تفسير سورة البقرة

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ الۤـمۤ ﴾: اعلم أن مجموع الأحرف المنزلة في أوائل السور أربعة عشر حرفاً وهي نصف حروف الهجاء، وقد تفرّقت في تسع وعشرين سورة: المبدوء بالالف واللام منها ثلاث عشرة، وبالحاء والميم سبعة، وبالطاء أربعة، وبالكاف واحدة، وبالباء واحدة، وبالصاد واحدة، وبالقاف واحدة، وبالنون واحدة، وبعض هذه الحروف المبدوء بها أحادي وبعضها ثنائي وبعضها ثلاثي وبعضها رباعي وبعضها خماسي ولا تزيد. قوله: (الله أعلم بمراده بذلك) أشار بهذا إلى أرجح الأقوال في هذه الأحرف التي ابتدأ بها تلك السور، وهو أنها من المتشابه جرياً على مذهب السلف القائلين باختصاص الله تعالى بعلم المراد منه، وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب، لأنه فرع إدراك المعنى فلا يحكم عليها بإعراب ولا بناء ولا بتركيب مع عامل، ومقابل هذا أقوال: قيل إنها اسماء للسور التي ابتدئت بها، وقيل اسماء للقرآن، وقيل لله تعالى، وقيل كل حرف منها مفتاح اسم من اسمائه تعالى، أي جزء من اسم، فالألف مفتاح لفظ الجلالة، واللام مفتاح اسم لطيف، والميم مفتاح اسم مجيد، وهكذا، وقيل كل حرف منها يشير إلى نعمة من نعم الله، وقيل إلى ملك، وقيل إلى نبي، وقيل الالف تشير إلى آلاء الله، واللام إلى لطف الله، والميم إلى ملك الله، وعلى هذه الاقوال فلها محل من الإعراب، فقيل الرفع، وقيل النصب، وقيل الجر، فالرفع على أحد وجهين، إما بكونها مبتدأ، وإما بكونها خبراً، والنصب على أحد وجهين أيضاً: إما باضمار فعل لائق تقديره اقرؤوا مثلاً وإما باسقاط حرف القسم كقول الشاعر: إذا ما الخبز تأدمه بلحم   فذلك أمانة الله الثريديريد وأمانة الله والجر بوجه واحد وهو أنها مقسم بها حذف حرف القسم وبقي عمله، أجاز ذلك الزمخشري وإن كان ضعيفاً لأن ذلك من خصائص الجلالة المعظمة لا يشاركها فيه غيرها.
قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ اسم الإشارة مبتدأ واللام للبعد والكاف حرف خطاب والكتاب نعت لاسم الإشارة أو عطف بيان وجملة لا ريب فيه خبر كما قال المفسر. قوله: (أي هذا) أشار بذلك إلى أن حق الإشارة أن يؤتى بها للقريب وسيأتي الجواب عنه. قوله: ﴿ ٱلْكِتَابُ ﴾ بمعنى المكتوب وهو القرآن، إن قلت إن القران قريب فلا يشار له بإشارة البعيد، أجاب المفسر بقوله والإشارة به للتعظيم، أي والقرآن وإن كان قريباً منا إلا أنه مرفوع الرتبة وعظيم القدر من حيث إنه منزه عن كلام الحوادث، وذلك كمناداة المولى سبحانه وتعالى بيا التي ينادي بها البعيد مع كونه اقرب إلينا من حبل الوريد، لكونه سبحانه منزها عن صفات الحوادث، فنزل تنزهه عن الحوادث منزلة بعدنا عنه، والكتاب في الأصل مصدر يطلق بمعنى الجمع. قوله: (الذي يقرؤه محمد) أي وهو القرآن احترز بذلك عن باقي الكتب السماوية. قوله: (لا شك) هذا أحد معاني ثلاثة والثاني النهمة والثالث القلق والاضطراب وكلها منزه عنها القرآن لخروجه عن طاقة البشر، قال تعالى:﴿ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾الآية [الإسراء: ٨٨].
إن قلت إن قوله تعالى: ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ خبر وهو لا يتخلف، مع أن بعض الكفار ارتاب فيه حيث قالوا: سحر وكهانة وأساطير الأولين إلى غير ذلك، أجيب بأجوبة أحسنها أن قوله: ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾، أي لمن أذعن وأقام البرهان وتأمل، فلا ريب للعارفين المنصفين، وأما من عاند فلا يعتد به، (إن هم إلا كالإنعام بل هم أضل) ومنها أن معنى قوله: ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي لا ينبغي أن يرتاب فيه لقيام الأدلة الواضحة على كونه من عند الله. ومنها أن المعنى ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي للمؤمنين، وأما الكافرون فلا يعتد بهم، فالجواب الأول عام، فمن تأمل لا يحصل له ريب مسلما أو كافراً أو جحده بعد ذلك عناداً، والجواب الثاني أنه نفي بمعنى النهي، والثالث خاص بالمسلم. قوله: (أنه من عند الله) بفتح الهمزة بدل من الضمير في قوله: ﴿ فِيهِ ﴾ ويدل على قوله تعالى في الآخرى ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ من ﴿ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾.
قوله: (والإشارة به للتعظيم) تقدم أن هذا الجواب عن سؤال مقدر، إن قلت إنه لا يشار إلا المحسوس أو الإِشارة لما في المصاحف أو اللوح المحفوظ. قوله: ﴿ هُدًى ﴾ أي رشاد وبيان، وهو مصدر إما بمعنى اسم الفاعل وهو الذي اقتصر عليه المفسر أي مرشد ومبين، والاسناد له مجاز عقلي من الاسناد للسبب أو ذو هدى أو بولغ فيه حتى جعل نفس الهدى على حد: زيد عدل. قوله: ﴿ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ إن قلت إن القرآن هدى بمعنى مبين طريق الحق من الباطل للناس مؤمنهم وكافرهم فلم خص المتقين؟ أجيب بأنه خصهم بالذكر لكونهم انتفعوا بثمرته عاجلاً وآجلاً وهذا إن اريد به البيان حصل وصول للمقصود أم لا؟ وأما إن إريد به الوصول للمقصود فالتخصيص ظاهر، وأصل متقين متقيين استثقلت الكسرة على الياء الاولى فحذفت الياء فالتقى ساكنان حذفت الياء لالتقاء الساكنين. قوله: (الصائرين إلى التقوى) اشار بذلك إلى أن في الكلام مجاز الأول أي المتقين في علم الله أومن يؤول إلى كونهم متقين، فهو جواب عن سؤال مقدر حاصله أنهم إذا كانوا متقين فهم مهتدون فلا حاجة له. قوله: (بامتثال الأوامر) يصح أن تكون سببية أو التصوير. وقوله: (واجتناب النواهي) عطف عليه، والمعنى أن امتثال الأوامر على حسب الطاقة واجتناب النواهي جميعها سبب للتقوى أو هي مصورة بذلك. قوله: (لاتقائهم) علة لتسميتهم متقين. وقوله: (بذلك) أي المذكور وهو امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وهذا إشارة إلى تقوى الخواص وتحتها تقوى العوام وهي تقوى الشرك وفوقها تقوى خواص الخواص وهي تقوى ما يشغل عن الله. قال العارف: ولو خطرت لي في سواك إرادة   على خاطري يوماً حكمت بردتيوالآية في حد ذاتها شاملة للمراتب الثلاث.
قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ﴾ هذا تفصيل لبعض صفات المتقين وخصها لأنها أعلى الأوصاف، وهو في محل جر صفة للمتقين، أو رفع خبر لمحذوف، أو نصب مفعول لمحذوف، ويصح أن يكون مستأنفاً مبتدأ خبر قوله ﴿ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى ﴾، وعلى هذا فالوقف على المتقين تام لعدم ارتباطه بما بعده، وعلى الإعراب الأول فهو حسن لأنه رأس آية وإن كان له ارتباط بما بعده. قوله: (بما غاب) أشار بذلك إلى إطلاق المصدر وأرادة اسم الفاعل، وما غاب عنها قسمان ما دل عليه دليل عقلي أو سمعي، كالجنة والنار والملائكة والعرش والكرسي واللوح والقلم والمولى سبحانه وتعالى وصفاته، وما لم يدل عليه كالساعة ووقت نزول المطر، وما في الأرحام وباقي الخمسة المذكورة في الآية. وأما الشهادة فهي ما ظهر لنا حساً أو عقلاً ببداهة العقل كالواحد نصف الاثنين وأن الجرم متحيز. قوله: (من البعث الخ) بيان لما. وقوله: (والجنة والنار) عطف عليه، أي ونحو ذلك مما قام لنا الدليل عليه، ويحتمل أن يبقى الغيب على مصدريته والباء متعلقة بمحذوف حال أي إيامناً ملتبساً بحالة الغيبة، ففيها بيان لحال المؤمنين الخالصين وتعريض لحال المنافقين، فإنهم كانوا يؤمنون ظاهراً فقط، فمدح الله من يؤمن في حال غيبته عن كل أحد كما يؤمن ظاهراً، ويحتمل أن المراد بالغيب القلب سمي بذلك لخفائه أي يؤمنون بحالة السر وهو الإيمان القلبي، فالمصدر باق على حاله وفيه رد على المنافقين أيضاً حيث قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. قوله: ﴿ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ ﴾ إما مأخذوة من الصلاة اللغوية بمعنى الدعاء لأنها مشتملة عليه في الركوع والسجود وعليه فأصلها صلوة تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً، وقيل من الوصلة لأنها وصلة بين العبد وبين ربه، وعليه فأصلها وصلة قلبت ألفاً مكانياً فصار صلوة تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً. وقوله: ﴿ وَيُقِيمُونَ ﴾ من قومت العود عدلته. قوله: (أي يأتون بحقوقها) أي الظاهرية كالشروط والآداب والأركان، والباطنية كالخشوع والخضوع والإخلاص. قوله: ﴿ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ فيه حذف نون من التبعيضية لفظاً وخطاً لإدغامها في ما الموصولة، ورزقنا صلة الموصول ونا فاعل والهاء مفعول أول وحذف المفعول الثاني فيصح تقديره متصلاً أي رزقناهموه، أو منفصلاً أي رزقناهم إياه على حد قول ابن مالك وصل أو افصل هاء سلنيه. قوله: (أعطيناكم) أشار بذلك إلى أن الرزق معناه الملك، وليس المراد به الرزق الحقيقي، إذ لا يتأتى تعديه لغيره وقدم الجار والمجرور للاهتمام. قوله: ﴿ يُنْفِقُونَ ﴾ أي إنفاقاً واجباً كالزكاة والنفقة على الوالدين والعيال، أو مندوباً كالتوسعة على العيال ومواساة الأقارب والفقراء. قوله: (في طاعة الله) في تعليله أي من أجل طاعة الله لا رياء ولا سمعة، قال الله تعالى:﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ ﴾[الإنسان: ٩].
قوله: ﴿ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ﴾ معطوف على الموصول الأول وهو نوع آخر للمتقين، فإنها أنزلت فيمن كان آمن بعيسى وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وعمار بن ياسر وسلمان والنجاشي وغيرهم. وأما النوع الأول فهم مشركو العرب الذين لم يرسل لهم غيره صلى الله عليه وسلم فنزلت فيهم الآية الأولى. قوله ﴿ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾ نزل المستقبل منزلة الماضي لتحقق الوقوع لأنه لم يكن تم نزوله. قوله: ﴿ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ أي فلم يفرقوا بين الأنبياء بحيث يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. قوله: ﴿ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ قدم الجار والمجرور لإفادة الحصر وأتى بالجملة الاسمية لأنه أعلى من الإنفاق. قوله: (يعلمون) أي علماً لا شك فيه ولا ريب، ولذا اتصف مولانا بالعلم ولم يتصف باليقين، وفيه رد على من أنكر الآخرة ممن لم يؤمن بمحمد. قوله ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ (الموصوفون بما ذكر) إن قلنا إن قوله الذين يؤمنون الخ وصف للمتقين كان ماهنا مبتدأ وخبراً بيان لعاقبة المتقين وإن قلنا إنه مستأنف مبتدأ كان ماهنا خبره. قوله: ﴿ عَلَىٰ هُدًى ﴾ عبر بعلى إشارة إلى تمكنهم من الهدى كتمكن الراكب من المركوب. وقوله: (الناجون من النار) أي ابتداء وانتهاء، وعطف الجملتين إشارة إلى تغايرهما وأن كلا غاية في الشرف، وإن الثانية مسببة عن الأولى.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ جرت عادة الله سبحانه وتعالى في كتابه أنه إذا ذكر بشرى المؤمنين يذكر بلصقها وعيد الكافرين، فذكر حال الكافرين ظاهراً وباطناً، ثم ذكر حال الكافرين باطناً وهم المنافقون، وأنهم أسوأ حالاً من الكافرين ظاهراً وباطنا، وإن حرف توكيد ونصب والذين كفروا اسمها وجملة لا يؤمنون خبرها، وجملة سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم معترضة بين اسم إن وخبرها، وإعرابها أن تقول على المشهور سواء اسم مصدر مبتدأ بمعنى مستو، وسوغ الابتداء به تعلق الجار والمجرور به، وأأنذرتهم أم لم تنذرهم مؤول بمفرد خبر تقديره مستو عليهم إنذارك وعدمه، وهو فعل مسبوك بلا سابك، إن قلت إن خبر المبتدأ إذا وقع جملة لا بدله من رابط. اجيب بأن الخبر عن المبتدأ في المعنى وهو يكفي في الربط، وأجيب أيضاً بأن محل الاحتياج للرابط ما لم يؤول الخبر بمفرد وإلا فلا يحتاج للرابط، وقولهم لا بد للعفل من سابك اغلبي ويصح العكس، وهو أن الجملة مبتدأ مؤخر وسواء خبر مقدم. قوله: (ونحوهما) أي من كفار مكة الذين سبق علم الله بعدم ايمانهم، والحكمة في إخبار الله نبيه بذلك ليربح قلبه من تعلقه بايمانهم فلا يشغل بهدايتهم ولا تأليفهم، ويحتمل أن ذلك إعلام من الله لنبيه بمن كفر من أول الزمان إلى آخره لأنه أطلعه على النار وعلى أعد لها من الكفار، والحكمة في عدم الدعاء منه عليهم مع علمه بأنه يستحيل ايمانهم أنه يرجو الإيمان من ذريتهم، قوله: (بتحقيق الهمزتين) أي مع مدة بينهما مداً طبيعياً وتركه فهما قراءتان. وقوله: (وابدال الثانية ألفا) أي مداً لازما وقدره ست حركات. وقوله: (وتسهيلها) أين بأن تكون بين الهمزة والهاء. وقوله: (وادخال الف) الواو بمعنى مع، فحاصله أن القراءات خمس: قراءتان مع التحقيق وقراءتان مع التسهيل وقراءة مع الإبدال، وكلها سبعية على التحقيق، خلافا للبيضاوي حيث قال ان قراءة الإبدال لحن لوجهين: الأول أن الهمزة المتحركة لا تبدل الفاً، والثاني أن فيه التقاء السكانين على غير حده، رد عليه ملا علي قاري بأن القراءة متواترة عن رسول الله، ومن أنكرها كفر، فيستدل بها لا لها، وأما قوله أن الهمزة المتحركة لا تبدل الفاً محله في القياسي، وأما السماعي فلا لحن فيه لأنه يقتصر فيه على السماع، وقوله فيه التقاء السكانين على غير حده تقول سهلة طول المد والسماح، وأما قولهم كل ما وافق وجه النحو الخ، محله في قراءة الآحاد لا في المتواترة، وإلا فالتواتر نفسه حجة على غيره لا يحتج له. قوله: (إعلام مع تخويف) أي في وقت يسع التحرز من الأمر المخوف، والا فيسمى إخباراً بالعذاب. قوله: ﴿ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ ﴾ هذا وما بعده كالعلة والدليل ما قبله، والمراد بالقلوب العقول وهي اللطيفة الربانية القائمة بالشكل الصنوبري قيام العرض بالجوهر أو قيام حرارة النار بالفحم. قوله: (طبع عليها) هذا اشارة الى المعنى الأصلي فأطلقه وأراد لازمه وهو عدم تغيير ما في قلوبهم بدليل قوله فلا يدخلها خير، وفي القلوب استعارة بالكناية، حيث شبه قلوب الكفار بمحل فيه شيء مختوم عليه وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو الختم فإثباته تخييل. قوله: (أي مواضعه) انما قدر ذلك المضاف لأن السمع معنى من المعاني لا يصح اسناد الختم لها. وإفراده، إما لأنه مصدر لا يثنى ولا يجمع، أو لكون المسموع واحداً، وتم الوقف على قوله: ﴿ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ﴾، وقوله: ﴿ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ ﴾ خبر مقدم و: ﴿ غِشَاوَةٌ ﴾ مبتدأ مؤخر جملة مستأنفة نظير قوله تعالى﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ ﴾[الجاثية: ٢٣] الآية، والمراد من الغشاوة عدم وصول النور المعنوي لهم. فأطلق اللازم وأراد الملزوم وخص الثلاثة لأنها طرق العلم بالله، قوله: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴾ العذاب هو إيصال الآلام للحيوان على وجه الهوان. قله: (قوي دائم) إنما فسره بذلك لأن الأصل في العظم أن يكون وصفاً للأجسام فلذلك حول العبارة. قوله: (ونزل في المنافقين) أي في أحوالهم وهوانهم واستهزاء الله بهم وضرب الأمثال فيهم وعاقبة أمرهم، وجملة ذلك ثلاث عشرة آية آخرها﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾[البقرة: ٢٠]، وأخرهم عن المؤمنين والكافرين ظاهراً أو باطناً إشارة إلى أنهم أسوأ حالاً من الكفار.
قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ﴾ يحتمل أن الجار والمجرور خبر مقدم، ومن اسم موصول أو نكرة موصوفة مبتدأ مؤخرة، وجملة يقول إما صلة أو صفة، والمعنى الذي يقول أو فريق يقول ما ذكر كائن من الناس ورد ذلك بأنه لا فائدة في ذلك الاخبار، والحق أن يقال إن من اسم بمعنى بعض مبتدأ أو جربها لأنها على صورة الحرف أو صفة لمحذوف بمبتدأ تقديره فريق من الناس، وخبره قوله (من يقول) الخ وعهده جعل الظرف مبتدأ حيث كان تمام الفائدة بما بعده كقوله تعالى:﴿ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ﴾[الجن: ١١] وقوله تعالى﴿ وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ ﴾[التوبة: ٦١]، وأصل ناس أناس أتى بأل بدل الهمزة مشتق من التأنس لتأنس بعضهم ببعض، وتسمية الانس به حقيقة، والجن مجاز وقيل مشتق من ناس إذا تحرك، وعليه فتسمية الجن به حقيقة أيضاً والحق الأول، ولذا قيل لم يوجد منافق أو مشرك إلا في بني آدم فقط وكفر الجن بغير الإشراك والنفاق وهو جمع إنسان أو إنسي، والمراد من المنافقين هنا بعض سكان البوادي بعض أهل المدينة في زمنه صلى الله عليه وسلم وخير ما فسرته بالوارد، قال تعالى:﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ ﴾[التوبة: ١٠١] الآية. قوله: ﴿ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾ أعاد الجار لإفادة تأكد دعواهم الإيمان بكل ما جاء به رسول الله، فرد عليهم المولى بأبلغ رد بقوله: ﴿ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾ حيث أتى بالجملة الاسمية وزاد الجار في الخبر. قوله: (لأنه آخر الآيام) علة لتسميته اليوم الآخر، والمراد بالأيام الأوقات، وهل المراد الأوقات المحدودة وهو بناء على أن أوله النفخة وآخره الاستقرار في الدارين أو الأوقات الغير المحدودة بناء على أنه لا نهاية له، وقوله: ﴿ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾ جملة اسمية تفيد الدوام والاستمرار، أي لم يتصفوا بالإيمان في حال من الأحوال، لا في الماضي ولا في الحال ولا في الاستقبال. قوله: ﴿ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ ﴾ هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره ما الحامل لهم على إظهار الإيمان وإخفاء الكفرة، وحقيقة المخادعة أن يظهر لصاحبه أنه موافق ومساعد له على مراده، والواقع أنه ساع في إبطال مراده، فاظهار خلاف ما يبطن إن كان في الدين سمي نفاقاً وخديعة ومكراً، وإن كان في الدنيا بأن يصانع أهل الدنيا لأجل حماية الدين ووقايته تسمى مداراة وهي ممدوحة. قوله: (من الكفر) بيان لما أبطنوه. وقوله: (ليدفعوا) علة للإظهار. قوله (أحكامه) أي الكفر. وقوله: (الدنيوية) أي الكائنة في الدنيا وذلك كالقتل والسبي والجزية والذل، ولو قصدوا دفع أحكامه الأخروية من الخلود في النار وغضب الجبار لأخلصوا في إيمانهم. قوله: (لأن وبال خداعهم) أي عذابه وعاقبه أمره. قوله: (راجع إليهم) قال تعالى:﴿ وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾[فاطر: ٤٣].
قوله: (فيفتضحون) تفريع على قوله: (لأن وبال خداعهم الخ). قوله: (بإطلاع الله نبيه) أي وأمره بإخراجهم من المسجد ونزل فيهم: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم) الآيات. قوله: (ويعاقبون في الآخرة) أي بالعذاب الدائم المؤبد في الدرك الأسفل. قوله: (يعلمون) سمى العلم شعوراً لأنه يكون بأحد المشاعر الخمس وهي: الشم والذوق واللمس والسمع والبصر. قوله: (والمخادعة هنا من واحد) أي فليست على بابها وهو جواب عن سؤال تقديره إن المفاعلة تكون من الجانبين، وفعل الله لا يقال فيه مخادعة، فأجاب بما ذكر، وقد ورد سؤال آخر حاصله أن الخداع لا يكون إلا لمن تخفى عليه الأمور، فما معنى إسناد المخادعة إلى الله أجيب بأن في الكلام استعارة تمثيلية، حيث شبه حالهم مع ربهم في إيمانهم ظاهراً لا باطناً بحال رعية تخادع سلطانها واستعير اسم المشبه به للمشبه، أو مجاز عقلي، أي يخادعون رسول الله من اسناد الشيء إلى غير من هو له أو مجاز بالحذف، أو في الكلام تورية وهي أن يكون للكلام معنى قريب وبعيد، فيطلق القريب ويراد البعيد وهو مطلق الخروج عن الطاعة باطناً، وإن كان العامل لا تخفى عليه خافية، وأشار المفسر لذلك كله بقوله (وذكر الله فيها تحسين) أي يذكر المجاز لأنه أبلغ من الحقيقة.
قوله: ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ يطلق على الحسي وهو الحرقة، وعلى المعنوي وهو الشك والنفاق، ولا شك أن في قلوبهم المرضين والمعنوي سبب في الحسي، فقوله (شك ونفاق) إشارة للمرض المعنوي، وقوله (فهو يمرض قلوبهم) بيان لما يتسبب عنه، وهو إشارة الحسي، وهي في محل التعليل لما قبلها قوله: (بما أنزله من القرآن) أشار بذلك إلى أن نزول القرآن يزيد الكافر والمنافق مرضاً بمعنى كفراً وشكاً فينشأ عنه المرض الحسي، كما يزيد المؤمن إيماناً فينشأ عنه البهجة والسرور، قال تعالى﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً ﴾[التوبة: ١٢٤] الآيات. ويحتمل أن المراد بما أنزله أي في حقهم من فضيحتهم خصوصاً بسورة التوبة فإنها تسمى الفاضحة. قوله: (مؤلم) يقرأ اسم مفعول أي العذاب يتألم من شدته فكأنه لشدته كأن الألم قائم به وهو أبلغ، ويصح قراءته اسم فاعل ولا بلاغة فيه. قوله: (أي نبي الله) إشارة إلى المفعول، وقوله (أي في قولهم) إشارة إلى المتعلق على القراءة والثانية. قوله: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ﴾ شروع في ذكر قبائحهم وأحوالهم الشنيعة، وفي الحقيقة هو تفصيل المخادعة الحاصلة منهم، وهذه الجملة يحتمل أنها استئنافية، ويحتمل أنها معطوفة على يكذبون أو على صلة من وهي يقول التقدير من صفاتهم أنهم يقولون آمناً الخ، ومن صفاتهم أنهم ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ الخ، وأصل قيل قول استثقلت الكسرة على الواو فنقلت إلى ما قبلها بعد سلب حركتها ثم وقعت الواو ساكنة بعد كسرة قلبت ياء، وفاعل القول قيل الله سبحانه وتعالى وقيل النبي والصحابة ومقول القول جملة ﴿ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ في محل نصب وهي نائب الفاعل باعتبار لفظها. قوله: (بالكفر) الباء سببية بيان لسبب الإفساد، وقوله: (والتعويق عن الإيمان) معطوف عليه أي تعويق الغير عن الإيمان وصدهم عنه. قوله: ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ أي ليس شأننا الإفساد أبداً، بل نحن محصورون للإصلاح ولا نخرج عنه إلى غيره فهو في حصر المبتدأ في الخبر، وأكدوا ذلك بإنما المفيدة الحصر، وبالجملة الإسمية المفيدة الدوام والإستمرار، فرد عليهم سبحانه وتعالى بجملة مؤكدة بأربع تأكيدات إلا التي للتنبيه وإن ضمير الفصل وتعريف الخبر. قوله: (للتنبيه) وتأتي أيضاً للإستفتاح وللعرض والتحضيض، وفي الحقيقة الإستفتاح والتنبيه شيء واحد، وتدخل إذا كانت لهما على الجملة الإسمية والفعلية، وأما إذا كانت للعرض والتحضيض، فإنها تختص بالأفعال وهي بسيطة على التحقيق لا مركبة من همزة الإستفهام ولا النافية. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ (بذلك) أي ليس عندهم شعور بالإفساد لطمس بصيرتهم، وعبر بالشعور دون العلم، إشارة إلى أنهم لم يصلوا إلى رتبة البهائم تمتنع من المضار فلا تقربها لشعورها بخلاف هؤلاء.
قوله: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ﴾ مقول القول قوله: ﴿ آمِنُواْ ﴾ وهو نائب الفاعل وفاعل القول قيل الله وقيل النبي وأصحابه كما نقدم. قوله: (أصحاب النبي) أشار بذلك إلى أن أل من الناس للعهد العلمي الخارجي ويحتمل أن تكون أل للكمال أي الناس الكاملون. قوله: ﴿ قَالُوۤاْ ﴾ أي فيما بينهم وإلا فلو قالوا ذلك جهاراً لظهر كفرهم وقتلوا. قوله: (الجهال) أي بناء على أن السفه ما قابل العلم، ويصح أن المراد به نقص العقل بناء على أنه ما قابل الحلم، فإن الصحابة أنفقوا أموالهم في سبيل الله حتى افتقروا وتحملوا المشاق فسموهم سفهاء لذلك. قوله: (ردا عليهم) أي بجملة مؤكدة بأربع تأكيدات كالأولى. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ (ذلك) أي السفه أو علم النبي بسفههم، وعبر هنا بالعلم إشارة إلى أن السفه معقول بخلاف الفساد فإنه مشاهد، فلذلك عبر هنا بالعلم وهناك بالشعور. قوله: ﴿ وَإِذَا لَقُواْ ﴾ سبب نزول الآية، أن أبا بكر وعمر وعلياً توجهوا لعبد الله بن أبي بن سلول لعنه الله فقال له أبو بكر هلم أنت وأصحابك وأخلص معنا، فقال له مرحباً بالشيخ والصديق ولعمر مرحباً بالفاروق القوي في دينه، ولعلي مرحباً بابن عم النبي، فقال له علي: أتق الله ولا تنافق، فقال ما قلت ذلك إلا لكون إيماني كإيمانكم، فلما توجهوا قال لجماعته: إذا لقوكم فقولوا مثل ما قلت فقالوا: لم نزل بخير ما عشت فينا، وإذا ظرف منصوب بقالوا. قوله: (أصله لقيوا) أي على وزن شربوا. قوله: (حذفت الضمة) لم يكمل التصريف وتمامه ثم ضمت القاف للمناسبة. قوله: (منهم) أشار بذلك إلى أن متعلق خلا محذوف، وقوله: ﴿ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ ﴾ متعلق بمحذوف أيضاً قدره المفسر بقوله: (ورجعوا) ويحتمل كما قال البيضاوي إن خلا بمعنى الفرد، وإلى بمعنى مع، أي انفردوا مع شياطينهم ولا حذف فيه، وأصل خلوا خلووا بواوين الأول لام الكلمة والثانية علامة الإعراب قلبت لام الكلمة ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فبقيت ساكنة، وبعدها واو الضمير سكانة فحذفت لالتقاء الساكنين وبقيت الفتحة دالة عليها. قوله: (رؤسائهم) إنما سمو شياطين لأن كل رئيس منهم معه شيطان يوسوس له ويعلمه المكر، وقيل لأنهم كالشياطين في الإغواء ورؤساؤهم في ذلك الوقت خمسة: كعب بن الأشرف في المدينة، وعبد الدار في جهينة، وأبو بردة في بني أسلم وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن الأسود في الشام، قوله: (يجازيهم باستهزائهم) إنما سمى المجازاة استهزاء من باب المشاكلة، والإستهزاء الإستخفاف بالشيء. قوله: (يمهلهم) أتى بذلك دفعاً لما يتوهم من أن المجازاة واقعة حالاً، وحكمة الإمهال مذكورة في قوله تعالى:﴿ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً ﴾[آل عمران: ١٧٨] إلى غير ذلك من الآيات. قوله: (بالكفر) الباء سببية أي تجاوزهم الغاية بسبب الكفر. قوله: (حال) أي جملة يعمهون وهي إما حال من الهاء في يمدهم أو من الهاء في طغيانهم، والمراد بالعمة عدم معرفة الحق من الباطل، فمنهم من يظهر له وجه الحق ويكفر عناداً، ومنهم من يشك في الحق ويقال له عمى أيضاً، فبين العمة والعمى عموم وخصوص مطلق يجمعان في طمس القلب وينفرد العمى بفقد البصر. قوله: (تحيراً) إما مفعول لأجله أو تمييز. قوله: (استبدلوها به) أشار بذلك إلى أن المراد بالشراء مطلق الإستبدال، والباء داخلة على الثمن، والمراد بالضلالة الكفر وبالهدى الإيمان وكلامه يقتضي أن الهدى كان موجوداً عندهم ثم دفعوه وأخذوا الضلالة، وهو كذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:" كل مولود يولد على الفطرة حتى يهودانه أبواه "الحديث، ولأنهم في العهد يوم (ألست بربكم) أجابوا بالإيمان جميعاً. قوله: (أي ما ربحوا فيها) أشار بذلك إلى أن إسناد الربح للتجارة مجاز عقلي وحقه أن يسند للتجر. قوله: (بل خسروا) أي الربح ورأس المال جميعاً خسراناً دائماً فقوله: (لمصيرهم) علة له. فمثلهم كمثل من عنده كنز عظم ينفع في الدنيا والآخرة استبدله بالنار لأن الضلالة سبب النار.
قوله: ﴿ مَثَلُهُمْ ﴾ لما بين قبائحهم وعقابة أمرهم شرع يضرب أمثالهم ويبين فيه وصفهم وما هم عليه. قوله: (صفتهم) أشار بذلك إلى أن المثل بالتحريك هنا معناه الصفة، وليس المراد به المثل السائر وهو كلام شبه مضربه بمورده لغرابته كقولهم الصيف ضيعت اللبن. وقوله تعالى:﴿ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً ﴾[النحل: ٧٥] الآية، وإنما فسره بالصفة ولم يفسره بالمثل بمعنى الشبه، لئلا يلزم عليه زيادة الكاف، والأصل عدم الزيادة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مثل التقدير صفتهم كائنة مثل صفة (الذي استوقد ناراً)، ويصح في هذه الكاف أن تكون اسماً وهي نفسها هي الخبر، وإنما جربها لأنها على صورة الحرف وأن تكون حرفاً متعلقة بمحذوف وعلى كل معناها مثل. قوله: ﴿ ٱسْتَوْقَدَ ﴾ راعى في الإفراد لفظ الذي. وفي قوله: ﴿ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ معناه. قوله: (أوقد) أشار بذلك إلى أن السين والتاء زائدتان لا للطلب، لأنه لا يلزم من الطلب الإيقاد بالفعل. قوله: (في ظلمة) أي شديدة وهي ظلمة الليل والسحاب والريح مع المطر. قوله: ﴿ فَلَمَّآ أَضَآءَتْ ﴾ الإضاءة النور القوي. قال تعالى:﴿ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً ﴾[يونس: ٥] فقوله: (أنارت) أي نوراً قوياً والفاء للترتيب والتعقيب لأن الإضاءة تعقب الإيقاد. قوله: ﴿ مَا حَوْلَهُ ﴾ يحتمل أن ما نكرة موصوفة وحوله صفة والضمير عائد على الموقد للنار، وفاعل أضاءت ضمير يعود على النار، ويحتمل أن ما اسم موصول وحوله صلة وهو صفة لموصوف محذوف تقديره المكان الذي حوله. قوله (واستدفأ) أي امتنع عنه ألم البرد. قوله: (وأمن مما يخافه) أي من عدو وسباع وحيات وغير ذلك مما يضر، وحينئذ فقد تم له النفع بالنار. قوله: ﴿ بِنُورِهِمْ ﴾ الضمير عائد على ما تقدم ضمناً في قوله: ﴿ فَلَمَّآ أَضَآءَتْ ﴾ إذ المعنى أنارت على حد (اعدلوا هو أقرب للتقوى) ولم يقل بضوئهم إشارة إلى انعدام النور بالكلية، بخلاف ما لو عبر بالضوء لأنه لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، والباء للتعدية كالهمزة فلذلك دخلت على المفعول، ولا تستلزم الباء المصاحبة كالهمزة فذهبت بزيد مثل أذهبت زيداً خلافاً للمبرد حيث جعلها تفيد المصاحبة، ورد بهذه الآية لإستحالة المصاحبة فيها. قوله: ﴿ وَتَرَكَهُمْ ﴾ عطف على ذهب. قوله: ﴿ فِي ظُلُمَٰتٍ ﴾ أي ثلاث: ظلمة الليل والسحاب والريح مع المطر. قوله: (ما حولهم) هذا هو مفعول يبصرون. وقوله: (متحيرين) حال من الضمير في تركهم. قوله: (فكذلك) أشار بذلك إلى حال المشبه وهم المنافقون. وقوله: (أمنوا) بالقصر ضد الخوف، أي حيث أسلموا بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، فقد أمنوا من القتل والسبي وانتفعوا بأخذ الغنائم والزكاة، فإذا ماتوا فقد ذهب الله بنورهم فلم يأمنوا من النار ولم ينتفعوا بالجنة، وتركهم في ظلمات ثلاث: ظلمة الكفر، والنفاق والقبر، والجامع بينهما أن الإنتفاع ودفع المضار في كل شيء قليل ثم يذهب. قوله: ﴿ صُمٌّ ﴾ خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله هم. قوله: ﴿ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ أي لفقد هذه الإدراكات الثلاثة من قلوبهم.
قوله: ﴿ أَوْ ﴾ (مثلهم) يصح أن تكون للتنويع أو للإبهام أو الشك أو الإباحة أو التخيير أو الإضراب أو بمعنى الواو وأحسنها الأول. قوله: (أي كأصحاب مطر) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، والمثل هنا بمعنى الصفة كما تقدم. قوله: (وأصله صيوب) أي اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء. قوله: (السحاب) أشار بذلك إلى أن المراد بالسماء السماء اللغوية وهي كما ما ارتفع، وأصل سماء سماو وقعت الواو متطرفة فقلبت همزة. قوله: (أي السحاب) المناسب عود الضمير على الصيب. قوله: ﴿ ظُلُمَٰتٌ ﴾ أي ظلمة الريح والسحاب والليل. قوله: (هو الملك) أي وعليه قوله تعالى:﴿ وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ﴾[الرعد: ١٣].
قوله: (وقيل صوته) أي: فقوله تعالى يسبح الرعد أي ذو الرعد. قوله: (لمعان صوته) أي الآلة التي يسوق بها وهي من نار. قوله: (أي أصحاب الصيب) أي فهو بيان للواو في يجعلون. قوله: (أي أناملها أشار بذلك إلى أن في الأصابع مجازاً من باب تسمية الجزء باسم الكل مبالغة في شدة الحرص في إدخال رأس الأصبع فكأنه مدخل لها كلها. قوله: (شدة صوت الرعد) الإضافة بيانية إن كان المراد بالرعد صوت الملك. وحقيقته إن كان المراد به ذاته. قوله: (كذلك هؤلاء) أي المنافقون. قوله: (علماً وقدرة) تمييزان محولان عن الفاعل، والأحاطة الإحتواء على الشيء كاحتواء الظرف على المظروف، وهي محالة في حقه تعالى، فأشار المفسر إلى دفع ذلك بقوله: علماً وقدرة أي فالمراد الإحاطة المعنوية، وهي كونهم مقهورين، فلا يتأتى منهم فوات ولا إفلات، قال تعالى:﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ﴾[فاطر: ٤٤]؟قوله ﴿ يَكَادُ ٱلْبَرْقُ ﴾ هذا من تمام المثل، وأما قوله: ﴿ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ ﴾ فجملة معترضة بين أجزاء المشبه به جيء بها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وأصل يكاد يكود بفتح الواو نقلت فتحة الواو إلى الساكن قبلها فتحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً، وأصل ماضيها كود بكسر الواو تحركت الواو وانفتحت ما قبلها قلبت ألفاً، وهذا التصريف في الناقصة، وأما التامة ففعلها يائي وهي بمعنى المكر، قال تعالى:﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً ﴾[الطارق: ١٥] وأصل مضارعها يكيد بسكون الكاف وكسر الياء نقلت كسرة الياء إلى الكاف فصحت الياء. قوله: ﴿ يَخْطَفُ ﴾ بفتح الطاء مضارع خطف بفتح الطاء وكسرها. قوله: ﴿ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ ﴾ كل بحسب ما تضاف إليه وما نكرة بمعنى وقت، فكل ظرفية والعامل فيها مشوا وفاعل أضاء يعود على البرق، وأضاء يحتمل أن يكون متعدياً، والمفعول محذوف التقدير كل وقت أضاء لهم البرق طريقاً ﴿ مَّشَوْاْ فِيهِ ﴾ فالضمير في فيه عائد على الطريق، ويحتمل أن يكون لازماً، والضمير عائد على الضوء. قوله: (تمثيل) أي من باب تمثيل الجزئيات بالجزئيات فقوله من الحجج أي المشبهة بالرعد والبرق الخاطف، وقوله: (وتصديقهم لما سمعوا فيه ما تحبون) أي من الآيات الموافقة لطبعهم كالقسم لهم من الغنائم وعدم التعرض لهم وأموالهم، وأشار بذلك بقوله: ﴿ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ ﴾، فكذلك هؤلاء، وقوله: (ووقوفهم عما يكرهون) أي من التكاليف كالصلاة والصوم والحج والحكم عليهم، قال تعالى:﴿ وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ﴾[النور: ٤-٤٩] وأشار إلى ذلك بقوله: ﴿ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ ﴾.
قوله: ﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ﴾ يحتمل أن هذا من تعليقات المشبه به الذي هو أصحاب الصيب، التقدير لولا مشيئة الله سبقت لخطف البرق أبصارهم ولأذهب الرعد أسماعهم، فإن ما ذكر سبب عادي لإذهاب السمع والبصر، ولكن قد يوجد السبب ولا يوجد المسبب لتخلف المشيئة، والمقصود من ذلك زيادة القوة في المشبه به ويلزم منه القوة في المشبه، وهذا ما عليه أبو حيان والبيضاوي، ويحتمل أنه من تعلقات المشبه وهم المنافقون، وعليه المفسر حيث أشار لذلك بقوله كما ذهب بالباطنة. قوله: (بمعنى أسماعهم) أشار بذلك إلى أن السمع بمعنى الإسماع. وقوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ هذا دليل لما قبله. قوله: (شاءه) دفع بذلك ما يقال إن الشيء هو الموجود ومن ذلك ذات الله وصفاته وكل للإستغراق، فيقتضي أن القدرة تتعلق بالواجبات فدفع ذلك بقوله شاءه أي أراده، والإرادة لا تتعلق إلا بالممكن، فكذا القدرة فخرجت ذات الله وصفاته فلا تتعلق بهما القدرة إلا لزم، إما تحصيل الحاصل أو قلب الحقائق. قوله: ﴿ قَدِيرٌ ﴾ من القدر وهو صفة أزلية قائمة بذاته تعالى تتعلق بالممكنات إيجاداً أو إعداماً على وفق الإرادة والعلم. قوله: (ومنه إذهاب ما ذكره) أي من جملة الشيء الذي شاءه، وقوله ما ذكره أي السمع والبصر.
قوله: ﴿ يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ لم يناد في القرآن إلا بيا سواء كان النداء من الله لعباده أو منهم لله وهي لنداء البعيد، ولما كان الله لا يشبه شيئاً من الحوادث وهو منزه عنهم ذاتاً وصفات وأفعالاً نودي بيا تنزيلا للبعد المعنوي منزلة البعد الحسي، ولما كان البعد قائماً بالحوادث للحجب الموجودة بينهم وبين الله سبحانه وتعالى ناداهم بيا أيضاً، ويا حرف نداء وأي منادي مبني على الضم، والناس نعت لأي باعتبار اللفظ وهو مرفوع بضمة ظاهرة، واستشكل ذلك بأن العامل إنما طلب النصب لا البناء على الضم وإنما هو اصطلاح للنحاة، فما وجه رفع الناس مع أن القاعدة أن النعت تابع للمنعوت في الإعراب، وهذا إشكال قديم لا جواب له، واعلم أن النداء على سبعة أقسام: نداء تنبيه مع مدح كيا أيها النبي أو مع ذم كيا أيها الذين هادوا، أو تنبيه كيا أيها الإنسان، أو إضافة كيا عبادي، أو نسبة كيا نساء النبي، أو تسمية كيا داود، أو تخصيص كيا أهل الكتاب. قوله: (أي أهل مكة) يصح رفع أهل نظراً للفظ الناس، ونصبه نظراً لمحل أي: لأن لما بعد أي في الإعراب حكم ما فسرته قوله: (وحدوا) هذا تفسير للعبادة، والمفسر قد تبع في تفسير الناس بأهل مكة والعبادة بالتوحيد ابن عباس، وقال جمهور المفسرين إن المراد بالناس جمع المكلفين، وبالعبادة جميع أنواعها أصولاً وفروعاً وهو أشمل، واستدل المفسر بقاعدة أن ما قيل في القرآن بيا أيها الناس كان خطاباً لأهل مكة، ويا أيها الذين آمنوا كان خطاباً لأهل المدينة، وهي قاعدة أغلبية فإن السورة مدنية. قوله: ﴿ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ صفة لرب وتعليق الحكم بمشتق يؤذن بالعلية أي اعبدوه لخلقه إياكم فإنه هو الذي يعبد لا غيره. قوله: (عقابه) إشارة إلى مفعول تتقون. قوله: (ولعل في الأصل للترجي) أي أصل اللغة والترجي هو توقع الأمر المحبوب على سبيل الظن. قوله: (وفي كلامه تعالى للتحقيق) أي ومثلها عسى كما قال سيبويه، ودفع بذلك ما يتوهم من معنى كون المولى سبحانه وتعالى جاهلاً بالأمور المستقبلية، وأتى به على صورة الترجي بالنسبة لحال المخاطبين لا لخبر الله فإنه من قبيل الوعد وهو لا يتخلف. قوله: (خلق) أي فتنصب مفعولاً واحداً وهو الأرض.
وقوله: ﴿ فِرَٰشاً ﴾ حال كما قال المفسر ويحتمل أنها على بابها بمعنى صير فيكون فراشاً مفعولاً ثانياً، والمراد على الثاني التصيير من عدم. قوله: (فلا يمكن الإستقرار عليها) مفرع على المنفي بشقيه. قوله: (سقفاً) أي وقد صرح به في آية (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً). قوله: ﴿ مِنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ أي اللغوية وهي ما علا وارتفع، والمراد بالسحاب. قوله: ﴿ مَآءً ﴾ هو في الجنة فينزل بمقدار على السحاب وهو كالغربال ثم يساق حيث شاء الله على مختار أهل السنة، وقالت المعتزلة: إن السحاب له خراطيم كالإبل فينزل يشرب من البحر المالح بمقدار ويرتفع في الجو فتنسفه الرياح فيحلو ثم يساق حيث شاء الله. قوله: ﴿ ٱلثَّمَرَٰتِ ﴾ أي المأكولات لجميع الحيوانات بدليل قول المفسر وتعلفون به دوابكم، والمراد بها على وجه الأرض غير الأدمي. قوله: ﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً ﴾ لا ناهية والفعل مجزوم بحذف النون والواو فاعل، وأنداداً مفعول أول مؤخر، ولله جار ومجرور متعلق بمحذوف مفعول ثاني مقدم واجب التقديم لأن المفعول الأول في الأصل نكرة ولم يوجد له مسوغ إلا تقديم الجار والمجرور، ومعنى تجعلوا تصيروا أو تسموا، وعلى كل فهي متعدية لمفعولين والفاء سببية، والأنداد جمع ند معناه المقاوم المضاهي سواء كان مثلاً أو ضداً أو خلافاً. قوله: ﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال، وقوله: (أنه الخالق) بفتح الهمزة في تأويل مصدر سدت مسد مفعولي تعلمون أن تعلمونه خالقاً. قوله: (ولا يكون إلهاً إلا من يخلق) هذا هو تمام الدليل. قال تعالى:﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾[النحل: ١٧].
قوله: ﴿ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ﴾ استشكلت هذه الآية بوجوه ثلاثة، الأول: أن إن تقلب المضي إلى الإستقبال ولو كان الفعل كان خلافاً للمبرد القائد بأنها لا تقبله إذا كان الفعل كان واحتج بهذه الآية فيقضتي أن الريب مستقبل وليس حاصلاً الآن مع أنه حاصل أجيب عنه بأن الإستقال بالنسبة للدوام والمعنى إن دمتم على الريب. الوجه الثاني: أن إن للشك فيفيد أن ريبهم مشكوك فيه مع أنه محقق أجيب بأنه أتى بأن إشارة للائق أي اللائق والمناسب أن لا يكون عندكم ريب. الوجه الثالث: أن قوله وإن كنتم في ريب أي شك في أنه من عند الله أو من عند محمد فليس عندهم جزم بأنه من عند محمد، وقوله: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ ﴾ يفيد أن عندهم جزماً بأنه من عند محمد فبين أول الآية وأخرها تناف أجيب بأنه أشار في أول الآية إلى عقيدتهم الباطنة وفي آخرها إلى عنادهم لإظهار الإغاظة له صلى الله عليه وسلم، فلا يخلو حالهم الباطني، إما أن يكون عندهم شك في أنه من عند الله أو تحقيق بأنه من عند الله، وإنما إظهارهم الجزم بأنه ليس من عند الله عناد. قوله: (شك) جعل الشك ظرفاً لهم إلى أنه تمكن منهم تمكن الظرف من المظروف. قوله: ﴿ مِّمَّا نَزَّلْنَا ﴾ من حرف جر واسم موصول أو نكرة موصوفة، والعائد محذوف، والجملة صلة أو صفة، والجار والمجرور صلة لريب التقدير في ريب كائن من الذي نزلناه أو في ريب كائن من كلام نزلناه. قوله: ﴿ عَلَىٰ عَبْدِنَا ﴾ الإضافة للتشريف وقرئ على عبادنا فعلى هذه القراءة المراد بالجمع محمد وأمته لأن المكذب لمحمد مكذب لأمته. (من القرآن) بيان لما. قوله: (أنه من عند الله) الكلام على حذف الجار أي بأنه. قوله: ﴿ فَأْتُواْ ﴾ أصله ائتيوا بهمزتين الأولى للوصل والثانية فاء الكلمة وقعت الثانية ساكنة بعد كسرة قلبت ياء واستثقلت الضمة على الياء التي هي لام الكلمة فحذفت الياء لالتقاء الساكنين وضمت التاء للتجانس، وفي الدرج تحذف همزة الوصل وتعود الهمزة التي قلبت ياء كما هنا، فأتوا على وزن فافعوا. قوله: (أي المنزل) أي وهو القرآن ويشهد لهذا التفسير ما في سورة يونس (قل فأتوا بسورة مثله)، ويحتمل أن الضمير عائد على عبدنا الذي هو محمد أي فائتوا بسورة من رجل مثل محمد في كونه أمياً بشراً عربياً فإنكم مثله وحيث كان كذلك فلا بعد في مناظرته. قوله (ومن للبيان) ويحتمل أن تكون للتبعيض والأول أقرب. قوله: (في البلاغة) هذا بيان لوجه المماثلة. قوله: (أقلها ثلاث آيات) ليس من تمام التعريف بل هو بيان للواقع فإن أقصر سورة ثلاث آيات ولو فرض أنها آيتان لعجزوا أيضاً. قوله: (آلهتكم) إنما سمو شهداء لزعمهم أنه يشهدون لهم يوم القيامة. قوله: (أي غيره) أشار بذلك إلى أن دون بمعنى غيره، والمعنى ادعوا شهداءكم الذين اتخذتموهم من دون الله أولياء أو آلهة وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة، فقوله من دون الله وصف لشهداء أو حال منه وهو على زيادة من إذ تقديره شهداءكم التي هي غير الله أوحال كونها مغايرة لله، وقوله لتعينكم علة لقوله ادعوا. قوله: (فافعلوا) إشارة إلى جواب الشرط الثاني، وأما جواب الأول فهو مذكور بقوله فأتوا هكذا، قال المفسر ولكن سيأتي له في قوله تعالى:﴿ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ ﴾[البقرة: ٩٤] الآية، وللمحلي في تفسير قوله تعالى:﴿ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ ﴾[الجمعة: ٦] الآية أنه إذا اجتع شرطان وتوسط بينهما جواب كان للأخير والأول قيد فيه ولا يحتاج لجواب ثان، والتقدير في الآية إن كنتم صادقين في دعواكم أنه من عند محمد ودمتم على الريب فائتوا بسورة من مثله وهو أولى لعدم التقدير. قوله: (فإنكم عربيون) علة لقوله فافعلوا. قوله: ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ﴾ إن حرف شرط ولم حرف نفي وجزم وقلب وتفعلوا مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون، والجملة من الجازم والمجزوم في محل جزم فعل الشرط، وقوله فاتقوا جواب الشرط وقرن بالفاء لأنه فعل طلبي. قوله: (أبداً) أخذ التأبيد من قرينة خارجية لا من لن خلافاً للزمخشري. قوله: (اعتراض) أي جملة معترضة بين فعل الشرط وجوابه قصد بها تأكيد العجز وليس معطوفاً على جملة (لم تفعلوا) قوله: (وأنه) يفتح الهمزة على حذف الجار أي وبأنه. قوله: ﴿ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ﴾ بفتح الواو. ما توقد به، وأما بالضم فهو الفعل وقيل بالعكس على حد ما قيل في الوضوء والطهور والسحور. قوله: (كأصنامهم منها) إنما خص الأصنام بكونها من الحجارة مسايرة للآية وإلا فالأصنام مطلقاً تدخل النار، قال تعالى:﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾[الأنبياء: ٩٨] ويستثنى من ذلك عيسى والعزيز وكل معبود من الصالحين، وإنما دخلت الأصنام النار وإن كانت غير مكلفة إهانة لعبادها وليعذبوا بها لا لتعذيبها. قوله: (بما ذكر) أي بالناس الكفار الحجارة. قوله: (لا كنار الدنيا) أي كما ورد أن نار الدنيا قطعة من جهنم غمست في البحر سبع مرات ثم بعد أخذها أوقد على جهنم ثلاثة آلاف سنة، ألف حتى ابيضت وألف حتى احمرت، وألف حتى اسودت، فهي الآن سوداء مظلمة. قوله: (جملة مستأنفة إلخ) أشار بذلك إلى أن هذه الجملة لا ارتباط لها بما قبلها، وقعت في جواب سؤال مقدر تقديره هذه النار التي وقودها الناس والحجارة لمن. قوله: (أو حال لازمة) أي والتقدير فاتقوا النار حال كونها معدة ومهيأة للكافرين، ودفع بقوله لازمة ما قيل أنها معدة للكافرين اتقوا أو لم يتقوا.
قوله: ﴿ وَبَشِّرِ ﴾ جرت عادة الله في كتابه أنه إذا ذكر ما يتعلق بالكافرين وأحوالهم وعاقبة أمرهم يذكر بلصقه ما يتعلق بالمؤمنين وأحوالهم وعاقبة أمرهم، فإن القرآن نزل لهذين الفريقين، والبشارة هي الخبر السار سمي الخبر بذلك لطلاقة البشرة والسرور عنده، والأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو للوجوب لأن البشارة من جملة ما أمر بتبليغه، ويحتمل أن الأمر عام له ولكل من تحمل شرعه كالعلماء. قوله: (أخبر) مشى المفسر على أن معنى البشارة الخبر مطلقاً لكن غلب في الخبر وضده على الندارة، وأما قوله تعالى:﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾[آل عمران: ٢١] فمن باب التشبيه يجامع أن كلاً صادر من المولى وهو لا يتخلف. قوله: (صدقوا بالله) إنما على ذلك لأنه يلزم من التصديق بالله التصديق بما أخبر به على لسان رسله. قوله: ﴿ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ ﴾ وصف جرى مجرى الأسماء فلذلك صح إسناد العوامل له، فلا يقال إنه صفة لموصوف محذوف أي الأعمال الصالحات. قوله: (من الفروض) أي كالصلوات الخمس وصيام رمضان والحج في العمرة مرة وزكاة الأموال والجهاد إذا فجأ العدو، وقوله والنوافل أي كصلاة التطوع وصومه ومواساة الفقراء وغير ذلك من أنواع البر، والمراد عملوا الصالحات على حسب الطاقة قال تعالى:﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ ﴾[التغابن: ١٦].
قوله: (أي بأن) أشار بذلك إلى حذف الجار وهو مطرد مع أن قال ابن مالك: نقلاً وفي أن وأن يطرد   مع امن لبس كعجبت أن يدواقوله: ﴿ لَهُمْ جَنَّٰتٍ ﴾ جمع جنة واختلف في عددها فقيل أربع وهو ما يؤخذ من سورة الرحمن، وقيل سبع وعليه ابن عباس جنة عدن وجنة المأوى والفردوس ودار السلام ودار الجلال وجنة النعيم وجنة الخلد. قوله: (حدائق) جمع حديقة وهي الروضة الحسنة. قوله: (ذات أشجار ومساكن) أي موجودات فيها الآن ومع ذلك تقبل الزيادة، فالجنة تامة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ومع ذلك أرضها واسعة طيبة تقبل الزيادة. قوله: (أي تحت أشجارها) أي على وجه الأرض بقدرة الله فلا تبلي فرشاً ولا تهدم بناء ولا تقطع شجراً. قوله: ﴿ ٱلأَنْهَٰرُ ﴾ يحتمل أن تكون ال للعهد والمراد بها ما ذكر في سورة القتال بقوله تعالى:﴿ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ﴾[محمد: ١٥].
