ولذلك قدِّم على الأذى.

فصل


القول المعروف: هو القول الذي تقبله القلوب، والمراد منه هنا: ردُّ السَّائل بطريقٍ حسنٍ.
وقال عطاءٌ: عِدَةٌ حسنة.
وقال القرطبيُّ: وروي من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إِذَا سأَلَ السَّائِلُ فَلاَ تَقْطَعُوا عَلَيْهِ مَسْأَلَتَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ رُدّوا عليه بِوَقَارٍ، وَلِينٍ، أو ببذل يَسِيرٍ، أوْ رَدٍّ جميلٍ، فقد يأْتِيكُم مَنْ لَيْسَ بإِنْسٍ ولا جَانّ يَنْظُرُونَ صَنِيعَكُم فيما خَوَّلَكُمُ اللهُ تعالى».
وأمَّا المغفرة فقيل: هي العفو عن بذاءة الفقير، والصَّفح عن إساءته فإنه إذا ردَّ بغير مقصوده؛ شقَّ عليه ذلك، فربَّما حمله ذلك على بذاءة اللِّسان.
وقيل المراد ونيل مغفرةٍ من الله بسبب الردّ الجميل.
وقال الضَّحَّاك: نزلت في إصلاح ذات البين.
وقيل المراد: أن يستر حاجة الفقير، فلا يهتك ستره، ولا يذكر حاله عند من يكره الفقير وقوفه على حاله.
وقيل: إن قوله ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ﴾ خطابٌ مع المسؤول بأن يردّ السَّائل بأحسن الطُّرق.
386
وقوله «مَغْفِرَةٌ» : خطابٌ مع السَّائل بأن يعذر المسؤول في ذلك الرَّدِّ، فإنَّه ربَّما لم يقدر على ذلك المطلوب في تلك الحالة، ثمَّ بيَّن تعالى أنَّ فعل الرَّجل لهذين الأمرين خير له من صدقةٍ يتبعها أذى؛ لأنَّه إذا أعطى، وأَتْبع الإعطاء بالأذى، فقد جمع بين النفقة والإضرار.
وأمَّا القول المعروف، فقيه نفعٌ بلا ضررٍ؛ لأنَّه يتضمَّن إيصال السُّرور إلى قلب المسلم، فكان خيراً من الأوَّل.
قال بعضهم: الآية الكريمة واردة في التَّطوُّع؛ لأنَّ الواجب لا يحلُّ منعه ولا ردّ السّائل منه، ويحتمل أن يراد به الواجب، فإنَّه قد يعدِل به عن سائلٍ إلى سائلٍ، وعن فقيرٍ إلى فقيرٍ. ثم قال: ﴿والله غَنِيٌّ﴾ عن صدقة العباد، وإنما أمركم بها ليثيبكم عليها ﴿حَلِيمٌ﴾ لم يتعجَّل بالعُقُوبة على من يمنّ، ويؤذي بصدقته.
387
اعلم أنَّه تعالى، لم ذكر هذين النَّوعين من الإنفاق ضرب واحداً منهما مثلاً.
قوله: ﴿كالذي﴾ الكاف في محلِّ نصبٍ، فقيل: نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: لا تبطلوها إبطالاً كإبطال الذي ينفق رئاء النَّاس. وقي: في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المصدر المقدَّر كما هو رأي سيبويه، وقيل: حالٌ من فاعل «تُبْطِلُوا»، أي: لا تبطلوها مشبهين الذي ينفق ماله رياء النَّاس.
و ﴿رِئَآءَ﴾ فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ تقديره: إنفاقاً رئاء النَّاس، كذا ذكره مكي.
والثاني: أنه مفعول من أجله، أي: لأجل رئاء النَّاس، واستكمل شروط النَّصب.
الثالث: أنه في محلِّ حالٍ، أي: ينفق مرائياً.
والمصدر هنا مضافٌ للمفعول، وهو «النَّاس»، ورئاء مصدر راءى كقاتل قتالاً، والأصل: «رِئايا» فالهمزة الأولى عين الكلمة، والثانية بدلٌ من ياءٍ هي لام الكلمة، لأنها
387
وقعت طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ. والمفاعلة في «راءَى» على بابها، لأنَّ المرائي يري النَّاس أعمال؛ حتى يروه الثَّناء عليه، والتَّعظيم له. وقرأ طلحة - ويروى عن عاصم -: «رِيَاء» بإبدال الهمزة الأولى ياء، وهو قياس الهمزة تخفيفاً؛ لأنَّها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ.
قوله: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ، ودخلت الفاء، قال أبو البقاء: «لتربط الجُمْلَة بِمَا قَبْلَهَا» كما تقدَّم، والهاء في «فَمَثَلُهُ» فيها قولان:
أظهرهما: أنها تعود على «الَّذي يُنْفِقُ رِئَاءَ النَّاسِ» ؛ لأنَّه أقرب مذكورٍ فيكون المعنى أنَّ الله شبّه المانَّ المؤذي بالمنافق، ثم شبَّه المنافق بالحجر.
والثاني: أنها تعود على المانِّ المؤذي، كأنه تعالى شبَّهه بشيئين: بالذي ينفق رئاء وبصفوان عليه ترابٌ، فيكون قد عدل من خطاب إلى غيبة، ومن جمع إلى إفراد.
والصَّفوان: حجرٌ كبيرٌ أملس، وفيه لغتان:
أشهرهما سكون الفاء، والثانية فتحها، وبها قرأ ابن المسيّب والزُّهريُّ، وهي شاذَّةٌ؛ لأنَّ «فَعَلان» إنَّما يكون في المصادر نحو: النَّزوان، والغليان، والصفات نحو: رجلٌ طغيان وتيس عدوان، وأمَّا في الأسماء فقليلٌ جداً. واختلف في «صَفْوَان» فقيل: هو جمعٌ مفرده: صفا، قال أبو البقاء: «وجَمْعُ» فَعَلَ «على» فَعْلاَن «قليلٌ». وقيل: هو اسم جنس.
قال أبو البقاء: «وهو الأجود، ولذلك عاد الضَّمير عليه مفرداً في قوله: عَلَيْه».
وقيل: هو مفردٌ، واحده «صُفيٌّ» قاله الكسائي، وأنكره المبرَّد. قال: «لأنَّ صُفيّاً جمع صفا نحو: عصيّ في عصا، وقُفِيّ في قَفَا». ونقل عن الكسائي أيضاً أنه قال: «صَفْوان مفردٌ، ويجمع على صِفوان بالكسر». قال النَّحاس: «ويجوز أن يكون المكسور الصَّاد واحداً أيضاً، وما قاله الكسائيُّ غير صحيح، بل صفوان - يعني بالكسر - جمعٌ لصفا ك» وَرَل «وَوِرْلان، وأخ وإخوان وكرى وكروان».
وحكى أبو عبيدٍ عن الأصمعي أن الصَّلإوان، والصَّفا، والصَّفو واحد والكلُّ مقصورٌ.
وقال بعضهم: الصَّفوان: جمع صفوانة، كمرجانٍ ومرجانةٍ وسعدان، وسعدانة.
388
وقال بعضهم: الصَّفوان: هو الحجر الأملس، وهو واحدٌ وجمعٌ.
و ﴿عَلَيْهِ تُرَابٌ﴾ : يجوز أن يكون جملةً من مبتدأ، وخبرٍ، وقعت صفةً لصفوان، ويجوز أن يكون «عَلَيْه» وحده صفةً له، و «تُرَابٌ» فاعلٌ به، وهو أولى لما تقدَّم عند قوله ﴿فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ﴾ [البقرة: ٢٦١]. والتُّراب معروفٌ وهو اسم جنسٍ، لا يثنَّى، ولا يجمع.
وقال المبرِّد: وهو جمع واحدته «ترابة». وذكر النَّحَّاس له خمسة عشر اسماً: ترابٌ وتَوْرَبٌ، وتَوْرَابٌ، وتَيْرَابٌ وإِثْلَب وأَثْلَب وَكَثْكَثٌ وَكِثْكِثٌ ودَقْعَمٌ وَدَقْعَاءُ ورَغام بفتح الراء، ومنه: أرغم الله أنفه أي: ألصقه بالرَّغام وبَرى، وقرى بالفتح مقصوراً [كالعصا وكملح وعثير] وزاد غيره تربة وصعيد.
ويقال: ترب الرَّجل: افتقر. ومنه: ﴿أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ [البلد: ١٦] كأنَّ جلده لصق به لفقره، وأترب، أي: استغنى، كأنَّ الهمزة للسَّلب، أو صار ماله كالتُّراب.
قوله: ﴿فَأَصَابَهُ﴾ عطفٌ على الفعل الذي تعلَّق به قوله: «عَلَيْهِ»، أي: استقرَّ عليه ترابٌ، فأصابه. والضَّمير يعود على الصَّفوان، وقيل: على التُّراب. وأمَّا الضَّمير في «فَتَرَكَهُ» فعلى الصفوان فقط. وألف «أصَابَه» من واوٍ؛ لأنه من صاب يصوب.
والوابل: المطر الشَّديد، وبلت السَّماء تبل، والأرض موبولة، ويقال أيضاً: أوبل، فهو موبل، فيكون ممَّا اتفق فيه فعل، وأفعل، وهو من الصِّفات الغالبة كالأبطح، فلا يحتاج معه إلى ذكر موصوفٍ. قال النَّضر بن شيملٍ:
أولُ ما يَكُونُ المَطَرُ رَشاً، ثم طشاً، ثم طَلاًّ، ورَذاذاً، ثم نضحاً، وهو قطرٌ بين قطرين، ثم هطلاً وتهتاناً، ثم وابلاً وجوداً. والوبيل: الوخيم، والوبيلة: حزمة الحطب، ومنه قيل للغليظة: وبيلةٌ على التَّشبيه بالحزمة.
قوله: ﴿فَتَرَكَهُ صَلْداً﴾ كقوله تعالى: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٧]. والصَّلد: الأجرد الأملس، ومنه: «صَلَدَ جبينُ الأصْلَعِ» : أي برق، والصَّلد أيضاً صفة، يقال: صلد بكسر اللام يصلد بفتحها، فهو صلد. قال النَّقَّاش: «الصَّلْدُ بلغة هُذَيل». وقال أبان بن تغلب: «الصَّلْد: اللَّيِّن من الحجارة» وقال علي بن عيسى: «هو من الحجارة ما لا خير فيه، وكذلك من الأرضين وغيرها، ومنه:» قِدْرٌ صَلُود «أي: بطيئة الغَلَيان»، وصلد الزّند: إذا لم يورد ناراً.
قوله: ﴿لاَّ يَقْدِرُونَ﴾ في هذه الجملة قولان:
أحدهما: أنها استئنافية فلا موضع لها من الإعراب.
والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من «الَّذِي» في قوله: ﴿كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ﴾،
389
وإنما جمع الضَّمير حملاً على المعنى، لأنَّ المراد بالذي الجنس، فلذلك جاز الحمل على لفظه مرَّةً في قوله: «مَالَهُ» و «لاَ يُؤْمِنُ»، «فمثلُه» وعلى معناه أخرى.
وصار هذا نظير قوله: ﴿كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً﴾ [البقرة: ١٧] ثم قال: ﴿بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ﴾ [البقرة: ١٧]، وقد تقدَّم.
وزعم ابن عطيَّة أنَّ مهيع كلام العرب الحمل على اللَّفظ أولاً، ثم المعنى ثانياً، وأنَّ العكس قبيحٌ، وتقدَّم الكلام معه في ذلك. وقيل: الضَّمير في «يَقْدِرُونَ» عائدٌ على المخاطبين بقوله: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم﴾ ويكون من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وفيه بعدٌ.
وقيل: يعود على ما يفهم من السِّياق، أي: لا يقدر المانُّون، ولا المؤذون على شيءٍ من نفع صدقاتهم. وسمَّى الصّدقة كسباً.
قال أبو البقاء: «وَلا يَجُوزُ أن يَكُونَ» لاَ يَقْدِرُونَ «حالاً من» الَّذِي «؛ لأنه قد فصل بينهما بقوله:» فَمَثَلُه «وما بعده». ولا يلزم ذلك؛ لأنَّ هذا الفصل فيه تأكيدٌ، وهو كالاعتراض «.

فصل


قال القاضي: إنه تبارك وتعالى أكَّد النَّهي عن إبطال الصَّدقة بالمنّ، والأذى، وأزال كلّ شبهة للمرجئة، وبيَّن أنَّ المنَّ والأذى يبطلان الصَّدقة، ومعلومٌ أنَّ الصَّدقة قد وقعت، فلا يصحُّ أن تبطل، فالمراد إبطال أجرها، لأنَّ الأجر لم يحصل بعد، وهو مستقبل، فيصحُّ إبطاله بما يأتيه من المنّ والأذى.
واعلم أنَّه تعالى ضرب لكيفية إبطال الصَّدقة بالمنّ والأذى مثلين، فمثله أوَّلاً: بمن ينفق ماله رئاء النَّاس، وهو مع ذلك لا يؤمن بالله، واليوم الآخر، لأنَّ بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر، أظهر من بطلان أجر صدقة من يُتْبعها بالمنّ، والأذى. ثم مثَّله ثانياً: ب»
الصَّفْوَانِ «الذي وقع عليه تُرابٌ، وغبارٌ، ثم أصابه المطر القويُّ، فيزيل ذلك الغبار عنه حتّى يصير كأنه لم يكن عليه غبار أصلاً، فالكافر كالصَّفوان، والتُّراب مثل ذلك الإنفاق، والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر، وكالمنّ والأذى اللَّذين يحبطان عمل هذا المنفق.
قال: فكما أنَّ الوابل أزال التُّراب الذي وقع على الصَّفوان، فكذلك المنّ والأذى، وجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله، وذلك صريحٌ في القول بالإحباط.
قال الجبَّائيُّ: وكما دلّ هذا النَّص على صحَّة قولنا فالعقل دلَّ عليه عليه أيضاً؛
390
لأن من أطاع، فلو استحقّ ثواب طاعته، وعقاب معصيته لوجب أن يستحقّ النّقيضين؛ لأنَّ شرط الثَّواب أن يكون منفعة خالصةً دائمةً مقرونةً بالإجلال، وشرط العقاب أن يكون مضرةً خالصةً دائمةً مقرونةً بالإهانة فلو لم تقع المحابطة، لحصل استحقاق النّقيضين وذلك محال، ولأنَّه حين يعاقبه، فقد منعه الإثابة، ومنع الإثابة ظلمٌ، وهذا العقاب عدل، فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلاً من حيث إنَّه حقّه، وأن يكون ظلماً من حيث إنَّه منع الإثابة، فيكون ظلماً بنفس الفعل الذي هو عادلٌ فيه؛ وذلك محال، فصحّ بهذا النَّصّ ودلالة العقل صحّة قولنا في الإحباط والتَّكفير.
وأجيبوا بأنه ليس المراد بقوله «لاَ تُبْطِلُوا» النَّهي عن إزالة هذا الثَّواب بعد ثبوته، بل المراد به ألاَّ يأتي بهذا العمل باطلاً؛ لأنَّه إذا قصد به غير وجه الله تعالى، فقد أتى به من الابتداء موصوفاً بالبطلان.
قال ابن الخطيب: ويدلّ على بطلان قول المعتزلة وجوه:
أولها: أنَّ الباقي والطّارئ إن لم يكن بينهما منافاة، لم يلزم من طَرَيَانِ الطَّارئ زوال الباقي، وإن حصلت بينهما منافاة لم يكن زوال الباقي أولى من اندفاع الطَّارئ، بل ربَّما كان اندفاع الطَّارئ، أولى؛ لأن الدفع أسهل من الرفع.
وثانيها: أن الطارئ لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي، وهو محال؛ لأنَّ الماضي قد انقضى، ولم يبق في الحال، وإعدام المعدوم محالٌ، وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضاً محال؛ لأنَّ الموجود في الحال، لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محالٌ، وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محالٌ، لأنَّ الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال، وإعدام ما لم يوجد بعد محال.
وثالثها: أنَّ شرط طريان الطَّارئ، زوال الباقي، فلو جعلنا زوال النافي معلّلاً بطريان الطَّارئ، لزم الدَّور، وهو محالٌ.
ورابعها: أنَّ الطَّارئ إذا طرأ وأعدم الثَّواب السَّابق، فالثَّواب السَّابق إمَّا أن يعدم
391
من هذا الطَّارئ شيئاً، أو لا يعدم منه شيئاً، والأول هو الموازنة، وهو قول أبي هاشم، وهو باطلٌ، وذلك لأنَّ الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر، فلو حصل العدمان معاً اللَّذان هما معلومان، لزم حصول الموجودين اللَّذين هما علَّتان، فيلزم أن يكون كلّ واحد منهما موجوداً حال كون كلّ واحد منهما معدوماً وهو محالٌ.
والثاني، وهو قول أبي علي الجبَّائي: هو أيضاً باطل؛ لأنَّ العقاب الطَّارئ لما أزال الثَّواب السَّابق، وذلك الثَّواب السَّابق ليس له أثر ألبتة في إزالة الشَّيء من هذا العقاب الطَّارئ؛ فحينئذ لا يحصل له من العلم الذي أوجب الثَّواب السَّابق فائدة أصلاً، لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب، وذلك على مضادة النَّصّ الصّريح في قوله تبارك وتعالى ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧]، لأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقّة الطَّاعة، ولم يظهر له منها أثر، لا في جلب منفعةٍ، ولا في دفع مضرةٍ.
خامسها: أنكم تقولون الصَّغيرة تحبط بعض أجزاء الثَّواب دون البعض وذلك محالٌ؛ لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهيَّة، فالصَّغيرة الطَّارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكلّ في الماهيَّة كان ذلك ترجيحاً للممكن من غير مرجّح، وهو محالٌ فلم يبق إلاَّ أن يقال بأنَّ الصَّغيرة الطَّارئة تزيل كلَّ تلك الاستحقاقات، وهو باطلٌ بالاتّفاق، أو لا تزيل شيئاً منها، وهو المطلوب.
سادسها: أنَّ عقاب الكبيرة، إذا كان أكثر من ثواب العَمَل المتقدّم، فإمَّا أن يقال: بأنَّ المؤثر في إبطال الثَّواب بعض أجزاء العقاب الطَّارئ، أو كلها، والأوَّل باطل؛ لأنَّ اختصاص بعض تلك الأجزاء بالمؤثريّة دون البعض مع استواء كلِّها في الماهيَّة ترجيح للمكن من غير مرجّح، وهو محالٌ. الثاني باطلٌ، لأنَّه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثَّواب جزآن من العقاب مع أنَّ كلَّ واحد من ذينك الجزأين مستقلٌّ بإبطال ذلك الثَّواب، فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران كلّ واحدٍ منهما مستقلٌّ وذلك محالٌ؛ لأنَّه يستغني بكلِّ واحدٍ منهما عن كلّ واحد منهما فيكون غنيّاً عنهما معاً، حال كونه محتاجاً إليهما معاً، وهو محالٌ.
سابعها: أنَّه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين؛ لأنَّ السَّيِّد إذا قال لعبده: احفظ هذا المتاع لئلاّ يسرقه السَّارق، ثم في ذلك الوقت جاء العدوّ، وقصد قتل السّيِّد، فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدوِّ، وقتله، فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح، والتعظيم حيث دفع القتل عن سيِّده، ويوجب استحقاقه للذَّمِّ، حيث عرض ماله للسّرقة، وكلّ واحدٍ من الاستحقاقين ثابت، والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى التَّرجيح أو إلى المهايأة، فأمَّا أن يحكموا بانتفاء الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوعٌ في بداية العقول.
392
ثامنها: أَنَّ الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المُتقدِّم، فهذا الطَّارئ إِمَّا أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق، أو لا يكون. والأوَّل محالٌ؛ لأَنَّ ذلك العل إنَّما يكون موجوداً في الزَّمان الماضي، فلو كان لهذا الطَّارئ أَثَرٌ في ذلك الفعل لكان هذا إيقاعاً للتَّأثير في الزَّمان الماضي، وهو محالٌ، وإن لم يكن لهذا الطَّارئ [أثر] في اقتضاءِ ذلك الفعل السَّابق لذلك الاستحقاق، وجب أَن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وألاَّ يزول.
وتاسعها: أَنَّ المعتزلة يقولون: إِنَّ شُرب جرعةٍ من الخمرِ، يحبطُ ثواب الإِيمان وطاعة سبعين سنةٍ على سبيل الإِخلاص، وذلك محالٌ؛ لأنَّا نعلم بالضَّرورة أَنَّ ثواب هذه الطَّاعات أكثر مِنْ عقاب هذه المعصية الواحدة، والأعظم بالأَقلّ.
قال الجبَّائي: لا يمتنع أَنْ تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كُلِّ طاعةٍ، لأن معصية الله تعالى تعظم على قدر كثرة نعمه، وإحسانه، كما أَنَّ استحقاق قيام الرَّبَّانيَّة، وقد ربَّاهُ وملكه، وبلغه إلى النِّهاية [العظيمة أعظم] من قيامه بحقِّه لكثرة نعمه، فإِذا كانت نعم الله على عباده، بحيث لا تُضبط عظماً، وكثرةً لم يمتنع أَنْ يستحقَّ على المعصية الواحدة العقاب العظيم الَّذي يعلو على ثواب جملة الطَّاعات.
قال ابن الخطيب: وهذا العُذْرُ ضعيفٌ؛ لأَنَّ المَلِك الَّذِي عظمت نعمُهُ على عبده، ثمّ إِنَّ ذلك العبدَ قام بحقِّ عبوديَّته خمسين سنةً، ثم إنّه كسر رأس قلم ذلك الملك قصداً، فلو أحبط المَلك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكُلُّ أحدٍ يذمُّهُ، وينسبه إلى ترك الإِنصاف والقسوة، ومعلومٌ أَنَّ جميع المعاصي بالنِّسبة إلى جلال الله تعالى أقلُّ من كسر رأس القلم، فظهر أَنَّ قولهم على [خلاف] قياس العقول.
393
عاشرها: أَنَّ إِيمان ساعةٍ يهدم كُفْر سبعين سنة فالإيمان سبعين سنةً كيف يهدمُ بفسق ساعةٍ، وهذا مِمَّا لا يقبلُهُ العقلُ، والله أعلمُ.
قوله ﴿لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى﴾ يحتمل أمرين:
أحدهما: لا تأْتُوا به باطِلاً، وذلك أَنْ يَنْوي بالصَّدقة الرِّياء والسُّمعة.
[قال القرطبيُّ: إِنَّ اللهَ تعالى عبَّر عن عدم القبول، وحرمان الثوب] بالإبطال، والمراد الصَّدقة الَّتي يمُنُّ بها، ويُؤذي لا غيرها، فالمَنُّ والأَذى في صدقة؛ لا يُبطلُ صدقةً غيرها.
قال جمهور العلماء في هذه الآية: إنَّ الصَّدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ، أو يُؤذي بها، فإِنَّها لا تقبل.
393
وقيل: إِنَّ اللهَ جعل للملك عليها أمارة، فهو لا يكتبها.
قال القرطبيُّ: وهذا حسنٌ.
والثاني: أن يأتوا بها على وجهٍ يوجب الثَّواب، ثُمَّ يتبعوها بالمَنِّ والأذى، فيزيلوا ثوابها، وضرب لذلك مثلين:
أحدهما: يطابقُ الأَوَّل وهو قوله: ﴿كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله﴾، إِذْ من المعلوم [أَنَّ المراد من كونه عمل] هذا باطلاً أَنَّه دخل في الوجود باطلاً، لا أَنَّهُ دخل صحيحاً، ثم يزول؛ لأَنَّ الكُفر مقارنٌ له فيمتنع دخوله صحيحاً في الوجود.
والمثال الثاني: وهو الصَّفوان الَّذي وقع عليه تراب، ثمَّ أصابهُ وابلٌ فهذا يشهدُ لتأَويل المعتزلة؛ لأنَّه جعل الوابلَ مُزِيلاً لذلك التُّراب بعد وقُوع التُّراب على الصَّفوان، فكذا ها هنا: يجب أن يكون المنُّ والأَذى مزيلين للأجر والثَّواب بعد حصول استحقاق الأَجر.
ويمكن أَنْ يجاب عنه: بأَنَّا نُسلِّم أَنَّ المشبه بوقوع التُّراب على الصَّفوان حُصُولُ الأَجر للكافر؛ بل المشبَّه بذلك صُدُورُ هذا العمل الَّذي لولا كونه مقروناً بالنِّيَّة الفاسدة، لكان موجباً لحصول الأَجر والثواب؛ لأَنَّ التُّراب إذا وقع على الصَّفوان، لم يكن ملتصقاً به، ولا غائصاً فيه أَلْبَتَّة، بل يكون لك الاتِّصال كالانفِصال، فهو في مرأَى العين متَّصلٌ، وفي الحقيقة منفصلٌ، فكذا الإِنفاقُ المقرون بالمَنّ والأَذى، يُرَى في الظَّاهر أَنَّه عَمَلٌ مِنْ أَعمال البِرّ، وفي الحقيقة ليس كذلك، فظهر أَنَّ استدلالهم بهذه ضعف.

فصلٌ


قال ابن عبَّاس قوله: ﴿لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن﴾ على الله بسب صدقتِكُم، وبالأذى لذلك السَّائل.
وقال الباقون: بالمَنّ على الفقير وبالأذى للفقير ﴿كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس﴾ ؛ لأنَّ المُنافق، والمُرائي يأتيان بالصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - ومن يَقْرُنُ الصَّدقة بالمنّ والأَذى، فقد أتى بتلك الصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - أيضاً، إذ لو كان غرضه من تلك الصَّدقة طلب مرضاة الله تعالى لما مَنَّ على الفقير، ولا آذاه، فثبت اشتراكُ الصُّورتين في كون الصَّدقة لم يأت بها لوجه اللهِ - تعالى - وتقدَّم الكلامُ على الإِلقاء.
394
(فصل في " هل تعطى الصدقة للأقارب)
قال القرطبي: كره مالك لهذه الآية أن يعطي الرجل صدقته الواجبة أقاربه؛ لئلا يعتاض منهم الحمد، والثناء، ويظهر منته عليهم، ويكافئوه عليها، فلا تخلص لوجه الله - تعالى - واستحب أن يعطيها الأجانب، واستحب أيضا أن يولي غيره تفريقها، إذا لم يكن الإمام عدلا؛ لئلا تحبط بالمن والأذى، والشكر، والثناء، والمكافأة بالخدمة من المعطى بخلاف صدقة التطوع السر؛ لأن ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد.
(فصل في كيفية التشبيه في الآية)
في كيفية هذا التشبيه وجهان:
الأول: ما تقدم أن العمل الظاهر كالتراب والمان والمؤذي والمنافق كالصفوان يوم القيامة كالوابل، هذا على قولنا، وما على قول المعتزلة فالمن والأذى كالوابل.
الوجه الثاني: قال القفال رحمه الله: إن أعمال العباد يجازون بها يوم القيامة، فمن عمل بالإخلاص، فكأنه طرح بذرا في الأرض، فهو ينمو، ويتضاعف له، حتى يحصده في وقته، ويجده وقت حاجته، والصفوان محل بذر المنافق، ومعلوم أنه لا ينمو فيه شيء، ولا يكون فيه قبول للبذر، والمعنى أن عمل المان، والمؤذي، والمنافق كالبذر المطروح في تراب قليل على صفوان، فإذا أصابه مطر بقي مستودع بذره خاليا، لا شيء فيه؛ ألا ترى أنه تعالى: ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة؟ والجنة ما يكون فيها أشجار ونخيل، فمن أخلص لله، كان كمن غرس بستانا في ربوة من الأرض، فهو يجني ثمر غراسه في أوقات حاجته " وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " متضاعفة زائدة.
ثم قال تعالى " لا يقدرون على شيء مما كسبوا ".
وفيه قولان مبنيان على ما تقدم في الإعراب، فعلى الأول لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي كان على ذلك الصفوان، لزوال التراب، وما فيه من البذر بالمطر، فلم يقدر أحد على الانتفاع به، وهذا يقوي تشبيه القفال، وإن عاد الضمير إلى الذي ينفق، فإنما أشير به إلى الجنس والجنس في حكم العام، ثم قال " والله لا يهدي القوم الكافرين ".
(فصل في التحذير من الرياء)
قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا يا رسول الله: وما الشرك الأصغر؟ قال: " الرياء، يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا
395
إلى الذي كنتم تراءون في الدنيا، [فانظروا] هل تجدون عندهم جزاء ".
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدثه " أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضى بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعون رجلا جمع القرآن، ورجلا قتل في سبيل الله ورجلا كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله - تبارك وتعالى - بل أردت أن يقال: فلان قارئ، وقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله تعالى له: ألم أوسع عليك حتى [لم] أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله - تعالى - بل أردت أن يقال: فلان جواد، وقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول له: في ماذا قتلت؟ فيقول: يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله: كذبت وتقول الملائكة: كذبت: ويقول الله تعالى بل أدرت أن يقال فلان جريء، وقد قيل ذلك ثم ضرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ركبتي، ثم قال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تعالى تسعر بهم النار يوم القيامة.
قوله " ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله ".
قوله " ومثل الذين ينفقون " كقوله " مثل الذين ينفقون كمثل حبة أنبتت سبع " في جميع التقادير فليراجع. وقرأ الجحدري " كمثل حبة " بالحاء المهملة والباء.
في قوله: " ابتغاء " وجهان:
أحدهما: أنه مفعول من أجله، وشروط النصب متوفرة.
396
والثاني: أنه حال، و" تثبيتا " عطف عليه بالاعتبارين، أي: لأجل الابتغاء والتثبيت، أو مبتغين متثبتين. ومنع ابن عطية أن يكون " ابتغاء " مفعولا من أجله، قال: لأنه عطف عليه تثبيتا، وتثبيتا لا يصح أن يكون مفعولا من أجله، [لأن الإنفاق لا يكون لأجل التثبيت ". وحكى عن مكي كونه مفعولا من أجله] قال: " وهو مردود بما بيناه ".
وهذا الذي رده لا بد فيه من تفصيل، وذلك أن قوله تبارك وتعالى: " وتثبيتا " إما أن يجعل مصدرا متعديا، أو قاصرا، فإن كان قاصرا، أو متعديا، وقدرنا المفعول هكذا: " وتثبيتا من أنفسهم الثواب على تلك النفقة "، فيكون تثبيت الثواب وتحصيله من الله حاملا لهم على النفقة، وحينئذ يصح أن يكون " تثبيتا " مفعولا من أجله.
وإن قدرنا المفول غير ذلك، أي: وتثبيتا من أنفسهم أعمالهم بإخلاص النية، أو جعلنا " من أنفسهم هو المفعول في المعنى، وأن " من " بمعنى اللام، أي: لأنفسهم، كما تقول: " فعلته كسرا من شهوتي " فلا يتضح فيه أن يكون مفعولا لأجله.
وأبو البقاء قد قدر المفعول المحذوف " أعمالهم بإخلاص النية "، وجوز أيضا أن يكون " من أنفسهم " مفعولا، وأن تكون " من " بمعنى اللام، وقد كان قدم أولا أنه يجوز فيهما المفعول من أجله، والحالية؛ وهو غير واضح كما تقدم.
وتلخص أن في " من أنفسهم " قولين:
أحدهما: أنه مفعول بالتجوز في الحرف.
والثاني: أنه صفة ل " تثبيتا "، فهو متعلق بمحذوف، وتلخص أيضا أن التثبيت يجوز أن يكون متعديا، وكيف يقدر مفعوله، وأن يكون قاصرا.
فإن قيل: " تثبيت " مصدر ثبت؛ وثبت متعد، فكيف يكون مصدره لازما؟
فالجواب: أن التثبيت مصدر تثبت، فهو واقع موقع التثبت، والمصادر تنوب عن بعضها؛ قال تعالى: ﴿وتبتل إليه تبتيلا﴾ [المزمل: ٨] والأصل: " تبتلا " ويؤيد ذلك قراءة مجاهد " وتثبتا "، وإلى هذا نحا أبو البقاء.
قال أبو حيان: " ورد هذا القول؛ بأن ذلك لا يكون إلا مع الإفصاح بالفعل المتقدم على المصدر، نحو الآية، وأما أن يؤتى بالمصدر من غير نيابة على فعل مذكور، فلا يحمل على غير فعله الذي هو له في الأصل "، ثم قا: " والذي نقول: إن ثبت - يعني
397
مخففا - فعل لازم، معناه تمكن ورسخ، وثبت معدى بالتضعيف، ومعناه مكن وحقق؛ قال ابن رواحة: [البسيط] ١٢٢٠ -
(فثبت الله ما أتاك من حسن تثبيت عيسى ونصرا كالذي نصروا)
فإذا كان التثبيت مسندا إليهم، كانت " من " في موضع نصب متعلقة بنفس المصدر، وتكون للتبعيض، مثلها في: " هز من عطفه "، و" حرك من نشاطه " وإن كان مسندا في المعنى إلى أنفسهم، كانت " من " أيضا في موضع نصب؛ صفته لتثبيتا ".
قال الزمخشري: " فإن قلت: فما معنى التبعيض؟ قلت: معناه أن من بذل ماله لوجه الله تعالى، فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل روحه، وماله معا، فقد ثبت نفسه كلها ". قال أبو حيان: " والظاهر أن نفسه هي التي تثبته، وتحمله على الإنفاق في سبيل الله، ليس له محرك إلا هي؛ لما اعتقدته من الإيمان والثواب " يعني: فيترجح أن التثبيت مسند في المعنى إلى أنفسهم. والابتغاء: افتعال من بغيت، أي: طلبت، وسواء قولك: بغيت، وابتغيت.
(فصل)
معنى قوله: " ابتغاء مرضات الله "، أي: طلب رضي الله " وتثبيتا من أنفسهم " قال قتادة: احتسابا.
وقال الشعبي، والكلبي: تصديقا من أنفسهم، أي: يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم، على يقين الثواب، وتصديق بوعد الله، ويعلمون أن ما أخرجوا خير لهم مما تركوا، وقيل: على يقين بإخلاف الله عليهم.
وقال عطاء، ومجاهد: يتثبتون، أي: يضعون أموالهم.
قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقة يتثبت، فإن كان لله، أمضى، وإن كان يخالطه شك، أمسك، ثم إنه تعالى لما بين أن غرضهم من الإنفاق هذان الأمران، ضرب الإنفاق مثلا، فقال: " كمثل جنة بربوة ".
398
قال القرطبي: الجنة هي البستان، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار، حتى تغطيها، مأخوذة من لفظ الجن والجنين، لاستتارهم.
قوله: " بربوة " في محل جر؛ لأنه صفة لجنة. والباء ظرفية بمعنى " في "، أي: جنة كائنة في ربوة. والربوة: أرض مرتفعة طيبة، قاله الخليل. وهي مشتقة من: ربا يربو، أي: ارتفع، وتفسير السدي لها بما انخفض من الأرض ليس بشيء. ويقال ربوة ورباوة، بتثليث الراء فيهما، ويقال - أيضا - رابية، قال القائل: [الطويل] ١٢٢١ -
(وغيث من الوسمي حو تلاعه أجابت روابيه النجاء هواطله)
وقرأ ابن عامر، وعاصم: " ربوة " بالفتح، والباقون: بالضم، قال الأخفش: " ونختار الضم؛ لأنه لا يكاد يسمع في الجمع إلا الربا " يعني فدل ذلك على أن المفرد مضموم الفاء، نحو برمة، وبرم، وصورة، وصور. وقرأ ابن عباس: " ربوة " بالكسر، [والأشهب] العقيلي: " رباوة "، مثل رسالة، وأبو جعفر: " رباوة " مثل كراهة، وقد تقدم أن هذه لغات.
(فصل)
تقدم أن الربوة: هي المرتفع من الأرض، ومنه الرابية، لأن أجزاءها ارتفعت ومنه الربو إذا أصابه نفس في جوفه زائد، ومنه الربا؛ لأنه الزيادة قال المفسرون: إن البستان إذا كان في ربوة من الأرض، كان أحسن، وأكثر ريعا.
قال ابن الخطيب: وفيه إشكال: وهو أن البستان إذا كان في موضع مرتفع من الأرض، فلا ترتفع إليه الأنهار، وتضر به الرياح كثيرا؛ فلا يحسن ريعه وإذا كان في وهدة من الأرض، انصبت إليه مياه الأنهار، ولا يصل إليه إثارة الرياح، فلا يحسن أيضا ريعه فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوة، ولا وهدة فإذن ليس المراد من هذه الربوة، ما ذكروه، بل المراد منه كون الأرض طينا حرا بحيث إذا نزل المطر عليها، انتفخ وربا ونما، فإن الأرض متى كانت بهذه الصفة يكثر ريعها، وتكمل أشجارها، ويؤيد هذا التأويل قوله تبارك وتعالى {وترى الأرض هامدة فإذا
399
أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [الحج: ٥] والمراد من ربوها ما ذكرنا، فكذا ها هنا.
وأيضا فإنه تبارك وتعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأول، وهو الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر، ولا يربو، ولا ينمو؛ بسبب نزول المطر عليه، فكان المراد بالربوة في هذا المثل كون الأرض بحيث تربو، وتنمو والله أعلم.
قال ابن عطية: ورياض الحزن لست من هذا، كما زعم الطبري؛ بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد؛ لأنها خير من رياض تهامة ونبات نجد أعطر، ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال لها حزن وقلما يصلح هواء تهامة إلا بالليل، ولذلك قالت الأعرابية: " زوجي كليل تهامة ".
قوله: " أصابها وابل " هذه الجملة فيها أربعة أوجه:
أحدها: أنها صفة ثانية لجنة، وبدئ هنا بالوصف بالجار والمجرور، ثم بالجملة؛ لأنه الأكثر في لسانهم؛ لقربه من المفرد، وبدئ بالوصف الثابت المستقر وهو كونها بربوة، ثم بالعارض، وهو إصابة الوابل. وجاء قوله في وصف الصفوان بقوله: " عليه تراب " ثم عطف على الصفة " فأصابه وابل " وهنا لم يعطف بل أخرج صفة.
والثاني: أن تكون صفة ل " ربوة ".
قال أبو البقاء: " لأن الجنة بعض الربوة " كأنه يعني أنه يلزم من وصف الربوة بالإصابة، وصف الجنة به.
الثالث: أن تكون حالا من الضمير المستكن في الجار؛ لوقوعه صفة.
الرابع: أن تكون حالا من " جنة "، وجاز ذلك؛ لأن النكرة قد تخصصت بالوصف.
قوله: " فآتت أكلها " أي أعطت و" أكلها " فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: وهو الأصح أن " آتت " تتعدى لاثنين، حذف أولهما وهو " صاحبها "، أو " أهلها ". والذي حسن حذفه، أن القصد الإخبار عما تثمر، لا عمن تثمر له؛ ولأنه مقدر في قوله: " كمثل جنة " أي: غارس جنة، أو صاحب جنة؛ كما تقدم. و" أكلها " هو المفعول الثاني. و" ضعفين " نصب على الحال من " أكلها ".
والثاني: أن " ضعفين " هو المفعول الثاني، وهذا غلط.
والثالث: أن " آتت " هنا بمعنى أخرجت، فهو متعد لمفعول واحد. قال أبو البقاء: " لأن معنى " آتت ": أخرجت، وهو من الإتاء، وهو الريع ". قال أبو حيان:
400
لا نعلم ذلك في لسان العرب ". ونسبة الإتاء إليها مجاز.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " أكلها " بضم الهمزة، وسكون الكاف، وهكذا كل ما أضيف من هذا إلى مؤنث، إلا أبا عمرو، فإنه يثقل ما أضيف إلى غير ضمير، أو إلى ضمير المذكر، والباقون: بالتثقيل مطلقا، وسيأتي إيضاح هذا كله. والأكل بالضم: الشيء المأكول والأكلة في المعنى مثل الطعمة؛ وأنشد الأخفش: [الطويل] ١٢٢٢ -
(فما أكلة إن نلتها بغنيمة ولا جوعة إن جعتها بغرام)
وقال أبو زيد: يقال: إنه لذو أكل، إذا كان له حظ من الدنيا. وبالفتح مصدر، وأضيف إلى الجنة؛ لأنها محله أو سببه ومعنى " ضعفين " أي: ضعفت في الحمل؛ لأن ضعف الشيء مثله زائدا عليه، وقيل: ضعف الشيء مثلاه.
قال عطاء: حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين.
وقال عكرمة: حملت في السنة مرتين.
وقال الأصم: ضعف ما يكون في غيرها.
قوله: " فإن لم يصبها وابل فطل ". الفاء: جواب الشرط، ولا بد من حذف بعدها؛ لتكمل جملة الجواب. واختلف في ذلك على ثلاثة أوجه:
فذهب المبرد إلى أن المحذوف خبر، وقوله: " فطل " مبتدأ، والتقدير: " فطل يصيبها ". وجاز الابتداء هنا بالنكرة؛ لأنها في جواب الشرط، وهو من جملة المسوغات للابتداء بالنكرة، ومن كلامهم: " إن ذهب عير، فعير في الرباط ".
والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: فالذي يصيبها طل.
والثالث: أنه فاعل بفعل مضمر؛ تقديره: فيصيبها طل، وهذا أبينها.
إلا أن أبا حيان قال - بعد ذكر الثلاثة الأوجه - " والأخير يحتاج فيه إلى حذف الجملة الواقعة جوابا، وإبقاء معمول لبعضها؛ لأنه متى دخلت الفاء على المضارع، فإنما هو على إضمار مبتدأ؛ كقوله: ﴿ومن عاد فينتقم الله منه﴾ [المائدة: ٩٥] [أي: فهو ينتقم]، فكذلك يحتاج إلى هذا التقدير هنا، أي: فهي، أي: الجنة يصيبها طل، وأما في
401
التقديرين السابقين، فلا يحتاج إلا إلى حذف أحد جزئي الجملة ". قال شهاب الدين: وفيما قاله نظر؛ لأنا لا نسلم أن المضارع بعد الفاء الواقعة جوابا يحتاج إلى إضمار مبتدأ. ونظير الآية قول امرئ القيس: [الوافر] ١٢٢٣ -
(ألا إن لا تكن إبل فمعزى كأن قرون جلتها العصي)
فقوله " فمعزى " فيه التقادير الثلاثة.
وادعى بعضهم أن في هذه الآية الكريمة تقديما وتأخيرا، والأصل: " أصابها وابل، فإن لم يصبها وابل فطل فآتت أكلها ضعفين " حتى يجعل إيتاؤها الأكل ضعفين على الحالين: من الوابل، والطل، وهذا لا حاجة إليه؛ لاستقامة المعنى بدونه، والأصل عدم التقديم والتأخير، حتى يخصه بعضهم بالضرورة.
والطل: المستدق من القطر الخفيف وقال مجاهد: " هو الندى " وهذا تجوز منه؛ ويقال: " طله الندى وأطله أيضا؛ قال: [الطويل] ١٢٢٤ -
(ولما نزلنا منزلا طله الندى........................)
ويجمع " طل " على طلال؛ نقول: طلت الأرض، وأطلها الندى فهي مطلولة قال الماوردي: وزرع الطل أضعف من زرع المطر، وأقل ريعا.
(فصل)
هذا مثل ضربه الله تعالى؛ لعمل المؤمن المخلص، فيقول: كما أن هذه الجنة تريع في كل حال، ولا تخلف سواء قل المطر أو كثر؛ كذلك يضعف الله صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمن، ولا يؤذي سواء قلت نفقته أو كثرت، وذلك أن الطل إذا كان يدوم، يعمل عمل الوابل الشديد.
وقيل: معناه إن لم يصبها وابل حتى تضاعف ثمرتها، فلا بد وأن يصيبها طل يعطي ثمرا دون ثمر الوابل، فهي على كل حال لا تخلو من ثمرة، فكذلك من أخرج صدقة لوجه الله تعالى، لا يضيع كسبه؛ قليلا كان، أو كثيرا.
قوله: " والله بما تعملون بصير " هذا وعد، ووعيد.
قرأ الجمهور: تعملون خطابا وهو واضح، فإنه من الالتفات من الغيبة إلى
402
الخطاب الباعث على فعل الإنفاق الخالص لوجه الله تعالى، والزاجر عن الرياء والسمعة. وقرأ الزهري: بالياء على الغيبية، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن يعود على المنفقين. والثاني: أن يكون عاما فلا يخص المنفقين، بل يعود على الناس أجمعين؛ ليندرج فيهم المنفقون اندراجا أوليا. والمراد من البصير: العليم، أي: هو تبارك وتعالى عالم بكمية النفقات وكيفيتها والأمور الباعثة عيلها، وأنه تعالى يجازي بها.
403
هذا مثالٌ آخر ذكره اللهُ تعالى في حقِّ من يُتبعُ إنفاقه بالمَنِّ والأَذَى، «الودُّ» : هو المحبةُ الكامِلةُ، والهمزةُ في «أَيَودُّ» للاستفهام، وهو بمعنى الإِنكارِ، وإنما قال: «أَيَوَدُّ»، ولم يقل أَيُرِيد؛ لأنا ذكرنا أن المودة هي المحبةُ التامةُ، ومعلومٌ أن محبةَ كُلِّ أحدٍ لعدم هذه الحالة محبةً كاملة، فلهذا ذكر هذا اللفظ في جانب الثبوت؛ تنبيهاً على الإِنكار التَّام، والنفرةِ البالغةِ إلى الحد الذي لا مزيد فوقه.
قوله تعالى: ﴿مِّن نَّخِيلٍ﴾ في محلِّ رفعٍ؛ صفةً لجنة، أي: كائنة من نخيل. و «نَخِيلٍ» فيه قولان:
أحدهما: أنه اسم جمع.
والثاني: أنه جمع «نَخْل» الذي هو اسم الجنسِ، ونحوه: كلب وكَلِيب، قال الراغب: «سُمِّي بذلك؛ لأنه منخولُ الأشجارِ، وصَفِيُّها؛ لأنه أكرمُ ما يَنْبُتُ» وذكر له منافع وشبهاً من الآدميين.
والأعنابُ: جمع عِنَبَة، ويقال: «عِنَباء» مثل «سِيرَاء» بالمدِّ، فلا ينصرفُ. وحيثُ جاء في القرآن ذكرُ هذين، فإنما يَنصُّ على النخلِ دون ثمرتها، وعلى ثمرةِ الكَرْم دون الكَرْم؛ لأنَّ النخلَ كلَّه منافعُ، وأعظمُ منافِع الكَرْم ثَمرَتهُ دونَ باقيه.
قوله: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا﴾ هذه الجملة في محلِّها وجهان:
أحدهما: أنَّها في محلِّ رفعٍ؛ صفةً لجنة.
والثاني: أنها في محلِّ نصب، وفيه أيضاً وجهان، فقيل: على الحال من «جنَّة» ؛ لأنها قد وُصِفَتْ. وقيل: على أنها خبرُ [تكون] نقله مكيّ.
403
قوله: ﴿لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات﴾ جملة من مبتدإٍ، وخبرٍ، فالخبر قوله: «لَهُ» و «مِنْ» كُلِّ الثَّمَراتِ «هو المبتدأُ، وذلك لا يستقيمُ على الظاهر، إذ المبتدأُ لا يكونُ جارّاً ومجروراً؛ فلا بُدَّ من تأويله. واختلف في ذلك:
فقيل: المبتدأ في الحقيقة محذوفٌ، وهذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌ قائمةٌ مقامه، تقديره:»
له فيها رِزقٌ من كلِّ الثمراتِ، أو فاكهةٌ مِنْ كلِّ الثمرات «فحُذف الموصوفُ، وبقيت صفتُه؛ ومثله قول النَّابغة: [الوافر]
١٢٢٥ - كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ
أي: جملٌ من جمالِ بني أُقَيْشٍ، وقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الصافات: ١٦٤] أي: وما مِنَّا أحدٌ إِلاَّ له مقامٌ.
وقيل:»
مِنْ «زائدةٌ تقديره: له فيها كلُّ الثمرات، وذلك عند الأخفش؛ لأنه لا يَشْتَرِطُ في زيادتها شيئاً.
وأمَّا الكُوفيُّون: فيشترطون التنكير، والبصريون يَشْتَرطونه وعدم الإِيجاب، وإذا قُلنا بالزيادة، فالمرادُ بقوله:»
كُلِّ الثَّمَرَاتِ «التكثيرُ لا العموم، لأنَّ العُمومَ مُتعذِّرٌ.
قال أبو البقاء: ولا يجوزُ أَنْ تكونَ»
مِنْ «زائدةً، لا على قولِ سيبويه ولا قولِ الأخفشِ؛ لأنَّ المعنى يصيرُ: له فيها كُل الثمراتِ، وليسَ الأمرُ على هذا، إلاَّ أَنْ يُرادَ به هنا الكثرة لا الاستيعاب، فيجوزُ عند الأخفش؛ لأنه يُجَوِّزُ زيادةَ» مِنْ «في الواجب.
فإن قيل: كيف عطف «وأَصَابَهُ»
على «أيودُّ» ؟ وكيف يجوزُ عطفُ الماضي على المستقبل؟
فالجواب: من وجوه:
أحدها: أَنَّ الواو للحالِ، والجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ عليها، و «قد» مقدَّرةٌ أي: وقد أصابه، وصاحبُ الحال هو «أَحَدُكُمْ»، والعاملُ فيها «يَودُّ»، ونظيرُها: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨]، وقوله تعالى: ﴿وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا﴾ [آل عمران: ١٦٨] أي: وقد كُنتم، وقد قَعَدوا.
والثاني: أَن يكون قد وضع الماضي موضع المضارع، والتقديرُ «ويُصيبَه الكِبَر» كقوله تعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ﴾ [هود: ٩٨] أي: يوردهُم. قال
404
الفراء: يجوزُ ذلك في «يَوَدُّ» ؛ لأنه يُتَلَقَّى مرةً ب «أَنْ» ومرةً ب «لو» فجاز أن يُقَدَّر أحدُهما مكان الآخر.
الثالث: أنه حُمِل في العطفِ على المعنى؛ لأنَّ المعنى: أَيَودُّ أحدُكم أَنْ لو كانَتْ، فأصابه الكِبَرُ، وهذا الوجهُ فيه تأويلُ المضارع بالماضي؛ ليصِحَّ عطفُ الماضي عليه، عكسُ الوجه الذي قبله، فإنَّ فيه تأويلَ الماضي بالمضارع. واستضعف أبو البقاء هذا الوجه؛ بأنه يُؤدّي إلى تغيير اللفظ مع صحّة المعنى.
والزمخشريُّ نَحَا إلى هذا الوجه - أيضاً - فإنه قال «وقيل: يُقالُ: وَدِدْتُ لو كان كذا؛ فحُمِل العطفُ على المعنى، كأنه قيل: أَيَودُّ أحدُكم لو كانت له جَنَّةٌ، وأصابَه الكِبَرُ».
قال أبو حيان: «وظاهرُ كلامه أَنْ يكونَ» أَصَابَهُ «معطوفاً على متعلِّق» أَيَودُّ «وهو» أَنْ تَكُونَ «؛ لأنه في معنى» لَوْ كانَتْ «، إذ يقال: أيودُّ أحدكم لو كانت، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه يمتنع من حيثُ المعنى أَنْ يكونَ معطوفاً على» كانت «التي قبلها» لو «؛ لأنه متعلَّق الوُدِّ، وأمَّا» أَصابَه الكِبَرُ «فلا يمكنُ أن يكون متعلَّق الودِّ؛ لأنَّ» أصَابه الكِبَرُ «لا يودُّه أَحَدٌ ولا يتمنَّاه، لكن يُحْمل قول الزمخشريُّ على أنه لمّا كان» أَيَوَدُّ «استفهاماً معناه الإِنكارُ جُعِلَ متعلَّقُ الودادةِ الجمع بين الشيئين، وهما: كونُ جنةٍ له، وإصابةُ الكِبَر إياه، لا أنَّ كلَّ واحد منهما يكونُ مَوْدُوداً على انفراده، وإنما أَنكروا ودادة الجمع بينهما».
قوله تعالى: ﴿وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ﴾ هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ في «وأَصابَه»، وقد تقدَّم اشتقاقُ الذريَّة. وقُرئ «ضِعافٌ»، وضُعفاءُ، وضعاف، منقاسان في ضعيف، نحو: ظريف، وظُرَفَاء، وظِراف، وشَريف، وشُرَفاء وشِراف.
قوله: ﴿فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ﴾ هذه الجملة عطفٌ على صفةِ الجنة قبلها، قاله أبو البقاء. يعني على قوله تعالى: ﴿مِّن نَّخِيلٍ﴾ وما بعده.
وأتى في هذه الآياتِ كلِّها بلفظ الإِصابة نحو فأصابه وَابِلٌ، وأَصابَه الكِبَر، فأصابها إعصارٌ؛ لأنه أبلغُ، وأَدَلُّ على التأثير بوقوعِ الفعلِ على ذلك الشيء، من أنه لم يُذكر بلفظ الإِصابة، حتى لو قيل: «وَبَل»، و «كَبِر»، و «أَعْصَرَتْ» لم يكن فيه ما في لفظِ الإِصابة من المبالغةِ.
والإِعصارُ: الريحُ الشديدةُ المُرتفعةُ، وتُسَمِّيها العامَّةُ: الزَّوبعة. وقيل: هي الريحُ السَّموم، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تَلُفُّ كما يُلَفُّ الثوبُ المعصورُ، حكاه المهدوي. وقيل: لأَنها تَعْصِر السَّحابَ، وتُجمع على أَعَاصير، قال: [البسيط]
405
١٢٢٦ - أ - وَبَيْنَما المَرْءُ فِي الأَحْيَاءِ مُغْتَبِطٌ إِذْ هُوَ فِي الرَّمْسِ تَعْفُوهُ الأَعَاصِيرُ
والإعصارُ من بين سائر أسماءِ الريحِ، مذكرٌ، ولهذا رجع إليه الضمير مذكَّراً في قوله: «فيه نارٌ».
و «نَارٌ» يجوز فيه الوجهان: أعني الفاعلية، والجارُّ قبلها صفةٌ ل «إِعْصار» والابتدائية، والجارُّ قبلها خبرها، والجملة صفةُ «إِعْصارٌ»، والأول أَولى؛ لما تقدَّم من أنَّ الوصف بالمفرد أَولى، والجارُّ أقربُ إليه من الجملة.
قوله: ﴿فاحترقت﴾ أي: أحرقها، فاحترَقَتْ، فهو مطاوعٌ لأَحْرق الرباعي، وأمَّا «حَرَقَ» من قولهم: «حَرَقَ نابُ الرجُلِ» إذا اشتدَّ غيظهُ، فيُستعمل لازِماً، ومتعدِّياً، قال: [الطويل]
١٢٢٦ - ب - أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نَابُهُ عَلَيْه فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ مَعَاقِلُهْ
رُوي برفع «نَابهُ» ونصبه، وقوله ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات﴾ إلى آخره قد تقدَّم نظيرُه.