قوله: (أي المياه فيها) أي الأنهار وأشار بذلك إلى أن في الجنة حفراً كأنهار الدنيا، وقيل لم يوجد في الجنة حفر تجري فيها المياه بل تجري على وجه الأرض. قوله: (والنهر الموضع) أي بحسب الأصل اللغوي. قوله: (وإسناد الجري إليه مجاز) أي عقلي أو الإسناد حقيقي، وإنما التجوز في الكلمة من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه. قوله: ﴿ كُلَّمَا رُزِقُواْ ﴾ ظرف لقوله قالوا: قوله: ﴿ مِن ثَمَرَةٍ ﴾ أي نوعها: قوله: (أي مثل ما) الأولى حذف وما تقدم مثل على الذي وأتى بمثل دفعاً لما يتوهم من قولهم (هذا الذي رزقنا من قبل) إنه عينه وذلك مستحيل لأنه قد أكل والمعنى أن الله قادر على صنع طعام متحد اللون مختلف الطعام واللذة. فإذا رأوه قالوا: (هذا الذي رزقنا من قبل بحسب ما رأوا من اتحاد اللون، فإذا أكلوه علموا عدم الإتحاد. قوله: (أي قبله في الجنة) أشار بذلك إلى رد ما قيل إن المراد بقوله من قبل في الدنيا وقوله: ﴿ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً ﴾ أي يشبه ثمر الدنيا في الصورة. قوله: (جيئوا بالرزق) أي يأتي به الولدان والملائكة والمراد بالرزق المرزوق أي المأكول. قوله: (وغيرها) أي نساء الدنيا فقد ورد أن نساء الدنيا يكن أجمل من الحور العين، وقد ورد أن كل رجل يزوج بأربعة آلاف بكر وثمانية آلاف أيم ومائة حوراء. قوله: (وكل قذر) أي كالنفاس والبصاق والمخاط وليس في الجنة إنزال ولا حمل ولا ولادة وليس الأكل والشرب عن جوع وظمأ. قوله: (لا يفنون) أي ولا يمرضون ولا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. قوله: (ولا يخرجون) أي لقوله تعالى:﴿ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾[الحجر: ٤٨].
قوله: (ونزل رداً) فاعل نزل جملة (إن الله لا يستحي) قصد لفظها ورداً بمعنى جواباً مفعول لأجله أو حال من فاعل نزل، وقوله لما: (ضرب الله المثل) ظرف للقول ومقول القول قوله: ماذا أراد الله إلخ وقوله: (بالذباب) الباء للتصوير وهو متعلق بضرب وجواب استفهامهم قوله تعالى:﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ﴾[البقرة: ٢٦] قوله: (في قوله) أي تعالى وحذفها للاختصار وحذا بقية المثلين قوله: (بذكر هذه الأشياء الحسنة) أي مع أنه عظيم وقالوا أيضاً إن الواحد منا يستحي أن يضرب المثل بالشيء الخسيس فالله أولى وجعلوا ذلك ذريعة لإنكار كونه من الله.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ ﴾ مضارع استحيا ومصدره استحياء وقرئ بحذف إحدى الياءين فاختلف هل المحذوف اللام أو العين، فعل الأول وزنه يستفع وعلى الثاني وزنه يستفل، وعلى كل نقلت حركة ما بعد الساكن إليه فحذفت إما اللام أو العين، والحياء في حق الحوادث تغيير وانسكار يعتري الإنسان من فعل ما يعاب ولازمه الترك فأطلق في حق الله وأريد لزمه وهو الترك، وإنما أتى به مشاكلة لقولهم: الله عظيم يستحي أن يضرب المثل بالشيء الحقير. قوله: ﴿ أَن يَضْرِبَ ﴾ فيه حذف الجار أي من أن يضرب وقوله: (يجعل) أي فينصب مفعولين. قوله: (أو زائدة) أي وهو الأقرب والمعنى على الأول إن الله لا يستحي أن يجعل مثلاً شيئاً موصوفاً بكونه بعوضة فما فوقها وعلى الثاني إن الله لا يستحي أن يجعل مثلاً بعوضة فما فوقها. قوله: (لتأكيد الخسة) أي فليست زيادة محضة وهكذا كل زائدة في القرآن. قوله: (وهو صغار البق) يطلق البق على الناموس وعلى الأحمر المنتن الرائحة والأقرب الأول لأنه عجيب في الخلقة فله ستة أرجل وأربعة أجنحة وخرطوم طويل وذنب ومع ضعفه وصغره يقتل الجمل العظيم بمنقاره وهو القاتل للنمروذ قوله: (أي أكبر منها) أي في الجسم كالجمل مثلاً ويحتمل أن المراد بقوله: ﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾ أي في الخسة كالذرة. قوله: (أي لا يترك بيانه) هذا هو معنى الإستحياء في حق الله وتقدم أنه مجاز من إطلاق الملزوم وأرادة اللازم. قوله: (لما فيه من الحكم) علة لعدم الترك. قوله: ﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ شروع في بيان الحكمة المترتبة على ضرب المثل. قوله: (الواقع موقعه) صادق بالأفعال الصائبة والذات الثابتة والأقوال الصادقة. قوله: (تمميز) أي محول عن المفعول على حد (وفجرنا الأرض عيونا). قوله: (استفهام إنكار) أي بمعنى النفي. قوله: (بمعنى الذي) أي العائد محذوف أي أرادة. قوله: (أي أي فائدة) هذا زبدة معنى التركيب وقصدهم بهذا الإستفهام نفي الفائدة فيتصلون بذلك إلى إنكار كونه من عند الله قوله: (به) الباء سببية وقوله: (لكفرهم به) علة لضلالهم. وقوله: (لتصديقهم به) علة لهدايتهم. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ ﴾ يطلق لفظ الفاسقين على من فعل الكبائر في بعض الأحيان وعلى من فعلها في كل الأحيان غير مستحل لها وعلى من استحلها وهو المراد هنا فقول المفسر الخارجين عن طاعته أي بالكلية وهم الكفار. قوله: (نعت) أي للفاسقين. قوله: (ما عهده إليهم) إنما فسر المصدر باسم المفعول لأن العهد الذي هو أمر الله بالإيمان بالنبي قد حصل فلا ينقض، وإنما الذي ينقض المأمور به، والمراد جملة العهد الواقع على ألسنة أنبيائهم في كتبهم، فإن الله عاهد كل نبي مع أمته من آدم إلى عيسى أنه إذا ظهر محمد ليؤمنن به ولينصرنه قال تعالى:﴿ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ﴾[آل عمران: ٨١] الآية.
ومن العهد أوصافه المذكورة في كتبهم فنقضوا ذلك بتبديلهم إياها وإنكارها وعدم الإيمان بها وفي قوله تعالى: ﴿ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ ﴾ استعار بالكناية حيث شبه العهد بالحبل وطوى ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو ينقضون فاثباته تخييل، والنقض في الأصل فك طاقات الحبل والمراد منه هنا الإبطال ففيه استعارة تصريحية تبعية حيث شبه الأبطال بالنقض واستعير النقض للإبطال واشتق من النقض ينقضون بمعنى يبطلون والعهود الثلاثة عهد عام وهو عهد الله في الأزل لجميع الخلق على التوحيد وابتاع الرسل وعهد خاص بالإنبياء وهو تبليغ الشرائع والأحكام وعهد خاص بالعلماء وهو تبليغ ما تلقوه عن الأنبياء والكفار قد نقضوها. قوله: (من الإيمان) بيان لما. وقوله: (بالنبي) أي من توقيره ونصره والإيمان به ومتابعته. وقوله: (والرحم) أي ومن وصل ذي الرحم أي القرابة من الإحسان إليهم ومواساتهم والبر بهم. قوله: (وأن بدل من ضمير به) أي فإن والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر على البدلية للضمير في به. التقدير ما أمر الله بوصله ويصح أن يكون أن يوصل بدل من ما فهو في محل نصب والأول أقرب. قوله: (والتعويق عن الإيمان) عطف ويحتمل خاص على عام فإن التعويق من أكبر المعاصي. قوله: ﴿ أُولَـۤئِكَ ﴾ مبتدأ أول وهم مبتدأ ثان والخاسرون خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول، ويحتمل أن هم ضمير فصل لا محل له من الإعراب والخاسرون خبر أولئك، قوله: (لمصيرهم) علة لكونهم خاسرين. قوله: (يا أهل مكة) الأحسن العموم سواء كان للمخاطب جبناً أو إنساً من أهل مكة أو غيرها. قوله: ﴿ وَ ﴾ (قد) ﴿ كُنْتُمْ ﴾ قدر المفسر لفظ قد إشارة إلى أن الجملة حالية مع كونها ماضوية والجملة الماضوية إذا وقعت حالاً وجب اقترانها بقد إما لفظاً أو تقديراً. قوله: (في الأصلاب) إنما قدره لأجل اقتصاره على النطق وإلا ففي حالة كونهم في الرحم علقة ومضغة أموات أيضاً. قوله: ﴿ فَأَحْيَٰكُمْ ﴾ مرتب على محذوف تقديره وكنتم علقة فمضغة فأحياكم وإنما قلنا ذلك لأن الإحياء لا يكون عقب كونهم نطفاً بسرعة بل بعد مضي زمن كونهم علقة وكونهم مضغة ولو قال المفسر وقد كنتم أمواتاً نطفاً أو علقاً أو مضغاً فأحياكم لحسن الترتيب. قوله: (بنفخ الروح) الباء سببية. قوله: (والإستفهام للتعجب) التعجب استعظام أمر خفي سببه، وهو بالنسبة للخلق لا للخالق فهو مستحيل، والأحسن أن يكون الإستفهام للتعجب والتوبيخ معاً، وهو الرعد والزجر. قوله: ﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ الترتيب في هذا وما بعده ظاهر، فإن بين نفخ الروح والموت زمناً طويلاً وبين الموت والإحياء بالبعث زمن طويل، وبين الإحياء والمجازاة على الأعمال كذلك. قوله: (لما أنكروه) أي استغراباً واستبعاداً، قال تعالى:﴿ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴾[ق: ٣].
قوله: (أي الأرض وما فيها) أي فمراده العالم السفلي بجميع أجزائه، وأل في الأرض للجنس، فيشمل الأرضين السبع. قوله: (وتعتبروا) أي إذا تأملتم الأرض وتغير الأحوال فيها وما حوته، علمتم أن ذلك صنع حكيم قادر فينشأ عن ذلك الإعتبار كمال التوحيد، وقوله: (لتنتفوا به)، أي ظاهراً وباطناً، وهو جميع المخلوقات ما عدا المؤذيات، وأما المؤذيات كالحيات والعقارب والسباع وغير ذلك فنفعها من حيث العبرة بها، فما من شيء مخلوق إلا وفي خلقه حكمة تبهر العقول، سبحانك ما خلقت هذا عبثاً، ولما سئل الإمام الشافعي رضي الله عنه عن حكمة خلق الذباب أجاب بقوله: مذلة للملوك.
قوله: ﴿ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ ﴾ الإستواء في الأصل الإعتدال والإستقامة، وهذا المعنى مستحيل على الله تعالى، فالمراد منه هنا في حق الله القصد والإرادة، فقوله قصد أي تعلقت إرادته التعلق التنجيزي الحادث بخلق السماوات، وثم الترتيب مع الإنفصال، لأنه خلق الأرض في يومين، وخلق الجبال والأقوات وما فيه الأرض في يومين، فتكون الجملة أربعة أيام، فالترتيب الرتبي ظاهر ويشهد لذلك قوله تعالى:﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾[فصلت: ٩] الآيات، وعلى ذلك درج المفسر حيث قال أي الأرض وما فيها، ويحتمل أن ثم للترتيب الذكري بناء على أن الأرض خلقت مكوزة، فبعد ذلك خلقت السماء ثم بعد خلق السماء دحا الأرض وخلق جميع ما فيها، ويشهد لذلك قوله تعالى:﴿ ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا ﴾[النازعات: ٢٧] ثم قال:﴿ وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾[النازعات: ٣٠] وعلى ذلك درج القرطبي غيره وهو الحق. قوله: ﴿ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ﴾ أي جهة العلو وأل للجنس. قوله: (فقضاهن) بدل من آية فسوى وصبر وقضى بمعنى واحد وكل واحد ينصب مفعولين. قوله: ﴿ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ ﴾ أي طباقاً بالإجماع للآية وبين كل سماء خمسمائة عام وسمكها كذلك، والأولى من موج مكفوف، والثانية من مرمرة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس، والخامسة من فضة والسادسة من ذهب، والسابعة زمردة خضراء. قوله: (مجملاً ومفصلاً) هذا هو مذهب أهل السنة خلافاً لمن ينكر علم الله بالأشياء تفصيلاً فإنه كافر. قوله: (على خلق ذلك) أي الأرض وما فيها والسماوات ومافيها، وقوله: (وهو) الضمير عائد على اسم الإشارة، قوله: (وهو أعظم منكم) أي لقوله تعالى:﴿ لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾[غافر: ٥٧] أكبر من خلق الناس، قوله: (قادر على إعادتكم) هذا هو روح الدليل.
قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ ﴾ إذ ظرف في محل نصب معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله اذكر أي اذكر يا محمد قصة قول ربك إلخ، والأحسن أنه معمول لقوله بعد ﴿ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ وقت قول ربك للملائكة إلخ لأن إذا وقعت ظرفاً لا تكون إلا للزمان، قوله: ﴿ لِلْمَلَٰئِكَةِ ﴾ جمع ملك مخفف ملأك وأصله مألك على وزن مفعل مشتق من الألوكة وهي الإرسال دخله القلب المكاني فأخرت الهمزة عن اللام فنقلت حركت الهمزة للساكن قبلها وهو اللام فسقطت الهمزة، قوله: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ ﴾ يصح أن يكون بمعنى مصير فخليفة مفعول أول وفي الأرض مفعول ثاني قدم لأنه المسوغ للإبتداء بالنكرة في الأصل، ويصح أن يكون بمعنى خالق فخليفة مفعول وفي الأرض متعلق به، قوله: ﴿ خَلِيفَةً ﴾ فعليه بمعنى مفعول أي مخلوف أو بمعنى فاعل أي خالف بمعنى أنه قائم بالخلافة، وحكمة جعله خليفة الرحمة بالعباد لا لإفتقار الله له، وذلك أن العباد لا طاقة لهم على تلقي الأوامر والنواهي من الله بلا واسطة، بل ولا بواسطة ملك، فمن رحمته ولطفه وإحسانه إرسال الرسل من البشر، قوله: (وهو أدم) أي فهو البشر والخليفة الأول باعتبار عالم الأجساد، وأما باعتبار عالم الأرواح فهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال العارف: فإني وإن كنت ابن آدم صورة   فلي فيه معنى شاهد بأبوتيوهو مأخوذ من أديم الأرض لخلقه من جميع أجزائها وكانت ستين جزءاً، ولذلك كان طباع نبيه ستين طبعاً. كفارة الظهار والصوم ستين، وعاش من العمر تسعمائة وستين وما مات حتى رأى من أولاده مائة ألف عمروا الأرض بأنواع الصنائع، والملائكة المخاطبون يحتمل أنهم من النوع المسمى بالجان، ورئيسهم إبليس، فإن الله خلق خلقاً وأسكنهم الأرض يسمون بني الجان فأفسدوا في الأرض، فلسط الله عليهم هؤلاء الملائكة فطردوهم وسكنوا موضعهم، ويحتمل أن الخطاب لعموم الملائكة، قوله: ﴿ مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ أي بمقتضى القوة الشهوية، وقوله: ﴿ وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ ﴾ أي بمقتضى القوة الغضبية، فإن في الإنسان ثلاثة أشياء: قوة شهوية، وقوة غضبية، وقوة عقلية فبالأولين يحصل النقص، وبالأخيرة يحصل الكمال والفضل، وقد نظر الملائكة للأوليين ولم ينظروا للثالثة. قوله: (كما فعل بنو الجان) قيل الجان إبليس، وقيل مخلوق آخر، وإبليس أبو الشياطين، قوله: (أرسل الله عليهم الملائكة) أي المسمين بالجان ورئيسهم إبليس، وفي هذه الآية أمور منها: مشاورة العظيم للحقير، ولا بأس بها لتأليف الحقير، قال تعالى:﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ ﴾[آل عمران: ١٥٩]، ومنها إظهار عجز الملائكة عن علم الغيب، ومنها إظهار فضل آدم للملائكة، ومنها أنه لا ينبغي ترك الخير الكثير من أجل شر قليل، فإن بني آدم خيرهم غالب سرهم، فإن منهم الأنبياء والرسل والأولياء، وإن لم يكن منهم إلا سيدنا محمد لكفى، قوله: (متلبسين) أشار بذلك إلى أن الباء للملابسة، والجملة من قبيل الحال المتداخلة، قوله: ﴿ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ التقديس في اللغة يرجع لمعنى التسبيح وهو التنزيه عما لا يليق، وأما هنا فالتسبيح يرجع للعبادة والظاهرية، والتقديس يرجع للإعتقادات الباطنية، قوله: (فاللام زائدة) أي لتأكيد التخصيص، ويحتمل أنها للتعدية والتعليل أي ننزهك لك لا طمعاً في عاجل ولا آجل، ولا خوفاً من عاجل ولا آجل فتنزيهنا لذاتك فقط، قوله: (أي فنحن أحق بالإستخلاف) ليس المقصود من ذلك الإعتراض على الله ولا احتقار آدم، وإنما ذلك لطلب جواب يريحهم من العناء، حيث وقعت المشورة من الله لهم، قوله: (فيظهر العدل بينهم) أي فالطائع المؤمن له الجنة، والعاصي الكافر له النار، قوله: (فقالوا) أي سراً في أنفسهم، قوله: (لسبقنا له) أي للخلق وهو راجع لقوله أكرم، وقوله: (ورؤيتنا) راجع لقوله ولا أعلم فهو لف ونشر مرتب، قوله: (جمع ألوانها) تقدم أنها ستون، وورد أن الله لما أراد خلق آدم أوحى إلى الأرض إني خالق منك خلقاً من أطاعني ادخلته الجنة، ومن عصاني أدخلته النار، فقالت يا ربنا أتخلق مني خلقاً يدخل النار؟ فقال نعم فبكت فنبعت العيون من بكائها فهي تجري إلى يوم القيامة، قوله: (بالمياة المختلفة) أي على حسب الألوان.
قوله: ﴿ وَعَلَّمَ ءَادَمَ ﴾ الحق أن آدم ممنوع من الصرف للعلمية والعجمية وليس منصرفاً ولا مشتقاً على التحقيق، قوله: (أي اسماء المسميات) أشار بذلك إلى أن أل عوض عن المضاف إليه، والمراد بالمسميات مدلولات الأسماء، سواء كانت جواهر أعراضاً أو معاني أو معنوية فالحاصل أن الله أطلع آدم على المسميات جميعها وعلمه أسماءها، وأطلع الملائكة على المسميات ولم يعلمهم أسماءها فاشترك آدم مع الملائكة في معرفة المسميات، واختص آدم بمعرفة الأسماء بجميع اللغات وتلك اللغات تفرقت في أولاده قوله: (حتى القصعة) غاية في الخسة، إشارة إلى كونه تعلم جميع الأسماء شريفة أو خسيسة وحكمتها أيضاً كما يأتي والقصعة هي الإناء الكبير من الخشب، والقعصية الإناء الصغير منه أيضاً المسمى بالزويلي. قوله: (والفسوة) من باب عتا والمصدر فسوا والاسم الفساء بالمد واوي هو الريح الخارجي من الدبر بلا صوت، فإن كان شديداً سمي فسوة، وإن كان خفيفاً سمي فسية، وإن كان بصوت سمي ضراطاً، وهو من باب تعب وضرب، والمصدر ضرطاً بفتح الراء وسكونها فالمكبر للشديد والمصغر للخفيف. قوله: (بأن ألقى في قلبه علمها) أي الأسماء وحكمتها حين صور الله المسميات كالذر وذلك قبل دخوله الجنة وهو ظاهر في الأشياء المحسوسة، وأما المعقولة كالحياة والقدرة والفرح وغير ذلك فبإلقاء الله الدال والمدلول في قلبه. قوله: (وفيه تغليب العقلاء) أين في الإتيان بميم الجمع التي للعقلاء المذكور، وإلا فلو لم يغلب لقال عرضها أو عرضهن وبهما قرئ شاذاً. قوله: ﴿ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ ﴾ يحتمل عموم الملائكة ويحتمل خصوص الملائكة المسمين بالجان الذين كانوا في الأرض. قوله: ﴿ أَنْبِئُونِي ﴾ الأنباء هو الإخبار بالشيء العظيم فهو أخص من الخبر. قوله: (أخبروني) أي أجيبوني ليظهر علمكم، وذلك تعجيز لهم لأنهم ليسوا بعالمين ذلك لا لاستفادته العلم منهم. قوله: (في أني لا أخلق أعلم منكم) معلق بصادقين. قوله: (دل على ما قبله) أي قوله أنبئوني، فهو دليل الجواب والجواب محذوف تقديره إن كنتم صادقين فأنبئوني. قوله: ﴿ سُبْحَٰنَكَ ﴾ مصدر وقيل اسم مصدر منصوب بعامل محذوف وجوباً أي أسبح، وهي كلمة تقال مقدمة للأمر العظيم، كان توبة واستغفاراً أم لا، والمقصود منها توبتهم واستغفارهم، كقول موسى عليه السلام (سبحانك تبت إليك)، وقول يونس (سبحانك إني كنت من الظالمين)، والغالب عليه الإضافة وأما سبحان من علقمة الفاخر، فمؤول أو شاذ، ومن غير الغالب. قوله: (إياه) أشار بذلك إلى أن المفعول الثاني محذوف. قوله: ﴿ إِنَّكَ ﴾ كالدليل لما قبله. قوله: (تأكيد للكاف) أي فهو ضمير فصل لا محل له من الإعراب، أو في محل نصب كالمؤكد والعليم الحكيم خبران لأن الحكيم صفة للعليم، ويحتمل أن أنت مبتدأ والعليم خبره والجملة خبر أن. قوله: ﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾ قدم العلم على الحكمة لمناسبة علم آدم ولا علم لنا، ولأن الحكمة تنشأ عن العلم، والعلم في حق الله صفة أزلية تتعلق بجميع أقسام الحكم العقلي الواجب والمستحيل والجائز تعلق إحاطة وانكشاف. قوله: ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ أي ذو الحكمة أي الإتقان فهو صفة فعل أو العلم فيكون صفة ذات. قوله: (فسمى) أي آدم. قوله: (توبيخاً) أي تقريعاً ولوماً لهم على ما مضى فالهمزة في ألم أقل للاستفهام التوبيخي، والقصد منه توبيخهم على ما مضى منهم وليست الإنكار ولا للتقرير. قوله: (ما غاب فيهما) أي: عنا. قوله: (أتجعل فيها ألخ) أي من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. بقي شيء آخر وهو أن مقتضى الآية أن آدم علم الأسماء والمسميات، ومقتضى قول البويصيري في الهمزية: لك ذات العلوم من عالم الغيـ   ـب ومنها لآدم الأسماءأن آدم علم الأسماء دون المسميات، فيكون بينه وبين الآية مخالفة، والحق أنه لا مخالفة لأنه يلزم من علم الأسماء علم المسيمات لعرض المسيمات عليه أولاً، فمعنى قول البوصيري لك ذات العلوم أي أصلها، فعلم آدم مأخوذ من نبينا، لأن رسول الله أعطي أصل العلوم بل وأصل كل كمال، ويشهد لذلك قول ابن مشيش وتنزلت علوم آدم أي صل على من منه تنزلت علوم آدم، فعلوم آدم كائنة منه فأعجز بها الملائكة خاصة، وأما علوم رسول الله فاعجز بها الخلائق جميعاً، هذا هو الحق ولا تغتر بما قيل إن آدم علم الأسماء فقط، ومحمد علم الأسماء والمسميات.
قوله: ﴿ وَ ﴾ اذكر ﴿ إِذْ قُلْنَا ﴾ أشار المفسر بذلك إلى أن إذ ظرف عاملها محذوف والتقدير واذكر وقت قولنا إلخ إن قلت إن المقصود ذكر القصة لا ذكر الوقت، أجيب بأن التقدير ذكر القصة الواقعة في ذلك الوقت، ومحصل ذلك أنه بعد خلق آدم ونفخ الروح فيه، وعرض المسميات على الملائكة، وإنباء آدم لهم بالأسماء أمرهم بالسجود له لأنه صار شيخهم، ومن حق الشيخ التعظيم والتوقير، وكان ذلك كله خاوٍ. قوله: (بالإنحناء) أشار بذلك إلى أن المراد السجود اللغوي وهو الإنحناء كسجود إخوة يوسف وأبويه له وهو تحية الأمم الماضية، وأما تحيتنا فهي السلام، وعليه فلا إشكال، وقال بعض المفسرين إن السجود شرعي بوضع الجبهة على الأرض، وآدم قبله كالكعبة، فالسجود لله وإنما آدم قبله، والآية محتملة للمعنيين ولا نص بعين أحدهما، وعلى الثاني فاللام بمعنى إلى أي اسجدوا جهة آدم فاجعلوه قبلتكم. قوله: ﴿ فَسَجَدُواْ ﴾ أي الملائكة كلهم أجمعون بدليل الآية الأخرى، فالخطاب بالسجود لجميع الملائة على التحقيق لا الملائكة الذين طردوا بني الجان. قوله: ﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ قيل مشتق من إبلس إبلاساً بمعنى بئس وهذا هو اسمه في اللوح المحفوظ. فائدة: قال كعب الإحبار: إن إبليس اللعين كان خازن الجنة أربعين ألف سنة، ومع الملائكة ثمانين ألف سنة، ووعظ الملائكة عشرين ألف سنة، وسيد الكروبيين ثلاثين ألف سنة، وسيد الروحانيين الف سنة، وطاف حول العرش أربع عشر الف سنة، وكان اسمه في سماء الدنيا العابد، وفي الثانية الزاهد، وفي الثالثة العارف، وفي الرابعة الولي، وفي الخامسة التقي، وفي السادسة الخازن، وفي السابعة عزازيل، وفي اللوح المحفوظ إبليس وهو غافل عن عاقبة أمره. قوله: (هو أبو الجن) هذا أحد قولين والثاني هو أبو الشاطين فرقة من الجن ولم يؤمن منهم أحد. قوله: (كان بين الملائكة) أشار بذلك إلى أن الإستثناء منقطع وأنه ليس من الملائكة، قال في الكشاف لما اتصف بصفات الملائكة جمع معهم في الآية واحتج إلى استثنائه، ويدل على ذلك قوله تعالى:﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ ﴾[الكهف: ٥٠] وكررت قصة إبليس في سبعة مواضع: في البقرة والأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه و ص تسلية له صلى الله عليه وسلم، وعبرة لبني آدم، فلا يغتر العابد ولا يقنط العاصي، ويحتمل أن الإستنثاء متصل وقوله تعالى:﴿ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ ﴾[الكهف: ٥٠] أي في الفعل والأقرب الأول. قوله: ﴿ وَٱسْتَكْبَرَ ﴾ من عطف العلة على المعلول أي أبى وامتنع لكبره والسين للتأكيد. قوله: (وقال أنا خير منه) هذا وجه تكبره وبين وجه الخيرية في الآية الأخرى، قوله تعالى:﴿ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾[الأعراف: ١٢] قال بعض المفسرين: وذلك مردود بأمور، منها أن آدم مركب من العناصر الأربع بخلاف إبليس فلا وجه للخيرية، ومنها أن الله هو الخالق لكل شيء ولا يعلم الفضل إلا هو، فله أن يفضل من شاء من على من يشاء، ومنها غير ذلك. قوله: (في علم الله) دفع ذلك ما قيل إنه لم يكن كافراً بل كان عابداً وإنما كفر الآن، ويجاب أيضاً بأن كان بمعنى صار.
قوله: ﴿ وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ﴾ هذه الجملة معطوفة على جملة (وإذا قلنا للملائكة) من عطف قصة على قصة وإنما عطفت عليها لوقوعها بعدها، فإنه بعد أمر الملائكة بالسجود لآدم، وامتناع إبليس منه، أمر آدم بسكنى الجنة، قوله: (ليعطف عليه) ﴿ وَزَوْجُكَ ﴾ إن قلت إن فعل ا لأمر يعمل في الظاهر والمعطوف على الفاعل فاعل فيقتضي عمله في الظاهر، أجيب بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، وفصل بالضمير المنفصل لقول ابن مالك: وإن على ضمير رفع متصل   عطفت فافصل بالضمير المنفصلقوله: (وكان خلقها) أي الله وقوله: (من ضلعه) أي آدم فلذلك كان كل ذكر ناقصاً ضلعاً من الجانب الأيسر، فجهة اليمين ثمانية عشر، واليسار سبعة عشر، وقد خلقت بعد دخوله الجنة نام فلما استيقظ وجدها فأراد أن يمد يده إليها فقالت له الملائكة مه يا آدم حتى تؤدي مهرها، فقال وما مهرها فقالوا ثلاث صلوات أو عشرون صلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقال إن شرط الصداق عود منفعته للزوجة، لأننا نقول ليس المقصود منه حقيقة المهر، وإنما هو ليظهر قدر محمد لآدم من أول قدم، إذ لولاه ما تمتع بزوجه، فهو الواسطة لكل واسطة حتى آدم، وقوله من ضلعه الأيسر أي وهو القصير، ووضع الله مكانة لحماً من غير أن يحس آدم بذلك، ولم يجد له ألماً، ولو وجده لما عطف رجل على امرأة، والنون في قلنا للعظمة، وقوله: و ﴿ ٱسْكُنْ ﴾ أي دم على السكنى، فإنه كان ساكناً فيها قبل خلق حواء، واستشكل شيخ الإسلام هذه الآية بأنه أتى في هذه الآية بالواو في قوله: ﴿ وَكُلاَ ﴾ وفي آية الأعراف بالفاء، هل لذلك من حكمة أجاب بأن الأمر هنا في هذه الآية كان داخل الجنة، فلا ترتيب بين السكنى والأكل، وفي آية الأعراف كان خارجها، فحسن الترتيب بين السكنى والأكل ا. هـ. والحق أن يقال: إن ذلك ظاهر إن دل دليل على اختلاف القصة ولم يوجد فالقصة واحدة، والأمر في الموضعين ايحتمل أن يكون داخل الجنة أو خارجها، فعلى الأول معنى اسكن دم على السكنى، والفاء في آية الأعراف بمعنى الواو، وعلى الثاني معناه ادخل على سبيل السكنى، فتكون الواو بمعنى الفاء. قوله: ﴿ رَغَداً ﴾ يقال رغد بالضم رغادة من باب ظرف، ورغد رغداً من باب تعب اتسع عيشه. قوله: ﴿ حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾ أي في أي مكان أردتماه. قوله: (أو غيرهما) قيل شجر التين أو البلح أو الأرتج، والأقرب أنها الحنطة، وفي الحقيقة لا يعلمها إلا الله. قوله: ﴿ فَتَكُونَا ﴾ مسبب عن قوله ولا تقربا وتعبيره بعدم القرب منها كناية عن عدم الأكل، كقوله تعالى:﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ ﴾[الإسراء: ٣٢] فالنهي عن القرب يستلزم النهي عن الفعل بالأولى. قوله: (العاصين) أي الذين تعدوا حدود الله.
قوله: ﴿ فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ ﴾ أتى بالفاء إشارة إلى أن ذلك عقب الكسنى، والشيطان مأخوذ من شاط بمعنى احترق لأنه محروق بالنار، أو من شطن بمعنى بعد لأنه بعيد عن رحمة الله، والزلل الزلق وهو العثرة في الطين مثلاً فأطلق وأريد لازمه وهو الإذهاب. قوله: (وفي قراءة) أي سبعية لحمزة. قوله: (أي الجنة) ويحتمل أن الضمير عائد على الشجرة، وعن بمعنى الباء أي أوقعهما في الزلة بسب أكل الشجرة. قوله: (بأن قال لهما) أي وهو خارج الجنة وهما داخلها لكن أتوا على بابها فقال لهما ذلك، ويحتمل أنه دخل الجنة على صورة دابة من دوابها وخزنتها غفلوا عنه، ويحتمل أنه دخلها في فم الحية، ويحتمل أنه وسوس في الأرض فوصلت وسوسته لهما، إن قلت إن ذلك ظاهر في حواء لعدم عصمتها وما الحكم في آدم، أجيب بأنه اجتهد فأخطأ فسمى الله خطأه معصية، فلم يقع منه صغيرة ولا كبيرة، وإنما هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين فلم يتعمد المخالفة، ومن نسب التعمد والعصيان له بمعنى فعل الكبيرة أو الصغيرة فقد كفر، كما أن من نفى اسم العصيان عنه فقد كفر أيضاً لنص الآية. قوله: ﴿ مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ يحتمل أن ما اسم موصول، وما بعده صلته، أو نكرة موصوفة، وما بعدها صفة، وقوله من النعيم بيان لما. قوله: (أي أنتما الخ) أشار بذلك إلى حكمة الإتيان بالواو في اهبطوا أي الجمع باعتبار ما اشتملا عليه من الذرية، ويحتمل أن الأمر لآدم وحواء وإبليس والحية، فهبط آدم بالهند بمكان يقال له سرنديب، وحواء بجدة، وإبليس بالأبلة، والحية بأصبهان. قوله: (بعض الذرية) أشار بذلك إلى أن العداوة في الذرية لا في الأصول، ويحتمل أن يكون ذلك في بعض الأصول كالحية وإبليس، وأفرد عدواً إما مراعاة للفظ بعض أو لأنه يستعمل بلفظ واحد للمثنى والجمع. بقي شيء آخر وهو أنه تقدم لنا أن حواء خلقت داخل الجنة حين ألقى على آدم النوم، كيف ذلك مع أن الجنة لا نوم فيها، ولا يخرج أهلها منها ولا تكليف فيها، والثلاثة قد حصلت. أجيب بأن ذلك في الدخول يوم القيامة، وأما الدخول الأول فلا يمتنع فيه شيء من ذلك. قوله: (ألهمه إياها) أي فهم آدم من ربه تلك الكلمات. قوله: (وفي قراءة) أي سبعية لابن كثير. قوله: (بنصب أدم) أي على المفعولية، وقوله: (ورفع كلمات) أي على الفاعلية فتحصل أن التلقي نسبة تصلح للجانبين، يقال تلقيت زيداً وتلقاني زيد فالمعنى على القراءة الأولى، تعلم آدم الكلمات فحفظ بسببها من المهالك، وعلى الثانية الكلمات تلقت آدم من السقوط في المهاوي إذ لولاها لسقط فيه الدواء له، وأما إبليس فلم يجعل الله له دواء فالكلمات جاءته بالإسعاف وهو جاءها بالقبول والتسليم، ومن هنا أن الذاكر لا ينتفع بالذكر ولا بنور باطنه إلا إذا كان الشيخ عارفاً وأذنه في ذلك، والذاكر مشتاقاً كتلقي آدم الكلمات. قوله: (وهي بنا ظلمنا أنفسنا إلخ) مشى المفسر على أن المراد بالكلمات المذكورة في سورة الأعراف وهو أحد أقوال، ولا يقال إن التلقي كان لآدم فقط والدعاء بها صدر منهما، لأنه يقال إن الخطاب لآدم والمراد هو معها، وكم من خطاب في القرآن يقصد به الرجال، والمراد ما يشمل الرجال والنساء، وقيل: إن المراد بالكلمات سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتقدم أن معصية آدم ليست كالمعاصي بل من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، والحق أن يقال إن ذلك من سر القدر، فهو منهي عنه ظاهراً لا باطناً، فإنه في الباطن مأمور بالأولى من قصة الخضر مع موسى وإخوة يوسف معه على أنهم أنبياء، فإن الله حين قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة كان قبل خلقه، وهذا الأمر مبرم يستحيل تخلفه، فلما خلقه واسكنه الجنة أعلمه بالنهي عن الشجرة صورة فهذا النهي صوري، وأكله من الشجرة جبري لعلمه أَن المصلحة مترتبة على أكله، وإنما سمي معصية نظراً للنهي الظاهري، فمن حيث الحقيقة لم يقع منه عصيان، ومن حيث الشريعة وقعت منه المخالفة، ومن ذلك قول ابن العربي: لو كنت مكان آدم لأكلت الشجرة بتمامها لما ترتب على أكله من الخير العظيم، وإن لم يكن من ذلك إلا وجود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لكفى. ومن هذا المقام قول الجبلي: ولي نكتة غرا هنا سأقولها   وحق لها أن ترعويها المسامعهي الفرق ما بين الولي وفاسق   تنبه لها فالأمر فيه بدائعوما هو إلا أنه قبل وقعه   يخبر قلبي بالذي هو واقعفأجني الذي يقضيه في مرادها   وعيني لها قبل الفعال تطالعفكنت أرى منها الإرادة قبل ما   أرى الفعل مني والأسير مطاوعإذا كنت في أمر الشريعة عاصياً   فإني في حكم الحقيقة طائعقوله: ﴿ ٱلتَّوَّابُ ﴾ أي كثير التوبة، بمعنى أن العبد كلما أذنب وتاب قبله فهو كثر القبول لتوبة من تاب، ويسمى العبد تواباً بمعنى أنه كلما أذنب ندم واستغفر ولايصر، وشرط توبة العبد الندم والإقلاع والعزم على أن لا يعود، فإن كانت المعصية متعلقة بمخلوق اشترك إما رد المظالم لأهلها أو مسامحتهم له، فكل من العبد والرب يسمى تواباً بالوجه المتقدم، لك لا يقال في الرب تائب لأن أسماءه توقيفية، وقد قيل إن آدم لما نزل الأرض مكث ثلثمائة سنة لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله تعالى، وقد قيل لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع داود أكثر، ولو أن دموع داود مع أهل الأرض جمعت لكانت دموع أدم أكثر.
قوله: ﴿ يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ ذكر سبحانه وتعالى خطاب المكلفين عموماً في أول السورة، ثم ثنى بمبدأ خلق آدم وقصته مع إبليس، وثلث بذكر بني إسرائيل سواء كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم أو قبله، وما يتعلق بهم من هنا إلى (سيقول السفهاء) فعدد عليهم نعماً عشرة وقبائح عشرة وانتقامات عشرة، والحكمة في ذكر بني إسرائيل الذين تقدموا قبل رسول الله مع أنهم لم يخاطبوا بالإيمان برسول الله أن من كان في زمنه صلى الله عليه وسلم يدعى أنه على قدمهم وأنه متبع لهم وأن أصولهم كانوا على شيء فلذلك تبعوهم، فبين سبحانه وتعالى النعم التي أنعم الله بها على أصولهم وبين لهم أنهم قابلوا تلك النعم بالقبائح وبين أنه أنزل عليهم العفاف ليعتبر من يأتي بعدهم وحكمة تخصيصهم بالخطاب أن السورة أو ما نزل بالمدينة وأهل المدينة كان غالبهم يهود أو هم أصحاب كتاب وشوكة فإذا أسلموا وانقادوا انقاد جميع أتباعهم فلذلك توجه الخطاب لهم وبني منادى مضاف منصوب بالياء لأنه ملحق بجميع المذكر السالم لكونه ليس علماً ولا صفة لمذكر عاقل، وبني مضاف وإسرائيل مضاف إليه مجرور بالفتحة لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف العلمية والعجمة، وبني جمع ابن وأصله قيل بنو فهو واوي وقيل بني فهر يائي، فعل الأول هو من النبوة كالأبوة وعلى الثاني هو من البناء، وإسرائيل قيل معنا عبد الله وقيل القوي بالله لأن إسراقيل معناه عبد أو القوي وإيل معناه الله، وقيل مأخوذ من الإسراء لأنه أسرى بالليل مهاجراً إلى الله تعالى، وإسرائيل فيه لغات سبع الأول بالألف ثم همزة ثم ياء ثم لام وبها جاءت القراءات السبع، الثانية بقلب الهمزة ياء بعد الألف، الثالثة بإسقاط الياء مع بقاء الهمزة والألف، الرابعة والخامسة بإسقاط الألف والياء مع بقاء الهمزة مفتوحة ومكسورة، السادسة بإسقاط الهمزة والياء مع بقاء الألف، السابعة إبدال اللام الأخيرة بالنون مع بقاء الألف والهمزة والياء وجمعه أساريل وأرسالة وأسارل، قوله: (أولاد يعقوب) أي ابن اسحق ابن ابراهيم الخليل. قوله: ﴿ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ﴾ الذكر بكسر الدال وضمها بمعنى واحد، وهو ما كان باللسان أو بالجنان وقال الكسائي ما كان باللسان فهو بالكسر وما كان بالقلب فهو بالضم وضد الأول صمت والثاني نسيان والنعمة اسم لما ينعم به وهي شبيهة بفعل بمعنى مفعول، والمراد بها الجمع لأنها اسم جنس، قال تعالى:﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾[إبراهيم: ٣٤] وقوله: ﴿ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ جملة الصلة والموصول صفة للنعمة والعائد محذوف تقديره أنعمتها بالنصب على نزع الخافض ولا يقدر أنعمت بها لئلا يلزم حذف العائد من غير وجود شرطة لقول ابن مالك: كذا الذي جر بما الموصول جر. وليس الموصول مجروراً، فتأمل، قوله: (وغير ذلك) أي من بقية العشرة وهي العفو عنهم وغفران خطاياهم، وإتيان موسى الكتاب والحجر الذي تفجرت منه اثنتا عشرة عيناً والبعث بعد الموت وإنزال المن والسلوى عليهم. تنبيه: بقي ذكر قبائحهم العشرة وهي: قولهم سمعنا وعصينا، واتخاذهم العجل، وقولهم أرنا الله جهرة وتبديل القول الذي أمروا به، وقولهم لن نصبر على طعام واحد، وتحريف الكلم وتوليهم عن الحق بعد ظهوره وقسوة قلوبهم، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق. وأما عقوباتهم العشرة فهي ضرب الذلة والمسكنة عليهم، والغضب من الله، وإعطاء الجزية، وأمرهم بقتل أنفسهم، ومسخهم قردة وخنازير، وإنزال الرجز عليهم من السماء، وأخذ الصاعقة لهم، وتحريم طيبات أحلت لهم، وهذه العشرات في أصولهم، وقد وبخ الله المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم بعشرة أخرى: كتمانهم أمر محمد، وتحريف الكلم، وقولهم هذا من عند الله، وقتلهم أنفسهم، وإخراجهم فريقاً من ديارهم، وحرصهم على الحياة، وعداوتهم لجبريل، واتباعهم السحر، وقولهم نحن ابناء الله، وقولهم يد الله مغلولة، قوله تعالى:﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ﴾[المائدة: ٦٤].
قوله: (بأن تشكروها) أي تصرفوها فيما يرضي ربكم. وقوله: ﴿ وَأَوْفُواْ ﴾ يقال أوفى ووفى مشدداً ومخففاً. قوله: (من الإيمان بمحمد) أي في قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ﴾[المائدة: ١٢] الآيات. قوله: (بدخول الجنة) أي في وقله تعالى:﴿ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ﴾[الأعراف: ١٥٧] الآيات وقوله تعالى:﴿ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾[آل عمران: ١٩٥] الآيات. قوله: (دون غيري) أخذ الحصر من تقديم المعمول، وإياي مفعول المحذوف يفسره قوله فارهبون، وهذا في الحصر أبلغ من (إياك نعبد) لأن اياك معمول لنعبد، وأما هنا فهو معمول لمحذوف لإستيفاء الفعل المذكور معموله وهو الياء المذكورة أو المحذوفة تخفيفاً فهو في قوة تكرار الفعل مرتين.
قوله: ﴿ وَآمِنُواْ ﴾ من عطف المسبب على السبب. قوله: (من القرآن) بيان لما قوله: ﴿ مُصَدِّقاً ﴾ حال من الضمير المحذوف في أنزلت أو من ما. قوله: (بموافقته) الباء سببية ولا يلزم من موافقته للتوراة أنه لم يزد عليها بل القرآن جمع الكتب السماوية وزاد عليها. قوله: (من أهل الكتاب) هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره إن أول بعثة النبي في مكة وأول كافر أهلها ولم يأت للمدينة إلا بعد ثلاث عشرة سنة فليس كفار أهل الكتاب بأول كافر أجاب المفسر بأن المراد الذي في أيديهم الكتب بالنسبة لمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة. فليس المراد الأولية الحقيقية بل النسبة. قوله: (فإثمهم عليكم) أي لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عملها إلى يوم القيامة. قوله: (تستبدلوا) حول المفسر العبارة لأن الشراء ليس حقيقياً بل هو مطلق استبدال ومعاوضة. قوله: (من نعت محمد) أي أوصافه واخلاقه التي ذكرت في التوراة والإنجيل. قوله: (من سفلتكم) أي عامتكم. قوله: ﴿ وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ ﴾ يقال فيه ما قيل في (إياي فارهبون). قوله: ﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ ﴾ من لبس بالفتح من باب ضرب وأما اللبس وهو سلك الثوب في العنق فمن باب تعب قوله: (الذي تفترونه) أي من تغيير صفات محمد. قوله: (صلوا مع المصلين) أشار بذلك إلى أنه من باب تسمية الكل باسم جزئه، وآثر الركوع على غيره لأنه لم يكن في شريعتهم، فكأنه قال: صلوا الصلاة ذات الركوع جماعة. قوله: (ونزل في علمائهم) فاعل نزل جماعة أتأمرون الناس والضمير في علمائهم عائد على اليهود، ومثل ذلك يقال في علماء المسلمين لأن كل آية وردت في الكفار تجر ذيلها على عصاة المؤمنين، فالحاصل أن العالم إن كان كافراً فهو معذب من قبل عباد الوثن لأن وزر من كفر في عنقه، وإما إن كان مسلماً ولكنه فرط في العمل بالعلم فهو أقبح العصاة عذاباً، هذا هو الحق. فقوله: وعالم بعلمه لن يعملن   معذب من قبل عباد الوثنمحمول على العالم الكافر كعلماء اليهود والنصارى. قوله: (لأقربانهم المسلمين) إنما فضحوا معهم ليأسهم من دنياهم.
قوله: ﴿ أَتَأْمُرُونَ ﴾ سيأتي للمفسر أن الهمزة للإستفهام الإنكاري، ومحط الإستفهام قوله وتنسون أنفسكم، أي لا يليق منكم الأمر بالمعروف والبر لغيركم مع كونكم ناسين أنفسكم قال الشاعر: يا أيها الرجل المعلم غيره   هلا لنفسك كان ذا التعليمإلى أن قال: لا تنه عن خلق وتأتي بمثله   عار عليك إذا فعلت عظيموقال الشاعر أيضاً: أتنهى الناس ولا تنتهي   من تلحق القوم يا لكعويا حجر السن ما تستحي   تسن الحديد ولا تقطعقوله (بالإيمان بمحمد) الأخصر حذف بالإيمان، فالبر اسم جامع لكل خير كما أن الإثم اسم جامع لكل شر. ولما كان الإيمان بمحمد يسلتزم كل خير فسره به. وسيأتي تفسيره في قوله تعالى:﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ ﴾[البقرة: ١٧٧] الآية. قوله: (تتركونها) أشار بذلك إلى أنه من باب استعمال اللازم في الملزوم، أو السبب في المسبب، لأنه يلزم من نسيان الشيء تركه، وسبب الترك النسيان، والحكمة في ارتكاب المجاز الإشارة إلى أن الشأن أن العالم لا يقع منه ذلك إلا نسياناً. قوله: ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ قال بعض المفسرين إن الفاء في مثل هذا الموضع مؤخرة من تقديم، وجملة تعقلون معطوفة على جملة تتلون، والمستفهم عنه ما بعد الفاء، التقدير فأي شيء لا تعقلونه، وقال الزمخشري إن الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، التقدير أتفعلون ذلك فلا تعقلون. قوله: ﴿ وَٱسْتَعِينُواْ ﴾ قيل إن هذا الخطاب للمسلمين، وقيل لليهود فعلى الأول تكون الجملة معترضة بين أجزاء القصة، وعلى الثاني لا اعتراض. قوله: (الحبس للنفس على ما تكره) أي من المصائب والطاعات وترك المعاصي، فأقسام لصبر ثلاثة: صبر على المصيبة، وصبر على دوام الطاعة، وصبر عن المعاصي فلا يفعلها، والكامل من تحقق بجميعها. قوله: (أفردها بالذكر) أي مع أنها داخلة في الصبر فذكر الخاص بعد العام لا بد له من نكتة، أجاب عن ذلك بقوله تعظيماً لشأنها. قوله: (تعظيماً لشأنها) أي من حيث إن الصلاة جامعة لأنواع العبادة من تسبيح وتهليل وتكبير وذكر وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وركوع وسجود، وفي الحديث" لما أسرى به ورأى الملائكة منهم القائم لا غير، والراكع لا غير، وهكذا تمنى عبادة تجمع عبادات الملائكة فأعطي الصلاة ". قوله: (إذا حزبه) بالباء والنون ومعناها همه وشق عليه، وهذا يؤيد أن الخطاب لمحمد وأصحابه. قوله: (الشره) أي الشهوة فالمانع لهم من الإيمان بمحمد الشهوات والكبر، ولكن قد يقال إن الكافر لا يصح منه صوم ولا صلاة حتى يدخل في الإسلام، فما معنى أمرهم بذلك، أجيب بأن المراد أمرهم بعد الإسلام. قوله: (لأنه يكسر الشهوة) أي يضعفها. قوله: (تورث الخشوع) هو خضوع النفس وسكونها تحت المقادير قوله: (ثقيلة) قوله تعالى:﴿ وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ ﴾[النساء: ١٤٢] الآية. قوله: ﴿ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ ﴾ استثناء مفرغ مضمن معنى النفي، أي لا تسهل إلا على الخاشعين. قوله: (الساكنين) أي المائلين المحبين للطاعة الذين اطمأنت قلوبهم لها، وفي الحديث" أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد "وفي الحديث" وجعلت قرة عيني في الصلاة "هكذا مشى المفسر على أن الضمير عائد على الصلاة، ويحتمل عوده على الإستعانة بالصبر والصلاة. ويحتمل عوده على ما تقدم من قوله: (اذكورا نعمتي التي أنعمت عليكم)، أي وإن ما أمر به بنو إسرائيل لكبيرة. قوله: (يوقنون) أشار بذلك إلى أن الظن يستعمل بمعنى اليقين، وقد يستعمل اليقين بمعنى الظن، قال تعالى:﴿ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ ﴾[الممتحنة: ١٠] أي ظننتموهن.
قوله: ﴿ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ ﴾ أي يعتقدون أنهم يبعثون ويرون ربهم، فقوله: بالبعث الباء سببية. قوله: ﴿ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ ﴾ أي صائرون فيحاسبهم على أعمالهم فيدخلهم إما الجنة أو النار، وبهذا التفسير فلا تكرار بين قوله: (أهم ملاقوا ربهم)، وبين قوله: (وأنهم إليه راجعون). قوله: ﴿ يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ كرر هذا النداء لطول الفصل، بناء على الخطاب في (واستعينوا بالصبر والصلاة) لغير بني إسرائيل ولتعداد النعم عليهم وللتأكيد لبلادتهم، فإن الذكي يفهم بالمثال الواحد ما لا يفهمه الغبي بألف شاهد. قوله: (بالشكر عليها) أي باتباع محمد والدخول في دينه، ولا ينفعهم الإنتساب لغيره مع وجوده. قوله: ﴿ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ ﴾ في تأويل مصدر معطوف على نعمتي أي اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم. قوله: (أي آباؤكم) اشارة إلى أنه على حذف مضاف، فالفضل ثابت لآبائهم المتقدمين لا لمن وجد في زمنه صلى الله عليه وسلم، فإن المصر منهم على الكفر من همج الهمج. قوله: (عالمي زمانهم) دفع بذلك ما يقال إن المراد بالعالمين ما سوى الله، فيقتضى أن بني إسرائيل أفضل مما سواهم من الأولين والآخرين، فأجاب بأن المراد بالعالمين عالمو زمانهم وهذا هو المرتضى، وهناك أجوبة أخر منها أن المراد بآبائهم الأنبياء وهو مخدوش بأن ابراهيم أفضل من أنبياء بني إسرائيل، ومحمداً أفضل الخلق جميعاً، ومنها أن المراد تفضيل أمم بني إسرائيل على جميع الأمم وهو مخدوش أيضاً بأن أمة محمد أفضل الأمم جمعيا باتفاق لقوله تعالى:﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾[آل عمران: ١١٠]، ولذلك طلب موسى أن يكون منهم فلم يتم إلا الأول.
قوله: ﴿ وَٱتَّقُواْ ﴾ أصله أوتقوا قلبت الواو تاء وأدغمت في التاء، وقوله يوماً مفعول به وليس ظرفاً لأن الخوف واقع على اليوم لا في اليوم. قوله: ﴿ لاَّ تَجْزِي ﴾ (فيه) صفة ليوماً وقدر المفسر قوله فيه إشارة للرابط، وحذف لأنه يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها. قوله: ﴿ عَن نَّفْسٍ ﴾ متعلق بتجزي ونفس فاعل تجزي وهو بمعنى تغني أي لا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة شيئاً من عذاب الله، وأما قوله يحشر المرء مع من أحب إي إذا كان المحب مؤمناً، والأصول لا تنفع الفروع إلا إذا كان مع الفروع إيمان، قال تعالى: (بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم). قوله: (بالتاء الياء) قراءتان سبعيتان فعلى التاء الأمر ظاهر، وعلى الياء لأنه مجازي التأنيث، فيصح تذكير الفعل وتأنيثه. قوله: ﴿ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ ﴾ أي النفس المؤمنة لا تقبل شفاعتها في النفس الكافرة. قوله: (وليس لها شفاعة فتقبل) أي لم يؤذن لها في أصل الشفاعة حتى يتسبب عنها القبول، وليس المراد أنها تشفع ولكن لا يقبل منها تلك الشفاعة لقوله تعالى:﴿ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ﴾[الشعراء: ١٠٠] وخير ما فسرته بالوارد كما أشار لذلك المفسر. قوله: ﴿ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ الضمير عائد على النفس الكافرة، والعدل بالفتح الفداء، ويطلق على المماثل في القدر لا في الجنس، وأما المماثل في الجنس فالبكسر. قوله: ﴿ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ جمع باعتبار أفراد النفس، لأن المراد بها جنس الأنفس، وأتى بالجملة اسمية للتأكيد، والمعنى ليس لهم مانع يمنعهم من عذاب الله.