فصل


قال عبيد بن عمير: قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيمن ترون هذه الآية نزلت ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ﴾ ؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقال: قولوا: نعلم، أو لا نعلم، فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك، فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ضُرِبَت مثلاً لعمل فقال عمر: أيُّ عملٍ؟ فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لعمل منافقٍ، ومراءٍ، قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لأي رجل؟ قال لرجل غني يعمل بطاعة الله، بعث الله له الشيطان؛ فعمل بالمعاصي؛ حتى أحرق أعماله.
وقال المفسّرون: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لعمل المنافق، والمرائي، يقول: عمله في حسنه كحسن الجنَّة، كما ينتفع صاحب الجنَّة بالجنة.
406
﴿مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ وإنما خصهما بالذكر؛ لأنهما أشرف الفواكه وأحسنها منظراً حيث تكون باقيةً على الأشجار، ووصف تلك الجنَّة بأن الأنهار تجري من تحتها، وذلك زيادةٌ في الحسن، وأنَّ فيها من كلِّ الثمرات، وهذا سبب لكمال حال هذه الجنَّة من الرؤية، والمنظر، وكثرة النَّفع، والرَّيع، ولا يمكن الزيادة على ذلك، فإذا كبر أو ضعف وصار له أولادٌ ضعافٌ، أي: بسبب الصِّغر، والطفوليَّة، فإنه إذا صار كبيراً؛ عجز عن الاكتساب، وكثرت جهات حاجاته في مطعمه، وملبسه، ومسكنه، ومن يقوم بخدمته، وتحصيل مصالحه، فإذا تزايدت حاجاته، وتناقصت جهات مكسبه، أصاب جنَّته إعصار فيه نارٌ فاحترقت، وهو أحوج ما يكون إليها، وضعف عن إصلاحها؛ لكبره، وضعف أولاده عن إصلاحها؛ لصغرهم، فلم يجد هو ما يعود به على أولاده، ولا أولاده ما يعودون به عليه، فبقوا جميعاً متحيرين عجزةً لا حيلة بأيديهم، كذلك يبطل الله عمل هذا المنافق، والمرائي حيث لا مغيث لهما، ولا توبة، ولا إقالة، ونظير هذه الآية الكريمة ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ﴾ [الزمر: ٤٧] وقوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾ [الفرقان: ٢٣].
407
اعلم أنه تعالى لما ذكر الانفاق على قسمين، وبين كل قسم وضرب له مثلاً، ذكر في هذه الآية كيفية الإِنفاق.
قوله تعالى: ﴿أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ : في مفعول «أَنْفِقُوا» قولان:
أحدهما: أنه المجرور ب «مِنْ»، و «مِنْ» للتبعيض، أي: أنفقوا بعض ما رزقناكم.
والثاني: أنه محذوفٌ قامت صفته مقامه، أي: شيئاً ممَّا رزقناكم، وتقدَّم له نظائر.
و «ما» يجوز أن تكون موصولةً اسمية، والعائد محذوفٌ؛ لاستكمال الشروط، أي: كسبتموه، وأن تكون مصدريةً أي: من طيِّبات كسبكم، وحينئذٍ لا بدَّ من تأويل هذا المصدر باسم المفعول، أي: مكسوبكم، ولهذا كان الوجه الأول أولى.
و ﴿وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا﴾ عطفٌ على المجرور ب «مِنْ» بإعادة الجار، لأحد معنيين: إمَّا التأكيد، وإمَّا للدلالة على عاملٍ آخر مقدرٍ، أي: وأنفقوا ممَّا أخرجنا. ولا بدَّ من حذف مضافٍ، أي: ومن طيبات ما أخرجنا. و «لكم» متعلِّقٌ ب «أخرجنا»، واللام للتعليل. و «مِنَ الأرض» متعلِّقٌ ب «أخرجنا»، و «مِنْ» لابتداء الغاية.
قوله: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث﴾ الجمهور على «تَيَمَّموا»، والأصل: تتيمموا بتاءين، فحذفت إحداهما تخفيفاً: إمَّا الأولى، وإمَّا الثانية، وقد تقدّم تحريره عند قوله: ﴿تَظَاهَرُونَ﴾ [البقرة: ٨٥].
407
وقرأ البزِّيُّ هنا وفي مواضع أُخر بتشديد التاء، على أنه أدغم التاء الأولى في الثانية، وجاز ذلك هنا وفي نظائره؛ لأنَّ الساكن الأول حرف لين، وهذا بخلاف قراءته ﴿نَاراً تلظى﴾ [الليل: ١٤] ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ﴾ [النور: ١٥] فإنه فيه جمع بين ساكنين، والأول حرفٌ صحيحٌ، وفيه كلامٌ لأهل العربية، يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
قال أبو علي: هذا الإدغام غير جائزٍ؛ لأنَّ المدغم يسكَّن، وإذا سكِّن، وجب أن تجلب همزة الوصل عند الابتداء به كما جلبت في أمثلة الماضي، نحو ﴿فادارأتم﴾ [البقرة: ٧٢] و ﴿ارتبتم﴾ [المائدة: ١٠٦] و ﴿اطيرنا﴾ [النمل: ٤٧].
لكن أجمعوا على أنَّ همزة الوصل لا تدخل على المضارع.
وقرأ ابن عباس، والزُّهريُّ «تُيَمِّمُوا» بضم التاء، وكسر الميم الأولى، وماضيه: يمَّم، فوزن «تُيَمَّمُوا» على هذه القراءة: تفعِّلوا من غير حذفٍ، وروي عن عبد الله «تُؤَمِّموا» من أمَّمت، أي: قصدت.
والتيمم: القصد، يقال: أمَّ ك «رَدَّ»، وأمَّم ك «أخَّر»، ويمَّم، وتيمَّم بالتاء، والياء معاً، وتأمَّم بالتاء والهمزة. وكلُّها بمعنى قصد. وفرَّق الخليل - رَحِمَهُ اللَّهُ - بينها بفروقٍ لطيفةٍ، فقال: «امَّمْتُه أي قصدت أمامه، ويمَّمْتُه: قصدته من أيِّ جهةٍ كان».
والخبيث والطيب: صفتان غالبتان، لا يذكر موصوفهما؛ قال تعالى: ﴿والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ﴾ [النور: ٢٦]، ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث﴾ [الأعراف: ١٥٧]، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«مِنَ الخُبْثِ، والخَبائث».
قوله: ﴿مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ «منه» متعلِّقٌ بتنفقون، وتنفقون فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل في «تَيَمَّموا» أي: لا تقصدوا الخبيث منفقين منه، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرة، لأن الإنفاق منه يعق بعد القصد إليه، قاله أبو البقاء وغيره.
408
والثاني: أنها حالٌ من الخبيث؛ لأن في الجملة ضميراً يعود إليه، أي: لا تقصدوا منفقاً منه.
والثالث: أنه مستأنف منه ابتداء إخبار بذلك، وتمَّ الكلام عند قوله: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث﴾ ثم ابتدأ خبراً آخر، فقال: تنفقون منه، وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم، كأن هذا عتابٌ للناس، وتقريعٌ.
والتقدير: تنفقون مع أنكم لستم بآخذيه إلا مع الإغماض، فهو استفهامٌ على سبيل الإنكار. قال شهاب الدِّين: وهذا يردُّه المعنى.

فصل في بيان المراد من النفقة


اختلفوا في المراد بهذه النفقة: فقال الحسن: المراد بها الزكاة المفروضة؛ لأن هذا أمرٌ، والأمر للواجب.
وقال قومٌ: صدقة التطوع؛ لما روي عن علي، والحسن، ومجاهد: أنهم قالوا: كانوا يتصدَّقون بشرار ثمارهم، ورديء أموالهم؛ فنزلت هذه الآية.
«وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال جاء رجلٌ ذات يوم بعذق خشف فوضعه في الصَّدقة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» بِئْسَ مَا صَنَعَ صاحبُ هذا «فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال آخرون: المراد الفرض، والنفل؛ لأن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على جانب الترك من غير أن يكون فيه بيان أنه يجوز الترك أو لا يجوز وهذا المفهوم قدرٌ مشتركٌ بين الفرض والنَّفل؛ فوجب أن يدخلا فيه، فعلى القول بأنَّه الزكاة فنقول: ظاهر الآية يدلُّ على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان، من الذَّهب، والفضَّة، والتجارة، وزكاة الإبل، والغنم، والبقر؛ لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسبٌ.
قال القرطبيُّ: والكسب يكون بتعب بدنٍ، وهي الإجارة، أو مقاولة في تجارةٍ، وهو البيع، والميراث داخلٌ في هذا؛ لأن غير الوارث قد كسبه.
وقال ابن خويزمنداد: ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
أَوْلاَدُكُمْ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِ أَوْلاَدِكُمْ هَنِيئاً «.
409
قوله: ﴿وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض﴾ يدلُّ على وجوب الزَّكاة في كل ما تنبته الأرض، على ما هو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وخصَّ مخالفوه هذا العموم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» لَيْسَ في الخُضْرَوَاتِ صَدَقَةٌ «وأستدل أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضاً بهذه الآية الكريمة على وجوب إخراج الزكاة من كلِّ ما أنبتته الأرض، قليلاً كان، أو كثيراً؛ لظاهر الآية وخصَّ مخالفوه هذا العموم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
«لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَة أَوْسُق صَدَقَةٌ»
.
أما المعدن والرِّكازُ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «العَجْمَاءُ جَرْحُها جُبَارٌ، والبِئْرُ جُبَارٌ، والمعْدنُ جُبَارٌ، وفي الرِّكاز الخمسُ» الجبار: الهدر الذي لا شيء فيه، والعجماء: الدَّابَّة، والرِّكاز: هو ما دفنه أهل الجاهلية وعليه علامتهم.

فصل


اختلفوا في الطِّيب: فقيل: هو الجيد، فعلى هذا يكون الخبيث هو الرديء. وقال
410
ابن مسعودٍ، ومجاهدٌ، والسدّي: الطيب هو الحلال، وعلى هذا، فالخبيث هو الحرام.
حجة الأول ما ذكرنا في سبب النزول، ولأن المحرم لا يجوز أخذه؛ لا بإغماضٍ ولا غيره، والآية تدلُّ على جواز أخذه بالإغماض.
قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الإغماض: المسامحة، وترك الاستقصاء، فيكون المعنى: ولستم بآخذيه، وأنتم تعلمون أنه محرَّم؛ إلاَّ أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام، ولا تبالون من أيِّ وجهٍ أخذتم المال أمن حلالٍ، أم حرام.
واحتجُّوا - أيضاً - بقوله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: ٩٢] وذلك يؤكد أنَّ المراد بالطيب هو النَّفيس الذي يستطاب تملكه، لا الخسيس الذي يرفضه كل أحد واحتجَّ القاضي للقول الثاني: بأنَّا أجمعنا على أن الطِّيب في هذه الآية؛ إمَّا الجيد؛ وإما الحلال، فإذا بطل الأول، تعيَّن الثاني.
وإنما قلنا: بطل الأول؛ لأن المراد لو كان هو الجيد، لكان ذلك أمراً بإنفاق مطلق الجيِّد سواءٌ كان حلالاً أو حراماً، وذلك غير جائزٍ، والتزام التخصيص خلاف الأصل؛ فتعين الحلال.
قال ابن الخطيب: ويمكن أن يذكر فيه قولٌ ثالثٌ، وهو: أن المراد من «الطِّيِّب» - هاهنا - ما يكون طيِّباً من كلِّ الوجوه، فيكون طيّباً بمعنى: الحلال، ويكون طيِّباً بمعنى: الجودة، وليس لقائلٍ أن يقول إنَّ حمل اللفظ المشترك على مفهوميه، لا يجوز؛ لأنا نقول: الحلال إنما يسمى طيِّباً؛ لأنه يستطيبه العقل، والدِّين، والجيد: إنما يسمَّى طيباً؛ لأنه يستطيبه الميل، والشهوة. فمعنى الاستطابة مفهومٌ واحدٌ مشترك بين القسمين، فكان اللفظ محمولاً عليه. إذا ثبت أنَّ المراد منه الجيد الحلال؛ فنقول: الأموال الزكاتيَّة إما أن تكون كلُّها شريفةً، أو كلها خسيسةٌ، أو تكون متوسطة أو مختلطة، فإن كان الكل شريفاً، كان المأخوذ بحساب الزكاة كذلك، وإن كان الكل خسيساً، كانت الزكاة كذلك، أيضاً، ولا يكون ذلك خلافاً للآية؛ لأن المأخوذ في هذه الحالة لا يكون خسيساً من ذلك المال بل إذا كان في المال جيد ورديء، فحينئذٍ يقال للإنسان: لا تجعل الزكاة من رديء مالك، وأمَّا إن كان المال مختلطاً، فالواجب هو الوسط، «قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمعاذٍ حين بعثه إلى اليمن:» إِيَّاكَ وكَرَائِمَ أَمْوَالهمْ «وأما إن قلنا: المراد صدقة التطوع أو كلاهما،
411
فنقول: إنَّ الله تعالى ندبهم إلى التقرُّب إليه بأفضل ما يملكونه، كمن يتقرب إلى السُّلطان بتحفة، وهدية، فلا بدّ وأن تكون تلك التحفة أفضل ما في ملكه، فكذا - هاهنا -.
قوله: ﴿وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ﴾ هذه الجملة فيها قولان:
أحدهما: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب، وإليه ذهب أبو البقاء.
والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، ويظهر هذا ظهوراً قوياً عند من يرى أن الكلام قد تمَّ عند قوله: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث﴾ وما بعده استئنافٌ، كما تقدَّم.
والهاء في ﴿بِآخِذِيهِ﴾ تعود على «الخَبِيث» وفيها، وفي نحوها من الضمائر المتصل باسم الفاعل؛ قولان مشهوران:
أحدهما: أنها في محلِّ جر، وإن كان محلُّها منصوباً؛ لأنها مفعولٌ في المعنى.
والثاني: - وهو رأي الأخفش - أنها في محلِّ نصبٍ، وإنما حذف التنوين، والنون في نحو: «ضَارِبُنْكَ» بثبوت التنوين، وقد يستدلُّ لمذهبه بقوله: [الطويل]
١٢٢٧ - هُمُ الفَاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ..........................
وقوله الآخر: [الطويل]
١٢٢٨ - وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ...........................
فقد جمع بين النون النائبة عن التنوين، وبين الضمير.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ﴾ الأصل: إلاَّ بأن، فحذف حرف الجرِّ مع «أنْ» فيجيء فيها القولان: أهي في محلِّ جرٍّ، أم نصب؟ وهذه الباء تتعلَّق بقوله: ﴿بِآخذيه﴾. وأجاز أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن تكون «أنْ» وما في حيِّزها في محلِّ نصب على الحال، والعامل فيها «آخِذيه». والمعنى: لَسْتُم بآخذِيه في حالٍ من الأحوال إلا في حال الإغماض، وقد تقدَّم أنَّ سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجيز أن تقع «أَنْ»، وما في حيِّزها موقع الحال. وقال
412
الفراء: المعنى على الشرط والجزاء؛ لأنَّ معناه: إن أغمضتم أخذتم، ولكن لمَّا وقعت «إلاَّ» على «أَنْ»، فتحها، ومثله، ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَآ﴾ [البقرة: ٢٢٩] ﴿إَلاَّ أَن يَعْفُونَ﴾ [البقرة: ٢٣٧]. وهذا قول مردودٌ.
والجمهور على: «تُغْمِضُوا» بضمِّ التاء، وكسر الميم مخففةً؛ من «أَغْمَض»، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه على حذف مفعوله، تقديره: تغمضوا أبصاركم، أو بصائركم.
والثاني: في معنى ما لا يتعدَّى، والمعنى إلاَّ أن تغضوا، من قولهم: «أَغْضَى عنه».
وقرأ الزهريُّ: «تُغَمِّضُوا» بضم التاء، وفتح الغين، وكسر الميم مشددةً؛ ومعناها كالأولى. وروي عنه أيضاً: «تَغْمَضُوا» بفتح التاء، وسكون الغين، وفتح الميم؛ مضارع «غَمِضَ» بكسر الميم، وهي لغةٌ في «أَغْمض» الرباعي، فيكون ممَّا اتفق فيه فعل وأفعل.
وروي عن اليزيديّ: «تَغْمُضُوا» بفتح التاء، وسكون الغين، وضمِّ الميم.
قال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وهو مِنْ: يَغْمُضُ، كظرفُ يظرُفُ، أي: خَفِيَ عليكم رأيُكم فيه».
وروي عن الحسن: «تُغَمَّضُوا» بضمِّ التاء، وفتح الغين، وفتح الميم مشددةً على ما لم يسمَّ فاعله.
وقتادة كذلك، إلا أنه خفَّف الميم، والمعنى: إلاَّ أن تحملوا على التغافل عنه، والمسامحة فيه. وقال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قراءة قتادة: «ويجوزُ أن يكون مِنْ أغْمَضَ، أي: صودف على تلك الحال؛ كقولك: أَحْمَدْتُ الرجُلَ، أي: وجدته مَحْمُوداً» وبه قال أبو الفتح.
وقيل فيها أيضاً: إنَّ معناها إلاَّ أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه.
والإغماض: في اللغة غضُّ البصر، وإطباق الجفن، وأصله من الغموض، وهو الخفاء، يقال: هذا كلامٌ غامضٌ أي خفي الإدراك.
قال القرطبيُّ: من قول العرب: أغمض الرجل؛ إذا أتى غامضاً من الأمر؛ كما
413
تقول: أعمن الرجل: إذا أتى عمان، وأعرق: إذا أتى العراق، وأنجد: إذا أتى نجداً، وأغار: إذا أتى الغور الذي هو تهامة.
أو من أغمض الرجل في أمر كذا: إذا تساهل فيه، والغمض: المتطامن الخفيُّ من الأرض، فقيل المراد به في الآية المساهلة؛ لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه؛ لئلا يرى ذلك، ثم كثر ذلك؛ حتى جُعِل كل تجاوزٍ، ومساهلةٍ في البيع، وغيره إغماضاً، فتقديره في الآية: لو أُهْدِي إليكم مثل هذه الأشياء، لما أخذتموها إلاَّ على استحياءٍ، وإغماضٍ، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟! قاله البراء.
وقيل معناه: لو كان لأحدكم على رجل حقٌّ، فجاءه بهذا لم يأخذه إلاَّ وهو يرى أنه قد أغمض له عن حقِّه، وتركه.
وقال الحسن، وقتادة: لو وجدتموه يباع في السوق، ما أخذتموه بسعر الجيد؛ إلاَّ إذا أغمضتم بصر البائع، يعني أمرتموه بالإغماض، والحطِّ من الثمن.
ثم قال: ﴿واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ والمعنى أنَّه غنيٌّ عن صدقاتكم، و «الحميد» أي: محمودٌ على ما أنعم بالبيان.
وقيل: قوله: «غَنِيٌّ» كالتَّهديد على إعطاء الرديء في الصدقات، و «حَمِيدٌ» : بمعنى حامدٍ، أي: أنا أحمدكم على ما تفعلونه من الخيرات، وهو كقوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً﴾ [الإسراء: ١٩].
414
قوله تعالى: ﴿الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء... ﴾ الآية: مبتدأٌ وخبرٌ، وتقدَّم اشتقاق الشيطان، وما فيه عند الاستعاذة. ووزن يعدكم: يعلكم بحذف الفاء، وهي الواو؛ لوقوعها بين ياءٍ، وكسرةٍ، وقرأ الجمهور: «الفَقْر» بفتح الفاء، وسكون القاف، وروى أبو حيوة، عن بعضهم: «الفُقْر» بضم الفاء وهي لغةٌ، وقرئ «الفَقَر» بفتحتين.
والوعد: يستعمل في الخير، والشَّرِّ؛ قال تعالى في الخبر: ﴿وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً﴾ [الفتح: ٢٠] وقال في الشَّرِّ: ﴿النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ﴾ [الحج: ٧٢] ويمكن أن يحمل هذا على التهكم به كقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١] فإذا لم يذكر الخير والشر، قلت في الخير: وعدته، وفي الشر أوعدته؛ قال: [الطويل]
414
١٢٢٩ - وَإِنِّيَ إِنْ أَوْعَدتُهُ أَوْ وَعَدتُهُ لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
والفَقْر والفُقْر لغتان؛ وهو الضعيف بسبب قلَّة المال، وأصله في اللغة: كسر الفقار، يقال: رجلٌ فقيرٌ وفَقِرٌ، إذا كان مكسور الفقار؛ قال طرفة: [الرمل]
١٢٣٠ -................................ إِنَّنِي لَسْتُ بِمَوْهُونٍ فَقِرْ
وسيأتي له مزيد بيان في قوله: «لِلْفُقَراءِ».

فصل في المراد من الآية


معنى الآية الكريمة أن الشيطان يخوّفكم الفقر، ويقول للرجل: أمسك عليك مالك؛ فإنك إذا تصدقت به افتقرت.
وهذه أوجه اتصال هذه الآية بما قبلها.
قيل المراد ب «الشيطان» : إبليس، وقيل: شياطين الجن، والإنس.
وقيل: النَّفس الأمَّارة بالسُّوء.
﴿وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء﴾ أي: بالبخل، ومنع الزكاة.
قال الكلبي: كلُّ فحشاء في القرآن فهو الزنا إلاَّ هذا، والفاحش عند العرب: البخيل، قال طرفة: [الطويل]
١٢٣١ - أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ وَيَصْطَفِي عَقِيلَةَ مَالِ الفَاحِشِ المُتَشَددِ
«يعتامُ» : منقولٌ من عام فلانٌ إلى اللبن، إذا اشتهاه، وقد نبَّه الله تعالى في هذه الآية الكريمة على لطيفةٍ، وهي أنَّ الشيطان يخوفه أولاً بالفقر، ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء، ويغريه على البخل؛ وذلك لأن البخل صفةٌ مذمومةٌ عند كل أحد فالشيطان لا يمكنه تحسين البخل في عينه إلاَّ بتقديم تلك المقدمة، وهي التخويف من الفقر، وقيل «الفَحْشَاءُ» : هو أن يقول: لا تنفق الجيد من مالك في طاعة الله تعالى؛ لئلا تصير فقيراً؛ فإذا أطاع الرجل الشيطان في ذلك، زاد الشيطان فيمنعه من الإنفاق بالكلية؛ حتى لا يعطي الجيد، ولا الرديء، وحتى يمنع الحقوق الواجبة، فلا يؤدِّي الزكاة، ولا
415
يصل الرحم، ولا يردُّ الوديعة، فإذا صار هكذا، سقط وقع الذنوب عن قلبه، ويصير غير مبالٍ بارتكابها، وهناك يتَّسع الخرق، ويصير مقداماً على كلِّ الذنوب، وذلك هو الفحشاء، وتحقيقه: أنَّ لكل خلقٍ طرفين، ووسطاً، فالطرف الكامل: هو أن يكون بحيث يبذل كلَّ ما يملكه في سبيل الله: الجيِّد، والرديء، والطرف الفاحش النَّاقص لا ينفق شيئاً في سبيل الله: لا الجيد، ولا الرديء، والمتوسط بأن يبخل بالجيد، وينفق الرديء، فالشيطان إذا أراد نقله من الطرف الفاضل إلى الطرف الفاحش، لا يمكنه إلاَّ بأن يجره إلى الوسط، فإن عصى الإنسان الشيطان في هذا المقام، انقطع طمع الشيطان عنه، وإن أطاعه فيه، طمع في أن يجرَّه من الوسط إلى الطرف الفاحش، فالوسط: هو قوله تعالى: ﴿يَعِدُكُمُ الفقر﴾ والطرف الفاحش قوله تعالى: ﴿وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء﴾.
وقال القرطبيُّ: «الفَحْشَاءُ» : المعاصي، قال: ويجوز في غير القرآن: ويأمركم الفحشاء بحذف الباء، وأنشد سيبويه: [البسيط]
١٢٣٢ - أ - أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبٍ

فصل في بيان هل الفقر أفضل من الغنى؟!


تمسك بعضهم بهذه الآية في أنَّ الفقر أفضل من الغنى، لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير، وهو بتخويفه الفقر يبعد منه.
قال ابن عطية: وليس في الآية حجَّةٌ؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين﴾ [سبأ: ٣٩] ثم قال: ﴿والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ﴾ لذنوبكم، كقوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: ١٠٣].
وفي الآية لفظان يدلان على كمال هذه المغفرة:
أحدهما: التنكير في لفظ «المغْفِرَةِ»، والمعنى: مغفرةٌ وأيُّ مغفرة.
والثاني: قوله: «مَغْفِرَةً مِنْه» يدل على كمال حال هذه المغفرة؛ لأن كمال كرمه ونهاية جوده، معلومٌ لجميع العقلاء، فلما خص هذه المغفرة بكونها منه، علم أنَّ
416
المقصود تعظيم حال هذه المغفرة؛ لأنَّ عظم المعطي يدلُّ على عظم العطيَّة.
قوله: ﴿مِّنْهُ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه نعتٌ لمغفرة.
والثاني: أن يكون مفعولاً متعلقاً بيعد، أي: يعدكم من تلقاء نفسه.
و ﴿وَفَضْلاً﴾ صفته محذوفةٌ، أي: وفضلاً منه، وهذا على الوجه الأول، وأمَّا الثاني، فلا حذف فيه.

فصل


يحتمل أن يكون المراد من كمال هذه المغفرة ما قاله في آيةٍ أخرى: ﴿فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان: ٧٠]، ويحتمل أن يجعل شفيعاً في غفران ذنوب سائر المذنبين، ويحتمل أن يكون المقصود أمراً لا يصل إليه عقلنا ما دمنا في دار الدنيا، فإن تفاصيل أحوال الآخرة أكثرها محجوبة عنا، ما دمنا في الدنيا.
وأمَّا معنى الفضل، فهو الرزق، والخلف المعجَّل في الدنيا.
ثم قال تعالى: ﴿والله وَاسِعٌ﴾، أي: واسع المغفرة والقدرة على إغنائكم، وإخلاف ما تنفقونه ﴿عَلِيمٌ﴾ لا يخفى عليه ما تنفقون؛ فهو يخلفه عليكم.
417
قال السَّدِّي: هي النبوة.
وقال ابن عباس، وقتادة: علم القرآن: ناسخه، ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدّمه، ومؤخره، وحلاله، وحرامه، وأمثاله.
قال الضحاك: في القرآن مائةٌ وتسع آياتٍ، ناسخةٌ ومنسوخةٌ، وألف آية حلالٌ وحرامٌ، لا يسع المؤمنين تركهن، حتى يتعلموهنَّ، ولا يكونوا كأهل النهروان فإنهم تأوَّلوا آيات من القرآن في أهل القبلة، وإنما أنزلت في أهل الكتاب، جهلوا علمها، فسفكوا بها الدماء، وانتهبوا الأموال، وشهدوا علينا بالضلال، فعليكم تعلم القرآن؛ فإنه من علم فيما أُنزل؛ لم يختلف في شيء منه.
417
وقال مجاهد: هي القرآن، والعلم، والفقه، وروى ابن أبي نجيح عنه هي الإصابة في القول، والفعل.
وقال إبراهيم النخعيُّ: هي معرفة معاني الأشياء، وفهمها.
وروي عن مقاتل، قال: تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه:
أحدها: مواعظ القرآن. قال: ﴿وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ [البقرة: ٢٣١] وفي النساء ﴿وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة﴾ [النساء: ١١٣] يعني المواعظ ومثلها في آل عمران.
وثانيها: الحكمة بمعنى: الفهم، والعلم قال ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً﴾ [مريم: ١٢] وفي لقمان: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة﴾ [لقمان: ١٢] يعني الفهم، والعلم، وفي الأنعام ﴿أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب والحكم والنبوة﴾ [الأنعام: ٨٩] وفي «ص» ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكمة﴾ [ص: ٢٠].
وثالثها: النبوة.
ورابعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار، قال في النحل: ﴿ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة﴾ [النحل: ١٢٥] وفي هذه الآية ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ وعند التحقيق ترجع هذه الوجوه إلى العلم.
قال أبو مسلم: الحكمة: فعلةٌ من الحكم، وهي كالنَّحلة: من النَّحل، ورجلٌ حكيمٌ إذا كان ذا حِجًى، ولُبَّ، وإصابة رأي وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل، ويقال: أمر حكيمٌ، أي: محكمٌ.
قوله تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ﴾ : الجمهور على «يُؤْتِي» «وَمَنْ يُؤْتَ» بالياء فيهما، وقرأ الريع بن خيثم: بالتاء على الخطاب فيهما. وهو خطابٌ للباري؛ على الالتفات.
وقرأ الجمهور: «وَمَنْ يُؤْتَ» مبنياً للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير «مَنْ» الشرطية، وهو المفعول الأول فتكون في محل رفع، و «الحكمة» مفعول ثانٍ.
418
وقرأ يعقوب: «يُؤْتِ» مبنياً للفاعل، والفاعلُ ضميرُ الله تعالى، و «مَنْ» مفعولٌ مقدمٌ، و «الحكمة» مفعولٌ ثانٍ؛ كقولك: «أَيّاً يُعْطِ زيداً دِرْهماً أُعْطِه درهماً» ويدل لهذه القراءة قراءة الأعمش.
وقال الزمخشريُّ: بمعنى «وَمْن يُؤْتِهِ اللهُ». قال أبو حيان: «إِن أرادَ تفسير المعنى، فهو صحيحٌ، وإن أراد الإعراب، فليس كذلك؛ إذ ليس ثمَّ ضمير نصب محذوفٌ، بل مفعول» يُؤْتِ «من الشرطية المتقدمة». قال شهاب الدين: ويؤيِّد تقدير الزمخشري قراءة الأعمش.
قوله: ﴿فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ جواب الشرط، والماضي المقترن بقد، الواقع جواباً للشرط، تارةً يكون ماضي اللفظ مستقبل المعنى، كهذه الآية الكريمة، فهو الجواب حقيقةً، وتارةً يكون ماضي اللفظ، والمعنى نحو:
﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ﴾ [فاطر: ٤] فهذا ليس جواباً، بل الجواب محذوفٌ، أي: فتسلَّ، فقد كذِّبت رسلٌ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
والتنكير في «خَيْراً» قال الزمخشريُّ: يفيد التعظيم، كأنه قال: فقد أُوتي [أيَّ] خير كَثيرٍ «. قال أبو حيَّان: وتقديره هكذا، يؤدي إلى حذف الموصوف ب» أَيَّ «وإقامة الصفة مقامه، فإنَّ التقدير: فقد أُوتِيَ خيراً أي خيرٍ كثيرٍ، وحذف» أيَّ «الواقعة صفةً، وإقامة المضاف إليها مقامها، وكذلك وصف ما يضاف إليه» أيَّ «الواقعة صفةً، نحو: مررت برجلٍ أيِّ رجلٍ كريم، وكلُّ هذا يحتاج في إثباته إلى دليلٍ، والمحفوظ عن العرب: أنَّ» أيّاً «الواقعة صفةً تضاف إلى ما يماثل الموصوف نحو:
١٢٣٢ - ب - دَعَوْتُ امْرَأً أَيَّ امْرِئٍ فَأَجَابَنِي وَكُنْتُ وَإِيَّاهُ مَلاَذاً وَمَوْئِلاً
وقد يحذف المصوف ب»
أي «؛ كقوله: [الطويل]
١٢٣٣ - أ - إِذَا حَارَبَ الحَجَّاجُ أَيَّ مُنَافِقٍ عَلاَهُ بِسَيْفٍ كُلَّما هُزَّ يَقْطَعُ
تقديره: منافقاً أيَّ منافقٍ، وهذا نادرٌ، وقد تقدم أنَّ تقدير الزمخشريِّ كذلك، أعني كونه حذف موصوف»
أيّ «كقراءة الأعمش بإثبات» ها «الضمير و» مَنْ «في قراءته مبتدأٌ، لاشتغال الفعل بمعموله، وعند من يجوِّز الاشتغال في أسماء الشَّرط، والاستفهام، يجوز في»
419
مَنْ «النصب بإضمار فعلٍ، وتقديره متأخراً والرفع على الابتداء، وقد تقدم نظائر هذا.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة


احتجُّوا بهذه الآية الكريمة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى؛ لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم، لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية؛ لأنها حاصلة للبهائم، والمجانين، والأطفال، وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكمة، فهي مفسرة بالعلوم النظرية، وإن فسرناها بالأفعال الحسية فالأمر ظاهرٌ، وعلى التقديرين: فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية، والحسية ثابتاً من غيرهم، وبتقدير مقدِّرٍ من غيرهم، وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوة أو القرآن، أو قوة الفهم أو الخشية، على ما قال الرَّبيع بن أنسٍ؟
فالجواب: إنَّ الدليل الذي ثبت بالتواتر أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء فتكون الحكمة مغايرة للنبوة والقرآن، بل هي مفسرة: إمَّا بمعرفة حقائق الأشياء، أو بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة، وعلى التقديرين، فالمقصود حاصلٌ فإن حاولت حمل الإيتاء على التوفيق، والإعانة، والألطاف، قلنا: كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين، فقد فعل مثله في حق الكفَّار، مع أن هذا المدح العظيم لا يتناولهم، فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيءٌ آخر سوى فعل الألطاف.
قوله: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب﴾ وأصل»
يَذَّكَّرُ «: يتذكر، فأدغم.
»
وأُولُوا الأَلْبَابِ «ذوو العقول، ومعناه: أن الإنسان إذا تأمَّل، وتدبر هذه الأشياء، وعرف أنها لم تصل إلاَّ بإيتاء الله تعالى، وتيسيره، كان من أولي الألباب.
420
قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ﴾ كقوله: ﴿مَا نَنسَخْ﴾ [البقرة: ١٠٦] ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾ [البقرة: ١٩٧] وقد تقدَّم. وأيضاً تقدَّم الكلام في مادة «نَذَرَ» في قوله: ﴿أَأَنذَرْتَهُمْ﴾ [البقرة: ٦]، إلاَّ أنَّ النَّذر له خصوصيَّة: وهو عقد الإنسان ضميره على شيءٍ، يقال: نذر ناذرٌ؛ قال عنترة: [الكامل]
420
وأصله من التَّخويف تقول أنذرت القوم إنذاراً بالتخويف، وفي الشرع على ضربين: مفسر: كقوله للهِ عليَّ عَتْق رَقَبةٍ، ولِلَّهِ عليَّ حجٌّ فهاهنا يلزم الوفاء، ولا يجزيه غيره، وغير مفسَّر كقوله: نذرت لله تعالى ألاَّ أفعل كذا، ثم يفعله، أو يقول: لله عليَّ نذرٌ، ولم يسمِّه، فيلزمه كفارة يمينٍ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «َمَنْ نَذَرَ نَذْراً، وسَمَّى فَعَلْيهِ ما سمَّى، ومَنْ نَذَرَ نَذْراً، ولَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارةُ يَمِينٍ».
قوله: ﴿فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ﴾ جواب الشرط؛ إن كانت «ما» شرطيةً، أو زائدة في الخبر، إن كانت موصولة.
فإن قيل: لم وحَّد الضمير في «يَعْلَمُه» وقد تقدم شيئان النفقة، والنذر؟
فالجواب أن العطف هنا ب «أو»، وهي لأحد الشيئين، تقول: «إنْ جاء زيدٌ، أو عمروٌ أكرمتُه»، ولا يجوز: أكرمتها، بل يجوز أن تراعي الأول نحو: زيدٌ أو هندٌ منطلقٌ، أو الثاني، نحو: زيدٌ أو هندٌ منطلقة، والآية من هذا، ولا يجوز أن يقال: منطلقان. ولهذا أوَّل النحاة: ﴿إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا﴾ [النساء: ١٣٥] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ومن مراعاة الأول قوله: ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: ١١]، على هذا لا يحتاج إلى تأويلات ذكرها المفسرون. وروي عن النَّحاس أنه قال: التقدير: وما أنفقتم من نفقةٍ، فإنَّ الله يعلمها، أو نذرتم من نذر، فإنَّ الله يعلمه، فحذف، ونظَّره بقوله تعالى: ﴿والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا﴾ [التوبة: ٣٤] وقوله: [المنسرح]
١٢٣٣ - ب - الشَّاتِمَيْ عِرْضِي وَلَمْ أَشْتِمْهُمَا والنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَم الْقَهُمَا دَمِي
١٢٣٤ - نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وقول الآخر في هذا البيت: [الطويل]
١٢٣٥ - رَمَانِي بأَمْرٍ كُنْتُ مِنْه وَوَالِدِي بَرِيئاً وَمِنْ أَجْلِ الطَوِيِّ رَمَانِي
وهذا لا يحتاج إليه؛ لأنَّ ذلك إنما هو في الواو المقتضية للجمع بين الشيئين، وأمَّا «
421
أَوْ» المقتضية لأحد الشيئين، فلا. وقال الأخفش: الضمير عائدٌ إلى الأخير كقوله: ﴿وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً﴾ [النساء: ١١٢] وقيل: يعود إلى «ما» في قوله: «وَمَا أَنْفَقْتُمْ» لأنها اسمٌ كقوله: ﴿وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ [البقرة: ٢٣١]، ولا حاجة إلى هذا أيضاً؛ لما عرفت من حكم «أو».
قوله: ﴿فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ﴾ أفاد: الوعد العظيم للمطيعين، والوعيد الشديد للمتمردين، لأنه يعلم ما في قلب المتصدق من الإخلاص فيتقبل منه تلك الطاعة؛ كما قال:
﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين﴾ [المائدة: ٢٧]، وقوله: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧، ٨].
قوله: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ اعلم أنَّ الظالم قسمان:
الأول: من ظلم نفسه وهو يشتمل على كل المعاصي.
الثاني: من ظلم غيره بأن لا ينفق أو لا يصرف الإنفاق عن المستحق إلى غ يره، أو ينفق على المستحقِّ رياءً وسمعةً، أو يفسدها بالمعاصي وهذان القسمان الأخيران ليسا من باب الظُّلم على الغير، بل من باب الظلم على النَّفس.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة في إنكار الشفاعة


تمسَّك المعتزلة بهذه الآية، في نفي الشَّفاعة عن أهل الكبائر، قالوا: لأنَّ ناصر الإنسان من يدفع الضرر عنه، فلو اندفعت العقوبة عنهم بالشفاعة، لكان أولئك الشفعاء أنصاراً لهم، وذلك يضاد الآية.
وأجيبوا بوجوه:
الأول: أن الشفيع لا يسمَّى في العرف ناصراً، بدليل قوله: ﴿واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ [البقرة: ١٢٣] ففرَّق تعالى بين الشفيع، والناصر؛ فلا يلزم من نفي الناصر نفي الشفيع.
الثاني: أن الشفيع إنما يشفع عن المشفوع عنده على سبيل استعطافه، والناصر ينصره عليه، والفرق ظاهرٌ.
وأجاب آخرون: بأنه ليس لمجموع الظالمين من أنصارٍ.
فإن قيل: لفظ «الظَّالِمِينَ»، ولفظ «الأَنْصَارِ» جمعٌ، والجمع إذا قوبل بالجمع، توزع الفرد على الفرد، فكان المعنى: ليس لأحدٍ من الظالمين، أحدٌ من الأنصار.
قلنا لا نسلّم أن مقابلة الجمع بالجمع توجب توزع الفرد على الفرد؛ لاحتمال أن يكون المراد مقابلة الجمع بالجمع فقط لا مقابلة الفرد بالفرد.
الوجه الثالث: أن هذا الدليل للشفاعة عامٌّ في حقِّ الكلِّ في الأشخاص،
422
والأوقات، ودليل إثبات الشفاعة خاصٌّ في بعض الأوقات، والخاصُّ مقدمٌ على العامِّ.
الوجه الرابع: ما بينا أن اللفظ العامَّ لا يكون قاطعاً في الاستغراق؛ بل ظاهرٌ على سبيل الظن القويِّ، فصار الدليل ظنياً، والمسألة ليست ظنيَّة، فسقط التمسُّك بها.
و «الأَنْصَارُ» جمع نصير؛ كأشرافٍ، وشريف، وأحبابٍ، وحبيب.
423
قوله: ﴿إِن تُبْدُواْ الصدقات﴾ أي تُظهرونها ﴿فَنِعِمَّا هِيَ﴾.
الفاء جواب الشرط، و «نِعْمَط فعلٌ ماضٍ للمدح، نقيض بئس، وحكمها في عدم التصرف، والفاعل، واللغات حكم بئس، كما تقدَّم.
و»
مَا «في محلِّ الرفع. و» هِيَ «في محل النصب، كما تقول: نِعْمَ الرجل رجلاً، فإذا عرَّفت، رفعت فقلت: نِعْمَ الرجلُ زَيْدٌ.
قال الزجاج:»
ما «في تأويل الشيء، أي: نعم الشيء هو.
قال أبو علي: الجيد في تمثيل هذا أن يقال:»
ما «في تأويل شيءٍ؛ لأن» مَا «ها هنا نكرةٌ فتمثيله بالنكرة أبين، والدليل على أن» ما «ها هنا نكرةٌ أنها لو كانت معرفةً، فلا بد لها من صلة، وليس ها هنا ما يوصل به؛ لأن الموجود بعد» ما «هو» هي «وكلمة» هِيَ «مفردةٌ، والمفرد لا يكون صلةً ل» مَا «وإذا بطل هذا، فنقول» مَا «نصبٌ على التمييز، والتقدير: نِعْمَ شيئاً هي إبداء الصدقات، فحذف المضاف؛ لدلالة الكلام عليه.
وقرأ ابن عامرٍ، وحمزة، والكسائيُّ، هنا وفي النساء:»
فَنَعِما «بفتح النون، وكسر العين، وهذه على الأصل؛ لأنَّ الأصل على» فَعِلط كعلم، وقرى ابن كثير، وورش، وحفص: بكسر النون والعين، وإنما كسر النون إتباعاً لكسرة العين، وهي لغة هذيل.
قيل: وتحتمل قراءة كسر العين أن يكون أصل العين السكون، فلمّا وقعت بعدها «ما» وأدغم ميم «نِعْم» فيها، كسرت العين؛ لالتقاء الساكنين، وهو محتملٌ.
وقرأ أبو عمرو، وقالون، وأبو بكر: بكسر النون، وإخفاء حركة العين.
423
وروي عنهم الإسكان أيضاً، واختاره أبو عبيد، وحكاه لغةً للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في [نحو] قوله: «نِعْمَّا المالُ الصالح مع الرجلِ الصالحِ».
والجمهور على اختيار الاختلاس على الإِسكان، بل بعضهم يجعله من وهم الرواة عن أبي عمرو، وممَّن أنكره المبرد، والزجاج والفارسي، قالوا: لأنَّ فيه جمعاً بين ساكنين على غير حدِّهما. قال المبرد: «لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يَنْطِقَ به، وإنما يَرُومُ الجمعَ بين ساكنين فيحرِّك، ولا يَشْعُر» وقال الفارشي: «لعل أبا عمرو أخفى فظنَّه الراوي سُكُوناً».
وقد تقدَّم الكلام على «مَا» اللاحقة لنعم، وبئس. و «هي» مبتدأٌ ضميرٌ عائدٌ على الصدقات على حذف مضاف، أي: فنعم إبداؤها، ويجوز ألاَّ يقدَّر مضافٌ، بل يعود الضمير على «الصَّدَقَاتِ» بقصد صفة الإبداء، تقديره: فنعمَّا هي، أي: الصدقات المبداة. وجملة المدح خبرٌ عن «هي»، والرابط العموم، وهذا أولى الوجوه، وقد تقدَّم تحقيقها.
والضمير في ﴿وَإِن تُخْفُوهَا﴾ يعود على الصدقات. قيل: يعود عليها لفظاً ومعنًى، وقيل: يعود عليها لفظاً لا معنًى؛ لأنَّ المراد بالصدقات المبداة: الواجبة، وبالمخفاة: المتطوَّع بها، فيكون من باب «عِنْدِي دِرْهمٌ، ونصفُه»، أي: ونصف درهمٍ آخر؛ وكقول القائل: [الوافر]
١٢٣٦ - كَأَنَّ ثِيَابَ رَاكِبِهِ بِرِيحٍ خَرِيقٌ وَهْيَ سَاكِنَةُ الهُبُوبِ
أي: وريحٌ أخرى ساكنة الهبوب، ولا حاجة إلى هذا في الآية.
والفاء في قوله: «فهو» جواب الشرط، والضمير يعود على المصدر المفهوم من «تُخْفُوهَا» أي: فالإخفاء، كقوله: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى﴾ [المائدة: ٨] و «لكم» صفةٌ لخير، فيتعلَّق بمحذوفٍ. و «خَيْر» يجوز أن يكون للتفضيل، فالمفضَّل عليه محذوف، أي: خيرٌ من إبدائها، ويجوز أن يراد به الوصف بالخيريَّة، أي: خيرٌ لكم من الخيور.
وفي قوله: «إِن تُبْدُواْ، وَإِن تُخْفُوهَا» نوعٌ من البديع، وهو الطِّباق اللَّفظيّ. وفي قوله: ﴿وَتُؤْتُوهَا الفقرآء﴾ طباق معنوي؛ لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء، فكأنه قيل: إن يبد الأغنياء الصدقات، وإن يخف الأغنياء الصدقات، ويؤتوها الفقراء، فقابل الإبداء بالإخفاء لفظاً، والأغنياء بالفقراء معنًى.
424
والصَّدقة: قال أهل اللغة: موضوع: «صَ دَ قَ» على هذا الترتيب للصحة، والكمال ومنه قولهم: رجلٌ صدقُ النَّظر، وصدقُ اللقاء، وصدقُوهم القتال، وفلانٌ صادق المودَّة، وهذا خلٌّ صادق الحموضة، وشيءٌ صادق الحلاوة، وصدق فلانٌ في خبره، إذا أخبر به على وجه الصِّحة كاملاً، والصَّديق يسمى صديقاً؛ لصدقه في المودَّة، وسمِّي [الصَّداق صداقاً لأن] مقصود العقد يتمُّ به ويكمل، وسميت الزكاة صدقةً؛ لأن المال بها يصحُّ ويكمل، فهي إمَّا سببٌ لكمال المال، وبقائه، وإما أنها يستدلُّ بها على صدق إيمان العبد، وكماله فيه.

فصل في بيان فضيلة صدقة السِّر


سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: صدقة السرِّ أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت هذه الآية.
«وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» سَبْعَةٌ يُظْلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ... «إلى أن قال:»... ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعلم شِمَالُه ما تُنْفِقُ يَمِينُه «.
وقيل: الآية في صدقة التطوُّع؛ أما الزكاة المفروضة، فالإظهار فيها أفضل؛ حتى يقتدي الناس به؛ كالصلاة المكتوبة في الجماعة، والنافلة في البيت أفضل.
وقيل: الزكاة المفروضة كان الإخفاء فيها خيراً على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمَّا في زماننا، فالإظهار فيها أفضل؛ حتى لا يساء به الظن.
واعلم أنَّ الصدقة تطلق على الفرض والنَّفل؛ قال تعالى ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ [التوبة: ١٠٣] وقال: ﴿إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين﴾ [التوبة: ٦٠]، »
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «نَفَقَةُ المرْءِ عَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ» والزكاة لا تطلق إلاَّ على الفرض.
قوله: ﴿وَيُكَفِّرُ﴾ بالواو، والأعمش: بإسقاطها، والياء، وجزم الراء؛ وفيها تخريجان:
أحدهما: أنه بدلٌ من موضع قوله: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ ؛ لأنه جواب الشرط، كأنَّ التقدير: وإن تخفوها، يكن خيراً لكم، ويُكَفِّرْ.
425
والثاني: أنه حذف حرف العطف، فتكون كالقراءة المشهورة، والتقدير: «ويُكَفِّرُ» وهذا ضعيفٌ جداً.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر: بالنون ورفع الراء، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: بالنون وجزم الراء، وابن عامرٍ، وحفصٌ عن عاصم: بالياء ورفع الراء، والحسن: بالياء وجزم الراء، وروي عن الأعمش أيضاً: بالياء ونصب الراء، وابن عباس: «وتُكَفِّرْ» بتاء التأنيث وجزم الراء، وعكرمة: كذلك؛ إلا أنه فتح الفاء؛ على ما لم يسمَّ فاعله، وابن هرمز: بالتاء ورفع الراء، وشهر بن حوشب - ورويت عن عكرمة أيضاً -: بالتاء ونصب الراء، وعن الأعمش إحدى عشرة قراءةً، والمشهور منها ثلاثٌ.
فمن قرأ بالياء، ففيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه أضمر في الفعل ضمير الله تعالى؛ لأنه هو المكفِّر حقيقةً، وتعضده قراءة النون؛ فإنها متعيِّنةٌ له.
والثاني: أنه يعود على الصَّرف المدلول عليه بقوة الكلام، أي: ويكفِّر صرف الصدقات.
والثالث: أنه يعود على الإخفاء المفهوم من قوله: ﴿وَإِن تُخْفُوهَا﴾، ونسب التكفير للصَّرف، والإخفاء مجازاً؛ لأنَّهما سببٌ للتكفير، وكما يجوز إسناد الفعل إلى فاعله، يجوز إسناده إلى سببه.
ومن قرأ بالتاء ففي الفعل ضميرُ الصَّدقات، ونُسب التكفير إليها مجازاً كما تقدَّم، ومن بناه للمفعول؛ فالفاعل هو الله تعالى، أو ما تقدَّم.
ومن قرأ بالنون، فهي نون المتكلِّم المعظِّم نفسه.
ومن جزم الراء؛ فللعطف على محلِّ الجملة الواقعة جواباً للشرط؛ ونظيره قوله تعالى: ﴿مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٦] في قراءة من جزم «وَيَذَرُهُمْ».
ومن رفع، فعلى ثلاثة أوجهٍ:.
أحدها: أن يكون مستأنفاً لا موضع له من الإعراب، وتكون الواو عاطفةً جملة كلام على جملة كلام آخر.
والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمر، وذلك المبتدأ: إمَّا ضمير الله تعالى، أو الإخفاء،
426
أي: وهو يُكفِّر؛ فيمن قرأ بالياء، ونحن نكفِّر؛ فيمن قرأ بالنون، أو وهي تُكَفِّر؛ فيمن قرأ بتاء التأنيث.
والثالث: أنه عطفٌ على محلِّ ما بعد الفاء، إذ لو وقع مضارعٌ بعدها، لكان مرفوعاً؛ كقوله تبارك وتعالى: ﴿ومعناه وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ [المائدة: ٩٥]، ونظيره ﴿وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٦] في قراءة من رفع.
ومن نصب، فعلى إضمار «أَنْ» ؛ عطفاً على مصدر متوهَّم، مأخوذ من قوله: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، والتقدير: وإن تخفوها يكن، أو يوجد خيرٌ لكم وتكفيرٌ. ونظيرها قراءة من نصب: «فيغفر» بعد قوله: ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾ [البقرة: ٢٨٤]، إلاَّ أنَّ تقدير المصدر في قوله: «يُحَاسِبْكُمْ» ثَمَّ أسهل منه هنا؛ لأنَّ ثمَّة فعلاً مصرَّحاً به، وهو «يُحَاسِبْكُمْ»، والتقدير: يقع محاسبةً فغفرانٌ، بخلاف هنا، إذ لا فعل ملفوظٌ به، وإنما قدَّرنا المصدر من مجموع قوله: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.
وقال الزمخشريُّ: «ومعناه: وإِنْ تُخْفُوها، يكُنْ خَيْراً لكم، وأَنْ يُكَفِّرَ» قال أبو حيَّان: «وظاهِرُ كَلاَمِهِ هذا أنَّ تقديره:» وأَنْ يُكَفِّرَ «يكون مقدَّراً بمصدر، ويكون معطوفاً على» خَيْراً «الذي هو خبر» يَكُنْ «التي قدَّرها، كأن قال: يكنِ الإخفاء خيراً لكم وتكفيراً، فيكون» أَنْ يُكَفِّرَ «في موضع نصبٍ، والذي تقرَّر عند البصريِّين: أنَّ هذا المصدر المنسبك من:» أنْ «المضمرة مع الفعل المنصوب بها، هو معطوفٌ على مصدر متوهَّم مرفوع، تقديره من المعنى. فإذا قلت:» مَا تَأْتِينَا فتحدثنا «فالتقدير: ما يكون منك إتيانٌ فحديثٌ، وكذلك:» إِنْ تَجِىءْ وتُحْسِنَ إليَّ، أُحْسِنْ إليك «التقدير: إن يكن منك مجيءٌ، وإحسانٌ أُحْسن إليك، فعلى هذا يكون التقدير: وإن تخفوها، وتؤتوها الفقراء، فيكون زيادة خير للإخفاء على خير الإبداء وتكفيرٌ». انتهى. قال شهاب الدين: ولم أدر ما حمل الشيخ على العدول عن تقدير أبي القاسم، إلى تقديره وتطويل الكلام في ذلك؛ مع ظهور ما بين التقديرين؟
وقال المهدويُّ: «هو مُشَبَّهٌ بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء، لوجوب غيره كالاستفهام». وقال ابن عطيَّة: «الجزمُ في الراء أفصحُ هذه القراءات؛ لأنها تُؤْذِنُ بِدُخُولِ التكفير في الجزاء، وكونه مَشْرُوطاً إن وقع الإخفاء، وأمَّا رفع الراء، فليس فيه هذا المَعْنَى» قال أبو حيان: «ونقولُ إنَّ الرفع أبلغُ وأعمُّ؛ لأنَّ الجزم يكون على أنَّه معطوفٌ على جواب الشرط الثاني، والرفع يدلُّ على أنَّ التكفير مترتِّبٌ من جهة المعنى على بذل الصدقات أُبْدِيَتْ، أو أُخْفيت، لأنَّا نعلم أنَّ هذا التكفير متعلِّقٌ بما قبله، ولا يختصُّ التكفير بالإخفاء فقط، والجزم يخصِّصه به، ولا يمكن أن
427
يقال إن الذي يبدي الصدقات، لا يُكَفِّرْ مِنْ سيئاتِهِن فقد صار التكفيرُ شاملاً للنوعَيْن: من إبداء الصدقاتِ، وإخفائها؛ وإن كان الإخفاء خيراً».
قوله تعالى: ﴿مِّن سَيِّئَاتِكُمْ﴾ في «مِنْ» ثلاثة أقوالٍ:
أحدها: أنها للتَّبعيض، أي: بعض سيئاتكم، لأن الصدقات لا تكفر جميع السيئات، وعلى هذا فالمفعول في الحقيقة [محذوفٌ]، أي: شيئاً من سيئاتكم، كذا قدَّره أبو البقاء.
والثاني: أنها زائدة وهو جارٍ على مذهب الأخفش، وحكاه ابن عطية عن الطبري عن جماعةٍ، وجعله خطأً؛ يعني من حيث المعنى.
والثالث: أنها للسببية، أي: من أجل ذنوبكم؛ وهذا ضعيفٌ.
والسيئات: جمع سيِّئة، ووزنها: فيعلة، وعينها واوٌ، والأصل: سيوءة، ففعل بها ما فعل بميِّت، كما تقدَّم.
قوله: ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ إشارةٌ إلى تفضيل صدقة السرِّ على العلانية؛ كأنه يقول: أنتم إنما تريدون بالصدقة طلب مرضاة الله، وقد حصل مقصودكم في السر؛ فما معنى الإبداء؛ فكأَنَّهم ندبوا بهذا الكلام إلى الإخفاء؛ ليكون أبعد من الرياء، وكسر قلب الفقير.
428
هذا الكلام متصلٌ بما قبله من ذكر الصدقات، كأنه بيَّن فيه جواز الصدقة على المشركين.
قوله: «هُداهُمْ» : اسم ليس، وخبرها الجارُّ والمجرور. و «الهُدَى» مصدرٌ مضافٌ إلى المفعول، أي: ليس عليك أن تهديهم، ويجوز أن يكون مضافاً لفاعله، أي: ليس عليك أن يهتدوا، يعني: ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء.
وفيه طباقٌ معنويٌّ، إذ التقدير: هَدْيُ الضَّالِّين، وفي قوله: ﴿ولكن الله يَهْدِي﴾ مع قوله تعالى: ﴿هُدَاهُمْ﴾ جناسٌ مغاير؛ لأنَّ إحدى الكلمتين اسمٌ، والأخرى فعلٌ، ومفعول ﴿يَشَآءُ﴾ محذوفٌ، أي: هدايته.