قوله: ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم ﴾ معطوف على نعمتي مسلط عليه اذكروا الأول أي اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم ووقت إنجائي لكم، والمقصود ذكر الإنجاء أو معطوف على جملة اذكروا، فقول المفسر اذكروا ليس تقديراً للعامل الأول بل هو عامل مماثلة، وهكذا يقال فيما يأتي ما فيه إذ من جميع ما يتعلق ببني إسرائيل. قوله: (أي آبائكم) ويصح أن النجاة لهم إذا لو غرقت أصولهم ما وجدوا، والنجاة مأخوذة من النجوة وهي الأرض المرتفعة، والوضع عليها ليسلم من الآفات يسمى إنجاء لهم ثم أطلق على كل خلوص من ضيق إلى سعة، فالمعنى خلصناهم من الهلكات. قوله: (بما أنعم على آبائهم) أي وعدد عليهم نعماً عشرة نهايتها (وإذا استسقى). قوله: ﴿ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ لا يرد أن الآل لا يضاف إلا لذي شرف لأن فرعون ذو شرف دنيوي، والمراد أعوانه وكانوا يوم الغرق ألف ألف وسبعمائة ألف غير المتخلفين بمصر، وكانت الخيل الدهم سبعين ألفاً، وبنو إسرائيل كانوا ستمائة ألف وعشرين ألفاً وعند دخول يعقوب مصر كانوا سبعين نفساً ذكرواً وإناثاً، وبين موسى ويعقوب أربعمائة سنة، فكمل فيها ذلك العدد مع كثرة قتل الأطفال وموت الشيوخ، فسبحان الخلاق العظيم، وفرعون اسمه الوليد من مصعب بن الريان، وفرعون لقب له من الفرعنة وهي العتو والتمرد، ومدة ادعائه الألوهية أربعمائة سنة، وكان يأكل كل يوم فصيلاً، وكان لا يتغوط إلا كل أربعين يوماً مرة، وفرعون اسم لكل من ملك العمالقة، كما أن قيصر اسم لمن ملك الروم، وكسرى لمن ملك الفرس، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وتبع لمن ملك اليمن، وخافان لمن الترك. قوله: (يذيقونكم) أي على سبيل الدوام. قوله: ﴿ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ ﴾ اسم جامع لكل ما يعم النفس كالشر وهو ضد الخير، إن قلت إن العذاب شيء أجاب المفسر بأن المراد أشده. قوله: (بيان لما قبله) أي لبعض ما قبله فإنهم يعذبون بأنواع العذاب، فكانوا يخدمون أقوياء بني إسرائيل في قطع الحجر والحديد والبناء وضرب الطوب والنجارة وغير ذلك وكان نساؤهم يغزلن الكتاب لهم وينسجنه، وضعفائهم يضربون عليهم الجزية، وإنما قلنا لبعض ما قبله لأن ذبح الأولاد وما ذكر معه ليس هو عين أشد العذاب بل بعضه بدليل سورة إبراهيم فإنها بالعطف وهو يقتضي المغايرة. قوله: ﴿ وَيَسْتَحْيُونَ ﴾ أصله يستحييون بياءين الأولى عين الكلمة والثانية لامها استثقلت الكسرة على الياء الأولى فحذفت فالتقى سكنان حذفت الياء لالتقاء الساكنين، وقيل حذفت الياء الثانية تخفيفاً، وضمت الأولى لمناسبة الواو، فعلى الأولى وزنه يستفلون وعلى الثاني وزنه يستنفعون. قوله: (لقول بعض الكهنة) أي حين دعاهم ليقص عليهم ما رآه في النوم، وهو أن ناراً أقبلت من بين المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، فشق عليه ذلك ودعا الكهنة وسألهم عن ذلك فقالوا له ما ذكر. قوله: (أو الإنجاء) أي من حيث عدم الشكر عليه فصار الإنجاء بلاء، فالبلاء يطلق عليه الخير والشر، قال تعالى:﴿ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾[الأنبياء: ٣٥].
قوله: (ابتلاء) راجع للعذاب، وقوله أو إنعام راجع للإنجاء فهو لف ونشر مرتب. قوله: ﴿ وَ ﴾ (اذكروا) ﴿ إِذْ فَرَقْنَا ﴾ هذا من جملة المعطوف على نعمتي أو على اذكروا، فالمقصود تعداد النعم عليهم وفرق من باب قتل ميز الشيء من الشيء، قال تعالى:﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ ﴾[الإسراء: ١٠٦] أي ميزنا به الحق من الباطل. قوله: (فلقنا) الفلق والفرق بمعنى واحد، قال تعالى:﴿ فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ ﴾[الشعراء: ٦٣].
قوله: ﴿ ٱلْبَحْرَ ﴾ هو الماء الكثير عذباً أو ملحاً، لكن المراد هنا الملح، والمراد به بحر القلزم. قوله: ﴿ آلَ فِرْعَوْنَ ﴾ يطلق آل الرجل عليه وعلى آله. قال تعالى:﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ ﴾[الأحزاب: ٣٣] والمراد محمد وآله (ولقد كرمنا بني آدم) المراد آدم وبنوه. قوله: (إلى انطباق البحر) إشارة إلى أن المتعلق محذوف. قوله: (بألف ودونها) أي فهما قراءتان سبعيتان، فعلى الألف المواعدة من الله بإعطاء التوراة، ومن موسى رياضته الأربعين يوماً وإتيانه جبل الطور لأخذ التوراة وعلى عدمها فالأمر ظاهر.
قوله: ﴿ مُوسَىٰ ﴾ هو اسم عجمي غير منصرف وهو في الأصل مركب والأصل موشى بالشين لأن الماء بالعبرانية يقال له مو. والشجر يقال له شيء، فغيرته العرب وقالوه بالسين سمي بذلك، لأن فرعون أخذه من بين الماء والشجر حين وضعته أمه في الصندوق وألقته في اليم كما سيأتي في سورة القصص، وهذا بخلاف موسى الحديد فإنه عربي مشتق من أوسيت رأسه إذا حلقته، وعاش موسى مائة وعشرن سنة. قوله: ﴿ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ إشارةإلى غاية المدة، وأما في سورة الأعراف فبين المبدأ والمنتهى، قال تعالى:﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾[الأعراف: ١٤٢] وهي ذو العقدة وعشر ذي الحجة، واقتصر على ذكر الليالي مع أن النهار تبع لها لأن الليل محل الصفا والأنس والعطايا الربانية. قوله: (عند انقضائها أي فراغها فبعد تمام الخدمة من العبد العطايا من الرب، قال عليه الصلاة والسلام:" تمام الرباط أربعوم يوماً "قوله: (التوراة) أي في ألواح من زبرجد فيها الأحكام التكليفية من خرج عنها فهو ضال مضل لقوله تعالى:﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾[المائدة: ٤٤] الآية، وأعطاه أيضاً ألواحاً أخر فيها مواعظ وأسرار ومعارف، قال تعالى:﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾[الأعراف: ١٤٥] يخص بها من شاء فلما رجع بها ووجدهم قد عبدوا العجل ألقى الألواح فتكسر ما عدا التوراة، كذا قالوا هنا، وسيأتي تحقيق ذلك في الأعراف. قوله: (السامري) واسمه موسى وكان ابن زنا ولدته أمه في الجبل وتركته لخوفها من قومها، فرباه جبريل وكان يسقيه من أصبعه لبناً فصار يعرف جبريل، ويعرف أن أثر حافر فرس جبريل إذا وضع على ميت يحيا، فاستعار حلياً منهم وصاغة عجلاً ووضع التراب في أنفه وفمه فصار له خوار، وكان السامري منافقاً من بني إسرائيل فعكفوا على عبادته جميعاً إلا اثني عشر ألفاً قال بعضهم: إذا المرء لم يخلق سعيداً من الأزل   قد خاب من ربى وخاب المؤملفموسى الذي رباه جبريل كافر   وموسى الذي رباه فرعون مرسلقوله: (إلهاً) قدره إشارة للمفعول الثاني لاتخذ هذا إذا كانت بمعنى جعل، وأما إن كانت بمعنى عمل نصبت مفعولاً واحداً. قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ أي تتدبرون في معاينة فتعلموا الحق من الباطل قوله: ﴿ بِٱتِّخَاذِكُمُ ﴾ من إضافة المصدر لفاعله، والعجل مفعول أول وإلهاً مفعول ثان. قوله: ﴿ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ ﴾ البارئ هو الخالق للشيء على غير مثال سابق. قوله: ﴿ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ﴾ هذا بيان لتوبتهم. قوله: (أي ليقتل البريء إلخ) ورد أنهم أمروا جميعاً بالإحتباء، فصار الواحد منهم يقتل أخاه أو ابنه فشق عليهم ذلك، فشكوا لموسى ذلك فتضرع موسى لربه فأرسل عليهم سحابة سوداء مظلمة كما قال المفسر. قوله: ﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ أي لما تضرع موسى وهارون وبكيا، فأرسل الله جبريل يأمرهم بالكف عن الباقي وأخبرهم أن الله قبل توبة من قتل ومن لم يقتل، وقوله فتاب عليكم الفاء سببية مرتب على محذوف قدره المفسر بقوله: فوفقكم لفعل ذلك إلخ، وقوله حتى قتل منكم نحو سبعين ألفاً أي في يوم واحد. قوله: ﴿ ٱلتَّوَّابُ ﴾ أي الذي يقبل التوبة كثيراً. قوله: ﴿ ٱلرَّحِيمُ ﴾ أي المنعم المحسن. قوله: (وقد خرجتم إلخ) بيان للسبب، وحاصل ذلك أنه بعد قبول توبتهم، أوحى الله إلى موسى أن خذ من قومك سبعين رجلاً ممن لم يعبدوا العجل ومرهم بطهارة الثياب والأبدان والذهاب معك إلى جبل الطور ليعتذروا عمن عبدوا العجل ويستغفروا ويتوبوا، فاختارهم وذهبوا معه إلى جبل الطور فسمعوا كلام الله ورد أن الله قال لهم إني أنا الله لا إله إلا أنا أخرجتكم من أرض مصر بيد شديدة فاعبدون ولا تعبدوا غيري، فقالوا: (يا موسى لن نؤم لك الآية).
قوله: ﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ﴾ أي لن نصدقك في أن المخاطب لنا ربنا. قوله: (الصيحة) قيل صاح عليهم ملك، وقيل نزلت عليهم نار فأحرقتهم، وجمع بأنه أصابهم كل منهما. قوله: ﴿ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ أي فماتوا مترتبين واحداً بعد واحد ومكثوا ميتين يوماً وليلة والحي ينظر للميت. قوله: (ما حل بكم) إشارة إلى مفعول تنظرونقوله: ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم ﴾ أي واحداً بعد واحد لتعتبروا وهذا الموت حقيقي وإنما أحيوا بشفاعة موسى ليستوفوا آجالهم المقدرة لهم، وما ذكره المفسر من أن السائل لرؤية الله جهرة هم السبعون المختارون للمناجاة أحد طريقتين والثانية أن السائل غيرهم، وأما المختارون فصعقوا من هيبة الله ولم يسألوا رؤية ولم يكن منهم انكار، فتضرع موسى لربه وقال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا، فأحياهم الله بعد ذلك، ويشهد لذلك ما في آية النساء فإن ما فيها يدل على أن طلب الرؤية كان قبل عبادة العجل. وأما السبعون المختارون للمناجاة فكانوا بعد عبادة العجل قال تعالى في سورة النساء:﴿ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً ﴾[النساء: ١٥٣] الآية، وأما ما هنا فالواو لا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً فإن ما هنا بصدد تعداد ما قالوا، ويشهد لذلك أيضاً أنه عبر في جانب من طلب الرؤية بالصاعقة وهي أخذة غضب، وفي جانب من يسمع الكلام بالرجفة وهي أخذة هيبة، ولا تقتضي الغضب إذ علمت ذلك، فما مشى عليه المفسر مشكل من وجوه والأقرب الطريقة الثانية. قوله: (سترناكم بالسحاب) حاصلة أن الله أوحى إلى موسى أن في أريحا قوماً جبارين فتجهز لقتالهم، فخرج في ستمائة ألف فلما وصل التيه واد بين الشام ومصر وقدره تسعة فراسخ مكثوا فيه أربعين سنة متحيرين، وكانوا يبتدئون السير من أول النهار فإذا جاء الليل وجدوا أنفسهم في المبتدأ وهكذا، وسيأتي بسطة في المائدة، ومات هارون قبل موسى بسنة وكانت بالتية، ولما توفي هارون وذهب موسى لدفنه أشاعوا أنه قتل أخاه فذهب إلى قبره ودعاهم وسأله عن سبب موته فبرأه، ولما حضرت موسى الوفاة تمنى أن يدفن بمحل قريب من الأرض المقدسة قدر رمية الحجر فأجابه الله، ثم لما مات ومات كبارهم نبئ يوشع بن نون عليهم فوقفوا بعد تمام الأربعين سنة لقتال الجبارين، فتوجه مع من بقي من بني إسرائيل فكان النصر على يديه. قوله: (الترنجين) شيء يشبه العسل الأبيض وقيل هو هو. قوله: (والطير السمانى) أي بإرسال ريح الجنوب به، قيل كان يأتيهم مطبوخاً، وقيل كانوا يطبخونه بأيديهم، قيل هو الطير المعروف وقيل طير يشبهه. قوله: ﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ أي مسلتذات الذي رزقناكموه، فما اسم موصول وما بعده صلة والعائد محذوف، ويصح أن تكون نكرة والجملة بعدها صفة، وأن تكون مصدرية والجملة صلتها ولم تحتج إلى عائد ويكون المصدر واقعاً موقع المفعول أي من طيبات مرزوقنا. قوله: (فقطع عنهم) هذا أحد تفسيرين أن القطع بسبب الإدخار، وقيل إن القطع بسبب تمني غيره كما يأتي في قوله تعالى:﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾[البقرة: ٦١].
قوله: ﴿ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ ﴾ جمع في هذه الآية وآية الأعراف بين لكن وكانوا واقتصر على لكن، ولم يذكر كانوا في آل عمران، لأن ما هنا والأعراف حكاية عن بني إسرائيل، وأما آل عمران فمثل ضربه الله فهو مستمر إلى الآن فناسب عدم التعبير بكان.
قوله: ﴿ قُلْنَا ﴾ (لهم) القائل الله سبحانه وتعالى على لسان موسى وهم في التيه بطريق الكشف والمعنى إذا خرجتم من التيه بعد مضي الأربعين سنة فادخلوا إلخ، وأما إن كان بعد الخروج من التيه فيكون ذلك على لسان يوشع وهو المعتمد. قوله: ﴿ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ ﴾ هذه منصوبة عند سيبويه على الظرف، وعند الأخفش على المفعولية، والقرية نعت لهذه أو عطف بيان وهي مشتقة من قريت أي جمعت لجمعها لأهلها، وهي في الأصل اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وقد تطلق عليهم مجازاً، وقوله تعالى:﴿ وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ﴾[يوسف: ٨٢] يحتمل الوجهين: قوله: (بيت المقدس) هو قول مجاهد، وقوله أو أريحا هو قول ابن عباس المقدس وهي بفتح الهمزة وكسر الراء والحاء المهملة قرية بالغور بغين معجمة مكان منخفض بين بيت المقدس وحوران، وعبارة الخازن قال ابن عباس القرية هي أريحا قرية الجبارين، قيل كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم العمالقة ورأسهم عوج بن عنق. قوله: ﴿ فَكُلُواْ ﴾ أتى بالفاء لأن الأكل منها إنما يكون بعد الدخل فحسن الترتيب، ولم يأت بالفاء في الأعراف بل أتى بالواو لتعبيره هناك اسكنوا وهو بجامع الأكل، فلم يحصل بينهما ترتيب فلذا أتى بالواو بخلاف الدخول فيعقبه الأكل عادة فلذلك أتى بالفاء. قوله: (أي بابها) أي أريحا وهو المعتمد والمراد أي باب من أبوابها وكان لها سبعة أبواب أو بيت المقدس، ومن قال بذلك فالمراد باب من أبواب المسجد يسمى الآن بباب حطة. قوله: (منحنين) أي على صورة الراكع، وقيل إن السجود حقيقة وهو وضع الجبهة على الأرض، وقيل المراد بالسجود التواضع والذل لله والأمر بالسجود قيل لصغر الباب وقيل تعبدي. قوله: (مسألتنا) إشارة إلى أن حطة خبر لمحذوف قدره المفسر، والجملة في محل نصب مقول القول، وحطة بوزن قعدة أو جلسة ومعناها حطيطة الذنوب عنا. قوله: (خطايانا) جمع خطيئة وهي الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العجل، وقولهم أرنا الله جهرة إلى غير ذلك، وفي قراءة شاذة بنصب حطة إما مفعول مطلق أي حط عنا الذنوب حطة أو مفعول لمحذوف أي نسألك حطة ومعنى حطها إزالتها ومحوها. قوله: ﴿ نَّغْفِرْ ﴾ هذه القراءة تناسب ما قبلها وما بعدها لأنه تكلم. قوله: (وفي قراءة بالياء والتاء) أي وهما مناسبان لمعنى الخطايا والخطايا مجازي التأنيث، فلذلك جاز تذكير الفعل وتأنيثه. قوله: ﴿ خَطَٰيَٰكُمْ ﴾ جمع خطيئة وأصله خطائي بياء قبل الهمزة فقلبت تلك الياء همزة مكسورة فاجتمع همزتان فقلبت الثانية ياء وقلبت كسرة الهمزة الأولى فتحة، ثم يقال تحركت الياء التي بعد الهمزة وانفتح ما قبلها فقلبت الفاً فصار خطاءاً بألفين بينهما همزة فاستثقل ذلك لأن الهمزة تشبه الألف، فكأنة اجتمع ثلاث الفات متواليات قلبت الهمزة للخفة هنا، ففيه خمس إعمالات قلب الياء التي قبل الهمزة همزة ثم قلب الهمزة الثانية ياء ثم قلب كسرة الأولى فتحة ثم قلب الثانية ألفاً ثم قلب الأولى ياء تأمل، وخطايا هنا باتفاق القراء، وأما في الإعراف فيقرأ خطيئات، وحكمة ذلك أنه هنا أسند القول لنفسه فهو يغفر الذنوب وإن عظمت فناسب التعبير بخطايا الذي هو جمع كثرة، وفي الأعراف بنى الفعل للمجهول فعبر بجمع القلة، وقوله نغفر مجزوم في جواب قوله ادخلوا المقيد بالسجود وبالقول. قوله: ﴿ وَسَنَزِيدُ ﴾ عبر بالسين والمضارع إشارة إلى أن المحسن لا ينقطع ثوابه بل دائماً يتجدد شيئاً فشيئاً.
قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ حكمة الإتيان بذلك الزيادة في التقبيح عليهم. قوله: (منهم) قدرها هنا لأنه ذكرها في الأعراف، والقصة واحدة فما تركه هنا قدره هناك وبالعكس. قوله: ﴿ قَوْلاً ﴾ أي وفعلاً ففيه اكتفاء على حد سرابيل تقيكم الحر أي والبرد، أو المراد بالقول الأمر الإلهي وهو يشمل القول والفعل كأنه قال فبدل الذين ظلموا أمراً غير الذي أمروا به. قوله: (فقالوا حبة في شعرة إلخ) لف ونشر مشوش لأ هذا راجع إلى حطة، وقوله: (ودخلوا إلخ) راجع لقوله سجداً، وما فسر به المفسر هو الصحيح لأنه حديث البخاري، وقيل قالوا حنطة في شعرة أو شعيرة أو حنطة حمراء في شعرة سوداء أو حنطة بيضاء في شعرة سوداء، ومعنى حبة في شعرة جنس الحب وجنس الشعر أي نسألك حباً في زكائب من شعر. وقوله: (ودخلوا يزحفون) وقيل إنهم مستلقين على ظهورهم. قوله: (على أستاههم) جمع ستة وهو الدبر أي أدبارهم. قوله: ﴿ رِجْزاً ﴾ هو في الأصل فناء ينزل بالإبل أطلق وأريد منه مطلق الفناء. قوله: (بسبب فسقهم) أشار بذلك إلى أن الباء سببية وما مصدرية تسبك مع ما بعدها بمصدر، ومشى المفسر على أن كان تتصرف فسبكه من الخبر، وقيل إن كان متصرفة يأتي منها المصدر لقول الشاعر: ببذل وحلم ساد في قومه الفتى   وكونك إياه عليك يسيرفعليه أن ما تسبك بها بمصدر أي بكونهم فاسقين وهو المعتمد. قوله: (فهلك منهم إلخ) أي فالطاعون عذاب لهم بخلاف الأمة المحمدية فإنه رحمة لهم من مات به أو في زمنه كان شهيداً، وقد ذكروا أن في الآية سؤالات، الأول: قوله هنا وإذ قلنا، وفي الأعراف وإذ قيل، وأجيب بأنه صرح هنا بالفاعل لإزالته الإبهام وحذفه في الأعراف للعلم به مما هنا. الثاني: قال هنا ادخلوا وهناك اسكنوا، وأجيب بأن الدخول مقدم على السكنى فذكر الدخول في السورة المتقدمة، والسكنى في المتأخرة على حسب الترتيب الطبيعي. الثالث: قال خطاياكم باتفاق السبعة وهناك خطيئاتكم في بعضها وتقدم جوابه. الرابع: ذكر هنا رغداً وحذفه من هناك، والجواب أن القصة ذكرت هنا مبسوطة وهناك مختصرة. الخامس: قدم هنا دخول الباب على قولوا حطة وعكس هناك، وأجيب بأن ما هنا هو الأصل في الترتيب وعكس فيما يأتي اعتناء بحط الذنوب. السادس: إثبات الواو في وسنزيد هنا وحذفها هناك، وأجيب بأنه لما تقدم أمران كان المجيء بالواو مؤذناً بأن مجموع الغفران والزيادة جزء واحد لمجموع الأمرين، وحيث تركت الواو أفاد توزيع كل واحد على كل واحد من الأمرين، فالغفران في مقابلة القول، والزيادة في مقابلة ادخلوا. السابع: لم يذكر هنا منهم وذكرها هناك، واجيب بأن أول القصة في الأعراف مبني على التخصيص بلفظ من حيث قال ومن قوم موسى أمة فذكر لفظ منهم آخراً ليطابق الآخر الأول. الثامن: ذكر هنا انزلنا وهناك أرسلنا وأجيب بأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية، وهذا إنما يحدث في آخر الأمر. والتاسع: هنا يفسقون وهناك يظلمون، وأجيب بأنه لما بين هنا كون ذلك الظلم فسقاً، اكتفى بذكر الظلم هناك لآجل ما تقدم من البيان هنا. العاشر: قوله تعالى: ﴿ فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً ﴾ فيه إخبار بالمجازاة عن المخالفة في القول دون الفعل، وجوابه ما تقدم فلتحفظ.
قوله: ﴿ وَ ﴾ (اذكر) أي يا محمد، والمناسب لما تقدم وما يأتي أن يقدر اذكروا ويكون خطاباً لبني إسرائيل بتعداد النعم عليهم، والأول وإن كان صحيحاً إلا أنه خلاف النسق. قوله: (أي طلب السقيا) أشار بذلك إلى أن السين و التاء للطلب، والفعل إما رباعي أو ثلاثي، يقال سقى وأسقى قال تعالى:﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ﴾[الإنسان: ٢١]﴿ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً ﴾[المرسلات: ٢٧] والمصدر سقياً والإسم السقيا. قوله: (وقد عطشوا في التيه) أشار بذلك إلى أن المراد بقومه من كان معه في التيه لا جميعهم، وتقدم أنهم ستمائة ألف غير دوابهم، وقدر مسافة الأرض التي تكفيهم اثنا عشر ميلاً، وعطش من باب ضرب وعلم. قوله: ﴿ فَقُلْنَا ﴾ القائل الله على لسان جبريل أو غيره. قوله: ﴿ بِّعَصَاكَ ﴾ كانت من آس الجنة طولها عشرة أذر ع وطول موسى كذلك، وكان لها شعبتان تضيئان له في الظلام وتظلانه في الحر، وكانت تسوق له الغنم وتطرد عنها الذئاب. قوله: (وهو الذي فر بثوبته) أي حين رموه بالإدرة وهي انتفاخ الخصية، وكان بنو اسرائيل لا يبالون بكشف العورة، فأراد موسى الغسل فوضع ثوبه على ذلك الحجر ففر بذلك الثوب فخرج موسى من الماء وقال ثوبي حجر ثوبي حجر، فنظر بنو إسرائيل لعورته فلم يروه كما ظنوا. قال تعالى:﴿ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ ﴾[الأحزاب: ٦٩] وهذا الحجر قيل أخذه هو والعصا من شعيب، وقيل إن الحجر أخذه من وقت فراره بثوبه وكان طوله ذراعاً وعرضه كذلك وله جهات أربع في جهة ثلاثة أعين، فكان يضربه بالعصا عند طلب السقيا فتخرج منه اثنتا عشرة عيناً بعدد فرق بني إسرائيل، وتلك العصا كانت من الجنة خرجت مع آدم مع عدة اشياء نظمها سيدي على الأجهوري بقوله: وآدم معه أنزل العود والعصا   لموسى من الآس النبات المكرموأوراق تين واليمين بمكة   وختم سليمان النبي المعظمقوله: (أو كذان) فتح الكاف وتشديد الذال المعجمة الحجر اللين. قوله: (فضربه) أشار بذلك إلى أن الفاء في قوله فانفجرت عاطفة على محذوف. قوله: ﴿ فَٱنفَجَرَتْ ﴾ عبر هنا بالإنفجار، وفي الأعراف بالإنبجاس إشارة إلى أن ما هنا بيان للغاية، وما في الأعراف بيان للمبدأ فإن مبدأ خروج الماء الرشح الذي هو الإنبجاس، ثم قوي سمي انفجاراً وقيل معناهما واحد. قوله: ﴿ ٱثْنَتَا ﴾ فاعل انفجرت مرفوع بالألف لأنه ملحق بالمثنى وعشرة بمنزلة النون في المثنى. قوله: ﴿ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ ﴾ أي فكانت كل عين تأتي لقبيلة واعظم من هذه المعجزة نبع الماء من اصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ ﴾ تنازعه كل من كلوا واشربوا، فأعمل الأخير، وأضمر في الأول، وحذف، والمراد بالرزق المرزوق، وهو بالنسبة للأكل المن والسلوى. قوله: (مؤكدة لعاملها) وحكمة ذلك عظم بلادتهم، فنزلوا منزلة الساهي والغافل. قوله: (من عثى) أي والمصدر عثياً بضم العين وكسرها.
قوله: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ ﴾ أي واذكروا إذ قالت أصولكم. قوله: (أي نوع منه) جواب عن سؤال كيف يقولون واحد مع أنهما اثنان، فأجاب المراد وحدة النوع الذي هو الطعام المستلذ. قوله: (شيئاً) قدره إشارة إلى أن مفعول يخرج محذوف. قوله: ﴿ مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ ﴾ بيان لذلك الشيء. قوله: (للبيان) أي بيان ما تنبته الأرض. قوله: ﴿ بَقْلِهَا ﴾ هو ما لا ساق له، كالكراث والفجل والملوخية وشبهها. قوله: ﴿ وَقِثَّآئِهَا ﴾ هي الخضروات، كالبطيخ والخيار وغير ذلك. قوله: (حنطتها) قيل هو الثوم، لأن الثاء تقلب فاء في اللغة، والأقرب ما قاله المفسر. قوله: (قال لهم موسى) وقيل القائل الله على لسان موسى. قوله: ﴿ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ الباء داخلة على المتروك. قوله: (للإنكار) أي التوبيخي. قوله: (فدعا الله) أشار بذلك إلى أن قوله اهبطوا مرتب على محذوف. قوله: ﴿ ٱهْبِطُواْ ﴾ يطلق الهبوط على النزول من أعلى لأسفل، وعلى الإنتقال من مكان لمكان، وهو المراد. إن قلت: ظاهر الآية أنهم متمكنون من الإنتقال، مع أن الأمر ليس كذلك - أجيب: بأن ذلك على سبيل التوبيخ واللوم عليهم في ذلك تقديم الكلام، أن مطلوبكم يكون في الأمصار، فإن كنتم متمكنين منها فلكم ما سألتم، وإلا فاصبروا على حكم الله. قوله: ﴿ مِصْراً ﴾ بالتنوين لجمهور القراء، ولم يقرأ بعدمه إلا الحسن وأبي للعلمية والتأنيث، ونظيرها يجوز فيه الصرف وعدمه، لأنه اسم ثلاثي ساكن الوسط. قوله: ﴿ عَلَيْهِمُ ﴾ أي على ذرياتهم إلى يوم القيامة وكل من نحا نحوهم. قوله: (أي أثر الفقر) أي القلبي ولو كثرت أمواله، قال عليه الصلاة والسلام:" الفقر سواد الوجه في الدارين "قوله: (لزوم الدرهم إلخ) الكلام على القلب أي لزوم السكة للدرهم، والمراد بالسكة أثرها، لأن السكة اسم للحديدة المنقوشة يضرب عليها الدراهم، فكذلك لا يخلو يهودي من آثار الفقر، قال المفسرون: مبدأ زيادة الذلة والغضب من وقت إشاعتهم قتل عيسى. قوله: ﴿ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ أي المعجزات التي أتى بها موسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم. قوله: (كزكريا) أي بالنشر حين أوى إلى شجرة الأثل فانفتحت له فدخلها فنشروها معه. قوله: (ويحيى) أي قتلوه على كلمة الحق، ورد أنهم قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً وأقاموا سوقهم. قوله: ﴿ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ﴾ من المعلوم أن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق، وإنما ذكره إشارة إلى أن اعتقادهم موافق للواقع، فهم يعتقدون أنه بغير الحق كما هو الواقع. قوله: (بما عصوا) أصله عصيوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً ثم حذفت لإلتقاء الساكنين وبقيت الفتحة لتدل عليها. قوله: (وكرره) أي اسم اشارة وهو لفظ ذلك، قال بعضهم: وفي تكرير الإشارة قولان أحدهما أنه مشار به إلى ما أشير إليه بالأول على سبيل التأكيد. والثاني أنه مشار به إلى الكفر وقتل الأنبياء على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم لأنهم انهمكوا فيها، وما مصدرية والباء للسببية، وأصل يعتدون يعتديون استثقلت الضمة على الياء فحذفت فالقتى ساكنان، حذفت الياء لإلتقائهما وضمت الدال لمناسبة الواو.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ هذه الآية معترضة بين قصص بني إسرائيل. قوله: (من قبل) أين قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كبحيرا الراهب وأبي ذر الغفاري وورقة بن نوفل وسلمان الفارسي وقس بن ساعدة وغيرهم ممن آمن بعيسى ولم يغير ولم يبدل حتى أدرك محمداً وآمن به، وأما من آمن بعيسى وأدرك محمداً ولم يؤمن به فذلك مخلداً في النار، لقوله تعالى:﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾[آل عمران: ٨٥]، والذين اسم إن وآمنوا صلته والذين معطوف عليه وهادوا صلته. قوله: (هم اليهود) من هاد إذا رجع سموا بذلك لرجوعهم من عبادة العجل على أن عربي، وأما على أنه عبراني فعرب فاصله يهوذا اسم أكبر أولاده يعقوب فأبدلت المعجمة مهملة. قوله: ﴿ وَٱلنَّصَارَىٰ ﴾ جمع نصراني والياء للمبالغة كأحمرى، سموا بذلك لأنهم نصروا عيسى على كلمة الحق، كما سمي الأنصار أنصاراً لنصرته صلى الله عليه وسلم، وقيل نسبة لناصرة قرية بالشام. قوله: ﴿ وَٱلصَّابِئِينَ ﴾ أي المائلين عن دينهم. قوله: (أو النصارى) إشارة إلى تنويع الخلاف أي صبؤوا عن دينهم وعبدوا النجوم والملائكة، وقيل فرقة ادعوا أنهم على دين صابئ بن شيث بن آدم. والأرجح ما قاله المفسر. قوله: (من) اسم موصول مبتدأ وآمن صلته والعائد محذوف، قدره المفسر بقوله منهم وبالله متعلق بآمن، وقوله: فلهم أجرهم خبر المبتدأ وقرن بالفاء لما في المبتدأ من العموم، ويصح أن يكون من اسم شرط مبتدأ وآمن فعل الشرط، وقوله فلهم أجرهم جواب الشرط وخبر المبتدأ فيه خلاف، قيل فعل الشرط رقيل جوابه وقيل هما والجملة خبر إن، ويصح أن يكون من بدل اسم إن وجملة فلهم أجرهم خبر إن. قوله: ﴿ أَجْرُهُمْ ﴾ في الأصل مصدر بمعنى الإيجار، والمراد هنا الثواب وهو مقدار من الجزاء أعده الله لعباده في نظير أعمالهم الحسنة بمحض الفضل. قوله: ﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ أي في الآخرة. قوله: ﴿ مِيثَاقَكُمْ ﴾ الخطاب لبني إسرائيل. قوله: ﴿ وَ ﴾ (قد) ﴿ رَفَعْنَا ﴾ قدر المفسر لفظ قد إشارة إلى أن الجملة حالية. قوله: ﴿ ٱلطُّورَ ﴾ في الأصل اسم لكل جبل، لكن المراد به هنا جبل معرفو بفلسطين. قوله: (وقلنا) ﴿ خُذُواْ ﴾ قدره المفسر إشارة إلى أن خذوا مقول لقول محذوف، وحاصل ذلك أن الله لما آتى موسى التوراة وأمرهم بالسجود شكراً لله أبوا من قبول التوراة ومن السجود، فرفع الله جبل الصور فوق رؤوسهم كأنه سحابة قدر قامتهم وكان على قدرهم، فسجدوا على نصف الجبهة الأيسر فصار ذلك فيهم إلى الآن ثم لما رفع عنهم أبوا. قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ الترجي بالنسبة للمخاطبين. قوله: (الميثاق) أشار بذلك إلى مرجع اسم الإشارة، وقال البيضاوي: إنه راجع لرفع الجبل وإيتاء التوراة. قوله: (فلولا فضل الله) لو حرف امتناع لوجود أي امتنع خسرانكم لوجود فضل الله ورحمته، وجوابها يقترن باللام غالباً إن كان مثبتاً فإن كان منفياً بما فالغالب الحذف أو بغيرها فالجواب الحذف وتختص بالجمل الإسمية ومدخولها المبتدأ يجب حذف خبره لإغناء جوابها عنه، قال ابن مالك: وبعد لولا غالباً حذف الخبر حتم. قوله: (بالتوبة) هذا في حق المؤمنين أو قوله وتأخير العذاب في حق الكفارين. قوله: (الهالكين) أي في الدنيا والآخرة. قوله: (عرفتم) أي فتنصب مفعولاً واحداً والعلم والمعرفة قيل مترادفان، ولكن يقال في الله عالم لا عارف لأن السماء توقيفية، وقيل العلم أوسع دائرة من المعرفة لتعلقه بالجزئيات والكليات والبسائط والمركبات بخلاف المعرفة، فلذلك يقال في الله عالم لعموم ما تعلق به علمه لا عارف لأنه يوهم القصور والمعتمد الأول، وقوله لام قسم أي محذوف تقديره والله لقد عرفتم.
قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ مفعول علمتم واعتدوا صلته وأصله اعتديوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً ثم حذفت لالتقاء الساكنين. قوله: ﴿ مِنْكُمْ ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل اعتدوا. قوله: ﴿ فِي ٱلسَّبْتِ ﴾ هو لغة القطع وهو أصل وضعه لأنه ورد أن الدنيا ابتدئت بالأحد وختمت بالجمعة فكان يوم السبت يوم انقطاع عمل خصت اليهود به لقطعهم عن رحمة الله، أو مأخوذ من السبوت وهو السكون لان انقطاع العمل السكون. قوله: (وهو أهل أيلة) حاصله أن سبعين ألفاً من قوم داود كانوا بقرية تسمى أيلة عند العقبة في أرغد عيش، فامتحنهم الله بأن حرم عليهم اصطياد السمك يوم السبت وأحل لهم باقي الجمعة، فإذا كان يوم السبت وجدوا السمك بكثرة على وجه الماء وفي باقيها لم يجدوا شيئاً، ثم إن إبليس علمهم حيلة يصطادون بها فقال لهم اصنعوا جداول حول البحر فإذا جاء السمك ونزل في الجداول فسدوا عليه وخذوه في غير يوم السبت، فافتقروا ثلاث فرق، فاثنا عشر ألفاً فعلوا ذلك واصطادوا وأكلوا فمسخوا قردة، ومكثوا ثلاثة أيام لم يأكلوا ولم يشربوا ثم ماتوا، وأما ما وجد من القردة الآن فلم يكونوا من ذريتهم بل خلق آخر، وقيل مسخت شبابهم قردة وشيوخهم خنازير، وقيل الذين مسخوا خنازير أهل المائدة، وفرقة نهوهم وجعلوا بينهم سداً، وفرقة أنكروا بقلوبهم ولم يتعرضوا لهم، فمن نهى نجاى وكذا من لم ينه على المعتمد. قوله: ﴿ فَقُلْنَا ﴾ المراد بالقول تعلق الإرادة. قوله: (مبعدين) أي عن رحمة الله. قوله: ﴿ نَكَالاً ﴾ هو في الأصل القيد الحديد أطلق وأريد لازمه وهو المنع، لأن المقيد ممنوع فكذا تلك العقوبة مانعة. قوله: (مثل ما عملوا) المماثلة في مطلق المخالفة. قوله: (واذكروا) أي يا بني إسرائيل قوله: (قتيل) اسمه عاميل. قوله: ﴿ بَقَرَةً ﴾ واحدة البقرة يفرق بين مذكره ومؤنثه بالوصف، تقول بقرة أنثى وبقرة ذكر، فالتاء للوحدة وقيل للتأنيث فالأنثى بقرة والذكر ثور، وسمي البقر بقراً لأنه يبقر الأرض بحافره أي يشقها. وأول القصة قوله فيما يأتي (وإذ قتلتم نفساً) الآية: قوله: (مهزوءاً بنا) أشار بذلك إلى أنه مصدر بمعنى اسم المفعول، ويصح أن يبقى على مصدريته مبالغة أو على حذف مضاف أي ذوي هزء، على حد ما قيل في زيد عدل والهزؤ هو الكلام الساقط الذي لا معنى له. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ ﴾ أي المبلغين عن الله الكذب. قوله: (إنه عزم) أي مفروض وحق لا هزل فيه. قوله: (أي ما سنها) أي فيما واقعة على الأوصاف، وقولهم إن ما يسأل بها عن الماهية والحقيقة أغلبي. قوله: ﴿ لاَّ فَارِضٌ ﴾ من الفرض وهو القطع سيمت بذلك لقطعها عمرها. قوله: (نصف) بالتحريك يقال للمرأة والبقرة، قال الشاعر: وإن أتوك وقالوا إنها نصف   قل إن أحسن نصفيها الذي ذهباوكرر لا لوقوع النعت بعدها، وكذا إذا وقع بعدها الحال والخبر. قوله: (به) عائد الموصول وقوله من ذبحها بيان لما قوله: ﴿ قَالَ ﴾ أي موسى وقوله: ﴿ إِنَّهُ ﴾ أي الله. قوله: (فاقع) صفة لصفراء وهو مبالغة في الصفرة، يقال أحمد قانئ وأسود حالك وأبيض ناصع وأصفر فاقع. قوله: (بحسنها) أي لجمال خلقتها وحيث شددوا شدد عليهم، إذ لو أتوا أولاً بأي بقرة لكفت، ثم لو أتوا بما في السؤال الثاني. لكفت ثم ما في الثالث لكفت، ولكن شددوا فشدد عليهم. قوله: (أسائمة) أي متروكة في الجبال ترعى من كلئها. قوله: (أم عاملة) أي بعلفها ربها ويشغلها.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلبَقَرَ ﴾ تعليل للإسئلة الثلاثة. قوله: (لو لم يستثنوا) أي بالمشيئة. قوله: (آخر الأبد) أي إلى انقضاء الدنيا. قوله: ﴿ لاَّ ذَلُولٌ ﴾ من الذلة وهي السهولة بل فيها الصعوبة. قوله: (داخلة في النفي) أي فالمعنى ليست مذللة لعمل ولا مثيرة للأرض. قوله: (الأرض المهيأة إلخ) المناسب أن يقول الحرث أي الزرع لأن الحرث يطلق على الزرع. قوله: ﴿ ٱلآنَ ﴾ ظرف زمان للوقت الحاضر. قوله: ﴿ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ ﴾ أي بصفات البقر التي لا تخفى ولا تلتبس، فلا تنافي بين الآية وقول المفسر فطلبوها. قوله: (نطقت بالبيان التام) جواب عن سؤال ورد على الآية، وهو أن ظاهر مفهوم الآية بمقتضى أنهم كفار، فأجاب المفسر بأن فيه حذف النعت مع بقاء المنعوت وهو جائز لقول ابن مالك: وما من المنعوت والنعت عقل   يجوز حذفه وفي النعت يقلقوله: (فطلبوها) أي بحثوا عنها. قوله: (عند الفتى البار بأمه) وحاصل ذلك أن أبا الفتى المذكور كان رجلاً صالحاً من بني إسرائيل قد حضرته الوفاة، وكان عنده بقرة ولدت انثى، فأخذ تلك الأنثى ووضعها في غيضة وأوصى أم الغلام أن تعطيه تلك البقرة حين يكبر ومات، ثم إن الولد صار يحتطب ويبيع الحطب ويقسم اثلاثا: يصرف ثلثه على نفسه والثلث الآخر على أمه والثلث الآخر يتصدق به، ويقسم ليله أثلاثاً: ينام ثلثه ويخدم أمه ثلثه ويقوم لطاعة الله ثلثه، فما كبر الغلام قالت له أمه اذهب إلى الغيضة الفلانية فإن فيها بقرة تركها لك أبوك، واوصاني إذا كبرت أن اعطيها لك، واقسم عليها بابراهيم الخليل وإسحاق ويعقوب فإنها تأتي لك طائعة، ففعل كما أمرته فجاءت له طائعة وقالت له اركب على ظهري، فقال لها إن إمي لم تأمرني بالركوب، فقالت له لو ركبت على ظهري ما قدرتني إلى الأبد، فأخذها وذهب إلى أمه فقالت له اذهب إلى السوق فبعها بثلاثة دنانير على مشورة، فذهب فأتاه ملك على صورة رجل وقال له بكم تبيعها فقال بثلاثة دنانير على مشورة أمي، فقال له بعها بستة دنانير من غير مشورة فقال لا ثم ذهب إلى أمه واخبرها بذلك فقالت له بعها بستة على مشورتي، فذهب فأتاه ثانياً وأعطاه فيها اثني عشر على غير مشورة فأبى، فذهب إلى أمه وأخبرها فقالت له إن هذا ملك من عند الله فاذهب إليه واقرئه السلام وقل له أنبيع البقرة أم لا، فذهب إليه وأخبره بذلك فقال له إن بني إسرائيل يقتل لهم قتيل ويتوقف بيان قاتله على تلك البقرة فلا تبعها إلا بملء مسكها ذهباً ففعل ما أمر به، والفتى هو الشاب السخي ولا شك أنه كان كذلك. قوله: (مسكها) بفتح الميم الجلد. قوله: ﴿ فَذَبَحُوهَا ﴾ مرتب على محذوف قدره المفسر بقوله فطلبوها إلخ. قوله: ﴿ وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ أي ما قاربوا الفعل (قوله لغلاء ثمنها) أي أو للتعنت في أوصافها. قوله: (فيه إدغام التاء في الأصل الخ) أي اصله تدار أتم قلبت التاء دالاً وأدغمت فيها وأتى بهمزة الوصل توصلاً للنطق بالساكن. قوله: (أي تخاصمتم) أي اتهم بعضهم بعضاً. قوله: (وهذا اعتراض) أي جملة معترضة بين المعطوف وهو فقلنا اضربوه إلخ والمعطوف عليه وهو فذبحوها. قوله: (وهو أول القصة وإنما أخره ليواصل قبائح بني إسرائيل بعضها ببعض. قوله: ﴿ فَقُلْنَا ﴾ معطوف على فذبحوها والقائل الله على لسان موسى. قوله: (بلسانها) أي لأنه حل الكلام. قوله: (أو عجب ذنبها) إشارة لتنويع الخلاف، والحكمة في ذلك أنه محل حياة ابن آدم، وقيل ضربوه بفخذها اليمنى وقيل بقطعة لحم منها. قوله: (فحيي) ورد أنه قام واوداجه تشخب دماً. قوله: (ومات) أي سريعاً بلا مهلة، قوله: (فحرما الميراث) أي لأن القاتل لا يرث من تركه المقتول شيئاً حتى في شرع موسى، وسبب قتله إياه أن المقتول كان غنياً والقاتل كان فقيراً فلما طال عمر المقتول قتله ليرثه، وقيل غير ذلك. قوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ هذه الجملة معترضة بين قصص بني أسرائيل رداً على منكري البعث، فإن بني إسرائيل لم يكونوا منكرين له، فالخطاب لمشركي العرب المنكرين للبعث.
﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ نزل استبعاد قسوة قلوبهم لظهور الخوارق للعادات العظيمة منزلة التراخي، فأتى بثم وأكده بالظرف بعده. قوله: (أيها اليهود) دفع ذلك ما يقال إنه خطاب لغير بني إسرائيل كالذي قبله. قوله: (صلبت عن قبول الحق) أشار بذلك إلى أن في قست استعارة تصريحية تبعية حيث شبه عدم الإذعان بالقسوة بجامع عدم قبول التأثير في كل، واستعير اسم المشبه به للمشبه واشتق من القساوة قست بمعنى لم تذعن فلم تقبل المواعظ ولم تؤثر فيها. قوله: ﴿ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ ﴾ لم يشبههم بالحديد لوجود اللين فيه في الجملة. قوله: ﴿ أَوْ أَشَدُّ ﴾ هذ ترق في ذكر قسوتهم فأو بمعنى بل. قوله: (فيه إدغام التاء إلخ) أي فأصله يتشقق فأبدلت التاء شيئاً ثم أدغمت فيها. قوله: ﴿ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ ﴾ أي أنهاراً أو غيرها كالعيون فهو من عطف العام على الخاص. قوله: (ينزل من علو إلى أسفل) أي كجبل الطور، وورد ما من حجر يسقط من علو إلى أسفل إلا من خشية الله. قوله: ﴿ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ ﴾ أخذ أهل السنة من ذلك ومن قوله تعالى:﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾[الإسراء: ٤٤] ومن قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾[النور: ٤١] الآية، أن كل شيء يعرف الله ويسبحه ويخشاه إلا الكافر من الإنس والجن. قوله: ﴿ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ ﴾ ما نافية ولفظ الجلالة اسمها وبغافل خبرها، وقوله عما تعملون يحتمل أن ما اسم موصول وتعلمون صلته والعائد محذوف أي عن الذي تعملونه، ويحتمل أنها مصدرية تسبك مع ما بعدها بمصدر أي عن عملكم. قوله: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ ﴾ سيأتي للمفسر أن الهمزة للإنكار، فيحتمل أنها مقدمة من تأخير والأصل فاتطمعون قدمت لأن لها الصدارة وهو مذهب الجمهور، وقال الزمخشري إن الهمزة داخلة على محذوف والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، التقدير أتسعمون كلامهم وتعرفون احوالهم فتطمعون إلخ أي لا يكون منكم ذلك، واعلم ان الهمزة لا تدخل إلا على ثلاثة من حروف العطف الواو والفاء وثم. قوله: ﴿ أَن يُؤْمِنُواْ ﴾ أي يستبعد ذلك منهم لافتراقهم أربع فرق في كل فرقة صفة مانعة من الإيمان، الأول كونهم يحرفون كلام الله، الثاني النفاق، الثالث التوبيخ من غير المنافق على ملاطفة المسلمين، الرابع كونهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، فهذه يستبعد معها الإيمان لرسوخ الكفر في قلوبهم. قوله: ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ ﴾ الجملة حالية وقد قربت الماضي من حال، والمراد من كان النسبة لأن هذا الكلام فيمن كان موجوداً زمن النبي لا فيمن كان قبلهم. قوله: (أحبارهم) علماؤهم جمع حبر بالكسر ويقال بالفتح وجمعه حبور كفلس وفلوس. قوله: ﴿ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ﴾ أي من بعد تعقلهم إياه وتحريفهم في الكلام كأوصاف النبي من كونه أكحل العينين جعد الشعر، فغيروه إلى أزرق العينين سبط الشعر، وآية الرجم غيروها إلى الجلد وغير ذلك. قوله: ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ الجملة حالية من فاعل يحرفون. قوله: (أنهم مفترون) أشار بذلك إلى أن مفعول يعلمون محذوف، والإفتراء هو الكذب الذي لا شك فيه. قوله: (للإنكار) أي الاستبعادي. قوله: (أي لا تطعموا) عبر بالطمع دون الرجاء، إشارة إلى فقد أسباب الإيمان منهم وعدم قابليتهم له. قوله: (فلهم سابقة في الكفر) أي كفر سابق قبل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم اياهم للإيمان، وهذه الجملة علة لقوله لا تطمعوا.
قوله: ﴿ وَإِذَا لَقُواْ ﴾ شروع في ذكر الفرقة الثانية وهم المنافقون ورئيسهم عبد الله بن سلول. قوله: ﴿ وَإِذَا خَلاَ ﴾ شروع في الفرقة الثالثة وهم الموبخون للمنافقين. قوله: ﴿ بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ ما اسم موصول وجملة فتح صلته والعائد محذوف، التقدير بالذي فتح الله عليكم به وما واقعة على أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: (من نعت محمد) بيان لما. قوله: (واللام للصيرورة) أي عاقبة أمرهم أنهم يحاجونكم عند ربكم، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها. قوله: (في الآخرة) إشارة إلى معنى العندية وهو متعلق بيحاجوكم. قوله: (أنهم يحاجونكم) أشار بذلك إلى مفعول تعقلون وأنه من كلام الرؤساء الذين لم ينافقوا. قوله: (الإستفهام للتقرير) أي على سبيل التوبيخ، حيث اعتقدوا أن المنافق يؤاخذ والكافر الأصلي لا حجة عليه وله عذر قائم عند ربه وهذه الجملة حالية. قوله: (الداخل) نعت سببي للواو فكان عليه أن يظهر فاعله ويقول، والواو الداخل الإستفهام عليها للعطف لوجود اللبس. قوله: (للعطف) أي على محذوف تقديره أيلومونهم ولا يعلمون، وتقدم أن هذا مذهب الزمخشري. قوله: ﴿ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ ﴾ هذه الجملة سدت مسد مفعولي يعلمون إن كانت على بابها أو مفعولها إن كانت بمعنى يعرفون قوله: (فيرعووا) أي فينكفوا وينزجروا وهو مرتب على قوله: ﴿ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ ﴾ كما أن قوله فتنتهوا مرتب على قوله: ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾.
قوله: ﴿ وَمِنْهُمْ ﴾ شروع في ذكر الفرقة الرابعة. قوله: ﴿ أُمِّيُّونَ ﴾ أي منسوبون للأم لعدم انتقالهم عن حقيقتهم الأصلية التي ولدتهم عليها، قال تعالى:﴿ وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً ﴾[النحل: ٧٨] والأمي هو من لا يقرأ ولا يكتب. قوله: ﴿ إِلاَّ ﴾ (لكن) ﴿ أَمَانِيَّ ﴾ اشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع والأماني جمع امنية وهو ما يتمناه الشخص، ويطلق على القراءة وعلى الأكاذيب وهو المراد هنا. قوله: (فاعتمدوها) أي ثبتوا عليها ورسخت في قلوبهم. قوله: (ما) ﴿ هُمْ ﴾ اشار بذلك إلى أن إن نافية بمعنى ما، والغالب وقوعها بعد إلا التي بمعنى لكن، وهل تعمل عمل ما الحجازية فتنصب الاسم وترفع الخبر، أو لا عمل لها فما بعدها مبتدأ وخبر خلاف بين الجمهور وسيبويه فاختار سيبويه الأول مستدلاً بقول الشاعر: إن هو مستولياً على أحد   إلا على اضعف المجانينواختار الجمهور الثاني. قوله: (ولا علم لهم) أي ليس عندهم جزم مطابق الواقع، وإنما أخر الأميون لأنهم اقرب للإيمان بخلاف من قبلهم فإنهم وأضلوا افرأيت من تخذ إلهه هواه واضله الله على علم.
قوله: ﴿ فَوَيْلٌ ﴾ شروع في ذكر ما يستحقونه. قوله: (شدة عذاب) وقيل واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لانماعت من حره. قوله: ﴿ ٱلْكِتَابَ ﴾ أي المكتوب. قوله: ﴿ بِأَيْدِيهِمْ ﴾ دفع بذلك ما يتوهم أن المراد املوه لغيرهم. قوله: ﴿ لِيَشْتَرُواْ ﴾ علة لقوله يكتبون قوله. (غيروا صفة النبي) أي من كونه ربعة جعد الشعر اكحل العينين. فغيروها وقالوا طويل سبط الشعر أزرق العينين. قوله: (وآية الرجم) أي فغيروها إلى الجلد. قوله: (وغيرهما) أي كقولهم: ﴿ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ وكدعواهم أنهم من أهل الجنة. قوله: (من الرشا) بكسر الراء وبضمها جمع رشوة بتثليث الراء، وهو من باب تقديم السبب على المسبب لأن أخذ الرشوة سبب للتبديل. وقوله: ﴿ مِّمَّا كَتَبَتْ ﴾ يحتمل أن ما اسم موصول وكتبت صلتها والعائد محذوف أي كتبته، ويحتمل أن ما مصدرية، التقدير من كتبهم وكذا قوله: ﴿ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ قوله: (أربعين يوماً) وقيل سبعة أيام، وقوله قليلة تفسير باللازم لمعدودة لأن معنى المعدودة التي يسهل عدها، وشأن القليلة سهولة عدها. قوله: (استغناء بهمزة الاستفهام) أي لأنه يحصل بها التوصل للنطق بالساكن مع إفادة المراد من الإستفهام، وفي اتخذتم قراءتان سبعيتان الأولى بالفك والثانية بالإغام، وطريقته أن تقلب الذال دالاً ثم تاء وتدغمها في التاء، وهذا الاستفهام يحتمل أن يكون تقريرياً فتكون الجملة إنشائية وأم متصلة معادلة للهمزة التي لطلب التعيين، التقدير اتخذتم عند الله عهداً أم لم تتخذوا، ويحتمل أن يكون انكارياً بمعنى النفي فتكون الجملة خبرية وأم منقطعة بمعنى بل، التقدير لم تتخذوا عند الله عهداً بل تقولون على الله ما لا تعلمون وهذا هو الأقرب ولذا اختاره المفسر. قوله: ﴿ فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ ﴾ هذه الجملة في محل جزم جواب الإستفهام، وقيل إنها جواب شرط مقدر تقديره أن اتخذتم فلن يخلف الله عهده وقرن بالفاء لوجود لن في حيزه. قوله: (بل) ﴿ تَقُولُونَ ﴾ أشار بذلك إلى أنها منقطعة والإضراب انتقالي. قوله: ﴿ بَلَىٰ ﴾ هو حرف جواب للنفي لكنه يصير اثباتاً، وأما نعم وجير وأجل وأي فالتقرير ما قبلها اثباتاً أو نفياً. قوله: (تمسكم) رد لقولهم لن تمسنا وقوله وتخلدون فيها رد لقولهم إلا اياماً معدودة. قوله: ﴿ مَن كَسَبَ ﴾ يحتمل أن تكون من شرطية وكسب فعل الشرط، وجوابه فأولئك اصحاب النار وأن تكون موصولة وكسب صلتها وقرن خبرها بالفاء لما في الموصل من معنى العموم، ولن يقرن خبر التي بعدها بالفاء إشارة إلى خلود النار مسبب عن الكفر بخلاف خلود الجنة فلا يتسبب عن الإيمان بل بمحض فضل الله، كذا قاله بعض الأشياخ. قوله: ﴿ سَيِّئَةً ﴾ اصلها سيوئة اجتمعت الواو والياء وسبقت احداهما بالسكون، قبت الواو ياء وادغمت في الياء على حد ما قيل في سيد وميت. قوله: (بالإفراد) أي باعتبار ذات الشرك، وقوله: (والجمع) أي باعتبار انواعه. قوله: (واحدقت به من كل جانب) أي فلم يجد ملجأ لكفره. قوله: ﴿ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ أي وأما من آمن ولم يعمل صالحاً غير الإيمان فمخلد في الجنة أيضاً وتحت المشيئة في الابتداء، وقد جرت عادة الله في كتابه أنه إذا ذكر آية الكفار وعاقبة امرهم يتبعها بذكر آية المؤمنين وعاقبة أمرهم.
قوله: ﴿ وَ ﴾ (اذكر) أي يا محمد والمناسب للسياق اذكروا ويكون خطاباً لبني إسرائيل، الفروع تذكيراً لهم بقبائح أصولهم. قوله: (وقلنا) ﴿ لاَ تَعْبُدُونَ ﴾ قدر ذلك إشارة إلى أن جملة لا تعبدون في محل نصب مقول لقول محذوف، وذلك القول في محل نصب على الحال من فاعل أخذنا، التقدير، وأذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل حال كوننا قائلين لا تعبدون إلخ، ويحتمل أن جملة لا تعبدون إلا الله مفسرة للميثاق لا محل لها من الإعراب والاحذف وهو الأقرب. قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان ولا التفات في ذلك على ما قرره المفسر من تقدير القول، وعلى الإحتمال الثاني ففيه التفات على قراءة التاء من الغيبة إلى الخطاب فإن الإسم الظاهر من قبيل الغيبة. قوله: (خبر بمعنى النهي) أي فهي جملة خبرية لفظاً لعدم جزم الفعل إنشائية معنى لأن القصد النهي عن عبادة غير الله! لا الإخبار عنهم بأنهم لا يعبدون غير الله، والحكمة في التعبير عن الإنشاء بالخبر استبعاد ذلك منهم وتقوية للإنشاء، كأنه قيل لا ينبغي أن تعبدوا غير الله حتى ننهاكم عنه، بل أخبر عنهم بأنهم لا يعبدون إلا الله كأنه لم يقع منهم عبادة لغيره أبداً. قوله: (وقرئ) أي قراءة شاذة لأن قاعدة المفسر يشير للشاذة بقرئ وللسبعية بأي قراءة غالباً. قوله: (وأحسنوا) قدر ذلك إشارة إلى أنه من عطف الجمل على جملة لا تعبدون، وأتى بحق الوالدين عقب حق الله، إشار إلى أنه آكد الحقوق بعد عبادة الله. قال تعالى:﴿ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ﴾[لقمان: ١٤] فإنهما السبب في وجود الشخص ويجب برهما ولو كافرين، وبالجملة فلم يشدد الله على أمر كتشديده على برهما. قوله: (عطف على الوالدين) أي من عطف المفردات، وأحسنوا مسلط عليه التقدير، واحسنوا بذي القربى لأن حق القرابة تابع لحق الوالدين والإحسان اليهم إنما هو بواسطتهما. قوله: ﴿ وَالْيَتَامَىٰ ﴾ جمع يتيم وهو من الآدميين من فقد أباه، ومن غيرهم من فقد أمه. قوله: ﴿ وَٱلْمَسَاكِينِ ﴾ المراد ما يشمل الفقراء فإن الفقير والمسكين متى اجتمعا افترقا ومتى افترقا اجتمعا قوله: ﴿ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ ﴾ أي عموماً ومنه الحديث" وخالق الناس بخلق حسن ". قوله: (قولاً) ﴿ حُسْناً ﴾ أشار بذلك إلى أن حسناً بفتحتين صفة مشبهة لموصوف محذوف. قوله: (والنهي عن المنكر) أي على حسب مراتبه من النهي باليد ثم اللسان ثم القلب. قوله: (والرفق بهم) أي بالناس بأن يوقر كبيرهم ويرحم صغيرهم. قوله: (وفي قراءة) أي سبعية. قوله: (مصدر) أي على غير قياس إن كان فعله أحسن وهو المتبادر، وقياسي إن كان فعله حسن كظرف وكرم. قوله: (وصف به مبالغة) أي أو على حذف مضاف على حد ما قيل في زيد عدل. قوله: ﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ﴾ أي المفروضات عليهم في مثلهم، وما نزل بقارون من الخسف به وبداره سببه منع الزكاة. قوله: (فقبلتم ذلك) قدر ذلك لأجل العطف بثم عليه. قوله: (فيه التفات) وحكمته الإستلذاذ للسامع وعدم الملل منه، فإن الإلتفات من المحسنات للكلام. قوله: ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ ﴾ أي من أجدادكم وهو من أقام اليهود على وجهها قبل النسخ، أي ومنكم أيضاً وهو من آمن منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه. قوله: ﴿ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ خطاب للفروع ويلاحظ قوله: ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ هنا كما علمت فتغاير معنى الجملتين فلا تكرار. قوله: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ﴾ المقدر اذكروا فهو خطاب لنبي إسرائيل وهو معطوف على الجملة الأولى المتعلقة بحقوق الله، وهذه الجملة متعلقة بحقوق العباد، فخانوا كلا من العهدين، وهي متضمنة لأربعة عهود: الأول لا يسفك بعضهم دماء بعض، الثاني لا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، الثالث لا يتظاهر بعضهم على بعض الإثم والعدوان، الرابع أن وجد بعضهم بعضاً أسيراً فداه ولو بجميع ما يملك. قوله: ﴿ مِيثَاقَكُمْ ﴾ أي ميثاق آبائكم في التوراة، فإن هذا خطاب لقريظة وبني النضير الكائنين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (وقلنا) ﴿ لاَ تَسْفِكُونَ ﴾ قدر القول إشارة إلى أن الجملة في محل نصب مقول لقول محذوف، والجملة حالية من فاعل أخذنا، التقدير أخذنا ميثاقكم حال كوننا قائلين، ويحتمل أن الجملة لا محل لها من الإعراب تفسير للميثاق وتقدم ذلك في نظيره. قوله: ﴿ لاَ تَسْفِكُونَ ﴾ مضارع سفك من باب ضرب وقتل أراق الدم أو الدمع. قوله: (بقتل بعضكم بعضاً) أشار بذلك إلى أنه من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، لأنه يلزم من القتل إراقة الدم غالباً والإضافة في دمائكم لأدنى ملابسة، فإن دم الأخ كدم النفس أو باعتبار أن من قتل يقتل، أي فلا تتسببوا في قتل أنفسكم بقتلكم غيركم، وهنا حذف يعلم بما يأتي أي ظلماً وعداوناً. قوله: ﴿ مِّن دِيَارِكُمْ ﴾ أصله دوار وقعت الواو إثر كسرة قلبت ياء، وأسند الإخراج لأنفسهم مع أنهم يخرجون غيرهم، لأن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله. قوله: ﴿ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ ﴾ لم يذكر هنا بقية العهود لأن عهد عدم التظاهر بالإثم والعدوان ملاحظ في العهدين الأولين، أما الرابع فقد وفوا به فلم يعاتبهم الرب عليه. قوله: (على أنفسكم) أشار بذلك إلى أن الجملة مؤكدة لجملة ثم أقررتم لأن الشهادة على النفس هي الإقرار بعينه، ويحتمل أن قوله ثم أقررتم خطاب لبني إسرائيل الأصول، وقوله وأنتم تشهدون خطاب للفروع، فتغاير معنى الجملتين ولا تأكيد.
قوله: ﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ ﴾ أنتم مبتدأ وجملة تقتلون خبره، وهؤلاء منادى وحرف النداء محذوف والجملة معترضة بين المبتدأ والخبر، قوله: ﴿ تَظَاهَرُونَ ﴾ في محل نصب على الحال من فاعل تخرجون وهو من باب الحذف من الأوائل لدلالة الأواخر، التقدير تقتلون أنفسكم متظاهرين وتخرجون فريقاً كذلك قوله: (في الأصل) أي بعد قلبها ظاء، قوله: (بالتخفيف) أي بحذف التاء الثانية التي ليست للمضارعة، ولم تحذف التي للمضارعة لأنه أتى بها لمعنى. قوله: ﴿ بِٱلإِثْمِ ﴾ يجمع على آثام قوله: (وفي قراءة أسرى) أي بالإمالة وهي لحمزة وكل منهما جمع لأسير، قوله: (وفي قراءة تفادوهم) الحاصل أن القراءات خمس أسرى بالإمالة مع تفدوهم فقط أسارى بالإمالة وعدمها مع تفدوهم وتفادوهم. وقوله: (أي الشأن) ويقال ضمير القصة يفسره ما بعده، قال ابن هشام ويختص بخمسة أشياء كونه مفرداً ولو كان مرجعه مثنى أو مجموعاً، وتأخير مرجعه وكونه جملة ولا يعمل فيه إلا الابتداء أو الناسخ ولا يتبع. قوله: ﴿ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ﴾ مبتدأ وخبر والجملة خر ضمير الشأن ولم تحتج لرابط لأنها عين المبتدأ في المعنى. قوله: (والنضير) معطوف على قريظة والعامل فيه كانت، وقوله الخزرج معطوف على الأوس والعامل فيه حالفوه ففيه العطف على معمولي عاملين مختلفين قصداً للإختصار، ويحتمل أن الخزرج معمول لمحذوف التقدير حالفوا والحاصل لأن الأوس والخزرج فرقتان في المدينة وهم الأنصار وكان بينهما عداوة ولم يرسل لهم نبي غير رسول الله، وأما قريظة وبنو النضير فكانوا مكلفين بشريعة موسى وكانوا أذلاء، فاستغز قريظة بالأوس وبنو النضير بالخزرج، فكان إذا اقتتل الأوس مع الخزرج قاتل مع كل حلفاءه، فإذا أسر حلفاء قريظة أسيراً من بني النضير افتداه قريظة وبالعكس فإذا سئلوا عن القتال أجابوا بأنهم قاتلوا خشية أن يستذل من استعزوا به، وعن الفداء أجابوا بأننا أمرنا به. قوله: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ ﴾ أي تصدقون بالعمل به قوله: (وقد خزوا) اصله خزيوا استثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان الياء والواو حذفت الياء لالتقاء الساكنين وقلبت كسرة الزاي ضمة لمناسبة الواو. قوله (بقتل قريظة) أي حين دخل النبي المدينة وأسلم الأوس والخزرج، فعزاهم النبي وأصحابه إلى أن نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم قتل شجعانهم وسبي ذراريهم ونسائهم فقتل منهم سبعمائة، وكان ذلك في السنة الرابعة من الهجرة. قوله: (ونفي النضير إلى الشام) أي مع كل واحد حمل بعير من طعام لا غير. قوله: (وضرب الجزية) أي على من بقي من قريظة وسكن خيبر، وعلى بني النضير بعد ذهابهم إلى الشام. قوله: ﴿ يُرَدُّونَ ﴾ وقرئ شاذ بالتاء. قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (بأن آثروها) بالمد بمعنى قدموها.
قوله: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ ﴾ شروع في ذكر نعم أخرى لبني إسرائيل قابلوها بقبائح عظيمة، وصدر الجملة بالقسم زيادة في الرد عليهم، قوله: ﴿ وَقَفَّيْنَا ﴾ من التقفية وهي المشي خلف القفا أطلق، وأريد به مطلق الإتباع. قوله: ﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ يحتمل أن الضمير عائد على موسى أو الكتاب. قوله: (أي أتبعناهم رسولاً في أثر رسول) ظاهره أنه لا يجتمع رسولان في زمن واحد، وليس كذلك، فإن زكريا ويحيى كانا في زمن واحد، وكذا داود وسليمان، وورد أنهم قتلوا سبعين نبياً في يوم واحد واقاموا سوقهم، وأجيب بأن مراد التبع في العمل بالتوراة، فكل الأنبياء الذين بين موسى وعيسى يعملون بالتوراة بوحي من الله لا تقليداً لموسى. إذا علمت ذلك، فالمناسب للمفسر أن يقول أي أتبعنا بعضهم بعضاً في العمل بالتوراة كانوا في زمن واحد أو لا، وقوله بالرسل مراده ما يشمل الأنبياء وعدة الأنبياء والرسل الذين بين موسى وعيسى سبعون ألفاً وقيل أربعة آلاف. قوله: ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ﴾ معطوف على آتينا موسى وخصه بالذكر، وإن كان داخلاً في قوله: (وقفينا من بعده بالرسل) لعظم شرفه ومزيته، ولكون رسولاً مستقلاً بشرع يخصه لأنه نسخ بعض ما في التوراة، وللرد على اليهود حيث ادعوا أنهم قتلوه، وعيسى لغة عبراينة معناه السبوح. قوله: ﴿ ٱبْنَ مَرْيَمَ ﴾ معنى مريم خادمة لله، وفي اصطلاح العرب المرأة التي تكره مخالطة الرجال. قوله: ﴿ ٱلْبَيِّنَاتِ ﴾ أل للعهد أي المعجزات المعهودة له. قوله: (وإبراء الأكمة) هو من ولد أعمى. قوله: (أي الروح القدس) أي المطهرة. قوله: (جبريل) وجه تسميته روحاً أن الروح جسم نوراني به حياة الأبدان، وجبريل جسم نوراني به حاية القلوب. قول: (لطهارته) أي من المعاصي والمخالفات والأقدار، وقد مدحه الله بقوله تعالى:﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾[الحاقة: ٤٠] الآية. قوله: (يسير معه حيث سار) أي ولم يزل معه حتى رفعه إلى السماء. قوله: (فلم تستقيموا) قدره المفسر لعطف قوله أفكلما جاءكم رسول عليه. قوله: ﴿ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ ﴾ ماضية هوى من باب تعب وضرب، سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه إلى النار، وهو تذكير للفروع بقبائح أصولهم. قوله: ﴿ ٱسْتَكْبَرْتُمْ ﴾ السين زائدة والتقدير تكبرتم كلما جاءكم رسول بالذي لا تحبه أنفسكم. قوله: (والمراد به التوبيخ) أي اللوم والتقريع عليهم. قوله: ﴿ فَفَرِيقاً ﴾ معمول لكذبتم وقدم مراعاة للفواصل، وقدم التكذيب على القتل من أن القتل أشنع لأن التكذيب مبدأ القتل. قوله: (كعيسى) أي كذبوه ولم يتمكنوا من قتله بل رفعه الله إلى السماء. قوله: (المضارع لحكاية الحال الماضية) أي فنزل وقوعه منهم فيما مضى منزلة وقوعه الآن استعظاماً له. قوله: (كزكريا) أي حيث نشروه حين هرب منهم وأوى إلى شجرة أثل فانفتحت له ودخلها. قوله: (ويحيى) أي قتلوه من أجل امرأة فاجرة، أراد محرمها التزوج بها فمعنه من ذلك. قوله: ﴿ وَقَالُواْ ﴾ أي الموجودون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (أي مغشاة بأغطية) أي حسية. قوله: ﴿ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴾ المراد بالقلة الإستبعاد أي فايمانهم مستبعد لطرد الله إياهم عن رحمته وسبق شقاوتهم، ويحتمل أن تبقى القلة على بابها، أي فمن آمن منهم قليل كعبد الله بن سلام وأضرابه، ويحتمل أن القلة باعتبار الزمن أي أن الزمن الذي يؤمنون فيه قليل جداً، قال تعالى:﴿ وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ آمِنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكْفُرُوۤاْ آخِرَهُ ﴾[آل عمران: ٧٢].
قوله: ﴿ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ ﴾ هذه الجملة من تعلقات الجملة التي قبلها، وكل منهما حكاية عن اليهود الذين كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم، وقوله من عند الله صفة أولى لكتاب، وقوله مصدق صفة ثانية له وجملة وكانوا من قبل حال من الضمير في جاءهم. قوله: ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ مبني على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه. قوله: (يستنصرون) السين والتاء للطلب. قوله: (وهو بعثة النبي) في الحقيقة بعثة النبي والكتاب. قوله: (دل عليه جواب الثانية) أي والأصل ولما جاءكم كتاب من عند الله مصدق لما معهم كفروا بذلك الكتاب وكانوا يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا وهو النبي الكريم كفروا به، فبين الجملتين تغاير لفظاً وإن كان بينهما تلازم معنى.
قوله: ﴿ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ ﴾ الخ، بئس فعل ماض لإنشاء الذم وفاعلها مستتر فيه وجوباً تقديره هو يعود على الشيء، يفسره قوله ما اشتروا فيما تمييز لذلك الفاعل وما بعدها صفة لها، وإن كفروا في تأويل مصدر المخصوص بالذم وهو يعرب مبتدأ والجملة التي قبله خبر عنه أو خبر لمبتدأ محذوف، قال ابن مالك: ويعرب المخصوص بعد مبتدأ   أو خبر اسم ليس يبدو أبداًقوله: (من القرآن) بيان لما. قوله: (مفعول له ليكفروا) أي مفعول لأجله والعامل فيه يكفروا. قوله: على أن ﴿ يُنَزِّلُ ٱللَّهُ ﴾ المعنى كفرهم بما أنزل الله حسداً على إنزال الله من فضله، وذلك بمعنى قوله تعالى:﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾[النساء: ٥٤].
قوله: (الوحي) قدره إشارة إلى أن مفعول ينزل محذوف. قوله: ﴿ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ﴾ مفعول يشاء محذوف التقدير يشاؤه. قوله: (بكفرهم) الباء يصح أن تكون للتعدية وللسببية والتنكير للتعظيم. أي في قوله غضب على حد شراً هر ذا ناب. قوله: (والكفر بعيسى) أي ثم الكفر بمحمد وما جاء به، فقد آمنوا بموسى ثم كفروا به وضيعوا التوراة، فلما جاءهم عيسى آمنوا به ثم كفروا به، فلما جاءهم محمد كفروا به، وازدادوا كفراً. قوله: ﴿ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ أصله مهون نقلت كسرة الواو إلى الهاء فوقعت الواو ساكنة بعد كسرة قلبت ياء. قوله: (ذو إهانة) أي هوان ولا يوصف بذلك إلا عذاب الكفارين. وأما ما يقع للعصاة في الدنيا من المصائب وفي الآخرة من دخول النار فهو تطهير لهم. قوله: ﴿ بِمَا وَرَآءَهُ ﴾ يطلق بمعنى سوى وبمعنى بعد وبمعنى أمام اقتصر المفسر على الأولين. قوله: (من القرآن) أي والأنجيل. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلْحَقُّ ﴾ حال من ما. قوله: (مؤكدة) أي لمضمون الجملة قبلها على حد زيد أبوك عطوفاً وقوله: (ثانية) أي في التأكيد وإلا فهي ثالثة. قوله: ﴿ فَلِمَ تَقْتُلُونَ ﴾ ما اسم استفهام حذفت ألفها لجرها باللام، والفاء واقعة في جواب شرط مقدر تقديره إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بالتوراة فلأي شيء تقتلون أنبياء الله. قوله: (أي قتلتم) أشار بذلك إلى أن المضارع بمعنى الماضي، وإنما عبر بالمضارع لحكاية الحال الماضية. قوله: ﴿ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ جواب إن محذوف دل عليه المذكور، فقد حذف من الجملة الأولى أداة الشرط وفعلها ومن الثانية الجواب فهو احتباك، وقيل إن نافية بمعنى ما نتيجة الشرط المقدر. قوله: (بما فعل آباؤهم) الحاصل أنه أقيمت الحجة عليهم مرتين، الأولى دعواكم الإيمان بالتوراة، كذب لكفرهم بالقرآن، فإن الكافر بأي كتاب كافر بالجميع، وعلى تسليم هذه الدعوى فهي كذاب من جهة أخرى وهي قتل الأنبياء، فلو كنتم مؤمنين بالتوراة لانتهيتم عما نهاكم الله عنه، فإنه نهاكم فيها عن قتل الأنبياء. قوله: (لرضاهم به) جواب عما يقال إن ذلك فيمن قتل الأنبياء، وأما هؤلاء فلم يقع منهم ذلك، فأجاب بأن الرضا بالكفر كفر، وقد يقال إنهم مصرون على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تسببوا في ذلك مراراً.
قوله: ﴿ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَىٰ ﴾ هذا أيضاً من جملة قبائح بني إسرائيل. قوله: (كالعصا) دخل تحت الكاف باقي التسع وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين والطمس. قوله: (إلهاً) قدره إشارة إلى مفعول اتخذتم. قوله: ﴿ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ أي كافرون. قوله: (ليسقط عليكم) علة لقوله رفعنا أي رفعناه لأجل السقوط عليكم إن لم تتمثلوا. قوله: ﴿ وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ ﴾ الجملة حالية على حذف مضافين أي حب عبادة العجل. وفي الكلام استعارة بالكناية وتقريرها أن تقول شبه حب عبادة العجل بمشروب لذيذ سائغ بجامع الإمتزاج في كل وطوى ذكر المشبه به ورمزا له بشيء من لوازمه وهو الإشراب فاثباته تخييل ولم يعبر بالأكل لأنه ليس فيه شدة مخالطة. قوله: (كما يخالط الشراب) أي خلال القلوب والأبدان فمفعول يخالط محذوف. قوله: (شيئاً) أشار بذلك إلى ما نكرة بمعنى شيء مفسرة لفاعل بئس، وقوله: ﴿ يَأْمُرُكُمْ ﴾ صفة لما و ﴿ إِيمَانُكُمْ ﴾ فاعل يأمر، وقوله: (عبادة العجل) هو المخصوص بالذم قدره المفسر وهذا من جملة التشنيع عليهم، أي أنتم ادعيتم الإيمان بالتوراة ثم رأيناكم قد عبدتم العجل، فإن كان إيمانكم بها أمركم وحملكم على عبادته فبئس إيمانكم وما يأمركم به فإنه كفر لا إيمان، وقوله بالتوراة إن قلت إن عبادة العجل متقدمة على التوراة، أجيب بأن موسى كان يأمرهم بالتوحيد وهو موافق لما في التوراة. قوله: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ يحتمل أن شرطية وكنتم فعل الشرط وجوابه دل عليه قوله: (بئسما يأمركم به إيمانكم) ويحتمل أنها نافية نتيجة قوله: (بئتما يأمركم به إيمانكم) وكلام المفسر يحتملها. قوله: (المعنى إلخ) إشارة إلى قياس حملي من الشكل الأول، وتقريره أن تقول اعتقادكم يأمركم بعبادة العجل، وكل اعتقاد يأمر بعبادة العجل فهو كفر ينتج اعتقادكم كفر. قوله: (أي فكذلك أنتم إلخ) أشار بذلك إلى قياس آخر تقريره أن تقول اعتقادكم يأمركم بتكذيب محمد، وكل اعتقاد يأمر بذلك فهو كفر ينتج اعتقادكم كفر. قوله: ﴿ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ ﴾ إلخ في هذه الآية أعاريب منها أن الدار اسم كانت ولكم جار ومجرور خبرها وعند الله ظرف وخالصة حال، ومنها أن الخبر قوله خالصة وعند الله ظرف على كل حال، ومنها أن الخبر هو الظرف وخالصة حال. قوله: (تعلق بتمنيه الشرطان) في العبارة قلب والأصل تعلق تمنيه بالشرطين لأن تمنوا هو الجواب وهو متعلق بالشرطين. قوله: (قيد في الثاني) حاصلة أنه إذا اجتمع شرطان وتوسط بينهما جواب كان الأول قيداً في الثاني بمعنى أنه من تمام معناه ويكون الجواب لذلك الثاني، فتقدير الآية إن كنتم صادقين في زعمكم أن الدار الآخرة لكم خاصة فتمنوا الموت، وقيل إن الجواب للأول وجواب الثاني محذوف دل عليه جواب الأول. قوله: (أي إن صدقتم) إشارة إلى الشرط الثاني، وقوله إنها لكم إشارة للأول. قوله: (يؤثرها) أي يقدمها ويختارها.
قوله: ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ ﴾ الباء سببية وما يحتمل أنها اسم موصول وقدمت صلته والعائد محذوف أي قدمته، ويحتمل أنها نكرة موصوفة والعائد محذوف على كل حال، والحكمة في الإتيان هنا بلن وفي الجمعة بلا، أن ادعاءهم هنا أعظم من ادعائهم هناك، فانهم ادعوا هنا اختصاصهم بالجنة وهناك كونهم أولياء الله من دون الناس، فلا تفيد اختصاصهم بالجنة، فناسب هنا التوكيد بلن وهناك بلا. قوله: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ ﴾ عطف على قوله ولن يتمنوه من عطف اللازم على الملزوم. قوله: ﴿ أَحْرَصَ ﴾ مفعول ثان لتجدنهم حيث كانت بمعنى علم، وأما إن كانت بمعنى أصاب أو صادف نصبت مفعولاً واحداً فيكون أحرص حالاً. قوله: (وَأَحْرَصَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) من عطف الخاص على العام زيادة في التقبيح عليهم ودفعاً لتوهم أن المشركين أحرص منهم. قوله: (لو مصدرية) أي ولا تنصب الفعل فهي سابكة فقط. قوله: ﴿ وَمَا هُوَ ﴾ يحتمل أن ما حجازية وهو اسمها وبمزحزحه خبرها، وإن يعمر فاعل مزحزحه وإن ما تميمة وهو مبتدأ وبمزحزحه خبره وإن يعمر فاعله على كل حال. قوله: (أي أحدهم الخ) وقيل إن هو ضمير شأن ورد بأن ضمير الشأن يفسر بجملة وهنا ليس كذلك قوله: (بالياء والتاء) ظاهره أنهما سبعيتان وليس كذلك بل التاء عشرية، واختلف فيما زاد على السبعة هل يلحق بها فتجوز القراءة والصلاة بها أم بالشواذ فيمتنعان والمعتمد الأول. قوله: (وسأل ابن صوريا إلخ) أشار بذلك إلى سبب نزول الآية، وابن صوريا اسمه عبدالله وكان من أحبار اليهود. قوله: (أو عمر) أشار بذلك إلى تنويع الخلاف، فإن عمر كان له أرض بالعوالي وكان يمر على مدارسهم ليختبر صفات محمد من كتبهم، فقالوا يا عمر لقد أحببناك فقال والله ما أحبكم وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد، فسأله أبن صوريا عمن يأتي بالوحي لمحمد فقال هو جبريل، فقال: هو عدونا إلخ، فأخبر النبي بذلك فنزلت الآية. قوله: (فقال) أي المسؤول وهو النبي أو عمر. قوله: (يأتي بالعذاب) أي كالصواعق والخسف والمسخ. قوله: (بالخصب) بكسر الخاء أي الرخاء. قوله: (والسلم) أي الصلح. قوله: (فليمت غيظاً) جواب لاسم الشرط الذي هو من وهو مبتدأ خبره قيل فعل الشرط وقيل جوابه وقيل هما.
وأما قوله تعالى: ﴿ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ ﴾ فلا يصح أن يكون جواباً للشرط لمانعين الأول عدم الرابط والثاني عدم تسبب الجواب عن الشرط، وقوله لجبريل الصحيح أنه اسم أعجمي علم على رئيس الملائكة فلا اشتقاق فيه ولا تصرف، وقيل مشتق من الحبروت وهو عالم الأسرار، وقيل مركب إضافي وقيل مزجي والصحيح الأول، وورد عن ابن عباس أن جبر معناه عبد وإيل معناه الله، وميكا معنها عبد إيل معناه الله. قوله: ﴿ فَإِنَّهُ ﴾ أي جبريل. قله: (أي القرآن) وقيل الوحي أعم من يكون قرآنا أو غيره. قوله: (على قلبك) عبر بعلى إشارة لتمكنه وانصبابه ورسوخه، فإن الشيء إذا صب من أعلى لأسفل رسخ وثبت. قوله: ﴿ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ أشار بذلك إلى أن المراد بالإذن الأمر لا العلم. قوله: ﴿ مُصَدِّقاً ﴾ حال من الضمير فينزله وكذلك قوله: ﴿ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ ﴾.
قوله: (بالجنة) أي وما فيها من النعيم ورؤية وجه الله الكريم قوله: ﴿ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي ونذير للكافرين بالنار، وهذا رد أول لكلام ابن صوريا، حاصله أن جبريل لا اختيار له في إنزال العذاب ولا في إنزال القرآن. قوله: ﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ ﴾ قدم لأنه المنشئ للأشياء جميعها، وثنى بالملائكة لأنهم المرسلون من حضرته، وثلث بالرسل لنزول الملائكة عليهم. قوله: ﴿ وَجِبْرِيلَ ﴾ خص وهو وميكائيل زيادة في التشنيع عليهم ولأن حياة الأرواح والأشباح بواسطتهما وتنبيهاً على أن عداوتهما خسران وضلال. قوله: (بكسر الجيم) أي على وزن قنديل. قوله: (وفتحها) أي على وزن شمويل. قوله: (وبن بياء ودونها) هذا في المفتوح وهو على وزن سلسبيل وجحمرش، فجملة القراءات السبعية أربعة وهي من جملة لغات أنهاها بعضهم لثلاث عشرة، خامسها فتح الجيم مع الهمزة واللام مشددة على أنها اسم من اسماء الله، وفي بعض التفاسير لا يرقبون في مؤمن إلا أي الله، سادسها فتح الجيم والف بعد الراء وهمزة مكسورة بعدها، سابعها مثلها إلا أنها بياء بعد الهمزة، ثمانها فتح الجيم وياءان بعد الألف من غير همزة، تاسعها فتح الجيم وألف بعد الراء ولام، عاشرها فتح الجيم وياء بعد الراء مكسورة، حادي عشرها فتح الجيم وياء بعد الراء ونون، ثاني عشرها كذلك إلا أنها بكسر الجيم، ثالث عشرها فتح الجيم والف بعد الراء وهمزة وياء ونون وأكثرها قرئ به شاذاً. قوله: (من عطف الخاص على العام) والنكتة شرفما وعظمهما وكون النزاع فيهما، قوله: (وفي أخرى بلا ياء فتكون القراءات السبعية ثلاثاً بالهمزة والياء معاً وبإسقاط الياء فقط وبإسقاطهما وهي من جملة لغاته السبع، رابعها مثل بيكعيل، خامسها كذلك إلا أنه لا ياء بعد الهمزة مثل بيكعل، سادسها بياءين بعد الألف سابعها بهمزة مفتوحة بعد الألف وقرئ بالجميع شاذاً. قوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴾ هذا جواب الشرط، والرابط موجود وهو الإسم الظاهر لقيامه مقام الضمير وقيل الرابط العموم. قوله: (بياناً لحالهم) أي ولزيادة التقبيح عليهم، والمراد بعداوتهم لله خروجهم عن طاعته وعدم امتثالهم أمره. قوله: (حال) المناسب أن يقول صفة لأن الحال لا يكون من النكرة إلا إذا وجد لها مسوغ.
قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلْفَاسِقُونَ ﴾ أي الكافرون. قوله: ﴿ أَ ﴾ (كفروا بها) أشار بذلك إلى أن الهمزة داخلة على محذوف والواو عاطفة على ذلك المحذوف وهو أحد احتمالين تقدماً. قوله: ﴿ عَاهَدُواْ ﴾ (الله) قدر المفسر لفظ الجلالة إشارة إلى أن عاهدوا بمعنى أعطوا، فالله مفعول أول وعهداً مفعول ثان. قوله: (على الإيمان بالنبي) أي فالعهد مأخوذ عليهم قديماً في كتبهم وعلى أنبيائهم. قوله: (أو النبي) إشار إلى تفسير ثان فقد كانوا يأتون النبي ويقولون له إن كنت نبياً فائت لنا بكذا، فيقيم عليهم الحجة فيعاهدونه أن لا يعاونوا عليه المشركين ثم ينقضونه. قوله: (بنقضه) الباء سببية. قوله: ﴿ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ دفع بذلك ما يتوهم من قوله فريق أن الفريق يصدق بالقليل والكثير، فيتوهم أن المراد القليل فدفع ذلك بقوله بل أكثرهم إلخ، وهو إما من عطف الجمل أو المفردات، فعلى الأول جملة أكثرهم لا يؤمنون معطوفة على جملة نبذه فريق منهم، وعلى الثاني أكثرهم معطوف على طريق الإشارة إلى أن النابذ للعهد أكثرهم، وقوله لا يؤمنون إخبار عنهم بعدم الإيمان لرسوخ الشرك في قلوبهم. قوله: ﴿ وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ ﴾ هذا من جملة التشنيع على بني إسرائيل. قوله: ﴿ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ أي التوراة والمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بإثبات التوراة وأنها من عند الله، فكان مقتضى ذلك اتباعه والعمل بشريعته، ولكن الله طمس على قلوبهم وسمعهم وابصارهم. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ﴾ صفة لفريق وأوتوا ينصب مفعولين نائب الفاعل الذي هو الواو مفعول أول والكتاب مفعول ثاني، وقوله: ﴿ كِتَٰبَ ٱللَّهِ ﴾ مفعول لنبذ وهو بمعنى طرح. قوله: (أي لم يعملوا بما فيها) أشار بذلك إلى أن قوله وراء ظهورهم ليس على حقيقته بل هو كناية عن عدم العمل بما في التوراة، وإلا فهم يعظمونها إلى الآن. قوله: (من أنه نبي حقاً) إشارة إلى مفعول يعلمون، والمعنى أنهم أنكروا صفة رسول الله وبدلوها ولم يذعنوا للأحكام التي في التوراة كأنهم جاهلون بها مع أنهم عالمون بها. قوله: (عطف على نبذ) استشكل بأن المعطوف على الجواب جواب.
وقوله: ﴿ ٱتَّبَعُواْ ﴾ لا يصلح أن يكون جواباً لعدم ترتبه على الشرط لأنه سابق على بعثة رسول الله، فالأحسن عطفه على جملة ولما جاءهم رسول بيان لسوء حالهم. قوله: (أي تلت) أشار بذلك إلى أن المضارع بمعنى الماضي، لأن السماء محفوظة من استراقهم السمع من بعثة رسول الله وتلت بمعنى قرأت أو كذبت. قوله: (على عهد) على بمعنى في وعهد بمعنى زمن التقدير، واتبعوا ما تلت الشياطين في زمن ملك سليمان، ويحتمل أن تتلو بمعنى تتقول وعلى على بابها ومتعلقها محذوف تقديره على الله، فيصير المعنى واتبعوا ما تتقوله الشياطين على الله زمن ملك سليمان، وقوله: (من السحر) بيان لما وعائد الموصول محذوف تقديره تتلوه. قوله: (أو كانت تسترق السمع) أو لتنويع الخلاف لأنه اختلف في الذي اتبعته اليهود، فقيل هو السحر الذي وضعته الشياطين تحت كرسيه لما نزع ملكه، وسبب ذلك أن امرأة من نساء ليمان سجدت لصنم أربعين يوماً فعاتبه الله بنزع ملكه تلك المدة، وسبب عزله أنه كان خاتمه الذي نزل به آدم من الجنة يضعه إذا دخل الخلاء عند امرأة من نسائه تسمى الأمينة، وكان كل من لبسه يملك الدنيا بما فيها، فوضعه عندها مرة فجاءها شيطان يسمى صخر المارد، وتشكل بشكل سليمان وطلب الخاتم فأعطته له، ثم أتى الكرسي وجلس عليه أربعين يوماً فجمعت الشياطين كتب السحر ودفنتها تحت كرسيه، ثم لما انقضت المدة وجاء الأمر بتولية سليمان ثانياً طار الشيطان فوقع الخاتم في البحر فحملته دابة من دواب الماء وأتته به، فأمر سليمان الشياطين أن يأتوا بصخر المارد فأتوه به، فأمرهم أن يفتحوا صخرة ففعلوا ثم أمرهم أن يضعوه فيها ويسدوا عليه بالرصاص والنحاس ويرموه في قعر البحر الملح ففعلوا فلما مات سليمان دلت الشياطين على تلك الكتب المدفونة الناس، وقيل إنه ما استرقته الشياطين من السماء، فكان الشيطان يسمع الكلمة الصدق ويضع عليها تسعة وتسعين كذبة ويلقيها إلى الكهنة، إلى آخر ما قال المفسر. قوله: (دلت الشياطين) المراد الجنس لأن الذي دل شيطان منهم. قوله: (لأنه كفر) أي في شرعه وأما في شرعنا ففيه تفصيل، فإن اعتقد صحته وأنه يؤثر بنفسه فهو كفر، وأما إن تعلمه ليسحر به الناس فهو حرام، وإن كان لا لشيء فمكروه، وإن كان ليبطل به السحر فجائز، وعرفه ابن العربي بأن كلام مؤلف يعظم به غير الله وتنسب له المقادير، فعليه هو كفر حتى في شرعنا، وعبارة الغزالي تفيد ما قاله ابن العربي. قوله: ﴿ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ﴾ إما بدل من كفروا بدل فعل من فعل على حد إن تصل تسجد لله يرحكم، أو خبر بعد خبر أو جملة مستأنفة أو حال من الشياطين أو حال من الواو في كفروا، فهذه خمس احتمالات اختار المفسر آخرها. قوله: (ويعلمونهم) ﴿ مَآ أُنْزِلَ ﴾ أشار بذلك إلى أن ما اسم موصول معطوف على السحر من عطف الخاص على العام، والنكتة قوة ما أنزل على الملكين وصعوبته ويحتمل أنه مغاير، وأن ما أنزل على الملكين وإن كان سحراً إلا أنه نوع آخر منه غير متعارف بين الناس. قوله: (وقرئ) أي قراءة شاذة وفيها دليل لمن يقول إنهما ليسا ملكين حقيقيين وإنما هما رجلان صالحان، وسيما بذلك لحسنهما وصلاحهما على حد ما قيل في يوسف (ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم). قول: (الكائنين) قدرة إشارة إلى أن ببابل جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة للملكين. قوله: ﴿ بِبَابِلَ ﴾ ممنوع من الصرف للعلمية، أو العجمية مأخوذ من البلبلة لأن أهلها يتكلمون بثمانين لغة، وأول من اختطفها نوح وسماها ثمانين. قول: ﴿ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ ﴾ هما ممنوعان من الصرف للعلمية والعجمة، ويجمعان على هواريت ومواريت، أو على هوارية وموارية مأخوذان من الهرت والمرت وهو الكسر، ولكن حيث قلنا إنهما أعجميان فلا يتصرف فيهما أحد ولا يعلم لهما اشتقاق. قوله: (هما ساحران) قدم هذا القول إشار لقوته وأنهما رجلان ساحران وليسا بملكين. قوله: (ابتلاء من الله) أي اختباراً وامتحاناً، وقصة هاروت وماروت على القول بثبوتها، أن الملائكة لما رأوا أعمال بني آدم الخبيثة تصعد إلى السماء قالوا سبحانك يا ربنا خلقت خلقاً وأكرمتهم وهم يعصونك، فقال الله تعالى لهم لو ركبت فيكم ما ركبت فيهم لفعلتم فعلهم، فقالوا سبحانك لا نعصيك أبداً، فقال: اختاروا لكم ملكين فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلحهم، فركب الله فيهما الشهوة وأمرهما بالهبوط إلى الأرض والحكم بين الناس بالحق، ونهاهما عن الشرك والقتل والزنا وشرب الخمر، وعلمهما الله الإسم الأعظم، فكان إذا أمسى الوقت صعدا به إلى السماء، ثم إنه جاءت إليهما امرأة تسمى الزهرة وكانت جميلة جداً، فلما وقع نظرهما عليها أخذت بقلوبهما فراوداها فأبت إلا أن يقتلا ففعلا، ثم راوداها فأبت إلا أن يشربا الخمر ففعلا، ثم راوداها فأبت إلا أن يسجدا للصنم ففعلا، ثم راوداها فأبت إلا أن يعلماها الاسم الذي يصعدان به إلى السماء ففعلا، فتلته فصعدت به إلى السماء فمسخها الله كوكباً فهي الزهرة المعروفة، فلما علما ذلك أرادا تلاوة الاسم الأعظم فلم تطاوعهما أجنحتهما، فذهبا إلى إدريس وسألاه أن يشفع لهما عند الله ففعل ذلك، فخيرهما الله بين عذاب الدنيا والآخرة. فاختارا عذاب الدنيا لعلمهما بانقطاعه، فهما ببابل معلقان بشعورهما يضربان بسياط من حديد إلى يوم القيامة، مزرقة أعينهما مسودة جلودهما، وما زالا يعلمان الناس السحر، وقد اختلف في صحة هذه القصة وعدمها، فاختار الحافظ ابن حجر الأول لورودها من عدة طرق عن الإمام أحمد بن حنبل، واختار البيضاوي ومن تبعه الثاني لأنه لم تثبت روايتها إلا عن اليهود. قوله: (فمن تعلمه كفر) أي إن اعتقد صحته وتأثيره. قوله: ﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ﴾ معطوف على وما يعلمان من أحد إن قلت إن الأول منفي والثاني مثبت وكيف يصح عطف المثبت على المنفي، أجيب بأنه في المعنى مثبت التقدير ويعلمون الناس السحر قائلين لهم إنما نحن فتنة فلا تكفر. قوله: ﴿ وَمَا هُم ﴾ إلخ يحتمل أن ما حجازية وهم اسمها وبضارين خبرها والباء زائدة في خبرها، ويحتمل أنها تميمية وما بعدها مبتدأ وخبر والباء زائدة في خبر المبتدأ. قوله: (أي اليهود) أي جميعهم لأنهم علموا ذلك في التوارة. قوله: (ومن موصلة) أي وهي مبتدأ واشتراه صلتها وجملة ما له في الآخرة إلخ خبرها والجملة منها ومن خبرها سادة مسد مفعولي علم. قوله: (باعوا) أشار بذلك إلى أنه يطلق الشراء على البيع. قال تعالى:﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ﴾[يوسف: ٢٠].
قوله: (أن تعلموه) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر هو المخصوص بالذم وقوله حيث أوجب لهم النار حيث تعليلية. قوله: ﴿ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ لا منافاة بينه وبين قوله ولقد علموا إلخ لأنهم علموا أنهم ليس لهم نصيب في الآخرة، ولكن لم يعلموا أنهم لا يفلتون من العذاب الدائم. قوله: ﴿ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾ صفة لمثوبة وأصلها مثوبة بوزن مفعلة نقلت ضمة الواو إلى الثاء. قوله: (لما آثروه عليه) أي لما قدموا السحر على ما عند الله، وهو إشارة إلى جواب لو. قوله: ﴿ رَاعِنَا ﴾ أي اشملنا بنظرك ليفتح الله علينا، لأنهم كانوا يقولونها عند سماعهم الوحي منه. قوله: (أمر من المراعاة) أي وهي المبالغة في الرعي وحفظ الغير. قوله: (سب من الرعونة) أي الحمق والجهل وقلة العقل أو معناها اسمع لا سمعت وعليه فهي عبرانية أو سريانية وعلى ما قاله المفسر فهي عربية، روي أن سعد بن معاذ رضي الله عنه سمع اليهود يقولونها لرسول الله، فقال يا أعداء الله عليكم لعنة الله لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربن عنقه، قالوا أو لستم تقولونها، فنزلت الآية ونهى فيها المؤمنون عن ذلك قطعاً لألسنة اليهود عن التدليس وأمروا بما في معناها ولا يقبل التدليس الذي هو انظرنا. قوله: (أي انظر الينا) أشار بذلك إلى أنه من باب الحذف والإيصال، حذف الجار فاتصل الضمير. قوله: (سماع قبول) أي بحضور قلب عند تلقي الأحكام، فإنه إذا وجدت القابلية من الطالب مع نظر المعلم حصل الفتح العظيم.
قوله: ﴿ مَّا يَوَدُّ ﴾ من المودة وهي المحبة أي ما يجب، وقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ فاعد يود و ﴿ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾ إلخ بيان للذين كفروا. قوله: ﴿ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ معطوف على أهل الكتاب ولا زائدة لتوكيد النفي. قوله ﴿ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾ في تأويل مصدر مفعول يود ومن زائدة وخير نائب فاعل ينزل، والتقدير ما يحب الذين كفروا وهم أهل الكتاب والمشركون إنزال خير من ربكم عليكم. قوله: (حسداً لكم) تعليل للنفي وحسد اليهود بسبب زعمهم أن النبوة لا تليق إلا بهم لكونهم أبناء الأنبياء، وحسد مشركي العرب بسبب ما عندهم من الرياسة والفخر فقالوا لا تليق النوبة إلا بنا. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ ﴾ يستعمل متعدياً ولازماً فعلى الأولى فاعله ضمير مستتر فيه الموصول بصلته في محل نصب على المفعولية والمعنى والله يخص إلخ، وعلى الثاني الفاعل هو الموصول بصلته والمعنى والله يميز برحمته من يشاؤه. قوله: ﴿ ٱلْعَظِيمِ ﴾ أي الواسع. قوله: (ولما طعن الكفار إلخ) أشار بذلك إلى سبب نزول الآية، والمقصود من ذلك بيان حكمة النسخ والرد على الكفار حيث قالوا إن القرآن افتراء من محمد فلو كان من عند الله لما بدل فيه وغير. ورد عليهم أيضاً بقوله تعالى:﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ﴾[النحل: ١٠١] الآية وقوله تعالى:﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِيۤ ﴾[يونس: ١٥] قوله: (شرطية) أي وهي نكرة بمعنى شيء معمولة لننسخ وقوله من آية بيان لما.
قوله: ﴿ نَنسَخْ ﴾ من النسخ وهو لغة الإزالة والنقل، يقال نسخت الشمس الظل أزالته، ونسخت الكتاب نقلت ما فيه، واصطلاحاً بيان انتهاء حكم التعبد إما باللفظ أو الحكم أو بهما، فنسخ اللفظ والحكم كعشر رضعات معلومات يحرمن. ونسخ اللفظ دون الحكم: الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما البتة. ونسخ الحكم دون اللفظ كقوله تعالى:﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ ﴾[البقرة: ١٨٠] الآية نخست بآية المواريث وبقوله صلى الله عليه وسلم" لا وصية لوارث "وقوله تعالى:﴿ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ ﴾[البقرة: ٢٤٠] الآية، فنسخت بقوله تعالى:﴿ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ﴾[البقرة: ٢٣٤] إلى غير ذلك. قوله: (إما مع لفظها) أي كعشر رضعات الخ. قوله: (أو لا) أي بأن نزيل حكمها فقط، قوله: (أو جبريل) في الحقيقة بينهما تلازم. قوله: (فلا نزل حكمها) أي لا ننسخه بل نبقيه وقوله: (ونرفع تلاوتها) أي ننسخه، فعلى هذا التفسير دخل تحت قوله ما ننسخ من آية حكمان من أحكام النسخ، وهما نسخ الحكم واللفظ أو الحكم فقط وتحت قوله أو ننسأها الحكم الثالث وهو نسخ اللفظ دون الحكم. قوله: (أو نؤخرها في اللوح المحفوظ) أي لا نطلعكم عليها ولا نعلمكم بها، وعلى هذا التفسير فقد دخل تحت قوله ما ننسخ الأحكام الثلاثة. قوله: (في قراءة بلا همز) المناسب أن يقول وفي قراءة بضم النون من غير همز. قوله: (من النسيان) الأولى أن يقول من الإنساء لأنه مصدر الرباعي. قوله: (أي نمحها من قلبك) أي وقلب أمتك بأن يبقى الحكم دون اللفظ أو يمحيان. قوله: (في السهولة) أي كقوله تعالى:﴿ ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ ﴾[الأنفال: ٦٦] الآية. قوله: (أو كثرة الأجر) أي كقوله تعالى:﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾[البقرة: ١٨٥] بعد قوله: (وعلى الذين يطيقونه فدية) فليس ثواب من خير بين الأمرين كثواب من تحتم عليه الصوم. قوله: ﴿ أَوْ مِثْلِهَا ﴾ أي كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة، فإنه لا مشقة في كل، وليس احدهما أكثر ثواباً من الآخر. قوله: (والإستفهام للتقرير) أي أقر واعترف بكون الله قديراً على كل شيء. قوله: ﴿ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ ما حجازية ولكم خبرها مقدم، ومن دون الله حال من ولي ومن زائدة وولي اسمها مؤخر، ولا نصير معطوف على ولي ولا زائدة لتأكيد النفي، ويحتمل أنها تميمية، وما بعد مبتدأ وخبر ويحتمل أن من في قوله من دون الله زائدة أو أصلية متعلق بما تعلق به الخبر. قوله: ﴿ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ الفرق بين الولي والنصير أن الولي قد يضعف عن النصرة، والنصير قد يكون أجنبياً من المنصور، فبينهما عموم وخصوص من وجه. قوله: (أن يوسعها) أي بإزالة الجبلين المحيطين بها. قوله: (ويجعل الصفة ذهبا) أي وغير ذلك مما ذكره الله في سورة الإسراء: في قوله تعالى:﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً ﴾[الإسراء: ٩٠] الآية، هكذا ذكر المفسر، واستشكل ذلك بأن هذه السورة مدنية، والسؤال من أهل مكة كان قبل المهاجرة، فالحق أن يقال إن سبب نزولها سؤال يهود المدينة إنزال كتاب الله من السماء، بدليل أن السورة مدينة وأن السياق في خطاب اليهود، ووجود أم التي بمعنى التي للإضراب الإنتقالي، المفيد أن له تعلقاً بما قبله. قوله: ﴿ رَسُولَكُمْ ﴾ أي محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه رسول الخلق أجمعين. قوله: ﴿ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ ﴾ بني الفعل للمجهول للعلم بالفاعل. قوله: (وغير ذلك) أي من قولهم (ادع لن ربكم يخرج لنا مما تنب الأرض) ومن قولهم: (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) ونحو ذلك قوله: ﴿ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ ﴾ استئناف لبيان حال من تعنت على نبيه. قوله: ﴿ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ﴾ من إضاف الصفة للموصوف أي السبيل السواء بمعنى المستوي. قوله: (أخطأ طريق الحق) أي فقد شبه الدين الحق بالطريق المستوي بجامع أن كلا يوصل للمقصود.
قوله: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ ﴾ سبب نزولها أن عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان لما رجعا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد، اجتمعا برهط من اليهود فقالوا لهما ألم نقل لكما إن دين اليهود هو الحق وغيره باطل، فلو كان ما عليه محمد حقاً ما قتلت أصحابه مع دعواه أنه يقاتل والله معه، فقال عمار بن ياسر ما حكم نقض العهد عندكم، فقالوا فظيع جداً، فقال إني عاهدت محمداً على اتباعه إلى أن أموت فلا أنقضه أبداً، فقالوا قد صبأ، فقال حذيفة رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، والكعبة قبلة، والقرآن إماماً، والمؤمنين إخواناً فلما رجعا أخبرا رسول الله بذلك فقال أصبتما الخير وأفلحتما فنزلت قوله: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ ﴾ من المودة وهي المحبة. وقوله: ﴿ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾ أي وهم اليهود. قوله: ﴿ لَوْ ﴾ (مصدرية) فتسبك مع ما بعدها بمصدر مفعول ود، التقدير ود كثير ردكم إلخ، ورد تنصب مفعولين لأنها بمعنى صير مفعولها الأول الكاف والثاني كفاراً ويصح أن تكون لو شرطية وجوابها محذوف تقديره فيسرون ويفرحون بذلك. قوله: (كائناً) أشار بذلك إلى أن قوله من عند أنفسهم متعلق بمحذوف صفة لحسداً ومن ابتدائية. قوله: ﴿ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ﴾ متعلق بود وما مصدرية أي من بعد تبين الحق لهم، وهذا أبلغ قبيح منهم لأنهم عرفوا الحق فلم يهتدوا، ومع ذلك وقعت المراودة لغيرهم على الضلال فقد ضلوا وأضلواز قوله: ﴿ فَٱعْفُواْ ﴾ أي لا تؤاخذهم بهذه المقالة، وقوله: ﴿ وَٱصْفَحُواْ ﴾ أي لا تلوموهم فبينهما مغايرة وقيل متحدان، وعليه مشى المفسر ومعناهما عدم المؤاخذة، ولم يؤمر النبي وأصحابه بقتالهم مع أنهم ناقضون للعهد بتلك المقالة لأن الواقعة كانت بعد غزوة أحد فكان الأذن في القتال حاصلاً، فالجواب أن القتال المأذون فيه كان للمشركين، وأما أهل الكتاب فلم يؤمروا بقتالهم إلا في غزوة أحد فكان الإذن في القتال حاصلاً، فالجواب أن القتال المؤذون فيه كان للمشركين، وأما أهل الكتاب فلم يؤمروا بقتالهم إلا في غزوة الأحزاب، قيل قبلها وقيل بعدها، فقتل قريظة وأجلى بني النضير وغزا خيبر. قوله: (من القتال) أي الخاص بهم. قوله: ﴿ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ العندية معنوية على حد لي عند زيد يد أي مصون ومحفوظ مدخر. قوله: (قال ذلك يهود المدينة الخ) لف ونشر مرتب. قوله: (لما تناظروا) لما حينية ظرف لقالوا قوله: (لن يدخلها إلا اليهود) سميت اليهود بذلك لأنهم هادوا بمعنى رجعوا عن عبادة العجل، وسميت النصارى بذلك لأنهم نصروا عيسى وهو جمع نصران أو نصرى. قوله: ﴿ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ﴾ مبتدأ وخبر وجمع الخبر مع كون المبتدأ مفرداً لأنه جمع في المعنى لأن عائد على القول وهي بمعنى المقالات. قوله: ﴿ هَاتُواْ ﴾ قيل هو اسم أمر وقيل فعل أمر وقيل اسم صوت، والحق الوسط للحوق العلامة لها والمعنى أحضروا. قوله: ﴿ بُرْهَانَكُمْ ﴾ قيل مأخوذ من البرهة أي القطعة لأن به قطع حجة الخصم وقيل من البرهن أي البيان، فعلى الأول ممنوع من الصرف وعلى الثاني مصروف.