فصل في بيان سبب النزول


روي في سبب النزول وجوه:
أحدها: أن قُتَيْلَةَ أمَّ أسماء بنت أبي بكر، أتت إليها؛ تسألها شيئاً، وكذلك جدَّتها،
428
وهما مشركتان؛ فقالت: لا أُعطيكما حتى أستأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فإنَّكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك؛ فنزلت هذه الآية؛ فأمرها رسول الله - صلى الله لعيه وسلم - أن تتصدق عليهما.
الثاني: كان أُناسٌ من الأنصار، لهم قرابةٌ من قريظة والنَّضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم، ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئاً؛ فنزلت هذه الآية الكريمة.
الثالث: قال سعيد بن جبير: كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين، نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن التصدق على المشركين؛ كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام؛ فنزلت الآية الكريمة فتصدق عليهم والمعنى على جميع الروايات: ليس عليك هدى من خالفك؛ حتى تمنعهم الصدقة؛ لأجل أن يدخلوا في الإسلام، فتصدقْ عليهم، لوجه الله، ولا توقف ذلك على إسلامهم، والمراد بهذه الهداية هداية التوفيق، وأما هداية البيان، والدعوة، فكان على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وظاهر هذه الآية أنها خطابٌ مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولكن المراد به هو، وأُمَّته؛ ألا تراه قال: ﴿إِن تُبْدُواْ الصدقات﴾ [البقرة: ٢٧١] وهذا عامٌّ، ثم قال: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ وظاهره خاصٌّ، ثم قال بعده ﴿وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ﴾ وهذا عامٌّ، فيفهم من عموم ما قبل الآية الكريمة، وعموم ما بعدها: عمومها أيضاً.
فَصْلٌ في بَيان هدايةِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ
دلَّت هذه الآية الكريمة على أن هداية الله تبارك وتعالى غير عامَّةٍ، بل هي مخصوصة بالمؤمنين، لأن قوله تعالى: ﴿ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ إثباتٌ للهداية المنفيَّة بقوله: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ ولكنَّ المنفي بقوله تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ هو حصول الاهتداء، على سبيل الاختيار، فكان قوله: ﴿ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ عبارةٌ عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار، وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعاً بتقدير الله تعالى، وتخليقه وتكوينه؛ وهو المطلوب.
وحمله المعتزلة على أنه يهدي بالإثابة، والألطاف، وزيادة الهدى؛ وهو مردودٌ بما قررناه.
قوله: ﴿فَلأَنْفُسِكُمْ﴾ خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: فهو لأنفسكم شرط وجوابه، «والخَيْرُ» في هذه الآية المال؛ لأنه اقترن بذكر الإنفاق، فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم يقترن بما يدلُّ على أنه المال، فلا يلزم أن يكون بمعنى المال؛ نحو قوله: ﴿خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً﴾ [الفرقان: ٢٤] وقوله: ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧] ونحوه.
429
وقوله: ﴿إِلاَّ ابتغآء﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعولٌ من أجله، أي: لأجل ابتغاء وجه الله، والشروط هنا موجودةٌ.
والثاني: أنه مصدرٌ في محلّ الحال، أي: إلاَّ مبتغين، وهو في الحالين استثناءٌ مفرَّغٌ، والمعنى: وما تنفقون نفقة معتداً بقبولها؛ إلاَّ ابتغاء وجه [الله]، أو يكون المخاطبون بهذا ناساً مخصوصين، وهم الصحابة، لأنهم كانوا كذلك، وإنما احتجنا إلى هذين التأويلين؛ لأنَّ كثيراً ينفق لابتغاء غير وجه الله.
قال بعض المفسرين: هذا جحدٌ لفظه نفيٌ، ومعناه نفيٌ، أي: لا تنفقوا إلاَّ ابتغاء وجه.
قوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ تأكيدٌ وبيان؛ كقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ﴾.
وقوله: ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ جواب الشرط، وقد تقدَّم أنه يقال: «وَفَّى» بالتشديد و «وَفَى» بالتخفيف و «أَوْفَى» رباعياً.
وإنما حسن قوله: «إِلَيْكُمْ» مع التوفيه؛ لأنها تضمَّنت معنى التَّأدية، ومعناه يوفّ لكم جزاؤه في الآخرة.
وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ جملةٌ من مبتدأ، وخبرٍ: في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في «إِلَيْكُمْ»، والعامل فيها «يُوَفَّ»، وهي تشبه الحال المؤكَّدة؛ لأنَّ معناها مفهومٌ من قوله: «يُوَفَّ إِلَيْكُم» ؛ لأنهم إذا وفُّوا حقوقهم، لم يظلموا. ويجوز أن تكون مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب، أخبرهم فيها أنه لا يقع عليهم ظلمٌ، فيندرج فيه توفية أجورهم؛ بسبب إنفاقهم في طاعة الله تعالى، اندراجاً أوَّلياً.

فصل في المراد من الآية


في معنى الآية وجوه:
الأول: أن معناه: ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين لا تقصدون إلاَّ وجه الله تعالى، وقد علم الله هذا من قلوبكم، فأنفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله تعالى في صلة رحم، وسدِّ خلَّة مضطر، وليس عليكم اهتداؤهم، حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم.
الثاني: أن هذا وإن كان ظاهره خبراً، إلاَّ أن معناه النهي، أي: ولا تنفقوا إلاَّ ابتغاء وجه الله وورود الخبر بمعنى الأمر، والنهي كثير؛ قال تعالى: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٣] ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٨].
430
الثالث: معناه لا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح؛ حتى تبتغوا بذلك وجه الله.

فصل في ذكر الوجه في قوله ﴿إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله﴾


إذا قلت: فعلته: لوجه زيدٍ، فهو أشرف في الذكر من قولك: فعلته له؛ لأن وجه الشيء أشرف ما فيه، وإذا قلت: فعلت هذا الفعل له، فيحتمل أن يقال فعلته له ولغيره، أما إذا قلت: فعلت هذا الفعل لوجهه، فهذا يدل على أنَّك فعلت هذا الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركةٌ.

فصل في بيان عدم صرف الزكاة لغير المسلم


أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير مسلم؛ فتكون هذه الآية مختصةً بصدقة التطوع، وجوّز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة، وأباه غيره؛ وعن بعض العلماء: لو كان شر خلق الله، لكان لك ثواب نفقتك.
431
قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَآءِ﴾ الآية: في تعلُّق هذا الجارِّ خمسة أوجهٍ:
أحدها: - وهو الظاهر - أنه متعلِّق بفعل مقدرٍ، يدلُّ عليه سياق الكلام، واختلفت عبارات المعربين فيه، فقال مكي - ولم يذكر غيره -: «أَعْطُوا لِلْفقراءِ»، وفي هذا نظرٌ؛ لأنه يلزم زيادة اللام في أحد مفعولي أعطى، ولا تزاد اللام إلا لضعف العامل: إمَّا بتقدُّم معموله كقوله تعالى: ﴿لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣]، وإمَّا لكونه فرعاً؛ نحو قوله تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧] ويبعد أن يقال: لمَّا أُضمر العاملن ضعف؛ فقوي باللام، على أنَّ بعضهم يجيز ذلك، وإن لم يضعف العامل، وجعل منه ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢]، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقدَّره أبو البقاء: «اعْجَبُوا لِلْفُقَرَاءِ» وفيه نظرٌ، لأنه لا دلالة من سياق الكلام على العجب. وقدَّره الزمخشريُّ: «اعْمدُوا، أو اجعلوا ما تُنْفقون للفقراء» والأحسن من ذلك ما قدَّره مكي، لكن فيه ما تقدَّم.
الثاني: أنَّ هذا الجارَّ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الصدقات أو النفقات التي تنفقونها للفقراء، وهو في المعنى جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأنهم لما حثُّوا على الصدقات، قالوا: فلمن هي؟ فأجيبوا بأنها لهؤلاء، وفيها بيان مصرف الصَّدقات. وهذا اختيار ابن الأنباري.
431
قال ابن الخطيب: لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الإنفاق، قال بعدها «لِلْفُقَرَاءِ» أي: ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء وهذا كما إذا تقدم ذكر رجل، فتقول: عاقلٌ لبيبٌ، والمعنى: أن ذلك الذي مرَّ وصفه عاقلٌ لبيبٌ، وكذلك الناس يكتبون على الكيس يجعلون فيه الذهب، والفضَّة: ألفان، أو مائتان، أي: ذلك الذي في الكيس ألفان، أو مائتان.
وأنشد ابن الأنباري: [الرجز]
١٢٣٧ - تَسْأَلُنِي عَنْ زَوْجِهَا أَيُّ فَتَى خبٌّ جَرُوزٌ وَإِذَا جَاعَ بَكَى
يريد: هو خبٌّ.
الثالث: أنَّ اللام تتعلَّق بقوله تعالى: ﴿إِن تُبْدُواْ الصدقات﴾ [البقرة: ٢٧١] وهو مذهب القفَّال، واستبعده الناس؛ لكثرة الفواصل.
الرابع: أنه متعلِّقٌ بقوله تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾ وفي هذا نظرٌ؛ من حيث إنه يلزم فيه الفصل بين فعل الشرط وبين معموله بجملة الجواب، فيصير نظير قولك: مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إليه زيداً. وقد صرَّح الواحديُّ بالمنع من ذلك، معلِّلاً بما ذكرناه، فقال: وَلاَ يجوزُ أن يكون العاملُ في هذه اللام «تنفقوا» الأخير في الآية المتقدمة الكريمة؛ لأنه لا يفصل بين العامل، والمعمول بما ليس منه، كما لا يجوز: «كانَتْ زَيْداً الحُمَّى تأخُذُ».
الخامس: أنَّ «للفقراء» بدلٌ من قوله: «فلأَنْفُسِكُمْ»، وهذا مردودٌ؛ قال الواحدي، وغيره: «لأنَّ الإنفاق من حيث هو واصلٌ إليهم، وليس من باب ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران: ٩٧] ؛ لأنَّ الأمر لازمٌ للمستطيع خاصةً» قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: يعني أنَّ الفقراء ليست هي الأنفس، ولا جزاءً منها، ولا مشتملةً عليها، وكأن القائل بذلك توهَّم أنه من باب قوله تعالى:
﴿وَلاَ
تقتلوا
أَنْفُسَكُمْ﴾
[النساء: ٢٩] في أحد التأويلين.
والفقير: قيل: أصله من «فَقَرَتْه الفَاقِرَةُ»، أي: كسرت فقارات ظهره الداهية. قال الراغب: وأصل الفقير: هو المكسُورُ الفقار، يقال: «فَقَرَتْه الفاقرةُ» أي: الداهية تكسر الفقار، و «أَفْقَرَكَ الصَّيْدُ [فَارْمِهِ» ] أي أمكنك من فقاره، وقيل: هو من الفُقرة، أي: الحفرة، ومنه قيل لكلِّ حفرةٍ يجتمع فيها الماء، فقيرٌ: وفقرت للفسيل: حفرت له حفرة؛ غرسته فيها؛ قال: [السريع أو الرجز]
432
١٢٣٨ - مَا لَيْلَةُ الفَقِيرِ إِلاَّ شَيْطَانْ... قيل: هو اسم بئر، وفقرت الخرز: ثقبته.
وقال الهروي: يقال «فَقَره» إذا أصاب فقار ظهره، نحو: رَأَسَه، أي: أصاب رأسه، وبَطَنَهُ، أي: أصاب بطنه. وقال الأصمعي: «الفقر: أن يحزَّ أنف البعير، حتى يخلص الحزُّ إلى العظم، ثم يلوي عليه جريراً يذلَّل به الصَّعب من الإبل، ومنه قيل: عمل به الفاقرة». والفقرات - بكسر الفاء، وفتح القاف -: جمع فقرة: الأمور العظام، ومنه حديث السَّعي: «فِقَراتُ ابن آدَم ثلاثٌ: يَوْمَ وُلِد، ويومَ يَمُوتُ، ويومَ يُبْعَثُ». والفقر - بضم الفاء، وفتح القاف -: جمع فقرة؛ وهي الحزُّ، وخرم الخطم، ومنه قول أبي زيادٍ: «يُفْقَرُ الصَّعْبُ ثلاثَ فُقَرٍ في خطْمِه» ومنه حديث سعدٍ: «فَأَشَارَ إلى فُقَرٍ في أنْفِهِ»، أي: شقٍّ، وحزِّ. وقد تقدَّم الكلام في الإحصار عندق وله: «فإن أحصرتم».
قوله: ﴿فِي سَبِيلِ﴾ في هذا الجار وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق بالفعل قبله؛ فيكون ظرفاً له.
والثاني: أن يكون متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من مرفوع «أُحصروا»، أي: مستقرين في سبيل الله. وقدَّره أبو البقاء بمجاهدين في سبيل الله، فهو تفسير معنًى لا إعراب؛ لأنَّ الجارَّ لا يتعلَّق إلا بالكون المطلق.

فصل في بيان سبب النزول


نزلت في فقراء المهاجرين، وكانوا نحو أربعمائةٍ، وهم أصحاب الصُّفَّة، لم يكن لهم مساكن ولا عشائر بالمدينة، وكانوا ملازمين المسجد؛ يتعلمون القرآن الكريم، ويرضخون النوى بالنهار ويخرجون في كل سريَّةٍ يبعثها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فحث الله عليهم الناس؛ فكان من عنده فضلٌ أتاهم به، إذا أمسى.
«عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: وقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يوماً على أصحاب الصفة، فرأى فقرهم، وجهدهم؛ فطيَّب قلوبهم، فقال:» أَبْشِرُوا يَا أَصْحَابَ الصُّفَّةِ فإنَّهُ مَنْ لَقِيَ اللهَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى النَّعْتِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ رَاضِياً بِمَا فِيهِ فَإِنَّهُ مِنْ رُفَقَائِي «واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الفقراء بخمس صفاتٍ:
الأولى: قوله: ﴿الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ والإحصار: أن يعرض للرجل ما
433
يحول بينه وبين سفره من مرضٍ، أو كسرٍ، أو عدوٍّ، أو ذهاب نفقةٍ، أو ما يجري مجرى هذه الأشياء، يقال: أحصر الرجل: فهو محصرٌ، وفي معنى هذا الإحصار، وجوه:
الأول: أنَّهم حصروا أنفسهم، ووقفوها على الجهاد؛ لأن قوله: ﴿فِي سَبِيلِ الله﴾ مختصٌّ بالجهاد في عرف القرآن.
الثاني: قال قتادة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن زيد: منعو أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش؛ خوف العدوِّ؛ لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة، وكانوا متى وجدوهم، قتلوهم.
الثالث: قال سعيد بن جبير؛ وهو اختيار الكسائي: إنَّ هؤلاء القوم أصابتهم جراحاتٌ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وصاروا زمنى، فأحصرهم المرض، والزمانة عن الضَّرب في الأرض.
الرابع: قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هؤلاء القوم من المهجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله، فعذرهم الله.
الصفة الثانية: قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض﴾ في هذه الجملة احتمالان:
أظهرهما: أنها حالٌ، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أنه «الفقراء»، وثانيهما: أنه مرفوع «أُحْصِرُوا».
والاحتمال الثاني: أن تكون مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب؛ و «ضَرْباً» مفعولٌ به، وهو هنا السفر للتجارة؛ قال: [الوافر]
١٢٣٩ - لَحِفْظُ المَالِ أَيْسَرُ مِنْ بَقَاهُ وَضَرْبٌ في البِلاَدِ بِغَيْرِ زَادِ
ويقال: ضَرَبْتُ في الأَرْضِ ضَرْباً، ومَضْرِباً، أي: سرتُ.

فصل في بيان عدم الاستطاعة في الآية


عدم استطاعتهم: إمَّا أن يكون لاشتغالهم بصلاح الدِّين، بأمر الجهاد؛ فيمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة، وإمَّا لخوفهم من الأعداء، وإمَّا لمرضهم، وعجزهم؛ وعلى جميع الوجوه فلا شكَّ في احتياجهم إلى من يعينهم.
434
الصفة الثالثة: قوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ﴾ يجوز في هذه الجملة ما جاز فيما قبلها من الحالية والاستئناف، وكذلك ما بعدها.
«يَحْسَبُهُمْ» هو الظَّنُّ، أي: إنّهم من الانقباض، وترك المسألة، والتوكل على الله، بحيث يظنهم الجاهل أغنياء.
وقرأ ابن عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزة: «يَحْسَبُ» - حيث ورد - بفتح السين، والباقون: بكسرها. فأمَّا القراءة الأولى؛ فجاءت على القياس؛ لأنَّ قياس فعل - بكسر العين - يفعل بفتحها لتتخالف الحركتان فيخفَّ اللفظ، وهي لغة تميم، والكسر لغة الحجاز، وبها قرأ رسول الله - صلى الله عيه وسلم -، وقد شذَّت ألفاظٌ أخر؛ جاءت في الماضي، والمضارع بكسر العين منها: نَعِم يَنْعِم، وبَئِس يَبْئِسُ، ويَئِسَ يَيْئِس، ويَبِس يَيْبِس من اليُبوسة، وعَمِد يَعْمِد، وقياسها كلُّها الفتح، واللغتان فصيحتان في الاستعمال، والقارئ بلغة الكسر اثنان من كبار النحاة: أبو عمرٍو - وكفى به -، والكسائي، وقارئا الحرمين: نافع، وابن كثير.
والجاهل هنا: اسم جنس لا يراد به واحدٌ بعينه.
ولم يرد - هنا - به الجهل الذي هو ضدّ العلم، وإنما أراد الجهل الذي هو ضدُّ الاختيار، يقول: يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء، و «أغنياءَ» هو المفعول الثاني.
قوله: ﴿مِنَ التعفف﴾ في «مِنْ» هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها سببيةٌ، أيك سَبَبُ حُسْبَانِهم أغنياء تعفُّفهم، فهو مفعولٌ من أجله، وجرُّه بحرف السبب هنا واجبٌ، لفقد شرطٍ من شروط النصب، وهو اتحاد الفاعل، وذلك أنَّ فاعل الحسبان الجاهل، وفاعل التعفُّف هم الفقراء، ولو كان هذا المفعول له مستكملاً لشروط النصب، لكان الأحسن جرَّه بالحرف؛ لأنه معرَّفٌ بأل، وقد تقدَّم أنَّ جرَّ هذا النوع أحسن من نصبه؛ نحو: جئت للإكرام، وقد جاء نصبه؛ قال القائل: [الرجز]
١٢٤٠ - لاَ أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرَ الأَعْدَاءِ
والثاني: أنها لابتداء الغاية، والمعنى أنَّ محسبة الجاهل غناهم، نشأت من تعفُّفهم؛ لأنه لا يحسب غناهم غنى تعففٍ، إنما يحسبه غنى مالٍ، فقد نشأت محسبته من تفُّفهم، وهذا على أنَّ تعفُّفهم تعففٌ تام.
والثالث: أنها لبيان الجنس، وإليه نحا ابن عطية، قال: يكون التعففُ داخلاً في
435
المحسبة، أي: إنه لا يظهر لهم سؤالٌ، بل هو قليلٌ، فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عنه، ف «مِنْ» لبيان الجنس على هذا التأويل.
قال أبو حيَّان: «وليس ما قالَه مِنْ أنَّ» مِنْ «هذه في هذا المعنى وهو أن تتقدَّر» مِنْ بموصولٍ، وما دخلت عليه يجعل خبر مبتدأ محذوف؛ كقوله تعالى: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠] يصح أن يقال: الذي هو الأوثان، ولو قلت هنا: «يَحْسَبُهُم الجَاهِلُ أغنياء الَّذِي هُوَ التَّعفف» لم يصحَّ هذا التقدير؛ وكأنه سمَّى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس، أي: بيَّنت بأيِّ جنسٍ وقع غناهم، أي: غناهم بالتعفف لا غنى بالمال، فسمَّى «مِنْ» الداخلة على ما يبيِّن جهة الغنى ببيان الجنس، وليس المصطلح عليه كما قدَّمناه، وهذا المعنى يؤول إلى أنَّ «مِنْ» سببية، لكنها تتعلق بأغنياء، لا بيحسبهم «. انتهى.
وتتعلَّق»
مِنْ «على الوجهين الأولين بيحسبهم. قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ:» ولا يجوزُ أن تتعلَّق بمعنى «أغْنِياء» ؛ لأنَّ المعنى يصير إلى ضد المقصود، وذلك أنَّ معنى الآية: أنَّ حالهم يخفى على الجاهل بهم؛ فيظنُّهم أغنياء، ولو علِّقت بأغنياء، صار المعنى، أنَّ الجاهل يظنُّ أنهم أغنياء، ولكن بالتعفف، والغنيُّ بالتعفف فقيرٌ من المال «. انتهى، وما قاله أبو البقاء يحتمل بحثاً.
وأما على الوجه الثالث - وهو كونه لبيان الجنس - فقد صرَّح أبو حيان بتعلُّقها بأغنياء؛ لأن المعنى يعود إليه، ولا يجوز تعلُّقها في هذا الوجه بالحسبان، وعلى الجملة: فكونها لبيان [الجنس، قلق المعنى].
والتعفُّف: تفعُّل من العفَّة: وهو ترك الشيء، والإعراض عنه، مع القدرة على تعاطيه؛ قال رؤبة: [الرجز]
١٢٤١ - فعَفَّ عَنْ أَسْرَارِهَا بَعْدَ الغَسَقْ وَلَمْ يَدَعْهَا بَعْدَ فَرْكٍ وَعَشَقْ
وقال عنترة: [الكامل]
١٢٤٢ - يُخْبِرْكِ مَنْ شَهِدَ الوَقِيعَةَ أَنَّنِي أَغْشَى الوَغَى وَأَعِفُّ عِنْدَ المَغْنَمِ
ومنه: «عَفِيفُ الإِزَارِ»
كنايةٌ على حصانته، وعرَّف التعفف، لأنه سبق منهم مراراً فصار كالمعهود، ومتعلَّق التعفف، محذوفٌ؛ اختصاراً، أي: عن السؤال، والأحسن ألاَّ يقدَّر.
436
الصفة الرابعة: قوله: ﴿تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ﴾ السِّيما: العلامة بالقصر ويجوز مدُّها، وإذا مدَّت، فالهمزة فيها منقلبةٌ عن حرف زائدٍ، للإلحاق: إمَّا واوٌ، وإمَّا ياء، فهي كعلباء ملحقة بسرداح، فالهمزة فيه للإلحاق، لا للتأنيث؛ وهي منصرفةٌ لذلك.
و «سيما» مقلوبة، قدِّمت عينها على فائها؛ لأنها مشتقةٌ من الوسم فهي بمعنى السِّمة، أي: العلامة، فلما وقعت الواو بعد كسرةٍ قلبت ياءً، فوزن سيما: عِفْلا، كما يقال اضمحلَّ، وامضحلَّ، [و] «وَخِيمَة»، و «خامة» وله جاهٌ، ووجه، أي: وجاهَةٌ.
وفي الآية الكريمة طباقٌ في موضعين:
أحدهما: «أُحْصِروا» مع قوله: ﴿ضَرْباً فِي الأرض﴾.
والثاني: قوله تعالى: ﴿أَغْنِيَآءَ﴾، مع قوله: ﴿لِلْفُقَرَآءِ﴾ نحو: ﴿أَضْحَكَ وأبكى﴾ [النجم: ٤٣] و ﴿أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾ [النجم: ٤٤]. ويقال «سِيمِيَا» بياء بعد الميم، وتمدُّ كالكيمياء؛ وأنشد: [الطويل]
١٢٤٣ - غُلاَمٌ رَمَاهُ اللهُ بِالْحُسْنِ يَافِعاً لَهُ سِيمِيَاءُ لاَ تَشُقُّ عَلَى الْبَصَرْ
والباء تتعلَّق ب «تَعْرِفُهُمْ» ومعناها السببية، أي: إنَّ سبب معرفتك إياهم هي سيماهم. والسِّيما: العلامة، وقال قومٌ: السِّيما: الارتفاع، لأنَّها علامةٌ وضعت للظُّهور.

فصل


قال القرطبيُّ: هذه الآية تدلُّ على أن للسِّيما أثرٌ في اعتبار من يظهر عليه ذلك، حتى إذا رأينا ميتاً في دار الإسلام، وعليه زنَّارٌ، وهو غير مختونٍ؛ لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدَّم ذلك على حكم الدار؛ في قول أكثر العلماء، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول﴾ [محمد: ٣٠] فدلَّت هذه الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثيابٌ، وكسوة وزيٌّ في التجمل.

فصل في تفسير «السِّيما»


قال مجاهد: هو التخشع، والتواضع.
وقال الربيع، والسديُّ: أثر الجهد من الفقر، والحاجة.
وقال الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع، والضر.
437
وقال ابن زيدٍ: رثاثة ثيابهم.
قال ابن الخطيب: وعندي أنَّ الكلَّ فيه نظرٌ؛ لأن كل ما ذكروه علاماتٌ دالَّةق على حصول الفقر، وذلك يناقض قوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف﴾ بل المراد شيء آخر، وهو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعاً في قلوب الخلق، كل من رآهم تأثر منهم، وتواضع لهم؛ وذلك إدراكاتٌ روحانيةٌ، لا علاتٌ جسمانيةٌ؛ ألا ترى أنَّ الأسد إذا مرَّ هابته جميع السباع بطباعها، لا بالتجربة؛ لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت، وكذلك البازي، إذا طار فرّت منه الطيور الضَّعيفة، وكل ذلك إدراكاتٌ روحانية، لا جسمانية فكذا ها هنا، روي أنهم كانوا يقومون الليل، للتهجّد، ويحتطبون بالنهار؛ للتعفف.
الصفة الخامسة: قوله: ﴿لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً﴾ في نصبه «إلحافاً» ثلاثة أوجه:
أحدها: نصبه على المصدر بفعلٍ مقدَّر، أي: يلحفون إلحافاً، والجملة المقدرة حالٌ من فاعل «يَسْألون».
والثاني: أن يكون مفعولاً من أجله، أي: لا يسألون؛ [لأجل الإلحاف.
والثالث: أن يكون مصدراً في موضع الحال، تقديره: لا يسألون] ملحفين.

فصل في تفسير الإلحاف


الإلحاف: هو الإلحاح؛ قال عطاءٌ: إذا كان عنده غداءٌ لا يسأل عشاءً، وإذا كان عنده عشاءٌ لا يسأ غداءً.
وعن ابن مسعودٍ إن الله يحب العفيف المتعفف، ويبغض الفاحش البذيء السَّائل الملحف، الذي إن أعطي كثيراً، أفرط في المدح، وإن أعطي قليلاً أفرط في الذَّمِّ.
وعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لاَ يَفْتَحُ أَحَدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتح الله عليه بَابَ فَقْرٍ، ومَنْ
438
يَسْتَغْنِ، يُغْنِه اللهُ، ومَنْ يَسْتَعْفِفْ، يُعِفَّهُ الله، لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلاً يَحْتِطِبُ فِيهِ فَيَبِيعَهُ بمُدٍّ مِنْ تَمْرٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَل النَّاسَ».

فصل


اعلم: أنَّ العرب إذا نفت الحكم عن محكوم عليه، فالأكثر في لسانهم نفي ذلك القيد؛ نحو: «مَا رَأَيْتُ رَجُلاً صَالِحاً»، الأكثر على أنك رأيت رجلاً، ولكن ليس بصالح، ويجوز أنَّك لم تر رجلاً ألبتة؛ لا صالحاً ولا طالحاً، فقوله: ﴿لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً﴾ المفهوم أنهم يسألون، لكن لا بإلحاف، ويجوز أن يكون المعنى: أنهم لا يسألون، ولا يلحفون؛ والمعنيان منقولان في التفسير، والأرجح الأول عندهم، ومثله في المعنى: «مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا» يجوز أنه يأتيهم، ولا يحدِّثهم، ويجوز أنه لا يأتيهم ولا يحدِّثهم، انتفى السبب، وهو الإتيان، فانتفى المسبِّب، وهو الحديث.
وقد شبَّه الزجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - معنى هذه الآية الكريمة بمعنى بيت امرئ القيس؛ وهو قوله: [الطويل]
١٢٤٤ - عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا
قال أبو حيَّان: «تَشْبيهُ الزجاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين، أي: لا سؤال ولا إلحاف، وكذلك هذا: لا منار ولا هداية، لا أنه مثله في خصوصيَّة النفي، إذ كان يلزم أن يكون المعنى: لا إلحاف، فلا سؤال، وليس تركيب الآية على هذا المعنى، ولا يصحُّ: لا إلحاف، فلا سؤال؛ لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام، كما لزم من نفي المنار، نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه، وإنما يؤدِّي معنى النفي على طريقة النَّفي في البيت أن لو كان التركيب:» لا يُلْحِفُونَ الناسَ سُؤالاً «لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف، إذ نفي العامِّ يدلُّ على نفي الخاص؛ فتلخَّص من هذا: أنَّ نفي الشيئين: تارة يدخل حرف النفي على شيءٍ، فتنتفي جميع عوارضه، وينبِّه على بعضها بالذكر لغرض ما، وتارةً يدخل حرف النفي على عارضٍ من عوارضه، والمقصود نفيه، فتنتفي لنفيه عوارضه».
قال شهاب الدين: قد سبق الشيخ إلى هذا ابن عطية فقال: «تَشْبيهه ليس مثله في خصوصية النفي؛ لأنَّ انتفاء المنار في البيت يدلُّ على نفي الهداية، وليس انتفاء الإلحاح،
439
يدلُّ على انتفاء السؤال في الآية». وأطال ابن عطية في تقرير هذا، وجوابه ما تقدم: من أنَّ المراد نفي الشيئين، لا بالطريق المذكور في البيت، وكان الشيخ قد قال قبل ما حكيته عنه آنفاً: «ونظير هذا: ما تَأْتِينَا فتحدِّثَنا» فعلى الوجه الأول: يعني نفي القيد وحده: ما تأتينا محدِّثاً، إنما تأتي ولا تحدِّث.
وعلى الوجه الثاني: يعني نفي الحكم بقيده ب «ما يكُونُ مِنْكَ إتيانٌ، فلا يكونُ حديثٌ»، وكذلك هذا: لا يقع منهم سؤالٌ ألبتَّة، فلا يقع إلحاحٌ، ونبَّه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح؛ لقبح هذا الوصف، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده، ووجود غيره؛ لأنه كان يصير المعنى الأول، وإنما يراد بنفي هذا الوصف، نفي المترتبات على المنفيِّ الأول؛ لأنه نفى الأولى على سبيل العموم، فتنتفي مترتِّباته، كما أنك إذا نفيت الإتيان، فانتفى الحديث، انتفى جميع مترتِّبات الإِتيان: من المجالسة، والمشاهدة، والكينونة في محلٍّ واحد، ولكن نبَّه بذكر مترتِّب واحدٍ؛ لغرضٍ ما على ذكر سائر المترتِّبات «وهذا يقرر ما تقدَّم.
وأمَّا الزمخشريُّ: فكأنه لم يرتض تشبيه الزجاج، فإنه قال:»
وقيل: هو نفيٌ للسؤال والإلحاف جميعاً؛ كقوله: [الطويل]
١٢٤٥ - عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمنَارِهِ...............................
يريد نفي المنار والاهتداء به «.
قال شهاب الدين: وطريق أبي إسحاق الزجاج هذه، قد قبلها الناس، ونصروها، واستحسنوا تنظيرها بالبيت؛ كالفارسيِّ، وأبي بكر بن الأنباريِّ، قال أبو عليٍّ: لم يُثْبِتْ في قوله: ﴿لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً﴾ مسألةً فيهم؛ لأن المعنى: ليس منهم مسألةٌ، فيكون منهم إلحافٌ، ومثل ذلك قول الشاعر: [السريع]
١٢٤٦ - لاَ يَفْزَعُ الأَرْنَبُ أَهْوَالَهَا وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ
أي: ليس فيها أرنبٌ؛ فيفزع لهولها، ولا ضبٌّ فينجحر، وليس المعنى: أنه ينفي الفزع عن الأرنب، والانجحار عن الضب.
وقال أبو بكرٍ: تأويل الآية: لاَ يَسْأَلُونَ أَلْبَتةَ، فيخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف؛ فجرى هذا مجرى قولك: فلانٌ لا يُرْجى خيره، أي: لا خير عنده ألبتة فيرجى؛ وأنشد قول امرئ القيس: [الطويل]
440
١٢٤٧ - وَصُمٌّ صِلاَبٌ مَا يَقِينَ مِنَ الوَجَى كَأَنَّ مَكَانَ الرَّدْفِ مِنْهُ عَلَى رَالِ
أي: ليس بهن وجًى، فيشتكين من أجله؛ وقال الأعشى: [البسيط]
١٢٤٨ - لاَ يَغْمِزُ السَّاقَ مِنْ أَيْنٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ
معناه: ليس بساقه أينٌ، ولا وصبٌ؛ فيغمزها.
وقال الفراء قريباً منه، فإنه قال:» نفى الإلحاف عنهم، وهو يريد جميع وجوه السؤال؛ كما تقول في الكلام: «قَلَّ ما رَأَيْتُ مِثْلَ هذا الرجل» ولعلك لم تر قليلاً، ولا كثيراً من أشباهه «.
وجعل أبو بكر الآية الكريمة عند بعضهم من باب حذف المعطوف، وأن التقدير: لاَ يَسْأَلُونَ الناسَ إلحافاً، ولا غير إلحاف، كقوله تعالى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١]، أي: والبرد.
وقال بعضهم: إنَّ السائل الملحف الملح، هو الذي يستخرج المال بكثرة تَلَطُّفِهِ، فقوله: ﴿لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً﴾ أي: لا يسألون الناس بالرِّفق، والتَّلطُّف، وإذا لم يوجد السؤال على هذا الوجه، فبأن لا يوجد على وجه العنف أولى.
وذكر ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها ثلاثة أوجه أخر:
أحدها: أنه ليس المقصود منق لوه: ﴿لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً﴾ وصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافاً؛ لأنه تعالى وصفهم قبل ذلك بالتعفُّف، وإذا علم أنهم لا يسألون ألبتة، قد علم - أيضاً - أنهم لا يسألون الناس إلحافاً، بل المراد التَّنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً، مثاله: إذا حضر عندك رجلان: أحدهما عاقلٌ، وقورٌ ثابتٌ، والآخر طيَّاش مهذارٌ سفيهٌ، فإذا أردت أن تمدح أحدهما، وتعرض بالآخر، قلت: فلانٌ، رجل عاقلٌ وقُورٌ قليل الكلام، لا يخوض في الترّهات، ولا يشرع في السفاهات، ولم يكن غرضك من قولك: لا يخوض في التّرّهات، والسفاهات، وصفه بذلك؛ لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك؛ بل غرضك التنبيه على مذمَّة الثاني؛ فكذا هاهنا قوله: ﴿لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً﴾ بعد قوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف﴾ الغرض منه التنبيه على مذمَّة من يسأل الناس إلحافاً.
وثانيها: أنه تعالى بيَّن فيما تقدَّم شدَّة حاجة هؤلاء الفقراء ومن اشتدت حاجته، فإنه لا يمكنه ترك السؤال؛ إلاَّ بإلحاحٍ شديد منه على نفسه، فقوله: ﴿لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً﴾
441
أي: لا يسألون الناس، وإنَّما أمكنهم ترك السؤال عندما ألحُّوا على النفس، ومنعوها بالتكليف الشَّديد عن ذلك السؤال، ومنه قول عمر بن الخطَّاب: [الوافر]
١٢٤٩ - وَلِي نَفْسٌ أَقُولُ لَهَا إِذَا مَا... تُنَازِعُنِي: لَعَلِّي أَوْ عَسَانِي
وثالثها: أنَّ من أظهر من نفسه آثار الفقر، والمذلَّة، والمسكنة؛ ثم سكت عن السؤال، فكأنَّه أتى بالسؤال الملحِّ الملحف؛ لأن ظهور أمارات الحاجة، تدلُّ على الحاجة، وسكوته يدل على أنه ليس عنده ما يدفع تلك الحاجة، ومتى تصوَّر الإنسان من غيره ذلك، رقَّ له قلبه جدّاً، وصار حاملاً له على أن يدفع إليه شيئاً، فكان إظهار هذه الحالة هو السؤال على سبيل الإلحاف، فقوله: ﴿لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً﴾ معناه: أنهم سكتوا عن السؤال، لكنَّهم لا يضمُّون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال، وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف، بل يزيّنون أنفسهم عند الناس، ويتجملون عند الخلق، ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليها إلاَّ الخالق.

فصل


قال ابن عبد البرِّ: من أحسن ما روي من أجوبة الفقهاء في معاني السُّؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه. ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل، وقد سئل عن المسألة، متى تحل؟ قال: إذا لم يكن عنده ما يغدِّيه ويعشيه، قيل لأبي عبد الله: فإن اضطرَّ إلى المسألة؟ قال: هي مباحةٌ إذا اضطر.
قيل له: فإن تعفَّف؟ قال: ذلك خيرٌ له، وقال: ما أظن أنَّ أحداً يموت من الجوع؛ الله يأتيه برزقه، ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدريّ: «مَنْ اسْتَعْفَفَ أَعَفَّهُ الله».
قال أبو بكر: وسمعته يسأل عن الرجل الذي لا يجد شيئاً؛ أيسأل الناس، أم يأكل الميتة؟ فقال: أيأكل الميتة، وهو يجد من يسأله؟ هذا شنيعٌ.
قال القرطبيُّ: فإن جاءه شيءٌ من غير سؤالٍ، فله أن يقبله ولا يرده؛ إذ هو رزقٌ رزقه الله، لما روي «أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرسل إلى عمر بن الخطَّاب بعطاءٍ، فردَّه؛ فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» لِمَ رَدَدْتَه؟ «فقال: يا رسول الله، أليس أخبرتنا أنَّ خيراً لأحدنا ألاَّ يأخذ شيئاً؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» إنَّما ذَاكَ عَنِ المَسْأَلَةِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ،
442
فَإِنَّمَا هو رزقٌ رَزَقَكَهُ الله «فقال عُمَر بن الخطَّاب:» والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ أَسْأَلُ شَيْئاً، وَلاَ يَأْتِيني شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ أَخَذتُه «.
والإلحاف، والإلحاح، واللُّجاج، والإحفاء، كلُّه بمعنًى، يقال: أَلحف، وألحَّ في المسألة: إذا لجَّ فيها.
وفي الحديث:»
مَنْ سَألَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ، فَقَدْ أَلْحَفَ «، واشتقاقه من اللِّحاف؛ لأنه يشتمل الناس بمسألته، ويعمُّهم؛ كما يشتمل اللِّحاف من تحته ويغطِّيه؛ ومنه قول ابن أحمر يصف ذكر نعامٍ، يحضن بيضه بجناحيه، ويجعل جناحه لها كاللِّحاف: [الوافر]
١٢٥٠ - يَظَلُّ يُحُفُّهُنَّ بِقَقْقَفَيْهِ وَيَلْحَفُهُنَّ هَفْهَافاً ثَخِينَا
وقال آخر في المعنى: [الرمل]
١٢٥١ - ثُمَّ رَاحُوا عَبَقُ المِسْكِ بِهِمْ يُلْحِفُونَ الأَرْضَ هُدَّابَ الأُزُرْ
أي: يلبسونها الأرض، كإلباس اللِّحاف للشيء. وقيل: بل اشتقاق اللفظة من»
لَحْفِ الجَبَلِ «وهو المكان الخشن، ومجازه أنَّ السائل لكثرة سؤاله كأنه استعمل الخشونة في مسألته، وقيل: بل هي من» لَحَفني فُلاَنٌ «، أي: أعطاني فضل ما عنده، وهو قريبٌ من معنى الأوَّل.
قوله: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ﴾ هو نظير قوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٧٢]، وليس بتكرارٍ؛ لأنه لمَّا قال في الآية الأولى: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ
443
خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} فهم منه التوفية من غير بخسٍ؛ ولا نقصان، وذلك لا يمكن إلاَّ بالعلم بمقدار العمل، وكيفية جهاته المؤثرة في استحقاق الثواب.
444
قوله: ﴿الذين يُنْفِقُونَ﴾ : مبتدأٌ، وخبره الجملة من قوله: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ ودخلت الفاء؛ لما تضمَّنه الموصول من معنى الشرط. وقال ابن عطية رَحِمَهُ اللَّهُ: «وإنما يوجد الشَّبه - يعني بين الموصول، واسم الشرط - إذا كان الموصول موصولاً بفعل، وإذا لم يدخل على الموصول عاملٌ يغيِّر معناه». قال أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «فَحَصر الشَّبه فيما إذا كان» الَّذِي «موصولاً بفعل، وهذا كلامٌ غير محرَّرٍ، أمَّا قوله:» الَّذِي «فلا يختصُّ ذلك ب» الذي «، بل كلُّ ما كان موصولاً غير الألف واللام، حكمه حكم الذي» بلا خلافٍ، وفي الألف واللام خلاف، ومذهب سيبويه المنع من دخول الفاء.
الثاني: قوله «مَوْصولاً بفعل» فأطلق الفعل واقتصر عليه، وليس كذلك، بل شرط الفعل أن يصلح لمباشرة أداة الشرط، فلو قلت: الذي سَيَأْتِيني، أو لمَّا يأتيني، أو ما يأتيني، أو ليس يأتيني - فله درهمٌ لم يجز شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ أداة الشرط لا يصلح أن تدخل على شيءٍ من ذلك، وأمَّا الاقتصار على الفعل، فليس كذلك؛ بل الظرف والجارُّ والمجرور في الوصل كذلك، متى كان شيءٌ منهما صلةً لموصول، جاز دخول الفاء.
وقوله: «وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ على» الَّذي «عاملٌ يغيِّر معناه» عبارةٌ غير ملخَّصةٍ؛ لأن العامل لا يغيِّر معنى الموصول، إنما يغيِّر معنى الابتداء، بأن يصيِّره تمنِّياً، أو ترجِّياً، أو ظناً، نحو: لعل الذي يأتضيني، أو ليت الذي يأتيني، أو ظننت الذي يأتيني - فله درهمٌ، لا يجوز دخول الفاء لتغيُّر معنى الابتداء.
وكان ينبغي له - أيضاً - أن يقول: «بِشَرْطِ أَنْ يكونَ الخبرُ مستحِقاً بالصلةِ؛ كالآية الكريمة؛ لأنَّ ترتُّبَ الأجرِ إنما هو على الإِنْفاقِ».
وقول الشيخ أيضاً: «بل كلُّ مَوْصُولٍ» ليس الحكم - أيضاً - مقتصراً على كلِّ موصولٍ، بل كلُّ نكرةٍ موصوفةٍ بما يجوز أن يكون صلةً مجوِّزةً لدخول الفاء، أو ما أُضيف إلى تلك النكرة، أو إلى ذلك الموصول، أو الموصوف بالموصول - حكمه كذلك. وقد تقدمت المسألة.
444

فصل في بيان سبب النُّزول


في سبب النزول وجوه:
الأول: لما نزل قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ [البقرة: ٢٧٣]، بعث عبد الرَّحمن بن عوف بدنانير كثيرةٍ إلى أصحاب الصُّفة، وبعث عليٌّ - كرم الله وجهه - بوسق تمرٍ ليلاً؛ فكان أحبَّ الصَّدقتين إلى الله تعالى، صدقه عليٍّ؛ فنزلت الآية.
وقدَّم الله تعالى ذكر الليل؛ ليعرف أنَّ صدقة اللَّيل كانت أكمل، رواه الضَّحَّاك، عن ابن عبَّاسٍ.
الثاني: روى مجاهدٌ عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال:
«نزلت هذه الآية في عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان عنده أربعة دراهم، لا يملك غيرها، فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً وبدرهم علانيةً؛ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -:» مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ «فقال: أن أستوجب ما وعدني ربِّي، فقال:» لَكَ ذَلِكَ «.
الثالث: قال الزَّمخشريُّ نزلن في أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حين تصدَّق بأربعين ألف دينار: عشرةٌ باللَّيل، وعشرةٌ بالنهار، وعشرةٌ في السِّرِّ، وعشرة في العلانية.
الرابع: قال أبو أمامة، وأبو الدَّرداء، ومكحولٌ، والأوزاعي: نزلت هذه الآية الكريمة في الذين يربطون الخيل للجهاد؛ فإنها تعتلف ليلاً ونهاراً، وسراً وعلانية، فكان أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إذا مرَّ بفرسٍ سمين، قرأ هذه الآية.
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:»
مَنِ احْتَبَسَ فَرَساً فِي سَبِيلِ اللهِ إيمَاناً، وتَصْدِيقاً بوعدِهِ، فإنَّ شِبَعَهُ وريَّه ورَوْثَهُ، وبَوْلَهُ في ميزانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ «.
445
الخامس: أن الآية الكريمة عامةٌ في الذين يعمون الأوقات، والأحوال بالصدقة، تحريضاً لهم على الخير.
وفي الآية إشارة إلى أن صدقة السِّرِّ أفضل؛ لأنه قدم اللَّيل على النهار، والسر على العلانية في الذكر، وتقدم نظير هذه الآية؛ ومدلولها، وهو مشروطٌ عند الكل بألاَّ يحصل عقيبه الكفر، وعند المعتزلة ألاَّ يحصل عقيبه كبيرةٌ محبطةٌ.
446
«الرِّبَا» في اللُّغة: عبارةٌ عن الزِّيادة؛ يقال ربا الشيء يربو ربواً، ومنه قوله ﴿اهتزت وَرَبَتْ﴾ [الحج: ٥]، أي زادت، وأربى الرَّجل: إذا عامل في الربا، ومنه الحديث «مَنْ أَجْبَى فَقَدْ أَرْبَى»، أي: عامل بالرِّبا، والإجباء: بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه.
والمادة تدلُّ على الزيادة والارتفاع، ومنه الرَّبوة. وقال حاتم الطائيُّ يصف رمحاً: [الطويل]
١٢٥٢ - وَأَسْمَرَ خَطِّيًّا كَأَنَّ كُعُوبَهُ نَوَى القَسْبِ قَدْ أَرْبَى ذِرَاعاً عَلَى العُشْرِ
والرِّبا: لامه واوٌ؛ لقولهم: ربا يربو؛ فلذلك يثنَّى بالواو، ويكتب بالألف. وجوَّز الكوفيُّون تثنيته بالياء، وكذلك كتابته، قالوا: لكسر أوَّله، ولذلك أمالوه، وليس هذا مختصّاً بمكسور الأول، بل الثُّلاثيُّ من ذوات الواو، المكسور الأول، أو المضمومه؛ نحو: «رِبا»، و «عُلا» حكمه ما ذكرته عنهم، فأمَّا المفتوح الأول نحو: عصا، وقفا، فلم يخالفوا البصريين، وكتب في القرآن بخطِّ الصحابة بواوٍ بعدها ألفٌ.
وقيل: إنما بالواو؛ لأنَّ أهل الحجاز تعلَّموا الخطَّ من أهل الحيرة، وأهل الحيرة يقولون: «الرِّبَوا» بالواو، فكتبوها كذلك، ونقلها أهل الحجاز كذلك؛ خطّاً لا لفظاً.
قرأ العدويُّ: «الرِّبَو» كذلك بواوٍ خالصةٍ بعد فتحة الباء. فقيل: هذا القارئ أَجرى الوصل مجرى الوقف، وذلك أنَّ من العرب من يقلب ألف المقصور واواً؛ فيقول: هذه أفعو، وهذا من ذاك، إلاَّ أنه أجْرَى الوصل مُجْرى الوقف.
446
وقد حكى أبو زيدٍ ما هو أغرب من ذلك، فقال: «قرأ بعضهم بكسر الراء، وضمِّ الباء، وواو بعدها»، ونسب هذه للغلط؛ وذلك لأنَّ العرب لا يبقى واواً بعد ضمة في الأسماء المعربة، بل إذا وجد ذلك، لم يقرَّ على حاله، بل تقلب الضَّمَّة كسرةً، والواو ياءٌ، نحو: دلوٍ وأدلٍ، وجروٍ؛ وأنشد أبو عليّ: [البسيط]
١٢٥٣ - لَيْثٌ هِزَبْرٌ مُدِلٌّ عِنْدَ خِيسَتِهِ بِالرَّقْمَتَيْنِ لَهُ أَجْرٍ وأَعْرَاسُ
ونهاية ما قبل فيها: أنَّ قارئها قلب الألف واواً؛ كقولهم في الوقف: أَفْعَو، ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك، قيل: ولم يضبط الرَّاوي عنه ما سمع؛ فظنَّه بضمِّ الباء؛ لأجل الواو؛ فنقلها كذلك، وليت الناس أخلو تصانيفهم من مثل هذه القراءات التي لو سمعها العامة لمجُّوها، ومن تعاليلها، ولكن صار التارك لها، يعده بعضهم جاهلاً بالاطِّلاع عليها.
ويقال: رِبا ورِما، بإبدال بائه ميماً؛ كما قالوا: كثم في كثب. والألف واللام في «الرِّبا» : يجوز أن تكون للعهد، إذ المراد الرِّبا الشرعيُّ، ويجوز أن تكون لتعريف الجنس.

فصل في وجه تعلق هذه الآية بالتي قبلها


اعلم أنَّ بين الصدقة، والرِّبا مناسبةٌ من جهة التضادِّ؛ لأن الصدقة عبارةٌ عن تنقيص المال بسبب أمر الله تبارك وتعالى بذلك؛ والرِّبا عبارةٌ عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله - سبحانه وتعالى - عنه، فكانا كالمتضادَّين، ولهذا قال تعالى:
﴿يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات﴾ [البقرة: ٢٧٦] فلما حصلت المناسبة بينهما من هذا النوع، ذكر حكم الربا عقيب حكم الصدقات، وخصَّ الأكل؛ لأنه معظم الأمر؛ كقوله: ﴿الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً﴾ [النساء: ١٠] فنبَّه بالأَكل على ما سواه من وجوه الإتلافات، ولأنَّ نفس الرِّبا الذي هو الزيادة لا يؤكل، وإنما يصرف في المأكول، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا، ومُوكِلَه وشاهده وكَاتِبَهُ، والمحلِّلَ لَهُ» فعلمنا أنَّ الحرمة غير مختصة بالأكل.

فصل في تقسيم الرِّبا


الرِّبا قسمان: ربا النَّسيئة، وربا الفضل.
447
أمَّا ربا النسيئة، فهو الذي كان مشهوراً متعارفاً في الجاهليَّة، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كلَّ شهرٍ قدراً معيناً، ويكون رأس المال باقياً، ثم إذا حلَّ الدَّين طالبوا المدينون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحقِّ والأجل، فهذا هو الرِّبا الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية.
وأمَّا «ربا الفضل» فهو أن يباع منٌّ من الحنطة بمنوين منها، أو ما أشبه ذلك.
وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه كان لا يحرِّم إلاَّ القسم الأول، فكان يقول لا ربا إلاَّ في النَّسيئة، وكان يجوِّز ربا الفضل؛ فقال له أبو سعيدٍ الخدريِّ: أشهدت ما لم تشهد، أو سمعت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما لم نسمع! ثمَّ روى له الحديث المشهور في هذا الباب، ثم قال أبو سعيدٍ: لا أواني وإيَّاك ظلُّ بيتٍ، ما دمت على هذا.
ثمَّ روي أنه رجع عنه.
قال محمد بن سيرين: كنَّا في بيتٍ، ومعنا عكرمة، فقال رجلٌ: يا عكرمة، أما تذكر ونحن في بيت فلانٍ، ومعنا ابن عباس فقال: إنما كنت استحللت الصرف برأيي، ثم بلغني أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حرَّمه، فاشهدوا أنِّي حرمته، وبرئت منه إلى الله.
وحجَّة ابن عباس أنَّ قوله: ﴿وَأَحَلَّ الله البيع﴾ يتناول بيع الدرهم بالدِّرهمين نقداً؛ وقوله: ﴿وَحَرَّمَ الربا﴾ ] إنما يتناول العقد المخصوص المسمَّى فيما بينهم رباً، وذلك هو ربا النَّسيئة، فكان ذلك مخصوصاً بالنَّسيئة؛ فثبت أنَّ قوله ﴿وَأَحَلَّ الله البيع﴾ يتناول ربا الفضل، وقوله: ﴿وَحَرَّمَ الربا﴾ لا يتناوله؛ فوجب أن يبقى على الحلِّ ولا يمكنه أن يقال إنما يحرمه بالحديث؛ لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن بخبر الواحد، وهو غير جائزٍ وهذا هو عرف ابن عباسٍ، وحقيقته راجعةٌ إلى أنَّ تخصيص القرآن بخبر الواحد: هل يجوز أم لا؟
وأمَّا جمهور العلماء، فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين، أمَّا القسم الأوَّل، ربا النَّسيئة فبالقرآن، وأمَّا ربا الفضل، فبالخبر، ثم إن الخبر دلَّ على حرمة ربا الفضل في الأشياء الستة، ثم اختلفوا.
فقال جمهور الفقهاء: حرمة ربا الفضل غير مقصورةٍ على هذه النسيئة؛ بل ثابتةٌ في غيرها بالعلَّة الجامعة وقال نفاةُ القياس: بل الحرمة مقصورة عليها.

فصل في سبب تحريم الربا


ذكروا في سبب تحريم الرِّبا وجوهاً:
448
أحدها: أنه يُفضي إلى أخد الإنسان مال غيره من غير عوضٍ؛ لأنه إذا باع الدِّرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئةً، فقد حصل له زيادة درهم من غير عوض ومال الإنسان له حرمةٌ عظيمةٌ، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «حُرْمَةُ مَالِ المسلمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» ؛ فكان أخذ ماله بغير عوض محرَّماً.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكونَ لبقاء رأس المال في يده مدَّةٌ مديدةٌ عوضاً عن الدِّرهم الزَّائد؟ لأنَّ رأس المال لو بقي في يد مالكه، لتمكَّن من التجارة به، والربح، فلمَّا تركه في يد المديون، وانتفع المديون به، لم يبعد أن يدفع إلى ربِّ المال ذلك الدرهم الزَّائد؛ عوضاً عن انتفاعه بماله.
فالجواب أنَّ هذا الانتفاع المذكور أمرٌ موهومٌ قد يحصل له منه كسبٌ، وقد لا يحصل، وأخذ الدرهم الزائد أمرٌ متيقنٌ فتفويت المتيقن لأجل أمر موهوم، لا ينفكُّ عن نوع ضرر.
وثانيها: أنَّ الرِّبا يمنع النَّاس عن الاشتغال بالمكاسب؛ لأنه إذا حصَّل الدرهم بالربا، فلا يكاد يحتمل مشقَّة التَّكسُّب بالتجارة، والصناعة، فيفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أنَّ [مصالح العالم] لا تنتظم إلاَّ بالتجارات، والعمارات، والحرف، والصِّناعات.
وثالثها: أنَّ الربا يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض؛ لأن الرِّبا إذا حرم، طابت النفوس بقرض الدرهم، واسترجاع مثله، ولو حلَّ الربا، لكانت حاجة المحتاج تحمله حاجته على أخذ الدرهم بالدرهمين، فيفضي ذلك إلى قطع المواساة، والمعروف، والإحسان.
ورابعها: أنَّ الغالب أنَّ المقرض يكون غنيّاً، والمستقرض يكون فقيراً، فالقول بتجويز الرِّبا تمكينٌ للغني من أن يأخذ من الفقير الضَّعيف مالاً زائداً، وهو غير جائزٍ برحمة الرَّحيم.
وخامسها: أنَّه غير معقولٍ المعنى.
قوله: ﴿لاَ يَقُومُونَ﴾ الظَّاهر أنَّها خبر الموصول المتقدِّم، وقال بعضهم: إنها حالٌ، وهو سهوٌ، وقد يتكلَّف تصحيحه بأن يضمر الخبر؛ كقراءة من قرأ ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ [يوسف: ٨] ؛ وقوله: [الطويل]
١٢٥٤ -.................
449
لاَ أَنَا بَاغِيَا................................
في أحد الوجهين.
والمراد القيام يوم القيامة أو من القبور.
قوله: ﴿إِلاَّ كَمَا يَقُومُ﴾ فيه الوجهان المشهوران وهما:
النصب على النعب؛ لمصدر محذوف، أي: لا يقومون إلا قياماً مثل قيام الذي يتخبطه الشيطان، وهو المشهور عند المعربين.
أو النصب على الحال من ضمير ذلك المصدر المقدَّر، أي: لا يقومونه، أي: القيام إلاَّ مبشهاً قيام الذي يتخطبه الشيطان، وهو رأي سيبويه، وقد قدَّمت تحقيقهما.
و «ما» الظاهر أنها مصدريةٌ، أي: كقيام. وجوَّز بعضهم أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوفٌ، والتقدير: إلا كالقيام الذي يقومه الذي يتخبَّطه الشيطان، وهو بعيدٌ.
و «يتخبَّطه» يتفعَّله، وهو بمعنى المجرد أي يخبطه؛ فهو مثل: تعدَّى الشيء وعداه فهو تفعَّل بمعنى فعل، نحو تقسَّمه: بمعنى قسمه، وتقطَّعه: بمعنى قطعه. ومعنى ذلك مأخوذٌ من خبط البعير بأخفافه: إذا ضرب بها الأرض. ويقال: فلانٌ يخبط خبط عشواء؛ قال علقمة: [الطويل]
١٢٥٥ - وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ
وقال زهير: [الطويل]
١٢٥٦ - رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ تُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِئ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ
والتخبط معناه: الضَّرب على غير استواء، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه، إنه يخبط خبط عشواء، وخبط البعير الأرض بأخفافه، وتخبطه الشيطان، إذا مسَّه بخبلٍ، أو جنونٍ؛ لأنه كالضَّرب على غير استواء في الإدهاش.
قوله: ﴿مِنَ المس﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلقٌ بيتخبَّطه من جهة الجنون، فيكون في موضع نصبٍ، قاله أبو البقاء.
450
الثاني: أنه يتعلَّق بقوله تبارك وتعالى: ﴿لاَ يَقُومُونَ﴾، أي: لا يقومون من المسِّ الذي بهم، إلا كما يقوم المصروع.
الثالث: أنه يتعلَّق بقوله: «يَقومُ»، أي: كما يقوم المصروع من جنونه؛ ذكر هذين الوجهين الأخيرين الزمخشريُّ.
قال أبو حيَّان: وكان قدَّم في شرح المسِّ أنه الجنون، وهذا الذي ذهب إليه في تعلُّق «مِنَ المَسِّ» بقوله: «لاَ يَقُومُونَ» ضعيفٌ؛ لوجهين:
أحدهما: أنه قد شرح المسَّ بالجنون، قلت: وهو بابٌ في البلاغة مشهورٌ، وهو أعلى رتب التشبيه؛ ومنه قوله: [الطويل]
١٢٥٧ - وَرَمْلٍ كَأَوْرَاكِ العَذَارَى قَطَعْتُهُ.........................

فصل في دفع شبهة في تحليل الرِّبا


القوم كانوا في تحليل الرِّبا على هذه الشُّبهة، وهي أنَّ من اشترى ثوباً بعشرة، ثمَّ باعه بأحد عشر، فهذا حلالٌ؛ فكذا إذا باع العشرة بأحد عشر، يجب أن يكون حلالاً؛ لأنه لا فرق في العقل بين الصُّورتين، فهذا في ربا الفضل، وكذلك - أيضاً - في ربا النَّسيئة؛ لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهرٍ، جاز، فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهرٍ، وجب أن يجوز؛ لأنه لا فرق في العقل بينهما، وإنما جاز ذلك، لحصول التراضي من الجانبين، فكذا هاهنا، لما حصل التراضي من الجانبين، وجب أن يجوز أيضاً، والبياعات إنَّما شرعت لدفع الحاجة، ولعل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال، شديد الحاجة، ويكون له في المستقبل من الزمان أموالٌ كثيرةٌ، فإذا لم يجز الرِّبا، لم يعطه ربُّ المال مجاناً، فيبقى الإنسان في الشدة، والحاجة، وبتقدير جواز الربا فيعطيه ربُّ المال؛ طمعاً في الزيادة، والمديون يردُّه عند وجدان المال، وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال، أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال، فهذا يقتضي حلَّ الرِّبا، كما قلنا في سائر البياعات أنَّها إنما شرعت؛ لدفع الحاجة، فهذه شبهة القوم.
451
فأجابهم الله تعالى بقوله: ﴿وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا﴾، وتوجيه هذا الجواب أنَّ ما ذكرتم معارضةٌ للنَّصِّ بالقياس؛ وهو لا يجوز.

فصل في دفع شبهة لنفاة القياس


تمسَّك نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: لو كان الدِّين بالقياس، لكانت هذه الشبهة لازمةً، فلمَّا بطلت، علمنا أن الدين بالنَّصّ لا بالقياس.
وفرَّق القفَّال بينهما، فقال: من باع ثوباً يساوي عشرةً بعشرين، فقد جعل ذات الثَّوب مقابلةً بالعشرين، فلمَّا حصل التراضي على هذا التقابل، صار كلُّ واحدٍ منهما مقابلاً للآخر في المالية عندهما، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئاً بغير عوض. أمَّا إذا باع العشرة بالعشرة، فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوضٍ، ولا يمكن أن يقال: إنَّ غرضه هو الإمهال في الأجل؛ لأن الإمهال ليس إلاَّ مالاً أو شيئاً يشار إليه، حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة؛ فافترقا.
فإن قيل: ما الحكمة في قلب هذه القضية؟ ومن حقّ القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق؛ لأن حلَّ البيع متفقٌ عليه، وهم أرادوا قياس الربا عليه؛ فكان نظم الكلام أن يقال: إنما الرِّبا مثل البيع، فقلبه، وقال: ﴿إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا﴾ ؟
فالجواب أنّه لم يكن مقصود القوم أن يتمسَّكوا بنظم القياس، بل كان غرضهم أنَّ البيع والرِّبا متماثلان في جميع الوجوه المطلوبة، فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحلِّ، والآخر بالحرمة، وعلى هذا التقدير: فأيُّهما قدِّم، أو أخِّر جاز.
قوله: ﴿وَأَحَلَّ الله البيع﴾ الظاهر أنه من كلام الله تعالى، أخبر بأنه أحلَّ هذا، وحرَّم ذاك، وعلى هذا؛ فلا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب. وقال بعضهم: «هذه الجملة من تَتِمَّة قول الذين يأكلون الربا، فتكون في محلِّ نصبٍ بالقول؛ عطفاً على المَقُولِ» وهو بعيدٌ جداً، لأنَّ القائل بأنَّ هذا من كلام الكفَّار، لا يتمُّ إلاَّ بإضمار زيادةٍ، إمَّا بأن يحمل ذلك على الاستفهام؛ على سبيل الإنكار، أو يحمل ذلك على الرِّواية من قول المسلمين، والإضمار خلاف الأصل، وعلى الأول لا يحتاج إلى الإضمار، فكان أولى أيضاً فإنَّ المسلمين - أبداً - يتمسَّكون في جميع مسائل البيع بهذه الآية، ولو كان ذلك من كلام الكفَّار، لما جاز لهم الاستدلال به. وأيضاً، فقوله بعده: ﴿فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ... ﴾ إلى قوله: ﴿... خَالِدُونَ﴾ يقتضي أنَّهم لما تمسَّكوا بقولهم: ﴿إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا﴾ فالله تعالى قد كشَفَ عن فساد تلك الشُّبهة، وبيَّن ضعفها، فلو لم
452
يكن قوله ﴿وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا﴾ من كلام الله تعالى، لم يكن أجاب عن تلك الشبهة، فلم يكن قوله ﴿فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ﴾ - لائقاً بهذا الموضع.

فصل


ذهب بعض العلماء إلى أنَّ قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا﴾ من المجملات التي لا يجوز التمسك بها.
قال ابن الخطيب: وهو المختار عندي لوجوه:
الأول: أنه ثبت في «أصول الفِقْهِ» أنَّ الاسم المفرد المحلَّى ب «لام» التَّعريف، لا يفيد العموم ألبتَّة، بل ليس فيه إلاَّ تعريف الماهيَّة، ومتى كان كذلك، كفى في العمل ثبوت حكمه في الصورة الواحدة.
الثاني: سلَّمنا أنه يفيد العموم، ولكنا لا نشكُّ في أنَّ إفادته أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم، مثلاً قوله: ﴿وَأَحَلَّ الله البيع﴾ وإن أفاد الاستغراق إلاَّ أن قوله: «وأحل الله البيعات» أقوى في إفادة الاستغراق فثبت أن قوله: «وأحل الله البيع» لا يفيد الاستغراق إلاَّ إفادة ضعيفة، ثم بتقدير العموم لا بدَّ أن يتطرق إليها تخصيصاتٌ كثيرةٌ خارجةٌ عن الحصر والضبط، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى، وكلام رسوله؛ لأنه كذبٌ، والكذب على الله محالٌ.
فأما العامُّ الذي يكون موضع التخصيص منه قليلاً جدّاً، فذلك جائزٌ؛ لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرفٌ مشهورٌ في كلام العرب.
الثالث: روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: خرج رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الدنيا، وما سألناه عن الربا. ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم، لما قال ذلك؛ فعلمنا أنَّ هذه الآية من المجملات.
الرابع: أن قوله: ﴿وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا﴾ يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً، وكل ربا حراماً؛ والرِّبا: هو الزيادة، فأول الآية أباح جميع البيوع، وآخرها حرَّم الجميع؛ فلا يعرف الحلال من الحلال بهذه الآية؛ فكانت مجملةً، ووجب الرجوع في معرفة الحلال، والحرام إلى بيان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قوله: ﴿فَمَن جَآءَهُ﴾ يحتمل أن تكون شرطيةً وهو الظاهر، وأن تكون موصولةً، وعلى كلا التقديرين فهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء.
وقوله: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ هو الخبر، فإن كانت شرطيةً، فالفاء واجبةٌ، وإن كانت موصولةٌ، فهي جائزةٌ، وسبب زيادتها ما تقدَّم من شبه الموصول لاسم الشرط. ويجوز
453
حال كونها شرطيةً وجهٌ آخر، وهو أن تكون منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره ما بعده، وتكون المسألة من باب الاشتغال، ويقدَّر الفعل بعدها؛ لأنَّ لها صدر الكلام، والتقدير: فأيُّ شخصٍ جاءت الموعظة جاءته، ولا يجوز ذلك فيها موصولةً؛ لأنَّ الصلة لا تفسِّر عاملاً؛ إذ لا يصحُّ تسلُّطها على ما قبلها، وشرط التفسير صحة التسلُّط. وسقطت علامة التأنيث من فعل الموعظة لأن ثانيها غير حقيقي ولأنها في معنى الوعظ وأيضاً للفصل بين الفعل، وفاعله بالمفعول. وقرأ أبيّ والحسن: «جاءَتْه» على الأصل.
قوله: ﴿مِّنْ رَّبِّهِ﴾ يجوز أن تكون متعلقةً بجاءته، وتكون لابتداء الغاية؛ مجازاً، وأن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لموعظةٍ، أي: موعظةٌ من موعظات ربه، أي: بعض مواعظه.
وقوله
: ﴿فانتهى
نسقٌ على «جاءَتْه» عطفه بفاء التعقيب، أي: لم يتراخ انتهاؤه عن مجيء الموعظة.
وقوله: ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ الكلام على «مَنْ» هذه في احتمال الشرط، والموصول، كالكلام على التي قبلها.
«عاد» أي: رجع، يقال: عاد يعود عوداً، ومعاداً، وعن بعضهم: أنها تكون بمعنى «صار» ؛ وأنشد [الطويل]
١٢٥٨ - وَبِالمَحْضِ حَتَّى عَادَ عَنَطْنَطاً إِذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ
وأنشد: [الطويل]
١٢٥٩ - تُعِدُّ لَكُمْ جَزْرَ الجَزُورِ رِمَاحُنَا وَيَرْجِعْنَ بالأَسْيَافِ مُنْكَسِرَاتِ
والضمير في قوله «فَأمْرُه» يعود على «مَا سَلَف»، أي: وأمر ما سلف إلى الله، أي: في العفو عنه وإسقاط التِّبعة منه. وقيل: يعود على المنتهي المدلول عليه بانتهى، أي: فأمر المنتهي عن الربا إلى الله؛ في العفو؛ والعقوبة.
وقيل: يعود على ذي الرِّبا في أن ينتبه على الانتهاء، أو يعيده إلى المعصية.
وقيل: يعود على الرِّبا، أي: في عفو الله عمَّا شاء منه، أو في استمرار تحريمه.
قال الواحديُّ «السُّلُوفُ» : التقدم، وكلُّ شيءٍ قدمته أمامك فهو سلفٌ، ومنه الأمم السَّالفة، وسالف الذكر، وله سلفٌ صالحٌ: آباءٌ متقدِّمون، ومنه ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً﴾ [
454
الزخرف: ٥٦] أي: أمةً متقدمةً تعتبر بهم من بعدهم، وتجمع السَّلف على: أسلافٍ وسلوفٍ، والسالفة والسُّلاف: المتقدِّمون في حرب أو سفرٍ، والسالفة من الوجه؛ لتقدُّمها؛ قال: [الوافر]
١٢٦٠ - وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ جِيداً وَسَالِفَةٌ وأَحْسَنُهُ قَذَالاَ
والسُّلفة: ما يقدَّم من الطعام للضَّيف. يقال: «سَلِّفُوا ضَيْفَكُمْ، ولَهِّنُوهُ» أي: بادروه بشيءٍ مَّا، ومنه: السَّلف في الدَّين؛ لأنه تقدَّمه مالٌ.
والسَّالفة: العنق؛ لتقدُّمه في جهة العلو، والسلفة: ما قدم قبل الطعام، وسلافة الخمر: صفوتها؛ لأنه أوَّل ما يخرج من عصيرها.

فصل في تأويل ما سلف


قال الزجاج: أي صفح له عمَّا مضى من ذنبه، قبل نزول الآية؛ كقوله: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨]، وضعِّف؛ بأن قبل نزول الآية في التحريم، لم يكن ذلك حراماً، ولا ذنباً؛ فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع أنه ما كان هناك ذنبٌ؟ والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم! ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك، وهو قوله: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ أي: كلُّ ما أكل من الرِّبا، وليس عليه ردُّه، فأمَّا ما لم يقضَ بعد، فلا يجوز له أخذه، وإنما له رأس ماله فقط؛ كما بيَّنه تعالى في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٩].

فصل


قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى الله﴾ وجوهٌ للمفسرين، والذي أقوله: إنَّ هذه الآية مختصةٌ بمن ترك استحلال الرِّبا من غير بيان أنه ترك أكل الربا، أو لم يترك؛ ويدلُّ عليه مقدمة الآية ومؤخِّرتها.
أمَّا مقدمة الآية؛ فلأن قوله ﴿فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى﴾ ليس فيه بيان أنه انتهى عماذا، فلا بدَّ وأن يصرف ذلك إلى المدلول السابق، وأقرب المذكورات إلى هذه الكلمة قولهم: ﴿إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا﴾ فكان قوله: ﴿فانتهى﴾ عائداً إليه فيكون المعنى: فانتهى عن هذا القول.
وأما مؤخرة الآية فقوله: ﴿وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ معناه
455
عاد إلى الكلام المتقدم، وهو استحلال الربا «فَأَمْرهُ إلى اللهِ» ثم هذا الإنسان إمَّا أن يقال: إنه كما انتهى عن استحلال الربا، انتهى - أيضاً - عن أكل الربا، وليس كذلك؛ فإن كان الأول كان هذا الشخص مقراً بدين الله عالماً بتكليف الله تعالى؛ فحينئذٍ يستحق المدح والتعظيم، لكنَّ قوله «فَأَمْرُهُ إِلى اللهِ» ليس كذلك؛ لأنه يدلُّ على أنه تعالى إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له، فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر، ولا بالمؤمن المطيع، فلم يبق إلاَّ أنها تختصُّ بمن أقرَّ بحرمة الرِّبا، ثم أكل الربا؛ فهذا أمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، فهو كقوله ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨]. ثم قال: ﴿وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي ومن عاد إلى استحلال الربا، حتى يصير كافراً، وفيها دليلٌ على أنَّ الخلود لا يكون إلاَّ للكافر.
456
قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي﴾ : الجمهور على التخفيف في الفعلين من: مَحَقَ، وأربى. وقرأ ابن الزبير: ورويت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «يُمْحِّقُ، ويُرَبِّي» بالتشديد فيهما.
والمحق: النقص، يقال: محقته فانمحق، وامتحق؛ ومنه المحاق في القمر؛ قال: [البسيط]
١٢٦١ - يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبَهُ كَرُّ الجَدِيدَيْنِ نَقْصاً ثُمَّ يَنْمَحِقُ
وأنشد ابن السِّكِّيتِ: [الطويل]
١٢٦٢ - وَأَمْصَلْتُ مَالِي كُلَّهُ بِحَيَاتِهِ وَمَا سُسْتَ مِنْ شَيْءٍ فَرَبُّكَ مَاحِقُهْ
ويقال: هجيرٌ ماحقٌ: إذا نقص كلُّ شيءٍ بحرِّه.
وقد اشتملت هذه الآية على نوعين من البديع:
أحدهما: الطِّباق في قوله: «يَمْحَقُ، ويُرْبِي» فإنهما ضدَّان، نحو: ﴿أَضْحَكَ وأبكى﴾ [النجم: ٤٣].
والثاني: تجنيس التغاير في قوله: «الرِّبا، ويُرْبي» إذ أحدهما اسم والآخر فعل.

فصل في بيان وجه النَّظم


لما كان الداعي إلى فعل الرِّبا، تحصيل الزيادة، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقص الخيرات - بيَّن تعالى - ها هنا - أنَّ الربا وإن كان زيادةً، فهو نقصانٌ في الحقيقة، وأن الصدقة وإن كانت نقصاً في الصورة، فهي زيادةٌ في المعنى، فلا يليق
456
بالعاقل أن يلتفت إلى ما يقضي به الطبع، والحسُّ من الدواعي والصَّوارف؛ بل يعوِّل على ما ندبه الشرع إليه؛ فهذا وجه النظم.

فصل


اعلم أن محق الربا، وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة.
أما محق الربا في الدنيا فمن وجوه:
أحدها: أنَّ الغالب في المربي - وإن كثر ماله - أن تؤول عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن مالح؛ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «الرِّبا وَإِنْ كَثُرَ فإنَّ عَاقِبتَهُ تَصِيرُ إِلى قلٍّ».
وثانيها: أنه وإن لم ينتقص ماله، فإن عاقبته الذَّمُّ والنقص، وسقوط العدالة، وزوال الأمانة، وحصول اسم الفسق، والقسوة، والغلظة.
ثالثها: أنَّ الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا، يلعنونه، ويبغضونه، ويدعون عليه؛ وذلك يكون سبباً لزوال الخير، والبركة عنه في نفسه وماله.
الرابع: أنه متى اشتهر بين الناس بأنه إنما جمع ماله من الرِّبا، توجهت إليه الأطماع، وقصده كلُّ ظالمٍ، ومارقٍ وطمَّاعٍ، ويقولون: إنَّ ذلك المال ليس له في الحقيقة، فلا يترك في يده.
وأمَّ أن الربا سبب للمحق في الآخرة فمن وجوهٍ:
أحدها: قال ابن عباس: معنى هذا المحق: أن الله تعالى لا يقبل منه صدقةً، ولا جهاداً ولا حجّاً، ولا صلة رحم.
ثانيها: أن مال الدنيا لا يبقى عند الموت، ويبقى عليه التبعة، والعقوبة، وذلك هو الخسار الأكبر.
وثالثها: ثبت في الحديث: أنَّ الأغنياء يدخلون الجنَّة بعد الفقراء بخمسمائة عامٍ، فإذا كان الغِنَى من الحلال كذلك، فما ظنُّك بالغنى من الحرام المقطوع به فذلك هو المحق والنقصان!
وأمَّا «إِرْبَاءُ الصدقاتِ» فيحتمل - أيضاً - أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة.
457
أما في الدنيا: فمن وجوهٍ:
أحدها: أن من كان لله كان الله له، فإذا كان الإنسان يحسن إلى عبيد الله، فالله تعالى لا يتركه ضائعاً، ولا جائعاً في الدنيا، وقد ورد في الحديث أنَّ ملكاً ينادي كلَّ يومٍ: «اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِكُلِّ مُنْفِقٍ خَلَفاً، ولكل مُمْسِكٍ تَلَفاً».
وثانيها: أنه يزداد كلَّ يومٍ في جاهه، وذكره الجميل، وميل القلوب إليه.
وثالثها: أن الفقراء يعينونه بالدعاء الخالص من قلوبهم.
ورابعها: أنَّ الأطماع تنقطع عنه، فإنه متى اشتهر بإصلاح مهمَّات الفقراء، والضعفاء؛ فكلُّ أحدٍ يحترز عن منازعته، وكلُّ ظالم، وطمَّاع يتخوف من التعرض إليه، اللهم إلاَّ نادراً، فهذا هو المراد بإرباء الصدقات في الدنيا.
وأما إرباؤها في الآخرة، فروى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقبلُ الصَّدَقَاتِ وَلاَ يَقْبَلُ مِنْهَا إِلاَّ الطَّيِّبَ ويَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُربِّيها كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مَهرَةُ أَوْ فَلُوَّهُ حتى إنَّ اللقمةَ تَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ» وتصديق ذلك بيِّنٌ في كتاب الله تعالى ﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات﴾ [التوبة: ١٠٤].
وقال ابن الخطيب: ونظير قوله: ﴿يَمْحَقُ الله الربا﴾ المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوانٍ عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلداً ونظير قوله: ﴿وَيُرْبِي الصدقات﴾ المثل الذي ضربه الله بحبةٍ أنبتت سبع سنابل في كلِّ سنبلةٍ مائة حبَّةٍ.
قوله: ﴿والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ اعلم أن الكفَّار فعَّالٌ من الكفر، ومعناه: أن ذلك عادته، والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا فتقول: فلان فعَّالٌ للخير أمَّارٌ به و «الأَثِيم» فعيل بمعنى فاعلٍ، وهو الآثم، وهو - أيضاً - مبالغةٌ في الاستمرار على اكتساب الإثم والتمادي فيه، وذلك لا يليق إلاَّ بمن ينكر تحريم الربا، فيكون جاحداً.
وفيه وجه آخر وهو أن يكون «الكَفَّارُ» راجعاً إلى المستحلّ «والأَثيم» يكون راجعاً إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم؛ فتكون الآية الكريمة جامعةً للفريقين.
458
اعلم أنَّ من عادته تعالى في القرآن الكريم مهما ذكر وعيداً، ذكر بعده وعداً فلما بلغ ها هنا في وعيد المرابي، أتبعه بهذا الوعد، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية.
واحتجّ من قال بأن العمل الصالح خارجٌ عن مسمى الإيمان بهذه الآية، فإنه عطف عمل الصالحات على الإيمان؛ والمعطوف يغاير المعطوف عليه.
وأجيب عنه بأنه قال: ﴿وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة﴾ ولا نزاع في أن إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، داخلان تحت عمل الصالحات، فكذا ما ذكرتُم، وأيضاً قال تبارك وتعالى: ﴿الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله﴾ [النحل: ٨٨] وقال: ﴿والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ﴾ [البقرة: ٣٩] ويمكن أن يجاب بأن الأصل حمل كل لفظةٍ على فائدةٍ جديدة، تُرِكَ العملُ به عند التَّعذُّر، فيبقى في غير موضع التعذر على الأصل.
فإن قيل إنَّ الإنسان إذا بلغ عارفاً بالله تعالى وقبل وجوب الصلاة والزكاة عليه، ثم مات، فهو من أهل الثواب بالاتفاق، فدلَّ على أن استحقاق الثواب لا يتوقَّف على حصول العمل.
وأيضاً فقد يثيب الله تعالى المؤمن الفاسق الخالي عن جميع الأعمال، وإذا كان كذلك فكيف وقف الله ها هنا حصول الأجر على حصول العمل؟
فالجواب: أنه تبارك وتعالى إنما ذكر هذه الخصال؛ لا لأجل أنَّ استحقاق الثواب مشروطٌ بهذا، بل لأجل أنَّ لكل واحد منهما أثراً في جلب الثواب، كما قال في ضدِّ هذا ﴿والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ﴾ [الفرقان: ٦٨] ثم قال: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً﴾ [الفرقان: ٦٨] ومعلومٌ أنَّ من ادعى مع الله إلهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر، وإنما جمع اللهُ الزِّنا، وقتل النَّفس، مع دعاء غير الله إلهاً، لبيان أنَّ كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة.
اعلم أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية المتقدمة أنَّ من انتهى عن الربا، فله ما سلف؛ فقد يظنُّ أنه لا فرق بين المقبوض منه، وبين الباقي في ذمَّة الغريم، فبين في هذه الآية الكريمة بقوله: ﴿وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا﴾ أي: الذي لم يقبض فالزيادة حرامٌ، وليس لهم أن يأخذوا إلاَّ رؤوس أموالهم، فقال: ﴿اتقوا الله﴾ والاتقاء إنما يكون باتقاء ما نهى عنه، ﴿وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا﴾ يعني: إن كنتم قد قبضتم منه شيئاً، فيعفو عنه، وإن لم تقبضوه أو لم تقبضوا بعضه، فالذي لم يقبض حرامٌ قبضه، وهذه الآية دليلٌ على أحكام الكفَّار إذا أسلموا؛ لأن ما مضى في زمن الكفر، فإنه لا ينقض، ولا يفسخ، وما لم يوجد منه
459
شيء في حال الكفر، فحكمه الإسلام، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم، ولا يجوز في الإسلام فمعفوٌّ عنه، وإن وقع على مهرٍ حرامٍ، وقبضته المرأة، فقد مضى، وليس لها شيءٌ، وإن لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المسمى.
قوله تعالى: ﴿وَذَرُواْ﴾ : فتحت العين من «ذَرْ» حملاً على «دَعْ»، إذ هو بمعناه، وفتحت في «دَعْ» ؛ لأنه أمرٌ من «يَدَعُ»، وفتحت من «يَدَعُ»، وإن كان قياسها الكسر؛ لكون الفاء واواً؛ [كيَعِدُ] لكون لامه حرف حلقٍ.
ووزن «ذَرُوا» : علوا؛ لأنَّ المحذوف الفاء لا يستعمل منه ماضٍ إلاَّ في لغيَّة، وكذلك «دَعْ».
وقرأ الحسن: «مَا بَقَى» بقلب الكسر فتحةً، والياء ألفاً، وهي لغةٌ لطَيِّىءٍ، ولغيرهم؛ ومنه قول علقمة: [الطويل]
١٢٦٣ - زَهَا الشَّوْقُ حَتَّى ظَلَّ إِنْسَانُ عَيْنِهِ يَفِيضُ بِمَغْمُورٍ مِنَ الدَّمْعِ مُتْأَقِ
وقال آخر: [الوافرٍ].
١٢٦٤ - وَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةس عَلَيْنَا وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ
ويقولون في الناصية: ناصاةٌ. وقرأ الحسن أيضاً: «بَقِيْ» بتسكين الياء، قال المبرد: «تسكين ياء المنقوص في النصب من أحسن الضرورة، هذا مع أنَّه معربٌ، فهو في الفعل الماضي أحسنُ» قال شهاب الدين: وإذا كانوا قد حذفوها من الماضي صحيح الآخرن فأولى من حرف العلة، قال: [مجزوء الرمل]
١٢٦٥ - إِنَّمَا شِعْرِيَ قَيْدٌ قَدْ خُلِطْ بِجُلْجُلانِ
وقال جرير في تسكين الياء: [البسيط]
١٢٦٦ - هُوَ الخَلِيفَةُ فَارْضُوا مَا رَضِيْ لَكُمُ مَاضِي العَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفُ
وقال آخر: [الطويل]
460
قوله: ﴿مِنَ الربا﴾ متعلِّقٌ ببقي، كقولهم: «بَقِيَتْ منه بقيةٌ»، والذي يظهر أنه متعلقٌ بمحذوفٍ؛ على أنه حال من فاعل «بقَى»، أي: الذي بقي حال كونه بعض الربا، فهي تبعيضيةٌ.
ونقل ابن عطية هنا أنَّ العدويَّ - وهو أبو السَّمَّال - قرأ «مِنَ الرِّبُو» بتشديد الراء مكسورة، وضمِّ الباء بعدها واوٌ. قال شهاب الدين: قد تقدم أنَّ أبا السَّمَّال إنما قرأ «الرِّبَا» في أول الآية الكريمة بواوٍ بعد فتحة الباء، وأنَّ أبا زيدٍ حكى عن بعضهم: أنه ضمَّ الباء، وقدَّمت تخريجهما على ضعفه.
وقال ابن جنِّي: «شَذَّ هَذَا الحَرْفُ في أمرين:
أحدهما: الخروج من الكسر إلى الضم بناءَ لازماً.
والآخر: وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم، وهذا شيء لم يأت إلاَّ في الفعل؛ نحو: يغزو ويدعو، وأمَّا»
ذو «الطائية بمعنى الذي فشاذةٌ جداً، ومنهم من يغيِّر واوها، إذا فارق الرفع، فيقول:» رأيتُ ذَا قَامَ «.
ووجه القراءة أنه لمَّا فخَّم الألف انتحى بها الواو التي الألف بدل منها، على حدِّ قولهم: الصَّلاة والزكاة، وهي بالجملة قراءة شاذةٌ»
. قال شهاب الدين: غيره يقيِّد هذه العبارة، فيقول: «ليس في الأسماء المعربة واو قبلها ضمة» حتى يخرج عنه «ذُو» بمعنى الذي، و «هو» من الضمائر، وابن جنِّي لم يذكر القيد استثناء «ذو الطائية» ويرد عليه نحو «هو»، ويرد على العبارة «ذُو» بمعنى صاحب؛ فإنَّها معربةٌ في آخرها واوٌ بعد ضمةٍ.
وقد أجيب عنه بأنها تتغيَّر إلى الألف والياء فلم يبال بها، وأيضاً فإنَّ ضمة الدَّال عارضةٌ، إذ أصلها الفتح، وإنما ضمَّت؛ إتباعاً على ما تقرر في إعراب الأسماء الستة في كتب النحو.
وقله: «بناءً لازماً» تحرُّزٌ من وجود الخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ، بطريق العرض؛ نحو: الحِبُك؛ فإنه من التداخل، ونحو: الرِّدُءْ «موقوفاً عليه، فالخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ في هاتين الكلمتين، ليس بلازمٍ.
وقوله:»
مِنْهُمْ مَنْ يغيِّرُ واوَها «المشهور بناؤها على الواو مطلقاً، وقد تعرب؛ كالتي بمعنى صاحب؛ وأنشدوا: [الطويل]
١٢٦٧ - لَعَمْرُكَ لاَ أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقِيْ عَلَى الأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الأَبَاعِرَا
461
ويروى:» مِنْ ذُو «على الأصل.

فصل


قوله: ﴿إِن كُنْتُمْ﴾ شرطٌ، وجوابه محذوفٌ عند الجمهور، أي: فاتَّقوا، وذروا، ومتقدِّم عند جماعةٍ، وقيل:»
إِنْ «هنا بمعنى إذ؛ وهذا مردودٌ.
فإن قيل: كيف قال ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله﴾ ثم قال ﴿إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ فالجواب من وجوهٍ:
الأول: أن هذا كما يقال إن كنت أخي فأكرمني، معناه: إِنَّ من كان أخاً، أكرم أخاه.
الثاني: أنَّ معناه إن كنتم مؤمنين قبله، أي: معترفين بتحريم الرِّبا.
الثالث: إن كنتم تريدون استدامة حكم الإيمان.
الرابع: يا أيُّها الذين آمنوا، بلسانهم، ذروا ما بقي من الرِّبا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم.
الخامس: ما تقدم أنَّ»
إن «بمعنى» إذْ «.

فصل في سبب النزول


في سبب النزول رواياتٌ:
الأولى: أن أهل مكة كانوا يرابون، فلما أسلموا عند فتح مكة، أمرهم الله تعالى بهذه الآية، أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة.
الثانية: قال مقاتلٌ: نزلت في أربعة إخوةٍ من ثقيف: مسعودٍ، وعبد [ياليل]، وحبيبٍ، وربيعة، وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، كانوا يداينون بنى المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم وكانوا يرابون. فلما ظهر النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على لاطائف، أسلم هؤلاء الإخوة، فطلبوا رباهم من بنى المغيرة. فقال بنو المغيرة: والله ما نعطي الرِّبا في الإسلام، وقد وضعه الله تعالى عن المؤمنين، فاختصموا إلى عتَّاب بن أسيد، فكتب عتَّابٌ - وكان عامل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بقصة الفريقين، وكان ذلك مالاً عظيماً؛ فنزلت الآية.
462
الثالثة: قال عطاء، وعكرمة: نزلت في العباس بن عبد المطَّلب، وعثمان بن عفَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجذاذ، قال لهما صاحب التمر: إن أنتما أخذتما حقكما، لا يبقى لي ما يكفي عيالي! فهل لكما أن تأخذا النصف، وتؤخِّرا النّصف؛ وأضعف لكما؟ ففعلا، فلما جاء الأجل، طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنهاهما فأنزل الله هذه الآية؛ فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما.
الرابعة: قال السُّدِّيُّ: نزلت في العباس، وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية، يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عميرٍ، وناسٍ من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموالٌ عظيمةٌ في الربا؛ فأنزل الله هذه الآية. فقال النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في «حجةِ الوَدَاعِ» في خطبته يوم عرفة «أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ، ودِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وإنَّ أَوَّلَ دَم أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابنِ رَبِيعَةَ بن الحَارِثِ، كان مُسْتَرْضِعاً في بني سعدٍ؛ فقَتَلَه هُذيْلٌ، وَرِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وأَوَلُّ رِباً أَضَعُ رِبَا العباسِ بنِ عَبْد المطلبِ؛ فإنه مَوْضُوعٌ كُلُّه».

فصل


القاضي قوله: ﴿إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ يدلُّ على أنَّ الإيمان لا يتكامل إذا أصرَّ الإنسان على الكبائر، ولا يصير الإنسان مؤمناً على الإطلاق، إلاَّ إذا اجتنب كل الكبائر.
والجواب: لمَّا دلَّت الدلائل الكثيرة المذكورة في قوله تعالى: ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب﴾ [البقرة: ٣] على أنَّ العمل خارج عن مسمَّى الإيمان، كانت هذه الآية محمولةً على كمال الإِيمان وشرائعه، فكان التقدير: إن كنتم عاملين بمقتضى شرائع الإيمان، وهذا وإن كان تركاً للظاهر لكنا ذهبنا إليه؛ لتلك الدلائل.
فإن قيل: كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين؟
قلنا: هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر
«مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً، فَقَدْ بَارَزَنِي بالمُحَارَبَةِ»، وعن جابر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ لم يَدَع المخابرة، فليأذَن بحرب من اللهِ ورسُوله» وقد جعل كثيرٌ من المفسرين والفقهاء قوله: ﴿إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ [المائدة: ٣٣] أصلاً في قطع الطريق من المسلمين، فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب وسنة رسوله.
وفي الجواب عن السؤال وجهان:
الأول: أن المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب.
463
الثاني: أن المراد منه نفس الحرب، وفيه تفضيلٌ؛ فنقول: إنّ المصرَّ على فعل الربا، إذا كان من شخص، وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التَّعزير، والحبس إلى أن تظهر منه التوبة، وإن كان المصر ممن له عسكرٌ وشوكة، حاربه الإمام، كما يحارب الفئة الباغية، وكما حارب أبو بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - مانعي الزكاة، وكذا القول لو اجتمعوا على ترك الأذان، وترك دفن الموتى، فإنه يفعل بهم ما ذكرناه.
وقال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - من عامل بالربا، يستتاب، فإن تاب، وإلاّض ضرب عنقه.
والقول الثاني: أنه خطابٌ للكفار، وأن معنى قوله: ﴿إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ أي: معترفين بتحريم الربا ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ﴾ أي: فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه ﴿فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾ ومن ذهب إلى هذا القول، قال: إنَّ فيه دليلاً على أنّض من كفر بشريعة واحدةٍ من شرائع الإسلام، فهو خارجٌ من ملة الإسلام، كافرٌ كما لو كفر بجميع شرائعه.
قوله: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾ فالمعنى على القول الأول: وإن تبتم عن معاملة الربا، وعلى الثاني: من استحلال الربا ﴿فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ أي: لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ أي: بنقصان رأس المال.
قوله: ﴿لاَ تَظْلِمُونَ﴾ فيها وجهان:
أظهرهما: أنها لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، أخبرهم تعالى بذلك، أي: لا تظلمون غيركم بأخذكم الزيادة منه، ولا تظلمون أنتم - أيضاً - بضياع رؤوس أموالكم.
والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في «لَكُمْ» والعامل ما تضمَّنه الجارُّ من الاستقرار؛ لوقوعه خبراً وهو رأي الأخفش.
وقرأ الجمهور الأول مبنيّاً للفاعل، والثاني مبنياً للمفعول. وروى أبانٌ، والمفضَّل، عن عاصم بالعكس. ورجَّح الفارسي قراءة العامة؛ بأنها تناسب قوله: «وإن تُبْتُمْ» في إسناد الفعلين إلى الفاعل، فتظلمون مبنياً للفاعل أشكل بما قبله. وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: يُقْرَأُ بتسميةِ الفَاعِلِ في الأوَّلِ، وترْكِ التسمية في الثاني؛ ووجهه: أنَّ منعهم من الظلم أهمُّ؛ فبدئ به، ويقرأ بالعكس، والوجه فيه: أنه قدَّم ما تطمئن به نفوسهم من نفي الظلم عنهم، ثم منعهم من الظلم، ويجوز أن تكون القراءتان بمعنى واحدٍ؛ لأنَّ الواو لا ترتِّب.
464
فإن قيل : كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين ؟
قلنا : هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر " مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً، فَقَدْ بَارَزَنِي بالمُحَارَبَةِ "، وعن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ لم يَدَع المخابرة، فليأذَن بحرب من اللهِ ورسُوله " وقد جعل كثيرٌ من المفسرين والفقهاء قوله :﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [ المائدة : ٣٣ ] أصلاً في قطع الطريق من المسلمين، فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب وسنة رسوله.
وفي الجواب عن السؤال وجهان :
الأول : أن المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب.
الثاني : أن المراد منه نفس الحرب، وفيه تفصيلٌ ؛ فنقول : إنّ المصرَّ على فعل الربا، إذا كان من شخص، وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التَّعزير، والحبس إلى أن تظهر منه التوبة، وإن كان المصر ممن له عسكرٌ وشوكة، حاربه الإمام، كما يحارب الفئة الباغية، وكما حارب أبو بكرٍ - رضي الله عنه - مانعي الزكاة، وكذا القول لو اجتمعوا على ترك الأذان، وترك دفن الموتى، فإنه يفعل بهم ما ذكرناه.
وقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - من عامل بالربا، يستتاب، فإن تاب، وإلاَّ ضرب عنقه١.
والقول الثاني : أنه خطابٌ للكفار، وأن معنى قوله :﴿ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي : معترفين بتحريم الربا ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ﴾ أي : فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه ﴿ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ومن ذهب إلى هذا القول، قال : إنَّ فيه دليلاً على أنَّ من كفر بشريعة واحدةٍ من شرائع الإسلام، فهو خارجٌ من ملة الإسلام، كافرٌ كما لو كفر بجميع شرائعه.
قوله :﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ ﴾ فالمعنى على القول الأول : وإن تبتم عن معاملة الربا، وعلى الثاني : من استحلال الربا ﴿ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾ أي : لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال ﴿ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾ أي : بنقصان رأس المال.
قوله :﴿ لاَ تَظْلِمُونَ ﴾ فيها وجهان :
أظهرهما : أنها لا محلَّ لها ؛ لاستئنافها، أخبرهم تعالى بذلك، أي : لا تظلمون غيركم بأخذكم الزيادة منه، ولا تظلمون أنتم - أيضاً - بضياع رؤوس أموالكم.
والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في " لَكُمْ " والعامل ما تضمَّنه الجارُّ من الاستقرار ؛ لوقوعه خبراً وهو رأي الأخفش.
وقرأ الجمهور الأول مبنيّاً للفاعل، والثاني مبنياً للمفعول. وروى أبانٌ٢، والمفضَّل، عن عاصم بالعكس. ورجَّح الفارسي٣ قراءة العامة ؛ بأنها تناسب قوله :" وإن تُبْتُمْ " في إسناد الفعلين إلى الفاعل، فتظلمون مبنياً للفاعل أشكل بما قبله. وقال أبو البقاء٤ رحمه الله : يُقْرَأُ بتسميةِ الفَاعِلِ في الأوَّلِ، وترْكِ التسمية في الثاني ؛ ووجهه : أنَّ منعهم من الظلم أهمُّ ؛ فبدئ به، ويقرأ بالعكس، والوجه فيه : أنه قدَّم ما تطمئن به نفوسهم من نفي الظلم عنهم، ثم منعهم من الظلم، ويجوز أن تكون القراءتان بمعنى واحدٍ ؛ لأنَّ الواو لا ترتِّب.
١ - ينظر: تفسير الفخر الرازي ٧/٨٨..
٢ - انظر: السبعة ١٩٢، والحجة ٢/٤١٣، والبحر المحيط ٢/٣٥٣ والدر المصون ١/٦٦٧..
٣ - انظر: الحجة للقراء السبعة ٢/٤١٤..
٤ - ينظر: الإملاء لأبي البقاء ١/١١٧..
قوله تعالى: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ : في «كان» هذه وجهان:
أحدهما: - وهو الأظهر - أنها تامةٌ بمعنى حدث، ووجد، أي: وإن حدث ذو عسرةٍ، فتكتفي بفاعلها كسائر الأفعال، قيل: وأكثر ما تكون كذلك إذا كان مرفوعها نكرةٌ، نحو: «قد كان مِنْ مَطَرٍ».
والثاني: أنها الناقصة والخبر محذوفٌ. قال أبو البقاء: «تقديره: وإن كان ذو عسرة لكم عليه حقٌّ، أو نحو ذلك» وهذا مذهب بعض الكوفيين في الآية، وقدَّر الخبر: وإن كان من غرمائكم ذو عسرةٍ. وقدَّره بعضهم: وإن كان ذو عسرةٍ غريماً.
قال أبو حيَّان: «وَحَذْفُ خبرِ كَانَ لا يجيزه أصحابنا؛ لا اختصاراً؛ ولا اقتصاراً، لعلَّةٍ ذكروها في كتبهم. وهي أنَّ الخبر تأكّد طلبه من وجهين:
أحدهما: كونه خبراً عن مخبر عنه.
والثاني: كونه معمولاً للفعل قبله، فلما تأكدت مطلوبيته، امتنع حذفه.
فإن قيل: أليس أن البصريين لمَّا استدلَّ عليهم الكوفيون في أنَّ»
ليس «تكون عاطفةً بقوله: [الرمل]
١٢٦٩ -.......................... إِنَّمَا يَجْزِي الفَتَى لَيْسَ الجَمَلْ
تأوَّلُوهَا على حَذْفِ الخَبَرِ؛ وأَنْشدوا شَاهِداً على حَذْفِ الخبرِ قولَه: [الكامل]
١٢٧٠ -........................... يَبْغِي جِوَارَكِ حِينَ لَيْسَ مُجِيرُ
وإذا ثبت هذا، ثبت في سائر الباب.
فالجواب أن هذا مختصٌّ بليس؛ لأنها تشبه لا النافية، و»
لا «يجوز حذف خبرها، فكذا ما أشبهها».
465
وتقوَّى الكوفيُّون بقراءة عبد الله، وأُبيّ؛ وعثمان: «وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ» أي: وإن كان الغريم ذا عُسْرَةٍ. قال أبو عليّ: في «كان» اسمها ضميراً تقديره: هو، أي: الغريم، يدلُّ على إضماره ما تقدَّم من الكلام؛ لأنَّ المرابي لا بدَّ له ممَّن يرابيه.
وقرأ الأعمش: «وإِنْ كان مُعْسِراً» قال الدَّاني، عن أحمد بن موسى: «إنها في مُصْحَفِ عبد الله كذلك».
ولكنَّ الجمهور على ترجيح قراءة العامة وتخريجهم القراءة المشهورة. قال مكي: وَإِنْ وقع ذُو عُسْرَةٍ، وهو سائغٌ في كلِّ الناس، ولو نصبت «ذا» على خبر «كان»، لصار مخصوصاً في ناس بأعيانهم؛ فلهذه العلة أجمع القرَّاء المشهورون على رفع «ذو».
وقد أوضح الواحديُّ هذا، فقال: «أي: وإنْ وقع ذو عسرةٍ، والمعنى على هذا يصحُّ، وذلك أنه لو نصب، فقيل: وإن كان ذا عسرة، لكان المعنى: وإن كان المشتري ذا عُسْرةٍ، فنظرةٌ؛ فتكون النظرة مقصورةً عليه، وليس الأمر كذلك؛ لأن المشتري، وغيره إذا كان ذا عسرةٍ، فله النظرة إلى الميسرة».
وقال أبو حيَّان: مَنْ نصب «ذَا عُسْرَةٍ»، أو قرأ «مُعْسِراً» فقيل: يختصُّ بأهل الرِّبا، ومن رفع، فهو عامٌّ في جميع من عليه دينٌ، قال: «وليس بلازمٍ، لأنَّ الآية إنما سِيقَتْ في أهل الربا، وفيهم نزلت» قال شهاب الدين: وهذا الجواب لا يجدي؛ لأنه وإن كان السياق كذا، فالحكم ليس خاصاً بهم.
وقرئ «وَمَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ»، وقرأ أبو جعفرٍ «عُسْرَةٍ» بضم السين.

فصل


قال ابن الخطيب: لما كنتُ ب «خَوَارِزْم»، وكان هناك جمعٌ من أكابر الأدباء،
466
فأوردت عليهم إشكالاً في هذا الباب؛ فقلت: إنكم تقولون: إنَّ «كان» إذا كانت ناقصةً، أنها تكون فعلاً؛ وهذا محالٌ؛ لأن الفعل ما دلَّ على اقتران حدثٍ بزمان، فقولك «كان» يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي، وإذا أفاد هذا المعنى، كانت تامةً، لا ناقصةً، فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلاً، كانت تامةً لا ناقصة، وإن لم تكن تامةً لم تكن فعلاً ألبتة؛ بل كانت حرفاً، وأنتم تنكرون ذلك؛ فبقوا في هذا الإشكال زماناً طويلاً، وصنَّفوا في الجواب عنه كتباً، وما أفلحوا فيه، ثم انكشف لي فيه سرٌّ أذكره - ها هنا - وهو: أنَّ «كانَ» لا معنى له إلاَّ أنه حدث، ووقع، ووجد إلاَّ أن قولك وجد، وحدث على قسمين:
أحدهما: أن يكون المعنى وجد، وحدث الشيء؛ كقولك: وجد الجوهر، وحدث العرض.
والثاني: أن يكون المعنى وجد، وحدث موصوفية الشيء بالشيء، فإذا قلت: كان زيدٌ عالماً، فمعناه: حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم.
والقسم الأول هو المسمَّى ب «كان» التامة.
والقسم الثاني: هو المسمَّى ب «الناقصة» وفي الحقيقة: فالمفهوم من «كان» في الموضعين هو الحدوث، والوقوع إلاَّ أنه في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه فلا جرم كان الاسم الواحد كافياً والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر، فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافياً، بل لا بدَّ فيه من ذكر الاسمين حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر، وهذا من لطائف الأبحاث.
فأما إن قلنا إنه فعل، كان دالاًّ على وقوع المصدر في الزمان الماضي فحينئذٍ تكون تامةً لا ناقصةً، وإن قلنا إنه ليس بفعل بل حرفٌ، فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل، والأمر، وجميع خواصِّ الأفعال؟ وإذا حمل الأمر على ما قلناه، تبيَّن أنه فعلٌ وزال الإشكال بالكلية.
المفهوم الثالث ل «كان» أن تكون بمعنى «صَارَ» ؛ وأنشدوا: [الطويل]
١٢٦٨ - فَإِمَّا كِرَامٌ مُوسِرُونَ لَقِيتُهُمْ فَحَسْبِيَ مِنْ ذِي عِنْدَهُمْ مَا كَفَانِيَا
١٢٧١ - بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالمَطِيُّ كَأَنَّهَا قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
وعندي أنَّ هذا اللفظ - ها هنا - محمولٌ على ما ذكرناه، فإنَّ معنى «صار» أنَّها حدثت موصوفية الذات بهذه الصفة، بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك؛ فتكون «كان» هنا أيضاً بمعنى حدث، ووقع؛ إلاَّ أنه حدوثٌ مخصوصٌ وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة، بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى.
467
المفهوم الرابع: أن تكون زائدة؛ وأنشدوا: [الوافر]
١٢٧٢ - سَرَاةُ بَنِي أبي بَكْرٍ تَسَامَى عَلَى كَانَ المُسَوَّمَةِ الجِيَادِ
و «العُسْرَةِ» اسم من الإعسار، ومن العسر، وهو تعذُّر الموجود من المال؛ يقال: أعسر الرجل، إذا صار إلى حالة العسرة، وهي الحالة التي يتعسَّر فيها وجود المال.
قوله: ﴿فَنَظِرَةٌ﴾ الفاء جواب الشرط، و «نَظِرَةٌ» خبر مبتدأ محذوف، أي: فالأمر أو فالواجب، أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ، أي: فعليكم نظرةٌ.
وقرأ العامَّة: «نَظِرَةٌ» بزنة «نَبَقَة». وقرأ الحسن، ومجاهدٌ، وأبو رجاء: «فَنَظِرةٌ» بتسكين العين، وهي لغةٌ تميمةٌ يقولون: «كَبْد» في «كَبِد» و «كَتْف» في «كَتِف».
وقرأ عطاء «فَنَاظِرَةٌ» على فاعلة، وقد خرَّجها أبو إسحاق على أنها مصدر نحو: ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ [الواقعة: ٢] ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين﴾ [غافر: ١٩] ﴿أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٥]. وقال الزمخشري: «فناظِرُهُ، أي: فصاحب الحقّ ناظره، أي: منتظره، أو صاحب نظرته على طريقة النسب؛ كقولهم: مَكَانٌ عَاشِبٌ، وبَاقِلٌ؛ بمعنى ذو عشبٍ، وذو بقلٍ، وعنه:» فناظِرْهُ «على الأمر بمعنى: فسامحه بالنظرة، وباشره بها» فنقله عنه القراءة الأولى يقتضي أن تكون قراءته «ناظِر» اسم فاعل مضافاً لضمير ذي العسرة، بخلاف القراءة التي قدمها عن عطاء، فإنها «نَاظِرَةٌ» بتاء التأنيث، ولذلك خرَّجها الزَّجَّاج على المصدر. وقرأ عبد الله: «فناظِرُوه» أمراً للجماعة بالنظرة، فهذه ستُّ قراءات مشهورها واحدةٌ.
وهذه الجملة لفظها خبرٌ، ومعناها الأمر؛ كقوله تعالى: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٣] وقد تقدَّم. والنظرة: من الانتظار، وهو الصبر والإمهال.
تقول: بعته الشيء بنظرة، وبإنظار. قال: ﴿قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ﴾ [الأعراف: ١٤ - ١٥] ﴿إلى يَوْمِ الوقت المعلوم﴾ [الحجر: ٣٨].
468
قوله: ﴿إلى مَيْسَرَةٍ﴾ قرأ نافع وحده: «مَيْسَرَة» بضمِّ السِّين، والباقون بفتحها. والفتح هو المشهور؛ إذ مفعل، ومفعلة بالفتح كثيرٌ، ومفعُلٌ بالضم، معدومٌ؛ إلا عند الكسائي، فإنه أورد منه ألفاظاً، وأمَّا مفعلةٌ، فقالوا: قليلٌ جدّاً وهي لغة الحجاز، وقد جاءت منها ألفاظٌ، نحو: المسرُقة، والمقبرة، والمشربة، والمسربة، والمقدرة، والمأدبة، والمفخرة، والمزرعة، ومعربة، ومكرمة، ومألكة.
وقد ردَّ النحاس الضمَّ؛ تجرؤاً منه، وقال: «لم تَأْتِ مَفْعُلَةٌ إِلاَّ في حُرُوفٍ معدودةٍ ليس هذه منها، وأيضاً فإنَّ الهاء زائدةٌ، ولم يَأْتِ في كلامِهِم مَفْعُل أَلْبتةَ» انتهى.
وقال سيبويه: «لَيْسَ في الكَلاَمِ مَفْعُل» قال أبو عليّ: «يَعْنِي في الآحاد». وقد حكى سيبويه «مَهْلك» مثلَّث اللاَّم، وقال الكسائيُّ: «مَفْعُل» في الآحاد، وأورد منه مكرُماً في قول الشاعر: [الرجز]
١٢٧٣ - لِيَوْمِ رَوْعٍ أَوْ فَعَالِ مَكْرُمِ... ومَعْوُن في قول الآخر - هو جميلٌ -: [الطويل]
١٢٧٤ - بُثَيْنُ، ألْزَمِي «لاَ» ؛ إنَّ «لاَ» إِنْ لَزِمْتِهِ عَلَى كَثْرَةِ الوَاشِينَ أَيُّ مَعْوُنِ
ومألكاً في قول عديّ: [الرمل]
١٢٧٥ - أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلُكاً أَنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي
وهذا لا يرد على سيبويه لوجهين:
أحدهما: أنَّ هذا جمعٌ لمكرمةٍ، ومعونة، مألكة، وإليه ذهب البصريون، والكوفيون خلا الكسائي، ونقل عن الفراء أيضاً.
والثاني: أن سيبويه لا يعتدُّ بالقليل، فيقول: «لم يَرِدْ كذا» وإن كان قد ورد منه الحرف والحرفان، لعدم اعتداده بالنادر القليل.
469
وإذا تقرَّر هذا، فقد خطَّأ النحويون مجاهداً، وعطاءً في قراءتهما: «إلى مَيْسُرِهِ» بإضافة «مَيْسُر» مضموم السين إلى ضمير الغريم؛ لأنهم بنوه على أنه ليس في الآحاد مفعل، ولا ينبغي أن يكون هذا خطأً؛ لأنه على تقدير تسليم أنَّ مفعلاً ليس في الآحاد، فميسر هنا ليس واحداً، إنما هو جمع ميسرة، كما قلتم أنتم: إنَّ مكرماً جمع مكرمةٍ، ونحوه، أو يكون قد حذف تاء التأنيث للإضافة؛ كقوله: [البسيط]
١٢٧٦ - إِنَّ الخَلِيطَ أَجَدُّوا البَيْنَ فَانْجَرَدُوا وأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا
أي: عدة الأمر؛ ويدلُّ على ذلك أنهم نقلوا عنهما، أنهما قرآ أيضاً: «إِلَى مَيْسَرِهِ» بفتح السين، مضافاً لضمير الغريم، وهذه القراءة نصٌّ فيما ذكرته لك من حذف تاء التأنيث للإضافة؛ لتوافق قراءة العامَّة: «إلى مَيْسَرَةٍ» بتاء التأنيث.
وقد خرَّجها أبو البقاء على وجهٍ آخر، وهو أن يكون الأصل: «مَيْسُورِه» فخفِّف بحذف الواو؛ اكتفاءً بدلالة الضمة عليها، وقد يتأيَّد ما ذكره على ضعفه، بقراءة عبد الله، فإنه قرأ: إلى «مَيْسُورِه» بإضافة «مَيْسورٍ» للضمير، وهو مصدرٌ على مفعول؛ كالمجلود والمعقول، وهذا إنما يتمشَّى على رأي الأخفش؛ إذ أثبت من المصادر زنة مفعول، ولم يثبته سيبويه.
«والمَيْسَرَةُ» : مفعلةٌ من اليسر، واليسار الذي هو ضدُّ الإعسار، وهو تيسر الموجود من المال ومنه يقال أيسر الرجل، فهو موسرٌ، أي: صار إلى حالة وجود المال فالميسرة، واليسر، والميسور: الغنى.