قوله: ﴿ بَلَىٰ ﴾ أي لا يدخلها أحد منكم. قوله: ﴿ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ ﴾ أي دخل الإسلام بوجهه أي بذاته ومعناه انقاد بظاهره، وقوله موحد أي بباطنه لا مناق بل منقاد بظاهره مؤمن موحد بباطنه. قوله: (معتد به) أي بل هم على باطل وقدره المفسر إشارة إلى أن صفة شيء محذوفة، وهذه أصدق مقالة قالتها اليهود والنصارى. قوله: (وكفرت بعيسى) أي وزعمت أنها قتلته. قوله: ﴿ يَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ ﴾ المراد به بالنسبة لليهود التوراة، والنسبة للنصارى الأنجيل. قوله: (المشركون من العرب) أي فالمراد من ذلك تسلية رسول الله على ما وقع من المشركين، فإن اليهود والنصارى كفروا وضلوا مع علمهم بالحق فكيف بمن لا علم عنده فلا يستغرب ذلك منهم. قوله: { فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي الفرق المذكورة: اليهود والنصارى ومشركي العرب ومن أسلم وجهه لله وهو محسن.
قوله: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ من اسم استفهام مبتدأ وأظلم خبره. قوله: (أي لا أحد أظلم) استشكل بأنه يقضتي أن من منع مساجد الله من ذكر اسمه فيها لم يساوه أحد في الظلم، فكيف ذلك مع قوله تعالى:﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً ﴾[الأنعام: ٢١]﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ ﴾[الكهف: ٥٧]﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ ﴾[الزمر: ٣٢] الآية، المقتضى كل آية منها أنه لا أحد أظلم ممن ذكر فيها، وأجيب بأن هؤلاء الموجودين في الآيات ظلمهم زائد عن غيرهم، وكون الظلم الواقع من بعضهم مساوياً للبعض الآخر أم لا شيء آخر تأمل، وأشار المفسر بقوله أي لا أحد أظلم إلى الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: ﴿ مِمَّنْ مَّنَعَ ﴾ يتعدى لمفعولين الأول بنفسه وهو مساجد، والثاني قوله أن يذكر فهو في تأويل مصدر مجرور بمن، التقدير لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله من ذكر اسمه فيها، والمنع: إما بغلقها أو تعطيل الناس عنها أو تخريبها أو أكل ريعها أو التفريط في حقوقها، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله: ﴿ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ ﴾ جمع مسجد سمي باسم السجود لأنه أشرف أركان الصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ولأنه محل غاية الذل والخضوع لله عز وجل وإن كان القياس فتح عينه في المفرد لكنه لم يسمع إلا الكسر فالقراءة سنة متبعة. قوله: (بالصلاة والتسبيح) أشار بذلك إلى أن المراد بذكر اسم الله فيها ما يعم الصلاة وغيرها. قوله: (نزلت إلخ) هذا إشارة إلى بيان سبب نزولها. قوله: (إخبار عن الروم) أي قبل بعثة الرسول حين توجهت جيوش بختنصر مع نصارى الروم لتخريب بيت المقدس، وكان بختنصر مجوسياً من أهل بابل وذلك حين قتل بنو إسرائيل يحيى بن زكريا، ولم يزل كذلك حتى بناه المسلمون في خلافه عمر بن الخطاب. قوله: (عام الحديبية) أي وهو عام ست من الهجرة حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف وأربعمائة بقصد العمرة، قصده المشركون وهو بالحديبية فتحلل ورجع. قوله: ﴿ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ ﴾ المعنى ليس لهم دخولها يعني البيت أو بيت المقدس في حال من الأحوال إلا في حال كونهم خائفين. قوله: (خبر بمعنى الأمر) أي فالجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى وقوله أي أخيوفهم بالجهاد أي فالمراد من الآية أن الله كلفنا بقتالهم ومنعهم عن المسجد الحرام وبيت المقدس، قال تعالى:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا ﴾[التوبة: ٢٨] فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً بعد الفتح ينادي في الناس أن لا يطوف بالبيت عريان، وأن لا يحج بعد هذا العام مشرك، وفي خلافة عمرفتح الشام ومدينة بيت المقدس ومن المشركين من دخول بيت المقدس، ويحتمل أنه خبر لفظاً ومعنى فهو إخبار من الله بما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم ومن عمر وهو الأقرب كما قال المفسرون، ويصح أن يكون المعنى ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخضوع فضلاً عن أن يجترئوا على تخريبها وقيل غير ذلك. قوله: (فلا يدخلها أحد آمناً) من ذلك اختلفت المذاهب في دخول الكافر المسجد فمنعه المالكية إلا لحاجة، وفصل الشافعية فقالوا إن أذن له مسلم في غير المساجد الثلاثة جاز وإلا فلا، وجوزه الحنفية مطلقاً. قوله: ﴿ لَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾ هذاعام لكل من منع مساجد الله من ذكر اسم الله فيها كان مسلماً أو كافراً. فخزي المسلم في الدنيا بالمصائب والفقر والعمى والموت على غير حالة مرضية وذكر المفسر خزي الكافر. قوله: (هو النار) أي على سبيل الخلود إن مات كافراً، أو على سبيل التطهير إن مات مسلماً، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكل آية وردت في الكفار فإنها تجر ذيلها على عصاة المؤمنين. قوله: (لما طعن اليهود في نسخ القبلة) أي التي هي بين المقدس. فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة أمر بالصلاة لجهة بيت المقدس تأليفاً لليهود، فأشاعوا أن محمداً تابع لهم في دنيهم وشريعتهم، ثم بعد مدة أمره الله بالإنتقال إلى الكعبة فقالوا إن محمداً يفعل على مقتضى هواه وليس مأموراً بشرع، فنزلت الآية. قوله: (أو في صلاة النافلة) أي نزلت في شأن اعتراض اليهود على النبي حين شرعت صلاة النافلة على الدابة في السفر حيثما توجهت.
قوله: ﴿ وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ ﴾ أي مكان الشروق والغروب وهذا ظاهر، وأما آية: (رب المشرقين ورب المغربين) فباعتبار مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما، وأما الآية: (فلا أقسم برب المشارق والمغارب) فباعتبار مشرق كل يوم ومغربه، لأن للشمس طرقاً في الشروق والغروب على قدر أيام السنة. قوله: (أي الأرض كلها) جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل ما وجه الإقتصار على المشرق والمغرب، ويحتمل أن فيه حذف الواو مع ما عطفت أي وما بينهما. قوله: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ ﴾ أينما اسم شرط جاز ظرف مكان وتولوا فعل الشرط، وقوله: (فتم وجه الله) جواب الشرط وثم إشارة للمكان خبر مقدم هو وجه الله مبتدأ مؤخر. قوله: ﴿ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ ﴾ أي جهته يعني جهة رضاه وليس المراد بوجهه ذاته بل المراد (أينما تولوا وجوهكم) في جهة أمركم الله بها تجدون جهة رضاه والصوفية يريدون بالوجه الذات وهم دليل على تنزه الله عن التخصيص بالجهة، ومن هنا قال ابن العربي: مقتضى التوحيد أن الصلاة لأي جهة تصح وإنما أمرنا بجهة مخصوصة تعبداً ولم نعقل له معنى. قوله: (يسع فضله كل شيء) أي فصحة الصلاة ليست متوقفة على جهة بيت المقدس فقط كما زعمت اليهود، بل خصنا الله بمزايا على حسب مزيد فضله لم تكن فيهم، فمنها أمر القبلة ومنها جعل الأرض كلها مسجداً وتربتها طهوراً وغير ذلك. قوله: ﴿ وَقَالُواْ ﴾ هذا من جملة قبائح اليهود ومشركي العرب حيث قالت اليهود عزيز بان الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقال مشركو العرب الملائكة بنات الله. قوله: (بواو ودونها) أي فهما قراءتان سبعيتان فعل الواو وهو معطوف على منع مساجد الله التقدير (ومن أظلم ممن قال اتخذ الله ولداً) وعلى عدمها هو مستأنف لبيان حال الكفرة، وأما آية يونس فبترك الواو لا غير لعدم ما يناسب العطف. قوله: ﴿ سُبْحَـٰنَهُ ﴾ أي تنزه عنه لأن الولدية تقتضي النوعية والجنسية والإفتقار والتشبيه والحدوث، وهو سبحانه منزه عن كل ذلك كله. قوله: (لما لا يعقل) أي غير العاقل لكثرته وإنما غلبه لأن في سياق القهر، وهو مناسب لغير العاقل بخلاف قانتون فإنه سياق الطاعة. قوله: (مطيعون) أي نافذ فيهم مراده فالمراد بالطاعة هنا الإنقياد ونفوذ المراد. قوله: (وفيه تغليب العاقل) أي حيث جمعه بالواو والنون وإنما غلب العاقل هنا لشرفه، ولأن شأن الطاعة أن تكون للعاقل، وفيه مراعاة معنى كل ولو راعى لفظها لأفرد. قوله: ﴿ بَدِيعُ ﴾ خبر المبتدأ محذوف أي هو وقرئ بالجر بل من الضمير في له وبالنصب على المدح أي أمدح بديع. قوله: (لا على مثال سبق) أي فهما في غاية الإتقان، قال تعالى:﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا ﴾[ق: ٦] الآيات. قوله: ﴿ وَإِذَا قَضَىٰ ﴾ يطلق القضاء على الوفاء يقال قضى دينه بمعنى وفاه، ويطلق على الإرادة وهو المراد هنا. قوله: (أراد) أي تعلقت إرادته به وفسر القضاء بالإرادة للآية الأخرى وهي قوله تعالى:﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾[يس: ٨٢]، وخير ما فسرته بالوارد. قوله: ﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ليس المراد أنه إذا تعقلت إرادته بإيجاد أمر أتى بالكاف والنون، بل ذلك كناية عن سرعة الإيجاد، فمراده نافذ ولا يتخلف بل ما علمه أزلاً تعلقت به الإرادة تعلقاً تنجيزياً حادثاً وأبرزه بالقدرة سريعاً. قوله: (أي فهو يكون) أشار بذلك إلى أنه مستأنف مرفوع خبر لمبتدأ محذوف. قوله: (بالنصب) أي بأن مضمرة بعد فاء السببية أي يحصل ويوجد في الخارج.
قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي الجاهلون الذين هم كبالهائم أو أضل. قوله: (أي كفار مكة) تقدم الأشكال بأن السورة مدنية وأن السائل له يهود المدينة، ويمكن أن يجاب هنا بأن هذه الآية بخصوصها مكية وهو بعيد، وأجاب أستاذنا الشيخ الدردير بأنه لا مانع أن كفار مكة أرسلوا ذلك السؤال له وهو بالمدينة. قوله: (هلا) أشار بذلك إلى أنها تخصيصية وهي بذلك المعنى في غالب القرآن. قوله: ﴿ يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ ﴾ أي مشافهة أو على لسان جبريل فينزل علينا كما ينزل عليك. قوله: (مما اقترحناه) أي طلبناه والمقترح هو الشيء الذي لم يسبق إليه. قوله: (من التعنت إلخ) هذا هو وجه المماثلة لأن ما وقع من الأمم الماضية ليس عين ما وقع من كفار مكة. قوله: (فيه تسلية للنبي) أي من قوله كذلك. قوله: ﴿ قَدْ بَيَّنَّا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ أي فلا تحزن على من كفر فإنا قد وضحنا آياتنا لقوم يؤمنون بك ولا يتعنتون عليك قال تعالى تسلية له:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾[الأنفال: ٦٤].
قوله: (نعت) أي ممن كفر وعاند فلا تحزن عليه ويكفيك من آمن. قوله: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ﴾ الخطاب له صلى الله عليه وسلم أي أرسلناك للناس كافة. قوله: ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ الباء للملابسة أو المصاحبة أو السببية والأقرب الأولان. قوله: (بالهدى) أي دين الإسلام أو القرآن. قوله: ﴿ بَشِيراً ﴾ هو ونذيراً حالان إما من الكاف في أرسلناك أو من الحق. قوله: (من) اسم موصول معمول لبشيراً. وقوله أجاب إليه صلتها والمعنى انقاد له، وقوله من لم يجب إليه أي من لم ينقد إليه ولم يختر ديناً. قوله: (النار) سميت النار جحيماً لجحمها أي اضطرابها بأهلها من شدة لهيبها كاضطراب موج البحر. قوله: (ما لهم لم يؤمنوا) هذا هو صورة السؤال، أي حيث بلغت الرسالة ونصحت الأمة وكشف الغمة وجليت الظلمة، فلا تخف من كفرهم ولا يسألك الله عنه. قوله: (إنما عليك البلاغ) علة للنفي. قوله: (بجزم تسأل) أي مع فتح التاء مبنياً للفاعل وهما قراءتان سبعيتان، والمعنى على هذه القراءة لا تسألنا يا محمد عن صفاتهم وأحوالهم فإنها شنيعة فظيعة لا يسعك السؤال عنها لهولها، أو المعنى لا تسألنا الشفاعة فيهم لأن كلمة العذاب حقت عليهم.
قوله: ﴿ وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَارَىٰ ﴾ هذه مقالة قالها الله له حين قالت اليهود لا نرضى عنك حى تتبع ما نحن عليه، وكذلك قالت النصارى. قوله: (وما عداه ضلال) أخذ ذلك من الجملة المعرفة الطرفين فإنها تفيد الحصر. قوله: (لام قسم) أي محذوف تقديره وعزتي أو والله وعلامة كونها لام قسم وقوعها قبل إن الشرطية. قوله: (فرضاً) أي على فرض وقوعه أو ذلك تخويف لأمته على حد ما قيل في لئن اشركت ليحبطن عملك. قوله: ﴿ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ ﴾ هذا جواب القسم وجواب الشرط محذوف دل عليه المذكور لتأخر الشرط عن القسم لقول ابن مالك: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم   جواب ما أخرت فهو ملتزمولو كان جواباً للشرط لا قترن بالفاء لكونه منفياً بما. قوله: ﴿ مِن وَلِيٍّ ﴾ من زائدة لتأكيد النفي. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ ﴾ أي القرآن وآيتنا صلة الذين والهاء مفعول أول والكتاب مفعول ثان. قوله: (والجملة حال) أي إما مؤولة باسم الفاعل أو المفعول، فعلى الاول هي حال من مفعول آتينا الأول الذي هو الضمير، وعلى الثاني هي حال من الكتاب. قوله: (نصب على المصدر) في الحقيقة صفة لمصدر محذوف تقديره تلاوة حق التلاوة، والمعنى يقرؤونه مجوداً مرتلاً بخشوع وخضوع، كما نزل من جبريل لا ينقصون عما ورد ولا يزيدون عليه، يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه ويصدقون وعده ووعيده ويتدبرون معانيه يعملون بمحكمه ويفوضون علم متشابهه إلى الله. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ ﴾ مبتدأ وخبر والجملة خبر المبتدأ. قوله: (نزلت في جماعة) أي أربعين اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا الراهب، مقدمهم جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (وأسلموا) أي وصاروا يتلون القرآن حق التلاوة، هكذا ذكر المفسر سبب نزولها، وقيل نزلت في كل من اتصف بهذا الوصف، وقيل في عبد الله بن سلام وأضرابه. قوله: (بأن يحرفه) أي متعمداً بأن يتلاعب بمعانيه والفاظه ويأخذ بظاهره، والضمير عائد على القرآن، وذلك كالخوارج الذين يأخذون بظاهره ولا يعرفون معانيه فضلوا واصلوا، فإن من جملة أبواب الكفر الأخذ بظواهر الكتاب والسنة. قوله: ﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ تقدمت هذه الآية وكررها لمزيد التقبيح عليهم. قوله: ﴿ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ﴾ أي بالشكر عليها والمراد بها الجنس. قوله: (تقدم مثله) أي من أن المراد عالمي زمانهم، أو أن المراد آباؤهم الأنبياء، أو المراد بالتفضيل المزايا ففيهم مزايا لم توجد في غيرهم كفلق البحر وتفجير الماء من الحجر والمن والسلوى. قوله: ﴿ يَوْماً ﴾ أي عذاب يوم. قوله: (تغني) ﴿ نَفْسٌ ﴾ أي مؤمنة وقوله: ﴿ عَن نَّفْسٍ ﴾ أي كافرة، وهذه الجملة صفة ليوماً وهو نكرة والجملة إذا وقعت صفة لنكرة فلا بد لها من رابط، وقد قدره المفسر بقوله فيه قوله: ﴿ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ﴾ أي لا شفاعة لها حتى يترتب عليها النفع، قال تعالى:﴿ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾[الشعراء: ١٠٠-١٠١] واتفقت القراءات السبع على الياء في يقبل ولم يقرأ أحد بالتاء، والقراءة سنة متبعة.
قوله: ﴿ وَ ﴾ (اذكر) ﴿ إِذِ ٱبْتَلَىٰ ﴾ أشار بذلك إلى أن إذ ظرف لمحذوف قدره بقوله اذكر، والخطاب لمحمد، أي اذكر يا محمد لقومك وقت ابتلاء ابراهيم، ويصح تقدير اذكروا، ويكون خطاباً لبني إسرائيل، والمقصود من ذكر قصة إبراهيم إقامة الحجة على المخالف من اليهود والنصارى ومشركي العرب، لأن الفرق جميعها يعترفون بفضل إبراهيم، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: انظروا التكاليف التي كلف بها إبراهيم هل هي موافقة لما جئت به أو مخالفة. قوله: (وفي قراءة إبراهام) هما قرءاتان سبعيتان وهاتاه لغتان من سبع، والثالثة والرابعة والخامسة بغير ياء والهاء مثلثة، والسادسة بغير ياء والف مع فتح الهاء، والسابعة إبراهوم وهو اسم أعجمي وتعريبه أب رحيم وهو ابن تارخ بن آزر بن شاروخ بن أرغو بن فالغ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وإبراهيم مفعول مقدم وربه فاعل مؤخر وتقديم المفعول هنا واجب لإتصال الفاعل بضمير يعود على المفعول، فلو قدم الفاعل لزم عليه عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، قال ابن مالك: وشاع نحو خاف ربه عمر   وشذ نحو زان نوره الشجروالإختبار في الأصل الإمتحان بالشيء، ليعلم صدق ذلك الشخص أو كذبه، وهو مستحيل على الله لأنه علم بذلك قبل الإختبار، وإنما المراد عامله معاملة المختبر ليظهر ذلك للخلق، فاختبر إبراهيم صدقه، وإبليس فظهر كذبه. قوله: ﴿ بِكَلِمَاتٍ ﴾ قيل ثلاثون من شريعتنا: عشرة في براءة وهي التائبون العابدون إلى وبشر المؤمنين، وعشرة في الأحزاب وهي إن المسلمين والمسلمات إلى قوله أعد الله لهم مغفرة الآية، وتسعة في المؤمنون من أولها إلى أولئك هم الوارثون، وواحدة في سأل وهي والذين هم بشهاداتهم قائمون، وقيل هي التكاليف بخدمة البيت، وقيل ذبح ولده والرمي في النار، وهجرته من الشام إلى مكة، وانظر في الشمس والقمر والكواكب لإقامة الحجة على قومه، وبضميمة ما ذكره المفسر تكون أقولاً خمسة ولا مانع من إرادة جميعها. قوله: (مناسك الحج) أي واجباته وسننه. قوله: (وقيل المضمضة إلخ) هذه عشرة أشياء الخمسة الأول في الوجه والرأس وما عداها في باقي الجسد. قوله: (والختان) ورد أنه أول من اختتن، وأول من قص الشارب، وأول من قلم الأظفار، وأول من رأى الشيب، فلما رأه قال يا رب ما هذا قال الوقار قال يا رب زدني وقاراً، وقوله: (والإستنجاء) أي بالماء، وأما بالحجر فهو من خصائص هذه الأمة. قوله: ﴿ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ أي لم يفرط في شيء منها. قوله: ﴿ قَالَ ﴾ (تعالى) هذه كلام مستأنف واقع في جواب سؤال كأنه قيل ما فعل الله به بعد ذلك، أجاب بقوله قال له إني جاعلك للناس إماماً، ومن ذلك أن العاطيا الربانية تكون بعد التخلي عن الأغيار بالأختبار، قوله: ﴿ لِلنَّاسِ ﴾ يحتمل أن تكون ظرفاً لغواً متعلقاً بجاعلك، ويحتمل أنه حال من إماماً لأنه نعت نكرة تقدم عليها وجاعل بمعنى مصير، فينصب مفعولين الكاف مفعول أول وإماماً مفعول ثان قوله: ﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾ هذا كعطف التلقين كما يقال لك سآمرك فتقول وزيداً ومن للتعبيض وتخصيص البعض بذلك لبداهة استحالة إمامة الكل وإن كانوا على الحق. قول: (اجعل أئمة) أنبياء وملوكاً عدولاً أو علماء، وقد اجتمع ذلك في ذريته. قوله: ﴿ عَهْدِي ﴾ فاعل ينال فهو مرفوع بضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة لالتقاء الساكنين منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة والظالمين مفعوله، والمعنى أن عهدي لا يدرك الظالمين وقرئ بالعكس شذوذاً، لأنه إذا دار الأمر بين الإسناد للمعنى والذات فالإسناد للمعنى الأولى.
قوله: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا ﴾ معطوف على وإذ ابتلى وما قدر هناك يقدر هنا، وجعل إن كانت بمعنى خلق نصبت مفعولاً واحداً وهو البيت ومثابة حال منه وإن كانت بمعنى صير نصبت مفعولين البيت أول ومثابة معفول ثان، وللناس جار ومجرور متعلق يجعلنا أو بمحذوف صفة لمثاب. قوله: (الكعبة) أشار بذلك إلى أن آل في البيت للعهد. قوله: ﴿ مَثَابَةً ﴾ يحتمل أن يكون مصدراً ميمياً وهو الذي درج عليه المفسر بقوله مرجعاً ويتحمل أن يكون ظرف مكان أي محل رجوع يرجع إليه المرة بعد المرة، أو المراد محل ثواب أي إن من لاذ به حصل له من الثواب ما لا يحصل له في غيره لما ورد ينزل من السماء مائة وعشرون رحمة على البيت ستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين وأصل مثابة مثوبة تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً. قوله: ﴿ وَأَمْناً ﴾ إما مصدر باق على مصدريته أو بمعنى اسم الفاعل أو ظرف مكان أي محل أمن وعليه درج المفسر، وعلى كونه اسم فاعل فالإسناد مجاز أي آمنا من دخله. خير ما فسرته بالوارد. قال تعلى:﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾[آل عمران: ٩٧] قوله: (فلا يهيجه) أي لا يزعجه ولا يؤاخذه بما فعل وكان البيت معظماً في الجاهلية ففي الإسلام أولى ولذا قال ابن العباس: إن معصيته تضاعف لأنه يشدد على من في الحضرة ما لا يشدد على غيره، قال بعضهم: لقد أسرك من يرضيك ظاهره   ولقد أبرك من يعصيك مستتراًقوله: ﴿ وَٱتَّخِذُواْ ﴾ أمر إما معطوف على ما تضمنه قوله مثابة تقديره فتوبوا واتخذوا أو مستأنف مقول لقول محذوف تقديره وقال الله لهم اتخذوا قوله: (أيها الناس) فيه حذف حرف النداء وهذا على قراءة الأمر. قوله: ﴿ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ يحتمل أن من تبعيضية أو زائدة في الإثبات على مذهب الأخفش أو بمعنى في كل بعيد والأقرب أنها بمعنى عند، والسنة سنت أن الصلاة خلفه بأن يكون الحجر بين المصلي والكعبة. قوله: (هو الحجر) ورد أن طوله ذراع وعرضه كذلك، وقد نزل هو والحجر الأسود مع آدم من الجنة وهما ياقوتتان من يواقيتها، ولولا مس الكفار لهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب. قوله: (عند بناء البيت) أي بناؤه كان متأخراً عن بناء مكة فجرهم بنوا مكة أولاً وإبراهيم بنى البيت ثانياً، وذلك أن إبراهيم لما جاء بأم اسماعيل وابنها وهي ترضعه وضعهما عند مكان البيت وليس هناك يومئذ بناء ولا أحد، فعطشت واشتد عليها الأمر، فجاءها جبريل فبحث بعقبة أو بجناحه موضع زمزم حتى ظهر الماء فصارت تشرب منه، فاستمرت كذلك هي وولدها حتى مرت بهم طائفة من جرهم فقالوا لها أتأذنين أن ننزل عندك قالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا نعم فنزلوا عندها وبنوا مكة، فلما شب إسماعيل وأعجبهم زوجوه امرأة منهم. قوله: (بأن تضلوا خلفه) هذا تخصيص لكون الصلاة عنده ومعنى كون الصلاة خلفه باعتبار مقصروته وإلا فهو مربع لا خلف له ولا إمام، وهذا بحسب ما سبق من الزمان فإنه كان الحجر مقصورة بابها لجهة البيت، وأما الآن فقد حول الباب فالمصلي الآن يصلي لجهة الباب فهو قبالته ولا خلفه. قوله: (وفي قراءة) هما سبعيتان. قوله: (خبر) أي جملة خبرية معطوفة على جعلنا مسلط عليها إذ أي اذكر جعلنا واذكر إذ اتخذ الناس من مقام إبراهيم مصلى. قوله: ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ فيه لغتان باللام والنون ويجمع على سماعل وسماعلة وأسامع، قيل سمي بذلك لأن ابراهيم لما دعا الله أن يرزقه ولداً صار يقول اسمع إيل أي استجب يا الله. قوله: ﴿ أَن ﴾ يحتمل أنها تفسيرية وهو الأقرب لوجود ضابطها، وهو أن تتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه وصحة حلول أي محلها، ويحتمل أنها مصدرية وكلام المفسر يحتملها. قوله: (من الأوثان) إن قلت إنه لم يكن حين بناء البيت أوثان، قلت أجيب بأن المراد طهره فيما يستقبل من الزمان لعلم الله أن المشركين ستتخذ أوثاناً، وليس المراد أن الأوثان كانت موجودة حينئذ وأمر بطهارته منها. قوله: ﴿ لِلطَّائِفِينَ ﴾ جمع طائف وهو الذي يطوف حوله الأشواط. قوله: ﴿ وَٱلْعَاكِفِينَ ﴾ جمع عاكف وهو عرفاً الملازم للمسجد للعبادة على وجه مخصوص، ولكن المراد به هنا المقيم فيه يفسره قوله في الآية الأخرى، (والقائمين) فالعاكفون والقائمون والمقيمون بمعنى واحد. قوله: (المصلين) أخذ ذلك من عدم عطف السجود على الركوع، فالمراد جمعهما في عبادة، لا أن الركوع قسم والسجود قسم آخر.
قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﴾ معطوف على وإذ ابتلى. قوله: ﴿ بَلَداً ﴾ نكره هنا وعرفه بأل في سورة إبراهيم لأنه قيل إن ما هنا كان قبل بنائها وما هناك بعد. قوله: ﴿ آمِناً ﴾ إن قلت إن الله قد امتن به من غير سؤال إبراهيم، أجيب بأن المراد بالذي امتن الله به الأمن من إغارات الأعداء وبالذي طلبه إبراهيم الأمن من القحط والجوع. قوله: (خلاه) بالقصر أي حشيشه. قوله: ﴿ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ ﴾ أي بعضها. قوله: (إليه) أي إلى قربه بنحو مرحلتين، وقد نقل الموضع الذي كان بالحجاز موضع ما نقل من الشام بمكان يسمى الحرة أقفر مشهور بالشام كذا قيل. قوله: ﴿ وَ ﴾ (أرزق) ﴿ مَن كَفَرَ ﴾ هذا يسمى عطفاً تلقينياً. قوله: ﴿ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴾ جملة استئنافية لإنشاء الذم، وليست معطوفة على ثم أضطره. قوله: (هي) هذا هو المخصوص بالذم، والحاصل أن إبراهيم لما قال الله له إني جاعلك للناس إماماً طلب أن يكون من ذريته من هو كذلك، فأجابه الله بأنه لا ينال عهده الظالمين، فلما بنى البيت ودعا لأهله بالرزق من الثمرات، خصص دعوته بالمؤمن منهم قياساً منه الرزق على الإمامة وخوفاً من رد دعوته إذا عم فلقنه الله قوله: (ومن كفر) أي فالمؤمن والكافر سواء في الرزق الدنيوي، وأما في الإمامة فليسوا سواء.
قوله: ﴿ وَ ﴾ (اذكر) أي يا محمد وقت رفع إبراهيم القواعد. قوله: ﴿ ٱلْقَوَاعِدَ ﴾ جمع قاعدة وهي حجارة كبار كل حجر قدر البعير، والمراد برفع القواعد بناء البيت ورفعه عليها. قوله: (الأسس) جمع أساس وهي القواعد وقوله: (والجدر) جمع جدار وهي الأسس فالعطف مرادف. وقصة بناء البيت أن الله لما خلق الماء قبل الأرض بألفي عام، كان ذلك البيت زبدة بيضاء على وجه الماء، فدحيت الأرض وبسطت وامتدت من تلك الزبدة، فلما أهبط آدم إلى الأرض استوحش إلى ذكر الله، فأنزل الله البيت المعمور وهو من ياقوتة حمراء له بابان من زمردة خضراء، باب بالمشرق وباب بالمغرب، ووضع موضع الزبدة فكان يأتيه ماشياً من الهند، ورد أنه حجه ماشياً أربعين عاماً فلما فرغ قالت الملائكة: لقد بر حجك يا آدم، فلما جاء الطوفان أمر برفعه إلى السماء السابعة فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم، وبعث الله جبريل حين رفعه فخبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق هكذا قيل، والمشهور أن أول من بناه الملائكة ثم آدم ثم شيث، واستمر حتى جاء طوفان نوح فأذهب رسومه الظاهرية لا قواعده لأنها ثابتة متصلة بالأرض السابعة، ثم أتى جبريل بالحجر الأسود وألقمه جبل أبي قبيس، فلما أتى إبراهيم وأراد بناءه جاءه جبريل وحدده له وأعلمه بالحجر فبناه على طبق ما رأى من القواعد، ثم بناه بعده العمالقة ثم جرهم ثم قصي ثم قريش، وكان الواضع للحجر الأسود في محله النبي صلى الله عليه وسلم، وقصر بهم النفقة فلم يتموا بناءه على قواعد إبراهيم بل نقضوه وأخرجوا الحجر منه، ثم ابن الزبير وقد رده لقواعد إبراهيم مستدلاً بحديث عن عائشة: لولا قومك حديثو عهد بكفر لبنيت البيت على قواعد إبراهيم، ثم لما تولى الحجاج عامله الله بعد له حارب ابن الزبير وقتله وهدم البيت بالمنجنيق وبناه كما بنته قريش وهو الآن على بنائه، ونظمهم بعضهم فقال: بنى بيت العرش عشر فخذهم   ملائكة الله الكرام وأدمفشيث فإبراهيم ثم عمالق   قصي قريش قبل هذين جرهموعبد الإله بن الزبير بني كذا   بناء لحجاج وهذا متممقوله: (يقولان) قدره المفسر ليصح جعل الجملة حالاً من إبراهيم وإسماعيل، لأن الجملة الإنشائية لا تقع حالاً إلا بتقدير، وعبر بالمضارع في يرفع استحضاراً للحال الماضية لعظم شأنه كأنه حصل الآن وهو يحدث عنه. قوله: (القول) أي دعائنا. قوله: (بالفعل) أي بنائنا. قوله: (منقادين) أي كاملين في الأنقياد لأن الكامل يقبل الكمال، وليس المراد طلب أصل الإسلام لأن الأنبياء معصومون عن كل معصية سيما الكفر. قوله: (جماعة) أي وهو الأصل الكثير وتطلق على المقتدى به كقوله تعالى:﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾[النحل: ١٢٠] وتطلق على الملة، قال تعالى:﴿ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ ﴾[الزخرف: ٢٢] قوله: ﴿ وَأَرِنَا ﴾ رأى عرفانية تنصب مفعولاً واحداً ودخلت عليها الهمزة فتعدت لاثنين، فنا مفعول أول ومناسكنا مفعول ثان. قوله: ﴿ ٱلتَّوَّابُ ﴾ أي كثير القبول لتوبة من تاب، ويوصف العبد بذلك الوصف بمعنى كثير التوبة والرجوع عن القبائح والرذائل. قوله: ﴿ ٱلرَّحِيمُ ﴾ أي عظيم الرحمة وهي الإنعام أو إرادته. قوله: (تواضعاً) أي أو طلباً للإرتقاء من مقام أعلى مما هما فيه. قوله: (أهل البيت) أي بيت إبراهيم وهم ذريته، ولم يأت نبي من ذرية إبراهيم وإسماعيل إلا نبينا صلى الله عليه وسلم وأما الغالب فمن ذرية إسحاق. قوله: ﴿ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾ هي العلم النافع. قوله: (الغالب) أي الذي أمره نافذ. قوله: ﴿ ٱلحَكِيمُ ﴾ هو الذي يضع الشيء في محله.
قوله: ﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ سبب نزولها أن عبد الله بن سلام أسلم وكان له ابن أخ أحدهما مهاجر والثاني اسمه سلمة، فدعاهما إلى الإسلام وقال لهما قد علمتما أن الله قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد من آمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر فنزلت الآية، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله: (أي لا) ﴿ يَرْغَبُ ﴾ أشار بذلك إلى أن الإستفهام إنكاري بمعنى النفي، والإستثناء المفرغ لا يكون إلا بعد النفي، وما في معناه الرغبة، عن الشيء الزهد فيه. قوله: ﴿ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي دينه وشريعته فالملة والدين والشريعة بمعنى واحد، وهو الأحكام التي جعلها الله للتعبد بها، فمن حيث إملاؤها يقال لها ملة، ومن حيث شرعها يقال لها شريعة، ومن حيث التدين بها يقال لها دين. قوله: ﴿ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ يحتمل أن من اسم موصول والجملة بعدها صلة أو نكرة والجملة بعدها صفة، وعلى كل فهو بدل من فاعل يرغب، التقدير ولا يرغب عن ملة إبراهيم أحد إلا الذي أو شخص سفه نفسه قوله: (جهل أنها مخلوقة) هذا بناء على أنه لا يتعدى بنفسه إلا بتضمينه معنى جهل ومعنى جهله نفسه لم يتأمل ولم ينظر فيها، فيستدل على أن لها صانعاً أتقن صنعها فيؤمن به. قوله: (أو استخف بها) هذا بناء على أنه يتعدى بنفسه كالمشدد، ومعنى استخفافه بها تركه العبادة لله التي بها العز الأبدي. قوله: ﴿ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ ﴾ هذا حجة لقوله ومن يرغب، وأكدت هذه الجملة باللام فقط وما بعدها بأن واللام لأن هذه الجملة متعلقة بأمر الدنيا وهو فيها ظاهر الحال، بخلاف الجملة الثانية فإنها متعلقة بالآخرة وهو أمر مغيب لا يؤمن به إلا من نور الله بصيرته فاحتاجت لزيادة التأكيد. قوله: (وفي قراءة وأوصى) أي فهما قراءتان سبعيتان فالهمز والتضعيف أخوان. قوله: ﴿ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ﴾ أي وهم إسماعيل وهو من هاجر وإسحاق وهو من سارة، وكان له ستة أولاد من امرأة تسمى قنطور الكنعانية تزوجها بعد وفاة سارة، فجملة أولاده ثمانية وقيل أربعة عشر. قوله: ﴿ وَيَعْقُوبُ ﴾ (بنيه) أشار بذلك إلى أن يعقوب بالرفع معطوف على إبراهيم، والمفعول محذوف قدره المفسر بقوله بنيه وهم اثنا عشر: روبيل بضم الراء وشمعون ولا وي ويهوذا ويشبخون وزبولون ودون وبقيون وكودا وأوشيز وبنيامين ويوسف، كذا في البيضاوي. قوله: ﴿ يَابَنِيَّ ﴾ هذا هو صورة الوصية. قوله: ﴿ فَلاَ تَمُوتُنَّ ﴾ أصله تموتون أكد بالنون فصار تموتن حذف نون الرفع لتوالي الأمثال فالتقى ساكنان الواو والنون حذفت الواو لالتقائهما. قوله: (نهى عن ترك الإسلام إلخ) دفع بذلك ما يقال إن الموت على الإسلام ليس في طاقة العبد فما معنى التكليف، فأجاب بأن المراد التكليف بالإسلام والنهي عن تركه، كقولك لشخص لا تصل إلا وأنت خاشع، فهو نهي عن ترك الخشوع فيها. قوله: (بدل من إذ قبله) أي بدل اشتمال. قوله: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي ﴾ أتى بما دون من امتحاناً لهم لأنه في زمنه كثرت عبادة غير الله، وإنما امتحنهم لتظهر سرائرهم. قوله: (إبراهيم إلخ) بدل من آبائك وكرره إله لأنه الفصيح مطلقاً اسماً كما هنا أو حرفاً كمررت بك وبزيد، قال ابن مالك: وعود خافض لدى عطف على   ضمير لازماً قد جعلاقوله: ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ قدمه على إسحاق وإن كان أبا يعقوب لمزيتين، كونه أسن منه وكونه أبا النبي عليه الصلاة والسلام. قوله: (ولأن العم بمنزلة الأب) أي لما في الحديث" عمك صنو أبيك "قوله: ﴿ إِلَـٰهاً وَاحِداً ﴾ كرره لدفع توهم التعدد من تعدد المضاف. قوله: (بمعنى همزة الإنكار) أي فتارة تفسر بها وحدها كما هنا وتارة يفسر وببل وتارة تفسر ببل وحدها.
قوله: ﴿ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ﴾ هذا رد على اليهود من حيث افتخارهم بآبائهم. قوله: (من العمل) أي فلا ينفع أحداً كسب غيره، بل كل امرئ بما كسب رهين خيراً كان أو شراً. قوله: (استئناف) أي فلها خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وكسبت صلتها والعائد محذوف أي كسبته. قوله: (والجملة تأكيد لما قبلها) أي لأنه إذا كان لها ما كسبت فلا يسألون عن عملكم وإذا كان لكم ما كسبتم فلا تسألون عما كانوا يعملون، وقوله كما لا يسألون عن عملكم إشارة إلى أن في الكلام اكتفاء. قوله: ﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ ﴾ هذا في المعنى معطوف على قوله ما ننسخ، وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى. قوله: ﴿ تَهْتَدُواْ ﴾ أي تصلوا للخير وتبلغوا السعادة. قوله: (أو للتفصيل) أي لا للجميع فإن مقالة يهود المدينة كونوا هوداً تهتدوا لأنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً، ومقالة نصارى نجران كونوا نصارى تهتدوا لأنه لا يدخل الجنة إلى من كان نصارى. قول: (نتبع) قدره إشارة إلى أن ملة معمول لمحذوف، والجملة مقول القول في محل نصب. قوله: (حال من إبراهيم) أي والشرط موجود وهو كون المضاف كالجزء من المضاف إليه. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ تعريض لهم بأنهم هم المشركون. قوله: (خطاب للمؤمنين) أي ويصح أن يكون خطاباً لليهود والنصارى، أي إذا أردتم النجاة فلا تشركوا وقولوا آمنا.
قوله: ﴿ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا ﴾ معطوف على لفظ الجلالة وقوله: (من القرآن) بيان لما. قوله: (من الصحف العشر) قال تعالى:﴿ إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ ﴾[الأعلى: ١٨-١٩].
قوله: ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ الخ إن قلت إن إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط لم ينزل عليهم كتاب، أجيب بأنه أوحى إليهم بصحف إبراهيم فلم يكن مغايراً لما نزل الله على إبراهيم. قوله: (أولاده) أي أولاد يعقوب وهم أسباط بالنسبة لإسحاق وإبراهيم. وأولادهم أسباط للجميع، ويؤخذ من الآية أن الأسباط أنبياء وهو المعتمد كما ذكره ابن حجر في شرحه على الهمزية. إن قلت حيث كانوا أنبياء فهم معصومون من الصغائر والكبائر قبل النبوة وبعدها فكيف ذلك مع ما يأتي في سورة يوسف من رميه في الجب وإيتانهم على قميصه بدم كذب وغير ذلك من الأمور المنافية للنبوة. فأجيب بأنهم غير مشرعين بل هم أنبياء فقط، فلا يلزمهم إجراء فعلهم على مقتضى الظاهر بل على سر القدر، فالمدار على خلوصهم في الباطن على حد ما قيل في أفعال الخضر مع موسى، وقد شهد الله له بأنه ما فعله عن أمره فيكون ما جرى من الأسباط في حق يوسف كما جرى من الخضر أو أولى، وسيأتي بسط ذلك في سورة يوسف إن شاء الله تعالى. قوله: ﴿ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ ﴾ عبر أولاً بأنزل وثانياً بأوتي تفنناً ودفعاً للثقل. قوله: ﴿ وَعِيسَىٰ ﴾ لم يكرر ما أوتي لأن مؤدي الأنجيل والتوراة واحد، وإنما التغاير في شيء يسير وهو تحليل بعض ما حرم. قوله: ﴿ وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ ﴾ هذا من عطف العام على الخاص، إشارة إلى أنه يجب علينا الإيمان بجميع أنبياء الله وما أنزل عليهم. قوله: (كاليهود) أي فإنهم آمنوا بموسى وكفروا بمن عداه، وقوله والنصارى أي فإنهم آمنوا بعيسى وكفروا بمن عداه. قوله: (مثل زائدة) أي لأن المعنى على أصالتها فاسد لأنه يوهم أنهم مأمورون بالإيمان بمثل الله ومثل ما أنزل على محمد إلخ وهذا باطل. قوله: (خلاف) أي مخالفة الدين الحق ويطلق على الضلال وعلى العداوة، ويصح إرادة كل منهما لأن تولى عن الإيمان فهو في ضلال ومعاداة الله، قوله: (شقاقهم) أي ضرر ضلالهم ومخالفتهم ومعاداتهم. قوله: (بقتل قريظة) أي فقد قتل منهم في يوم واحد سبعمائة من صناديدهم ورموا في الخندق. قوله: (وضرب الجزية عليهم) أي اليهود والنصارى. قوله: ﴿ صِبْغَةَ ٱللَّهِ ﴾ الصبغ بالكسر أثر الصبغ بالفتح الذي هو المصدر. وسبب نزول الآية أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمى ماء المعمودية، ويقولون حينئذ: قد صار نصرانياً حقاً، فنزلت رداً عليهم كأن الله يقول لهم: صبغتي لعبيدي لا أحسن منها صبغة. قوله: (أي صبغنا) من باب نفع وضرب ونصر. قوله: (كالصبغ في الثوب) أشار بذلك إلى أن في الكلام استعارة تصريحية أصلية، حيث شبه آثار الإيمان القائم بالشخص بالصبغ القائم بالثوب بجامع المكث والظهور في كل، واستعير اسم المشبه به للمشبه، وفي هذه الآية بشرى للمؤمنين عظيمة، وهي أن الإيمان في القلب كالصبغ المتقن في الثوب، فكما لا يزول الصبغ من الثوب كذلك الإيمان لا يزول من القلب لأن صبغة الله لا أحسن منها، ولذا قيل إن موت المؤمن على غير الإيمان نادر كالكبريت الأحمر، والمراد من الصبغة الأنوار الكائنة في القلب والأعضاء لأن الإيمان لا يكمل إلا إذا صبغ به كصبغة الثوب، قال تعالى:﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ﴾[التوبة: ٢٩].
وقال تعالى:﴿ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ﴾[التحريم: ٨] في الحديث:" لو كشف عن نور المؤمن العاصي لأضاء ما بين المشرق والمغرب وإنما انحجب عنه ليتم وعد الله ووعيده ". قوله: (قال اليهود) شروع في ذكر سبب نزول الآية. قوله: (الأول) أي السابق على الأنجيل والقرآن. قوله: (من العرب) أي بل كانت من بني إسرائيل.
قوله: ﴿ قُلْ ﴾ أي يا محمد والخطاب لكل عاقل يريد إقامة الحجة عليهم. قوله: (فله أن يصطفي من عباده من يشاء) أي فلا حرج عليه في أفعاله. قوله: ﴿ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا ﴾ أي فإن كانت النبوة من جهة اصطفاء الله واختياره، فربكم هو ربنا فيختص برحمته من يشاء، وإن كان من جهة العمل فكما لكم أعمال تجازون عليها لنا أعمال نجازى عليها، فنحن مشتركون معكم في العبودية والأعمال. قوله: ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴾ أي لم نشرك به أحداً بخلافكم أنتم فقد زدنا عليكم وصفاً وهو الإخلاص، فكان الأولى بذلك نحن لا أنتم. قوله: (أحوال) أي إما من الواو أو نا، لكن الأظهر في الأخيرة أنها حال من نا، وعامل الحال على كل هو الفعل الذي هو أتحاجوننا. قوله: (بالياء والتاء) فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ أَوْ نَصَارَىٰ ﴾ أو للتقسيم والتوزيع فاليهود نسبوا لهم اليهودية، والنصارى نسبوا لهم النصرانية. قوله: ﴿ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ ﴾ الهمزة للإستفهام وما بعدها مبتدأ وخبر، والمستفهم عنه يجوز توسطه بين الهمزة وأم كما هنا هو الأحسن، ويجوز في غير القرآن أن تقول أأعلم أنتم أم الله أو أأنتم أم الله أعلم. قوله: ﴿ أَمِ ٱللَّهُ ﴾ أم معادلة للهمزة التي هي لطلب التعيين، واسم التفضيل ليس على بابه بل للتهكم والإستهزاء. قوله: (أي الله أعلم) أشار بذلك إلى أنه جواب الإستفهام وإن خبر المبتدأ محذوف دل عليه المذكور. قوله: (تبع له) جواب عن سؤال مقدر تقديره إن الله قد برأ إبراهيم ولم يذكر معه أولاده. ومن جملة ما رد عليهم به قوله تعالى:﴿ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ ٱلتَّورَاةُ وَٱلإنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾[آل عمران: ٦٥].
قوله: (كائنة) ﴿ مِنَ ٱللَّهِ ﴾ أشار بذلك إلى أن قوله عنده صفة أولى لشهادة، وقوله من الله متعلق بمحذوف صفة ثانية لها. قوله: (لإبراهيم بالحنيفية) أي ولمحمد بالرسالة حيث ذكر الله أوصافه وأخلاقه في كتبهم فغيروها وبدلوها. قوله: ﴿ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ الغفلة هي ترك الشيء مع التمكن من العلم به وذلك مستحيل على الله تعالى، فالمراد بها الإمهال ليوم القيامة، وما يفسر تلك الآية قوله تعالى:﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ ﴾[إبراهيم: ٤٢].
وقوله: (وما الله بغافل عما تعملون) أبلغ في التهديد من قوله: (والله عليم بما تعلمون) مثلاً لأن عدم الغفلة يستلزم العلم فلا يستلزم عدم الغفلة.
قوله: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ ﴾ أي أنبياء بني إسرائيل. قوله: ﴿ قَدْ خَلَتْ ﴾ أي سبقت. قوله: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ أي من خير أو شر. قوله: ﴿ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي ولا يسألون عن عملكم. قوله: (تقدم مثله) أي وإنما كرره الله لمزيد بلادتهم فإن السامع إذا كان بليداً فالأبلغ تكرار الكلام له لإقامة الحجة عليه. قوله: ﴿ سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ ﴾ سيأتي للمفسر أن الآية من الإخبار بالغيب وحاصل ذلك أن النبي كان يستقبل الكعبة في صلاته وهو بمكة، فلما هاجر إلى المدينة أمر باستقبال بيت المقدس، فأنزل الله هذه الآية ليعلمه بأنه سيحوله للكعبة فيعترض عليه وليكون معجزة له من حيث إخباره بالمغيبات، ثم نزل آية تحويل القبلة، فمقتضاه أن هذه الآية متقدمة في النزول والتلاوة، ودرج على ذلك جماعة من المفسرين، والذي ورد عن ابن عباس وغيره أنها متقدمة في التلاوة متأخرة في النزول عن آية التحويل، وحكمة الإتيان بالسين إفادة الإستمرار على هذه المقالة منهم ومن يأتي بعدهم، والسفهاء جمع سفيه وهو من يتجنب المنافع ويتعلق بالمضار دنيوية أو دينية، ولا شك أن الكافر تعلق بالمضار الدينية فكل كافر سفيه. قوله: ﴿ مِنَ ٱلنَّاسِ ﴾ بيان للسفهاء احترازاً عن البهائم فإنها تسمى سفهاء أيضاً. قوله: (اليهود) أي فإنهم اعترضوا على النبي وأصحابه في تحولهم عن جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة، وقوله: (والمشركين) أي فإنهم اعترضوا عليهم في تحولهم أولاً ورجوعهم ثانياً. قوله: ﴿ مَا وَلَّٰهُمْ ﴾ ما استفهامية والجملة بعدها خبر عنها. قوله: (إلى أي جهة شاء) أي فالأمر باستقبال جهة مخصوصة تعبدي لا نعقل له معنى. قوله: (هدايته) مفعول يشاء قوله: (ومنهم أنتم) أي من المهتدين أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ اسم الإشارة عائد على الهداية. قوله: (أي كما هديناكم ﴿ جَعَلْنَاكُمْ ﴾ أي فمن الله عليهم بمنتين الأولى الهداية والثانية جعلهم خياراً عدولاً، وجعل بمعنى صير فالكاف مفعول أول وأمة مفعول ثان. ﴿ وَسَطاً ﴾ هو في الأصل المكان الذي استوت إليه الجهات ثم أطلق وأريد منه الخصال الحميدة. فالمعنى أصحاب خصال حميدة ولا شك أن من كان كذلك فهم خيار عدول. قوله: (خياراً وعدولاً) أي أصحاب علم وعمل ولا يخلو زمان منهم لما في الحديث:" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك وما دام القرآن موجوداً فهم موجودون "لقوله تعالى:﴿ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾[الزمر: ٢٣] فلولا أن أناساً موجودون بهذه المثابة في ما بقي القرآن، ونزول البلاء ليس دليلاً على عدم وجود الخيار، فإن الأنبياء كانوا موجودين مع حصول الخسف والمسخ بأممهم فليسوا أعظم من الأنبياء، ولما في الحديث:" أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث ". قوله: ﴿ لِّتَكُونُواْ ﴾ اللام للتعليل وقيل للصيرورة وعلى كل فالفعل منصوب بأن مضمرة بعدها جوازاً وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل. قوله: (أن رسلهم بلغتهم) هذا بيان للمشهود به قوله: (أنه بلغكم) هذا بيان لشهادة الرسول، وحاصل ذلك أنه يوم القيامة توقف كفار الأمم السابقة في صعيد واحد، ويقول الله لهم لم لم تؤمنوا بي ألم يأتكم نذير؟ فيقولون يا ربنا ما جاءنا نذير، فيؤتى بأنبيائهم فيقول الله لهم وهو أعلم بهم لإقامة الحجة عليهم، ومن يشهد لكم فيقولون أمة محمد فيؤتى بهم فيقول الله: أتشهدون أن الرسل بلغت الرسالة لأممهم فكفروا بهم، فيقولون نعم نشهد بذلك، فتقول الأمم كيف يشهدون علينا مع كونهم متأخرين عنا؟ فيقولون يا ربنا أخبرنا رسولنا بذلك في كتبانا عنك وهو صادق في خبره، فيقول الله لهم ومن يزكيكم؟ فيقولون نبينا فيؤتى به فيقول أشهد أن أمتي عدول، وقوله على الناس إن كان المراد بهم أمم الأنبياء السابقة فعلى على بابها، وإن كان المراد بهم الأنبياء فعلى بمعنى اللام فهي مستعملة في حقيقتها ومجازها، وقوله: ﴿ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ أي على كفاركم وسميت شهادة وإن كانت في الواقع دعوى لعدم ردها، ويحتمل أن على بمعنى اللام والضمير عائد على العدول الشاهدين على الأمم السابقة من حيث تزكيته لهم. قوله: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا ﴾ اختلف في إعراب هذه الآية فدرج المفسر على أن قوله: ﴿ ٱلْقِبْلَةَ ﴾ مفعول ثان لجعلنا مقدم، وقوله: ﴿ ٱلَّتِي ﴾ صفة لموصوف محذوف مفعول أول، ودرج غيره على العكس وهو أن القبلة مفعول أول والتي صفة لموصوف محذوف مفعول ثان والأقرب الأول، وحاصل ذلك أن رسول الله وهو بمكة كان يصلي للكعبة، فما هاجر إلى المدينة أمر باستقبال بيت المقدس تأليفاً لليهود فصلى لها سبعة عشر أو ستة عشر شهراً، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشم منهم الكبر فكانوا يقولون إن محمداً يفارق ديننا ويصلي لقبلتنا، وكان رسول الله يحب أن يصلي للكعبة حتى نزل عليه جبريل يوماً فقال له يا جبريل أود أن الله يحولني لقبلة أبي إبراهيم فسل ربك ذلك، فقال له أنت أكرم عليه مني، ثم صعد إلى السماء فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر لجهتها منتظراً للإذن في ذلك، فنزل عليه جبريل بعد ركعتين من صلاة الظهر في رجب بالأمر بالتحويل للكعبة فتحول وتحولت الناس معه. وكان يوماً مشهوداً فافتتن اليهود وأهل النفاق. قوله: (علم ظهور) جواب عما يقال إن علم الله قديم فلا يتجدد، والمعنى ليظهر لكم متعلق علمنا بتمييز المؤمن من الكافر. قوله: (فيصدقه) أي يدوم على صدقه. قوله: (أي يرجع للكفر) أشار بذلك إلى أن قوله ممن ينقلب على عقبيه ليس على حقيقته، لأن الانقلاب على العقب معناه الرجوع لخلف وليس مراداً بل هو كناية عن الرجوع للكفر، نظير (إن الذين اتردوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى). قوله: (وقد ارتد ذلك) أي التحويل والمعنى ظهر كفرهم، وإلا فمتى صبغ القلب بالإيمان فلا يزول لأن الكريم إذا مَنَّ تمم. قوله: ﴿ إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ﴾ أي فكان عيداً لهم حتى صار فضل من صلى مع النبي للقبلتين أعظم ممن أتى بعد ذلك، قال صاحب الجوهرة: والسابقون فضلهم نصاً عرف. قوله: (أي صلاتكم) عبر بالإيمان عن الصلاة لأنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين. قوله: (لأن سبب نزولها إلخ) وسبب ذلك شبهة ألقاها حيي بن أخطب للمسلمين، وهي أن استقبالكم لبيت المقدس لا يخلو إما أن يكون هدى فقد انتقلتم الآن إلى ضلال، وإما أن يكون ضلالاً فلم أقركم عليه، وأيضاً من مات قبل التحويل مات على الضلال وضاعت أعماله، فشق ذلك على أقارب من مات قبل التحويل فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، وتحويل القبلة أول نسخ ورد في الشرع. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ ﴾ هذا كالدليل لما قبله أي لم يضيع صلاتكم لكونه رؤوفاً رحيماً. قوله: (للفاصلة) أي التي هي قوله إلى صراط مستقيم فهي على الميم فيهما.