فصل في سبب نزول «وإن كان ذو عسرة»


لما نزل قوله: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٧٩] قال بنو عمرو الثَّقفي: بل نتوب إلى الله، فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله، فرضوا برأس المال، فشكى بنو المغيرة العسرة، وقالوا: أخِّرونا إلى أن تدرك الغلاَّت، فأبوا أن يؤخروا؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ يعني وإن كان الذي عليه الدَّين معسراً، ﴿فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾، يعن: أَنْظِرُوه إلى اليسار، والسَّعة.

فصل في بيان حكم الإنظار


اختلفوا في حكم الإنظار: هل هو مختصٌّ بالربا، أو عامٌّ في كل دين؟ فقال ابن عباس، وشريح، والضحاك، والسدي، وإبراهيم: الآية في الربا، وذكر عن شريح أنَّه أمر
470
بحبس الخصم، فقيل له: إنه معسرٌ، فقال شريح إنما ذلك في الربا، والله تعالى قال في كتابه العزيز ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا﴾ [النساء: ٥٨].
وقال جماعة منهم مجاهد: إنها عامَّة في كل دين؛ لعموم قوله تعالى: ﴿ذُو عُسْرَةٍ﴾ ولم يقل ذا عسرة.

فصل


والإعسار: هو ألاَّ يجد في ملكه ما يؤدِّيه بعينه، ولا يكون له ما لو باعه، لأمكنه أداء الدَّين من ثمنه خارجاً عن مسكنه وثيابه، ولا يجوز أن يحبس من لم يجد إلاَّ قوت يوم لنفسه وعياله، وما لا بدَّ لهم من كسوةٍ لصلاتهم ودفع البرد والحرِّ عنهم.
واختلفوا: إذا كان قويّاً، هل يلزمه أن يؤاجر نفسه من صاحب الدَّين، أو غيره؟
فقال بعضهم: يلزمه ذلك، كما يلزمه إذا احتاج لنفسه، أو لعياله.
وقال بعضهم: لا يلزمه ذلك، واختلفوا أيضاً إذا بذل للمعسر ما يؤدِّي به الدَّين، هل يلزمه قبوله والأداء، أو لا يلزمه؟ فأما من له بضاعة كسدت عليه فواجبٌ عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يكن إلاَّ ذلك، ويؤدِّيه في الدَّين.

فصل في تحريم حبس المعسر


إذا علم الإنسان أنَّ غريمة معسرٌ - حرم عليه حبسه، وأن يطالبه بما له عليه ووجب عليه إنظاره إلى يساره، فإن ارتاب في إعساره، جاز له حبسه إلى أن يظهر إعساره، فإذا ادَّعى الإعسار وكذَّبه الغريم، فإن كان الدَّين عن عوضٍ، كالبيع، والقرض، فلا بدَّ له من إقامة البيِّنة على أنَّ ذلك العوض قد هلك، وإن كان الدَّين عن غير عوض كالإتلاف، والصَّداق، والضَّمان؛ فالقول قول المعسر؛ لأن الأصل الفقر وعلى الغريم إقامة البينة.

فصل


قال المهدويُّ: قال بعض العلماء: هذه الآية ناسخةٌ لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر.
قال القرطبيُّ: وحكى مكيٌّ: أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر به في صدر الإسلام.
قال ابنُ عطية: فإن ثبت فِعْلُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فهو نسخٌ، وإلاَّ فليس بنسخ.
قال الطَّحاوي: كان الحرُّ يباع في الدَّين أول الإسلام، إذا لم يكن له مالٌ يقضيه عن نفسه؛ حتى نسخ الله ذلك بقوله: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾.
471
واحتجُّوا بما رواه الدَّارقطنيُّ من حديث مسلم بن خالد الزَّنجي، قال: حدثنا زيد ابن أسلم عن ابن البيلمانيّ، عن سرَّقٍ، قال: كان لرجلٍ عليّ مالٌ - أو قال - دينٌ فذهب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلم يصب لي مالاً، فباعني منه، أو باعني له؛ أخرجه البزَّار بإسناد طويل، ومسلم بن خالد الزنجي، وعبد الرحمن البيلماني لا يحتجُّ بهما.
قوله: ﴿وَأَن تَصَدَّقُواْ﴾ مبتدأ وخبره «خير» وقرأ عاصم: بتخفيف الصاد، والباقون: بتثقيلها. وأصل القراءتين واحدٌ؛ إذ الأصل: تتصدَّقوا، فحذف عاصمٌ إحدى التاءين: إمَّا الأولى، وإمَّا الثانية، وتقدَّم تحقيق الخلاف فيه، وغيره أدغم التاء في الصاد، وبهذا الأصل قرأ عبد الله: «تَتَصَدَّقوا». وحذف مفعول التصدُّق للعلم به، أي: بالإنظار؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لاَ يَحِلُّ دَيْنُ رَجلٍ مُسْلم، فيؤخره؛ إلاَّ كان له بِكُلِّ يَوْمٍ صدقةٌ» وهذا ضعيفٌ؛ لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية، فلا بد من حمل هذه الآية على فائدةٍ جديدةٍ، ولأن قوله «خَيْرٌ لكُمْ» إنما يليق بالمندوب، لا بالواجب. وقيل: برأس المال على الغريم، إذ لا يصحُّ التصدق به على غيره؛ كقوله تعالى: ﴿وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى﴾ [البقرة: ٢٣٧].
قوله: ﴿إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جوابه محذوفٌ، و «اَنْ تَصَدَّقُوا» بتأويل مصدرٍ مبتدأ، و «خيرٌ لكم» خبره.

فصل في تقدير مفعول «تعلمون» ونصب «يوماً»


وتقدير مفعول «تَعْلَمُونَ» فيه وجوه:
أحدها: إن كنتم تعلمون أنَّ هذا التصدُّق خير لكم إن عملتموه.
الثاني: إن كنتم تعلمون فضل التصدُّق على الإنظار والقبض.
الثالث: إن كنتم تعلمون أنَّ ما يأمركم به ربُّكم أصلح لكم.
472
قوله: ﴿واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله﴾ الآية انتصب قوله «يَوْماً» على المفعول به، لا على الظرف؛ لأنه ليس المعنى واتَّقوا في هذا اليوم، لكن المعنى تأهَّبوا للقائه، بما تقدِّمون من العمل الصالح، ومثله: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً﴾ [
472
المزمل: ١٧] أي: كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا وصفه، مع الكفر بالله تعالى.

فصل في آخر ما نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من القرآن


قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هذه آخر آيةٍ نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذلك لأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما حجَّ نزلت ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ﴾ [النساء: ١٧٢] وهي آية الكلالة ثم نزلت، وهو واقفٌ بعرفة ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣] ثم نزل ﴿واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله﴾ فقال جبريل - عليه السلام - يا محمد ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة، وعاش رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعدها أحداً وثمانين يوماً، وقيل أحداً وعشرين يوماً.
وقال ابن جريجٍ: تسع ليالٍ.
وقال سعيد بن جبير: سبع ليالٍ، وقيل: ثلاث ساعاتٍ، ومات يوم الاثنين، لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، حين زاغت الشمس، سنة إحدى عشرة من الهجرة.
وقال الشعبي، عن ابن عباس: آخر آيةٍ نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أية الرِّبا.
قوله تعالى: ﴿تُرْجَعُونَ فِيهِ﴾ : هذه الجملة في محلِّ نصبٍ؛ صفةً للظرف. وقرأ أبو عمرو: «تَرْجِعُونَ» بفتح التاء؛ مبنياً للفاعل، والباقون بضَمِّ التَّاءِ مبنياً للمفعُولِ. وقرأ الحسنُ: «يَرْجِعُون» بياء الغيبة؛ على الالتفات. قال ابن جنِّي: «كأنَّ اللهَ تعالى رَفَقَ بالمؤمنينَ عن أنْ يواجِهَهُم بذكر الرَّجْعَة، إذ هي ممَّا تتفطَّر لها القلوب، فقال لهم:» واتَّقُوا «ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة، فقال: يَرْجِعُون».
واعلم أنَّ الرجوع لازمٌ ومتعدٍّ، وعليه خرِّجت القراءتان.

فصل في المراد باليوم


قال القاضي: اليوم: عبارةٌ عن زمانٍ مخصوصٍ، وذلك لا يتَّقى؛ إنَّما يتقى ما يحدث
473
فيه من الشِّدة، والأهوال، واتقاء تلك الأهوال لا يمكن إلاَّ في دار الدُّنيا بمجانبة المعاصي، وفعل الواجبات؛ فصار قوله: ﴿واتقوا يَوْماً﴾ يتضمن الأمر بجميع أنواع التكليف.
قال جمهور العلماء: المراد بهذا اليوم المحذَّر منه هو يوم القيامة.
وقيل يوم الموت، قال ابن عطية: والأول أصحُّ.

فصل


اعلم أنَّ الرجوع إلى الله ليس المراد منه، ما يتعلق بالمكان والجهة؛ فإن ذلك محالٌ على الله تعالى، وليس المراد الرجوع إلى علمه، وحفظه؛ فإنه معهم أينما كانوا، لكن كل ما في القرآن من الرجوع إلى الله، فله معنيان:
الأول: أن الإنسان له ثلاثة أحوالٍ مرتَّبين، فالأولى: كونهم في بطون أمَّهاتهم لا يملكون نفعهم، ولا ضرَّهم؛ بل المتصرف فيهم ليس إلاَّ الله تعالى.
والثانية: بعد خروجهم من البطون، فالمتكفل بإصلاح أحوالهم في أوَّل الأمر الأبوان، ثم بعد ذلك، يتصرف بعضهم في بعض، في حكم الظاهر.
الثالثة: بعد الموت وهناك لا يتصرف فيهم إلاَّ الله تعالى، فكأنه بعد الخروج عن الدنيا عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل الدخول في الدنيا، فهذا معنى الرجوع إلى الله.
المعنى الثاني: أن المراد يرجعون إلى ما أعدَّ الله لهم من ثوابٍ، وعقابٍ.
قوله: ﴿ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ معناه: أنَّ المكلف يصل إليه جزاء عمله بالتمام، كما قال: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧، ٨]، وقال: ﴿وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٧].
وفي تأويل قوله: ﴿مَّا كَسَبَتْ﴾ وجهان:
أحدهما: فيه حذفٌ تقديره: جزاء ما كسبت.
والثاني: أنَّ المكتسب إنَّما هو الجزاء في الأصل، فقوله ﴿مَّا كَسَبَتْ﴾ معناه: ذلك الجزاء وهذا أولى؛ لأنه لا يحتاج إلى الإضمار.
قوله: ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ جملة حالية من «كلِّ نَفْسٍ» وجمع اعتباراً بالمعنى، وأعاد الضمير عليها أولاً مفرداً في «كَسَبَتْ» اعتباراً باللفظ، وقدِّم اعتبار اللفظ؛ لأنه الأصل، ولأنَّ اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة؛ فكان تأخيره أحسن.
قال أبو البقاء: وَيَجُوزُ أن يكون حالاً من الضمير في: «يُرْجَعُون» على القراءة بالياء، ويجوز أن يكون حالاً منه - أيضاً - على القراءة بالتاء، على أنَّه خروج من
474
الخطاب إلى الغيبة؛ كقوله تعالى: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢]، قال شهاب الدين: ولا ضرورة تدعو إلى ذلك.
فإن قيل: لما قال ﴿توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ فهم منه عدم الظلم، فيكون قوله: ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ من باب التكرير.
فالجواب: أنه تعالى لما قال ﴿توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ دلَّ على إيصال العذاب إلى الكفار والفسَّاق، فكان لقائلٍ أن يقول: كيف يليق بأكرم الأكرمين تعذيب عبيده؟ فأجاب بقوله: ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ والمعنى: أن العبد هو الذي ورط نفسه؛ لأن الله تعالى مكَّنه، وأزاح عذره، فهو الذي أساء إلى نفسه.
وهذا الجواب إنَّما يستقيم على أصول المعتزلة، وأمَّا على أصولنا، فالله سبحانه مالك الخلق، يتصرف في ملكه كيف شاء، وأراد؛ فلا يكون ظلماً.
475
في كيفية النظم وجهان:
الأول: أنَّ تعالى لمَّا ذكر الإنفاق في سبيل الله، وهو يوجب تنقيص المال، وذكر الرِّبا، وهو - أيضاً - سبب تنقيص المال، وختم هذين الحكمين بالتهديد بقوله ﴿واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله﴾ [البقرة: ٢٨١] والتقوى تسدُّ على الإنسان أكثر أبواب المكاسب، والمنافع - أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال، وصونه عن الفساد، فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله، وعلى ترك الرِّبا، وعلى ملازمة التقوى، لا يتم إلاَّ عند حصول المال؛ فلأجل هذا بالغ في الوصيَّة بحفظ المال، ونظيره ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً﴾ [النساء: ٥] فحثَّ على الاحتياط في أمر الأموال؛ لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد.
475
قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - ويدلُّ على ذلك: أنَّ ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار، وفي هذه الآية بسطٌ شديدٌ؛ ألاَّ ترى أنَّه قال تعالى ﴿إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه﴾، ثم قال ثانياً: ﴿وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل﴾، ثم قال ثالثاً: ﴿وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله﴾، فكان هذا كالتِّكرار لقوله: ﴿وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل﴾ ؛ لأنَّ العدل هو ما علَّمه الله، ثم قال رابعاً: ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ وهذا إعادةٌ للأمر الأول؛ ثم قال خامساً: ﴿وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق﴾ وفي قوله: ﴿وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل﴾ كفاية عن قوله: ﴿وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق﴾ ؛ لأنَّ الكاتب بالعدل إنَّما يكتب ما يملُّ عليه، ثم قال سادساً: ﴿وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ﴾، وهذا تأكيدٌ، ثم قال سابعاً: ﴿وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً﴾، وهذا كالمستفاد من قوله: ﴿وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ﴾، ثم قال ثامناً: ﴿وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ﴾، وهو أيضاً تأكيد لما مضى، ثم قال تاسعاً: ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا﴾، فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التَّأكيدات السَّالفة، وكلُّ ذلك يدلُّ على المبالغة في التَّوصية بحفظ المال الحلال، وصونه عن الهلاك؛ ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله، والإعراض عن مساخط الله: من الرِّبا، وغيره، والمواظبة على تقوى الله.
الوجه الثاني: قال بعض المفسرين: إنَّ المراد بهذه المداينة «السَّلَمُ» فإن الله تبارك وتعالى لما منع من الرِّبا في الآية المتقدِّمة؛ أذن في السَّلم في هذه الآية، مع أنَّ جميع المنافع المطلوبة من الرِّبا حاصلة في السَّلم، وبهذا قال بعض العلماء: لا لذَّة، ولا منفعة يوصل إيها بالطَّريق الحرام، إلا والله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سبحانه وتعالى - وضع لتحصيل تلك اللَّذَّة طريقاً حلالاً، وسبيلاً مشروعاً.

فصل


قال سعيد بن المسيَّب: بلغني أنَّ أحدث القرآن بالعرش آية الدَّين.
التداين تفاعل من الدَّين كتبايع من البيع، ومعناه: داين بعضكم بعضاً، وتداينتم: تبايعتم بدين.
يقال: داينت الرجل أي: عاملته بدينٍ، وسواء كنت معطياً، أم آخذاً؛ قال رؤبة: [الرجز]
476
١٢٧٧ - دَايَنْتُ أَرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى فَمَطلَتْ بَعْضاً وَأَدَّتْ بَعْضَا
ويقال: دنت الرجل: إذا بعته بدينٍ، وأدنته أنا: أخذت منه بدين ففرَّقوا بين فعل وأفعل.
قال ابن الخطيب: قال أهل اللغة القرض غير الدين؛ لأنَّ القرض أن يقرض الرجل الإنسان دراهم أو دنانير أو حباً أو تمراً وما أشبه ذلك، ولا يجوز فيه الأجل، والدَّين يجوز فيه الأجل ويقال من الدّين: أدَّان إذا باع سلعته بثمن إلى أجلٍ، ودان يدين إذا أقرض ودان إذا استقرض؛ وأنشد الأحمر: [الطويل]
١٢٧٨ - نَدِينُ وَيَقْضِي اللهُ عنَّا وَقَدْ نَرَى مَصَارعَ قَوْمٍ لاَ يَدِينُونَ ضُيَّعِ

فصل في بيان إباحة السلف


قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لما حرم الله تعالى الرِّبا؛ أباح السَّلف، وقال: أشهد أن السَّلف المضمون إلى أجل مسمّى، قد أحلَّه الله في كتابه، وأذن فيه ثمَّ قال: ﴿ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه﴾.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: نزلت في السَّلف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قدم المدينة وهم يسلفون الثِّمار السَّنتين، والثَّلاث؛ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ أَسْلَفَ؛ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلى أَجَلٍ مَعْلُومٍ».
وقال آخرون: المراد القرض، وهو ضعيف؛ لأن القرض لا يشترط فيه الأجل والآية فيها اشتراط الأجل، وقال أكثر المفسِّرين البياعات على أربعة أوجه:
أحدها: بيع العين بالعين، وذلك ليس بمداينة ألبتة.
والثاني: بيع الدَّين بالدَّين، وهو باطلٌ، فلا يدخل تحت الآية. بقي قسمان، وهما بيع العين بالدَّين، وهو بيع الشَّيء بثمن مؤجَّل، وبيع الدَّين بالعين، وهو المسمَّى ب «السّلم» وكلاهما داخلان تحت هذه الآية الكريمة.
477
فإن قيل: المداينة: مفاعلة، وحقيقتها أن يحصل من كلّ واحدٍ منهما دين، وذلك هو بيع الدَّين بالدَّين، وهو باطلٌ بالاتفاق.
فالجواب: أنَّ المراد من «تَدَايَنْتُمْ» : تعاملتم، والتَّقدير تعاملتم بما فيه دين.
فإن قيل: قوله «تَدَايَنْتُمْ» يدلُّ على الدّين، فما الفائد في قوله: «بِدَيْنٍ».
فالجواب من وجوه:
أحدها: قال ابن الأنباريّ: التَّداين يكون لمعنيين:
أحدهما: التَّداين بالمال؛ والتَّداين بمعنى المجازاة من قولهم: «كَمَا تَدِينُ تُدَانُ» فذكر الدين لتخصيص أحد المعنيين.
الثاني: قال الزَّمخشريُّ: وإنَّما ذكر الدَّين؛ ليرجع الضمير إليه في قوله تبارك وتعالى ﴿فاكتبوه﴾ إذ لو لم يذكر، لوجب أن يقال: فاكتبوا الدُّين.
الثالث: ذكره ليدلّ به على العموم، أي: أي دين كان من قليلٍ، أو كثيرٍ من قرضٍ، أو سلمٍ، أو بيع دين إلى أجل.
الرابع: أنَّه تبارك وتعالى ذكره للتَّأكيد كقوله تبارك وتعالى
﴿فَسَجَدَ
الملاائكة
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾
[الحجر: ٣٠] وقوله: ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨].
الخامس: قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: إنَّ المداينة مفاعلة، وهي تتناول بيع الدَّين بالدَّين وهو باطلٌ، فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطلٌ، فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطل فلما قال: ﴿إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ﴾ كان المعنى: إذا تداينتم تدايناً يحصل فيه دين واحد وحينئذٍ يخرج عن بيع الدّين بالدين، ويبقى بيع العين بالدّين أو بيع الدّين بالعين، فإن الحاصل في كلِّ واحدٍ منهما دين واحد لا غير.
فإن قيل: إن كلمة «إذَا» لا تفيد العموم، والمراد من الآية العموم؛ لأن المعنى كلَّما تداينتم بدين فاكتبوه فلم عدل عن كلما وقال: ﴿إِذَا تَدَايَنتُم﴾.
فالجواب: أنَّ كلمة «إِذَا»، وإن كانت لا تقتضي العموم إلا أنَّها لا تمنع من
478
العموم، وها هنا قام الدَّليل على أنَّ المراد هو العموم؛ لأنه تعالى بين العلَّة في الأمر بالكتابة في آخر الآية، وهي قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا﴾ والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدّين، ولم يكتب فالظَّاهر أنه تنسى الكيفيَّة فربَّما توهم الزِّيادة، فطلب الزِّيادة ظلماً، وربَّما توهم النُّقصان، فترك حقَّه من غير حمد ولا أجر، فأمَّا إذا كتب كيفيَّة الواقعة أمن من هذه المحذورات، فلمَّا دلَّ النَّصُّ على أن هذا هو العلَّة، وهي قائمةٌ في الكلّ كان الحكم أيضاً حاصلاً في الكلِّ.
قوله تعالى: ﴿إلى أَجَلٍ﴾ : متعلِّق بتداينتم، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفة لدين، و ﴿مُّسَمًّى﴾ صفة لدين، فيكون قد قدَّم الصفة المؤولة على الصَّريحة، وهو ضعيفٌ، فكان الوجه الأول أوجه.
والأجل: في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره، وأجل الدّين لوقت معيَّن في المستقبل، وأصله من التَّأخير يقال: أجل الشَّيء بأجل أجولاً إذا تأخَّر، والآجل: نقيض العاجل.
فإن قيل: المداينة لا تكون إلا مؤجلة، فما فائدة ذكر الأجل المداينة؟
فالجواب: إنَّما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله ﴿مُّسَمًّى﴾ والفائدة ف يقوله ﴿مُّسَمًّى﴾ ليعلم أنَّ من حقّ الأجل أن يكون [معلوماً] كالتَّوقيت بالسَّنة، والأشهر، والأيَّام، فلو قال إلى الحصاد، أو إلى الدياس، أو إلى رجوع قدوم الحاج؛ لم يجز لعدم التَّسمية.
وألف «مُسَمًّى» منقلبةٌ عن ياءٍ، تلك الياء منقلبةٌ عن واو؛ لأنه من التَّسمية، وقد تقدَّم أنَّ المادَّة من سما يسمو.

فصل


والأجل يلزم في الثَّمن في البيع، وفي السّلم بحيث لا يكون لصاحب الحقّ الطلب قبل محله، وفي القرض، لا يلزم الأجل عن أكثر أهل العلم.
قال القرطبي: شروط السّلم تسعة، ستّة في المسلم فيه، وثلاثة في رأس مال السّلم.
أمَّا السِّتَّة التي في المسلم فيه فأن يكون في الذِّمَّة، وأن يكون موصوفاً، وأن يكون الأجل معلوماً، وأن يكون الأجل معلوماً، وأن يكون مؤجّلاً، وأن يكون عام الوجود عند الأجل، وأمَّا الثلاثة
479
التي في رأس مال السلم، فأن يكون معلوم الجنس، معلوم المقدار، وأن يكون نقداً.
قوله: ﴿فاكتبوه﴾ الضَّمير يعود على «بِدَيْنٍ».

فصل


أمر الله تعالى في المداينة بأمرين:
أحدهما: الكتابة بقوله: ﴿فاكتبوه﴾.
الثاني: الإشهاد. بقوله: ﴿واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾، وفائدة الكتابة والإشهاد أنَّ دخول الأجل تتأخّر فيه المطالبة، ويتخلَّله النِّسيان ويدخله الجحد، فالكتابة سبب لحفظ المال من الجانبين، لأنَّ صاحب الدّين إذا علم أنَّ حقّه مقيّد بالكتابة، والإشهاد تحذر من طلب زيادة، ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل، والمديون يحذر من الجحد، ويأخذ قبل حلول الدّين في تحصيل المال ليتمكن من أدائه وقت الحلول.

فصل


القائلون بأن ظاهر الأمر النَّدب، لا إشكال عليهم، واختلف القائلون بأن ظاهر الأمر الوجوب، فقال عطاء، وابن جريج والنَّخعي بوجوب الكتابة، وهو اختيار محمد بن جرير الطَّبري، قال النَّخعي: يشهد، ولو على دُسْتَجةِ بَقْلٍ.
وقال جمهور الفقهاء: هذا أمر ندب؛ لأنّا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار المسلمين يبيعون بالأثمان المؤجَّلة من غير كتابة، ولا إشهاد، وذلك إجماعٌ على عدم وجوبها، ولأنَّ في إيجابها حرجٌ شديدٌ، ومشقَّة عظيمةٌ. وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨].
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بُعِثْتُ بالحنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ».
وقال الحسن، والشَّعبيُّ، والحكم بن عتيبة: كانا واجبين ثمّ نسخا بقوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣].
وقال التيمي: سألت الحسن عنها فقال: إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد، ألا تسمع قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً﴾ [البقرة: ٢٨٣].
480

فصل


لما أمر الله تعالى بكتابة هذه المداينة؛ اعتبر في الكتابة شرطين:
الأولَّل: أن يكون الكاتب عدلاً لقوله: ﴿وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل﴾ وذلك أنَّ قوله تعالى: ﴿فاكتبوه﴾ ظاهره يقتضي أنَّه يجب على كلِّ أحدٍ أن يكتب، لكن ذلك غير ممكنٍ، فقد يكون ذلك الإنسان غير كاتب، فصار معنى قوله: ﴿فاكتبوه﴾، أي: لا بدَّ من حصول هذه الكتابة وهو كقوله تعالى: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: ٣٨] فإن ظاهره، وإن كان يقتضي خطاب الكلّ بهذا الفعل، إلاَّ أنَّا علمنا أنَّ المقصود منه أنَّه لا بدَّ من حصول قطع اليد من إنسان واحد، إمَّا الإمام، أو نائبه أو المولى، فكذا ها هنا.
ويؤكِّد هذا قوله تعالى: ﴿وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل﴾ فإنَّه يدلُّ على أنَّ المقصود حصول الكتابة من أيّ سخصٍ كان.
قوله: ﴿بالعدل﴾ فيه أوجهٌ:
أحدها: أن يكون الجارُّ متعلّقاً بالفعل قبله. قال أبو البقاء: «بالعَدْلِ متعلِّق بقوله: فليكتب، أي: ليكتب بالحقِّ، فيجوز أن يكون حالاً، أي: ليكتب عادلاً، ويجوز أن يكون مفعولاً به أي: بسبب العدل».
قوله أولاً: «بالعدلِ مُتَعَلِّقٌ بقوله فَلْيَكْتُب» يريد التعلق المعنوي؛ لأنَّه قد جوَّز فيه بعد ذلك أن يكون حالاً، وإذا كان حالاً تعلَّق بمحذوف لا بنفس الفعل.
وقوله: «ويجوزُ أن يكون مفعولاً» يعني فتتعلق الباء حينئذٍ بنفس الفعل.
والثاني: أن يتعلَّق ب «كَاتِب». قال الزَّمخشريُّ: «مُتَعَلِّقٌ بكاتب صفةً له، أي: كاتبٌ مأمونٌ على ما يَكْتُب»، وهو كما تقدَّم في تأويل قول أبي البقاء. وقال ابن عطيَّة: «والبَاءُ متعلِّقةٌ بقوله:» ولْيَكْتُبْ «، وليست متعلِّقة بقوله» كَاتِبٌ «؛ لأنه كان يلزم ألاَّ يكتب وثيقةً إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصّبيُّ والعبد».
الثالث: أن تكون الباء زائدةٌ، تقديره: فليكتب بينكم كاتب بالعدل.

فصل في معنى العدل


في تفسير العدل وجوه:
أحدها: أن يكتب بحيث لا يزيد، ولا ينقص عنه، ويكتب بحيث يصلح أن يكون حجَّة له عن الحاجة إليه.
وثانيها: لا يخصّ أحدهما بالاحتياط له دون الآخر، بل يكتبه بحيث يكون كل
481
واحد من الخصمين آمناً من تمكن الآخر من إبطال حقّه.
ثالثها: قال بعض الفقهاء: العدل أن يكون ما يكتبه متّفقاً عليه بين أهل العلم، بحيث لا يجد قاضٍ من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله على قول بعض المجتهدين.
ورابعها: أن يحترز عن الألفاظ المجملة المتنازع في المراد بها، فهذه الأمور لا يمكن رعايتها إلاَّ إذا كان الكاتب فقيهاً عارفاً بمذاهب المجتهدين، أديباً مميّزاً بين الألفاظ المتشابهة.
قوله: ﴿وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ﴾ وهذا ظاهره نهي الكاتب عن الامتناع عن الكتابة وإيجاب الكتابة على كل من كان كاتباً، وهذا على سبيل الإرشاد، والمعنى: أنَّ الله تعالى لمَّا علمه الكتابة وشرفه بمعرفة أحكام الشَّريعة، فالأولى أن يكتب تحصيلاً لمهمّ أخيه المسلم شكراً لتلك النِّعمة، فهو كقوله تعالى: ﴿وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ﴾ [القصص: ٧٧].
وقال الشعبي: هو فرض كفاية، فإن لم يوجد من يكتب غيره وجب عليه الكتابة، وإن وجد غيره؛ وجبت الكتابة على واحد منهم.
وقيل: كانت الكتابة واجبة على الكاتب، ثمَّ نسخت بقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ﴾.
وقيل: متعلِّق الإيجاب، هو أن يكتب كما علمه الله، يعني: أنَّه بتقدير أنه يكتب، فالواجب أن يكتب كما علَّمه الله، ولا يخلّ بشرط من الشّرائط، ولا يدرج فيه قيداً يُخلّ بمقصود الإنسان.
قوله: ﴿أَنْ يَكْتُبَ﴾ مفعولٌ به، أي: لا يأب الكتابة.
قوله: ﴿كَمَا عَلَّمَهُ الله﴾ يجوز أن يتعلَّق بقوله: ﴿أَنْ يَكْتُبَ﴾ على أنه نعتٌ لمصدر محذوف، أو حالٌ من ضمير المصدر على رأي سيبويه، والتقدير: أن يكتب كتابةً مثل ما علَّمه الله، أو أن يكتبه أي: الكتب مثل ما علَّمه الله.
ويجوز أن يتعلَّق بقوله: «فَلْيَكْتُبْ».
قال أبو حيَّان: «والظّاهر تعلُّق الكاف بقوله: فَلْيَكْتُبْ» قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وهو قلق لأجل الفاء، ولأجل أنه لو كان متعلِّقاً بقوله: «فَلْيَكْتُبْ»، لكان النَّظم: فليكتب كما علمه الله، ولا يحتاج إلى تقديم ما هو متأخرٌ في المعنى.
وقال الزَّمخشريُّ - بعد أن ذكر تعلُّقه بأن يكتب، وب «فَلْيَكْتُبْ» - «فإِنْ قلت: أيُّ فرقٍ بين الوجهين؟ قلت: إن علَّقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيَّدة، ثم قيل [له] : فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها، وإن علَّقته بقوله:» فَلْيَكْتُبْ «فقد نهى
482
عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق، ثم أمر بها مقيّدةً». فيكون التقدير: فلا يأب كاتبٌ أن يكتب، وها هنا تمَّ الكلام، ثم قال بعده: ﴿كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ﴾، فيكون الأول أمراً بالكتابة مطلقاً، ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إيَّاها.
ويجوز أن تكون متعلقةً بقوله: لا يأب، وتكون الكاف حينئذٍ للتعليل. قال ابن عطيّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «ويحتمل أن يكون» كما «متعلّقاً بما في قوله» ولا يأْبَ «من المعنى، أي: كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة، فلا يأب هو، وليفضل كما أفضل عليه». قال أبو حيَّان: «وهو خلاف الظاهر، وتكون الكاف في هذا القول للتعليل» قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ: وعلى القول بكونها متعلقةً بقوله: «فليكتب» يجوز أن تكون للتعليل أيضاً، أي: فلأجل ما علَّمه الله فليكتب.
وقرأ العامة: «فَلْيَكْتُبْ» بتسكين اللام كقوله: «كَتْف» في كتِف، إجراءً للمنفصل مجرى المتّصل. وقد قرأ الحسن بكسرها وهو الأصل.
قوله: «ولْيُمْلِل» أمرٌ من أملَّ يملُّ، فلمَّا سكن الثاني جزماً جرى فيه لغتان: الفكُّ وهو لغة الحجاز وبني أسد، والإدغام وهو لغة تميم، وقيس، ونزل القرآن باللُّغتين.
قال تعالى في اللغة الثانية: ﴿فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ [الفرقان: ٥] وكذا إذا سكن وقفاً نحو: أملل عليه وأملَّ، وهذا مطَّرد في كل مضاعفٍ، وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى عند قراءتَيْ: «مَنْ يَرْتَدِدْ، ويرتدَّ».
وقرئ هنا شاذّاً: «وَلْيُمِلَّ» بالإدغام، ويقال: أملَّ يملُّ إملالاً، وأملى، يملي إملاءً؛ ومن الأولى قوله: [الطويل]
١٢٧٩ - أَلاَ يَا دِيَارَ الحَيِّ بِالسَّبُعَانِ أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالبِلَى المَلَوانِ
ويقال: أمللت وأمليت، فقيل: هما لغتان، وقيل: الياء بدلٌ من أحد المثلين، وأصل المادتين: الإعادة مرة بعد أخرى.
و «الحَقُّ» يجوز أن يكون مبتدأٌ، و «عَلَيْهِ» خبر مقدمٌ، ويجوز أن يكون فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على الموصول، والموصول هو فاعل «يُمْلِل» ومفعوله محذوف،
483
أي: وليملل الديَّان الكاتب ما عليه من الحقِّ، فحذف المفعولين للعلم بهما.
ويتعدَّى ب «عَلَى» إلى أحدهما فيقال: أمللت عليه كذا، ومنه الآية الكريمة.

فصل


اعلم أنَّ الكتابة، وإن وجب أن يختار لها العالم بكيفية كتب الشُّروط والسِّجلات، لكن ذلك لا يتمّ إلاَّ بإملاء من عليه الحق؛ فيدخل في جملة إملائه اعترافه بالحقّ في قدره، وجنسه وصفته، وأجله، وغير ذلك.
ثم قال: ﴿وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ﴾ بأن يقرّ بمبلغ المال، ﴿وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً﴾، أي: لا ينقص منه شيئاً.
قوله: ﴿وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً﴾ يجوز في «منه» وجهان:
أحدهما: أن يكون متعلقاً بيبخس، و «مِنْ» لابتداء الغاية، والضمير في «منه» للحقِّ.
والثاني: أنَّها متعلقة بمحذوف؛ لأنها في الأصل صفةٌ للنكرة، فلمَّا قُدِّمت على النكرة نصبت حالاً.
و «شَيئاً» : إمَّا مفعول به، وإمَّا مصدرٌ.
والبخس: النَّقص، يقال منه، بخس زيدٌ عمراً حقَّه يبخسه بخساً، وأصله من: بخست عينه، فاستعير منه بَخْسُ الحق، كما قالوا: «عَوَرْتُ حَقَّه» استعارة من عور العين. ويقال: بخصه بالصَّاد. والتباخس في البيع: التناقص، لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتبايعين ينقص الآخر حقَّه.
قوله: ﴿فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ﴾ إدخال حرف «أو» بين هذه الألفاظ الثلاثة يقتضي تغايرها؛ لأنَّ معناه: أنَّ الذي عليه الحقّ كان متَّصفاً بإحدى هذه الصِّفات الثلاثة ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل﴾ وإذا ثبت تغايرها وجب حمل السَّفيه على الضعيف الرَّأي النَّاقص العقل من البالغين الذين لا يحسنون الأخذ لأنفسهم، ولا الإعطاء منها أخذاً من الثَّوب السَّفيه وهو خفيف النَّسج، والبذيء اللسان يسمى سفيهاً، لأنَّه لا يكاد أن تتفق البذاءة إلاَّ في جهَّال النَّاس، وأصحاب العقول الخفيفة، والعرب تسمي الضعيف العقل سفيهاً؛ قال الشاعر: [السريع]
١٢٨٠ - نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلاَمُنَا وَيَجْهَل الدَّهْرُ مَعَ الحَالِمِ
والضَّعيف على الصَّغير، والمجنون، والشَّيخ الخرف وهو الذين فقدوا العقل
484
بالكلية، «والَّذِي لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُملّ» من يضعف لسانه عن الإملاء لخرسٍ، أو لجهله بما عليه، وله.
فهؤلاء لا يصحُّ منهم الإملاء، ولا الإقراء، فلا بدَّ ممَّن يقوم مقامهم.
فقال تعالى: ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل﴾.
قيل: الضُّعف بضم الضَّاد في البدن، وبفتحها في الرأي.
وقيل: هما لغتان.
قال القرطبيُّ: والأول أصحُّ.
قوله: ﴿أَن يُمِلَّ هُوَ﴾ أن، وما في حيِّزها في محل نصب مفعولاً به، أي: لا يستطيع الإملال، و «هو» تأكيدٌ للضمير المستتر. وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير، والتَّنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه، قاله أبو حيان.
وقرئ بإسكان هاء: «هو» وهي قراءة ضعيفة؛ لأنَّ هذا الضمير كلمةٌ مستقلةٌ منفصلة عما قبلها.
ومن سكَّنها أجرى المنفصل مجرى المتصل، وقد تقدَّم هذا في أول هذه السورة، قال أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وهذا أشذُّ من قراءة من قرأ: ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة﴾ [القصص: ٦١].
قال شهاب الدين: فجعل هذه القراءة شاذةً وهذه أشذُّ منها، وليس بجيد، فإنَّها قراءة متواترة قرأ بها نافع بن أبي نعيم قارىء أهل المدينة فيما رواه عنه قالون، وهو أضبط رواته لحرفه، وقرأ بها الكسائي أيضاً وهو رئيس النحاة.
والهاء في»
وليُّه «للذي عليه الحقُّ، إذا كان متصفاً بإحدى الصِّفات الثلاث؛ لأن وليَّه هو الَّذي يُقر عليه بالدَّين كما يقرُّ بسائر أُموره، وقال ابن عبَّاس، ومقاتلٌ والرَّبيعُ: المراد بوليِّه: وَلِيُّ الدَّين وهذا بعيدٌ؛ لأَنَّ قول المُدّعي لا يقبل، فإِن اعتبرنا قوله، فأيُّ حاجة إلى الكتابة، والإشهاد؟
وقوله:»
بالعدْلِ «تقدَّم نظيره.

فصلٌ


واعلم أَنَّ المقصود من الكتابة: هو الاستشهادُ؛ لكي يتمكَّن صاحب الحقّ بالشُّهود إلى تحصيل حقّه عند الجحود.
485
وقوله:» فاسْتَشْهِدُوا «يجوز أن تكون السِّين على بابها من الطَّلبِ، أي: اطلبُوا شهيدَين، ويجوزُ أن يكونَ استفعل بمعنى أفعل، نحو: اسْتَعْجضلَ بمعنى أَعجَل، واستيقن بمعن أَيقَنَ فيكون» اسْتَشْهِدُوا «بمعنى شهدوا، يقال أشهدت الرَّجُل واشتشهدته بمعنى واحدٍ، والشَّهيدان: هما الشَّاهدانِ، فعيلٌ بمعنى فاعلٍ.
وفي قوله:»
شَهِيدَيْن «تنبيهٌ على أَنَّهُ ينبغي أن يكون الشَّاهد ممَّن تتكرَّرُ منه الشَّهادةُ، حيث أَتَى بصيغة المبالغة.
قوله:»
مِنْ رِجَالِكُمْ «يجوزُ أن يتعلَّق باستشهدوا، وتكونُ» مِنْ «لابتداء الغاية، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ، على أَنَّهُ صفةٌ لشهيدين، و» مِنْ «تبعيضيةٌ.

فصلٌ


في المراد بقوله: ﴿مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ ثلاثة أقوال:
أحدها: قال أكثر العلماء: المراد الأَحرارُ المسلمون.
الثاني: قال شريحٌ، وابن سيرين: المراد المسلمون؛ فيدخل العبيد.
الثالث: من رجالكم الَّذين تعدونهم للشَّهادة، بسبب العدالة. حجَّةُ شريح، وابن سرين: عمومُ الآية؛ ولأَنَّ العدالة لا تختلف بالحريَّة والرِّقِّ، واحتَجَّ الآخرونَ بقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ﴾، وهذا يقتضي: أَنَّ الشَّاهد؛ يجب عليه الذَّهاب إلى موضع أدَاءِ الشَّهادة، ويحرمُ عليه الامتناعُ والإِجماعُ على أَنَّ العبد لا يجبُ عليه الذَّهابُ، فلا يكونُ شاهداً، وهذا مذهبُ الشَّافعي، وأبي حنيفة.
والجواب عن قوله: ﴿مِّن رِّجَالِكُمْ﴾، أي: الذين تعدُّونهم لأداء الشَّهادة، كما قدَّمناهُ.
قوله: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ﴾، جوَّزوا في»
كَانَ «هذه أَنْ تكون النَّاقصة، وأَنْ تكون التامة، وبالإِعرابين يختلفُ المعنى: فإنْ كانت ناقصةً فالألفُ اسمها، وهي عائدةٌ على الشَّهيدين أي: فإن لم يكنِ الشّاهدان رجُلَين، والمعنى على هذا: إن أغفَل ذلك صاحبُ الحقّ، أو قصد أَنْ لا يُشهد رجلين لغرض له، وإن كانت تامّةً فيكون» رجلين «نصباً على الحالِ المؤكِّدة كقوله:
﴿فَإِن كَانَتَا اثنتين﴾ [النساء: ١٧٦]، ويكون المعنى على هذا أنه لا يعدل إلى ما ذكر إلا عند عدمِ الرِّجال. والألفُ في «يَكُونَا»
عائدةٌ على «شَهِيدَيْنِ»، تفيدُ الرجولية.

فصلٌ


قال القرافيُّ: العلماءُ يقولون: إِذَا ورد النَّصُّ بصيغة «أو» فهو للتَّخيير، كقوله تعالى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾ [المائدة: ٨٩]،
486
وإن ورد النَّصُّ بصيغة الشَّرط كقوله: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجدْ﴾ [البقرة: ١٩٦] الآية فهو على التَّرتيب، وهذا غير صحيح لهذه الآية؛ لأَنَّ قوله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان﴾ يقتضي على قولهم أَلاَّ يجوز استشهادُ رجُلٍ وامرأتين إِلاَّ عند عدم الرَّجلين، وقد أَجمعت الأُمَّة على جواز ذلك، عند وجود الرَّجلين، وأَنَّ عدمهما ليس بشرطٍ، واستفدنا من هذه الآية سؤالين عظيمين.
الأول: أَنَّ الصِّيغة لا تقتضي التَّرتيب.
الثاني: أَنَّهُ لا يلزمُ من عدم الشَّرط عدم المشروط، وهو خلافُ الإِجماع، وهو هناك كذلك.
قولنا: إذا لم يكن العدد زوجاً، فهو فردٌ، وإِنْ لم يكن فرداً، فهو زوج مع أَنَّهُ لا تتوقَّف زوجيَّته على عدم الفرديَّة، ولا فرديته على عدمِ الزَّوجيَّة. بل هو واجبُ الثُّبوت في نفسه، وجد الآخر أم لا، وإذا تقرَّر هذا، فالمُرادُ من الآية: انحصارُ الحُجَّة التَّامَّة من الشَّهادة، بعد الرَّجلين في الرَّجل، والمرأتين، فإِنَّه لا حُجَّة تامَّةٌ من الشَّهادة في الشَّريعة، إِلاَّ الرَّجُلين، والرَّجُلَ، والمرأتين، هذا هو المجمع عليه من البيِّنة الكامِلة، في الأَموال، فإذا فرض عدم إحداهما، قبل الحصر في الأُخرى، وقد وضح أَنَّ الشَّرط كما يستعملُ في الترتيب؛ كذلك يُسْتعملُ في الحصر، والكل حقيقة لغوية، فضابطُ ما يتوقَّف فيه المشروطُ على الشَّرطِ، هو الَّذي لا يراد به الحصرُ، فمتى أُريد به الحصرُ فلا يدلُّ على التَّرتيب، بل لا بُدَّ من قرينة.
قوله: ﴿فَرَجُلٌ وامرأتان﴾ يجوزُ أن يرتفع ما بعد الفاءِ على الابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ تقديره: فرجلٌ، وامرأتان، يكفُون في الشَّهادة، أو مُجزِئون، ونحوه. وقيل: هو خبرٌ والمبتدأُ محذوفٌ تقديره: فالشَّاهدُ رجلٌ، وامرأتان وقيل: مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّرٍ تقديره: فيكفي رجُلٌ، أي: شهادةُ رجلٍ، فحُذِف المضافُ للعلم به، وأُقيم المضافُ إليه مقامه. وقيل: تقدير الفعلِ فَلْيَشْهَدْ رجلٌ، وهو أحسنُ، إذ لا يُحوج إلى حذفِ مُضافٍ، وهو تقديرُ الزَّمخشريُّ.
وقيل: هو مرفوعٌ بكان النَّاقصة، والتَّقدير: فليكن مِمَّن يشهدون رجلٌ وامرأتان، وقيل: بل بالتَّامَّةِ وهو أَولى؛ لأنَّ فيه حذف فعلٍ فقط بقي فاعلُهُ، وفي تقدير النَّاقصة حذفُها مع خبرها، وقد عُرِفَ ما فيه، وقيل: هو مرفوعٌ على ما لم يسمَّ فاعلُهُ، تقديرُهُ: فليُسْتَشْهَد رجلٌ. قال أبو البقاء: «وَلَوْ كَانَ قَدْ قُرئ بالنَّصب لكان التَّقديرُ: فَاسْتَشْهِدُوا» وهو كلامٌ حسنٌ.
وقرئ: «وَامْرَأَتَانِ» بسكون الهمزة التي هي لامُ الكلمة، وفيها تخريجان.
487
أحدهما: أنه أَبْدَل الهمزة ألفاً، وليس قياسُ تخفيفها ذلك، بل بَيْنَ بين، ولمَّا أبدلها ألفاً همزها كما هَمزتِ العربُ نحوك العأْلَمِ، والخَأْتَمِ؛ وقوله: [الرجز]
١٢٨١ - وَخِنْدفٌ هَامَةُ هَذَا العَأْلَمِ... وقد تقدَّم تحقيقه في سورة الفاتحة، وسيأتي له مزيدُ بيانٍ إِنْ شاء اللهُ - تعالى - في قراءة ابن ذكوان: «مِنْسَأْتَه» في سبأ.
وقال أبو البقاء في تقرير هذا الوجهِ، ونحا إلى القياس فقال: ووجهُهُ أنه خفَّفَ الهمزة - يعني بينَ بينَ - فقَرُبَتْ من الألف، والمُقَرَّبة من الألفِ في حكمها؛ ولذلك لا يُبْتَدأُ بها، فلمَّا صارت كالألف، قَلَبها همزةً ساكنةً كما قالوا: خَأْتم وعَأْلم.
والثاني: أن يكُونَ قد استثقَلَ تواليَ الحركاتِ، والهمزةُ حرفٌ يُشبِهُ حرف العلة فتُستثقل عليها الحركة فسُكِّنت لذلك. قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: ويمكنُ أنه سكَّنها تخفيفاً لتوالي كثرةِ الحركاتِ؛ وقد جاء تخفيفُ نظيرِ هذه الهمزةِ في قول الشَّاعر: [الطويل]
١٢٨٢ - يَقُولُونَ جَهْلاً لَيْسَ لِلشَّيْخِ عَيِّلٌ لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْيَلْتُ وَأْنَ رَقُوبُ
يريدُ: وَأَنَا رَقوب، فسكِّنَ همزةَ «أَنَا» بعد الواوِ، وحذف ألف «أنا» وصلاً على القاعدة. قال شهاب الدين: قد نصَّ ابنُ جني على أن هذا الوجهَ لا يجوزُ فقال: «ولا يَجُوزُ أن يكونَ سَكَّنَ الهمزة؛ لأنَّ المفتوح لا يُسَكَّنُ لخفةِ الفَتْحَةِ» وهذا من أبى الفتح محمولٌ على الغالب، وإلا فقد تقدَّم لنا في قراءة الحسنِ «مَا بَقِي مِنَ الرِّبَا»، وقبل ذلك أيضاً الكلامُ على هذه المسألةِ، وورودُ ذلك في ألفاظٍ نظماً ونثراً، حتَّى في الحروفِ الصَّحيحة السَّهلةِ، فكيف بحرفٍ ثقيلٍ يُشْبِه السُّفلَة؟
قوله: ﴿مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء﴾ فيه أوجهٌ:
أحدها: أنه في محلِّ رفعٍ نعتاً لرجُلٍ وامرأتين.
والثاني: أنه في محلِّ نصب؛ لأنه نعتٌ لشهيدين. واستضعف أبو حيّان هذين الوجهين قال: «لأنَّ الوصفَ يُشْعِر اختصاصَه بالموصوفِ، فيكون قد انتفى هذا الوصفُ عن شَهِيدَيْنِ»، واستضعفَ الثَّاني أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى قال: للوصف الواقعِ بينهما.
الوجه الثالث: أنه بدلٌ من قوله: ﴿مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ بتكريرِ العاملِ، والتقدير: «
488
وَاستَشْهِدوا شَهِيدَيْن مِمَّن تَرْضَوْن»، ولم يذكر أبو البقاء تضعيفه. وكان ينبغي أن يُضعِّفَه بما ضَعَّف وجهَ الصّفة، وهو للفصلِ بينهما، وضعَّفه أبو حيّان بأنَّ البدلَ يُؤْذِنُ أيضاً بالاختصاص بالشَّهيدين الرَّجلين فَيَعْرَى عنه رجلٌ وامرأتان قال شهاب الدين: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا من بَدَلِ البَعْض إن أخذنا «رِجَالكُمْ» على العموم، أو الكلِّ من الكلِّ إن أخذناهم على الخصوصِ، وعلى كلا التّقديرين، فلا ينفي ذلك عمَّا عداه، وأمّا في الوصف فمسلَّمٌ؛ لأنَّ مفهوماً على المختارِ.
الرابع: أن يتعلَّقَ باستشهِدوا، أي: استشهدوا مِمَّنْ ترضَوْن. قال أبو حيان: «ويكون قيداً في الجميعِ، ولذلك جاء مُتَأخّراً بعد الجميعِ».
قوله: ﴿مِنَ الشهدآء﴾ يجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أَنَّهُ حالٌ من العائدِ المحذوفِ، والتَّقديرُ: مِمَّن تَرْضَونَه حال كونه بعض الشُّهداءِ.
ويجوزُ أن يكونَ بدلاً مِنْ «مِنْ» بإعادةِ العامل، كما تقدَّم في نفسِ ﴿مِمَّن تَرْضَوْنَ﴾، فيكونُ هذا بدلاً مِنْ بدلٍ على أحدِ القَوْلينِ في كلِّ منهما.