قوله: ﴿ قَدْ نَرَىٰ ﴾ تقدم سبب نزول هذه الآية. قوله: (للتحقيق) وقيل للتكثير وهو بالنظر لفعل النبي لا لرؤية الله وهو خطاب تودد. قوله: (متطلعاً) أي متطلباً ومتشوفاً وهو إشارة لحال محذوفة. قوله: (لأنها قبلة إبراهيم) أي وقبلته من قبل. قوله: (ولأنه أدعى إلى إسلام العرب) أي فإنهم قالوا حين استقبل بيت المقدس حيث عدل عن قبلة أبيه إبراهيم: لا نتبعه أبداً. قوله: (نحولنك) متقضى هذه التفسير أن قبلة منصوب بنزع الخافض ولو أبقى نولي على حالها لفسرها بنعطي لأنها تنصب مفعولين، فالكاف مفعول أول وقبله مفعول ثان. قوله: (تحبها) أي بحسب الطبع وإلا فهو يحب أوامر الله مطلقاً. لكن إذا كانت موافقة للطبع كانت أحب، وهذا وعد من الله له بما يحبه وفي قوله إنجاز له. قوله: ﴿ شَطْرَ ﴾ يطلق على الجهة وهو المراد هنا ويطلق على النصف ويطلق على البعد يقال شطر فلان بمعنى بعد. قوله: (أي الكعبة) أشار بذلك إلى أن المراد بالمسجد الحرام خصوص الكعبة، ولما نزلت هذه الآية تحول لجهة الميزاب وهكذا قبلتنا بمصر فإنها لجهته. قوله: ﴿ وَحَيْثُ مَا ﴾ شرطية لاقترانها بما وكنتم فعل الشرط، وقوله فولوا إلخ جوابه وقرن بالفاء لأنه فعل طلبي، وفي هذه الآية إشارة أخرى لحكمة النسخ وهي تطلعه لجهة السماء ومحبته للكعبة، وتقدمت الحكمة الأولى كونها فتنة للناس ليتميز المؤمن من غيره. قوله: (خطاب للأمة) ودفع بذلك ما يتوهم أنه من خصائصه عليه الصلاة والسلام. قوله: ﴿ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ ﴾ أي في أي مكان وفي أي زمان. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾ قيل المراد بهم اليهود لأنهم هم المعارضون له في ذلك الوقت والكتاب هو التوراة، وقيل اليهود والنصارى والكتاب هو التوراة والإنجيل. قوله: (أي التولي إلى الكعبة) ويصح أنه عائد على النبي أو النسخ، لأن كلاً مذكور في الآية والمآل واحد قوله: (أيها المؤمنون أي وفيه وعيد وزجر وتهديد وهما قراءتان سبعيتان. قوله: (ولئن أتيت) هذا أيضاً تسلية للنبي وتيؤس من إيمانهم، لأنهم ضلوا على علم فلا تنفع فيهم موعظة: وإذا ضلت العقول على علـ   ـم فماذا تقوله النصحاءقوله: (لام قسم) أي وإن حرف شرط وقوله أتيت فعل الشرط وقوله ما تبعوا جواب القسم، وأما جواب الشرط فهو محذوف للقاعدة النحوية أنه اجتمع شرط وقسم فإنه يحذف جواب المتأخر منهما، وأيضاً قوله ما تبعوا لا يصلح أن يكون جواباً للشرط لأنه فعل منفي بما فحقه دخول الفاء فيه. قوله: (قطع لطمعه في إسلامهم) راجع لقوله ما تبعوا قبلتك، وقوله: (وطمعهم إلخ) راجع لقوله وما أنت بتابع قبلتهم، فهو لف ونشر مرتب. إن قلت كيف يطمعون في عوده لبيت المقدس مع أنه مذكور في كتبهم أنه لا يرجع عن الكعبة بعد أن تحول إليها، قلت إن ذلك الطمع واقع من جهلتهم الذين لا يعرفون في التوراة شيئاً. قوله: (أي اليهود قبلة النصارى) هذا مما يؤيد أن المراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى، وقبلة اليهود بيت المقدس، وقبلة النصارى مطلع الشمس. وكانت باختراع منهم لزعم بولس القسيس أنه بعد رفع عيسى قال لقيت عيسى عليه السلام فقال لي إن الشمس كوكب أحبه يبلغ سلامي في كل يوم فمر قومي ليتوجهوا إليها في صلاتهم ففعلوا ذلك. قوله: (إن اتبعتهم فرضاً) أي على سبيل الفرض والتقدير على حد لئن أشركت ليحبطن عملك، وقيل الخطاب له والمراد غيره لمزيد الزجر. قوله: ﴿ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ ما مصدرية تسبح مع ما بعدها بمصدر أي كمعرفتهم ابنائهم، والمشبه أقوى من المشبه به، قوله: (ومعرفتي لمحمد أشد) سئل عن ذلك فقال لأن معرفتي بابني ظنية لأنه يحتمل أن يكون من غيره، وأما معرفتي بمحمد فهي عن الله، وأي خبر أصدق خبر الله؟ قوله: (كائناً) أشار بذلك إلى أن قوله من ربك متعلق بمحذوف حال من الحق وهو خير لمبتدأ محذوف، والأظهر أن مبتدأ خبره والجار والمجرور بعده أو مبتدأ والخبر محذوف تقديره يعرفونه وأل يحتمل أنها للعهد الذكري أو الجنس أو الاستغراق، قوله: (الشاكين فيه) أي في كونهم يعرفون نعتك أو في الحق، قوله: (فهو أبلغ من لا تمتر) أي لكن النهي عاماً فيفيد أن الشك يضر كل من قام به، ولكنه مؤكداً بالنون ولأن الكناية أبلغ من الحقيقة بخلاف لا تمتر، فربما يتوهم أن الشك يضر إلا هو فقط ولم يكن مؤكداً.
قوله: ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ ﴾ هذا كالنتيجة لما قبله كأنه قال فلما تفرقوا صار لكل وجهة. قوله: (قبلة) أشار بذلك إلى أن وجهة اسم للمكان فثبوت الواو قياس، وأما إن أريد بها المعنى المصدري فثبوت الواو غير قياسي على حد عدة ورقة، وإنما ثبتت الواو تنبيها على الأصل، قوله: ﴿ هُوَ ﴾ أي الفريق المفهوم من الأمم، لأن المراد بهم الفرق، لو عبر به لكان أوضح، قوله: ﴿ مُوَلِّيهَا ﴾ اسم فاعل فاعله ضمير يعود على الفريق، والهاء مفعول أول وقول المفسر وجهة مفعول ثان قوله: (وفي قراءة مولاها) أي بصيغة اسم المفعول، فنائب الفاعل مفعول أول والهاء مفعول ثاني والمعنى موجه إليها. قوله: ﴿ ٱلْخَيْرَاتِ ﴾ جمع خير بالتخفيف والتشديد جمع خيرة ومعناه الطاعة على كل، قوله: ﴿ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ ﴾ أين اسم شرط جازم يجزم فعلين، تكونوا فعل الشرط مجزوم بحذف النون والواو فاعل، ويأت جواب الشرط مجزوم بحذف الياء والكسرة دليل عليها، وبكم متعلق بيأت والله فاعل يأت وجميعاً حال من الكاف في بكم، وقوله: (فيجازيكم) فيصح فيه الجزم والرفع والنصب ولكن الرسم يأبى الأولى، وإنما جازت الأوجه الثلاثة فيه لقول ابن مالك: والفعل من بعد الجزا إن يقترن   بالفاء أو الواو بتثليث قمنوالمعنى في أي مكان تكونون فيه يجمعكم الله لحساب فيترتب عليه الجزاء. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ هذا كالدليل لما قبله أي إنما كان ذلك لأنه قدير على كل شيء. قال تعالى:﴿ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ ﴾[الشورى: ٢٩]، قوله: ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ﴾ إلخ حيث هنا ظرف مكان ومن للإبتداء، وجملة خرجت في محل جر بإضافة حيث إليها وليست شرطية لأنها لا تكون كذلك إلا إذا اقترنت بما. قوله: (لسفر) ظاهره فرضاً ونقلاً ولكن السنة خصصت ذلك بالفريضة، وأما النافلة فتجوز في السفر لغير القبلة بشروط مذكورة في الفقه، قوله: ﴿ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ﴾ أي جهة الكعبة. قوله: ﴿ وَإِنَّهُ ﴾ أي النسخ أو التولي للكعبة أو النبي، قوله: ﴿ لَلْحَقُّ ﴾ أي جنسه أو المعهود وهو نعت النبي أو كل فرد من أفراده، قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان، قوله: (لبيان تساوي حكم السفر إلخ) أشار بذلك لدفع ما يتوهم أنه تكرار محض، قوله: (كرره للتأكيد) أي للتثبيت في عقولهم لقرابة الحكم حينئذ لأنه أول ما ورد من النسخ.
قوله: ﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ ﴾ هذا هو حكمة التولية أي فما أمرناكم بالتوبة لأجل انتفاء حجة الناس عليكم، واللام هذه لام كي وإن مصدرية ولا نافية ويكون منصوب بأن، وللناس خبرها مقدم وحجة اسمها مؤخر وعليكم حال من حجة لأنه نعت نكرة تقدم عليها، قوله: (أي لتنتفي إلخ) هذا حل معنى لا حل إعراب، ولو حله حل إعراب لقال لعدم كون حجة ثابتة للناس عليكم قوله: (أي مجادلة) أي جدال في الباطل واعتراض وليس المراد بها المجادلة في الحق وإظهار حجته قوله: (من قول اليهود) هذا بيان للمجادلة، قوله: (وقول المشركين) أي فقد زال ذلك وأما قولهم ما زال محمد في حيرة فباقية لم تزل، قوله: (فإنهم يقولون) أي اليهود، والحاصل أن الحجج أربع: لليهود حجتان وللمشركين كذلك، أما حجة اليهود فهي ما له يصلي لقبلتنا ولا يتبع ديننا وأما حجة المشركين فهي يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته، وهاتان الحجتان قد انقطعتا وبقيت حجة لكل، أما حجة اليهود فقولهم ما تحول إليها إلا ميلاً لدين الجاهلية، وأما حجة المشركين فقولهم لم يزل محمد في حيرة، قوله: (والإستثناء متصل) أي لأن ما قبله ظالمون أيضاً، وقوله: (تخافوا جدالهم) أي لا يقدرون على إيصال نفع ولا دفع ضرر، قوله: (عطف على لئلا يكون) أي فتحويل القبلة لحكم عظيمة الأولى تمييز المؤمن من غيره، الثانية انقطاع الحجج، الثالثة إتمام النعمة، الرابعة الإهتداء إن قلت إن مقتضى هذه الآية إن النعمة تمت الآن ومقتضى ما يأتي في سورة المائدة في قوله تعالى:﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾[المائدة: ٣] أنها لم تتم إلا حين نزولها وهو يوم عرفة في حجة الوداع. أجيب بأن النعمة مقولة بالتشكيك، فالمراد بها هنا استقبال الأشرف الذي هو الكعبة والمراد بها هنا الدين، قوله: ﴿ مِّنْكُمْ ﴾ هذه نعمة أخرى فوق أصل الإرسال لأنه لو كان ملكاً لما استطاعوه لأن علة الإنضمام المجانسة، قوله: (القرآن) خصه من دون المعجزات لأنه باق إلى الآن. قوله: (يطهركم من الشرك) أي حتى صرتم عدولاً تشهدون على الناس يوم القيامة، ويصح أن يقال معنى ﴿ يُزَكِّيكُمْ ﴾ يشهد لكم بالعدالة يوم القيامة. قوله: ﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾ أي حتى حفظتم لفظه عن ظهر قلب لقوله في الحديث:" وجعلت من أمتك أقواماً قلوبهم أناجيلهم "قوله: (ما فيه من الأحكام) أي المعاني التي لا تحصى، قال علي بن أبي طالب: لو أردت أن أوقر من الفاتحة حمل سبعين بعيراً لفعلت، ومن معناه ما قال الخواص مما منَّ الله به علي أن أعطاني مائة ألف علم وتسعة وتسعين ألفاً من علوم الفاتحة، قوله: ﴿ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ عطف عام على خاص، قوله: (ونحوه) أي كالتهليل والتحميد، وإنما قال بالصلاة لأن الذكر إما باللسان أو الجوارح أو بالجنان، ولا شك أن الصلاة جامعة لكل ذكر، فالقراءة والتكبير والتسبيح والدعاء ذكر لساني، والركوع والسجود ذكر بالجوارح والخشوع والخضوع والمراقبة ذكر قلبي، قوله: أي خالياً وبعيداً عن الخلق، قوله: (ذكرته في نفسي) أي أعطيه عطايا لا يعلمها غيري، قوله: (ومن ذكرني في ملأ) أي بين الناس، قوله: (ذكرته في ملأ) أي أعطيته عطايا ظاهرة لعبادي وأظهر فضله لهم، إن قلت إن الإنسان قد يذكر الله بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم كالصحابة فأي ملأ خير من النبي، قلت أجيب بأن الشيء يشرف بما نسب إليه، فإن المجلس ينسب لكبيره وفرق بين حضرة الله وملائكته، وبين حضرة النبي وأصحابه، وأيضاً كون النبي في حضرة الله اشرف من نفسه في حضرة أصحابه، فمعنى قوله خير من ملئه ذكرته في حضرة النبي والملائكة المقربين في الملأ الأعلى، ولا شك أن تلك الحضرة لا يعدلها شيء أبداً، والملأ بالقصر الجماعة الأشراف قوله: (خير) بالجر صفة الملأ وقيل معنى اذكروني تذللوا لجلالي، أذكركم أكشف الحجب عنكم وأفيض عليكم رحمتي وإحساني وأحبكم وأرفع ذكركم في الملأ الأعلى لما في الحديث:" ومن تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً "وفي الحديث أيضاً" إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه " فيحبه جبريل، ثم ينادى في السماء إن الله يجب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض "وهذا من جملة الثمرات المعجلة، وأما المؤجلة فرؤية وجهه الكريم ورفع الدرجات وغير ذلك وينبغي للإنسان أن يذكر الله كثيراً لقوله تعالى:﴿ وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾[الأحزاب: ٣٥] ولا يلتفت لواش ولا رقيب، لقول السيد الحفني خطاباً للعارف بالله تعالى إستاذنا الشيخ الدردير: يا مبتغي طرق أهل الله والتسليك   دع عنك أهل الهوى تسلم من التشكيكإن اذكروني لرد المعترض يكفيك   فاجعل سلافاً الجلالة دائماً في فيكولا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه، فربما ذكر مع غفلة يجر لذكر مع حضور، لأنهم شبهوا الذكر بقدح الزناد، فلا يترك الإنسان القدح لعدم إيقاده من أول مرة مثلاً بل يكرر حتى يوقد، فإذا ولع القلب نارت الأعضاء فلا يقدر الشيطان على وسوسته، لقوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ ﴾[الأعراف: ٢٠١] وخفت العبادة على الأعضاء فلا يكون على الشخص كلفة فيها، قال العارف: إذا رفع الحجاب فلا ملالة   بتكليف الإله ولا مشقةويكفي الذاكر من الشرف قول قول الله تعالى في الحديث القدسي" أنا جليس من ذكرني "وقوله تعالى:﴿ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾[الأنفال: ٤٥] وهل الأفضل الذكر مع الناس أو الذكر في خلوة، والحق التفصيل، وهو إن كان الإنسان ينشط وحده ولم يكن مدعواً من الله لهداية الناس فالخلوة في حقه أفضل، وإلا فذكره مع الناس أفضل إما لينشط أو ليقتدي الناس به، نسأل الله أن يجعلنا من أهل ذكره.
قوله: ﴿ وَٱشْكُرُواْ لِي ﴾ الحق أنه يتعدى بنفسه وباللام والمعنى واحد وهو من عطف الخاص على العام، والنكتة في ذلك بيان أعلى المقاصد في الذكر، فإن المقاصد في الذكر مختلفة، فمن قصد بذكره الدنيا فقط فهو دنيء، ومن قصد بذكره دخول الجنة والنجاة من النار فهو أعلى من الأول، ومن قصد بذكره شكر الله على خلقه إياه وإنعامه عليه ولم يقصد غيره فهو من المقربين لما في الحديث" أفلا أكون عبداً شكوراً ". قوله: ﴿ وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ أي لأن حقيقة الشكر أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، فمعنى لا تكفرون لا تصرفوا نعمي في غير ما خلقتها له. قوله: (على الطاعة) أي على دوامها سواء كانت الطاعة فعلاً أو تركاً. قوله: (والبلاء) أي المصائب بأقسام الصبر ثلاثة: صبر على الطاعة بدوام فعلها، وصبر عن المعصية بدوام تركها، وصبر على البلاء بحمد الله وشكره عليها فيكون شاكراً على السراء والضراء، وأعظمها الصبر عن المعاصي، وأقل منه الصبر على الطاعة، وأقل منهما الصبر على البلاء لأنه ورد أن الصابر على البلاء يرفعه الله ثلاثمائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض مرة والصابر على دوام الطاعة يرفعه يرفع الله ستمائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض مرة والصابر عن المعصية يرفعه الله تسعمائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ثلاث مرات.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ ﴾ خصهم وإن كان الله مع كل أحد لأن المراد معية مخصوصة وهي العون والإغاثة، وأما المعية مع كل أحد فمعية علم وقدرة يتصرف فيهم كيف شاء، وأما الصابرون فهم المحبوبون لله لقوله في الحديث:" ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه "حديث.
قوله: ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ ﴾ هذه الآية نزلت في قتلى بدر وكان المقتول من المسلمين أربعة عشر: ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، لما قال المشركون والمنافقون هؤلاء قد ماتوا وضيعوا على أنفسهم الحياة ولذاتها وقد ادعوا أنهم ماتوا في مرضاة محمد فنزلت هذه الآية. قوله: (هم) ﴿ أَمْوَاتٌ ﴾ اشار بذلك إلى أن أموات خبر لمبتدأ محذوف والجملة في محل نصب مقول القول، والمعنى يحرم قول ذلك للشهيد لأنه ليس بموت حقيقة، وإنما هو انتقال من دار الكدر إلى دار الصفا ومن دار الحزن إلى دار السرور. قوله: ﴿ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ ﴾ أي وهم الشهداء وسموا بذلك لأن أرواحهم شهدت دار السلام عند خروجها من البدن، أو لأن الملائكة تشهد له بنصره لدين الإسلام. قوله: ﴿ بَلْ ﴾ (هم) ﴿ أَحْيَاءٌ ﴾ أي حياة أخروية بالجسم والروح ليس كحياة أهل الدنيا، لا يشاهدها إلا أهل الآخرة ومن خصه الله بالإطلاع عليها وهذا هو التحقيق خلافاً لمن قال إنهم أحياء بالروح فقط لأنه يرد بأن كل انسان حي الروح مسلماً كان أو كافراً لعدم فناء الروح ولا مزية للشهيد على غيره وهذه الحياة حقيقة، وإنما خروج روحه انتقال من دار إلى أخرى وهي مزية من مزايا الأنبياء فلا يقال إنهم ساووهم، وحكمة عدم تغسيل الشهداء بقاء دمهم ليشهد لهم يوم القيامة، لما في الحديث" زملوهم بثيابهم اللون لون الدم والريح ريح المسك "وأما تغسيل الأنبياء فتعبدي أو للتشريع ولا تأكل الأرض أجساد الشهداء. قوله: (أرواحهم في حواصل الطير الخ) أي كالهودج لها، وأما أرواح المؤمنين المطيعين الغير الشهداء فتنعم خارج الجنة بريحها ومأواها البرزخ، وأما أرواح العصاة والكفار فهي مسجونة لا تصرف لها، وأما أرواح الأنبياء فورد أنها تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش في الجنة، وأما أرواح صغار المؤمنين ففي الجنة في كفالة إبراهيم وسارة. قوله: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لنبلونكم ونبلون جوابه، واقترن باللام ولنون لكونه مضارعاً مثبتاً مستقبلاً، والمعنى لنختبركم أيها المؤمنون لما في الحديث" الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر "أو ولو كان المؤمن في غاية نعيمها والكافر في أشد ضيقها. قوله: (القحط) هو في الأصل تخلف المطر وهو سبب في الجوع، فقد فسر الشيء بسببه. قوله: (بالجوائح) أي الآفات المتلفة للزرع ونحوه. قوله: (أي لنختبركم) أي لنظهر ذلك للملائكة ولبعضكم فمن صبر فله الرضا، ومن جزع فله السخط. قوله: (بالجنة) متعلق ببشر، والمعنى بشرهم بالجنة من غير سابقة عذاب. قوله: (هم) ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ أشار بذلك إلى أن الذين خبر لمبتدأ محذوف وقاع في جواب سؤال مقدر قيل نعت مقطوع، وقيل إن الذين نعت للصابرين وهو أحسنها، وقيل منصوب على المدح بفعل محذوف تقديره أمدح، وقيل مبتدأ خبره قوله أولئك. قوله: ﴿ مُّصِيبَةٌ ﴾ أي مصيبة كانت سواء كانت فقد مال أو نفس أو جوعاً أو خوفاً أو غير ذلك. قوله: ﴿ إِنَّا للَّهِ ﴾ أي مملوكون ومخلوقون له يتصرف فينا على ما أراد، وهذه المقالة من خصائص هذه الأمة، ولو كانت لغيرهم لكانت ليعقوب حين فقد يوسف فقال يا أسفا. قوله: ﴿ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ أي صائرون. قوله: (من استرجع) أي قال إن لله وإنا إليه راجعون. قوله: (آجره الله فيها) أي بسببها وفي المصباح أجره الله أجراً من بابي ضرب وقتل وآجره بالمد لغة ثالثة إذا أثابه. قوله: (وأخلف عليه خيراً) أي منها إما في الآخرة فقط أو فيها وفي الدنيا، فمن رضي بأحكام الله وصبر على ما أصابه فله الرضا من الله، ولكل مصيبة دواء إلا الموت على الكفر والعياذ بالله تعالى، قال بعضهم: لكل شيء إذا فارقته عوض   وليس لله إن فارقت من عوضقوله: (إنما هذا مصباح) أي شيء قليل.
قوله: ﴿ صَلَوَاتٌ ﴾ جمع صلاة وهي المغفرة كما فسر بذلك المفسر، وجمعها إشارة إلى أنه لا يبقى عليهم ذنوب أبداً بل عليهم مغفرة متكررة، قوله: (نعمة) دفع بذلك ما يقال إن الصلاة هي الرحمة، فعطف الرحمة عليها مرادف فيما حكمة التكرار، فأجاب المفسر بمنع ذلك، وأن العطف مغاير، فالصلاة محو الذنوب والرحمة العطايا فهو من باب التحلية بعد التخلية، وقد ورد إطلاق الصلاة على المغفرة، ففي الحديث" اللهم صل على آل أبي أوفى "أي اغفر لهم، وفي الحديث أيضاً" إن الملائكة لتصلي على أحدكم ما دام في الصلاة تقول اللهم اغفر له "وقيل إن الصلاة بمعنى الرحمة والعطف مرادف وحكمة التكرار الإشارة لتوالي الرحمات والنعم والرضا عليه، حيث رضي بأحكام سيده وحبس نفسه ما تركه. قوله: ﴿ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ ﴾ أي الكاملون في الهدى، فإن الرضا عن الله في كل حال من علامات الهدى الكامل.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلصَّفَا ﴾ جمع صفاة اسم للحجر الأملس، والمراد هنا الجبل المعروف الذي يبتدأ السعي منه. قوله: ﴿ وَٱلْمَرْوَةَ ﴾ في الأصل اسم للمكان الرخو، والمراد هنا الجبل الذي ينتهي السعي إليه، قوله: (جبلان بمكة) أي بجوار المسجد الحرام. قوله: ﴿ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ ﴾ أي من أمور دين الله التي تعبدنا بها فمن أنكر كون السعي من أمور الدين فقد كفر. قوله: ﴿ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ ﴾ الحج في اللغة القصد واصطلاحاً عبادة، يلزمها طواف بالبيت سبعاً وسعي بين الصفا والمروة كذلك، ووقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة على وجه مخصوص. قوله: ﴿ أَوِ ٱعْتَمَرَ ﴾ العمرة في اللغة الزيادة واصطلاحاً عبادة، يلزمها طواف وسعي على وجه مخصوص. وله: (وأصلهما القصد إلخ) لف ونشر مرتب. قوله: (فيه إدغام التاء في الأصل) أي فأصله يتطوف قلبت التاء طاء ثم أدغمت في الطاء. قوله: (لما كره المسلمون) أي حين كرهوا ذلك. قوله: (وعليهما صنمان) أحدهما يسمى أسافاً والثاني يسمى نائلة، قيل كانا على صورة رجل وامرأة، وذلك أن رجلاً اسمه أساف وامرأة اسمها نائلة زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين على صورتهما الأصلية، فلما تقدم الزمان عبدتهما الجاهلية، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك ونسخه. قوله: (غير فرض) أي ووافقه على ذلك أبن حنبل. قوله: (من التخيير) ليس المراد أنه مباح بل هو مطلوب بدليل ضم أول الآية لأخرها. قوله: (غيره) أي وهو مالك. قوله: (إن الله كتب عليكم السعي) تمامه " فاسعوا " وأصل الحديث" اسعوا فإن كتب عليكم السعي "فتحصل أن الآية ليست صريحة في الفرضي ولا في الوجوب وإنما أخذ ذلك من السنة. قوله: (وفيه إدغام التاء) أي بعد قلبها طاء. قوله: (أي بخير) أشار بذلك إلى أن خيراً منصوب بنزع الخافض. قوله: (من طواف وغيره) أي كسعي في حج أو عمرة أو طواف مطلقاً، لأن عبادة الطواف لا تقيد بالنسك بخلاف السعي. قوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ ﴾ هذا دليل الجواب وليس هو الجواب بل هو محذوف تقديره شكره الله لأن الله شاكر عليم، والشكر في الأصل مجازاة أصحاب الحقوق عليها، وليس ذلك مراداً في حق مولانا، وإنما المراد عاملناه معاملة الشاكر بأنه ألزم نفسه الجزاء من فضله لأنه كريم واسع العطاء. قوله: (ونزل في اليهود) أي في أحبارهم ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وعبد الله بن صوريا قوله: (الناس) قدره المفسر إشارة إلى أنه مفعول يكتمون الثاني، والمعنى يكتمون الحق عن الناس بحيث يظهرون الباطل ويخفون الحق من نعت محمد وغيره. قوله: ﴿ مَآ أَنزَلْنَا ﴾ أي الشيء أو الذي أنزلناه، وقوله من البينات بيان لما، والمراد بالبينات الآيات الواضحات التي من أذعن لها فقد اهتدى، وعطف الهدى عليها للتفسير. قوله: (كآية الرجم) أي الكائنة في التوراة، وهي أن من زنى يرجم فمحوها وقالوا لم يكن ذلك عندنا فحصل منهم التكذيب لنبيهم. قوله: (ونعت محمد) أي صفاته وأخلاقه من مولده إلى إنتهاء أجله، وهذان مثالان للبينات والهدى معاً لأن بالآيات يحصل الهدى. قوله: ﴿ لِلنَّاسِ ﴾ أي عموماً. قوله: ﴿ أُولَـٰئِكَ ﴾ مبتدأ وجملة يلعنهم الله خبره وأتى بإشارة البعيد إشارة لبعدهم عن رحمة الله. قوله: (والمؤمنون) أي من غيرهم كلإنس والجن. قوله: (أو كل شيء) أي حتى الجمادات والحيتان في البحر، ويشهد له الحديث" العاصي يعلنه كل شيء حتى الحيتان في البحر ". وأو لتنويع الخلاف، ثم إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا الوعيد وإن كان وارداً في كل شيء خاص إلا أنه لكل من كتم علماً، ومنه شاهد الزور والمفتي بغير الحق. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ﴾ استثناء متصل أفاد به أن اللعنة معلقة. قوله: (رجعوا عن ذلك) أي الكتمان بأن أنصفوا من أنفسهم وأسلموا فهذا الوعيد خاص بمن مات كافراً، وأما من مات مؤمناً ولو عاصياً فليس له هذا الوعيد، ولا يجوز الدعاء باللعنة على المعين ولو كافراً إلا أن يثبت موته على الكفر، وأما غير المعين فيجوز على الكافر والعاصي. قوله: ﴿ وَأَصْلَحُواْ ﴾ (عملهم) أي في المستقبل كعبد الله بن سلام وأضرابه. قوله: (ما كتموا) أي من البينات والهدى، ويحتمل أن قوله تعالى وبينوا أي التوبة. قوله: ﴿ فَأُوْلَـئِكَ ﴾ أتى بإشارة البعيد إشارة لرفعة رتبتهم على رتبة غيرهم على حد (ذلك الكتاب). قوله: ﴿ وَأَنَا التَّوَّابُ ﴾ أي الكثير القبول لتوبة من تاب، والجملة حالية من فاعل أتوب. قوله: (بالمؤمنين) أي ولو عصاة والمراد من مات مسلماً. قوله: ﴿ إِن الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أي أحباراً أو غيرهم، وقوله: ﴿ وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾ أي استمروا على الكفر حتى ماتوا عليه. قوله: (أي هم مستحقون ذلك) أشار بذلك لدفع التكرار، كأنه قال: المراد باللعنة الأولى حصولها بالفعل وبالثانية استحقاقها، وفي الحقيقة لا تكرار لأن ما تقدم في الكفار من أحبار اليهود وهذا في الكفار عموماً. قوله: (قبل عام) أي حتى الكفار لأنه يلعن بعضهم بعضاً. قوله: (وقيل المؤمنون) أي من الإنس والجن والملائكة. قوله: (أي اللعنة) أي ويلزم من خلوده في اللعنة خلوده في النار. قوله: (المدلول بها) أي اللعنة وقوله أي عليها أي النار. قوله: (طرفة) أي مقدار وتغميض العين وفتحها العادي. قوله: (يمهلون) أشار بذلك إلى أنه من الإنظار بمعنى الإمهال والتأخير، قال تعالى:﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ ﴾[النساء: ٥٦] أجارنا الله والمسلمين من النار. قوله: (ونزل) أي بمكة لأن هذه الآية وما بعدها مكية وإن كانت السورة مدنية. قوله: (لما قالوا) أي مشركوا العرب وكانوا إذ ذاك يعبدون ثلاثمائة وستين صنماً حول الكعبة، نزلت سورة الإخلاص أيضاً رداً عليهم.
قوله: ﴿ وَإِلَـٰهُكُمْ ﴾ مبتدأ وإله خبره وواحد صفته وهو محط الفائدة على حد: مررت بزيد رجلاً صالحاً، فهي كالحال الموطئة، وقوله لا إله إلا هو خبر ثاني مؤكد لما قبله لقصد الإيضاح. قوله: (لا نظير له إلخ) فيه نفي الكموم الخمسة وتوضيحه أن قوله لا نظير له في ذاته، أي إن ذاته ليست مركبة من أجزاء وليس لأحد ذات كذاته ولا في صفاته، اي ليست صفاته متعددة من جنس واحد، بمعنى أنه ليس له علمان ولا سمعان إلى آخرها، وليس لأحد صفة كصفات مولانا، فهذه أربعة كموم متصلان في الذات والصفات ومنفصلان فيهما، ، والخامس المنفصل في الأفعال بمعنى أنه ليس لأحد فعل مع الله وأما المتصل فيها فهو ثابت لا ينفى لأن أفعاله على حسب شؤونه في خلقه. قوله: ﴿ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ أي لا معبود بحق موجود إلا هو أي إلهكم، وفي الكلام تغليظ لهم، وإعرابه لا نافية للجنس تعمل عمل إن. إله اسمها مبني على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف تقديره موجود، وإلا أداة حصر وهو ضمير منفصل بدل من الضمير المستتر في الخبر، والتقدير: لا إله موجود هو إلا هو، وقوله الرحمن الرحيم خبر ثالث. والمقصود من تعدد الأخبار أيضاً أمر الإله لهم وتبكيت لهم لالزامهم الحجة وهذه الطريقة، ومشى المفسر على أن الرحمن الرحيم خبر لمبتدأ محذوف، وكل صحيح. قوله: (وطلبوا آية) أي دليلاً على ما تقدم من الدعاوى، فإن قوله وإلهكم إله واحد دعوى أولى، وقوله لا إله هو دعوى ثانية، وقوله الرحمن الرحيم دعوى ثالثة.
قوله: (نزل) ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ أي إلى قوله لآيات وهي ثمانية أشياء في كل شيء منها آيات فهو إجابة بالمطلوب وزيادة: وفي كل شيء له آية   تدل على أنه الواحدوإن حرف نصب وتوكيد وفي خلق السماوات جار ومجرور خبر مقدم ولآيات اسمها مؤخر وحذفه من الأول لدلالة الأخير عليه كأنه قال واختلاف الليل والنهار لآيات والفلك التي تجري في البحر لآيات وهكذا، وقوله في خلق اطلق المصدر وأراد المفعول أي مخلوق هو السماوات والأرض، وقد جعل الخازن السماء مع الأرض شيئاً واحداً من ثمانية أشياء، وقوله بما ينفع الناس شيء مستقل. قوله: (وما فيهما من العجائب) أي فعجائب السماوات رفعها بلا عمد، وكو الشمس في السماء الرابعة مع إضاءتها لأهل الأرض ونفعها لهم النفع التام، وإضاءة النجوم لأهل الأرض واهتدائهم بها مع كونهم ثوابت في العرش وهكذا، وعجائب الأرض مدها وبسها وتثبيتها بالجبال الرواسي وهكذا قال تعالى:﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾[ق: ٦-٧] وأفرد الأرض ولم يجمعها كالسماوات لأتحاد جنسها وهو الماء والتراب واختلاف جنس السماوات. قوله: (بالذهاب والمجيء) أشار بذلك إلى وجه اختلافهما. ومن جملة عجائب الليل كونه مقمراً أو مظلماً وكونه طويلاً على أناس دون غيرهم، ومن جملة عجائب النهار طوله على أناس دون غيرهم، فقد يكون الفجر عند القوم هو العصر عند أخرين وغير ذلك، وقدم الليل على النهار لأنه سابقه على الأصح لأن الظلمة سابقة على النور وقيل يسبق النهار وينبني على هذا الخلاف فائدة وهي أن الليلة تابعة لليوم قبلها أو لليوم بعدها فعل الصحيح تكون الليلة تابعة لليوم بعدها، وعلى مقابله تكون تابعة لليوم قبلها، فيوم عرفة مستثنى على القول الأول لأنه تابع لليلة بعده، ولا يرد قوله تعالى:﴿ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ ﴾[يس: ٤٠] لأن المعنى ليس الليل يسبق النهار بحيث يأتي قبل انقضاء النهار بل كل يلزم الحد الذي حده الله له. قوله: ﴿ وَٱلْفُلْكِ ﴾ يستعمل مفرداً وجمعاً بوزن احد والتغاير بالوصف، يقال فلك مشحونة وفلك مشحونات. قوله: ﴿ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ ﴾ أي يسيرها ا لله بالريح مقبلة ومدبرة، قال تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ ﴾[الشورى: ٣٢].
قوله: (ولا ترسب) أي لا تسقط لأسفل. قوله: (موقرة) أي حاملة للإثقال. أشار به إلى أن قوله بما ينفع النسا متعلق بمحذوف هو الشيء الرابع قوله: ﴿ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ ﴾ أي ومن جملة منافعهم اتصال الأقطار بعضها ببعض من حيث انتفاعهم بما في القطر الآخر من الزروع وغيرها، فلولا تسخير السفن لاستقل كل قطر بما فيه وضاق على الناس معاشهم. قوله: ﴿ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ ﴾ من الأولى ابتدائية والثانية يصح أن تكون بيانية أو للتبعيض. قوله: ﴿ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ ﴾ أي أظهر ما فيها من النضارة والبهجة. قال تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾[فصلت: ٣٩].
قوله: (لأنهم ينمون بالخصب) أي فإذا كثرت المراعي شبعث البهائم فيأتي منها النسل، وإذا كثرت الأقوات شبعت النار فتأتي منهم الذرية. قوله: (وشمالاً) هي ما جاءت من جهة القطب والجنوب ما قابلتها، والصبا ما جاءت من مطلع الشمس والدبور ما قابلتها. قوله: (حارة وباردة) أي وتأتي بالخير والشر ففي الحديث" نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور "والحاصل أن الريح تنقسم إلى قمسين رحمة وعذاب، ثم إن كل قسم ينقسم إلى أربعة أقسام ولكل قسم اسم، فأسماء أقسام الرحمة المبشرات والنشر والمرسلات والرخاء، وأسماء أقسام العذاب العاصف والقاصف وهما في البحر والعقيم والصرصر وهما في البر، وقد جاء في القرآن بكل هذه الأسماء، وقد نزل الأطباء كل ريح على طبيعة من الطبائع الأربع، فطبع الصبا الحرارة واليبس وتسميها أهل مصر الشرقية لأن مهبها من الشرق وتسمى قبولاً لاستقبالها وجهة الكعبة. وطبع الدبور البرد والرطوبة وتسميها أهل مصر الغربية لأن مهبها من الغرب وهي تأتي من دبر الكعبة، وطبع الشمال البر واليبس وتسمى البحرية لأن يسار بها في البحر على كل حال وقلما تهب ليلاً، وطبع الجنوب الحرارة وتسمى القبيلة لأن مهبها من مقابلة القطب وهي عن يمين مستقبل المشرق وتسميها أهل مصر المريسية وهي من عيوب مصر المعدودة فإنها إذا هبت عليهم سبع ليال استعدوا للأكفان. قوله: ﴿ وَٱلسَّحَابِ ﴾ أصله طرح شجرة في الجنة جعله الله محمولاً للريح يسير حيث شاء الله، فسيره أعجب من سير المراكب على ظهر البحر. قوله: (بلا علاقة) أي بلا شيء يتعلق به ويحفظه من السقوط. قوله: (يتدبرون) أي يتفكرون ويتأملون في عجائب قدرته فيعملون أنه قادر على كل شيء، فهذا الدليل من تمسك به وأتقنه كفاه في عقائد إيمانه، وأما المقلد فهو من لم يحضر العلماء ولم يجلس بين أيديهم ولا يعرف الأرض من السماء كالبهائم.
قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ ﴾ هذه الآية ودرت لاستعظام ما وقع من بعض بني آدم من الكفر بعد ثبوت البراهين القطعية، كأن الله يقول: اعجبوا لكفر بعض العبيد مع ثبوت الآدلة على وحدانيته تعالى، والجار والمجرور خبر مقدم، ومن يتخذ مبتدأ مؤخر، وهو اسم موصول وما بعد صلته أو نكرة موصوفة وما بعده صفة، قوله: ﴿ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ هي في الأصل ظرف مكان للمكان الأدنى، يقال: جلس فلان في مكان دون مكان زيد يعني أدنى منه، ثم أطلق الدون، وأريد الغيرية من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم لكن صار حقيقة عرفية في الغير. قوله: ﴿ أَندَاداً ﴾ مفعول يتخذ وقوله يحبونه صفة لأنداداً، وفاعل يحبونهم عائد على من باعتبار المعنى وأفرد في يتخذ مراعاة للفظ. قوله: (أي كحبهم له) أي كحب المشركين فقد سووا في المحبة بين الله والأنداد، ويحتمل أن المعنى كحب المؤمنين لله فمحبة المؤمنين لله فمحبة المشركين للأصنام كمحبة المؤمنين لله وهو الأقرب، واستشكل الأول بأنه لا يتأتى من عاقل التسوية في المحبة بين من يخلق ومن لا يخلق، أجاب المفسر بأن المراد بالحب التعظيم والخضوع وليس المراد الحب الحقيقي، فإن كل إنسان جبل على محبة خالقه. قوله: ﴿ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ ﴾ أي فقد انفرد المؤمنون بمحبة الله، وأما محبة مثل الأنبياء والأولياء فمن المحبة لله، إن قلت إن الكفار كذلك يحبون الأنداد ليقربوهم إلى الله زلفى فيقتضي أنها أيضاً من المحبة لله. أجيب بأنهم كفروا بعبادتهم لهم لا بمجرد المحبة ففرق بين المحبة والعبادة، فلا يعبد إل الله لا غيره، بخلاف المحبة من أجل كون ذلك المحبوب مقرباً مثلاً من الله كالأنبياء والأولياء ولذلك من عبدهم فقد كفر. قوله: (لأنهم لا يعدلون عنه بحال) أي فهذا وجه الأشدية. وحاصل ما قرره المفسر أن المشركين سووا الأنداد في المحبة بالله، والمؤمنين انفردوا بمحبة الله، ومع ذلك فهي أشد من محبة المشركين للأنداد، وقرر غيره أن قوله تعالى: ﴿ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ ﴾ أي من جهة أن المحبة من الطرفين، فالمؤمنون يحبون الله ويحبهم الله، وأما المشركون فلا يخلو إما أن يكون معبودهم عاقلاً أم لا فالأول يلعنهم ولا يحبهم، والثاني لا يوصف بحب ولا بغض على أنه يصير حصباً لهم في نار جهنم يعذبون به، فمبحة الله للعبد سابقة على محبة العبد لله، لأن الله هو الخالق للخير والهدى في القلوب، فحيث خلق الله في قلب الشخص النور والهدى والمحبة وفق العبد للرضا عنه ومحبته له وامتثاله أمره ونهيه، ولذا قال بعض العارفين: أيها المعرض عنا   إن إعراضك منالو أردنا جعلنا   كل ما فيك يردناوإنما قال أشد حباً ولم يقل أحب، لأن اسم التفضيل لا يصاغ من الفعل المبني للمجهول، وحيث اختل منه شرط توصل له بأشد أو أشدد. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ ﴾ أظهر في محل الإضمار زيادة في التشنيع عليهم، والمراد بالظلم الكفر. قوله: (باتخاذ الأنداد) الباء للسببية ومفعول ظلموا محذوف تقديره أنفسهم. قوله: (يبصرون) على القراءة الأولى هو بضم الياء مع سكون الباء وكسر الصاد، وعلى الثانية بضم الياء وفتح الباء مع تشديد الصاد. قوله: ﴿ ٱلْعَذَابَ ﴾ مفعول لقوله يرون. قوله: (لرأيت أمراً عظيماً) هذاهو جواب لو الشرطية. قوله: (إذ بمعنى إذا) جواب عن سؤال وهو أن إذ ظرف للماضي ورؤية العذاب مستقبل فالمحل لإذا فأجاب بذلك أو أنه نزل المستقبل منزلة الماضي لتحقق الحصول. قوله: (أي لأن) أشار بذلك إلى أنه علة لجواب لو أي رأيت أمراً عظيماً لكون القوة جميعها لله، فلا تخش من إمهالهم الفوات والهروب. قوله: ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ ﴾ هذا لدفع توهم الكافر أنه وإن كانت له القوة جميعاً يمكن أن يسامح في ذلك فقال إن الله شديد العذاب. قوله: (قيل ضمير السامع) أي والذين ظلموا مفعوله والجواب محذوب تقديره لرأى أمراً فظيعاً. قوله: (فهي بمعنى يعلم) أي فتنصب مفعولين. قوله: (وأن) أي الأولى. قوله: (سدت مسد المفعولين) أي فهذا موجب فتحها، ويجوب فتحها أيضاً تأويلها بمصدر. قوله: (والمعنى) أي على هذا الوجه الأخير. قوله: (وقت معاينتهم) هذا تفسير لإذ. قوله: (لما اتخذوا) هذا هو جواب الشرط. قوله: (إي الرؤساء) أي كفرعون والنمروذ وعبد الله بن سلول وحيي بن أخطب وغيرهم. قوله: (أي أنكروا إضلالهم) أي قالوا يا ربنا لم نضل هؤلاء بل ضلوا في أنفسهم وكفروا بإرادتهم. قوله: (عنهم) أشار بذلك إلى أن الباء بمعنى عن على حد (فاسأل به خبيراً). قوله: (من الأرحام) قال تعالى:﴿ يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴾[عبس: ٣٤-٣٦].
قوله: (ونتبرأ جوابه) أي فهو منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية. قوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ أي يتحاجون ولا تنفعهم المحاججة. قوله: (وتبرأ بعضهم) معطوف على أراهم أي مثل ما أراهم شدة العذاب ومثل ما تبرأ بعضهم يريهم. قوله: ﴿ أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي جزاءها. قوله: (حال) أي من أعمالهم. قوله: (ندامات) جمع ندامة. قوله: (ونزل فيمن حرم السوائب) أي وهم قبائل العرب حرموا أموراً لم يرد تحريمها من الشرع، والسوائب جمع سائبة والمراد بها في عرف الجاهلية الناقة أو البعير المنذورة للصنم. كان يقول الواحد منهم: إن قدمت من سفري فناقتي أو بعيري سائبة للأصنام، فتصير لا ملك لأحد عليها ولا تؤكل وإن ذكيت. قوله: (ونحوها) أي كالبحيرة والوصيلة والحام، فالبحيرة هي المنذورة اللبن للأصنام، والوصيلة التي تبكر بالأنثى ثم تتبعها بالأنثى فإن الأم صارت عتيقة الأنصام لا يحمل عليها ولا يؤكل لبنها ولا لحمها، والحام فحل الإبل يضرب مدة في الإبل معلومة فإذا استوفاها صار عتيقاً للأصنام، وسيأتي إيضاح ذلك. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ هذا خطاب لأهل مكة ولا ينافيه كون السورة مدنية فإن ذلك من حيث النزول. قوله: ﴿ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ من للتبعيض لأن بعض ما في الأرض لا يجوز أكله، كالحجارة والخنزير وما رود تحريمه. قوله: (صفة مؤكدة) أي فمعنى الطيب الحلال، وقوله: (أي مستلذاً) أي لنفس المؤمن وهو ما عدا الحرام، هكذا في نسخة، وفي نسخة أخرى أو مستلذاً وهي أولى فعليها هو صفة مخصصة، فإن الحلال بعضه غير مستلذ كالصبر والمر، وبعضه مستلذ كالسمن والعسل، والحاصل أنه إن أريد بالمستلذ الشرعي وهو ما عدا الحرام فالصفة مؤكدة ويناسبها نسخة أي مستلذاً، وإن أريد به المستلذ الطبعي أي الذي لا يمجه الطبع فالصفة مخصصة ويناسبها نسخة أو مستلذاً. قوله: ﴿ خُطُوَاتِ ﴾ بسكون الطاء وضمها قراءتان سبعيتان، وقرأ أبو السماك بفتح الخاء والطاء. قوله: (أي تزيينه) أي فأطلق الخطوات التي هي ما بين القدمين وأراد التزيين، والجامع بينهما الإتباع في كل. قوله: ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ ﴾ هذا علة للنهي عن ابتاع تزيينه. قوله: (بين العداوة) أي للصالحين. وأما غيرهم فلا يظهر عداوته لمصاحبتهم له، ويقرب ذلك البيت الذي فيه النور فإنه يبين فيه كل مؤذ بخلاف غيره.
قوله: ﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِٱلسُّوۤءِ ﴾ هذا كالعلة لقوله إنه لكم عدو مبين، والسوء اسم جامع لما يغضب الله كان فيه حد أو لا سمي بذلك لأنه بسوء صاحبه، فعطف الفحشاء عليه من عطف الخاص على العام لأن المراد بها الكبائر، وكلام المفسر يريد أن السوء والفحشاء مترادفان وكل صحيح. قوله: ﴿ وَأَن تَقُولُواْ ﴾ معطوف على السوء أي وقولهم على الله. قوله: (من تحريم ما لم يحرم) أي كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقوله: (وغيره) أي كاتخاذ أنداد غير الله. قوله: (من التوحيد) أي فلا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئاً. قوله: (وتحليل الطيبات) أي كالبحائر والسوائب والوصيلة والحام وهو لف ونشر مرتب، فإن قوله من التوحيد راجع لقوله ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً، وقوله وتحليل الطيبات راجع لقوله يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً. قوله: ﴿ قَالُواْ ﴾ (لا) أي لا تتبع ما أنزل الله، وقوله بل نتبع بل للإضراب الإبطالي وهو معطوف على جملة محذوفة، أشار لها المفسر بتقدير لا قيل كل اضراب في القرآن انتقالي أي يفيد الإنتقال من قصة إلى قصة إلا هذه، وإلا بل في قوله تعالى:﴿ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾[السجدة: ٣]، فمحتمل للأمرين، فإن اعتبرت قوله أم يقولون افتراه كان انتقالياً، وإن اعتبرت افتراء وحده كان ابطالياً. قوله: (وجدنا) إن كانت وجد بمعنى أصاب نصبت مفعولاً واحداً وهو آباؤنا وقوله عليه ظرف لغو متعلق بألفينا، وإن كانت بمعنى علم نصبت مفعولين عليه وآباؤنا. قوله: (من عبادة الأصنام) راجع للفريق الأول، وقوله تحريم السوائب إلخ راجع للفريق الثاني، فهو لف ونشر مرتب. قوله: ﴿ أَ ﴾ (يتبعونهم) أشار بذلك إلى أن الهمزة للإنكار داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والجملة حالية فالواو للحال أيضاً. قوله: ﴿ وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً ﴾ أي فهم تابعون لهم سواء ظهر لهم عقل آبائهم وهداهم أو شكوا في ذلك، بل ولو ظهر لهم عدم عقلهم وعدم هداهم. قوله: (والهمزة للإنكار) أي والتوبيخ والتعجب، والمعنى لا يليق منك بذلك.
قوله: ﴿ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي المدعوين وقوله: (ومن يدعوهم) أي كالأنبياء فقد حذف الداعي من هنا وذكر ما يدل عليه بقوله كمثل الذي ينعق، والمعنى أن مثل الكفار في عدم سماع المواعظ والآيات والبراهين القطيعة ومثل داعيهم وهو النبي في تكرار المواعظ والآيات، كمثل راع يرشد البهائم الوحشية بصوته إلى مصالحها، فكما أن البهائم الوحشية لا ينفع فيها الصوت ولا تفهمه ولا تعقل معناه، بل لا يرشدها إلا الضرب مثلاً، كذلك الكفار لا تنفع فيهم المواعظ والآيات، بل جزاؤهم في الدنيا السيف وفي الآخرة النار وعذابها. قوله: ﴿ لاَ يَسْمَعُ ﴾ الباء بمعنى على. قوله: ﴿ وَنِدَآءً ﴾ عطف مرادف. قوله: (كالبهائم) أي الوحشية وإلا فالإنسية ربما تسمع صوت راعيها وتنزجر به. قوله: (هم) ﴿ صُمٌّ ﴾ أشار بذلك إلى صم وما عطف عليه خبر لمبتدأ محذوف، وقوله صم أي لا يسمعون المواعظ ولا ينزجرون بها، وقوله: ﴿ بُكْمٌ ﴾ أي لا ينطقون بالحق، وقوله عمي أي لا ينظرون الهدى ولا يتبعونه وإن كانت صورة الحواس موجودة. قوله: ﴿ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ نتيجة ما قبله. تنبيه: ما حل به المفسر هذه الآية هو أظهر التفاسير لأنهم اختلفوا في ذلك فمنهم من قال مثل ما قال المفسر، ومنهم من قال إن المثل مضروب لتشبيه الكافر في دعائه للأصنام بالناعق على البهائم، ومنهم من قال غير ذلك. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ جرت عادة الله في كتابه غالباً ومناداة أهل مكة بيا أيها الناس، ومناداة أهل المدينة بيا أيها الذين آمنوا. قوله: (حلالات) أي مستلذة كانت أو لا أو المراد المستلذات وتقدم ذلك، ويطلق الطيب في المأكولات على الطاهر، قال تعالى:﴿ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً ﴾[النساء: ٤٣] وقوله من طيبات من تبعيضية في موضع المفعول، والأمر للوجوب بالنسبة لإقامة البنية، وللندب بالنسبة للإستعانة على أمور مندوبة، وللإباحة إن كان تفكهاً أو تبسيطاً. قوله: ﴿ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ يصع أن تكون ما مصدرية أي من طيبات رزقنا إياكم أو اسم وصول. والجملة صلة أو نكرة موصوفة والجملة صفة أي من طيبات الشيء الذي رزقناكموه، أو شيء زرقناكموه ويؤخذ من ذلك أن ذلك الرزق بعضه حلال وبعضه غير حلال وهو مذهب أهل السنة، قال في الجوهرة: فيرزق الله الحلال فاعلما   ويرزق المكروه والمحرماقوله: ﴿ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ ﴾ أي اعتقدوا أن النعم صادرة لكم من الله، وهو بذلك المعنى واجب وإنكاره كفر، أو المعنى راقبوا في كل لحظة أن كل نعمة من الله وهو بهذا المعنى مندوب لأن هذا مقام الخواص. قوله: ﴿ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ إن شرطية وكنتم فعل الشرط، والتاء اسمها وجملة تعبدون خبرها وإياه مفعول تعبدون قدم رعاية للفواصل وللحصر، وجواب الشرط محذوف دل عليه الأمر أي فلكوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله.
قوله: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ ﴾ المقصود من هذا الحصر الرد على من حرم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام على من أحل بعض المحرمات فالحصر إضافي. قوله:(وهو ما لم يذك شرعاً) أي إما لكونها لا تعمل فيه أصلاً كالبغال والحمير أو تعمل فيه ولكن لم يذك كالأنعام إجماعاً والخيل على مذهب الشافعي. قوله: (ما أبين من حي) أي فهو ميتة. قوله: (وخص منها السمك والجراد) أي لما في الحديث" وأحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال "وإنما أحل الكبد والطحال المنفصلان من الحيوان بعد ذكائه شرعاً لكونهما ليسا من الدم والمسفوح. قوله: (أي المسفوح) أي ولو من سمك خلافاً لأبي حنيفة، ومن هنا اختلف في الفسيخ فقال الأئمة الثلاثة: محرمة أكله وبيعه لشرب بعضه من دم بعض حين تكديسه، وقال أبو حنيفة بطهارته لأنه لا دم له أصلاً، وإنما الذي ينزل منه دهن لا دم بدليل أنه لو نشف لصار أبيض لا أحمر، وقال أستاذنا العارف بالله تعالى شيخنا الشيخ الدردير الذي أدين الله به أن الفسيخ بجميع أجزائه طاهر يجوز أكله، وأما لو نشف بحيث لم يسل منه دم كالسمك المالح فهو طاهر حلال بإجماع. قوله: (كما في الأنعام) أي في سورة الأنعام في قوله تعالى:﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ﴾[الأنعام: ١٤٥] الآية، فما هنا يقيد بما هناك. قوله: ﴿ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ ﴾ أي البر إنسياً أو وحشياً، وأما البحري فهو حلال وكلبه كذلك. قوله: (وغيره تبع له) ظاهره حتى الشعر ولكن مذهب مالك حل لبسه والانتفاع. قوله: (والإهلاك رفع الصوت) أي قد سمي الشيء باسم صاحبه، ولذلك يقال استهل المولود بمعنى صاح عند الولادة وسمي الهلال بذلك لرفع الصوت عند رؤيته. قوله: ﴿ فَمَنِ ٱضْطُرَّ ﴾ هذا كالاإستدراك على عموم قوله: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ ﴾.
قوله: ﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾ حال من الضمير في اضطر. قوله: (لأوليائه) أي الذين أكلوا عن اضطرار. قوله: (حيث وسع لهم في ذلك) أي فأباح لهم أكلها والشبع منها حيث كانت المخمصة دائمة، وأجمعت الأئمة على ذلك، واختلفوا إذا لم تدم المخمصة فرجح مالك الشبع والتزود وذكره غير قولين، وعلى كل فإذا استغنى عنها طرحها ويقدم الميتة وما أهل لغير الله في الأكل على لحم الخنزير. قوله: (وعليه الشافعي) أي فمذهب الشافعي أن العاصي بسفره لا يأكل من الميتة إلا إن تاب، وأما مذهب مالك وأبي حنيفة أن العاصي بسفره له الأكل من الميتة وإن لم يتب، وفسر قوله غير باغ أي غير طالب الميتة وما معها وهو يجد غيرها وغير عاد أي متعد ما أحل الله وقيل غير مستحل لها.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ نزلت هذه الآية في حق علماء اليهود، وقد كانوا يأخذون من سفلتهم مالاً، وكانوا يودون أن نبي آخر الزمان يكون منهم، فلما بعث رسول الله من غيرهم خافوا أن رئاستهم تذهب بسبب ظهوره واتباع سفلتهم له، فينقطع ما كان يصلهم من سفلتهم فغيروا صفته وصفة أصحابه وبلده حرصاً على الرياسة وعلى ما كانوا يأخذونه من سفلتهم، قال تعالى:﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ ﴾[الصف: ٨].
قوله: (المشتمل على نعت محمد) أي فاكتاب مشتمل على أمور كثيرة، منها نعت محمد ومنها غيره، فالمغير إنما هو المشتمل على نعت محمد لا جميع ما في الكتاب. قوله: (يأخذونه بدله) أي يأخذون الثمن بدل الكتمان، بمعنى أن الحامل لهم على الكتمان إنما هو العرض الفاني الذي يأخذونه من سفلتهم، وليس المراد أنهم قالوا لهم خذوا هذا المال واكتموا وصف محمد. قوله: (خوف فوته) أي الأمر الدنيوي عليهم. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلنَّارَ ﴾ أي سببها كما يشير له قول المفسر لأنها مآله أي مأواه وعاقبة أمره ففيه مجاز الأول. قوله: ﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي كلام رضا بل يكلمهم كلام غضب. قوله: (غضباً عليهم) أي من أجل غضبه عليهم أي طرده لهم وإبعادهم عن رضاه. قوله: (يطهرهم من دنس الذنوب) أو المعنى لا يشهد لهم بالطهارة يوم القيامة قوله: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ هذا بيان حالهم في الآخرة وهو عدم كلام الله لهم المترتب على كتمانهم، وعدم طهارة الله لهم المترتب على اشترائهم ثمناً قليلاً، والعذاب الأليم المترتب على أكلهم سبب النار. قوله: ﴿ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ﴾ هذا بيان لحالهم في الدنيا. قوله: ﴿ بِٱلْهُدَىٰ ﴾ الباء داخلة على المتروك أي فقد تركوا الهدى وأخذوا الضلالة بدله. قوله: (لو لم يكتموا) لو شرطية وجوابها محذوف تقديره ما اشتروا العذاب بالمغفرة. قوله: ﴿ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ ﴾ الأحسن أن ما نكرة تامة مبتدأ والجملة بعدها في محل رفع خبر، والمعنى أي شيء أصبرهم على النار فأصبر فعل تعجب والفاعل مستتر وجوباً والهاء مفعول وقيل استفهامية فيها معنى التعجب والإعراب واحد، وقيل اسم موصول وما بعدها صلتها والخبر محذوف، وقيل نكرة موصوفة وما بعدها صفتها والخبر محذوف. قوله: (أي ما أشد صبرهم) هذا حل معنى لا إعراب. قوله: (وهو تعجيب للمؤمنين) جواب عن سؤال مقدر، حاصله أن التعجب هو استعظام شيء خفي سببه وذلك مستحيل على الله تعالى لأنه لا يخفى عليه خافية، فأجاب بأن التعجب واقع من المؤمنين، فالمعنى تعجبوا أيها المؤمنون من صبر هؤلاء على موجبات النار التي من جملتها الكتمان وأخذهم الثمن القليل وغير ذلك من غير مبالاة قوله: (وإلا فأي صبر لهم) أي وإلا نقدر موجبات بل لو أبقينا الكلام على ظاهره فلا يصح ذلك لأنه ليس لأحد صبر على ذات النار. قوله: (الذي ذكر) أي وهو أمور ستة: أكلهم سبب النار وعدم كلام الله وعدم تزكيته لهم والعذاب الأليم واشتراؤهم الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة.
قوله: ﴿ نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ ﴾ المراد به التوراة باتفاق المفسرين، وإنما الخلاف في الكتاب الثاني. قوله: (فاختلفوا فيه) قدره المفسر لتمام الفائدة وإلا فالسبب ليس نزول الكتاب بالحق فقط. قوله: (وكفروا ببعضه) أي فما وافق هواهم آمنوا به وما خالفه كتموه وقالوا لم ينزله ربنا. قوله: (وهم اليهود) أي فالمراد بالكتاب التوراة والآية من تمام ما قبلها. قوله: (وقيل المشركون) أي فهو كلام مستأنف والكتاب هو القرآن. قوله: (حيث قال بعضهم شعر) هذا هو وجه الإختلاف. قوله: ﴿ بَعِيدٍ ﴾ (عن الحق) أي فمن آمن بالبعض وكفر بالبعض لم يصادف الحق بل هو بعيد عنه، ومن قال من المشركين إنه شعر أو سحر أو كهانة أو غير ذلك لم يصادف الحق بل هو بعيد عنه، وبهذه الآية تم الرد على جميع من كفر كان من اليهود أو المشركين.
قوله: ﴿ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ هذا ابتداء نصف السورة الثاني وهو متعلق بتبيين غالب أحكام الدين، وأما النصف الأول فهو متعلق بأصول الدين وقبائح اليهود، والبر بالنصب والرفع قراءتان سبعيتان، فمن نصب جعله خبراً لليس مقدماً وأن تولوا في تأويل مصدر اسمها مؤخر، ومن رفع جعله اسمها وأن تولوا خبرها، والبراسم جامع لكل خير، كما أن الإثم اسم جامع لكل شر. قوله: (نزل رداً على اليهود والنصارى) أي فقد زعم النصارى أن البر في استقبال جهة طلوع الشمس، وزعم اليهود أن البر في استقبال بيت المقدس، فالمراد بالمغرب ما عدا المشرق فيشمل جهة الشمال وقيل بكسر القاف وفتح الباء ظرف كان معناه جهة، وقيل نزلت رداً على المسلمين وكانوا في صدر الإسلام أمروا بالإيمان بالله والصلاة فقط لأي جهة كانت، فالمعنى ليس البر كما تعتقدون أنه مقصور على الإيمان والصلاة فقط بل هو من جميع هذه الخصال والأظهر الأول. قوله: (أي ذا البر) قدر ذا إشارة إلى أن من اتصف بهذه الخصال يسمى باراً لا براً، وبالجملة يقال فيه ما قيل في زيد عدل وقيل إن براً اسم فاعل أصله برر نقلت كسرة الراء إلى الباء ثم أدغمت إحدى الراءين في الأخرى. قوله: ﴿ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ ﴾ أي صدق بقلبه ونطق بلسانه أن الله يجب له كل كمال ويستحيل عليه كل نقص. قوله: ﴿ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾ أي ما يتعلق به من الحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار وما فيهما من الثواب والعقاب. قوله: ﴿ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ ﴾ أي بأنهم عباد مكرمون، أجسام نوارنيه لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. قوله: (أي الكتب) أي المنزلة من عند الله على أنبيائه. قوله: ﴿ وَٱلنَّبِيِّينَ ﴾ أي إجمالاً في الإجمالي وتفصيلاً في التفصيلي، فيجب الإيمان بخمسة وعشرين منهم وهم المذكورون في القرآن قوله: (مع) ﴿ حُبِّهِ ﴾ (له) أي المال بأن يعطيه مع كونه يحبه لنفسه، ويحتمل أن المعنى مع حبه لله أي يعطي المال من كونه يحب الله، وكل صحيح. قوله: (القرابة) أي فإعطاء الأقارب مقدم لأن فيه قربتين الصدفة وصلة الرحم. قوله: ﴿ وَٱلْيَتَامَىٰ ﴾ أي الفقراء منهم وهم من مات أبوهم قبل بلوغهم. قوله: ﴿ وَٱلْمَسَاكِينَ ﴾ المراد ما يشمل الفقراء وهم المحتاجون. قوله: (المسافر) أي الغريب ولو مليئاً ببلده. قوله: (الطالبين) أي مطلقاً لما في الحديث:" أعطوا السائل ولو جاء على فرس ". قوله: (المكاتبين) اي ليستعينوا على فك رقابهم من الرق. قوله: (والأسرى) اي ليستعينوا على خلاص أنفسهم من الكفرة. قوله: (المفروضة) أي ومن المعلوم أن لها أصنافاً مذكورة في الفقه تصرف لها. قوله: ﴿ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ﴾ أي وهم من إذا وعدوا أنجزوا، وإذا نذروا أوفوا، وإذا حلفوا لم يحنثوا في أيمانهم، وإذا قالوا صدقوا في أقوالهم، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، والموفون معطوف على من آمن، التقدير ولكن البر المؤمنون والموفون. قوله: (نصب على المدح) أي بفعل محذوف تقديره وأمدح الصابرين وخصهم بالذكر، لأن الصبر يزين العبادة وتركه يشينها. قوله: (شدة الفقر) أي فلا يشكون لأحد غير الله لأنه يحب الملحين في الدعاء. قوله: (وقت شدة القتال) أي فلا يفر من الأعداء. قوله: (الموصوفون بما ذكر) أي بجميع هذه الخصال، قال بعضهم: لا تكون هذه الخصال جميعها إلا في الأنبياء، وقال بعضهم لا مانع أن تكون في غيرهم. قوله: (أو دعاء البر) أي فمعنى الصدق هنا الصدق في الأقوال، فإذا أخبروا بشيء فهم صادقون فيه. قوله: ﴿ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ ﴾ (الله) أي الكاملون في التقوى.
قوله: (فرض) ﴿ عَلَيْكُمُ ﴾ إن قلت إن مقتضى الفرض أنه متحتم لا يجوز العدول عنه وهو مخالف لما يأتي. أجيب بأن الفرض بالنسبة لولاة الأمور إذا شح الولي وأبى إلا القتل، فالمعنى يجب عليهم فعل القتل إن شح المولى ولم يعف. وسبب نزول الآية أن رسول الله لما دخل المدينة وجد الأوس والخزرج يتفاخران على بعضهم فصاروا يقتلون الأثنين بالواحد والحر بالعبد منهم، فنزلت هذه الآية فآمنوا وأسلموا. قوله: ﴿ ٱلْقِصَاصُ ﴾ نائب فاعل كتب وقوله في القتلى أي بسببها ففي للسببية على حد" دخلت امرأة النار في هرة حبستها "والقتلى جمع قتيل: قوله: (المماثلة) أي التماثل في الوصف والفعل وهذا هو المراد به هنا، وإلا فالقصاص في الأصل القود وهو قتل القاتل. قوله: (وصفا) أي يشترط التماثل في الوصف بأن يكون مماثلاً له في وصفه من حرية وإسلام، وبالجملة فالمدار في القصاص من كون القاتل مثل المقتول أو أدنى، فإن كان أعلى منه إما بالدين أو الحرية فلا قود. قوله: (وفعلاً) أي فلو قتل بسيف فإنه يقتل به أو بغيره. قوله: (ولا يقتل بالعبد) أي بل يلزمه قيمته ويضرب مائة ويحبس سنة كما بينته السنة. قوله: ﴿ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ ﴾ أي إن طلب سيد المقتول القصاص وإلا فله إما قيمة القاتل والمقتول أو ذات القاتل، والخيار في ذلك لسيد القاتل. قوله: (وأن الذكر يقتل بلأنثى) أي وبالعكس. قوله: (وأنه تعتبر المماثلة) معطوف على أن الذكر مسلط عليه قوله وبينت السنة. قوله: (فلا يقتل مسلم إلخ) أي فالإسلام أعلى من الحرية وعسكه يقتل به. قوله: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ ﴾ هذا تقييد لما قبله، وسيأتي للمفسر أن من يصح أن تكون شرطية أو موصولة فالمعنى على الثاني، فالشخص الذي ترك له شيء من دم أخيه فاتباع بالدية بالمعروف، وقرن بالفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط وعلى الأول فأي شخص ترك له الخ فقد بطل القتل فلا مطالبة به. قوله: (من القاتلين) بيان لمن. قوله: ﴿ لَهُ ﴾ (دم) ﴿ أَخِيهِ ﴾ أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: (المقتول) وصف للأخ. قوله: (عن بعضه) أي القصاص ولو شيئاً يسيراً كعشرة وذلك كما إذا كان الولي واحداً وعفا عن بعض القصاص. قوله: (ومن بعض الورثة) أي ولو كان العافي واحداً من ألف مثلاً ولمن بقي نصيبه من الدية. قوله: (تعطف) أي من الله. قوله: (لا يقطع أخوة الإيمان) أي خلافاً للخوارج القائلين بقطع الإيمان بالمعاصي. قوله: (والخبر) ﴿ فَٱتِّبَاعٌ ﴾ أي جملته من المبتدأ والخبر الذي قدره المفسر بقوله فعلى العافي اتباع. قوله: ﴿ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لاتباع أي اتباع ملتبس بالمعروف. قوله: (وترتيب الإتباع على العفو) أي بعد ذكر وجوب القصاص. قوله: (أو الواجب أحدهما) أي القصاص أو الدية، فالدية واجب مستقل مقابل للقصاص. قوله: (وهو أحد قولي الشافعي) أي ومالك أي فأحد قوليهما أن الواجب أحدهما، فإذا كان عفا على الدية وامتنع من إعطائها فله جبره على الدية ولا يقتل. قوله: (والثاني الواجب القصاص إلخ) أي فالخيار للأولياء في ثلاثة، إما القصاص أو العفو على الدية أو مجاناً، فلو عفوا على الدية وامتنع القاتل من دفعها فللأولياء إما قتله أو العفو مجاناً، وهذا هو المرتضى في المذهبين. قوله: (فلا شيء) أي على هذا القول وأما على الأول فيلزمه الدية. قوله: (والعفو عنه لا على الدية) أي أو مجاناً كما بينته السنة. قوله: (بأن قتله) ﴿ بَعْدَ ذٰلِكَ ﴾ أي فحيث ترك حقه لا حق له. قوله: ﴿ وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ ﴾ هذا هو حكمة القصاص. قوله: (بقاء عظيم) أي للقاتل والمقتول. قوله: ﴿ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ ﴾ جمع لب وهو العقل الكامل. قوله: (فشرع) تفريع على بيان الحكمة وأخره لتعلق لعلكم بتتقون به. قوله: (مخافة القود) أي مخالفة أن يقتض منكم. قوله: (أي أسبابه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، والمراد بأسبابه علاماته كالأمراض الشديدة والجراحات التي يظن منها الموت عادة. قوله: ﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً ﴾ شرط في الشرط الذي هو إذا. قوله: (مالاً) سماه خيراً إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون حلالاً طيباً. قوله: (مرفوع بكتب) أي على أنه نائب الفاعل ولم لم توجد في الفعل علامة التأنيث لوجود الفاعل سيما مع كونه مجازي التأنيث كقولهم طلع في النهار الشمس. قوله: (إن كانت ظرفية) أي محضة لم يكن فيها معنى الشر بل المراد منها الوقت والزمن. إن قلت الوصية إما مصدر أو اسم مصدر والمصدر أو اسمه لا يتقدم معموله عليه. أجيب بأنه يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيرها. قوله: (وجواب إن) بالجر معطوف على جوابها أي ودالة على جواب إن وقوله أي فليوص هذا هو جواب وإذا وإن. قوله: ﴿ لِلْوَالِدَيْنِ ﴾ متعلق بالوصية، وقوله: ﴿ وَٱلأَقْرَبِينَ ﴾ عطف عام على خاص. قوله: (مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله) أي حيث صدر بقوله كتب على حد: زيد أبوك عطوفاً، واسشكل بأن المصدر المؤكد لا يعمل مع أنه عامل في قوله على المتقين، فالأحسن أن يجعل مصدراً مبيناً للنوع إلا أن يقال يتوسع في الظرف والمجرورات ما لا يتوسع في غيرها لأنه يكتفي فيها بأي عامل ولو ضعيفاً قوله: (وهذا منسوخ) أي الحكم لا التلاوة فحكمها حكم القرآن. قوله: (بآية الميراث) أي قوله تعالى:﴿ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ ﴾[النساء: ١١] الآيات. قوله: (لا وصية لوارث) صدره إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية إلخ. قوله: (أي الإيصاء) أي أو المعروف أو الوصية. قوله: (من شاهد ووصي) بيان لمن. قوله: (عمله) أي ولو لم يسمعه من الموصي. قوله: (أي الإيصال المبدل) أو المعروف. قوله: (فيه إقامة الظاهر إلخ) أي مع مراعاة معنى من، ولو راعى لفظها لقال على الذي بدله، ولو أضمر لقال عليه.
قوله: ﴿ فَمَنْ خَافَ ﴾ الأحسن أن هذا الحكم عام فهو غير منسوخ، ويؤخذ هذا من تقديم المفسر قوله وهذا منسوخ عليه. قوله: (مخففاً ومثقلاً) أي فهما قراءتان سبعيتان والمعنى واحد. قوله: (خطأ) حمله على ذلك عطف قوله أو إثماً عليه وإلا فالجنف في الأصل الميل عن الحق مطلقاً. قوله (بين الموصي والموصى له) أي إن أدرك وهو حي وحصل إصلاح فالإثم مرتفع وإلا فعليه الإثم ويبطل مما زاد على الثلث. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ خطاب للمؤمنين من أهل المدينة لكن المراد العموم قوله: ﴿ ٱلصِّيَامُ ﴾ هو لغة الإمساك ومنه (إني نذرت للرحمن صوماً) أي إمساكاً عن الكلام ومنه أيضاً: خيل صيام وخيل غير صائمة. أي ممسكة عن الجري وغير ممسكة عنه، واصطلاحاً الإمساك عن شهوتي البطن والفرج يوماً كاملاً من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية التقرب إلى الله تعالى. قوله: (من الأمم) أي وأنبيائهم من آدم إلى نبينا لكن لا كصومنا من كل جهة فالتشبه في الفرضية لا الكيفية والثواب وحكمة ذكر التشبيه التأكيد في الأمر والتسلي بمن قبلنا لأن في الصوم نوع صعوبة. قوله: (فإنه يكسر الشهوة) أي لما في الحديث" يا معشر الشباب من استطاع منك الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء "أي قاطع لشهوته كما تنقطع بالخصى. قوله: (نصب بالصوم) أي على أنه ظرف له أي الصيام في أيام، وقوله أو بصوموا مقدراً أي دل عليه قوله الصيام وهو الأحسن.
قوله: ﴿ مَّعْدُودَاتٍ ﴾ أي أقل من أربعين إذ العادة في لغة العرب متى ذكر لفظ العدد يكون المراد به ذلك. قوله: (أو مؤقتات) هذا هو الأول ليعلم منه تعيينها، وقيل معنى معدودات معدات للعطايا الربانية، فالصالحون يتهيؤون لها لما في الحديث" إن لله في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها "وأيضاً في ليلة خير من ألف شهر وغير ذلك من فضائله المشهورة. قوله: (تسهيلاً على المكلفين) أي ليقدموا عليها. قال تعالى:﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ ﴾[البقرة: ١٨٥] الآية. قوله: ﴿ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ ﴾ أي ملتبساً به قوله: (في الحالين) أي المرض والسفر وهذا ظاهر بالنسبة للمرض ولا للسفر، فإن المسافر يباح له الفطر وإن لم يجهده بالصوم، لكن الصوم أفضل له في هذه الحالة، ولا فرق في السفر بين كونه براً أو بحراً. قوله: ﴿ أُخَرَ ﴾ بالجمع صفة لأيام ممنوع من الصرف للوصفية والعدل، ولم يقل أخرى مع صحته لتوهم كونه صفة لعدة مع أنه ليس مراداً. قوله: (لا يرجى برؤه) أي كمرض القصبة والجذام. قوله: (هي) ﴿ طَعَامُ ﴾ أشار بذلك إلى أن فدية بالتنوين وطعام خبر لمبتدأ محذوف بيان لفدية. قوله: (وفي قراءة بإضافة فدية) أي مع جمع مسكين، وأما الأولى ففيها وجهان الإفراد والجمع. قوله: (وقيل لا غير مقدرة) هذا مقابل ما حل به المفسرد، فعلى الأول الآية محكمة، وعلى الثاني منسوخة. قوله: (بتعيين الصوم) أي ولا يقبل منه فدية بعد ذلك والتارك له جحداً كافر أو كسلاً يؤخر لمقدار النية قبل الفجر فإن لم ينو قتل حداً. قوله: (خوفاً على الولد) أي فإنهما يقضيان ويفتديان. وأما على أنفسهما فقط للولد فإن عليهما القضاء لا غير. قوله: (بالزيادة على القدر المذكور) أي بأن زاد على المذكور وفي عدد المساكين. قوله: (مبتدأ) أي مؤول بمصدر تقديره صيامكم. قوله: (فافعلوه) قدره إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف.
قوله: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾ خبر لمبتدأ محذوف قدره المفسر بقوله تلك الأيام، واعلم أن اسماء الشهور أعلام أجناس ورمضان ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون لأنه من الرمض وهو الأحراق لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها وسمي الشهر شهراً لاشتهاره لمنافع الناس في دينهم ودنياهم، وسيأتي ايضاحه في قوله تعالى:﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ ﴾[البقرة: ١٨٩].
قوله: ﴿ ٱلْقُرْآنُ ﴾ هو لغة من القرء وهو الجمع واصطلاحاً اللفظ المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته للإعجاز بأقصر سورة منه. قوله: (في ليلة القدر منه) أي فقد حوى رمضان مزيتين: نزول القرآن فيه ووجود ليلة القدر به، وليلة القدر به هي المعنية بقوله تعالى:﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾[الدخان: ٣].
والحاصل أن جبريل تلقاه من اللوح المحفوظ ونزل به إلى السماء الدنيا فأملاه للسفر فكتبته في الصحف على هذا الترتيب ومقرها بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل به على النبي في ثلاث وعشرين سنة مفرقاً على حسب الوقائع، فجبريل أملى للسفرة ابتداء وتلقى عنها انتهاء، والحكمة في نزوله مفرقاً تثبيته في قلبه وتجديد الحجج على المعاندين وزيادة إيمان للمؤمنين، قال تعالى:﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾[الفرقان: ٣٢-٣٣] وقال تعالى:﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً ﴾[الأنفال: ٢] وقال تعالى:﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ﴾[الإسراء: ١٠٦] وتلك الليلة التي نزل فيها القرآن ليلة أربع وعشرين. واعلم أن ليلة القدر تكون في رمضان وقد تنتقل عنه لغيره لكن الغالب كونها في العشر الأواخر منه، والغالب كونها في الأوتار هذا مذهب مالك، وذهب الشافعي إلى أنها لا تنتقل عن رمضان بل هي ملازمة له، والغالب كونها في العشر الأواخر منه، والغالب كونها في الأوتار خصوصاً إذا صادف الوتر ليلة جمعة قوله: (هاديا) يصح أن يبقى على مصدريته والوصف به مبالغ، ويصح أن يكون على حذف مضاف أي ذو هدى على حد: زيد عدل قوله: (من الضلالة) أي الكفر. قوله: ﴿ وَبَيِّنَاتٍ ﴾ معطوف على هدى من عطف الخاص على العام، لأن الهدى بعضه ظاهر واضح كآية الكرسي والإخلاص وغير ذلك، وبعضه غير واضح، قال تعالى:﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾[آل عمران: ٧] إلى أن قال: (كل من عند ربنا)، فالإيمان بكل آية هدى واضحة أو لا. قوله: (مما يفرق بين الحق والباطل) أي فيه آيات بينات مصحوبة بالأدلة القطعية التي تقنع الخصم كقوله تعالى:﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ﴾[آل عمران: ١٩٠].
وقوله تعالى:﴿ أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ﴾[النمل: ٦٢] الآيات. وعطف الفرقان على الهدى من عطف الخاص على العام فكل أخص ما قبله الهدى صادق بالواضح وغيره كان معه دليل أم لا، والبينات من الهدى صادقة بوجود الحجج معها أم لا، والفرقان هو الآيات البينات التي معها حجج. قوله: ﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ ﴾ إن كان المراد به الأيام فالمعنى شهد بعضه وإن كان المراد به الهلال، فالمعنى علمه إما أن يكون رآه أوثبت عنده، وقوله: ﴿ فَلْيَصُمْهُ ﴾ الشهر بمعنى الأيام، وعلى كل ففيه استخدام على كل حال لأنه ذكر الإسم الظاهر بمعنى وأعاد الضمير بمعنى آخر، والخطاب للمكلف القادر الغير المعذور. قوله: ﴿ مَرِيضاً ﴾ أي مرضاً شديداً يشق معه الصوم. قوله: ﴿ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ ﴾ أي سفر قصر وتلبس به قبل الفجر، والمعنى فأفطروا فعليهم عدة. قوله: (بتعميم من شهد) إي فإن لفظ من يعم المسافر وغيره والمريض وغيره. قوله: ﴿ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ ﴾ عطف لازم على ملزوم. قوله: (في المرض والسفر) أي وما والاهما من الأعذار المبيحة للفطر التي نص عليها الفقهاء. قوله: (في معنى العلة أيضاً للأمر بالصوم) أي فهو علة لأمرين الأول جواز الفطر للمريض والمسافر، الثاني التوسعة في القضاء فلم يجب زمن معين ولا تتابع ومبادرة. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أي عدة صوم رمضان) يحتمل أن المعنى من جهة قضائه أي أردت بكم اليسر لتكلموا قضاءه إذا فاتكم لعذر، فإذا فاتكم شهر رمضان مثلاً فاقضوا شهراً إن كاملاً فكاملاً وإن ناقصاً فناقصاً ويحتمل أن المعنى من جهة صوم رمضان الحاضر، أي أردت بكم اليسر لتكملوا عدة رمضان ولا تنقصوها إلا لعذر كمرض وسفر فلا بأس بالفطر لذلك، وهذا مرتب أيضاً على قوله يريد الله بكم اليسر، فالمعنى أبحت لكم الفطر في السفر والمرض لإرادة اليسر بكم وكلفتكم بالصوم مع اليسر وأبحت لكم الفطر في المرض والسفر لتكمل منكم العدة إما في رمضان أو أيام آخر. قوله: ﴿ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي يوم العيد وهو يوم إكمال العدة وبينت السنة كيفية التكبير. قوله: (على ذلك) أي على التكليف مع اليسر. قوله: (وسأل جماعة) هذا إشارة من المفسر لسبب نزول الآية. قوله: (فنناجيه) أي نسارره أي ندعوه سراً ولا نجهر بالدعاء. قوله: (فنناديه) أي ندعوه جهراً والفعلان يصح فيهما النصب بأن مضمرة بعد فاء السببية لوقوعهما في جواب الإستفهام والرفع على الإستئناف أي فنحن نناجيه ونحن نناديه والأظهر الثاني لقول بعض شراح الحديث إن الرواية، واعلم أن هذا السؤال الواقع من الصحابة لا يقتضي جهلهم بالتوحيد، لأن الله منزه عن القرب والبعد الحسيين لأنهما من صفات الحوادث والله منزه عنها فمن ذلك حارت عقولهم في ذلك، فمقتضى إحاطته بجميع خلقه وتصرفه فيهم كيف يشاء يوصف بالقرب، ومقتضى تنزه عن صفات الحوادث جميعها يوصف بالبعد لأن صفاته توفيقية فالمسؤول عنه القرب أو البعد المعنويان لا الحسيان، وإلا لذمهم الله على ذلك ولم يضفهم له. قوله: (فأخبرهم بذلك) أي بأني قريب وقدر ذلك المفسر لعدم صحة ترتيب قوله فإني قريب على الشرط الذي هو إذا فإن جوابها لا بد وأن يكون مستقبلاً، وكون الله قريباً وصف ذاتي له لا ينفك عنه أزلاً ولا أبداً وإنما المستقبل الأخبار بذلك، وقوله بعلمي أي وسمعي وبصري وقدرتي وإرادتي ولم يقل بذاته وإن كانت الصفات لا تفارق الذات لأنه ربما يتوهم للقاصر الحلول فيقع في الحيرة، وأما من فني عن وجوده فلم يشهد إلا الله فقد زال عنه الحجاب فلا حيرة عنده إذ لم يشهد غيره، وإنما خص المفسر العلم بذلك لأنه من صفات الإحاطة ومن غلبة رحمته تعالى أنه وصف نفسه بالقرب وإلا فمقتضى التوحيد وصفة بالبعد أيضاً بالإعتبار المتقدم، فلو قال فإني بعيد لحصل اليأس من رحمته.
قوله: ﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ الياءان من قوله الداع ودعان من الزوائد عند القراء، ومعناه أن الصحابة لم تثبت لها صورة في المصحف ولذا اختلفت فيها القراء، فمنهم من أسقطها وصلاً ووفقاً تبعاً للرسم، ومنه من يثبتها في الحالين، ومنهم من يثبتها وصلاً ويحذفها وقفاً. قوله: (بإنالته ما سأل) أي ما لم يسأل باثم أو قطيعة رحم، وهذه الإجابة وعد من الله وهو لا يتخلف لكن على مراده تعالى لا على مراد الداعي، فالدعاء نافع ولا يخيب فاعله، وما يحتمل أن تكون موصولة وسأل صلتها والعائد محذوف أو نكرة موصوفة وسأل صفتها أو مصدرية أي بإنالته سؤاله. قوله: ﴿ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي ﴾ يحتمل أن السين والتاء زائدتان، والمعنى فليجيبوني بالإمتثال والطاعة كما أجبت دعاءهم، (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)، وهذا ما مشى عليه المفسر، ويحتمل أنهما للطلب، والمعنى فليطلبوا مني الإجابة، فشرط الإجابة عقب دعائهم، وفي الحديث:" ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة "فشرط الإجابة تيقنها، وقد أشار لذلك السيد البكري بقوله: فلا تردنا واستجب لنا كما وعدتنا. قوله: (يديموا) فعله آدم رباعياً وفي نسخة يدوموا وفعله دام ثلاثياً وهما لغتان فصيحتان. قوله: (على الإيمان) ﴿ بِي ﴾ أي فلا يرتدوا. قوله: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ هكذا أقر الجمهور بفتح الياء وضم الشين من باب قتل، وقرئ بسكر الشين وفتحها والياء مفتوحة على كل من بابي ضرب وعلم، وقرئ بضم الياء مبنياً للفاعل والمفعول محذوف أي غيرهم أي يدلوهم على طريق الرشاد، ولذا قيل حال رجل في الف رجل أنفع من وعظ ألف رجل في رجل، أو مبنياً للمفعول فقراءات غير الجمهور أربع.
قوله: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ﴾ ليلة ظرف لأحل والمعنى أحل لكم في ليلة الصيام، وفي الناصب له ثلاثة أقوال: قيل أحل وهو المشهور عند المعربين وليس بشيء لأن الإحلال ثابت قبل ذلك الوقت، وقيل مقدر مدلول عليه بلفظ الرفث تقديره أحل لكم أن ترفثوا ليلة الصيام، وقيل متعلق بالرفث لأنه يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها. قوله: ﴿ ٱلرَّفَثُ ﴾ ضمنه معنى الإفضاء فعداه بإلى وإلا فهو يتعدى بالباء أو بفي وهو في الأصل الكلام الذي يستقبح ذكره الواقع عند الجماع، فأطلق وأريد منه الجماع على سبيل الكناية لا ستقباح ذكره. قوله: (بمعنى الإفضاء) هو في الأصل أن لا يكون بينك وبين الشيء حائل، وليس مراداً هنا بل المراد به هنا إفضاء خاص بالجماع، ولذا قال المفسر بمعنى الإفضاء إلى نسائكم بالجماع. قوله: ﴿ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ ﴾ المراد حلائلكم من زوجة وأمة. قوله: (من تحريمه) أي الجماع. (بعد العشاء) أي دخول وقتها أو بعد النوم ولو كان قبلها. قوله: (كناية عن تعانقهما) أي فالتشبيه من حيث الإعتناق، فكما أن اللباس يسلك في العنق كذلك المرأة تسلك في عنق الرجل والرجل يسلك في عنقها، ويصح أن التشبيه من حيث الستر، فالمرأة تستر الرجل والرجل يسترها، قال تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾[الروم: ٢١].
وإليه الإشارة بقول المفسر أو احتياج كل منهما لصاحبه والحكمة في تقديم قوله هن لباس لكم أن طلب المواقعة غالباً يكون ابتداء من الرجل إليها أكثر لما في الحديث لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريماً ويغلبهن لئيم فأحب أن أكون كريماً مغلوباً، ولا أحب أن أكون لئيما غالباً. قوله: ﴿ تَخْتانُونَ ﴾ هو أبلغ من تخونون لزيادة بنائه. قوله: (وقع ذلك لعمر). وحاصله أن بعد أن صلى العشاء، وجد بأهله رائحة طيبة فواقع أهله حينئذ. ثم لما أصبح جاء رسول الله وأخبره الخبر فقال يا رسول الله إني اعتذر إلى الله وإليك ما وقع مني، فقام جماعة فقالوا مثل ما قال عمر، فنزلت الآية نسخاً للتحريم الواقع بالسنة. قوله: ﴿ فَٱلآنَ ﴾ إن قلت إنه ظرف للزمان الحاضر. وقوله: ﴿ بَٰشِرُوهُنَّ ﴾ مستقبل فحينئذ لا يحسن ذلك. أشار المفسر لدفع ذلك حيث حول العبارة بقوله إذ حل لكم فمتعلق الظرف الحل لا المباشرة، فالمعنى حصل لكم التحليل الآن فحينئذ باشروهن فيما يستقبل. قوله: (جامعوهن) أي فالمراد مباشرة خاصة، فأطلق الملزوم وهو المباشرة، وأراد لازمه وهو الجماع. قوله: (أي أباحة من الجماع) أي في النساء الحلائل، واشار بذلك إلى أن ينبغي أن يقصد بجماعه العفة بالحلال عن الحرام له ولها أو رجاء النسل لتكثير الأمة، ففي الحديث" تناكحوا وتناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة ". قوله: ﴿ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ ﴾ نزلت في صرمة بن قيس وكان عاملاً في أرض له وهو صائم، فحين جاء المساء رجع لأهله فلم يجد طعاماً فغلبته عيناه من التعب، فلما حضر الطعام استيقظ فكره أن يأكل خوفاً من لله فبات طاوياً، فما انتصف النهار حتى غشي عليه، فما افاق أخبر النبي بذلك فنزلت الآية. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ ﴾ قيل قبل نزول قوله من الفجر، وضع علي بن حاتم عقالاً أبيض وعقالاً أسود وجعل يأكل ويشرب حتى تبين كل منهما فلما أصبح أخبر النبي بذلك فقال له أنما ذلك سواد الليل وبياض النهار. قوله: (أي الصادق) احترز بذلك عن الكاذب وهو ما يظهر قبل الصادق كذنب السرحان، ثم تعقبه ظلمة ثم يطلع الصادق وهو الضياء المنتشر. قوله: (وبيان الأسود محذوف) أي فلو بينه لقال من الفجر والليل ليكون لفاً ونشراً مرتباً، ولم يذكره لعدم تعلق حكم به، فإن الصوم متعلق بظهور الأبيض. (من الغبش) أي ظلمة الليل. قوله: (أبيض وأسود) لف ونشر مرتب، والتشبيه هنا إنما هو في الصورة والهيئة، وليس هناك خيط أبيض ولا أسود، كما توهمه بعض الصحابة. قوله: (في الإمتداد) هذا هو وجه الشبه. قوله: (بغروب الشمس) أشار بذلك إلى أن الغاية غير داخلة في المغيا، وإنما صيام جزء من الليل من باب ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب. قوله: ﴿ وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ ﴾ أي مطلقاً ليلاً كان أو نهاراً وليس كالصيام. قوله: (نهي) خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه الآية نهي. قوله: (الأحكام المذكورة) أي من أول آية الصيام هنا. واستشكل ذلك بأن الحد هو قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ ﴾ الآية. وأجيب بأن الله أمرنا بالصوم بقوله: (كتب عليكم الصيام) والأمر بالشيء منهى عن ضده. قوله: (أبلغ من لا تعتدوها) أي لأن النهي عن المقاربة نهي عن المجاوزة وزيادة. قوله: (أي لا يأكل بعضكم مال بعض) أي لأن الله قدر لك رزقه، فلا يتسع بالباطل ولا يضيق بالحق. قوله: (كالسرقة) أي والمكس والنهب من كل ما لم يأذن فيه الشارع. قوله: (تلقوا) أي تسرعوا أو تبادروا. قوله: ﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ جملة حالية من فاعل تأكلوا. قوله: (أنكم مبطلون) بفتح الهمزة إشارة إلى أنه مفعول تعلمون.
قوله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ ﴾ أي أصحابك. قوله: (لم تبدو دقيقة) هذا هو صورة السؤال. قوله: (ثم تزيد) أي شيئاً فشيئاً. قوله: (حتى تمتلئ نوراً) أي وذلك ليلة أربعة عشر. قوله: (ثم تعود كما بدت) أي فالهلال إما آخذ في الزيادة وذلك في النصف الأول من الشهر، وإما آخذ في النقص وذلك في النصف الأخير منه. قوله: ﴿ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ﴾ قيل إن الجواب غير مطابق للسؤال، لأن سؤالهم عن حكمة كونه يبدوا دقيقاً، ثم إذا تم عاد كما كان، والجواب إنما هو عن حكمة الهلال الظاهرية وهي كونه مواقيت للناس والحج، وأما جواب سؤالهم فليسوا مكلفين به ولا حاجة لهم بذلك لأنه من المغيبات، وقيل إن الجواب مطابق للسؤال، فقوله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ ﴾ أي عن حكمتها الظاهرة وهذا هو الأنسب بمقامهم لأن الأول من باب (لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم) والضمير يعود على الأهلة وتقدم أنه جمع هلال سمي بذلك الاستهلال الناس عند رؤيته بمعنى رفع أصواتهم، ويسمى بالهلال ليلتين أو ثلاثاً وبعد ذلك يسمى قمراً. قوله: (جمع ميقات) أصله موقات وقعت الواو ساكنة إثر كسرة قلبت ياء. قوله: (أوقات زرعهم) أي فكل زرع له وقت يطلع فيه، فزرع هذا الشهر مثلاً لا يطلع في غيره وهكذا. قوله: (وعدد نسائهم) أي من كونها أربعة أشهر وعشراً أو ثلاثة أشهر مثلاً قوله: (وصيامهم) أي في رمضان مثلاً. قوله: (وإفاطرهم) أي في شوال. قوله: (عطف على الناس) أي مسلط عليه مواقيت واللام وفي الحقيقة هو معطوف على المضاف المحذوف أي لمصالح الناس والحج. قوله: (يعلم بها وقته) أي وهو شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة فلو تقدم أو تأخر لم يصح، وهذا هو حكمة تخصيصة من دون العبادات وإن كان من مصالح الناس. قوله: ﴿ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ ﴾ الحكمة في ذكر هذه الآية بعد ما تقدم أنهم سألوا عن ذلك أيضاً، وصورة سؤالهم هل من البر إتيان البيوت من ظهورها، فأجابهم الله بأنه ليس من البر، ويتعين رفع البر هنا لأن ما بعد الباء يتعين جعله خبراً لليس فإن الباء إنما تدخل على الخبر على الإسم. قوله: (بأن تنقبوا فيها نقباً) أي من خوف الإستظلال بالسقف وهذا في الحاضر، وأما البادي فكان يشق الخيمة وذلك في الإحرام، زاعمين أن عدم تغطية الرأس بشيء أصلاً غير السماء بر. قوله: (بترك مخالفته) أي مطلقاً وامتثال المأمورات على حسب الطاقة. قوله: ﴿ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ حاصل ذلك أن الله أخبرنا بجملتين وأمرنا بجملتين مرتباً على الأوليين: فقوله: ﴿ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ﴾ جملة خبرية رتب عليها قوله: ﴿ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾.
وقوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ ﴾ جملة خبرية أيضاً رتب عليها قوله: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾.
قوله: (تفوزون) أي تسعدون وتظفرون برضاه. قوله: (ولما صد إلخ) أي صده المشركون ومنعوه وصرفوه، والمراد بالبيت الكعبة، وحاصله أن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست من الهجرة توجه مع ألف وأربعمائة لفعل عمرة لأن الحج إذ ذاك لم يكن فرض، فنزلوا الحديبية بمكان قريب من مكة يسمى وادى فاطمة، فخرجت عليهم سفهاء مكة يقاتلونهم بالأحجار والسهام، فأرسل رسول الله عثمان يستأذن أهل مكة في أن يدخل هو وأصحابه ويطوفوا ويكملوا عمرتهم، فأشاع الكفار وابليس أن عثمان قد مات فبايع النبي أصحابه تحت الشرجة على قتالهم، فحصل صلح بينه وبينهم عشر سنين، وتبين أن عثمان حي لم يمت وأتى اليهم وقال إن الكفار أوعدونا إلى العام القابل. فتحلل المسلمون مكانهم في الحديبية ونحروا هديهم وحلقوا وانصرفوا راجعين، ثم في العام القابل وهو سنة سبع، تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء، وسميت قضاء لأنها وقع فيها المقاضاة والصلح لا أنه لزمهم قضاء للعمرة السابقة، لأن من صد لا يلزمه قضاء، فخافت المسلمون أن قريشاً لا تفي بالوعد ويحصل قتال في الشهر الحرام والحرم والإحرام فنزلت الآية. قوله: (وصالح الكفار) يصح أن الكفار فاعل يصالح والمفعول محذوف تقديره صالحه، ويصح أن الفاعل مستتر تقديره هو يعود على النبي و الكفار مفعول. قوله: (على أن يعود العام القابل) تقدم أنه عام سبع. قوله: (وخافوا أن لا تفي قريش إلخ) أي فيحصل المحذور الذي هو القتال في الحرم والإحرام والشهر الحرام. قوله: (نزل) هذا جواب لما أي فهو سبب النزول. قوله: ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ السبيل في الأصل الطريق فاستعير لدين الله وشرائعه بجامع التوصل للمقصود في كل. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ أي لا تبتدئوهم بالقتال. قوله: ﴿ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ ﴾ المراد بالإعتداء هنا ابتداء القتال لا حقيقة الإعتداء الذي هو تجاوز الحد. قوله: (وهذا منسوخ بآية براءة) أي بقوله وقاتلوا المشركين كافة، فأزال الله الضيق عن المسلمين وأبدله بالسعة، وفي الحقيقة هذه الآية نسخت نحو سبعين آية من القرآن حصل فيها نهي عن القتال. قوله: (أو بقوله إلخ) أي وهذا أبلغ لكونها بلصقها.
قوله: ﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾ أي من المكان الذي أخرجوكم منه يعني مكة وهو أمر بالأخراج، فكأنه وعد من الله بالفتح لمكة، وقد أنجز الله ما وعد به عام ثمان. قوله: (وقد فعل) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم أي الكفار منهم. قوله: (عام الفتح) أي وهو العام الثامن. إن قلت: إن مدة الصلح باقية مع إن إخراجهم وقتالهم حصل قبل مضي تلك المدة. أجيب: بأنه حصل منهم نقض للعهد بعد عمرة القضاء. قوله: ﴿ وَٱلْفِتْنَةُ ﴾ الخ هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره إن خفتم أن تقاتلوهم في الشهر الحرام وراعيتم حرمة الشهر والإحرام والحرم، فالشرك الذي حصل منهم الذي فيه تهاون برب الحرم أبلغ قوله: ﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ ﴾ الخ هذه توكيد المنسوخ وهو تفسير لقوله: (ولا تعتدوا). قوله: (أي في الحرم) إنما فسر عند بفي، لأنه ظرف منصوب وهو على تقدير في، وأطلق المسجد الحرام وأراد ما يعم الحرم بتمامه. قوله: (وفي قراءة بلا ألف) والقراءتان سبعيتان، والتلاوة على هذا: ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم، والمعنى فخذوا في أسباب قتلهم. قوله: ﴿ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ أي في الدنيا وفي الآخرة العذاب الأليم. قوله: ﴿ فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ ﴾ أي رجعوا عن الكفر، وأصله انتهيوا بياء مضمومة بعد الهاء، استثقلت الضمة على الياء فحذفت وتحركت الياء بحسب الأصل وانفتح ما قبلها بحسب الآن قلبت ألفاً فالتقى ساكنان حذفت الألف وبقيت الفتحة دليلاً عليها. قوله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ هذا الآية ناسخة أيضاً لما قبلها. قوله: ﴿ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ للَّهِ ﴾ أي في مكة أي لأن المراد تخليص للدين في مكة من الشرك فقط لا كل الجهات، وأما آية الأنفال في قوله: (ويكون الدين كله) أي في كله الجهات. قوله: ﴿ فَإِنِ ٱنْتَهَواْ ﴾ أي رجعوا عن الكفر وأسلموا. قوله: ﴿ فَلاَ عُدْوَانَ ﴾ إلخ هذا خير في صورة الأمر مبالغة، اي فلا تنتقموا ولا تقتلوا إلا الظالمين، والمعنى لا يجازى على عدوانه إلا الظالمون، لأن العدوان واقع من الكفار بكفرهم وقتالهم للمسلمين لا من المسلمين بقتتالهم لهم.
قوله: ﴿ ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ ﴾ إلخ هذا نزل أيضاً زيادة طمأنينة للمسلمين لأنه كان يشق عليهم القتال فيها تعظيماً لها، وقيل إنها نزلت رداً على الكفار والمنافقين المعترضين في قولهم إن الأشهر الحرم والحرم معظمة قديماً، ويزعم محمد أنه يحكم بالعدل وهو ينتهك حرمة الشهر الحرام والحرم، فرد الله عليهم بقوله الشهر الحرام أي الذي نقاتلكم فيه في مقابلة الشهر الحرام، أي الذي صددتمونا فيه عن العمرة والدخول وقاتلنا سفهاؤكم ولا يسمى انتهاكاً ولا عدم تعظيم للحرم، لأنه لما كان بأمر الله اندفع ذلك كله. قوله: ﴿ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ أي متى حصل انتهاك من أحد لحرمة آخر سقطت حرمته فيقتص له منه، ومن هنا قول بعضهم ملغزاً فيمن قطعت يده ظلماً ومن قطعت يده لأجل السرقة: يد بخمس مثين عسجد وديت   ما بالها قطعت في ربع دينارأجاب عنه القاضي عبد الوهاب البغدادي بقوله: عز الأمانة أغلاها وأرخصها   ذل الخيانة فافهم حكمة الباريقوله: ﴿ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾ تسميته اعتداء ظاهر لأنه للحد، وقوله: ﴿ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ ﴾ أي انتقموا منه وقاتلوا فتسميته اعداء مشاكلة لمقابله، قوله: ﴿ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾ توكيد لقوله والحرمات قصاص، وكل هذا منسوخ بقوله واقتلوهم حيث ثقفتوهم. قوله: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي ومن التقوى رحمة عباده سيما إذ لم يقاتلوكم أو إذا قدرتم عليهم فالأولى العفو. قوله: ﴿ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ أي معية خاصة فيمدهم بالنصر والعون، وإلا فهو مع كل نفس بعلمه وتصرفه.
قوله: ﴿ وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ أي ابذلوا أنفسكم وأموالكم في طاعته ومراضيه، سواء الجهاد وغيره كصلة الرحم ومراعاة الضعفاء والفقراء من عباد الله. قوله: ﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ ﴾ عبر الأيدي عن الأنفس اكتفاء بالجزء الأهم من النفس كقوله في آية أخرى:﴿ وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾[الشورى: ٣٠] أي أنفسكم. قوله: ﴿ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ ﴾ إي إلى الهلاك أي إلى أسبابه، وأسباب الهلاك إمساك الأموال والأنفس عن الجهاد لأن به يقوى العدو وتكثر المصائب في الدين والذل لأهل كما هو مشاهد، ومن أنفق أمواله ونفسه في سبيل الله فقد ألقى بنفسه إلى العز الدائم في الدنيا والآخرة، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون. قوله: ﴿ وَأَحْسِنُوۤاْ ﴾ أي افعلوا الإحسان بالإنفاق في سبيل الله وغيره من أنواع العبادات. قوله: (أي يثيبهم) فسر المحبة في حق الله بالإثابة، لأن حقيقتها وهي ميل القلب للمحبوب مستحيلة في حق الله تعالى، والإثابة لازمة لذلك، والقاعدة أن كل ما استحال على الله باعتبار مبدئه وورد يطلق ويراد لازمة وغايته.
قوله: ﴿ وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ ﴾ المتبادر من الآية يشهد لقول الشافعي بوجوب العمرة عيناً في العمرة مرة كالحج، وقال مالك بسنيتها في العمر مرة عيناً، وقرئ وأقيموا الحج والعمرة وهي تؤيد مذهب الشافعي سيما مع كون الأصل في الأمر الوجوب، وحجة مالك أن المراد تمموهما إذا شرعتم فيهما، ولا يلزم من وجوب الإتمام وجوب الإبتداء، فالحاصل أن العلماء اتفقوا على وجوب الحج عيناً في العمر مرة وما عدا ذلك فهو فرض كفاية لإقامة الموسم، واتفقوا على مشروعية العمرة واختلفوا في حكمها، فقال الشافعي بوجوبها كالحج وحمل الإتمام على الأداء، وقال مالك بسنيتها وحمل الإتمام على حقيقته. قوله: ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ أي عن البيت ولم تتمكنوا من دخوله كما وقع للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا رفع للحرج الواقع في الأمر من قوله وأتموا. قوله: (تيسر) أشار بذلك إلى أن السين ليست لمعنى زائد، بل استيسر وتيسر بمعنى واحد. قوله: (وهو شاة) أي ضأناً أو معزاً مجزئة في الضحية. قوله: ﴿ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ ﴾ أعلم أنه إذا اجتمع هدي وحلق فالهدي مقدم على الحلق، فإذا اجتمع معهما رمي وطواف قدم الرمي، ثم النحر ثم الحلق ثم الطواف، وضبطها بعضهم بقوله ونحط. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾ اعلم أنه اختلف في الهدي فقيل يؤمر به وهو قول الشافعي، وعليه فإن لم يجد هدياً قومه بطعام، وأخرجه فإن لم يجد صام بعدد الأمداد، وقيل لا يؤمر به، والآية محمولة على من كان معه هدي تطوعاً مثلاً وهو قول مالك، وعليه فإن لم يجد هديا فلا شيء عليه غير الحلق. قوله: ﴿ مَحِلَّهُ ﴾ وهو بالكسر يطلق على الزمان والمكان، وبالفتح على المكان فقط. قوله: (عند الشافعي) أي ومالك أيضاً فالمدار عندهما على كان الإحصار حلالاً أو حراماً، وقال أبو حنيفة لا بد أن يذبح بالحرم. قوله: ﴿ أَوْ بِهِ أَذًى ﴾ متعلق بمحذوف معطوف على مريضاً الواقع خبراً لكان، وقوله أذى فاعل بالجار والمجرور خبر مقدم، وأذى مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على مريضاً. قوله: ﴿ فَفِدْيَةٌ ﴾ (عليه) قدرة إشارة إلى أنه خبر المبتدأ، والجملة جواب من. واعلم أن دماء الحج ثلاثة: فدية وهدي، وقد ذكرهما هنا، وجزاء وقد ذكره في المائدة فيما كان عن إزالة أذى أو ترفه فهو فدية، وما ترتب عن نقص في حج أو عمرة بفعل اختياري أو لا فهدي، وما كان عن صيد فجزاء. قوله: (على ستة مساكين) أي لكل مسكين مدان. قوله: (لغير عذر) أي وإن كان حراماً. قوله: (وكذا من استمتع بغير الحلق) أي فهو مقيس عليه. قوله: (بعذر أو غيره) راجع للثلاثة، غير أن الحرمة فيما كان لغير عذر وألحق بذلك من قلم أظافره، وأما الوطء وتقبيل الزوجة فكذا عند الشافعي وعند مالك وفيه هدى. قوله: ﴿ فَإِذَآ أَمِنتُمْ ﴾ أي ابتداء وانتهاء. قوله: ﴿ فَمَن تَمَتَّعَ ﴾ حاصل ما في المقام أن الشخص إذا كان مفرداً فإنه لا شيء عليه، وأما إذا كان قارناً أو متمتعاً فعليه دم. قوله: (أي بسبب فراغه منها دفع بذلك ما يقال إن العمرة فيها مشقة ولا تمتع فيها. قوله: ﴿ إِلَى ٱلْحَجِّ ﴾ أي تمتع من فراغه من العمرة واستمر على ذلك إلى الإحرام بالحج. قوله: (تيسر) من قوله: ﴿ ٱلْهَدْيِ ﴾ أي وأفضل الهدايا الإبل ثم البقر ثم الغنم. قوله: ﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ ﴾ أي فهو على الترتيب، وهذا الدم يلزم بشروط أربعة: الأول: أن لا يكون أهله بالمسجد الحرام. الثاني: أن يكون تحلله من العمرة في أشهر الحج. الثالث: أن يحج في عامه. الرابع: أن لا يرجع إلى بلده أو مثلها، وقال الشافعي أن لا يرجع إلى الميقات. قوله: ﴿ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ ﴾ محل ذلك إن كان النقص قبل الوقوف وإلا صام العشرة متى شاء. قوله: (قبل السابع) أي ليصوم الثلاثة الأيام، وما مشى عليه المفسر قول ضعيف في مذهب الشافعي، والمعتمد أنه لا يجب عليه ذلك، لأنه لا يجب عليه تحصيل سبب الوجوب، ووافقه مالك على ذلك. قوله: (على أصح قولي الشافعي) وقال مالك بجواز صومها. قوله: (وفيه التفات عن الغيبة) أي مع مراعاة معنى من قوله: (تأكيد لما قبلها) أي لدفع توهم الكثرة في العدد، وقوله: ﴿ كَامِلَةٌ ﴾ أي في الثواب كالهدي وفيه تسلية الفقير العاجز عن الهدي. قوله: (عند الشافعي) أي وعند مالك لا ينتفي الهدي إلا عمن كان متوطناً بأرض الحرم، فيشمل أهل منى ومزدلفة. قوله: (وهو أحد وجهين عند الشافعي) أي وهو مذهب مالك. قوله: (والأهل كناية عن النفس) أي فعلى هذا يكون معنى الآية ذلك لمن أي لمحرم لم يكن أهله أي نفسه حاضري المسجد الحرام وهذا معنى بعيد، فالأولى ما قاله غيره من أن المراد بالأهل الزوجة والأولاد الذين تحت حجره دون الآباء والإخوة، ومعدوم الأهل المتوطن بنفسه كذلك، وإنما عبر بالأهل لكون شأن المتوطن يكون بذلك. قوله: (القارن) أي ويطوف لهما طوافاً واحداً وسيعاً واحداً عند مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة لا بد لهما من طوافين وسعيين. قوله: (فيما يأمركم به إلخ) أي وخصوصاً في الحج والعمرة. قوله: (وقته) إنما قدره لأن الحج عمل والأشهر زمن ولا يخبر عن العمل بالزمن.