فصلٌ


قوله ﴿مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء﴾ كقوله تعالى في الطلاق: ﴿وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [الطلاق: ٢] وهذه الآية تدلُّ على أَنَّهُ ليس كلُّ أحدٍ يكونُ شاهداً، والفقهاءُ شرطوا في الشَّاهد الَّذي تقبلُ شهادته عشرة شروطٍ: أَنْ يكونَ حُرّاً بالغاً، مسلماً عدلاً، عالماً بما شهد به؛ ولا يجر بتلك الشَّهادة منفعة إلى نفسه، ولا يدفع بها مضرَّة عن نفسه، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلطِ، ولا بترك المُروءةِ، ولا يكُونُ بينه وبين من يشهد عليه عداوة.
وقيل: سبعة: الإِسلامُ، والحريَّةُ، والعقلُ، والبُلُوغُ، والعدالةُ، والمروءةُ وانتفاء التُّهمة.
قوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ قرأ حمزة بكسر «إِنْ» على أنَّها شرطيَّةٌ والباقون بفتحها، على أنَّها المصدريةُ النَّاصبةُ، فأمَّا القراءة الأولى، فجوابُ الشَّرط فيها قوله «فتذكِّرُ»، وذلك أَنَّ حمزة رَحِمَهُ اللَّهُ يقرأ: «فَتُذَكِّرُ» بتشديدِ الكافِ ورفعِ الراءِ؛ فصَحَّ أن تكونَ الفاءُ، وما في حيِّزها جواباً للشَّرط، ورَفَعَ الفعل؛ لأَنَّهُ على إضمارِ مبتدأ، أي: فهي تُذَكِّر، وعلى هذه القراءة فجملة الشَّرطِ والجزاءِ هل لها محلٌّ من الإِعراب أم لا؟
489
فقال ابن عطيَّة: إِنَّ محلَّها الرَّفْعُ صفةً «لامْرَأَتَيْن»، وكان قد تقدَّم أنَّ قوله: «مِمَّنْ تَرْضَوْنَ» صفةٌ لقوله «فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان» قال أبو حيان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «فَصَارَ نظيرَ جَاءَني رجُلٌ، وامرأتان عُقَلاَءُ حُبْلَيَان» وفي جواز مثل هذا التّركيب نظرٌ، بل الَّذي تقتضيه الأَقيسة تقديمُ «حُبْلَيَان» على «عُقَلاَء» ؛ وأمَّا إذا قيل بأنَّ «ممَّنْ تَرْضَوْن» بدلٌ من رِجَالِكُم، أو مُتعلِّقٌ باستشهِدُوا، فيتعذَّر جعلُه صفةً لامرأتين للزومِ الفصل بين الصِّفة، والموصوفِ بأجنبيّ. قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وابن عطيَّة لم يَبْتَدِعْ هذا الإِعرابَ، بل سبقه إليه الواحديُّ فإنه قال: وموضعُ الشَّرط وجوابُه رفعٌ بكونهما، وصفاً للمذكورين وهما «امْرَأَتَانِ» في قوله: «فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ» لأنَّ الشَّرطَ والجزاءَ يُوصَفُ بهما، كما يُوصَف بهما في قوله: ﴿الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة﴾ [الحج: ٤١].
والظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشَّرطية مستأنفةٌ للإِخبار بهذا الحُكْم، وهي جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأَنَّ قائلاً قال: ما بالُ امرأتين جُعِلَتا بمنزلةِ رجل؟ فأُجيب بهذه الجملة.
وأمَّا القراءةُ الثَّانيةُ؛ ف «أَنْ» فيها مصدريَّة ناصبة للفعل بعدها، والفتحةُ فيه حركةُ إعرابٍ، بخلافها في قراءةِ حمزة، فإنها فتحةُ التقاءِ ساكنين، إذ اللامُ الأولى ساكنةٌ للإِدغام في الثَّانية، مُسَكَّنةٌ للجزم، ولا يُمكنُ إدغامٌ في ساكنٍ، فحرَّكنا الثَّانية بالفتحة هرباً من التقائِهما، وكانتِ الحركةُ فتحةٌ؛ لأَنَّها أَخَفُّ الحركاتِ، وأَنْ وما في حيِّزها في محلِّ نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذفِ حرفِ الجَرّ، وهي لامُ العِلَّة، والتَّقديرُ: لأن تَضِلَّ، أو إرادة أَنْ تَضِلَّ.
وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أَنَّهُ فِعلٌ مضمرٌ دلَّ عليه الكلامُ السَّابق، إذا التَّقديرُ: فاسْتَشْهِدُوا رَجُلاً وامرأتين لئلا تَضِلَّ إِحداهما، ودلَّ على هذا الفعلِ قوله: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان﴾، قاله الواحديُّ ولا حاجة إليه؛ لأَنَّ الرَّافع لرجُلٍ وامرأتين مُغنٍ عن تقدير شيءٍ آخر، وكذلك الخبرُ المقدَّرُ لقولك: «فَرَجُلٌ وامرأتان» إذ تقديرُ الأول: فَلْيَشهد رجلٌ، وتقديرُ الثاني: فرجلٌ وامرأتان يشهدُون؛ لأَنْ تَضِلَّ، وهذان التَّقديران هما الوجهُ الثَّاني والثَّالث من الثَّلاثةِ المذكورة. فإن قيل هل جُعِل ضلالُ إِحداهما علَّةً لتطلُّب الإِشهاد أو مراداً لله تعالى، على حسبِ التقديرين المذكورين أولاً؟ وقد أَجابَ سيبويه رَحِمَهُ اللَّهُ وغيرُه بأن الضلالَ لمَّا كان سبباً للإِذكار، والإِذكارُ مُسبِّباً عنه، وهم يُنَزِّلون كلَّ واحدٍ من السببِ والمُسَبَّب منزلةَ الآخرِ لالتباسهما، واتِّصالهما كانت إرادةُ الضَّلال المُسَبَّب عنه الإِذكارُ إرادةً للإِذكار. فكأنه قيل: إرادة أَنْ تُذَكِّر إِحداهما الأخرى إِنْ ضَلَّتْ، ونظيرُه قولُهم: «أَعْدَدْتُ الخشبةَ أَنْ يميلَ الحائِطُ فأدعمَه، وأعدْدتُ السَّلاح أن يجيء عدوٌّ
490
فأدفعَه» فليس إعدادُك الخشبة؛ لأَنء يميلَ الحائطُ، ولا إعدادُك السلاح لأن يجيء العدو وإنما للإدغام إذا مال، وللدفع إذا جاء العدو، وهذا مِمَّا يعودُ إليه المعنى ويُهجَرُ فيه جانبُ اللفظ.
وقد ذهب الجرجانيُّ في هذه الآيةِ الكريمة إلى أَنَّ التقدير: مخافةَ أَنْ تَضِلَّ؛ وأنشد قول عمروٍ: [الوافر]
١٢٨٣ -............................... فَعَجَّلْنَا القِرَى أَنْ تَشْتِمُونَا
أي: «مخافَةَ أَنْ تَشْتِمُونَا» وهذا صحيحٌ لو اقتصر عليه مِنْ غير أَنْ يُعْطَفَ عليه قوله «فَتُذَكِّرَ» ؛ لأنه كان التَّقديرُ: فاستشهدوا رجلاً وامرأتين، مخافةَ أَنْ تضلَّ إحداهما، ولكنَّ عطفَ قوله: «فَتُذَكِّر» يُفسده، إذا يصيرُ التقديرُ: مخافةَ أَنْ تُذكِّرَ إحداهما الأخرى، [وإذكارُ إحداهما الأخرى] ليس مخوفاً منه، بَلْ هو المقصودُ، وقال أبو جعفرٍ: «سمعتُ عليّ بن سليمان يحكي عن أبي العباس أَنَّ التقديرَ كراهةَ أَنْ تَضِلَّ» قال أبو جعفر رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: «وهو غلطٌ إذ يصير المعنى: كراهةَ أَنْ تُذَكِّرَ إحداهما الأخرى».
وذهب الفرَّاء إلى أَن تقدير الآيةِ الكريمة: «كي تذكِّر إِحْدَاهُمَا الأخرى إِنْ ضَلَّت»، فلمَّا قُدِّم الجزاءُ اتَّصَل بما قبلَه ففُتِحَتْ «أَنْ»، قال: ومثلُه من الكلام: «إنه ليعجبُني أَنْ يسأل السَّائلُ فيُعْطى» معناه: إنه ليعجبني أَنْ يُعْطَى السَّائلُ إن سَأَلَ؛ لأَنَّه إنما يُعجِبُ الإِعطاءُ لا السؤالُ، فلمَّا قدَّموا السُّؤالَ على العطيَّة أصحبوه أن المفتوحة لينكشِفَ المعنى، فعنده «أنْ» في «أَنْ تَضِلَّ» للجزاءِ، إِلاَّ أَنَّهُ قُدِّم وفُتِح، وأصله التأخير.
وردَّ البصريُّون هذا القول أبلغَ ردٍّ. قال الزّجَّاج: «لَسْتُ أدري لِمَ صارَ الجَزَاءُ [إذا تقدَّم] وهو في مكانهِ وغير مكانه يوجب فتح أن». وقال الفارسيُّ: ما ذكره الفرَّاءُ دَعوى لا دلالةَ عليها، والقياسُ يُفْسِدها، أَلاَ ترى أنَّا نَجِدُ الحرفَ العامل، إذا تغيَّرت حركته؛ لم يُوْجِبْ ذلك تغيُّراً في عملِهِ ولا معناه، كما روى أبو الحسن من فتح اللام الجارَّةِ مع المُظْهر عن يونس، وأبي عُبيدة، وخلف الأَحمرِ، فكما أنَّ هذه اللامَ لمَّا فُتِحَتْ لم يتغيَّر من عملها ومعناها شيءٌ، كذلك «إنْ» الجزائيّة ينبغي، إذا فُتِحت أَلاَّ يتغيَّر عملُها ولا معناها، ومِمَّا يُبْعِدُه أيضاً أنَّا نجدُ الحرفَ العاملَ لا يتغيَّر عملُه بالتقديم و [لا] بالتأخيرِ، تقول «مَرَرْتُ بِزَيْدٍ» وتقول: «بزيدٍ مَرَرْتُ» فلم يتغيَّر عملُ الباءِ بتقديمها
491
من تأخيرٍ. وأجاب ابن الخطيب فقال هاهنا غرضان:
أحدهما: حُصُولُ الإِشهاد وهذا لا يتأَتَّى إِلاَّ بتذكير إحدى المرأتين.
والثاني: بيانُ تفضيل الرَّجُل على المرأة حتّى يبين أَنَّ إقامة المرأتين مقامَ الرَّجُل الواحد هو العدلُ في القضيَّة، وذلك لا يتأتى إِلاَّ بضلالِ إحدى المرأتين، وإذا كان كُلّ واحد من هذين أعني الإِشهاد، وبيان فضل الرَّجُل على المرأةِ مقصود، فلا سبيلَ إلى ذلك إِلاَّ بإِضلال أَحدهما وتذكر الأخرى، لا جرم صار هذان الأمران مطلُوبين.

فصل


لَمَّا كان النّسيان غالباً على طباع النِّساءِ لِكثرةِ البَرْدِ والرُّطوبة في أمزجتهنَّ؛ أقيمت المرأتان مقام الرَّجل الواحد؛ لأن اجتماع المرأَتين على النِّسيان أبعد في العقل من صُدُورِ النّسيان عن المرأة الواحدة؛ لأَنَّ إحداهما إذا نسيت؛ ذكَّرتها الأخرى، والمراد بالضَّلال هنا النِّسيان قال أبو عُبيدةَ: الضلال عن الشَّهادة إِنَّما هو نسيانها.
قوله: «فَتُذَكِّرَ» وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو: «فَتُذَكِرَ» بتخفيفِ الكافِ، ونصب الرَّاءِ من أَذْكَرْتهُ أي: جَعلُه ذاكراً للشَّيءِ بعد نسيانه، فإِنَّ المراد بالضَّلالِ هنا النسيانُ كقوله تعالى: ﴿قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين﴾ [الشعراء: ٢٠] وقال في ذلك الفرزدق: [الكامل]
١٢٨٤ - وَلَقَدْ ضَلَلْتَ أَبَاكَ يَدْعُو دَارِماً كَضَلاَلِ مُلْتَمِسٍ طَريقَ وَبَارِ
فالهمزةُ في «أَذْكَرْتُهُ» للنقلِ والتَّعدية، والفِعلُ قبلها متعدٍّ لواحدٍ؛ فلا بُدَّ من آخر، وليس في الآية مفعولٌ واحدٌ، فلا بُدَّ من اعتقادِ حذفِ الثَّاني، والتقديرُ فتُذْكر إحداهما الأُخرى الشَّهادة بعد نِسيانها إن نَسِيَتْهَا هذا مشهورٌ قول المفسِّرين.
وقد شَذَّ بعضهم قال: مَعْنَى فَتُذَكِّرَ إحداهما الأُخرى أي: فتجعلها ذكراً، أي: تُصَيِّرُ حكمها حكم الذَّكر في قبولِ الشَّهادة وروى الأَصميعُّ عن أبي عمرو بن العلاء قال: «فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى بالتَّشديد فهو من طريقِ التَّذكير بعد النِّسيان، تقولُ لها: هَلْ تَذْكُرين إذ شهدنا كذا يومَ كذا في مكان كذا على فلانٍ، أو فلانة، ومَنْ قرأ» فَتُذكِرَ «بالتَّخفيف فقال: إذا شهدت المرأةُ، ثم جاءَتِ الأخرى؛ فشهِدَت معها، فقد أَذْكَرَتْها لقيامِها مقامَ ذَكَر» ولم يَرْتَضِ المفسِّرون وأهلُ اللِّسان هذا من أبي عمرو، بل لم يُصحِّحوا رواية ذلك عنه لمعرفتهم بمكانتهِ في العلمِ، ورَدُّوه على قائِلِه من وجوهٍ:
492
منها: أنَّ الفصاحةَ تقتضي مقابلة الضَّلالِ المرادِ به النّسيانُ بالإِذكار والتَّذكير، ولا تناسُبَ في المقابلة بما نقل عنه.
ومنها: أنَّ النِّساء لو بَلَغْنَ ما بلغْنَ من العددِ لا بدَّ معهنَّ مِنْ رجلٍ، هكذا ذكروا، وينبغي أن يكونَ ذلك فيما يُقْبَلُ فيه الرجلُ مع المرأَتين، وإلاَّ فقد نجدُ النِّساء يَتَمَحَّضْنَ في شهاداتٍ من غيرِ انْضِمام رجلٍ إِليهنَّ.
ومنها: أَنَّها لَوْ صَيَّرتها ذكراً؛ لكان ينبغي أن يكونَ ذلك في سائرِ الأحكامِ، ولا يُقتصَرُ به على ما فيه ماليّةٌ وفيه نظرٌ أيضاً، إذ هو مشتركُ الإِلزامِ لأنه يقال: وكذا إذا فسَّرتموه بالتَّذكير بعد النِّسيان لم يَعُمَّ الأحكامَ كلَّها، فما أُجيبَ به فهو جوابُهم أيضاً.
وقال الزمخشريُّ: «ومِنْ بِدَع التَّفَاسِير: [فَتُذَكِّرَ] فتجعلَ إحداهما الأخرى ذكَراً، يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلةِ الذَّكَر» انتهى. ولم يجعل هذا القول مختصاً بقراءةٍ دونَ أُخرى.
وأمَّا نصبُ الرَّاء؛ فنسقٌ على «أَنْ تَضِلَّ» ؛ لأَنَّهما يَقْرآن: «أَنْ تَضِلَّ» بأن النَّاصبةِ، وقرأ الباقون بتشديد الكافِ من «ذَكَّرْتُه» بمعنى جعلتُه ذاكِراً أيضاً، وقد تقدَّم أَنَّ حمزة وحده هو الَّذي يرفع الرَّاءَ.
وخرج من مجموع الكلمتين أنَّ القُرَّاءَ على ثلاثِ مراتبَ: فحمزةُ وحدَه: بكسرِ «إِنْ» ويشدد الكافِ ويرفع الرَّاء، وابن كثير: بفتح «أنْ» ويخفف الكاف وينصب الرَّاء، والباقون كذلك، إِلاّ أنهم يُشَدِّدون الكافَ.
والمفعولُ الثَّاني محذوفٌ أيضاً في هذه القراءة كما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وفَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى: أَكْرَمْتُه وكَرَّمته، وفرَّحته وأَفْرَحته. قالوا: والتَّشديد في هذا اللَّفظ أكثرُ استعمالاً مِنَ التَّخفيف، وعليه قوله: [المتقارب]
493
وقرأ عيسى بن عمرو والجحدريُّ: «تُضَلَّ» مبنيّاً للمفعول، وعن الجحدريّ أيضاً: «تُضِلَّ» بضمِّ التَّاء، وكسر الضَّاد من أضلَّ كذا، أي: أضاعهُ، فالمفعول محذوفٌ أي: تُضِلَّ الشَّهادة. وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهدٌ: «فَتَذْكُر» برفع الرَّاءِ، وتخفيف الكافِ، وزيدُ بن أسلمَ «فتُذاكِرُ» من المذاكرة.
وقوله: إحداهما «فاعل،» والأخرى «مفعولٌ، وهذا مِمَّا يجبُ تقديمُ الفاعلِ فيه لخفاءِ الإِعراب، والمعنى نحو: ضَرَب مُوسَى عِيسَى.
قال أبو البقاء: ف»
إحداهما «فاعلٌ، و» الأخرى «مفعول، ويصحُّ العكسُ، إلا أنه يمتنع على ظاهرِ قول النَّحويّين في الإِعراب، لأَنَّهُ إذا لم يظهر الإعرابُ في الفاعلِ والمفعولِ، وجَبَ تقديمُ الفاعل فيما يُخاف فيه اللَّبسُ، فعلى هذا إذا أُمِنَ اللَّبْسُ جاز تقديم المفعولِ كقولك:» كَسَرَ العَصَا مُوسَى «، وهذه الآيةُ من هذا القبيلِ، لأنَّ النِّسيان، والإِذكارَ لا يتعيَّنُ في واحدةٍ منهما، بل ذلك على الإِبهامِ، وقد عُلِم بقوله:» فَتُذَكِّرَ «أنَّ الَّتي تُذَكِّر هي الذَّاكرةُ، والتي تُذَكَّر هي النَّاسية، كما علم من لفظ» كَسَر «مَنْ يصحُّ منه الكَسْرُ، فعلى هذا يجوز أن يُجْعل» إِحْدَاهُما «فاعلاً، و» الأُخْرَى «مفعولاً وبالعكس انتهى.
ولمَّا أبهم الفاعل في قوله: «أَنْ تَضِلَّ إحداهما»
أَبْهَمَ أيضاً في قوله: «فَتُذَكِّرَ إحداهما» ؛ لأنَّ كلاًّ من المَرْأَتين يجوزُ [عليها ما يجوزُ] على صاحبتها من الإِضلالِ، والإِذكارِ، والمعنى: إن ضلَّت هذه أَذْكَرَتْها هذه، فَدَخَلَ الكلامَ معنى العموم.
قال أبو البقاء: فإنْ قيل: لِمَ يَقُلْ: «فَتُذَكِّرَها الأُخرَى» ؟ قيل فيه وجهان:
أحدهما: أَنَّهُ أَعاد الظَّاهر، ليدلَّ على الإِبهام في الذِّكر والنّسيان، ولو أَضمرَ لتعَيَّن عودُه على المذكور.
والثاني: أنه وضع الظَّاهر موضع المضمرِ، تقديره: «فَتُذَكِّرهَا» وهذا يَدُلُّ على أن «إحداهما» الثانية مفعولٌ مقدمٌ، ولا يجوزُ أن يكونَ فاعلاً في هذا الوجه؛ لأنَّ المُضَمرَ هو المُظْهَرُ بعينه، والمُظْهَرُ الأول فاعل «تضِلَّ»، فلو جعل الضَّمير لذلك المظهر؛ لكانت النَّاسيةُ حقاً هي المُذَكِّرَة، وهو مُحالٌ قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: وقد يتبادرُ إلى الذهن أنَّ الوجهين راجعان لوجهٍ واحدٍ قبل التأمُّل؛ لأنَّ قوله: «أَعادَ الظَّاهِرُ» قريبٌ من قوله: «وَضَعَ الظاهرَ مَوْضِعَ المضمر».
و «إِحْدَى» تأنيثُ «الواحِد» قال الفارسيُّ: أَنَّثُوه على غيره بنائِه، وفي هذا نظرٌ، بل
494
هو تأنيثُ «أحَد» يقابُلونها به في: أحد عشرَ وإحدى عشرة وأحدٍ وعشرين وإحدى وعشرين، وتُجْمَعُ «إِحْدَى» على «إِحَد» نحو: كِسْرَة وكِسَر.
قال أبو العباس: «جَعَلُوا الألفَ في الإِحْدَى بمنزلةِ التاء في» الكِسْرَة «، فقالوا في جمعها:» إِحَد «؛ كما قالُوا: كِسْرَة وكِسَر؛ كما جعلوا مثلها في الكُبْرَى والكُبَر، والعُلْيا والعُلَى، فكما جعلوا هذه كظُلمة، وظُلَم جعلوا الأولَ كسِدْرَة وسِدَر» قال: «وكَمَا جعلوا الألف المقصُورة بمنزلةِ التَّاءِ فيما ذُكِر؛ وجعلوا الممدودةَ أيضاً بمنزلتها في قولهم» قَاصِعَاء وقَوَاصع «و» دَامَّاء ودَوَامّ «، يعني: أنَّ فاعلة نحو: ضارِبَة تُجمع على ضَوارِب، كذا فاعِلاَء؛ نحو: قاصِعَاء، ورَاهِطَاء تُجْمَعُ على فَوَاعِل؛ وأنشد ابن الأعرابيّ على إحدى وإِحَد قول الشاعر: [الرجز]
١٢٨٥ - عَلَى أَنَّنِي بَعْدَ مَا قَدْ مَضَى ثَلاَثُونَ لِلْهَجْرِ حَوْلاً كمِيلاَ
يُذَكِّرُنِيك حَنِينُ العَجُولِ ونَوْحُ الحَمَامَةِ تَدْعُو هَدِيلاَ
١٢٨٦ - حَتَّى اسْتَثَارُوا بِيَ إِحْدَى الإِحَدِ لَيْثاً هِزَبْراً ذَا سِلاَحٍ مُعْتدِي
قال: يقال: هو إحدى الإِحَدِ، وأَحَدُ الأَحَدَيْنِ، وواحدُ الآحادِ، كما يقال: واحدٌ لا مثل له، وأنشد البيت.
واعلَم أنَّ «إِحْدَى» لا تُستعمل إلا مُضَافَةً إلى غيرها؛ فيقال: إِحْدَى الإِحَدِ وإِحْدَاهُما، ولا يقال: جاءَتْني إِحْدى، ولا رأيتُ إِحْدَى، وهذا بخلافِ مذكَّرها.
و «الأُخرى» تأنيث «آخرَ» الذي هو: أَفْعَلُ التَّفضيل، وتكونُ بمعنى آخِرة؛ كقوله تعالى: ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ﴾ [الأعراف: ٣٨]، ويُجْمَعُ كلٌّ منهما على «أُخَر»، ولكنَّ جمع الأُولَى ممتنعٌ من الصَّرفِ، وفي علَّته خلافٌ، وجمعُ الثانية منصرفٌ، وبينهما فرقٌ يأتي إيضاحه إن شاء اللهُ تعالى في الأَعراف.

فصلٌ


أجمع الفقهاءُ على أنَّ شهادة النِّساء جائزةٌ مع الرِّجال في الأموال، حتى يثبت برجُل وامرأتين، واختلفوا في غير الأموال، فقال سُفيانُ الثَّوريُّ وأصحابُ الرَّأي: تجوز شهادتُهُنَّ مع الرِّجال في غير العُقُوباتِ.
وذهب جماعةٌ إلى أَنّ غير المال، لا يثبُتُ إِلاَّ برجلين عدلين وذهب الشَّافعيُّ، وأحمدُ إلى: أنّ ما يطلع عليه النِّساءُ غالباً كالولادة والرّضاع، والثُّيوبة والبكارةِ ونحوها يَثْبُتُ بشهادة رجلٌ وامرأتين، وبشهادة أربع نسوةٍ.
وعن أحمد: يثبت بشهادةِ امرأة عدلٍ، واتَّفَقُوا على أن شهادة النّساء لا تجوز في العُقُوباتِ.
495

فصلٌ


قال القُرطبيُّ: لما جعل اللهُ تعالى شهادة امرأتين بَدَلَ شهادة رجل؛ وجب أن يكون حكمهما حُكْمُه، فكما له أن يخلف مع الشَّاهد عندنا، وعند الشَّافعي، كذلك يجبُ أن يحلف مع شهادةِ امرأتين بمُطْلق هذه العِوضيَّة، وخالف في هذا أبُو حنيفة، وأصحابُهُ، فلم يروا اليمين مع الشَّاهد.
قالوا: لأَنَّ اللهَ تعالى قسم الشَّهادة، وعددها، ولم يذكر الشَّاهد مع اليمين، فلا يجوزُ القضاءُ به؛ لأَنَّهُ يكُونُ قسماً ثالثاً على ما قسَّمه الله، وهذه زيادةٌ على النَّصِّ، فيكون نسخاً، وهذا قولُ الثَّوري، والأوزاعي والحكم بن عُتَيْبَة وطائفة.
قال بعضهم: الحكم باليمين مع الشَّاهد منسوخٌ بالقرآن، وزعم عطاءٌ أنَّ أوَّل من قضى به عبد الملك بن مروان.
وقال الحكم: القضاء باليمين والشَّاهد بدعةٌ، وهو كلُّه غلط، وليس في قوله تعالى: ﴿واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ الآية ما يرد به قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - باليمين، والشاهد؛ ولا أنَّه لا يتوصل إلى الحقوق إلاَّ بما ذكر فيها لا غير، فإنَّ ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطَّالب، فإن ذلك يستحقّ به المال إجماعاً، وليس هو في الآية، مع أنَّ الخلفاء الأربعة: قضوا بالشَّاهد واليمين، وقضى به أُبيُّ بن كعبٍ، ومعاوية وشريحٌ وعمر بن عبد العزيز، وكتب به إلى عمَّاله، وإياس بن معاوية، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو الزّناد وربيعة.
قال مالك: أترى هؤلاء تنقض أحكامهم، ويحكم ببدعتهم مع ما روى ابن عباس أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قضى بالشَّاهد مع اليمين.
قوله: ﴿وَلاَ يَأْبَ الشهدآء﴾ مفعوله محذوفٌ لفهم المعنى، أي: لا يأبون إقامة الشهادة، وقيل: المحذوف مجرور لأن «أبى» بمعنى امتنع، فيتعدَّى تعديته أي من إقامة الشهادة.
قوله: ﴿إِذَا مَا دُعُواْ﴾ ظرفٌ ل «يَأْبَ» أي: لا يمتنعون في وقت [دَعْوَتهم] لأدائها، أو لإقامتها، ويجوز أن تكون [متمحضةً للظرف، ويجوز أن تكون] شرطيةً والجواب محذوفٌ أي: إذا دُعُوا فلا يأبوا.
496

فصل


في الآية وجوه:
أحدها: أنَّ هذا نهيٌ للشَّاهد عن الامتناع عن أداء الشَّهادة عند احتياج صاحب الحقّ إليها.
الثاني: أراد إذا دُعُوا لتحمل الشَّهادة على الإطلاق، وهو قول قتادة، واختيار القفَّال، قال كما أمر الكاتب ألاَّ يأب الكتابة، كذلك أمر الشَّاهد ألاَّ يأب من تحمل الشَّهادة، لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يتعلَّق بالآخر وفي عدمها ضياع الحقوق، وسمَّاهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء، وهو أمر إيجابٍ عند بعضهم.
الثالث: المراد تحمّل الشَّهادة إذا لم يوجد غيره، فهو مخير، وهو قول الحسن.
الرابع: قال الزَّجَّاج، وهو مروي عن الحسن أيضاً، وهو قول مجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ: المراد مجموع الأمرين التحمُّل أولاً، والأداء ثانياً.
قال الشعبي: الشَّاهد بالخيار ما لم يشهد وقال قومٌ: هو أمر ندب، وهو مخيّر في جميع الأحوال. قال القرطبيُّ: قد يؤخذ من هذه الآية دليلٌ على أنَّه يجوز للإمام أن يقيم للنَّاس شهوداً، ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم، فلا يكون لهم شغلٌ إلاَّ تحمل حفظ حقوق النَّاس، وإن لم يكن ذلك؛ ضاعت الحقوق وبطلت.

فصل


قال القرطبيُّ: دلَّت هذه الآية على أنَّ الشَّاهد يمشي إلى الحكم، وهذا أمر بُني الشَّرع عليه، وعمل به في كلّ مكان وزمان، وفهمته كلُّ أمَّةٍ.
وإذا ثبت هذا فالعبد خارجٌ عن جملة الشُّهداء، فيخص عموم قوله: «مِنْ رِجَالِكُمْ» لأنَّه لا يمكنه أن يجيب؛ لأنَّه لا استقلال له بنفسه، فلا يصحُّ له أن يأتي فانحطّ عن منصب الشَّهادة، كما انحطَّ عن منصب الولاية، وكما انحطَّ عن فرض الجمعة وعن الجهاد والحجّ.
قوله: ﴿وَلاَ تسأموا﴾ والسَّأم والسآمة: الملل من الشَّيء والضَّجر منه.
قوله: ﴿أَن تَكْتُبُوهُ﴾ مفعولٌ به إن شئت جعلته مع الفعل مصدراً تقديره: «ولا تَسْأَمُوا كِتَابَتَه»، وإن شئت بنزع الخافض والنَّاصب له «تَسْأَموا» ؛ لأنه يتعدَّى بنفسه قال: [الطويل]
497
١٢٨٧ - سَئِمْتُ تَكَالِيف الحَيَاةِ ومَنْ يَعِشْ ثَمَانِينَ حَوْلاً لاَ أَبَا لَكَ يَسْأَمِ
وقيل: بل يتعدَّى بحرف الجرّ، والأصل: من أن تكتبوه، فحذف حرف الجرِّ للعلم به، فيجري الخلاف المشهور في «أَنْ» بعد حذفه، ويدلُّ على تعدِّيه ب «مِنْ» قوله: [الكامل]
١٢٨٨ - وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاةِ وَطُولِهَا وَسُؤَالِ هَذَا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ
والهاء: في «تَكْتبوه» يجوز أن تكون للدَّين في أوَّل الآية، وأن تكون للحقّ في قوله: ﴿فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق﴾، وهو أقرب مذكورٍ، والمراد به «الدَّيْن» وقيل: يعود على الكتاب المفهوم من «تَكْتبوه» قاله الزَّمخشريُّ.
و ﴿صَغِيراً أَو كَبِيرا﴾ حالٌ، أي: على أيّ حالٍ كان الدَّين قليلاً أو كثيراً، وعلى أيِّ حالٍ كان الكتاب مختصراً، أو مشبعاً، وجوَّز السَّجاونديُّ انتصابه على خبر «كان» مضمرةٌ، وهذا لا حاجة تدعو إليه، وليس من مواضع إضمارها.
وقرأ السُّلميُّ: «وَلاَ يَسْأَمُوا أَنْ يَكْتبُوهُ» بالياء من تحت فيهما. والفاعل على هذه القراءة ضمير الشُّهداء، ويجوز أن يكون من باب الالتفات، فيعود: إمَّا على المتعاملين وإمَّا على الكتَّاب.

فصل


والمقصود من الآية الكريمة الحثُّ على الكتابة قلَّ المال، أو كثر، فإنَّ النِّزاع في المال القليل ربَّما أدَّى إلى فسادٍ عظيم، ولجاج شديد.
فإن قيل: هل تدخل الحبة والقيراط في هذا الأمر؟
فالجواب: لا، لعدم جريان العادة به.
قوله: ﴿إلى أَجَلِهِ﴾ فيه ثلاثة أوجهٍ:
أظهرها: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ، أي: أن تكتبوه مستقرّاً في الذّمَّة إلى أجل حلوله.
والثاني: أنه متعلِّقٌ بتكتبوه، قاله أبو البقاء. وردَّه أبو حيان فقال: «متعلقٌ بمحذوفٍ لا ب» تَكْتُبُوهُ «لعدم استمرار الكتابة إلى أجل الدَّين، إذ ينقضي في زمن يسير، فليس نظير: سِرْتُ إلى الكُوفَةِ».
498
والثالث: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الهاء، قاله أبو البقاء.
قوله: «ذَلِكم» مشارٌ به لأقرب مذكورٍ وهو الكتب.
وقال القفَّال: إليه وإلى الإشهاد.
وقيل: إلى جميع ما ذكر وهو أحسن. و «أَقْسَطُ» قيل: هو من أقسط إذا عدل، ولا يكون من قسط، [لأن قسط] بمعنى جار، وأقسط بمعنى عدل، فتكون الهمزة للسَّلب، إلا أنه يلزم بناء أفعل من الرباعي، وهو شاذٌّ.
قال الزَّمخشريُّ: «فإن قلتَ ممَّ بني أفعلا التّفضيل - أعني أقسط وأقوم؟ - قلت: يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيّين من» أَقْسَطَ «، و» أَقَامَ «وأن يكون» أَقْسَط «من قاسط على طريقة النَّسب بمعنى: ذي قسطٍ؛ و» أَقْوَم «من قويم». قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: لم ينصَّ سيبويه على أنَّ أفعل التّفضيل يبنى من «أَفْعل»، إنَّما يؤخذ ذلك بالاستدلال، فإنَّه نصَّ في أوائل كتابه على أنَّ «أَفْعَل» للتعجب يكون من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ وأَفْعَلَ، فظاهر هذا أن «أَفْعَل» للتعجب يبنى منه أفعل للتَّفضيل، فما جاز في التَّعجُّب، وأفعل التَّفضيل من أفعل على ثلاثة مذاهب: الجواز مطلقاً، والمنع مطلقاً، والتفضيل بين أن تكون الهمزة للنَّقل، فيمتنع، أو لا فيجوز، وعليه يؤوَّل الكلام، أي: كلام سيبويه، حيث قال: «إنه يبنى من أفعل»، أي: الذي همزته لغير التَّعدية. ومن منع مطلقاً قال: «لم يَقُلْ سيبويه، وأفعل بصيغة الماضي» إنَّما قالها أفعل بصيغة الأمر، فالتبس على السَّامع، يعني: أنه يكون فعل التّعجب على أفعل، بناؤه من فَعَلَ، وفَعِل، وفَعُل، وعلى أَفْعِلْ.
ولهذه المذاهب موضع هو أليق بالكلام عليها.
ونقل ابن عطيَّة أنه مأخوذٌ من «قَسُطَ» بضمِّ السِّين نحو: «أَكْرَمَ» من «كَرُم». وقيل: هو من القسط بالكسر وهو العدل، وهو مصدر لم يشتقَّ منه فعلٌ، وليس من الإقساط؛ لأنَّ أفعل لا يبنى من «الإِفْعَالِ». وهذا كله بناء منهم على أنَّ الثلاثيَّ بمعنى الجوز والرُّباعيَّ بمعنى العدل.
ويحكى أنَّ سعيد بن جبيرٍ لمَّا سأله الظَّالم [الحجَّاج] بن يوسف: ما تقول فيَّ؟ فقال: «أقولُ إنّك قَاسِطٌ عَادِلٌ»، فلم يفطن له إلا هو، فقال: إنه جعلني جائراً كافراً، وتلا قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ [الجن: ١٥] ﴿ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١].
وأمَّا إذا جعلناه مشتركاً بين عدل، وبين جار فالأمر واضحٌ قال ابن القطَّاع: «قَسَط، قُسُوطاً، وقِسْطاً: جار وعَدَل ضِدٌّ». وحكى ابن السِّيد في كتاب: «الاقْتِضَابِ» له عن ابن
499
السَّكِّيت في كتاب: «الأَضْدَادِ» عن أبي عبيدة: «قَسَطَ: جارَ، وقَسَط، [عَدَل]، وأقْسطَ بالألفِ عَدَلَ لا غير». وقال أبو القاسم الرَّاغب الأصبهاني: «القِسْطُ أَنْ يأخذ قسط غيره، وذلك جورٌ، والإقساط أن يعطي قسطَ غيره، وذلك إنصافٌ، ولذلك يقول: قَسَط إذا جَارَ، وأقْسَط إذا عَدَل».
والقسط: اسم، والإقساط مصدر يقال: أقسط فلانٌ في الحكم يقسط إقساطاً، إذا عدل، فهو مقسطٌ.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾ [المائدة: ٤٢] ويقال: هو قاسط إذا جار فقال تعالى: ﴿وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ [الجن: ١٥] ﴿ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١]، وأمَّا إذا جعلنان مشتركاً بين عدل وبين جار فالأمر واضحٌ.
قال ابن القطَّاع: قَسَطَ قُسُوطاً، وقسطاً: جَارَ، وعَدَلَ ضدٌّ، وسيأتي لهذا مزيد بيانٍ في سورة النساء إن شاء الله تعالى.
قوله: ﴿عِندَ الله﴾ ظرفٌ منصوبٌ ب «أَقْسَط»، أي في حكمه. وقوله: «وَأَقْوَمُ» إنَّما صحَّت الواو فيه؛ لأنه أفعل تفضيل، وأفعل التَّفضيل يصحُّ حملاً على فعل التَّعجُّب، وصحَّ فعل التَّعجُّب لجريانه مجرى الأسماء لجموده وعدم تصرُّفه.
و ﴿وَأَقْومُ﴾ يجوز أن يكون من «أَقَامَ» الرُّباعي المتعدِّي؛ لكنَّه حذف الهمزة الزَّائدة، ثمَّ أتى بهمزة [أفعل] كقوله تعالى: ﴿أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى﴾ [الكهف: ١٢] فيكون المعنى: أثبت لإقامتكم الشهادة، ويجوز أن يكون من «قام» اللازم ويكون المعنى: ذلك أثبت لقيام الشَّهادة، وقامت الشهادة: ثبتت، قاله أبو البقاء.
قوله: ﴿لِلشَّهَادَةِ﴾ متعلِّقٌ ب «أَقْوَم»، وهو مفعولٌ في المعنى، واللاَّم زائدةٌ ولا يجوز حذفها ونصب مجرورها بعد أفعل التَّفضيل إلاَّ لضرورة؛ كقوله: [الطويل]
١٢٨٩ -.......................... وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ القَوَانِسَا
وقد قيل: «إشن» القَوانسَ «منصوبٌ بمضمر يدلُّ عليه أفعل التَّفضيل، هذا معنى كلام أبي حيّان، وهو ماشٍ على أنّ» أَقْوَم «من أقام المتعدّي، وأمَّا إذا جعلته من» قَام «بمعنى ثبت فاللاَّم غير زائدة.
قوله: ﴿أدنى أَلاَّ ترتابوا﴾، أي: أقرب، وحرف الجرّ محذوفٌ، فقيل: هو اللاَّم أي: أدنى لئلاَّ ترتابوا، وقيل هو»
إلَى «وقيل: هو» من «، أي: أدنى إلى ألاّ ترتابوا، وأدنى من ألا ترتابوا. وفي تقديرهم:» مِنْ «نظرٌ، إذ المعنى لا يساعد عليه. و» تَرْتَابُوا «: تفتعلوا من الرِّيبة، والأصل:» تَرْتَيِبُوا «، فقلبت الياء ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها.
500
والمفضَّل عليه محذوفٌ لفهم المعنى، أي: أقسط وأقوم، وأدنى لكذا من عدم الكتب، وحسَّن الحذف كون أفعل خبراً للمبتدأ بخلاف كونه صفةً، أو حالاً. وقرأ السُّلمي:» ألاّ يَرْتَابُوا «بياء الغيبة كقراءة:» وَلاَ يَسْأَمُوا أَنْ يكتبُوهُ «وتقدَّم توجيهه.

فصل في فوائد الإشهاد والكتابة


اعلم أنَّ الكتابة، والاستشهاد تشتمل على ثلاث فوائد:
الأولى: قوله: ﴿أَقْسَطُ عِندَ الله﴾، أي: أعدل عند الله وأقرب إلى الحقّ.
والثانية: قوله: ﴿أَقْومُ لِلشَّهَادَةِ﴾، أي: أبلغ في استقامته التي هي ذد الاعوجاج؛ لأنَّ المنتصب القائم ضدّ المنحني المعوج، وإنَّما كانت أقوم للشَّهادة؛ لأنها سبب للحفظ والذكر، فكانت أقرب إلى الاستقامة.
والفرق بين الفائدة الأولى والثانية أن الأولى تتعلّق بتحصيل مرضاة الله، والثانية تتعلّق بتحصيل مصلحة الدُّنيا، ولهذا قدمت الأولى عليها؛ لأن تقديم مصلحة الدّين على مصلحة الدُّنيا واجب.
الفائدة الثالثة: قوله: ﴿وأدنى أَلاَّ ترتابوا﴾ يعني أقرب إلى زوال الشَّكِّ والارتياب عن قلوب المتداينين، فالفائدة الأولى إشارة إلى تحصيل مصلحة الدِّين.
والثَّانية: إشارة إلى تحصيل مصلحة الدُّنيا.
والثالثة: إشارة إلى دفع الضَّرر عن النَّفس وعن الغير، أمَّا عن النَّفس فلأنه يبقى في الفكران، أنَّ هذا الأمر كيف كان، وهذا الذي قلت: هل كان صدقاً، أو كذباً، أمَّا عن الغير، فلأنّ ذلك الغير ربَّما نسبه إلى الكذب، فيقع في عقاب الغيبة.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً﴾ في هذا الاستثناء قولان:
أحدهما: أنه متَّصل قال أبو البقاء:»
والجُمْلَةُ المستثناة في موضع نصبٍ؛ لأنَّه استثناءٌ [من الجنس] لأنه أمرٌ بالاستشهاد في كلِّ معاملةٍ، فالمستثنى منها التجارة الحاضرة، والتَّقدير: إلاَّ في حال حضور التِّجارة «.
والثاني: أنَّه منقطع، قال مكي بن أبي طالبٍ: و»
أَنْ «في موضع نصبٍ على الاستثناء المنقطع» وهذا هو الظَّاهر، كأنه قيل: لكنّ التّجارة الحاضرة، فإنَّه يجوز عدم الاستشهاد والكتب فيها.
501
وقرأ عاصم هنا «تِجَارَةً» بالنَّصب، وكذلك «حَاضِرَةً» ؛ لأنها صفتها، ووافقه الأخوان، والباقون قرءوا بالرَّفع فيهما.
فالرَّفع فيه وجهان:
أحدهما: أنها التامة، أي: إلا أن تحدث، أو تقع تجارة، وعلى هذا فتكون «تُدِيرونها» في محلِّ رفع صفةً لتجارة أيضاً، وجاء هنا على الفصيح، حيث قدَّم الوصف الصريح على المؤول.
والثاني: أن تكون النَّاقصة، واسمها «تِجَارَةٌ» والخبر هو الجملة من قوله: «تُدِيرُونَهَا» كأنه قيل: إلا أنَّ تكون تجارةٌ حاضرةٌ مدارةٌ، وسوَّغ مجيء اسم كان نكرةً وَصْفُه، وهذا مذهب الفراء و [تابعه] آخرون.
وأمَّا قراءة عاصم، فاسمها مضمرٌ فيها، فقيل: تقديره: إلا أن تكون المعاملة، أو المبايعة، أو التجارة. وقدَّره الزَّجاج إلاَّ أن تكون المداينة، وهو أحسن. وقال الفارسيُّ: «ولا يجوز أن يكون [التَّداينُ] اسم كان؛ لأنَّ التَّداين معنًى، والتّجارة الحاضرة يراد بها العين، وحكم الاسم أن يكون الخبر في المعنى، والتَّداين حقٌّ في ذمة المستدين، للمدين المطالبة به، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون اسم كان لاختلاف التَّداين، والتّجارة الحاضرة» وهذا الرد لا يظهر على الزجاج، لأنَّ التِّجارة أيضاً مصدرٌ، فهي معنًى من المعاني لا عينٌ من الأعيان، وأيضاً فإنَّ من باع ثوباً بدرهم في الذِّمَّة بشرط أن يؤدى الدّرهم في هذه السَّاعة، كان مداينة، وتجارةً حاضرة.
وقال الفارسيُّ أيضاً: ولا يَجُوزُ أيضاً أن يكون اسمها «الحَقُّ» الذي في قوله: ﴿فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق﴾ للمعنى الذي ذكرنا في التَّداين، لأنَّ ذلك الحقَّ دينٌ، وإذا لم يجز هذا لم يخل اسم كان من أحد شيئين:
أحدهما: أنَّ هذه الأشياء التي اقتضت من الإشهاد، والارتهان قد علم من فحواها التبايُع، فأضمر التَّبايع لدلالة الحال عليه كما أضمر لدلالة الحال فيما حكى سيبويه رَحِمَهُ اللَّهُ: «إذا كَانَ غَداً فَأتني» ؛ وينشد على هذا: [الطويل]
١٢٩٠ - أَعَيْنَيَّ هَلاَّ تَبْكِيَانِ عِفَاقَا إِذَا كَانَ طَعْناً بَيْنَهُمْ وَعِنَاقَا
أي: إذا كان الأمر.
502
والثاني: أن يكون أضمر التِّجارة؛ كأنه قيل: إلاَّ أن تكون التِّجارة تجارةً؛ ومثله ما أنشده الفرَّاء رَحِمَهُ اللَّهُ: [الطويل]
١٢٩١ - فدًى لِبَنِي ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي إِذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْهَبَا
وأنشد الزمخشريُّ: [الطويل]
١٢٩٢ - بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاَءَنَا إِذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا
أي: إذا كان اليوم يوماً، و «بَيْنَكُم» ظرفٌ لتديرونها.
قوله: «فَلَيْسَ» قال أبو البقاء: «دَخَلَتِ الفَاءُ في» فَلَيْسَ «إيذاناً بتعلُّق ما بعدها بما قبلها» قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: هي عاطفةٌ هذه الجملة على الجملة من قوله: ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً﴾ إلى آخرها، والسَّببيَّة فيها واضحةٌ أي: بسببٍ عن ذلك رفع الجناح في عدم الكتابة.
وقوله: ﴿أَلاَّ تَكْتُبُوهَا﴾ أي: «في أن لا»، فحذف حرف الجر فبقي في موضع «أَنْ» الوجهان.

فصل


التِّجارة عبارةٌ عن التَّصرُّف في المال سواء كان حاضراً أو في الذِّمَّة لطلب الرِّبح، يقال: تجر الرَّجل يتجر تجارةً، فهو تاجرٌ.
قال النَّوويُّ في «التَّهْذِيبِ» :«ويقال: اتَّجر يتَّجر تجراً، وتجارةً فهو تاجرٌ، والجمع تجار كصاحب، وصحاب، ويقال أيضاً: تجَّار بتشديد الجيم كفاجرٍ، وفجَّارٍ».
وقال في «المُهَذَّبِ» في آخر «بَابِ زَكَاةِ الزَّرْعِ» يجب العشر والخراج، ولا يمنع أحدهما الآخر كأجرة المتجر، وزكاة التجارة، فالمتجر بفتح الميم، وإسكان التَّاء، وفتح الجيم، والمراد به المخزون وصرَّح به صاحب «المُهَذَّبِ» في كتابه «الخِلاَفُ» فقال: كأجرة المخزون، وكذا ذكره غيره من أصحابنا.

فصل


وسواء كانت المبايعة بدينٍ، أو بعينٍ، فالتِّجارة تجارةٌ حاضرةٌ فقوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ
503
تِجَارَةً حَاضِرَةً} لا يمكن حمله على ظاهره، بل المراد من التِّجارة ما يتجر فيه من الأبدال، ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يداً بيدٍ، ومعنى نفي الجناح، أي: لا مضرّة عليكم في ترك الكتابة، ولم يرد نفي الإثم، لأنَّه لو أراد الإثم؛ لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم، ويأثم صاحب الحقّ بتركها، وقد ثبت خلافه، وبيان أنَّه لا مضرَّة عليهم في تركها؛ لأنَّ التِّجارة الحاضرة تقع كثيراً، فلو تكلَّفوا فيها الكتابة، والإشهاد؛ يشقُّ عليهم، وأيضاً فإنَّ كلَّ واحدٍ من المتعاملين إذا أخذ حقَّه من صاحبه في المجلس؛ لم يكن هناك خوف التَّجاحد، فلا حاجة إلى الكتابة، والإشهاد.
قوله: ﴿وأشهدوا﴾ : هذا أمر إرشاد إلى طريق الاحتياط.
قال أكثر المفسِّرين: إنَّ الكتابة، وإن رفعت عنهم في التِّجارة الحاضرة؛ فلا يرفع الإشهاد؛ لأن الإشهاد بلا كتابة تخف مؤنته.
قوله: ﴿إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ يجوز أن تكون شرطيةً، وجوابها: إمَّا متقدّم عند قومٍ، وإمَّا محذوف لدلالة ما تقدَّم عليه تقديره: إذا تبايعتم فأشهدوا، ويجوز أن تكون ظرفاً محضاً، أي: افعلوا الشَّهادة وقت التبايع.
قوله: ﴿وَلاَ يُضَآرَّ﴾ العامَّة على فتح الرَّاء جزماً، ولا ناهيةٌ، وفتح الفعل لما تقدَّم في قراءة حمزة: «إِن تَضِلَّ». ثمَّ هذا الفعل يحتمل أن يكون مبنيّاً للفاعل، والأصل: «يُضَارِرْ» بكسر الرَّاء الأولى، فيكون «كَاتِب»، و «شَهِيد» فاعلين نهيا عن مضارَّة المكتوب له، والمشهود له، نهي الكاتب عن زيادة حرف يبطل به حقّاً أو نقصانه، ونهي الشَّاهد عن كتم الشَّهادة، واختاره الزجاج، ورجَّحه بأنَّ الله تعالى قال: ﴿فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾، ولا شكَّ أنَّ هذا من الكاتب والشَّاهد فسقٌ، ولا يحسن أن يكون إبرام الكاتب والشهيد والإلحاح عليهما فسقاً. لأنَّ اسم الفسق بمن يحرف الكتابة، وبمن يمتنع عن الشَّهادة؛ حتّى يبطل الحقّ بالكليّة أولى منه بمن أضرّ الكاتب والشَّهيد؛ ولأنه تبارك وتعالى قال فيمن يمتنع عن أداء الشَّهادة «
﴿وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣] والإثم والفسق متقاربان وهذا في التَّفسير منقول عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ومجاهد وطاوس، والحسن وقتادة. ونقل الدَّاني عن ابن عمر، وابن عبَّاس، ومجاهد، وابن أبي إسحاق أنهم قرءوا الرَّاء الأولى بالكسر، حين فكُّوا.
ويحتمل أن يكون الفعل فيها مبنيّاً للمفعول، والمعنى: أنَّ أحداً لا يُضَارِرُ الكاتب ولا الشَّاهد، ورجَّح هذا بأنه لو كان النَّهي متوجِّهاً للكاتب والشّهيد لقال: «وإِنْ تفعلا فإنه فسوقٌ بكما»
، ولأنَّ السياق من أول الآيات إنما هو للمكتوب له والمشهود له بأن يودّهما
504
ويمنعهما من مهمَّاتها، وإذا كان خطاباً للذين يقدمون على المداينة، فالمنهيُّون عن الضِّرار هم، وهذا قول ابن عباس وعطاء ومجاهد وابن مسعود. ونقل الداني أياضً عن ابن عمر وابن عباس ومجاهد أنهم قرءوا الراء الأولى بالفتح. فالآية عندهم محتملةٌ للوجهين ففسروا وقرءوا بهذا المعنى تارةً وبالآخر أخرى.
وقرأ أبو جعفر، وعمرو بن عبيدٍ: «ولا يُضارَ» بتشديد الرّاء ساكنةً وصلاً، وفيها ضعفٌ من حيث الجمع بين ثلاث سواكن، لكنَّه لمَّا كانت الألف حرف مدٍّ؛ قام مدُّها مقام حركةٍ، والتقاء السَّاكنين مغتفرٌ في الوقف، ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك.
وقرأ عكرمة: «ولا يُضَارِرْ كَاتِباً وَلاَ شَهِيداً» بالفكِّ، وكسرِ الراءِ الأولى، والفاعلُ ضميرُ صاحب الحق، ونَصْب «كاتباً»، و «شهيداً» على المَفْعُول به، أي: لا يضارِرْ صَاحِبُ حقٍّ كاتباً ولا شهيداً بأن يُجبِرَهُ ويُبْرِمَه بالكِتَابَة والشهادةِ؛ أو بأَنْ يحمِلَه على ما لا يَجُوز.
وقرأ ابن محيصن: «ولا يُضارُّ» برفع الرَّاء، وهو نفيٌ فيكون الخبر بمعنى النهي كقوله: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ﴾ [البقرة: ١٩٧].
وقرأ عكرمة في رواية مقسم: «ولا يُضارِّ» بكسر الرَّاء مشدَّدةً على أصل التقاء الساكنين. وقد تقدَّم تحقيقُ هذه عند قوله: ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ [البقرة: ٢٣٣].
قوله: ﴿وَإِن تَفْعَلُواْ﴾، أي: تفعلوا شيئاً ممَّا نهى الله عنه، فحذف المفعول به للعلم به. والضّمير في «فإنَّهُ» يعود على الامتناع، أو الإضرار. و «بِكُمْ» متعلّقٌ بمحذوفٍ، فقدَّره أبو البقاء: «لاحِقٌ بِكُم»، وينبغي أن يقدَّر كوناً مطلقاً؛ لأنه صفةٌ ل «فُسُوق»، أي: فسوق مستقرٌّ بكم، أي: ملتبسٌ بكم ولاحق بكم.
قوله: ﴿واتقوا الله﴾، يعني: فيما حذَّر منه هاهنا، وهو المضارة، أو يكون عاماً، أي: اتَّقوا الله في جميع أوامره، ونواهيه.
قوله: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الله﴾ يجوز في هذه الجملة الاستئناف - وهو الظَّاهر - ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل في «اتَّقوا» قال أبو البقاء: «تقديره: واتقوا الله مضموناً لكم
505
التَّعليم، أو الهداية، ويجوز أن تكون حالاً مقدَّرة». قال شهاب الدين: وفي هذين الوجهين نظرٌ، لأنَّ المضارع المثبت لا تباشره واو الحال، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤوَّل، لكن لا ضرورة تدعو إليه ههنا.

فصل


المعنى: يعلمكم ما يكون إرشاداً، أو احتياطاً في أمر الدُّنيا، كما يعلِّمكم ما يكون إرشاداً في أمر الدِّين، ﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، أي: عالم بجميع مصالح الدُّنيا، والآخرة.
506
قوله: ﴿وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ﴾.
قال أهل اللُّغة (س ف ر) تركيب هذه الحروف للظُّهور، والكشف، والسفر هو الكتاب؛ لأنه يبيِّن الشيء ويوضحه، وسمي السِّفر سفراً؛ لأنَّه يسفر عن أخلاق الرِّجال، أي: يكشف، أو لأنه لمّا خرج من الكن إلى الصَّحراء فقد انكشف للنَّاس؛ أو لأنه لمَّا خرج إلى الصَّحراء فقد صارت أرض البيت منكشفةً خاليةً، وأسفر الصُّبح: إذا ظهر، وأسفرت المرأة عن وجهها: إذا كشفته، وسفرت عن القوم أسفر سفارة، أي: كشفت ما في قلوبهم، وسفرت أُسفر، أي: كنست، والسَّفر: الكنس، وذلك لأنك إذا كنست، فقد أظهرت ما كان تحت الغبار، والسّفر من الورق ما سفر به الرِّيح، ويقال لبقية بياض النَّهار بعد مغيب الشَّمس سفر لوضوحه.

فصل في بيان وجه النَّظم


اعلم أنَّه تعالى جعل البياعات في هذه الآية على ثلاثة أقسام:
بيع بكتاب وشهود، وبيع برهن مقبوضة، وبيع بالأمانة، ولما أمر في آخر الآية المتقدّمة بالكتاب، والإشهاد، وأعلم أنَّه ربما تعذَّر ذلك في السَّفر إمَّا ألاَّ يوجد الكاتب، أو إن وجد لكنَّه لا توجد آلات الكتابة، ذكر نوعاً آخر من الاستيثاق وهو أخذ الرَّهن، فهذا وجه النَّظم، وهذا أبلغ في الاحتياط من الكتابة والإشهاد.
قوله: ﴿وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً﴾ في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنَّها عطفٌ على فعل الشَّرط، أي: «وَإِنْ كُنْتُم»، ﴿وَلَمْ تَجِدُواْ﴾ فتكون في
506
محلِّ جزمٍ لعطفها على المجزوم تقديراً.
والثاني: أن تكون معطوفةً على خبر «كان»، أي: وإن كنتم لم تجدوا كاتباً.
والثالث: أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها نصب على الحال، فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محلّ نصبٍ.
والعامة على «كاتباً» اسم فاعل. وقرأ أُبي ومجاهدٌ، وأبو العالية: «كِتاباً»، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّه مصدرٌ أي ذا كتابة.
والثاني: أنه جمع كاتبٍ، كصاحبٍ وصحاب. ونقل الزمخشريُّ هذه القراءة عن أُبيّ وابن عبَّاسٍ فقط، وقال: «وَقَالَ ابْنُ عباس: أرأيت إن وَجَدْتَ الكاتب، ولم تجد الصَّحيفة والدَّواة». وقرأ ابن عباس والضَّحَّاك: «كُتَّاباً» على الجمع [اعتباراً] بأنَّ كلَّ نازلةٍ لها كاتبٌ. وقرأ أبو العالية: «كُتُباً» جمع كتاب، اعتباراً بالنَّوازل، قال شهاب الدين: قول ابن عباس: «أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتَ الكَاتِبَ... إلخ» ترجيحٌ للقراءة المرويَّة عنه واستبعادٌ لقراءة غيره «كاتباً»، يعني أن المراد الكتاب لا الكاتب.
قوله: ﴿فَرِهَانٌ﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ، أي: فيكفي عن ذلك رهنٌ مقبوضةٌ.
الثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ، أي: فرهن مقبوضة تكفي.
الثالث: أنَّه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالوثيقة، أو فالقائم مقام ذلك رهن مقبوضةٌ.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرٍو: «فَرُهُنٌ» بضم الرَّاء، والهاء، والباقون «فَرِهَانٌ» بكسر الرَّاء وألف بعد الهاء، روي عن ابن كثير، وأبي عمرو تسكين الهاء في رواية.
فأمَّا قراءة ابن كثير، فجمع رهن، وفَعْلٌ يجمع على فُعُلٍ نحو: سَقْف وسُقُف. ووقع في أبي البقاء بعد قوله: «وسَقْف وسُقُف. وأسَد وأُسُد، وهو وهمٌ» ولكنَّهم قالوا: إنَّ فعلاً جمع فعل قليل، وقد أورد منه الأخفش ألفاظاً منها: رَهْن ورُهُن،
507
ولَحْد القبر، ولُحُد، وقَلْب النَّخلة، وقُلُب، ورجلٌ ثَطٌّ وقومٌ ثُطٌّ، وفرس وَرْدٌ، وخيلٌ وُرُدٌّ، وسَهمٌ حَشْرٌ وَسِهَامٌ حُشُرٌ. وأنشد أبو عمرو حجةً لقراءته قول قعنب: [البسيط]
١٢٩٣ - بَانَتُ سُعَادُ وأَمْسَى دُونَها عَدَنُ وَغَلِقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَبْلِكَ الرُّهُنُ
وقال أبو عمرو: «وإنما قرأت فرُهُن للفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع» رَهْن «في غيرها» ومعنى هذا الكلام أنما اخترت هذه القراءة على قراءة «رهَان» ؛ لأنه لا يجوز له أن يفعل ذلك كما ذكر دون اتِّباع روايةٍ.
واختار الزَّجَّاج قراءته هذه قال: «وَهَذِه القِرَاءَة وافَقَت المصحف، وما وافق المصحف وصحَّ معناه، وقرأ به القرَّاء فهو المختار». قال شهاب الدين: إن الرسم الكريم «فرهن» دون ألفٍ بعد الهاء، مع أنَّ الزَّجَّاج يقول: «إنَّ فُعُلاً جمع فَعْلٍ قليلٌ»، وحكي عن أبي عمرو أنه قال: «لا أَعْرِفُ الرَّهان أكثر، والرِّهان في الخيل أكثر» وأنشدوا أيضاً على رَهْنٍ ورُهُن قوله: [الكامل]
١٢٩٤ - آلَيْتُ لاَ نُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا رُهُناً فيُفْسِدُهُمْ كَمَنْ قَدُ أَفْسَدَا
وقيل: إنَّ رُهُناً جمع رهان، ورهان جمع رَهْن، فهو جمع الجمع، كما قالوا في ثمار جمع ثمر، وثُمر جمع ثمار، وإليه ذهب الفراء وشيخه، ولكنَّ جمع الجمع غير مطرَّدٍ عند سيبويه وجماهير أتباعه.
وأمَّا قراءة الباقين «رِهان»، فرهان جمع «رَهْن» وفعل وفعال مطردٌ كثير نحو: كَعْب، وكِعَاب، وكَلْب وكِلاَب، ومَنْ سَكَّن ضمة الهاء في «رُهُن» فللتخفيف وهي لغةٌ، يقولون: سُقْفٌ في سُقُف جمع سَقْفٍ.
والرَّهنُ في الأصل مصدر رهنت، يقال: رهنت زيداً ثوباً أرهنه رهناً أي: دفعته إليه رهناً عنده، قال: [الوافر]
١٢٩٥ - يُرَاهِنُنِي فَيَرْهَنُنِي بَنِيهِ وأَرْهَنُهُ بَنِيَّ بِمَا أَقُولُ
وأرهنت زيداً ثوباً، أي: دفته إليه ليرهنه، ففرَّقوا بين فعل وأفعل. وعند الفرَّاء رهنته وأرهنت بمعنى، واحتجَّ بقول همَّامٍ السَّلوليِّ: [المتقارب]
508
١٢٩٦ - فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ نَجَوْتُ وَأَرْهَنْتُهُمْ مَالِكاً
وأنكر الأصمعيُّ هذه الرِّواية، وقال إِنَّما الرَّواية: «وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا» والواو للحال؛ كقولهم: «قَمْتُ وأَصُكُّ عَيْنَهُ» وهو على إضمار مبتدأ.
وقيل: أرْهَنَ في السِّلعة إذا غالى فيها حتّى أخذها بكثير الثَّمن، ومنه قوله: [البسيط]
١٢٩٧ - يَطْوِي ابنُ سَلْمَى بِهَا مِنْ رَاكِبٍ بُعْداً عِيديَّةً أُرْهِنَتْ فِيهَا الدَّنَايِيرُ
ويقال: رَهنتُ لساني بكذا، ولا يُقال فيه «أَرْهَنْتُ» ثم أُطْلق الرَّهنُ على المرهون من باب إطلاق المصدرِ على اسم المفعول كقوله تعالى: ﴿هذا خَلْقُ الله﴾ [لقمان: ١١]، و «درهَمٌ ضَرْبُ الأَمِير»، فإذا قلت: «رَهَنْتُ زيداً ثوباً رَهْناً» فرهناً هنا مصدرٌ فقط، وإذا قلت «رهنْتُ زيداً رَهْناً» فهو هنا مفعولٌ به؛ لأن المراد به المرهونُ، ويُحتملُ أن يكونَ هنا «رَهْناً» مصدراً مؤكداً أيضاً، ولم يذكرِ المفعول الثَّاني اقتصاراً كقوله: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ﴾ [الضحى: ٤].
و «رَهْن» مِمَّا استغني فيه بجمعِ كثرته عن جمع قلَّته، وذلك أنَّ قياسه في القلةِ أفعل كفلس، وأفلسُ، فاستُغنيَ برَهن ورِهان عن أرَهنُ.
وأصل الرَّهن: الثُّبوت والاستقرارُ يقال: رهن الشَّيءُ، فهو راهنٌ إذا دام واستقر، ونعمةٌ راهنةٌ، أي: دائمة ثابتة، وأنشد ابن السَِّكِّيت: [البسيط]
١٢٩٨ - لاَ يَسَفِيقُونَ مِنْهَا وَهْيَ رَاهِنَةٌ إِلاَّ بهَاتِ وَإِنْ نَهِلُوا
ويقال: «طَعَامٌ رَاهِنٌ» أي: مُقيمٌ دائمٌ؛ قال: [البسيط]
١٢٩٩ - الخُبْزُ واللَّحْمُ لَهُمْ رَاهِنٌ..........................
أي: دائمٌ مستقرٌّ، ومنه سُمِّي المرهونُ «رَهْناً» لدوامِه واستقراره عند المُرتهِن.

فصل في إثبات الرهن في الحضر والسفر


جمهورُ الفُقهاء على أَنَّ الرهن في الحضرِ، والسَّفر سواءٌ، وفي حال وجود الكاتب، وعدمهِ، وذهب مجاهِدٌ: إلى أَنَّ الرهنَ لا يجوزُ إِلاَّ في السقر؛ لظاهر الآية، ولا عمل عليه، وإِنَّما قيدت الآيةُ بالسفر؛ لأَنَّ الغالبَ في السفرِ عدمُ الكاتِب؛ فهو
509
كقوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ﴾ [النساء: ١٠١] وليس الخوفُ من شرط جواز القصرِ؛ ويدلُّ عليه ما رُوِيَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ رهن دِرْعَهُ عند أَبِي الشَّحم اليهوديِّ ولم يكن ذلك في سفرٍ.
قوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ﴾ قرأ أُبي فيما نقله عنه الزَّمخشريُّ «أُومِنَط مبنيّاً للمفعول، قال الزَّمخشريُّ: أي:» أَمِنَه الناسُ وَوَصَفُوا المَدْيُونَ بالأمانةِ والوفاءِ «قلت: وعلامَ تنتصبُ بَعْضاً؟ والظاهرُ نصبه بإسقاطِ الخافض على حذف مضافٍ، أي: فإن أُومِنَ بعضُكم على متاعٍ بعضٍ، أو على دينِ بعضٍ.
وفي حرف أُبيّ:»
فَإِن اؤْتُمِنَ «يعني: وإن كان الذي عليه الحقُّ أَمِيناً عند صاحب الحقِّ؛ فلم يرتهن منه شيئاً؛ لحسن ظنه به.
قوله: ﴿فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ﴾ إذا وُقِفَ على الَّذِي، وابتُدىءَ بما بعدها قيل:»
اوتُمِنَ «بهمزةٍ مضمومةٍ، بعدها واوٌ ساكنةٌ، وذلك لأنَّ أصله اؤْتُمِنَ؛ مثل اقتُدر بهمزتين: الأُولى للوصل، والثَّانية فاءُ الكلمة، ووقعت الثانيةُ ساكنةً بعد أُخرى مثلها مضمومةً؛ فوجب قَلْبُ الثانية لمُجانس حركة الأُولى، فقلت: اوتُمِنَ؛ فأمَّا في الدَّرج، فتذهبُ همزةُ الوصل؛ فتعودُ الهمزةُ إلى حالها؛ لزوالِ موجب قلبها واواً، بل تُقلبُ ياءً صريحةً في الوصلِ؛ في رواية ورشٍ.
ورُوي عن عاصم:»
الَّذِي اؤْتُمِنَ «برفع الأَلف ويُشير بالضَّمَّةِ إلى الهمزةِ، قال ابن مجاهدٍ:» وهذه الترجمةُ غلطٌ «ورَوَى سليم عن حمزة إشمامَ الهمزةِ الضَّمَّ، وفي الإِشارة، والإِشمام المذكُورَين نظرٌ.
وقرأ عاصمٌ أيضاً في شاذِّه: «الَّذِي اتُّمِنَ»
بإِدغام الياء المبدلة من الهمزة في تاءِ الافتعال، قال الزمخشريُّ: قياساً على: «اتَّسَرَ» في الافتعال من اليُسْر، وليس بصحيح؛ لأَنَّ الياءَ منقلبةٌ عن الهمزةِ، فهي في حُكمِ الهمزةِ، واتَّزر عامِّيٌّ، وكذلك «رُيَّا» في «رُؤْيَا».
قال أبو حيَّان: وَمَا ذَكَرهُ الزمخشريُّ فيه: أَنَّهُ ليس بصحيح، وأَنَّ «اتَّزَرَ» عامِّيٌّ - يعني أنه مِنْ إِحداث العامَّةِ لا أصلَ له في اللغة - قد ذكره غيره أنَّ بعضهم أَبدلَ، وأدْغَمَ: «اتَّمَنَ واتَّزَرَ» وأنَّ لغةٌ رديئةٌ، وكذلك «رُيَّا» في رُؤْيَا، فهذا التشبيهُ إمَّا أَنْ يعودَ على قوله: «واتَّزَرَ عَامِّيٌّ»، فيكون إدغام «رُيَّا» عَامِّيًّا، وإمَّا أن يعود إلى قوله «فَلَيْسَ بِصَحِيح»
510
أي: وكذلك إدغامُ «رُيَّا» ليس بصحيحٍ، وقد حكى الكِسائيُّ الإدغام في «رُيَّا».
وقوله: ﴿أَمَانَتَهُ﴾ يجوزُ أن تكونَ الأمانةُ بمعنى الشَّيءِ المُؤْتَمَنِ عليه؛ فينتصبَ انتصابَ المفعولِ به بقوله: «فَلْيُؤَدِّ» ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدراً على أصلها، وتكونَ على حذفِ مضافٍ، أي: فليؤدِّ دين أَمانتهِ، ولا جائزٌ أن تكونَ منصوبة على مصدرِ اؤْتمنَ، والضَّمير في «أَمَانَتَهُ» يُحْتَمَلُ أَنْ يعودَ على صاحب الحقِّ، وأَنْ يعودَ على ﴿الذي اؤتمن﴾.

فصلٌ


هذا هو القِسْمُ الثّالث مِنَ البياعاتِ المذكورة في الآية، وهو بيعُ الأمانة، أعني: ما لا يكون فيه كتابةٌ، ولا شهودٌ، ولا يكونَ فيه رهنٌ.
يقال: «أَمِنَ فُلاَنٌ غَيْرَهُ» إذا لم يخف منه.
قال تعالى: ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ﴾ [يوسف: ٦٤] فقوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً﴾ أي: لم يخف خيانتهُ وجحودَه للحقِّ ﴿فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ﴾ أي: فليؤدِّ المديونُ الذي كان أميناً، ومؤتمناً في ظنِّ الدَّائن - أمانتَهُ، أي: حقَّهُ، كأنه يقولُ: أَيّها المديُونُ، أنتَ أمينٌ، ومُؤْتمن في ظنِّ الدَّائِن، فلا تخلف ظنَّه، وأدِّ إليه أمانتَهُ، وحقه، يقالك أَمِنتُه، أو ائْتَمَنْتُه، فهو مأمونٌ، ومُؤْتَمَنٌ، ﴿وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ﴾ أي: يتق اللهَ، ولا يجحدُ، لأن الدَّائن لمَّا عامله المعاملة الحسنة؛ حينئذٍ عَوَّل على أَمانته، ولم يُطَالبه بالوثائق من الكتابة، والإِشهاد، والرهنِ؛ فينبغي لهذا المديُون أنْ يتَّقِي الله، ويعامله أَحسنَ معاملة، بأن لا يُنكر الحقَّ، ويؤديه إليه عند حلول الأَجل.
وقيل: إنه خطابٌ للمرتَهِن بأن يُؤَدِّي الرهنَ عند استيفاءِ المالِ، فإنه أمانةٌ في يده.

فصلٌ


قال بعضهم: هذه الآيةُ ناسخةٌ للآياتِ المتقدمةِ الدالَّةِ على وجوب الكتابة، والإِشهادِ، وأخذ الرهن.
واعلم أَنَّ التزام وقُوع النسخِ من غير دليلٍ يُلجئُ إليه خطأٌ.
[بل] تلك الأَوامِرُ محمولةٌ على الإِرشاد، ورعاية الاحتياط، وهذه الآيةُ محمولةٌ على الرخصة.
وعن ابن عباسٍ، أنه قال: ليس في آية المداينة نسخٌ.
قوله: ﴿وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة﴾ وفيه وجوهٌ:
الأول: قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ ُ -: إنه تعالى لما أباحَ تركَ الكتابةِ والإِشهادِ، والرهنِ عند اعتقادِ أمانة المديونِ، ثم كان من الجائز أَنْ يكون المديونُ خائِناً جاحداً
511
للحقِّ، وكان من الجائزِ أيضاً أن يكون بعضُ الناسِ مُطّلعاً على أحوالهم، فهاهنا ندب اللهُ ذلك المطلع إلى أن يسعى في إحياء ذلك الحق، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه، ومنعه من كتمانِ الشَّهادةِ سواء عرف ذلك الحق، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه، ومنعه من كتمانِ الشَّهادةِ سواء عرف صاحبُ الحق تلك الشهادة، أم لا، وشدَّد فيه بأن جعله آثِمَ القلبِ بكتمانها.
وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «خَيْرُ الشُّهُودِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ».
الثاني: أَنَّ المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة، ونظيره قوله تعالى: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله﴾ [البقرة: ١٤٠] والمرادُ الجُحودُ وإنكارُ العِلْمِ.
الثالث: كِتمانُ الشهادة: هو الامتناع مِنْ أدَائها عند الحاجة إلى إقامتها، كما تقدَّمَ في قوله: ﴿وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ﴾ [البقرة: ٢٨٢] ؛ لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة صار كالمبطل لحقه، وحُرمة مال المسلم كحُرمةِ دمه، فلهذا بالغَ في وعيده.
وقرأ أَبُو عَبدِ الرحْمَن «وَلاَ يَكْتُمُوا» بياءِ الغيبةِ؛ لأن قَبْلَهُ غَيْباً وهم مَنْ ذُكر في قوله: «كَاتِبٌ ولا شهيد».
قوله: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ في هذا الضمير وجهان:
أحدهما: أنه ضميرُ الشأنِ، والجملةُ بعدَه مفسِّرٌ له.
والثاني: أنه ضميرُ «مَنْ» في قوله: «ومَنْ يَكْتُمْهَا» وهذا هو الظاهرُ.
وأمَّا «آثِمٌ قَلْبُهُ» ففيه أوجهٌ:
أظهرها: أنَّ الضميرَ في «إِنَّهُ» ضميرُ «مَنْ» و «آثِمٌ» خبرُ «إِنَّ»، و «قَلْبُهُ» فاعلٌ ب «آثِمٌ»، نحو قولك: «زَيْدٌ إِنَّهُ قَائِمٌ أَبُوهُ»، وعَمَلُ اسم الفاعل هنا واضحٌ؛ لوجودِ شروطِ الإِعمال، ولا يجيءُ هذا الوجهُ على القولِ بأنَّ الضميرَ ضميرُ الشأنِ؛ لأنَّ ضميرَ الشأن لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ، واسمُ الفاعلِ مع فاعله عند البصريِّين مفردٌ، والكوفيُّون يُجيزون ذلك.
الثاني: أن يكون «آثِمٌ» خبراً مقدَّماً، و «قَلْبُهُ» مبتدأٌ مؤخراً، والجملةُ خبرَ «إِنَّ»، ذكره الزمخشريُّ وأبو البقاء وغيرهما وهذا لا يجوزُ على أصول الكوفيِّين؛ لأنه لا يعودُ عندهم الضَّميرُ المرفوعُ على متأخِّرٍ لفظاً، و «آثِمٌ» قد تحمَّل ضميراً، لأنه وقع خبراً؛
512
وعلى هذا الوجه: فيجوزُ أن تكونَ الهاءَ ضميرَ الشأ، وأَنْ تكونَ ضميرَ «مَنْ».
والثالث: أن يكونَ «آثِمٌ» خبرَ «إِنَّ»، وفيه ضميرٌ يعودُ على ما تعودُ عليه الهاء في «إِنَّهُ»، و «قَلْبُهُ» بدلٌ من ذلك الضمير المستترِ بدلُ بعضٍ من كُلٍّ.
الرابع: [أن يكونَ] «آثمٌ» مبتدأً، و «قَلْبُهُ» فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر، والجملةُ خبرُ «إِنَّ»، قاله ابن عطية، وهو لا يجوزُ عند البصريِّين؛ لأنَّه لا يعملُ عندهم اسمُ الفاعل، إلا إذا اعتمد على نفي، أو استفهام؛ نحو: ما قائِمٌ أَبَوَاكَ، وهَلْ قائِمٌ أَخَوَاكَ؟ وَمَا قَائِمٌ قَوْمُكَ، وَهَلْ ضَارِبٌ إِخْوَتُكَ؟ وإنما يجوزُ هذا عند الفراءِ من الكوفيين، والأخفشِ من البصريِّين؛ إذ يجيزانِ: قائمٌ الزَّيدانِ، وقائِمٌ الزَّيدُونَ، فكذلك في الآية الكريمة.
وقرأ ابن عبلة: «قَلْبَهُ» بالنصب، نسبها إليه ابن عطيَّة.
وفي نصبه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه بدلٌ من اسم «إِنَّ» بدلُ بعض من كلٍّ، ولا محذورَ في الفصلِ [بالخبر - وهو آثِمٌ - بين البدلِ والمبدلِ منه، كما لا محذورَ في الفصل] به بين النعتِ والمنعوتِ، نحو: زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ العَاقِلُ مع أنَّ العاملَ في النعت والمنعوت واحدٌ؛ بخلافِ البدلِ والمبدلِ منه؛ فإنَّ الصحيحَ أنَّ العاملَ في البدلِ غيرُ العاملِ في المُبدلِ منه.
الثاني: أنه منصوبٌ على التشبيه بالمفعولِ به؛ كقولك: «مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٍ وَجْهَهُ»، وفي هذا الوجه خلافٌ مشهورٌ:
فمذهب الكوفيين: الجواز مُطْلَقاً، أعني نظماً ونَثْراً. ومذهبُ المبرد المنع مطلقاً، ومذهب سيبويه: منع في النثر، وجوازه في الشعرِ، وأنشد الكسائي على ذلك: [الرجز]
١٣٠٠ - أَنْعَتُهَا إِنِّيَ مِنْ نُعَّاتِهَا مُدَارَةَ الأَخْفَافِ مُجْمَرَّاتِهَا
غُلْبَ الرِّقَابِ وَعَفْرْنِيَّاتِهَا كُومَ الذُّرَى وَادِقَةَ سُرَّاتِهَا
ووجه ضعفه عند سيبويه في النثر تكرار الضمير.
الثالث: أنه منصوبٌ على التمييز حكاه مكيٌّ وغيره؛ وضعَّفوه بأنَّ التمييز لا يكونُ إلا نكرةً، وهذا عند البصريِّين، وأمَّا الكوفيون فلا يَشْتَرطون تنكيرَه، ومنه عندهم: ﴿إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠] و ﴿بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ [القصص: ٥٨] ؛ وأنشدوا قوله: [الوافر]
513
١٣٠١ - إِلَى رُدُحٍ مِنَ الشِّيزَى مِلاَءٍ لُبَابَ البُرِّ يُلْبَكُ بِالشِّهَادِ
وقرأ ابن أبي عيلة - فيما نقل عنه الزمخشريُّ - «أَثَّمَ قَلْبَهُ» جعل «أَثَمَّ» فعلاً ماضياً مشدَّد العين، وفاعله مستترٌ فيه، و «قَلْبَهُ» مفعول به، أي: جعل قلبه آثِماً، أي: أَثِمَ هو؛ لأنه عَبَّر بالقلبِ عن ذاتِه كلِّها؛ لأنه أشرفُ عضوٍ فيها. وهو، وإِنْ كان بلفظِ الإِفراد، فالمرادُ به الجمعُ، ولذلك اعتبر معناه في قراءة أبي عبد الرحمن، فجمع في قوله: «وَلاَ يَكْتُمُوا».
وقد اشتملَتْ هذه الآياتُ على أنواع من البديع: منها: التجنيسُ المغايرُ في «تَدَايَنْتُم بِدَيْنٍ»، ونظائره، والمماثلُ في قوله: ﴿وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا﴾، والطباقُ في «تَضِلَّ» و «تُذَكِّرَ» و «صَغِيراً وكَبِيراً»، وقرأ السُّلمِيُّ أيضاً: «واللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ» بالغَيبَة؛ جرياً على قراءته بالغَيْبَة.
و «الآثم» : الفاجرُ رُوِيَ أَنَّ عمر كان يُعلِّمُ أَعرابيّاً ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم﴾ [الدخان: ٤٣، ٤٤] فكان يقول: «طَعَامُ اليَتِيم» فقال له عُمرُ: طعام الفاجِرِ، وهذا يدلُّ على أَنَّ الإِثم يكون بمعنى الفجورِ. قيل: ما وعد اللهُ على شيءٍ كإيعاده على كتمان الشهادة؛ قال: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ وأراد به مسخ القلب؛ نعوذُ بالله من ذلك.
وقوله: ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ تحذيرٌ من الإِقدامِ على الكِتمانِ؛ لأنَّ المكلَّفَ إذا علم أَنَّ الله تعالى لا يعزُبُ عن عِلْمِه ضميرُ قلبه، كان خائِفاً حذراً من مُخالفة أَمرِ اللهِ تعالى.
514
في كيفية النَّظم وجوه:
الأول: قال الأَصمّ: إنه تعالى لمَّا جمع في هذه السُّورة أشياءَ كثيرةً مِنْ علم الأُصُول: من دلائل التَّوحيدِ، والنُّبوةِ، والمعادِ، وبيان الشَّرائِع، والتكاليف؛ كالصلاةِ
514
والزكاةِ، والصومِ، والحجِّ، والقِصَاصِ، والجهادِ، والحيضِ، والطَّلاَقِ، والعِدَّةِ، والصَّدَاقِ، والخُلعِ، والإِيلاءِ، والرَّضَاعةِ، والبيع، والرِّبَا، وكيفيَّةِ المُداينةِ - ختم هذه السورة بهذه الآية على سبيل التَّهديد.
قال ابن الخطيب: لمَّا كان أكملُ الصفاتِ هو العلم والقدرة عبَّرَ عن كمالِ قُدْرته بقول ﴿للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ مِلكاً ومُلْكاً، وعبَّرَ عن كمال علمه، وإِحاطته بالكُلِّيَّاتِ، والجُزْئِيَّاتِ بقوله: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾، وإذا اختصَّ بكمال العلم، والقُدرة، فكل من في السموات والأرض عبيدٌ مربوبون له، وجدوا بتخليقه، وتكوينه، وهذا غاية الوعدِ للمطيعين، ونهايةُ الوعيد للمذنبين، ولهذا ختم السورة بهذه.
الثاني: قال أبو مسلم: إنه تعالى لمَّا نزَّل في آخر الآية المتقدِّمة: «إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عليمٌ»، ذكر عقيبهُ ما يجرِي مجرى الدليل العقلي فقال: ﴿للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ ومعنى هذا الملك أَنَّ هذه الأشياء لمَّا كانت محدثةً، فقد وجدت بتكوينه؛ وإبداعه، ومن أتقن هذه الأفعال العجيبة الغريبة المشتملةِ على الحِكم المُتكاثرة؛ والمنافع العظيمة، فلا شَكَّ أَنَّ ذلك مِنْ أعظم الأَدِلَّة على كونه عالماً مُحيطاً بأجزائها.
الثالث: قال القاضي: إنه تعالى لمَّا أمر بهذه الوثائِق - أعني الكتابة، والإِشهادَ، والرهنَ، وكان المقصودُ من الأَمر بها صيانة الأَموالِ، والاحتياط في حفظها - بيَّن تعالى أن المقصودَ من ذلك إنما يرجع لمنفعة الخلقِ، لا لمنفعةٍ تعُودُ إليه سبحانه، فإنَّ له مُلْكَ السَّموات، والأَرضِ.
الرابع: قال الشعبيُّ، وعكرمةُ، ومجاهدٌ: إنه تعالى لما نهى عن كِتمان الشهادة، وأَوعد عليه، بيَّن أَنَّ له مُلك السمواتِ، والأَرضِ؛ فيجازِي على الكِتْمانِن والإِظهارِ.

فصلٌ في بيان سبب النُّزُول


قال مقاتلٌ: نزلت فيمن يتولَّى الكافرين من المؤمنين، يعني: وإن تُعْلِنُوا ما في أَنفُسِكُم من ولاية الكُفَّار، أو تُسِّروه، يُحَاسِبكُم به الله، كما ذكر في سورة آل عمران
515
﴿لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ﴾ [آل عمران: ٢٨]، إلى أن قال: ﴿قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله﴾ [آل عمران: ٢٩].
وذهب الأَكثرُون إلى أنَّها عامَّةٌ.

فصلٌ


رُوِي عن ابن عبَّاسٍ؛ أنه قال: لمَّا نزلت هذه الآية، «جاء أبو بكرٍ وعمرُ، وعبدُ الرَّحمن بن عوف، ومعاذ، وناسٌ إلى النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم بركُوا على الرَّكبِ، فقالوا: يا رسُول اللهِ، كُلِّفنا من الأَعمالِ ما نُطيقُ؛ الصلاةُ، والصِّيامُ، والجِهَادُ، والصَّدَقَةُ، وقد أُنزِلت عليك هذه الآيةُ ولا نُطِيقُهَا، إنَّ أَحدنا ليُحدِّثُ نفسهُ بما لا يحبّ أن يثبتَ في قلبهِ وإنَّ له الدُّنيا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْل الكِتابينِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بل قولوا: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ»
فَلمَّا قرأها القومُ، ذلَّتْ بهم أَنفُسُهُم، فأنزل الله في إثرها ﴿آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملاائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير﴾ [البقرة: ٢٨٥] فمكَثُوا في ذلك حولاً، واشتدَّ ذلك عليهم، فأَنزل اللهُ - تعالى - ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦] فَنَسَخَتْ هذه الآية، فقال النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُم مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ».
قال ابن مسعود، وابن عبَّاسٍ، وابن عمر: هذه الآية منسوخةٌ، وإليه ذهب محمَّد بن كعبٍ القرظيّ؛ ويدُلُّ عليه ما رَوَى أَبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قال: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ».
516
وقال آخرون: الآية من باب الخبر، والنَّسخُ لا يتطرَّق إلى الأخبارِ، إنما يرِدُ على الأمرِ والنَّهي، وقوله: ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾ خبر، وهؤلاء ذكرُوا في الآيةِ وجُوهاً:
الأول: أن الخواطر الواردة على النَّفس قسمان:
منها: ما يعزمُ على فعله وإيجاده، فيكون مؤاخذاً به؛ لقوله - تعالى -: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٥]، وقال بعد هذه الآية: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت﴾ [البقرة: ٢٨٦]، وقال: ﴿إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ١٩].
ومنها: ما يخطر بالبالِ مع أَنَّ الإنسان يكرهُهَا ولا يمكنه دفعها، فهذا لا يُؤاخذُ به.
الثاني: أن كُلَّ ما كان في القلب ممَّا لا يدخُل في العملِ؛ فإنه في محلِّ العفوِ.
وقوله: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ فالمرادُ منه أن يوجد ذلك العمل، إمَّا ظاهراً وإمَّا خُفيَةً، وأمَّا ما يُوجدُ في القلبِ من العزائم والإراداتِ، ولم تتَّصِل بعمل، فذلك في محلِّ العفو.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ؛ لأن أكثر المُؤاخذاتِ إنَّما تكون بأفعالِ القُلُوبِ؛ ألا ترى أنَّ اعتقادَ الكُفْرِ والبدَع إِلاَّ مِنْ أَعمال القُلُوبِ، وأعظم أَنواع العِقَابِ مُتَرتِّبٌ عليه.
وأيضاً: فأفعالُ الجوارح إذا خلت عن أفعال القُلُوبِ، لا يترتَّب عليها عقابٌ؛ كأفعال النَّائِمِ والسَّاهي.
الثالث: قال الحسن: كُلُّ من أسرَّ عملاً أو أَعْلَنهُ من حركةٍ من جوارحه، أو همَّةٍ في قلبه، إِلاَّ يُخْبرُه الله به ويُحاسبُه عليه، ثم يغفِر ما يشاءُ ويُعذِّب من يشاء؛ لأن الله - تعالى - أَثبت للقلبِ كسباً؛ فقال: ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٥].
الرابع: أن الله - تعالى - يُحاسِبُ خلقهُ بجميع ما أَبدوا من أعمالهم أو أخفوهُ، ويُعاقِبُهُم عليه، غير أنَّ معاقبَتَهُ على ما أَخفوهُ ممَّا يعملُوه هو ما يحدث لهم في الدُّنيا من الهَمِّ والغَمِّ والمصائِبِ، والأُمُور التي يحزنزن عليها.
روى الضَّحَّاك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: قالت: سألت رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما حدَّث العبد به نفسهُ من شرٍّ كانت مُحاسبةُ الله - تعالى - عليه، فقال: «يا عائشة، هذه مُعاتَبةُ الله - عزّ وجلّ - العبد بما يُصيبُهُ من الحُمَّى والنّكبة، حتَّى الشَّوكة والبضاعة يضعُهَا
517
في كُمِّهِ فيفقدها فيرُوعُ لها فيجِدُها في ضِبْنه حتَّى إنَّ المؤمن ليخرُجُ من ذُنُوبه؛ كما يخرج التَّبرُ الأحمرُ من الكِبر.»
وعن أنس بن مالكٍ، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِه الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ في الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِه الشَّرَّ أَمْسَك عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوافِيَهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ».
فإن قيل: كيف تحصل المُؤَاخذةُ في الدُّنيا مع قوله: ﴿اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [غافر: ١٧].
قلنا: هذا خاصٌّ، فيُقدَّمُ على ذلك العامِّ.
الخامس: أنه - تعالى - قال: «يُحَاسِبْكُم» ولم يَقُل «يُؤَاخِذْكُم» وقد ذكرنا في معنى كونه حسيباً ومُحَاسباً وجوهاً كثيرة، ومن جملتها كونه عالماً بها، فيرجعُ معنى الآية إلى كونه عالماً بكُلِّ ما في الضَّمائر والسَّرائر.
والمرادُ من المُحاسبة: الإِخبار والتَّعريفُ.
ومعنى الآية: وَإِنْ تُبْدُوا مَافِي أَنْفُسِكُمْ فتعملُوا به أَوْ تُخْفُوهُ ممَّا أضمرتم ونويتم، يحاسبكم به الله، ويُخبركم به، ويُعرفكم إيَّاه ثم يغفر للمؤمنين إظهاراً لفضله، ويعذِّب الكافرين إظهاراً لعدلِهِ.
وهذا معنى قول الضَّحَّاك، ويُروَى عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ يدلُّ عليه أَنَّهُ قال: ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾ ولم يَقُلْ: «يُؤَاخِذْكُمْ»، والمُحاسبةُ غير المُؤَاخذة.
ورُوِي عن ابن عبَّاسٍ أنه - تعالى - إذا جمع الخلائق يُخْبَرهم بما كان في نفوسهم، فالمُؤْمِنُ يُخبِرهُ ويعفو عنه، وأهل الذُّنُوب يُخبرهم بما أَخفوا من التَّكذِيب والذَّنب روى صفوان بن محرز قال: كُنتُ آخِذاً بيد عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فأتاهُ رجلٌ، فقال: كيف سمعتَ رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول في النَّجوى؟ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «
518
إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ يَسْتُرُه من النَّاسِ، فيقُولُ: أي عَبْدِي، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا؟ فيقولُ: نَعَمْ أي ربِّ، ثم يقُول: أي رَبِّ، حتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى في نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قال: فَإِنِّي قد سترتُها عليك في الدُّنيا وقد غَفَرْتُهَا اليَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ [بِيَمِينِهِ]، وأَمَّا الكافِرُ والمُنَافِقُ فَيقُولُ الأَشهادُ هؤلاءِ الَّذِين كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ».
السادس: أنه - تعالى - قال: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ فيكون الغُفرانُ لمن كان كارِهاً لورُودِ تلك الخواطِرِ، والعَذَابُ إن كان مُصِرّاً على تِلك الخواطِرِ مستحسِناً لها.
السابع: المراد كتمان الشَّهادة؛ وهذا ضعيفٌ، لعُموم اللَّفظ.
قوله تعالى: ﴿فَيَغْفِرُ﴾ : قرأ ابن عامر وعاصمٌ برفع «يَغْفِرُ» و «يُعَذِّبُ»، والباقون من السبعةِ بالجزم، وقرأ ابن عباس والأعرجُ وأبو حيوة: «فَيَغْفِرَ» بالنصب.
فأمَّا الرفعُ: فيجوزُ أَنْ يكونَ رفعُه على الاستئنافِ، وفيه احتمالان:
أحدهما: أن يكونَ خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: فهو يَغْفِرُ.
والثاني: أنَّ هذه جملةٌ فعليةٌ من فعلٍ وفاعلٍ، عُطِفت على ما قبلها.
وأمَّا الجزمُ فللعطفِ على الجزاءِ المجزوم.
وأمَّا النصبُ: فبإضمار «أَنْ»، وتكونُ هي وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ معطوف على المصدر المتوهِّم من الفعلِ قبل ذلك، تقديره: تكنْ محاسبةُ، فغفرانٌ، وعذابٌ. وقد رُوي قولُ النابغة بالأوجه الثلاثة، وهو: [الوافر]
519
بجزم: «نَأْخُذْ» عطفاً على «يَهْلِكْ رَبِيعُ» ونصبه ورفعِه، على ما ذُكِرَ في «فَيَغْفِرْ» وهذه [قاعدة مطَّرِدة، وهي أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعلٌ بعد فاءٍ أو واوٍ جاز فيه هذه] الأوجُهُ الثلاثةُ، وإن توسَّطَ بين الشرطِ والجزاءِ، جاز جزمه ونصبه وامتنع رفعه، نحو: إِنْ تَأْتِنِي فَتَزُرْنِي أَوُ فَتَزُورَنِي، أَوْ وَتَزُرْني أَوْ تَزُورَنِي.
وقرأ الجعفي وطلحة بن مصرِّف وخلاَّد: «يَغْفِرْ» بإسقاط الفاء، وهي كذلك في مصحف عبد الله، وهي بدلٌ من الجواب؛ كقوله تعالى: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب﴾ [الفرقان: ٦٨ - ٦٩]. وقال أبو الفتح: «وهي على البدلِ من» يُحاسِبْكُمْ «، فهي تفسيرٌ للمحَاسَبَة» قال أبو حيان: «وليس بتفسيرٍ، بل هما مترتِّبان على المُحَاسَبَةِ». وقال الزمخشريُّ: «ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملة، الحساب؛ لأنَّ التفصيلَ أوضحُ من المفصَّل، فهو جارٍ مجرى بدل البعض من الكلِّ أو بدل الاشتمال؛ كقولك:» ضَرَبْتُ زَيْداً رَأْسَهُ «و» أَحْيَيْتُ زَيْداً عَقْلَهُ «، وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ؛ لحاجةِ القبلتينِ إلى البيان».
قال أبو حيان: وفيه بعضُ مناقشةٍ: أمَّا الأولُ؛ فقوله: «معنَى هذا البدلِ التفصيلُ لجملةِ الحسابِ»، ولس العذابُ والغفرانُ تفصيلاً لجملةِ الحسابِ؛ لأنَّ الحِسَابَ إنما هو تعدادُ حسناتِه وسيئاتِه وحصرُها، بحيث لا يَشُذُّ شيءٌ منها، والغفرانُ والعذابُ مترتِّبان على المُحاسَبَة، فليست المحاسبةُ مفصَّلةٌ بالغفرانِ والعذابِ. وأمَّا ثانياً؛ فلقوله بعد أَنْ ذكر بدل البعض من الكل وبدل الاشتمال: «وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ لحاجةِ القبيلَين إلى البيان»، أمَّا بدلُ الاشتمال، فهو يمكن، وقد جاءَ؛ لأنَّ الفعلَ يدُلُّ على الجنسِ، وتحته أنواعٌ يشتملُ عليها، ولذلك إذا وقع عليه النفيُ، انتفَتْ جميعُ أنواعه، وأمَّا بدلُ البعضِ من الكلِّ، فلا يمكنُ في الفعل إذ الفعلُ لا يقبلُ التجزُّؤَ؛ فلا يقال في الفعلِ له كلٌّ وبعضٌ، إلا بمجازٍ بعيدٍ، فليس كالاسم في ذلك، ولذلك يستحِيلُ وجودُ [بدل] البعضِ من الكلِّ في حق الله تعالى؛ إذ الباري لا يتقسَّم ولا يتبعَّض.
قال شهاب الدين: ولا أدري ما المانعُ من كونِ المغفرة والعذابِ تفسيراً، أو تفصيلاً للحساب، والحسابُ نتيجتُه ذلك، وعبارةُ الزمخشريِّ هي بمعنى عبارة ابن جنِّي، وأمَّا قوله: «إِنَّ بدلَ البعضِ من الكلِّ في الفعْلِ متعذِّرٌ، إذ لا يتحقَّق فيه تجزُّؤٌ»، فليس بظاهرٍ؛ لأنََّ الكليةَ والبعضيةَ صادقتان على الجنس ونوعه، فإنَّ الجنسَ كلٌّ، والنوعَ
520
بعضٌ، وأمَّا قياسُه على الباري تعالى، فلا أدري ما الجامع بينهما؟ وكان في كلام الزمخشريُّ ما هو أولى بالاعتراض عليه. فإنه قال: وقرأ الأعمش: «يَغْفِر» بغير فاءٍ مجزوماً على البدلِ من «يُحَاسِبْكُمْ» ؛ كقوله: [الطويل]
١٣٠٢ - فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ رَبيعُ النَّاسِ وَالبَلَدُ الحَرَامُ
ونَأْخُذْ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ أَجَبَّ الظَّهْر لَيْسَ لَهُ سَنَامُ
١٣٠٣ - مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا
وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه لا يطابق ما ذكره بعد ذلك؛ كما تقدَّم حكايتُه عنه؛ لأن البيت قد أُبدِلَ فيه من فعلِ الشرط، لا من جوابِه، والآية الكريمة قد أُبْدِلَ فيها من نفسِ الجواب، ولكنَّ الجامعَ بينهما كونُ الثاني بدلاً مِمَّا قبلَه وبياناً له.
وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام، والباقون بإظهارها، وأظهر الباء قبل الميم هنا ابن كثير بخلافٍ [عنه]، وورشٌ عن نافع، والباقون بالإِدغام، وقد طَعَن قومٌ على قراءةِ أبي عمرٍو؛ لأنَّ إدغام الراءِ في اللام عندهم ضعيفٌ.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت:» كيف يَقْرأ الجَازِمُ «؟ قلت: يُظْهِر الراءَ، ويُدْغِم الباء، ومُدْغِمُ الراءِ في اللام لاحِنٌ مخطىءٌ خطأً فاحِشاً، وراويه عن أبي عمرٍو مخطىءٌ مرتين؛ لأنه يَلْحَنُ وينسُبُ إلى أعلمِ الناس بالعربية ما يُؤذِنُ بجهلٍ عظيم، والسببُ في هذه الروايات قِلَّةُ ضبطِ الرواة، وسبب قلةِ الضبطِ قلةُ الدراية، ولا يَضْبطُ نحو هذا إلا أهلُ النَّحو» قال شهاب الدين. وهذا من أبي القاسم غيرُ مرضيٍّ؛ إذ القُرَّاء معتنُونَ بهذا الشأن؛ لأنهم تَلقَّوا عن شيوخهم الحرفَ [بعد الحَرْفِ]، فكيف يقلُّ ضبطُهُم؟ وهو أمرٌ يُدْرَكُ بالحسِّ السمعيِّ، والمانعُ من إدغام الراءِ في اللام والنونِ هو تكريرُ الراءِ وقوتُها، والأقوى لا يدغم في الأضعَف، وهذا مَذهبُ البصريِّين: الخليل وسيبويه ومَنْ تبعهما، وأجاز ذلك الفراءُ والكسائيُّ والرُّؤاسيُّ ويعقوبُ الحضرميُّ ورأسُ البصريِّين أبو عمرو، وليس قوله: «إن هذه الرواية غلطٌ علَيْه» بمُسَلَّم، ثم ذكر أبو حيان نقولاً عن القراء كثيرةٌ، وهي منصوصة في كتبهم، فلم أرَ لذكرها هنا فائدةً؛ فإنَّ مجموعها مُلَخَّصٌ فيما ذكرته، [وكيف] يقال: إنَّ الراوي ذلك عن أبي عمرو مخطىءٌ مرتين، ومن جملة رُواتِهِ اليزيديُّ إمامُ النَّحو واللغةِ، وكان يُنازعُ الكسائيُّ رئاسته، ومحلُّهُ مشهُور بين أهلِ هذا الشَّأْن.
521
روى طاوُس عن ابنِ عبَّاس: «فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ» الذَّنب العَظِيم «ويُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ على الذَّنْبِ الصَّغِير، لا يُسْأَلَ عمَّا يَفْعَل وهُمْ يُسْأَلُون، واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير».
قوله: ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قد بيَّن بقوله تعالى: ﴿للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أنه كامل الملك والمَلَكُوتِ، وبيَّن بقوله: ﴿إِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾ أنه كامل العِلْمِ والإحاطةِ، ثم بيَّن بقوله: ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أنه كامِل القُدْرة، مُسْتَولٍ على كل المُمكِنَات بالقَهرِ والقُدرة والتَّكوين والإِعدام، ومن كان موصوفاً بهذه الصِّفات، يجبُ على كُلِّ عاقِلٍ أن يكون عَبْداً له مُنْقَاداً خاضِعاً لأوامرهِ ونواهِيهِ.
522
في كيفية النَّظم وجوهٌ:
الأول: لما بيَّن في الآيةِ المتقدِّمة كمال المُلْكِ والعلم والقُدرةِ له - تعالى -، وأنَّ ذلك يوجب كمال صفة الرُّبُوبيَّة، أَتْبَع ذلك ببيان كون المؤمن في نهاية الانقياد والطَّاعة والخُضُوع لله - تعالى -، وذلك هو كمالُ العُبُوديَّة.
الثاني: أنه - تعالى - لَمَّا قال: ﴿إِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾ [البقرة: ٢٨٤] وبيَّن أنه لا يخفى عليه من سِرِّنا وجهرنا شيءٌ أَلبتَّة، ذكر عقيب ذلك ما يَجْرِي مُجْرَى المَدْحِ لنا؛ فقال: ﴿آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون﴾ كأنَّهُ بفضله يقول: عبدي، أنا وإن كُنْتُ أعلم جميع أحوالِك، فلا أَذكُرُ مِنها إِلاَّ ما يكون مدحاً لك، حتى تَعْلَمَ أَنِّي الكامِلُ في العِلم والقُدْرَة، فأنا كامِلٌ في الجُودِ والرَّحْمَةِ، وفي إِظهارِ الحسناتِ، وفي السَّتْرِ على السَّيِّئَاتِ.
الثالث: أنه بَدَأَ السُّورة بمدح المُتَّقين ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣] بيَّن في آخر السُّورة أنَّ الَّذِين مدحهُم في أوَّل السُّورة هم أُمَّةُ محمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: ﴿والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملاائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ وهذا هو المراد بقوله في أَوَّل السُّورة: ﴿يُؤْمِنُونَ بالغيب﴾ [البقرة: ٣]، ثم قال هَهُنا ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير﴾ وهو المراد بقوله أَوَّل السُّورة: ﴿وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: ٤] ثم
522
حكى عنهم هَهُنَا كيفيَّة تضرُّعِهِمِ في قولهم: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ... ﴾ [البقرة: ٢٨٦] إلى آخر السُّورَة، وهو المراد بقوله أَوَّل السورة: ﴿أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون﴾ [البقرة: ٥].

فصلٌ في بيان سبب النُّزُول


قال القرطبيُّ: سبب نزول هذه الآية: الآيةُ الَّتِي قبلها، وهو قوله: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾ [البقرة: ٢٨٤] فإنه لمَّا نزل هذا على النَّبيِّ صلى الله عليه سولم اشتدَّ ذلك على أصحابِ رسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم بَرَكُوا على الرُّكب، فقالوا: أي رسولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذْ كُلِّفْنَا من الأَعمالِ ما نُطِيق؛ الصَّلاة والصِّيام والجِهَادُ، وقد أُنزِل عليكَ هذه الآيُ ولا نُطِيقُهَا، فقال رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الكِتَابَيْنِ من قَبْلِكُمْ: سَمِعنَا وعَصَيْنَا، بل قولُوا: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ» فلما قَرَأَها القومُ وذَلَّت بها أنْفُسُهْم، أَنزَل اللهُ في إِثرها ﴿آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ﴾ إلى قوله: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير﴾ فلما فعلُوا ذلك، نسخَها اللهُ، فأنزلَ اللهُ
﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت﴾ [البقرة: ٢٨٦] قال: نعم، ﴿رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا﴾ قال: نعم ﴿رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ قال: نعم ﴿واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾ قال: نعم أخرجهُ مسلمٌ، عن أبي هُرَيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -

فصلٌ


معنى قوله: ﴿آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ﴾ : أنه عَرَفَ بالدَّلائل القاهرة؛ أن هذا القُرْآن وجُملة ما فيه من الشَّرائع والأَحكامِ مُنزَّلٌ من عِندِ الله - تعالى -، وليس من إلقاء الشَّيَاطين ولا السِّحر والكهانة، بل بما ظَهر من المُعجزات على يد جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
وقوله: ﴿والمؤمنون﴾ فيه احتمالان:
أحدهما: أَنَّهُ يَتِمُّ الكلامُ عند قوله - تعالى - ﴿والمؤمنون﴾، فيكُونُ المعنى: آمَن الرَّسُولُ والمُؤْمِنُونَ بما أُنزِل إِلَيهم من ربِّهم، ثم ابتدأ [بعد] ذلك بقوله: ﴿كُلٌّ آمَنَ بالله﴾ والمعنى: كُلُّ أحَدٍ من المذكُورين وهم الرَّسُول والمُؤْمِنُون آمَنَ بالله.
والاحتمال الثَّاني: أن يتمَّ الكلامُ عند قوله: ﴿بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ﴾ ثم يَبْتَدِىءُ
523
﴿المؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله﴾ ويكون المعنى: أن الرَّسول آمَنَ بكُلِّ ما أُنزلَ إليه من ربِّه، وأمَّا المُؤْمِنُونَ فإِنَّهم آمَنُوا بالله ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ.
فالوجه الأول يشعر بأنه - عليه السَّلام - ما كان مؤمناً بِرَبِّه، ثم صار مُؤْمِناً به، ويَحْتمِلُ عدم الإِيمان إلى وقت الاستدلالِ.
وعلى الوجه الثاني يُشْعِر اللَّفظُ بأنَّ الَّذِي حدث هو إيمانُهُ بالشَّرائع التي نَزَلَتْ عليه؛ كما قال - تعالى - ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان﴾ [الشورى: ٥٢] فأمَّا الإِيمانُ بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ على الإِجمال، فقد كان حاصلاً منذُ خُلِقَ من أَوَّل الأَمْرِ، وكيف يُسْتَبْعَدُ ذلك مع أَنَّ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - حين انفصَلَ عن أُمِّهِ، قال ﴿إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب﴾ [مريم: ٣٠] فإذا لم يَبْعُد أن يكُونَ عيسى رسولاً من عند اللهِ حين كان طِفْلاً، فكيف يُستبعد أن يقال: إن محمَّداً كان عارفاً بربِّه من أَوَّل [مَا] خُلِقَ كامل العقلِ.

فصلٌ


دلَّت الآية على أنَّ الرَّسُول آمَنَ بما أُنزِل إليه من رَبِّه، والمؤْمِنُون آمَنُوا بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، وإنما خُصَّ الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسَّلام - بذلك؛ لأنَّ الذي أُنزِل إليه من رَبِّه قد يكُونُ كلاماً مَتْلُوّاً يسمعهُ الغير ويعرِفُه، فيمكنُه أن يؤمن به، وقد يكون وحياً لا يعلمُه فيكونُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - مُختصّاً بالإيمان به، ولا يتمكَّنُ غيره من الإِيمان به، فلهذا السَّبب كان الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مختصّاً في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره.
قوله تعالى: ﴿والمؤمنون﴾ : يجوزُ فيه وجهان:
أحدهما: أنه مرفوعٌ بالفاعلية عطفاً على «الرَّسُول» - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيكونُ الوقفُ هنا، ويدُلُّ على صحَّةِ هذه قراءةُ عليّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه -: «وَآمَنَ المُؤْمِنُونَ»، فأَظْهَرَ الفعلَ، ويكون قوله: «كُلٌّ آمَنَ» جملةً من مبتدأ وخبر يدُلُّ على أنَّ جميع مَنْ تقدَّم ذكره آمَنَ بما ذكر.
والثاني: أن يكون «المُؤْمِنُونَ» مبتدأٌ، و «كلٌّ» مبتدأ ثانٍ، و «آمَنَ» خبرٌ عن «كُلّ» وهذا المبتدأ وخبرُه خبرُ الأوَّل؛ وعلى هذا فلا بُدَّ من رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين ما أخبر بها عنه، وهو محذوفٌ، تقديرُه: «كُلٌّ مِنْهُمْ» وهو كقولهم: «السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَم»، تقديرُه: مَنَوَانِ مِنْهُ، قال الزمخشريُّ: «والمؤمنُونَ إن عُطِفَ على الرسول، كان الضّميرُ الذي التنوينُ نائبٌ عنه في» كُلّ «راجعاً إلى» الرَّسُول «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - و» المُؤْمِنُونَ «أي: كلُّهم آمَنَ بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ من المذكورين. ووُقِفَ عليه، وإن كان مبتدأً كان الضميرُ للمؤمنين».
524
فإن قيل: هل يجوزُ أَنْ يكون «المُؤْمِنُونَ» مبتدأ، و «كُلٌّ» تأكيد له، و «آمَنَ» [خبر هذا] المبتدأ؟ فالجوابُ: أنَّ ذلك لا يجوزُ؛ لأنهم نَصُّوا على أَنَّ «كُلاًّ» وأخواتها لا تقعُ تأكيداً للمعارف، إلا مضافةٌ لفظاً لضميرِ الأولِ، ولذلك ردُّوا قولَ مَنْ قال: إِنَّ كُلاًّ في قراءة مَنْ قَرَأَ: ﴿إِنَّا كُلاًّ فِيهَآ﴾ [غافر: ٤٨] تأكيدٌ لاسم «إِنَّ» وقرأ الأَخَوان هنا «وَكِتَابِهِ» بالإِفراد، والباقون بالجمعِ، وفي سورة التحريم [آية١٢] قرأ أبو عمرو وحفصٌ عن عاصم بالجَمْع، والباقون بالإفراد، فتلخّصَ من ذلك أنَّ الأخوين يَقْرَآن بالإِفراد في الموضعين، [وأنَّ أبا عمرو وحفصاً يقْرآن بالجمعِ في الموضعَيْن]، وأنَّ نافعاً وابن كثير وابن عامر وأبا بكر عن عاصمٍ قَرَءُوا بالجمع هنا، وبالإِفرادِ في التحريم.
فأمَّا الإِفرادُ، فإنه يُراد به الجنسُ، لا كتابٌ واحدٌ بعينه، وعن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «الكتَابُ أكثرُ من الكُتُب» قال الزمخشريُّ: فإنْ قلت: كيف يكون الواحدُ أكثرَ من الجمعِ؟ قلت: لأنه إذا أُريد بالواحدِ الجنسُ، والجنسيةُ قائمةٌ في وحداتِ الجنس كُلِّها، لَمْ يَخْرُج منه شيءٌ، وأمَّا الجمعُ، فلا يَدْخُل تحته إلاَّ ما فيه الجنسية من الجُمُوع. قال أبو حيان: «وليس كما ذكر؛ لأنَّ الجمعَ متى أُضيفَ، أو دَخَلَتْه الألفُ واللامُ [الجنسية]، صارَ عامّاً، ودلالةُ العامِّ دلالةٌ على كلِّ فردٍ فردٍ، فلو قال:» أَعْتَقْتُ عَبِيدِي «، لشمل ذلك كلَّ عَبْدٍ له، ودلالةُ الجمعِ أظهرُ في العموم من الواحدِ، إلاَّ بقرينةٍ لفظيَّةٍ، كأَنْ يُسْتَثْنَى منه أو يوصفَ بالجمع؛ نحو: ﴿إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ﴾
[العصر: ٢ - ٣] «أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ والدِّرْهَمُ البِيضُ»
أو قرينةٍ معنويةٍ؛ نحو: «نِيَّة المُؤْمِنِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ» وأقصى حالِهِ: أن يكونَ مثل الجمعِ العامِّ، إذا أريد به العموم «. قال شهاب الدِّين: للناس خلافٌ في الجمع المحلَّى بأَلْ أو الضمافِ: هل عمومُه بالنسبةِ إلى مراتبِ الجموعِ، أم إلى أعمَّ من ذلك، وتحقيقُه في علم الأُصُول. وقال الفارسيُّ: هذا الإِفرادُ ليس كإفراد المصادر، وإن أريدَ بها الكثيرُ؛ كقوله تعالى: ﴿وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً﴾ [الفرقان: ١٤] ولكنه كما تُفْرَدُ الأسماءُ التي يُرَاد بها الكثرةُ، نحو: كَثُرَ الدِّينَارُ والدِّرهمُ، ومجيئها بالألف واللام أكثرُ من مجيئها مضافةً، ومن الإِضافةِ: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: ٣٤] وفي الحديث:» مَنَعَتِ العِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا «يُراد به الكثيرُ، كما يُراد بما فيه لامُ التعريف. قال أبو حيان:» انتهى
525
ملخصاً، ومعناه أنَّ المفرد المحلَّى بالألفِ واللام يعُمُّ أكثر من المفرد المُضافِ «.
قال شهاب الدين: وليس في كلامه ما يدُلُّ على ذلك ألبتةَ، إنما فيه أنَّ مجيئها في الكلامِ معرَّفةً بأَلْ أكثرُ من مجيئها مضافةً، وليس فيه تَعَرُّضٌ لكثرةِ عمومٍ ولا قِلَّتِهِ.
وقيل: المرادُ بالكتابِ هنا القرآن؛ فيكونُ المرادُ الإِفراد الحقيقيَّ. وأمَّا الجمعُ، فلإِرادةِ كلِّ كتابٍ؛ إذْ لا فرق بين كتابٍ وكتابٍ، وأيضاً؛ فإنَّ فيه مناسبةً لَما قبلَه وما بعدَه من الجمعِ.
ومَنْ قرأ بالتَّوحيد في التحريم، فإنما أراد به الإِنجيل؛ كإرادة القرآن هنا، ويجوزُ أن يُرادَ به أيضاً الجِنْسُ، وقد حَمَلَ على لفظ»
كُلّ «في قوله:» آمَنَ «فَأَفْرد الضمير، وعلى معناه، فجمع في قوله:» وَقَالُوا سَمِعْنَا «، قال الزمخشريّ: ووحَّد ضمير» كُلّ «في» آمَنَ «على معنى: كُلُّ واحدٍ منهم آمَنَ، وكان يجوزُ أن يُجْمَعَ؛ كقوله تعالى: ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ [النمل: ٨٧].
وقرأ يحيى بن يعمر - ورُويت عن نافع -»
وكُتْبِهِ وَرُسْلِهِ «بإسكان العين فيهما، ورُوي عن الحسن وأبي عمرو تسكين سين» رُسْلِهِ «.

فصلٌ


دلَّت هذه الآية الكريمة على أنَّ معرفة هذه المراتب الأربع من ضرورات الإيمان: فالمرتبة الأولى: هي الإيمانُ بالله - سبحانه - بأنَّهُ الصَّانع القادِرُ العالِمُ بجميع المعلومات، الغنيُّ عن كُلِّ الحاجات.
والمرتبة الثانية: الإِيمانُ بالملائكة؛ لأَنَّه - سبحانه - إنَّما يُوحِي إلى الأَنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بواسطة الملائكة، قال: ﴿يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [النحل: ٢]، وقال: ﴿فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ﴾ [الشورى: ٥١] وقال: ﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: ١٩٣ - ١٩٤]، وقال: ﴿شَدِيدُ القوى﴾ [النجم: ٥]، وإذا ثبت أنَّ وحي اللهِ إنَّما يصلُ إلى البشر بواسطة الملائكة، فالملائكة واسطةٌ بين اللهِ وبيْن البشرِ؛ فلهذا السَّبب ذكر الملائكة في المرتبة الثانية، ولهذا قال: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط﴾
[آل عمران: ١٨].
والمرتبة الثالثة: الكُتُب؛ وهو الوَحْي الذي يتلقَّاهُ الملك من اللهِ - تعالى -، ويُوصِلُه إلى البشر، فلمَّا كان الوَحْيُ هو الَّذِي يتلقَّاهُ المَلَكُ من اللهِ؛ فلهذا السَّبَب جُعِلَ في المرتبة الثالثة.
526
المرتبة الرابعة: الرسُلُ؛ وهم الَّذِين يأخذُون الوَحْيَ من الملائكة، فيكونون متأخِّرين عن الكتب؛ فلهذا جعلُوا في المرتبة الرابعة.
قوله: ﴿لاَ نُفَرِّقُ﴾ هذه الجملة منصوبةٌ بقولٍ محذوف، تقديره: «يقولون: لا نُفَرِّقُ»، ويجوز أن يكون التقدير: «يَقُولُ» يعني يجوز أن يراعى لفظ «كُلّ» تارةً، ومعناها أخرى في ذلك القول المقدَّر، فمن قدَّر «يَقُولُونَ»، راعى معناها ومن قدَّر «يَقُولُ»، راعى لفظها، وهذا القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحال، ويجوز أن يكون في محلِّ رفعٍ؛ لأنه خبر بعد خبر، قاله الحوفيُّ.
والعامَّة على «لاَ نُفَرِّقُ» بنون الجمع.
وقرأ ابن جبير وابن يعمر وأبو زرعة ويعقوب - ورويت عن أبي عمرو أيضاً - «لا يُفَرِّقُ» بياء الغيبة؛ حملاً على لفظ «كُلّ»، وروى هارون أنَّ في مصحف عبد الله «لا يُفَرِّقُونَ» بالجمع؛ حملاً على معنى «كُلّ» ؛ وعلى هاتين القراءتين، فلا حاجة إلى إضمار قولٍ، بل الجملة المنفية بنفسها: إمَّا في محلِّ نصب على الحال، وإمَّا في محلّ رفعٍ خبراً ثانياً؛ كما تقدَّم في ذلك القول المضمر.
قوله: ﴿بَيْنَ أَحِدٍ﴾ متعلِّقٌ بالتفريق، وأضيف «بَيْنَ» إلى أحد، وهو مفرد، وإن كان يقتضي إضافته إلى متعدد؛ نحو: «بَيْنَ الزَّيْدَيْنِ» أو «بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو»، ولا يجوز «بَيْنَ زَيْدٍ»، ويسكت - إمَّا لأنَّ «أَحَداً» في معنى العموم، وهو «أَحَد» الذي لا يستعمل إلا في الجحد، ويراد به العموم؛ فكأَنَّه قيل: لا نفرِّق بين الجميع من الرسل، قال الزمخشريُّ: كقوله: ﴿فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٧]، ولذلك دخل عليه «بَيْنَ» وقال الواحدي: و «بَيْنَ» تقتضي شيئين فصاعداً، وإنما جاز ذلك مع «أَحَدٍ»، وهو واحدٌ في اللفظ؛ لأنَّّ «أَحَداً» يجوز أن يؤدِّي عن الجميعِ؛ قال الله تعالى: ﴿فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٧] وفي الحديث: «مَا أُحِلَّت الغَنَائِمُ لأَحَدٍ سُودِ الرُّءُوسِ غَيْركُمْ»، يعني: فوصفه بالجمع؛ لأنَّ المراد به جمعٌ، قال: وإنَّما جاز ذلك؛ لأنَّ «أَحَداً» ليس كرجل يجوز أن يثنَّى ويجمع، وقولك: «مَا يَفْعَلُ هَذَا أَحَدٌ»، تريد ما يفعله الناس كلُّهم، فلما كان «أَحَد» يؤدَّى عن الجميع، جاز أن يستعمل معه لفظ «بَيْنَ»، وإن كان لا يجوز أن تقول: «لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْهُمْ».
قال شهاب الدين: وقد ردَّ بعضهم هذا التأويل؛ فقال: وقِيلَ إنَّ «أَحَداً» بمعنى «جميع»، والتقدير: «بَيْنَ جَمِيعِ رُسُلِهِ» ويبعد عندي هذا التقدير، لأنه لا ينافي كونهم مفرِّقين بين بعض الرسل، والمقصود بالنفي هو هذا؛ لأن اليهود والنصارى ما كانوا
527
يفرّقون بين كلِّ الرسل، بل البعض، وهو محمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ فثبت أنَّ التأويل الذي ذكروه باطلٌ، بل معنى الآية: لا نُفَرِّقُ بين أحدٍ من رسله، وبين غيره في النبوَّة.

فصل


قال شهاب الدين: وهذا وإن كان في نفسه صحيحاً، إلا أنَّ القائلين بكون «أَحَد» بمعنى «جميع»، وإنما يريدون في العموم المصحِّح لإضافة «بَيْنَ» إليه؛ ولذلك ينظِّرونه بقوله تعالى: ﴿فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾ [الحاقة: ٤٧]، وبقوله: [الرجز]
١٣٠٤ - إِذَا أُمُورُ النَّاسِ دِيكَتْ دَوْكَا لاَ يَرْهَبُونَ أَحَداً رَأَوْكَا
فقال: «رَأَوْكَ» ؛ اعتباراً بمعنى الجميع المفهوم من «أَحَد».
وإمَّا لأن ثمَّ معطوفاً محذوفاً؛ لدلالة المعنى عليه، والتقدير: «لاَ نُفَرِّقُ بين أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وبَيْنَ أَحَدٍ» وعلى هذا: فأحد هنا ليس الملازم للجحد، ولا همزته أصليةٌ، بل هو «أَحَد» الذي بمعنى واحد، وهمزته بدلٌ من الواو، وحذف المعطوف كثيرٌ جدّاً، نحو: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] أي: والبرد، وقوله: [الطويل]
١٣٠٥ - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً أَبُو حُجُرٍ إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
أي: بين الخير وبيني.
و «مِنْ رُسُلِهِ» في محلِّ جرٍّ؛ لأنه صفةٌ ل «أَحَد»، و «قَالُوا» عطفٌ على «آمَنَ»، وقد تقدَّم أنه حمل على معنى «كُلّ».

فصل


قال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» أي: سمعنا قوله، وأطعنا أمره، إلاَّ أنه حذف المفعول.
قال ابن الخطيب: وحذف المفعول في هذا الباب ظاهراً وتقديراً، أولى؛ لأنَّك إذا جعلت التَّقدير: سمعنا قوله وأطعنا أمره، أفاد أن ههنا قول آخر غير قوله، وأمر آخر يطاع سوى أمره، فأمَّا إذا لم يقدَّر فيه ذلك المفعول، أفاد أنَّه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلاَّ قوله، وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته أطعنا إلاَّ أمره، فكان حذف المفعول صورةً ومعنًى في هذا الموضع أولى.
528

فصل


لما وصفهم بقوله: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا»، علمنا أنه ليس المراد منه السَّماع الظَّاهر؛ لأن ذلك لا يفيد المدح، بل المراد: عقلناه وعلمنا صحَّته، وتيقَّنا أنَّ كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء - عليهم السلام - إلينا، فهو حقٌّ صحيحٌ واجبٌ قبوله وسمعه، والسَّمع بمعنى القبول والفهم واردٌ في القرآن؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ﴾
[ق: ٣٧]، والمعنى: لمن سمع الذِّكرى بفهم حاضرٍ، وعكسه قوله تعالى: ﴿كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً﴾ [لقمان: ٧]، وقولهم بعد ذلك: «وَأَطَعْنَا» فدلَّ على أنَّهم ما أَخلُّوا بشيءٍ من التَّكاليف، فجمع تعالى بهذين اللَّفظين كلَّ ما يتعلَّق بأحوال التَّكاليف علماً وعملاً.
قوله: «غُفْرَانَكَ» منصوبٌ: إمَّا على المصدرية، قال الزمخشريُّ: «منصوبٌ بإضمار فعله، يقال:» غُفْرَانَكَ، لاَ كُفْرَانَكَ «أي: نستغفرك ولا نكفرك، فقدَّره جملةً خبريةً، وهذا ليس مذهب سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إنما مذهبه تقدير ذلك بجملةٍ طلبية؛ كأنه قيل:» اغْفِرْ غُفْرَانَكَ «ويستغنى بالمصدر عن الفعل نحو:» سقياً ورعياً «ونقل ابن عطيَّة هذا قولاً عن الزَّجَّاج، والظاهر أنَّ هذا من المصادر اللازم إضمار عاملها؛ لنيابتها عنه، وقد اضطرب فيها كلام ابن عصفور، فعدَّها تارةً مع ما يلزم فيه إضمار الناصب؛ نحو:» سُبْحَانَ اللهِ، [ورَيْحَانَهُ «]، و» غُفْرَانَكَ لاَ كُفْرَانَكَ «، وتارةً مع ما يجوز إظهار عامله، والطلب في هذا الباب أكثر، وقد تقدَّم في أول الفاتحة نحو من هذا.
وقال الفرَّاء: هو مصدرٌ وقع موقع الأمر، فنصب وهو أولى من قول من يقول:»
نَسْأَلك غُفْرَانَكَ «لأن هذه الصِّيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى، فقد كانت أدلَّ عليه؛ ونظيره: حمداً وشكراً، أي: أحْمَدُ حَمْداً وأشْكُر شُكْراً.
فإن قيل: إن القوم لما قبلوا التَّكاليف، وعملوا بها، فأيُّ حاجةٍ لهم إلى طلب المغفرة؟ فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّهم وإن بذلوا جهدهم في أداء التَّكاليف، فهم خائفون من صدور تقصيرٍ، فلمَّا جوَّزوا ذلك، طلبوا المغفرة للخوف من التَّقصير.
الثاني: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -»
[إِنَّهُ لَيُغَانُ] عَلَى قَلْبِي، حَتّى أَنِّي أَسْتَغْفِرُ اللهَ في اليَوْمِ واللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّة «، وذكروا لهذا الحديث تأويلات؛ من جملتها: أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يترَقَّى في
529
جملة العبوديَّة، فكان كلما ترقَّى عن مقام إلى مقام أعلى من الأوَّل، رأى الأوَّل حقيراً، فيستغفر الله منه؛ فكذلك طَلَبُ الغفران في هذه الآية. والمصير: اسم مصدر من صار يصير: أي: رجع، وقد تقدَّم في قوله: ﴿المحيض﴾ [البقرة: ٢٢٢] أنَّ في المفعل من الفعل المتعلِّ [العين] بالياء ثلاثة مذاهب، وهي: جريانه مجرى الصحيح، فيبنى اسم المصدر منه على مفعل بالفتح، والزمانُ والمكان بالكسر، نحو: ضَرَبَ يَضْرِب مَضْرِباً، أو يُكْسَرُ مطلقاً، أو يُقْتَصَرُ فيه على السَّماع، فلا يتعدَّى، وهو أعدلها، ويطلق المصير على المِعَى، ويجمع على مصران، كرغيفَ ورغفان، ويجمع مصران على مصارين.

فصل


في قوله - تبارك وتعالى -: ﴿وَإِلَيْكَ المَصِيرُ﴾ فائدتان:
إحداهما: أنَّهم كما أقرُّوا بالمبدإ؛ فكذلك أقرُّوا بالمعاد؛ لأن الإيمان بالمبدإ أصل الإيمان بالمعاد.
والثانية: أن العبد متى علم أنَّه لا بدَّ من المصير إليه، والذهاب إلى حيث لا حكم إلاَّ حكم الله - تعالى -، ولا يستطيع أحدٌ [أن] يشفع إلاَّ بإذن الله، كان إخلاصه في الطَّاعات أتمَّ، واحترازه عن السَّيِّئات أكمل.
530
قوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين﴾ قوله تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} :«وُسْعَهَا» مفعولٌ ثانٍ، وقال ابن عطية: «يُكَلِّفُ يتعدَّى إلى مفعولين، أحدهما محذوفٌ، تقديره: عبادةً أو شيئاً». قال أبو حيان: «إن غَنَى أنَّ أصله كذا، فهو صحيحٌ؛ لأنَّ قوله:» إِلاَّ وُسْعَهَا «استثناءٌ مفرَّغٌ من المفعول الثاني، وإن عَنَى أنَّ أصله كذا، فهو صحيحٌ؛ لأنَّ قوله:» إِلاَّ وُسْعَهَا «استثناءٌ مفرَّغٌ من المفعول الثاني، وإن عَنَى أنَّه محذوفٌ في الصنعة، فليس كذلك، بل الثاني هو» وُسْعَهَا «؛ نحو:» مَا أَعْطَيْتُ زَيْداً إِلاَّ دِرْهَماً «، و» مَا ضَرَبْتُ إِلاَّ زَيْداً «هذا في الصناعة هو المفعول، وإن كان أصله: ما أعْطَيْتُ زَيْداً شَيْئاً إِلاَّ دِرْهَماً»، والوسع: ما يسع الإنسان، ولا يضيق عليه، ولا يخرج منه. قال الفرَّاء: هو اسم كالوجد والجهد. وقال بعضهم: الوسع هو هدون المجهود في المشقَّة، وهو ما يتَّسع له قدرة الإنسان.
530
وقرأ ابن أبي عبلة: «إِلا وَسِعَهَا» جعله فعلاً ماضياً، وخرَّجوا هذه القراءة على أنَّ الفعل فيها صلةٌ لموصول محذوفٍ تقديره: «إِلاَّ ما وَسِعَهَا» وهذا الموصول هو المفعول الثاني، كما كان «وُسْعَهَا» كذلك في قراءة العامَّة، وهذا لا يجوز عند البصريِّين، بل عند الكوفيِّين، على أنَّ إضمار مثل هذا الموصول ضعيفٌ جدّاً؛ إذ لا دلالة عليه؛ وهذا بخلاف قول الآخر حيث قال: [الخفيف]
١٣٠٦ - مَا الَّذِي دَأْبُهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ وَهَوَاهُ أَطَاعَ يَسْتَوِيَانِ
وقال حسَّان أيضاً -[الوافر]
١٣٠٧ - أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ وَيَنْصُرُهُ وَيَمْدَحُهُ سَواءُ
وقد تقدَّم تحقيق هذا، وهل لهذه الجملة محلٌّ من الإعراب، أم لا؟ الظاهر الثاني؛ لأنها سيقت للإخبار بذلك، وقيل: بل محلُّها نصبٌ؛ عطفاً على «سَمِعْنَا» و «أَطَعْنَا»، أي: وقالوا أيضاً: لا يكلِّف الله نفساً، وقد خرِّجت هذه القراءة على وجه آخر؛ وهو أن تجعل المفعول الثاني محذوفاً لفهم المعنى، وتجعل هذه الجملة الفعليَّة في محلِّ نصبٍ لهذا المفعول، والتقدير: لا يكلِّف الله نفساً شيئاً إلا وسعها. قال ابن عطية: وفي قراءة ابن أبي عبلة تجوُّزٌ؛ لأنه مقلوبٌ، وكان يجوز وجه اللفظ: إلا وسعته؛ كما قال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض﴾ [البقرة: ٢٥٥] ﴿وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ [طه: ٩٨]، ولكن يجيء هذا من باب «أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رَأْسِي».

فصل في كيفيَّة النَّظم


إن قلنا إِنَّه من كلام المؤمنين، فإنَّهم لمَّا قالوا: «سَمِعْنَا وأَطَعْنَا» فكأنَّهم قالوا: كيف نسمع ولا نطيع، وهو لا يكلِّفنا إلاَّ ما في وسعنا وطاقتنا بحكم الرَّحمة الإلهيَّة.
وإن قلنا: إنه من كلام الله - تبارك وتعالى -، فإنَّهم لمَّا قالوا: «سَمِعْنَا وَأَطْعْنَا» ثم قالوا بعده: «غُفْرَانَكَ رَبَّنَا»، طلبوا المغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التَّقصير على سبيل الغفلة [والسَّهو؛ لأنَّهم لمَّا سمعوا وأطاعوا، لم يتعمّدوا التَّقصير، فطلبوا المغفرة لما يقع منهم على سبيل الغفلة]، فلا جرم خفَّف الله عنهم، وقال: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ والتَّكليف: هو إلزام ما فيه كلفة ومشقَّة، يقال: كلَّفته فتكلَّف.

فصل في بيان مسألة تكليف ما لا يطاق


استدلَّ المعتزلة بهذه الآية الكريمة ونظائرها؛ كقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ
531
حَرَجٍ} [الحج: ٧٨]، ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾ [البقرة: ١٨٥]، ﴿يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ [النساء: ٢٨] على أنه لا يجوز تكليف ما لا يطاق، وإذا ثبت هذا فههنا أصلان:
الأول: أن العبد موجدٌ لأفعال نفسه؛ لأنه لو كان موجدها هو الله تعالى، لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق، فإن الله تعالى إذا خلق الفعل وقع لا محالة، ولا قدرة للعبد ألبتَّة على فعله ولا تركه؛ أمَّا أنَّه لا قدرة له على الفعل؛ فلأنَّ ذلك الفعل وجد بقدرة الله تعالى، والموجود لا يوجد ثانياً، وأمَّا أنَّه لا قدرة للعبد على الدَّفع، فلأنَّ قدرته أضعف من قدرة الله تعالى، فكيف تقوى قدرته على دفع قدرة الله تعالى، وإذا لم يخلق الله الفعل، استحال أن يكون للعبد قدرة على تحصيل الفعل؛ فثبت أنَّه لو كان موجد فعل العبد هو الله، فكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق.
الثاني: أن الاستطاعة قبل الفعل، وإلاَّ لكان الكافر المأمور بالإيمان لم يكن قادراً على الإيمان، فكان ذلك تكليفاً بما لا يطاق.
وأجيبوا: بأنَّ الدَّلائل العقليَّة دلَّت على وقوع هذا التَّكليف، فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية، وذلك من وجوهٍ:
أحدها: أنَّ من مات على الكفر، تبيَّنَّا بموته على الكفر أنَّ الله تعالى كان في الأزل عالماً بأنَّه يموت على الكفر، ولا يؤمن أصلاً، فكان العلم بعدم الإيمان موجوداً، والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان، فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفاً بالجمع بين النَّقيضين، وهذه الحجَّة كما جرت في العلم، فتجري أيضاً في الجر.
وثانيها أيضاً: أن صدور الفعل عند العبد يتوقَّف على الدَّاعي، وتلك الدَّاعية مخلوقةٌ لله تعالى، ومتى كان الأمر كذلك، لزم تكليف ما لا يطاق؛ لأنَّ قدرة العبد لمَّا كانت صالحةً للفعل والترك، فلو ترجَّح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجِّح، لزم وقوع الممكن من غير مرجِّح، وذلك نفيٌ للصَّانع.
وإنما قلنا: إن تلك الدَّاعية من الله تعالى؛ لأنَّها لو كانت من العبد، لافتقر إيجادها إلى داعيةٍ أخرى ولزم التَّسلسل، وإنما قلنا: إنه متى كان الأمر كذلك، لزم الجبر، لأنَّ عند حصول الدَّاعية المرجِّحة لأحد الطَّرفين، صار الطَّرف الآخر مرجوحاً، والمرجوح ممتنع الوقوع، وإذا كان المرجوح ممتنعاً، كان الرَّاجح واجباً ضرورة أنَّه لا خروج عن النَّقيضين؛ فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعاً وهو مكلّف به، فلزم تكليف ما لا يطاق.
وثالثها: أنه تعالى كلَّف «أبَا لَهَب» بالإيمان، والإيمان تصديق الله في كلِّ ما أخبر عنه، ومن جملة ما أخبر عنه أنه لا يؤمن، فقد صار «أبُو لَهَب» مكلَّفاً بأن يؤمن بأنَّه لا يؤمن، وذلك تكليف ما لا يطاق.
532
ورابعها: أن العبد غير عالم بتفاصيل فعله؛ لأن من حرَّك أصبعه، لم يعرف عدد الأحيان التي حرَّك أصبعه فيها، ولم يخطر بباله أنه حرَّك أصبعه في بعض الأوقات، وسكن في بعضها وأنَّه أين تحرَّك وأين سكن، وإذا لم يكن عالماً بتفاصيل فعله، لم يكن موجداً لها، وإذا لم يكن موجداً، لزم تكليف ما لا يطاق.

فصل في تأويل هذه الآية


اختلفوا في تأويل هذه الآية:
فقال ابن عباس وعطاء وأكثر المفسِّرين: أراد به حديث النَّفس المذكور في قوله: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ [البقرة: ٢٨٤].
وروي عن ابن عباس؛ أنه قال: هم المؤمنون خاصَّة، وسَّع الله عليهم أمر دينهم، ولم يكلِّفهم فيه إلاَّ ما يطيقونه؛ كقوله: ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾ [البقرة: ١٨٥]، وقوله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨].
قوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ هذه الجملة لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، وهي كالتفسير لما قبلها؛ لأنَّ عدم مؤاخذتها بكسب غيرها، واحتمالها ما حصَّلته هي فقط من جملة عدم تكليفها بما [لا] تسعه، وهل يظهر بين اختلاف لفظي فعل الكسب معنًى، أم لا؟ فقال بعضهم: نعم، وفرَّق بأنَّ الكسب أعمُّ، إذ يقال: «كَسَبَ» لنفسه ولغيره، و «اكْتَسَبَ» أخصُّ؛ إذ لا يقال: «اكْتَسَبَ لِغَيْرِهِ» ؛ وأنشد قول الحطيئة: [البسيط]
١٣٠٨ - أَلْقَيْتُ كَاسِبَهُمْ في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ............................
ويقال: هو كاسب أهله، ولا يقال: مكتسب أهله.
وقال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت: لم خصَّ الخير بالكسب، والشرَّ بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمالٌ، ولمَّا كان الشرُّ ممَّا تشتهيه النفس، وهي منجذبةٌ إليه وأمَّارةٌ به، كانت في تحصيله أعمل وآجد، فجعلت لذلك مكتسبةً فيه، ولمَّا لم تكن كذلك في باب الخير، وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال».
وقال ابن عطيَّة: وكَرَّر فعلَ الكسب، فخَالَفَ بين التصريف حُسناً لنمط الكلام؛ كقوله تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ﴾ [الطارق: ١٧]، قال شهاب الدين: «والذي يظهر لي في هذا: أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلُّفٍ؛ إذ كاسبها على جادَّة أمر الله تعالى،
533
ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة؛ إذ كاسبها يتكلَّف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى، ويتجاوز إليها؛ فحسن في الآية مجيء التصريفين؛ إحرزاً لهذا المعنى».
وقال آخرون: «افْتَعَل» يدلُّ على شدَّة الكلفة، وفعل السَّيِّئة شديدٌ لما يئول إليه.
وقال الواحديُّ: «الصَّحيح عند أهل اللغة: أنَّ الكسب والاكتساب واحدٌن لا فرق بينهما.
وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في موردٍ واحدٍ؛ قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: ٣٨]. وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا﴾ [الأنعام: ١٦٤] وقال تعالى: ﴿بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: ٨١]، وقال تعالى: ﴿بِغَيْرِ مَا اكتسبوا﴾ [الأحزاب: ٥٨] فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشرِّ»
.
قال ذو الرُّمَّة: [البسيط]
١٣٠٩ -............................... أَلْفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الكَسْبِ يَكْتَسِبُ
وإنما أَتَى في الكسب باللام، وفي الاكتساب ب «عَلَى» ؛ لأنَّ اللام تقتضي الملك، والخير يحبُّ ويسر به، فجيء معه بما يقتضي الملك، ولمَّا كان الشرُّ يحذر، وهو ثقلٌ ووزرٌ على صاحبه جيء معه ب «عَلَى» المقتضية لاستعلائه عليه.
وقال بعضهم: «فيه إيذانٌ أنَّ أدنى فعلٍ من أفعال الخير يكون للإنسان تكرُّماً من الله على عبده؛ حتَّى يصل إليه ما يفعله معه ابنه من غير علمه به؛ لأنه من كسبه في الجملة، بخلاف العقوبة؛ فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جدَّ فيها واجتهد»، وهذا مبنيٌّ على القول بالفرق بين البنائين، وهو الأظهر.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة


احتجت المعتزلة بهذه الآية على أنَّ فعل العبد بإيجاده؛ قالوا: لأنَّ الآية صريحةٌ في إضافة خيره وشرِّه إليه، ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى، لبطلت هذه الإضافة، ويجري صدور أفعاله مجرى لونه، وطولهن وشكله، وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها ألبتَّة.
قال القاضي: لو كان تعالى خالقاً أفعالهم، فما فائدة التَّكليف، والكلام فيه معلوم.
534

فصل


احتجوا بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة؛ لأنَّه - تعالى - أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع، فبيَّن أن لها ثواب ما كسبت، وعليها عقاب ما اكتسبت، وهذا صريحٌ في اجتماع هذين الاستحقاقين، وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر.
قال الجبَّائي: ظاهر الآية وإن دلَّ على الإطلاق، إلاَّ أنَّه مشروطٌ، والتَّقدير: لَهَا مَا كَسَبَتْ مِنْ ثَوَابِ العَمَلِ الصَّالِح إذا لم يبطله، وعليها ما اكتَسَبَتْ مِن العَقَاب إذا لَمْ يُكَفِّرْه بالتَّوبة، وإنَّمَا صِرْنَا إلى إضْمَارِ هذا الشَّرط، لمَّا ثبت أن الثَّواب يجب أن يكون منفعةً خالصةً دائمةً، والجمع بينهما محالٌ في العقول، فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضا محالٌ.

فصل


تمسَّك الفقهاء بهذه الآية في أنَّ الأصل في الأملاك البقاء والاستمرار؛ لأن اللام في قوله: ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ تدلُّ على ثبوت الاختصاص، ويؤكِّد ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «كُلُّ امْرِىءٍ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وسَائِر النَّاسِ أَجْمَعِينَ»، وينبني على هذا الأصل فروع كثيرة:
منها: أن المضمونات لا تملك إلاَّ بأداء الضَّمان؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائمٌ.
ومنها: إذا غصب ساجةً فأدرجها في بنائه، أو حنطةً فطحنها، لا يزول الملك.
ومنها: أن القطع في السَّرقة لا يمنع وجوب الضَّمان؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائمٌ، وهو قوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ ويجب ردُّ المسروق إن كان باقياً.
535
قوله: ﴿لاَ تُؤَاخِذْنَا﴾ يقرأ بالهمزة، وهو من الأخذ بالذَّنب، ويقرأ بالواو، ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من الأخذ أيضاً، وإنما أُبدلت الهمزة واواً؛ لفتحها وانضمام ما قبلها، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ، ويحتمل أن يكون من: واخذه بالواو، قاله أبو البقاء. وجاء هنا بلفظ المفاعلة، وهو فعل واحدٍ؛ لأنَّ المسيء قد أمكن من نفسه، وطرق السبيل إليها بفعله؛ فكأنه أعان من يعاقبه بذنبه، ويأخذ به على نفسه.
قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجهٌ آخر، وهو أنَّ الله تعالى يأخذ المذنب بالعقوبة، فالمذنب كأنَّه يأخذ ربَّه بالمطالبة بالعفو والكرم، فإنَّه لا يجد من يخلِّصه من عذابه إلاَّ هو، فلهذا يتمسَّك العبد عند الخوف منه به، فلمَّا كان كلُّ واحدٍ منهما يأخذ الآخر، عبَّر عنه بلفظ المؤاخذة، ويجوز أن يكون من باب سافرت وعاقبت وطارقت.
قوله: ﴿إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا﴾.
في النِّسيان وجهان:
الأول: أنَّ المراد النِّسيان الذي هو ضدُّ الذِّكر.
فإن قيل: أليس فعل النَّاسي في محلِّ العفو بحكم دليلِ العقل؛ حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق، وبدليل السَّمع؛ وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وإن كان كذلك، فما معنى طلب العفو عنه؟
فالجواب من وجوهٍ:
الأول: أن النِّسيان منه ما يعذر فيه صاحبه، ومنه ما لا يعذر؛ ألا ترى أنَّ من رأى في ثوبه نجاسة، فأخَّر إزالتها عنه إلى أن نسي فصلَّى وهي على ثوبه، عدَّ مقصِّراً؛ إذ كان يلزمه المبادرة إلى إزالتها، وأمَّا إذا لم ير في ثوبه نجاسة، فإنه يعذر فيه، ومن رمى صيداً فأصاب إنساناً، فقد يكون بحيث لا يعلم الرَّامي أنه يصيب ذلك الصَّيد أو غيره، فإذا رمى ولم يحترز، كان ملوماً، وأمَّا إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرةٌ، ثم رمى فأصاب إنساناً؛ كان ههنا معذوراً، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدَّرس والتِّكرار، حتى نسي القرآن يكون ملوماً، وأمَّا إذا واظب على القراءة ونسي القرآن، فههنا يكون معذوراً؛ فثبت أن النِّسيان على قسمين: منه ما يعذر فيه، ومنه ما لا يعذر فيه، وهو ما إذا ترك التَّحفُّظ،
536
وأعرض عن أسباب التذكُّر، فهذا يصحُّ طلب غفرانه بالدُّعاء.
الثاني: أن هذا دعاء على سبيل التَّقدير؛ لأنَّ هؤلاء الَّذِين ذكروا هذا الدُّعاء كانوا متَّقين لله حقَّ تقاته، فلم يكن يصدر عنهم ما لا ينبغي إلاَّ على وجه النِّسيان والخطأ، فكان وصفهم بذلك إشعاراً ببراءة ساحتهم عمَّا يؤاخذون به؛ كأنه قيل: إذا كان النِّسيان ممَّا تجوز المؤاخذة به، فلا تؤاخذنا به.
الثالث: أنَّ المقصود من هذا الدُّعاء إظهار التَّضرُّع إلى الله تعالى لا طلب الفعل؛ لأن الدَّاعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأنَّ الله تعالى يفعله، سواءٌ دعا أو لم يدع؛ قال: ﴿رَبِّ احكم بالحق﴾ [الأنبياء: ١١٢]، وقال: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ﴾ [آل عمران: ١٩٤]، وقالت الملائكة: ﴿فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم﴾ [غافر: ٧] فكذا ههنا.
الرابع: أن مؤاخذة النَّاسي ممتنعةٌ عقلاً، لأنَّ الإنسان إذا علم أنه بعد النِّسيان يكون مؤاخذاً، فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر، فحينئذٍ لا يصدر عنه، إلاَّ أنَّ استدامة ذلك الذِّكر يشقُّ على النَّفس، فلمَّا جاز ذلك في العقول، حسن طلب المغفرة منه.
الخامس: أن الَّذين جوَّزوا تكليف ما لا يُطاق بهذه الآية، فقالوا: النَّاسي غير قادرٍ على الاحتراز عن الفعل، فلولا أنَّه جائزٌ عقلاً أن يعاقبه الله عليه، لما طلب بالدُّعاء ترك المؤاخذة به.
القول الثاني: أن المراد بالنِّسيان: التَّرك؛ قال الله تعالى: ﴿نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧]، أي: تركوا العمل لله فترك أن يثيبهم، ويقول الرَّجل لصاحبه «لاَ تَنْسِني من عَطِيَّتِكَ»، أي: لا تتركني، فالمراد بهذا النِّسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسدٍ، والمراد بالخطأ: أن يفعل الفعل لتأويل فاسدٍ.
قوله: ﴿رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً﴾.
الإصر: في الأصل: الثِّقل والشِّدَّة؛ قال النابغة: [البسيط]
١٣١٠ - يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمُ وَالحَامِلَ الإِصْرِ عَنْهُمْ بَعْدَمَا غَرِقُوا
وأُطلق على العهد والميثاق لثقلهما؛ كقوله تعالى: ﴿وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي﴾ [آل عمران: ٨١] أي: عهدي، ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٥٧] أي: التكاليف الشاقة ثم يطلق على كلِّ ما يثقل، حتى يروى عن بعضهم أنه فسَّر الإصر هنا بشماتة الأعداء؛ وأنشد: [الكامل]
537
١٣١١ - أَشْمَتَّ بِيَ الأَعْدَاءَ حِينَ هَجَرْتَنِي وَالمَوْتُ دُونَ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ
ويقال: الإصر أيضاً: العطف والقرابة، يقال: « [مَا] يَأْصِرُني عليه آصِرَةٌ» أي: ما يعطفني عليه قرابةٌ ولا رحمٌ؛ وأنشد للحطيئة: [مجزوء الكامل]
١٣١٢ - عَطَفُوا عَلَيَّ بِغَيْرِ آ صِرَةٍ فَقَدْ عَظُمَ الأَوَاصِرْ
ويقال: ما يأصرني عليه آصرةٌ أي: رحمٌ وقرابة، وإنما سمِّي العطف إصراً؛ لأن من عطفت عليه، ثقل على قلبك كلُّ ما يصل إليه من المكاره.
وقيل: الإصر: الأمر الذي تربط به الأشياء؛ ومنه «الإصَارُ» للحبل الشديد الذي تشدُّ به الأحمال، يقال: أصَرَ يَأْصِرُ أَصْراً بفتح الهمزة، فأما بكسرها، فهو اسمٌ، ويقال بضمِّها أيضاً، وقد قرىء به شاذًّا.
وقرأ أُبيّ: «رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْ عَلَيْنَا» بتشديد الميم.
قال الزَّمخشريُّ: «فإن قلت: أيُّ فرقٍ بين هذه التَّشديدة والتي في» وَلاَ تُحَمِّلْنَا «؟
قلت: هذه للمبالغة في حمله عليه، وتلك لنقل حمله من مفعولٍ واحدٍ إلى مفعولين»
انتهى.
يعني: أن التَّضعيف في الأوَّل للمبالغة، ولذلك لم يتعدَّ إلاَّ لمفعولٍ واحدٍ، وفي الثانية للتَّعدية، ولذلك تعدَّى إلى اثنين: أوَّلهما: «نَا»، والثاني: ما لا طاقة لنا به.

فصل


قال مجاهدٌ وعطاء وقتادةٌ والسُّدِّيُّ والكلبيُّ وجماعة: المراد عهداً ثقيلاً ومشاقَّ لا نستطيع القيام به، فتعذِّبنا بنقضه وتركه ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا﴾، يعني: اليهود.
538
وقال عثمان بن عفَّان، ومالك بن أنس، وأبو عبيدة، وجماعة: معناه: لا تُشتدِّد علينا في التَّكاليف ما لا نستطيع المقام معه، فتعذِّبنا بنقضه وتركه؛ كما شدَّدت على الذين من قبلنا، يعني: اليهود، فلم يقوموا به فيعذِّبهم.
قال المفسِّرون: إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاةً، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزَّكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسةً أمر بقطعها، ومن أصاب ذنباً، أصبح وذنبه مكتوب على بابه، وكانوا إذا نسوا شيئاً عجِّلت لهم العقوبة في الدُّنيا، وكانوا إذا أتوا بخطيئةٍ، حرم عليهم من الطَّعام بعض ما كان حلالاً لهم؛ قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ﴾ [النساء: ١٦٠]، ونحو ذلك؛ كتحريمه على قوم طالوت الشُّرب من النَّهر، وتعجيل تعذيبهم في الدُّنيا بكونهم مسخوا قردةً وخنازير.
قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ومن نظر في السِّفر الخامس من التَّوراة التي تدَّعيها هؤلاء اليهود، وقف على ما أخذ عليه من غلظ العهود والمواثيق، ورأى الأعاجيب الكثيرة، فالمؤمنون سألوا ربَّهم أن يصونهم عن أمثال هذه التَّغليظات، وهو بفضله ورحمته قد أزال عنهم ذلك.
قال تعالى في صفة هذه الأمة: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: ١٥٧].
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «دُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَسْفُ والمَسْخُ والغَرَقُ».
وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: ٣٣]. وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّة السَّمْحَة» والمؤمنون إنَّما طلبوا هذا التَّخفيف؛ لأن التِّشديد مظنَّة التَّقصير، والتَّقصير موجبٌ للعقوبة، ولا طاقة لهم بعذاب الله، فلا جرم طلبوا تخفيف التَّكاليف.
وقيل: الإصر ذنبٌ لا توبة له، معناه: اعصمنا من مثله، قالوا: والأصل فيه العقد والإحكام.
قوله: ﴿رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾.
الطَّاقة: القدرة على الشيء، وهي في الأصل، مصدرٌ، جاءت على حذف الزوائد، وكان من حقِّها «إطَاقَة» ؛ لأنها من أطاق، ولكن شذَّت كما شذَّت أُلَيْفَاظٌ؛ نحو: أَغَارَ
539
غَارةً، وأجَاب جَابةً، وقالوا: «سَاءَ سَمعاً؛ فَسَاءَ جَابَةً» ؛ ولا ينقاس؛ فلا يقال: طَال طَالَةً، ونظير أجاب جَابَةً: ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧] وأعطى عطاء في قوله: [الوافر]
١٣١٣ -.............................. وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرَّتَاعَا

فصل في المراد بالآية


معناه: لا تكلِّفنا من العمل ما لا نطيق.
وقيل: هو حديث النَّفس والوسوسة المتقدِّم في الآية الأولى، وحكي عن مكحول: أنَّه الغلمة.
وعن إبراهيم: هو الحبُّ، وعن محمَّد بن عبد الوهَّاب: هو العشق.
وقال ابن جريج: هو مسخ القردة والخنازير، وقيل: هو شماتة الأعداء.
وقيل: هو الفرقة والقطيعة.
فإن قيل: لم خصَّ الآية الأولى بالحمل، فقال «لا تَحْمِلْ عَلَيْنا» وهذه الآية بالتَّحميل؟
فالجواب: أن الشَّاقَّ يمكن حمله، أمَّا ما لا يكون مقدوراً، فلا يمكن حمله، فالحاصل فيما لا يطاق هو التَّحميل فقط، فإن التَّحمُّل غير ممكنٍ.
وأمَّا الشاقُّ: فالحمل، والتَّحميل فيه ممكنان، فلهذا السَّبب خصَّ الآية الأخيرة بالتَّحميل.
فإن قيل: ما الفائدة في حكاية هذه الأدعية بلفظ الجمع في قوله: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾، ولفظ الإفراد أكثر تذلُّلاً وخضوعاً من التَّلفُّظ بنون الجمع.
فالجواب: أن قبول الدُّعاء عند الاجتماع أكثر، وذلك لأن للهمم تأثيراتٍ، فإذا اجتمعت الأرواح والدَّواعي على شيء واحدٍ، كان حصوله أكمل.

فصل


استدلُّوا بهذه الآية الكريمة على جواز التَّكليف بما لا يطاق، قالوا: إذ لو لم يكن
540
جائزاً، لما حسن طلب دَفْعِهِ بالدُّعاء من الله تعالى، وأجاب المعتزلة بوجوهٍ:
الأول: المراد بالآية ما يشقُّ فعله مشقَّةً عظيمةً؛ كما يقول الرجل: لا أستطيع أن أنظر إلى فلانٍ؛ إذا كان مستثقلاً له؛ قال الشاعر: [الرجز]
١٣١٤ - إِنَّكَ إِنْ كَلَّفْتَنِي مَا لَمْ أُطِقْ سَاءَكَ مَا سَرَّكَ مِنِّي مِنْ خُلُقْ
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في المملوك: «لَهُ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، ولاَ يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ مَا لاَ يُطِيقُ» أي: ما يشقُّ عليه، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في المريض «يصلِّي وهو جالسٌ، فإن لم يَسْتَطِعْ، فَعَلَى جَنْبٍ»، فقوله: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ» ليس المراد به: عدم القوَّة على الجلوس، بل كلُّ الفقهاء يقولون: المراد منه: إذا كان يلحقه في الجلوس مشقَّةٌ شديدةٌ؛ وقال تعالى: ﴿مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع﴾ [هود: ٢٠]، أي: كان يشقُّ عليهم ذلك.
الثاني: أنه تعالى لم يقل: «لاَ تُكَلِّفْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ» بل قال: ﴿لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ والتَّحميل: هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمُّله، فيكون المراد منه العذاب، والمعنى: لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله، فلو حملنا الآية على ذلك، كان قوله: «لاَ تُحَمِّلْنَا» حقيقةً فيه، ولو حملناه على التكليف، كان قوله: «لاَ تُحَمِّلْنَا» مجازاً فيه، فكان الأوَّل أولى.
الثالث: هب أنَّهم سألوا الله تعالى ألاَّ يكلِّفهم ما لا قدرة لهم عليه، لكن ذلك لا يدلُّ على جواز أن يفعل خلافه؛ لأنَّه لو دلَّ على ذلك، لدلَّ قوله: ﴿رَبِّ احكم بالحق﴾ [الأنبياء: ١١٢] على جواز أن يحكم بالباطل، وكذلك قول إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ﴿وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ [الشعراء: ٨٧] على جواز خزي الأنبياء.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين﴾ [الأحزاب: ١]، وقوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾
[الزمر: ٦٥]، وذلك لا يدلُّ على جواز أن يطيع الكافرين والمنافقين، ولا على جواز الشِّرك.
وأجاب مخالفوهم: بأن الوجه الأول مدفوعٌ من وجهين:
الأول: أنه لو كان المراد من ألا يشدِّد عليهم التَّكاليف، لكان معناه ومعنى الآية الأولى واحداً، فتكون تكراراً محضاً، وهو غير جائزٍ.
541
والثاني: أنَّا بيَّنا أنَّ الطَّاقة هي الإطاقة والقدرة، فقوله: ﴿وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ ظاهره لا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا عليه، أقصى ما في الباب أنَّه جاء هذا اللَّفظ بمعنى الاستقبال في بعض الوجوه على سبيل المجاز، إلاَّ أنَّ الأصل حمل اللَّفظ على الحقيقة.
وأمَّا الوجه الثاني: فإن التَّحميل مخصوصٌ في عرف القرآن بالتَّكليف، قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات﴾ [الأحزاب: ٧٢] إلى قوله: ﴿وَحَمَلَهَا الإنسان﴾ [الأحزاب: ٧٢]، ثم هب أنَّه لم يوجد هذا العرف، إِلاَّ أنَّ قوله: ﴿لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ عامٌّ في العذاب والتَّكليف، فوجب إجراؤه على ظاهره، فأَمَّا تخصيصُهُ بغير حُجَّةٍ، فلا يجوز.
وأَمَّا الوجه الثالث: فإن فعل الشيء إذا كان ممتنعاً، لم يجز طلب امتناعه بالدُّعاء؛ لأنه يجري مجرى قوله في دعائه ربَّنا لا تجمع بين الضِّدَّين.
وإذا كان هذا هو الأصل، فإذا صار ذلك متروكاً في بعض الصُّور لدليلٍ مفصَّلٍ، لم يجب تركهُ في سائر الصُّور بغير دليلٍ.
قوله: ﴿واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ﴾ قال ابن الخطيب: لما كانت الأدعية الثَّلاثةُ المُتقدِّمةُ، المطلوب بها الترك، قُرِنت بلفظ «رَبَّنَا»، وأَمَّا هذا الدُّعاء فحذف فيه لفظ «رَبَّنَا» وظاهره يدلُّ على طلب الفعل.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكر هنا لفظ «رَبَّنَا».
فالجواب: أن النِّداء إنما يحتاجُ إليه عند البعد أمَّا عند القرب فلا؛ وإنَّما حذف النِّداء إشعاراً بأنَّ العبد إذا واظب على التَّضرُّع نال القرب من اللهِ - تعالى -.
فإن قيل: ما الفرقُ بين العفو والمغفرة والرّحمة.
الجواب أن العفو أن يسقط عنه العقاب، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التَّخجيل والفضيحة؛ كأن العبد يقول: أطلُبُ منك العفو، وإذا عفوت عنِّي فاسترهُ عليَّ فإِنَّ الخلاص من عذاب النَّار إنَّما يطيبُ، إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة، فلما تخلَّص من هذين العذابين، أقبل على طلب الثَّواب، فقال: ﴿وارحمنآ﴾ فإنَّنا لا نقدر على فعل الطَّاعة وترك المعصية إِلاَّ برحمتك.
قوله تعالى: ﴿أَنتَ مَوْلاَنَا﴾ المَولى مفعلٌ من وَلِي يلي، وهو هنا مصدر يُرادُ به الفاعلُ، فيجوز أن يكون على حذف مضافٍ، أي: صاحبُ تَولِّينا، أي: نُصرتنا، ولذلك قال: ﴿فانصرنا﴾، والمَوْلأى يجوزُ أن يكونَ اسم مكانٍ أيضاً، واسم زمانٍ.
في قوله: ﴿أَنتَ مَوْلاَنَا﴾ فائدةٌ؛ وهي أَنَّها تدلُّ على نهاية التَّذلُّل، والخُضوع، فلا جرم
542
ذكرها عند الدُّعاء متكلين على فضله وإحسانه بمنزلة الطِّفل، لا تتمُّ مصلحته إِلاَّ بتدبير قيمه، والعبد الَّذِي ينتظم شمل مهمَّاته إلا بإصلاح مولاهُ، وهو المولى في الحقيقة لِلكُلِّ على ما قال
﴿نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير﴾ [الأنفال: ٤٠] ونظير هذه الآية الكريمة ﴿الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٧] أي: ناصرهم، وقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ﴾ [التحريم: ٤] أي: ناصره، وقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ﴾ [محمد: ١١].
قوله تعالى: ﴿فانصرنا﴾ أتى بالفاء هنا؛ إعلاماً بالسببية؛ لأنَّ اللهَ تعالى لمَّا كان مولاهم ومالك أمورهم، وهو مُدَبِّرِهم تسبَّبَ عنه أن دعَوْهُ أن ينصرهم على أعدائهم؛ كقولك: «أَنْتَ الجَوَادُ فَتَكرَّمْ»، و «أَنت المُعطي فرجاً فضلاً منك».
قوله: ﴿عَلَى القوم الكافرين﴾ أي: انصرنا في محاربتنا معهم، وفي مناظرتنا بالحجَّة معهم، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣].

فصلٌ


روى الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ عن مقاتل بن سليمان؛ أنه لما أُسري بالنَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُعطي خواتيم سورة البقرة، فقالت الملائكةُ: إنَّ الله - تعالى - قد أكرمك بحسن الثَّناء عليك بقوله - تعالى -: «آمَن الرَّسُول» فسلهُ وارغب إليه، فعلَّمهُ - جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كيف يدعو، فقال محمَّد - عليه الصَّلاة والسَّلام - «غُفْرَانَكَ رَبَّنَا» وقال الله: قد غفرتُ لكم، فقال: «لاَ تُؤَاخِذْنَا» فقال الله: لاَ أؤاخذكم، فقال: «ولاَ تَحْمل عَلَينا إصراً» فقال: لا أُشدّد عليكم، فقال محمَّد: «لاَ تُحمِّلنا ما لاَ طاقةَ لنَا به» فقال: لا أُحملكم ذلك، فقال محمد: «واعْفُ عنا واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنَا» فقال الله: قد عَفَوتُ عنكم، وغَفَرتُ لكم، ورحمتكم، وأنصركم على القوم الكافرين.
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس، وسمعناه في بعض الرِّوايات؛ أن محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان يذكر هذه الدَّعوات والملائكة كانوا يقولون: آمين.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلةٍ كفتاه» وعن النُّعمان بن بشير؛ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
543
قال: «إنَّ اللهَ تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق السَّمواتِ والأَرض بأَلفي عام، فأَنزل آيتين خَتَم بهما سورة البقرة، فلا تُقْرآن في دار ثلاث ليالٍ فيقربها شيطانٌ» والله - سبحانه وتعالى - أعلم.
544

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة آل عمران
حكى النقاش: أن هذه السورة اسمها في التوراة " طيبة " مدنية بالإتفاق، وهي مائتا آية، وثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان كلمات، وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وعشرون حرفا.
3
Icon