قوله: ﴿ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ هذه الأية مقيدة لآية قل هي مواقيت للناس والحج، لأن المتبادر منها أن الأهلة كلها مواقيت الحج، فأفاد بهذه الآية أن الحج له زمن معلوم يؤدى فيه، وأما العمرة فوقتها السنة كلها ما لم يكن متلبساً بالحج، وإلا فلا يعتمر حتى يفرغ منه. قوله: (وعشر ليل من ذي الحجة) أي فالجمع في الآية لما فوق الواحد أو باعتبار جبر الكسر. قوله: (وقيل كله) أي فالجمع على حقيقته وبذلك قال مالك، والمعنى على ما قال مالك أن له التحلل في ذي الحجة بتمامه ولا يلزمه دم إلا بدخول الحرم، لا أن المعنى أن يبتدى، الإحرام به بعد فجر النحر، فإن ذلك لم يقله مالك ولا غيره ممن يعتد به، فالحاصل أن الحج له ميقاتان مكاني وزماني، فالمكاني ما أشار له بعضهم بقوله: عرق العراق يلملم اليمن   وبذي الحليفة يحرم المدنيوالشام جحفة إن مررت بها   ولأهل نجد قرن فاستبنوالزماني لابتداء الأحرام به شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، وأما الإنتهاء التحليل منه فبقية ذي الحجة. قوله: ﴿ فَمَن فَرَضَ ﴾ (على نفسه) أي ألزم نفسه الدخول في أفعال الحج بأن أحرم به، وسواء كان فرضاً عليه قبل ذلك أو لا. قوله: ﴿ فِيهِنَّ ﴾ أي الشهرين والعشر ليال، وأما في غير هذه الأشهر فقال مالك ينعقد ويكره وقال غيره لا ينعقد. قوله: ﴿ فَلاَ رَفَثَ ﴾ في الآية ثلاث قراءات غير شاذة، الأولى برفع الجميع مع التنوين، الثانية برفع الأولين وبناء الثالث على الفتح، الثالثة بناء الثلاثة على الفتح، وقرئ شاذاً بنصب الثلاثة. قوله: (معاص) أي بأي وجه من أوجه المعاصي والنهي عنها وإن كان عاماً إلا أنه في الحج أشد. قوله: ﴿ وَلاَ جِدَالَ ﴾ هو مقابلة الحجة بالحجة لنصرة الباطل، وإما لنصرة الحق فلا بأس بذلك. قوله: ﴿ فِي ٱلْحَجِّ ﴾ أظهر في مقام الإضمار اهتماماً بشأنه. قوله: (بفتح الأولين) أي مع الثالث. قوله: (والمراد في الثلاثة النهي) أي لا الإخبار وإنما أتى بها على صورة الأخبار، إشارة إلى أنه لا ينبغي أن ييقع ذلك والتعبير على النهي بصورة الخبر أبلغ في الإنزجار. قوله: ﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ ﴾ إن قلت إن الله كما يعلم الخير من العبد يعلم الشر منه، أجيب بأن شأن الله ستر الشر عن العبيد فلا يظهره عليهم، بخلاف الخير فيظهره للخلائق لما في الحديث:" إذا تاب العبد أنسى الله الحفظة ذنوبه وأنسى ذلك جوارحه ومعالمه حتى يأتي يوم القيامة وليس عليه شاهد بذنب "وأيضاً الآية مسوقة في أفعال الحج وكلها خير. قوله: (ونزل في أهل اليمن) أي وكانوا حديثي عهد بإسلام ويزعمون أنهم متوكلون. قوله: (كلاً على الناس) أي عالة. قوله: (وغيره) أي كالغصب والسرقة. قوله: (نزل رداً لكراهتهم ذلك) أي فلا بأس بالتجارة بالحج إذا كانت لا تشغله عن أفعاله، واختلف هل التجارة تنقص ثواب الحج أو لا، قال بعضهم إن كانت التجارة أكبر همه ومبلغ علمه سقط الفرض عنه وليس ثوابه كمن لا قصد له إلا الحج، وإن استوى الأمران فلا يذم ولا يمدح وإن كانت التجارة تبعاً للحج فقد جاز خير الدنيا والآخرة. قوله: ﴿ مِّنْ عَرَفَٰتٍ ﴾ هو مصروف ويصح منعه من الصرف للعملية والتأنيث لأنه علم على البقعة. قوله: (بعد الوقوف بها) أعلم أن الركن عند مالك إدراك جزء من الليل، وأما النهار فهو واجب يجبر بالدم، وعند الشافعي أحدهما كاف، فمن أدرك جزءاً من الليل وجزءاً من النهار فقد تم حجه باتفاق، والأفضل الوقوف عند الصخرات العظام هناك لأنه موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (بعد المبيت بمزدلفة) أي ويجمعون بها المغرب والعشاء جمع تأخير ويقصرون العشاء إلا أهلها ويستمرون بها إلى صلاح الصبح فيصلونها ثم يتوجهون إلى المشعر الحرام فيقفون به إلى الأسفار. قوله: (التلبية) هذا جرى على مذهب الشافعي، وأما عند مالك فيقطع التلبية من وصوله لعرفة وصلاته الظهر والعصر بها. قوله: (هو جبل في آخر المزدلفة) أي من جهة منى عند منارة بلا جامع. قوله: (قزح) على وزن عمر. قوله: (والكاف للتعليل) أي فالمعنى اذكره لأجل هدايته إياكم، ولأجل أنكم كنتم قبل ذلك من الضالين. قوله: ﴿ وَإِن ﴾ (مخففة) أي مهملة لا عمل لها. قوله: ﴿ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ أي من التائهين عن الهدى فهي نعمة ثانية يجب الشكر عليها، قال تعالى في مقام تعداد النعم:﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ ﴾[الشورى: ٥٢] الآية.
قوله: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ ﴾ أي قفوا بعرفة، وتقدم أن معنى الإفاضة الدفع فأطلقه وأراد لازمه وهو الوقوف. قوله: (ترفعاً) أي تكبراً. قوله: (وثم للترتيب في الذكر) جواب عن سؤال مقدر حاصله أن الإتيان بثم يقتضي أن الأمر بالوقوف بعد رجع الناس من عرفة ووصولهم منى مع أن الأمر ليس كذلك، فأجاب المفسر بذلك، وأجيب أيضاً بأن ثم بمعنى الواو وهي لا تقتضي ترتيباً وأجيب أيضاً بأن في الكلام تقديماً وتأخيراً، فقوله: (ثم أفيضوا) معطوف على قوله فاتقون، وقوله: (فإذا أفضتم) مرتب عليه، ويكون الخطاب لعموم الناس. قوله: ﴿ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي اطلبوا منه مغفرة ذنوبكم بتلك المواضع المطهرة فإنها مهبط تجلي الرحمات وإجابة الدعوات. قوله: ﴿ مَّنَاسِكَكُمْ ﴾ جمع منسك وهي العبادات التي عين الشارع لها أماكن مخصوصة، كالطواف لا يكون إلا بالبيت، والسعي لا يكون إلا بين الصفا والمروة، والوقوف لا يكون إلا بعرفة، والرمي لا يكون إلا بمنى، فالمعنى أديتم العبادات في أماكنها المعهودة. قوله: (المفاخرة) كانت العرب في الجاهلية بعد فراغ حجهم يذكرون آبائهم بالخصال الحميدة نظماً ونثراً فكان الواحد منهم يقول مثلاً إن أبي كان كبير الجفنة أي القصعة فتاكاً بالشجعان وهكذا الآية يوما اجتماع للقبائل من العام إلى العام. قوله: (من ذكراً المنصوب باذكروا) أي على المصدرية. قوله: (إذ لو تأخر عنه لكان صفة له) أي لأن القاعدة أن نعت النكرة إذ تقدم عليها يعرب حالاً وتعرب النكرة بحسب العوامل، فيكون التقدير فاذكروا الله ذكراً كائناً كذكركم آباءكم أو أشد. قوله: ﴿ فَمِنَ ٱلنَّاسِ ﴾ هذا بيان لحال من يقف بعرفة، قوله: ﴿ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ من صلة قوله: (نصيب) أي حظ وهذا دعاء غير المؤمنين بغير الآخرة، وقوله ومنهم هذا هو دعاء المؤمنين بها. قوله: (نعمة) أي بركة وخيراً وذلك كالعافية والزوجة الحسنة والدار الواسعة وغير ذلك مما يعين على الدار الآخرة فكل أمر في الدنيا يوافق الطبع ويعين على الدار الآخرة فهو من حسنات الدنيا. قوله: (هي الجنة) أي دخولها بسلام بحيث يموت على الإسلام والا يلحقه حساب ولا عذاب ويرى وجه الله الكريم، وهذا أحسن ما فسر به حسنة الدنيا والآخرة، وهو معنى قوله في الحديث لعائشة:" سلي الله العافية في الدارين ". قوله: ﴿ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ﴾ من عطف اللازم على الملزوم، وأصل قنا أو قنا حذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها في المضارع ثم حذفت الهمزة للإستغناء عنها لأنه أتى بها توصلاً للنطق بالساكن وقد زال، وقد ورد أن المؤمن الناجي يكون بينه وبين النار مسيرة خمسمائة عام عرضاً وعمقاً. قوله: (بعدم دخولها) أي أصلاً فلا ندخلها ولا نراها. قوله: (لما كان عليه المشركون) أي هو الأول، وقوله، ولحال المؤمنين أي وهو الثاني. ، قوله: (الحث على طلب خيري الدارين) أي لا التخيير بين كونه يدعوه بشيء يؤتاه في الدنيا فقط، أو بحسنة الدنيا والآخرة، والخسة الأول في دعائهم لم يبين الله ما طلبوه في الدنيا. قوله: (ثواب) أي على الطلب فيؤتون سؤالهم ويزادون ثواباً على طلبهم، ذلك لأن الدعاء مع العبادة. قوله:(في قدر نصف نهار) بل قد ورد أنه في مقدار ساعة بل ورد أيضاً كلمح البصر، وذلك كناية عن عظيم قدرته، فمن كان هذا وصفه ينبغي أن يتقي ويخشى، وما من أحد من لمحاسبين إلا ويرى أنه لا محاسب غير وذلك بعد انفضاض الموقف الذي تدنو الشمس فيه من الرؤوس، ويسيل العرق في الأرض سبعين ذراعاً، وتكون النار حول الخلائق، وتحيط الملائكة بالمخلوقات فيكونون سبع صفوف يحولون بينهم وبين النار، وهو يختلف باختلاف الناس فنسأل الله السلامة من أهواله. قوله: (عند رمي الجمرات) أي عند رمي كل حصاة من حصيات الجمار يقول الله أكبر، وكذلك عقب الصلوات وعند الذبح بأن يقول: بسم الله والله أكبر اللهم إن هذا منك وإليك، قوله: (أي أيام التشريق الثلاثة) أي وهو ثاني يوم النحر وتالياه، وأما يوم النحر فمعلوم للذبح غير معدود للرمي، واليومان بعده معلومات معدودان، والرابع معدود غير معلوم عند مالك وأبي حنيفة وعند الشافعي معلوم أيضاً، وما ذكره المفسر من أن المراد بالأيام المعدودات أيام التشريق الثلاثة هو ما عليه مالك والشافعي، وإطلاق التشريق على الثلاثة اعتبار بمذهب الشافعي، والحاصل أن يوم النحر يفعل فيه رمي جمرة العقبة ثم النحر ثم الحلق ثم طواف الإفاضة، وفي الثاني يرمي ثلاث جمرات يبدأ بالتي تلي مسجد منى ثم بالوسطى ثم يختم بالعقبة، وكذا في الثالث والرابع إن لم يتعجل. قوله: (أي في ثاني أيام التشريق) دفع بذلك ما يتوهم أن له التعجل في كل من اليومين مع أنه لا معنى له. قوله: (بعد رمي جماره) أو هو بعد الزوال ومحل التخيير إن لم تغرب عليه الشمس وهو بمنى وإلا فيلزمه المبيت بها لرمي الثالث، وأصل مشروعية الرمي عند أمر إبراهيم الخليل بذبح ولده، فلما توجه به لمنى تعرض له الشيطان عند المسجد فرماه بسبع حصيات، ثم تعرض له عند الوسطى فرماه أيضاً بسبع، ثم تعرض له عند العقبة فرماه أيضاً بسبع، فهو ما زال سببه وبقي حكمه. قوله: ﴿ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ أي لا حرج لأنه رخصة. قوله: (أي هم مخيرون) جواب عن سؤال وهو أن المتأخر أتى بالمطلوب فكيف ينفى عنه الإثم، وأجيب أيضاً بأن ذكر الإثم في جانب المتأخر مشاكلة، وأجيب أيضاً بأنه رد على من زعم من الجاهلية أن على المعجل الإثم وعلى من زعم منهم أن على المتأخر الإثم. قوله: (ونفي الإثم) ﴿ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ ﴾ أشار بذلك إلى أن لمن اتقى خبر لمحذوف قدره بقوله ونفي الإثم. قوله: (لأنه الحاج على الحقيقة) وفي نسخة في الحقيقة أي لاستكماله الشروط والآداب، وأما غير المتقي فعليه الإثم مطلقاً تعجل أو تأخر كالحاج بالمال الحرام ومرتكب المعاصي. قوله: (فيجازيكم بأعمالكم) أي إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ ﴾ معطوف على قوله فمن الناس من يقول ربنا الآية، فقد قسم الله الناس على أربعة أقسام: الأول من يطلب الدنيا لا غير، ومنهم من يطلب الدنيا والآخرة، ومنهم من يظهر أنه من أهل الآخرة مع أنه في الواقع من أهل النار، ومنهم منه هو مؤمن ظاهراً وباطناً، وذكرهم على هذا الترتيب. قوله: (الأخنس بن شريق) هذا لقبه واسمه أبي وكان يتبعه ثلاثمائة منافق من بني زهرة، وسبب تلقيبه بالأخنس أنه اختفى يوم بدر هو وجماعته فقال لهم إن انتصر محمد فالعزة لكم لعدم ظهور العداوة منكم، وان انتصر الكفار فقد كفيتموه. قوله: (حلو الكلام) أي والمنظر قوله: (فيدني مجلسه) أي فيقربه منه، وفي الحديث:" إنا لنبش في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم ". قوله: (فأكذبه الله في ذلك) أي في دعواه وفي حلفه. قوله: (وحمر) جمر حمار. قوله: (وعقرها) أي قطع رجلها. قوله: ﴿ لِيُفْسِدَ فِيِهَا ﴾ علة لقوله سعى. قوله: ﴿ وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ ﴾ تفصيل للإفساد. قوله: ﴿ بِٱلإِثْمِ ﴾ الباه للملابسة، والإتيان بقوله بالإثم يسمى عند علماء البديع تتميماً لأنه ربما يتوهم أن المراد عزة ممدوحة. قوله: ﴿ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ ﴾ أي إن الله جعل له جهنم غطاء ووطاء، فأكرمه كما تكرم أم الصبي ولدها بالغطاء والوطاء اللينين وذلك من باب التهكم. قوله: (وهو صهيب) أي ابن سنان الرومي حين أسلم تعرض له المشركون وآذوه، فقال إني رجل كبير مسكين ليس بنافعكم وفراري ليس بضاركم، فإن كان من جهة المال فها هو فتركه وهاجر لرسول الله، وقد مدحه رسول الله بقوله نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، أي لو انتفى عنه خوف الله لا يقع منه عصيان، لأن طاعته محبة في الله لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار. قوله: (حيث أرشدهم لما فيه رضاه) أي فقد جعل النعيم الدائم في نظير العمل القليل، فإن الخلود في الجملة جزاء كلمة الإخلاص وهم جملة رأفته مضاعفة الحسنات وعدم مضاعفة السيئات، وعدم مؤاخذة من كفر خوف القتل، وقبول التائب وأن بالغ في العصيان وطال زمانه. قوله: (ونزل في عبد الله بن سلام) أي وكان من أحبار اليهود. قوله: (وأصحابه) أي الذين أسلموا معه من اليهود. قوله: (لما عظموا السبت) أي احترموه بتحريم الصيد فيه كما كان في شرع موسى. قوله: (وكرهوا الإبل) أي حيث حرموا أكل لحومها وشرب ألبانها. قوله: (بعد الإسلام) أي بعد أن دخلوا في الإسلام لم يتمسكوا بجميع شرائعه، فوبخهم الله على ذلك. قوله: (بفتح السين وكسرها) قراءتان سبعيتان هنا وفي الأنفال والقتال لكن الأكثر هنا الكسر وما هناك العكس، وقوله الإسلام إشارة لمعناه هنا على القراءتين، وأما في الأنفال والقتال فمعناه الصلح. قوله: (حال من السلم) أي وهو يذكر ويؤنث فلذا أتى بالتاء في كافة، وقال تعالى أيضاً:﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا ﴾[الأنفال: ٦١].
قوله: (أي تزيينه) أي تحسينه أموراً لكم، والمعنى لا تتبعوا طرق الشيطان التي يزينها لكم بوسوسته. قوله: (بالتفريق) أي بأن تتبعوا محمداً في أمور وموسى في أمور أخر. قوله: ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ ﴾ تعليل لما قبله، والعدو هو الذي يسره ما يضرك ويضره ما يسرك. قوله: (بين العداوة) من أبان اللازم، والمعنى أن عداوته بينة وظاهرة لمن نور الله بصيرته وأراد به خيراً، قال تعالى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ ﴾[الأعراف: ٢٠١].
قوله: (عن الدخول في جميعه) أي جميع أحكامه. قوله: ﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ ﴾ إن قلت أن الزلل لا يكون إلا بعد مجيئها أجيب بأن المراد بمجيئها ظهورها ظهوراً بيناً. قوله: (لا يعجزه شيء) أي فلا تفلتون منه. قوله: ﴿ حَكِيمٌ ﴾ (في صنعه) أي يضع الأشياء في محلها ومنها عذاب المفرق. قوله: ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ ﴾ الإستفهام هنا إنكاري توبيخي. قوله: (الدخول فيه) أي في جميع أحكامه. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ استثناء مفرغ، والمعنى لا ينتظرون شيئاً إلا اتيان الله في ظلل. قوله: (أي أمره) دفع بذلك ما يقال إن الإتيان بمعنى الإنتقال من صفات الحوادث وهي مستحيلة على الله تعالى. قوله: ﴿ فِي ظُلَلٍ ﴾ ظرف للإتيان المذكور، والمعنى أن الله يرسل عليهم العذاب في صورة الرحمة، وذلك لأن شأن السحاب الرقيق أن تأتي بالأمطار التي يكون فيها منافع لهم، وذلك مكر عظيم من الله بهم. قوله: ﴿ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾ عطف على لفظ الجلالة، والمعنى أن إتيان الملائكة مصاحب لعذاب الله المظروف في السحاب الرقيق، وقرئ شاذاً بجر الملائكة واختلفوا في عطفه، فقيل معطوف على ظلل وقيل على الغمام. قوله: ﴿ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ ﴾ عبر بالماضي لتحقق وقوعه، فالمقام للمضارع لمناسبة يأتيهم وينظرون وهذا وعيد عظيم لكل من لم يستجمع أحكام الإسلام، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله: (فيجازي كلا بعمله) أي فيحاسبكم على النقير والقمطير ويؤول أمركم إلى جنة أو إلى نار.
قوله: ﴿ سَلْ ﴾ أصله اسأل نقلت فتحة الهمزة الثانية إلى الساكن قبلها فسقطت تلك الهمزة تخفيفاً ثم سقطت همزة الوصل للإستغناء عنها فصار وزنه فل. قوله: (تبكيتاً) أي تقريعاً وتوبيخاً لا للإستفهام منهم، وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي فلا غرابة في عدم إيمانهم بك، فأننا آتيناهم آيات بينات على يد موسى فلم يؤمنوا ولم ينقادوا. قوله: (معلقة سل عن المفعول الثاني) التعليق هو إبطال العمل لفظاً لا محلاً والإلغاء إبطاله لفظاً ومحلاً فتكون جملة كم آتيناهم في المعنى في محل المفعول الثاني لسل إن قلت إن التعليق مختص بأفعال القلوب وسل ليست منها، أجيب بأنها سبب للعلم والعلم منها. قوله: (وهو ثاني مفعولي آتينا) أي كم ومفعولها الأول والهاء من هم. قوله: (ومميزها) أي مميزكم. قوله: (كفلق البحر) أي اثني عشر طريقاً. قوله: (وإنزال المن والسلوى) أي وهم في التيه حين أمروا بقتل الجبارين. قوله: (فبدلوها كفراً) هذا إشارة للبدل، والمعنى أن الله يأتيهم بالآيات فيبدلونها بالكفر. قوله: ﴿ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ ﴾ من شرطية ويبدل فعل الشرط، وقوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ جوابه. قوله: ﴿ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ ﴾ أي اتضحت وثبتت له. قوله: (كفراً) هذا هو المفعول الثاني وقد صرح به في قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْراً ﴾[إبراهيم: ٢٨] قوله: (له) قدر المفسر لصحة جعل الجملة جواب الشرط.
قوله: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ زين فعل ماض مبني للمفعول، ونائب الفاعل قوله الحياة الدنيا، وللذين كفروا متعلق بزين، وفاعل الزينة حقيقة هو الله، والشيطان مجازاً، وقرئ ببناء الفعل للفاعل، والحياة مفعول، والفاعل ضمير يعود على الله أو الشيطان، وجرد الفعل من العلامة لكون نائب الفعل مجازي التأنيث سيما مع وجود الفاصل. قوله: (من أهل مكة) تخصيص بحسب السبب وإلا فكل كافر كذلك. قوله: (بالتمويه) أي التحسين الظاهر الذي باطنه قبيح. قوله: ﴿ وَ ﴾ (هم) ﴿ يَسْخَرُونَ ﴾ قدره المفسر إشارة إلى أن الجملة حالية، قال ابن مالك: وذات واو بعدها انو مبتدأ   له المضارع اجعلن مسنداًقوله: (لفقرهم) أي لتركهم الدنيا وإقبالهم على الآخرة. قوله: (كعمار) أي ابن ياسر. (قوله وبلال) أي الحبشي لما أسلم عذب في الله عذاباً شديداً، وقوله صهيب تقدمت قصته. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ ﴾ جملة حالية. قوله: ﴿ فَوْقَهُمْ ﴾ أي حساً لكونهم في الجنة وهي عالية وجهنم سافلة، ومعنى لكونهم مكرمين والكفار مهانون. قوله: (والله يرزق) جملة مستأنفة كالدليل لما قبلها. قوله: (أي رزقاً واسعاً في الآخرة) أي لما في الحديث" لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ". قوله: (أو في الدنيا هذا تفسير آخر، وقوله: (بأن يملك المسخور منهم إلخ) أي وقد حصل ذلك بعد الفتح وفي الغزوات، فإنه ما من غزوة إلا ويأخذ منهم الأموال والرقاب في تلك الغزوة، بل زادهم الله بأن ملكهم رقاب الملوك وأموالهم، والحاصل أن رزق المؤمن في الدنيا بغير حساب بخلاف الكافر، وفي الحديث:" أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب "وأما في الآخرة فالأمر ظاهر. قوله: ﴿ كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً ﴾ أي في مبدأ الدنيا من آدم إلى إدريس وقيل من آدم إلى نوح، والمعنى أنهم كانوا على الحق ولا اختلاف بينهم في تلك المدة، وقيل كانوا على باطل في تلك المدة وهو ضعيف، ولذا لم يعرج عليه المفسر. قوله: (بأن آمن بعض الخ) أي بعد ظهر نوح أو إدريس. قوله: (من آمن) هذا معمول مبشرين، وقوله: (من كفر) معمول لمنذرين. قوله: ﴿ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ﴾ أي مع مجموعهم لا جميعهم. قوله: (بمعنى الكتب) أشار بذلك إلى أن أل جنسية. قوله: (متعلق بأنزل) أي والباء للملابسة. قوله ﴿ لِيَحْكُمَ ﴾ يحتمل عود الضمير على الله لأنه الحاكم حقيقة، ويحتمل عوده على الأنبياء باعتبار كل فرد من أفرادهم، أي ليحكم كل نبي بين أمته. قوله: (من الدين) بيان لما. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ ﴾ استثناء مفرغ فالمستثنى منه محذوف، أي وما اختلف فيه أحد إلا الذين أوتوه، والمعنى لم يختلف في الدين أحد إلا الذين أوتوا الكتاب، فالاختلاف من عهد إنزال الكتب، وذلك يؤيد القول بأن الاختلاف من زمن إدريس. قوله: (وهي وما بعدها مقدم على الاستنثاء) أي فيكون المعنى وما اختلف في الدين أحد من بعد ظهور الحجج الواضحة حال كون الاختلاف بغياً إلا الذين أوتوه، وإنما جعل مقدماً على الاستثناء لئلا يكون الاستثناء المفرغ متعدداً مع أنه لا يكون ذلك لأنه يصير المعنى حينئذ: إلا الذين أوتوه إلا من بعد ما جائتهم البينات إلا بغياً بينهم. قوله: ﴿ بَغْياً ﴾ أي ظلماً وتعدياً. قوله: (للبيان) أي بيان الأمر الذي اختلفوا فيه. قوله: (بإرادته) أي سبقت إرادته بهداية الذين آمنواو للحق الذي اختلف فيه الكفار. قوله: (هدايته) أشار بذلك إلى أنه مفعول يشاء، وأشار بذلك إلى أن الهداية والاضلال ليسا من فعل الإنسان بل بخلق الله، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً. قوله: (طريق الحق) أي دين الإسلام، سمي طريقاً لأنه يوصل للمقصود كما أن الطريق كذلك. قوله: (ونزل في جهد) هو بالفتح المشقة. قوله: (أصاب المسلمين) قيل كان ذلك في غزوة الأحزاب حين حاصر الكفار المدينة واحتاطوا بها وقطعوا عنها الوارد ولم يكن بينهم وبين دخولها إلا الخندق، وكانوا إذ ذاك عشرة آلاف مقاتل، فاشتد الكرب والخوف على المسلمين ولا سيما مع وجود ثلاثمائة منافق بين أظهرهم فنزلت الآية.
قوله: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ ﴾ قدر المفسر بل إشارة إ لى أن أم منقطعة والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، والمقصود منه تقويتهم على الصبر. قوله: (لَمْ) قدرها إشارة إلى أن لما نافية بمعناها. قوله: (ما أتى) قدر ذلك المضاف إشارة إلى أن الشبه في الأمر الذي أتاهم لا في الذوات. قوله: ﴿ مِن قَبْلِكُم ﴾ تأكيد لخلوا. قوله: (من المحن) بيان لما أتى. قوله: (بالنصب والرفع) أي فهما قراءتان سبعيتان والنصب بأن مضمرة وحتى بمعنى إلى وهي تنصب المضارع إذا كان مستقبلاً ولا شك أن القول مستقبل بالنسبة للزلزال. إن قلت: إن القول والزلزال قد مضى. فالجواب: أنه على حكاية الحال الماضية، وأما الرفع فهو بناء على أن الفعل بعدها حال مقارن لما قبلها، والحال لا ينصب بعد حتى فتحصل أن لها بعد حتى ثلاثة أحوال: إما أن يكون مستقبلاً أو ماضياً أو حالاً، فالأول ينصب والأخيران يرفعان. قوله: ﴿ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ ﴾ قدر المفسر يأتي إشارة إلى أن نصر الله فاعل بفعل محذوف، ولكن الأحسن جعله مبتدأ مؤخراً ومتى خبر مقدم، وليس قول الرسول قلقاً وعدم صبر بل ذلك دعاء وطلب لما وعده الله به. قوله: ﴿ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ أخذ من ذلك أنه إذا اشتد الكرب كان الدعاء بالفرج مستجاباً، قال تعالى:﴿ أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ ﴾[النمل: ٦٢] وقد حقق الله ذلك سريعاً كما قال في سورة الأحزاب:﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ﴾[الأحزاب: ٩].
قوله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ ﴾ أي أصحابك المسلمون. قوله: ﴿ مَاذَا يُنْفِقُونَ ﴾ ما اسم استفهام مبتدأ، وذا اسم موصول بمعنى الذي خبره، وجملة ينفقون صلته والعائد محذوف أي ينفقونه، والمعنى أن أصحابك يسألونك عن الشيء الذي ينفقونه هل ينفقون مما تيسر ولو حراماً أو يتحرون الحلال، وفي الآية حذف سؤال آخر دل عليه الجواب، والتقدير وعلى من ينفقون، والسؤال عن صدقة التطوع بدليل الجواب. قوله: (السائل عمرو) أي إنما جمع السائل في الآية لأن التكليف لكل مسلم، فكان هذا السائل ترجماناً عن كل مسلم، وإنما اعتنى بذلك السؤال لأن الإنسان يوم القيامة ورد أنه يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه. قوله: (فسأل النبي الخ) أي وحينذ ففي الآية اكتفاء في السؤال حيث حذف الشق الثاني واكتفى بجوابه. قوله: ﴿ مِّنْ خَيْرٍ ﴾ أي حلال. قوله: (الذي هو أحد شقي السؤال) أي المذكور في الآية، قوله: (وأجاب أي عن الصرف الخ) أي الذي سؤاله مطوي. قوله: ﴿ وَٱلأَقْرَبِينَ ﴾ أي من أولاد وإخوة وأعمام وعمات، وهو من عطف العام على الخاص، وصرح بذكر الوالدين وإن دخلا في الأقربين اعتناء بشأنهما. قوله: ﴿ وَٱلْيَتَامَىٰ ﴾ جمع يتيم وهو من فقد أباه وهو دون البلوغ، وقدم اليتامى على المساكين لعجزهم عن التكسب. قوله: ﴿ وَٱلْمَسَاكِينِ ﴾ المراد بهم ما يشمل الفقراء. قوله: ﴿ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ﴾ أي الغريب المسافر. قوله: ﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ ﴾ ما شرطية، وتفعلوا فعل الشرط، وما بعد الفاء جوابه، وأتى بتلك الجملة طمأنينة للمؤمن في الاكتفاء بوعد الله في المجازاة لأنه وعد بها ووعده لا يتخلف، ومع ذلك لا يغيب عن علمه مثقال ذرة، فيلزم من علمه بالخير من العبد مجازاته عليه، والأسرار بنفقة التطوع أفضل لأن صاحبها من جملة من يظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلى ظله. قوله: أو غيره) أي كالكلام اللين الطيب. قوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ أي وقد التزم جزاءه وحقيق بأن ينجزه. قوله: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ ﴾ أي وكان فرضه بعد الهجرة بعد أن نهى رسول الله عنه في نيف وسبعين آية، وهو فرض عين إن فجأ العدو، وكفاية إن لم يفجأ بأن كان في بلده ونحن الطالبون له. قوله: (الكفار) أي الحربيين أهل الذمة فيحرم قتالهم. قوله: (طبعاً) أي فهو مكروه من جهة الطبع ولا يلزم من كون الطبع كرهه أنه كاره حكم الله به، بل هو من باب مخالفة النفس. قوله: ﴿ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً ﴾ الترجي في كلام الله ليس على بابه بل هو للتحقيق لأنه خبر من أحاط بكل شيء علماً، وعسى هنا تامة تكتفي بمرفوعها قال ابن مالك: بعد عسى اخلولق أوشك قد يرد   غنى بأن يفعل عن ثان فقدقوله: ﴿ وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ جملة حالية من قوله شيئاً أو صفة له، فاستشكل كل منهما بأن الحال لا يتأتى من النكرة بدون مسوغ وبأن الصفة لا تقترن بالواو. وأجيب عن الأول بأن إتيان الحال من النكرة بدون مسوغ قليل، وعن الثاني أن الصفة أجريت مجرى الحال في جواز اقترانها بالواو، قوله الموجبة لسعادتها أي فالسعادة في طاعة الله والشقاوة في معاصيه. قوله: (إما الظفر والغنيمة) أي لمن عاش. قوله: (أو الشهادة والأجر) أي لمن مات. قوله: (لأن فيه الذل) أي بغلبة العدو علينا. وقوله: والفقر) أي لكونه يسلب مالنا. وقوله: (وحرمان الأجر) أي المترتب على الجهاد في سبيل الله وهو مضاعفة الحسنات إلى سبعمائة ضعف، وغير ذلك مما وعد الله به المجاهدين. قوله: (وأرسل النبي) هذا بيان لسبب نزول هذه الآيات ومن هنا إلى آخر الربع. قوله: (أول سراياه) أي وكانت تلك السرية إذ ذاك رجال وقيل اثني عشر، أرسلهم النبي لمحل يقال له نخلة جهة الطائف يتجسسون على الكفار ويأتون بأخبارهم، فبينما هم في ذلك الموضع إذ مرت بهم عير لقريش من جهة الطائف ومعها أربعة رجال، فقتل أهل السرية أحد الأربعة وأسروا اثنين وهرب واحد وغنموا العير وما عليها، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين. وأعلم أن جملة سراياه وغزواته سبعون، والسرية من خمسة رجال إلى أربعمائة وما فوقها يقال لها جيش، ثم صريح المفسر يقتضي أنه لم يكن قبلها سرية، والذي ذكره في المواهب أو أول سرية كانت في رمضان سابع شهر من هجرته عليه الصلاة والسلام، والثانية في شوال، والثالثة في صفر، وهذه هي الرابعة، وغزا قبل تلك السرية ثلاث غزوات إلا أن يجاب عن المفسر بأن المراد بأول سراياه التي حصل منها القتل والغنيمة للكفار، وأما ما قبلها فلم يقع فيها قتل ولا غنيمة، قوله: (وعليها عبد الله بن جحش) أي أميراً وهو ابن عمة رسول الله. قوله: (فقاتلوا المشركين) أي الذين كانوا مع العير. قوله: (والتبس عليهم برجب) أي حيث رأوا الهلال كبيراً فالتبس عليهم هل هو ابن ليلة أو ليلتين قول: (تعيرهم الكفار باستحلاله) أي حيث قال الكفار للمسلمين أنتم قد استحللتم القتال في الأشهر الحرم.
قوله: و ﴿ يَسْأَلُونَكَ ﴾ أي سؤال اعتراض. قوله: (بدل اشتمال) أي من الشهر إذ هو مشتمل على القتال لوقوعه فيه. قوله: ﴿ كَبِيرٌ ﴾ أي إن كان عمداً. قوله: (مبتدأ وخبر) أي والمسوغ وصفه بالجار والمجرور. قوله: ﴿ وَ ﴾ (صد عن) قدر ذلك المفسر إشارة إلى أنه معطوف على سبيل مسلط عليه صد، لكن يلزم عليه العطف على المبتدأ قبل أستكمال مسوغه، وأجيب بأنه لا يلزم محذور إلا إذا كان المعطوف أجنبياً من المعطوف عليه، وهنا ليس بأجنبي لأن لكفر والصد عن سبيل الله والمسجد الحرام من واد واحد. قوله: (وخبر المبتدأ) أي وما عطف عليه وإنما أفرد الخبر لأنه اسم تفضيل مجرد، والقاعدة أن اسم التفضيل إذا كان مجرداً أو مضافاً لنكرة يلزم أن يكون بلفظ واحد للمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، قال ابن مالك: وإن لمنكور يضف أو جرداً   ألزم تذكيراً وإن يوحداقوله: ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ المقصود من ذلك تحريض المؤمنين على القتال. قوله: (كي) ﴿ يَرُدُّوكُمْ ﴾ أشار بذلك إلى أن حتى للتعليل والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها، وعن دينكم متعلق بيردوكم. قوله: ﴿ إِن اسْتَطَاعُواْ ﴾ جملة شرطية حذف جوابها لدلالة ما قبلها عليه ومفعولها محذوف إيضاً، أي إن استطاعوا ذلك فلا يزالون يقاتلونكم. قوله: ﴿ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ ﴾ هكذا القراءة هنا بالفك لا غير، وأما في المائدة ففيها قراءتان والادغام. قوله: و ﴿ أَعْمَالُهُمْ ﴾ (الصالحة) أي وأما السيئة فباقية يعذبون عليها. قوله: (وعليه الشافعي) هذا ضعيف والمعتمد عنده أنه يرجع له عمله مجرداً عن الثواب، وأما عند مالك وأبي حنيفة فهو كالكافر الأصلي إذا أسلم فلا يرجع له شيء من أعماله، ولا يؤمر بالقضاء ترغيباً له في الإسلام إلا ما أسلم في وقته فيفعله، وثمرة الخلاف تظهر في صحابي ارتد ثم عاد للإسلام ولم تثبت رؤيته للنبي بعد ذلك، هل ترجع له الصحبة مجردة عن الثواب، وعليه الشافعي أولاً وعليه مالك وأبو حنيفة، وأما زوجته، فتبين منه وترجع له بالإسلام من غير عقد عند الشافعي، وعند مالك وأبي حنيفة لا ترجع له إلا بالعقد، وحكم المرتد عند مالك أنه يستتاب ثلاثة أيام، فان تاب وإلا قتل بعد غروب الثالث. قوله: (ولما ظن السرية الخ) بل ورد أنهم سألوا النبي عن ذلك. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾ أي وهم عبد الله بن جحش ومن معه. قوله: (فارقوا أوطانهم) أشار بذلك إلى معنى الهجرة هنا. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي ومن رحمته بهم غفران خطيئتهم وقسم الغنيمة عليهم فإنه نزل بعد هذه الآية: (واعلموا أنما غنمتم من شيء) الآية، فأخذ رسول الله الخمس لبيت المال وفرق عليهم الأربعة أخماس.
قوله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ ﴾ السائل عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وجماعة من الصاحبة بقولهم: إن الخمر والميسر يضيعان العقل والمال فأفتنا فيهما، وحاصل ما وقع في الخمر في زمان رسول الله أنه نزل فيه أربع آيات: الأولى نزلت بمكة تدل على حله وهي قوله تعالى:﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ﴾[النحل: ٦٧] ثم سأل عمر ومعاذ وجماعة النبي بالمدينة عن حكمه فنزل: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ ﴾ الآية، فشربها قوم لقوله: ﴿ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ ﴾ وامتنع آخرون خوفاً من قوله: ﴿ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾ ثم إن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً لبعض أصحابه فأكلوا وشربوا الخمر، فحضرت صلاة المغرب فأمهم واحد منهم فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون بإسقاط لا إلى آخر السورة فنزل﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ ﴾[النساء: ٤٣] الآية، فحرمت في أوقات الصلاة دون غيرها، ثم إن عتبان بن مالك صنع طعاماً لجماعة من الصحابة وفيهم سعد بن أبي وقاص فأكلوا وشربوا الخمر فافتخروا وتناشدوا الشعر، فأنشد سعد قصيدة يمدح بها قومه ويهجو الانصار فشج رجل منهم رأسه، فرفع ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فأنزل الله آية المائدة إلى قوله:﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾[المائدة: ٩١] فقال عمر: انتهينا يا رب، فكان يوم نزولها عيداً عظيماً، والخمر كل مائغ غيب العقل ولو من غير ماء العنب وهو نجس وفيه الحد قليلاً أو كثيراً، بل بالغ بعض المالكية في الحديث أوجبه على من وضع إبرة فيه ومصها وبلع ريقه، والحاصل أن المتخذ من ماء العنب نجس يحرم قليله وكثيرة أسكر أم لا يحد شاربه بإجماع، وأما المتخذ من غيره من سائر المائعات التي دخلتها الشدة المطربة فكذلك عند الأئمة الثلاثة وبعض الحنفية، وقال بعضهم لا يحرم منه إلا القدر المسكر، وأما الجامد الذي يغيب العقل كالحشيشة والأفيون والبنج والداتورة فطاهر يحرم تعاطي القدر المغيب للعقل منه وفيه الأدب. قوله: (القمار) هو آلات الملاهي التي يلعب بها في نظير مال فيشمل الطاب والشطرنج والسيجة، وأما إن كان بغير مال ففيه خلاف، قيل كبيرة وقيل صغيرة وقيل مكروه. قوله: (أي في تعاطيهما) لا حاجة له بعد تقدير حكمهما. قوله: (بالمثلثة) أي كثير. قوله: (باللذة والفرح) أي القوة على الجماع والشجاعة والكرم. قوله: (إلى أن حرمتها آية المائدة) ظاهره أن آية المائدة نزلت بعد هذه الآية وليس كذلك بل بينهما آية النساء. قوله: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ ﴾ السائل عمرو بن الجموح المتقدم، فسأل أولا عن جنس المال الذي ينفق منه وعلى من ينفقه، وسأل ثانياً عن القدر المنفق فلم يكن بين السؤالين تكرار، وتقدم الجواب عن الجمع بأنه لما كان ذلك السؤال ينفع جميع الناس فكأن السائل جمع الناس. قوله: (وتضيعوا أنفسكم) أي فالاسراف مذموم وكذا التقتير، قال تعالى:﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ ﴾[الإسراء: ٢٩] الآية. وقال تعالى:﴿ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾[الفرقان: ٦٧].
قوله: (قراءة بالرفَع) أي وهي لأبي عمرو من السبع، وسبب القراءتين الاختلاف في إعراب ماذا ينفقون، فمن أعرب ماذا جميعها اسم استفهام معمولا لينفقون فالجملة فعلية فيكون جوابها كذلك، فقوله العفو بالنصب معمول لمحذوف، والجملة في محل نصب مقول القول لأن القول لا ينصب إلا الجمل أو ما قام مقامها، ومن أعرب ما وحدها اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره وجملة ينفقون صلته فالجملة اسمية فيكون جوابها كذلك، فالعفو بالرفع خبر لمحذوف أي هو العفو، والجملة على كل حال مقول القول وهذا هو المناسب، وإلا فيصح جعل السؤال جملة اسمية، والجواب جملة فعلية وبالعكس.
قوله: ﴿ فِي ﴾ (أمر) ﴿ ٱلدُّنْيَا ﴾ أي فتصلحوها ولا تسرفوا ولا تقتروا. قوله: ﴿ وَٱلآخِرَةِ ﴾ أي فتصلحوها بالأعمال الصالحة، فلا تشددوا حتى تملوا، ولا تتركوا حتى تغفلوا بل التوسط مطلوب في أمر الدنيا والآخرة. قوله: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ ﴾ سبب نزولها أنه لما نزل قوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾[النساء: ١٠] اشتد الكرب على أولياء الأيتام فشكوا لرسول الله ذلك فقالوا يا رسول الله إنا إن خالطناهم فبالضرورة لا بد من أكل شيء من أموالهم، وإن عزلناهم يلزم عليه المشقة على اليتامى وعلى أوليائهم فنزلت الآية. قوله: (وما يلقونه من الحرج) هذا بيان لوجه السؤال كأنه قال ويسألونك عما يلقونه من الحرج في شأن اليتامى، والمراد بالحرج الوعيد الوارد في سورة النساء. قوله: (فان واكلوهم) أي خالطوهم. قوله: (يأثموا) أي يقعوا في الأثم المترتب عليه الوعيد، وهذا بيان لوجه الحرج. قوله: (وإن عزلوا مالهم) أي مال اليتامى، وقوله (من أموالهم) أي الألوياء وصح العكس. قوله: (فحرج) أي هو حرج فالجملة جواب الشرط. قوله: ﴿ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ﴾ التنوين عوض عن المضاف إليه إي إصلاحكم لهم خير، والوعيد محمول على الأكل بنية الافساد. قوله: (بتنميتها) الباء للسببية أي بسبب زيادتها بالاتجار فيها، وفي الحديث" اتجروا في أموامل اليتامى لا تأكلها الزكاة ". قوله: (ومداخلتكم) أي مخالطتكم لهم بأن تدخلوا أموالهم في أموالكم قوله: ﴿ خَيْرٌ ﴾ (من ترك ذلك) أي العزل واختلف في تنمية مال اليتيم بالاتجار ونحوه، فقال مالك حفظ اماله بأي وجه واجب، والأولى أن يكون بالتنمية فهي ليست واجبة وحمل حديث اتجروا على الندب واسم التفضيل على بابه فترك التنمية خير أيضاً لكن الأولى التنمية، وقال الشافعي تنميته والاتجار فيه على حسب الطاقة واجب، وحمل الحديث على الوجوب واسم التفضيل في الآية على غير بابه، فترك التنمية لا خير فيه بل هي المتعينة. قوله: (أي فهم إخوانكم) أشار بذلك إلى أنه خبر لمحذوف والجملة جواب الشرط وهذا من التعبير باللازم، ولذا أشار له المفسر بقوله (أي فكلم ذلك). قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ ﴾ أي فيدخل المفسد النار والمصلح الجنة، ودفع بذلك ما يقال ربما الأولياء يدعون الاصلاح بالخلطة، والواقع غير ذلك. قوله: (بتحريم المخالطة) أي بأن يكلف الأولياء بعزل مال اليتيم وطعامه وشرابه، وإن تلف شيء من ذلك فعلى الولي. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ﴾ هذا كالتعليل لما قبله، فالمعنى لو شاء الله عنتكم لأعنتكم لأنه غالب على أمره. قوله: ﴿ حَكِيمٌ ﴾ (في صنعه) أي يضع الشيء في محله فحيث أوجب الله حفظ مال اليتيم سوغ المخالطة وفقاً بالأولياء، والحاصل أنه يخرج من تركة أبي الأيتام مؤن تجهيزه، وأما ما أوصى به من السبح والجمع فمن ثلثه إن وسعه، وأما إن لم يوص وقد جرت العادة بذلك والمال واسع وفعل ذلك كبير رشيد، فعند المالكية يلزم الأيتام ذلك ولا يحرم الأكل منه حيث لا إسراف فيه وعند الشافعية لا يلزم الأيتام ذلك ويحرم الأكل منه، وأما إن كان المال ضيقاً فلا يلزم الأيتام ذلك اتفاقاً ويحرم الأكل منه، إلا أن يهدي للأيتام ما يفي بما أكله.
قوله: (تتزوجوا) يشير إلى أن المراد بالنكاح العقد لا الوطء، ولم يرد في القرآن بمعنى الوطء، وسبب نزول الآية أن رجلاً من الصحابة كان عاشقاً امرأة في الجاهلية، فلما أسلم اجتمع بها في مكة بعد هجرة النبي إلى المدينة فراودته عن نفسه، فقال لها: قد حال بيني وبين ما تطلبينه الإسلام، فقالت له فهل لك في التزوج بي فقال حتى استأذن رسول الله فلما أخبره نزلت الآية. قوله: (أيها المسلمون) تفسير للواو في تنكحوا. قوله: (الكافرات) أي الغير الكتابيات بدليل ما يأتي في المفسر. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ﴾ فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة وهي فاعلة سكنت وأدغمت في نون الفعل. قوله: ﴿ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ ﴾ اسم التفضيل ليس على بابه أو باعتبار أمر الدنيا قوله: (على من تزوج أمة) أي وهو عبد الله بن رواحة أو حذيفة بن اليمان كان عند كل منهما أمة فأعتقها وتزوج بها فعيرا بذلك وفي الحقيقة لم يتزوجا إلا بحرة، وأما التزوج بالأمة من غير عتق فيجوز بشرط أن لا يجد للحرائر طولاً وأن يخشى العنت أو تكون أمة كالجد وهذا إن كان يولد له منها وإلا فيجوز بغير شرط، وسيأتي التعرض له في قوله تعالى:﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً ﴾[النساء: ٢٥] الآيات. قوله: (بغير الكتابيات) أي الحرائر وأما الأمة الكتابية فلا تحل إلا بالملك. قوله: ﴿ وَلاَ تُنْكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ ﴾ القراءة بضم التاء بإجماع، وهو ينصب مفعولين المشركين مفعول أول وقدر المفسر المفعول الثاني، والمعنى لا تزوجوا الكفار ولو أهل كتاب المؤمنات. قوله: (المؤمنات) قدره إشارة إلى مفعول تنكحوا الثاني. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يُؤْمِنُواْ ﴾ أي إلى أن يدخلوا في الإيمان. قوله: ﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾ الواو للحال ولو شرطية بمعنى أن جوابها محذوف تقديره فلا تزوجوه قوله: ﴿ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ ﴾ قدم الجنة هنا لمناسبة النار، وإلا فالمغفرة سبب في دخول الجنة، والسبب مقدم على المسبب، وقد قدمت في قوله تعالى:﴿ وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ﴾[آل عمران: ١٣٣] وقوله تعالى:﴿ سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ﴾[الحديد: ٢١].
قوله: (بتزويج أوليائه) أي وهم المسلمون. قوله: ﴿ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ ﴾ أي يظهرها ويوضحها لهم وللناس متعلق بيبين.
قوله: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ ﴾ السائل أبو الدحداح وجماعة من الصحابة، وسبب ذلك أن اليهود كانوا يعتزلون النساء في المحيض بالمرة، حتى إنه لا يبيت في مكان فيه حائض، ولا تصنع له حاجة أبداً، ثم اقتدت بهم الجاهلية، وأما النصارى فبخلاف ذلك فإنهم كانوا لا يفرقون بين كونها حائضاً أو لا، فبين الله أن شرعنا بين ذلك قواماً. قوله: (أي الحيض أو مكانه) أعلم أن المحيض مصدر ميمي يصلح للزمان والمكان، فقوله أو مكانه أي أو زمانه، والحيض لغة السيلان يقال حاض الوادي إذا سال، واصطلاحاً دم أو صفرة أو كدرة خرج من قبل من تحمل عادة حالة الصحة والاعتياد، فخرج بقولنا دم الخ القصة البيضاء فإنها علامة الطهر من الحيض لا نفس الحيض، وبقولنا من قبل من تحمل عادة أي وهو ما بين الاثنتي عشرة والخمسين سنة، وأما ما فوق الخسمين إلى الستين من التسعة إلى الاثني عشر يسأل النساء العارفات، فإن قلن إنه حيض كان حيضاً. وإلا فلا خرج به من لا تحمل عادة لصغر أو يأس كبنت ست أو سبعين فليس بحيض، وقولنا حالة الصحة والاعتياد خرج بذلك ما نزل على وجه المرض كالسلس فليس بحيض إلا أن تميزه بعد طهر تام وأكثره للمبتدأة نصف شهر فإن زاد كان استحاضة، وللمعتادة عادتها فإن زاد استظهرت عليها بثلاث أيام ما لم تجاوز نصف شهر وتصير هي مع الاستظهار عادة لها، وأحكام الحيض مفصلة في الفروع. قوله: (ماذا يفعل النساء) هذا هو صورة السؤال. قوله: ﴿ قُلْ هُوَ ﴾ أي المحيض بمعنى الدم السائل لا بالمعنى المصدري الذي هو السيلان ففيه استخدام. قوله: (قذر أو محله) لف ونشر مرتب فإن قوله قذر راجع لتفسيره بالمصدر، وقوله أو محله راجع لتفسيره بالمكان. قوله: ﴿ فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ ﴾ مفرع على قوله ﴿ قُلْ هُوَ أَذًى ﴾ ولما نزلت هذه الآية فهم بعض الصاحبة أن الاعتزال مطلق حتى في المسكن، فقال ناس من الأعراب: يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة، فان آثرناهن هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرنا بها هلكت الحيض، فقال إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن ولم تؤمروا باخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم، ثم أعلم أنه يحرم وطء الحائض في الفرج باجماع، وأما التلذذ بما بين السرة والركبة فان كان من الأزار ففيه خلاف، وأما ما عدا ذلك من سائر الجسد فهو جا ئز باجماع لما في الحديث:" الحائض تشد إزارها وشأنك بأعلاها ". قوله: (أي وقته أو مكانه) تفسير له بالزمان أو المكان. قوله: (بالجماع) أي فالمراد قرب خاص. قوله: (وفي إدغام التاء في الأصل) أي فأصله يتطهرن قلبت التاء طاء ثم أدغمت في الطاء. قوله: (أي يغتسلن بعد انقطاعه) أي الماء إن كان موجوداً وقدرن على استعماله وإلا فالتيمم يقوم مقامه، ولا يجوز فربانها بعد الانقطاع وقبل الطهر عند الأئمة الثلاثة، وجوزه أبو حنيفة حيث انقطع بعد مضي أكثره وهو عشرة أيام عنده، وأما ان انقطع قبل مضي أكثره فلا يجوز قربانها إلا بالغسل أو بمضي وقت الصلاة. قوله: ﴿ مِنْ حَيْثُ ﴾ أي في المكان الذي أمركم الله بتجنبه في زمن المحيض. قوله: (ولا تعدوه) بسكون العين وضم الدال، ويصح فتح العين وتشديد الدال. قوله: (إلى غيره) أي وهو الدبر فلا يجوز الايلاج فيه مطلقاً زمن الحيض أو لا. قوله: ﴿ ٱلتَّوَّابِينَ ﴾ أي وهم الذين كلما أذنبوا تابوا. قوله: (من الأقذار) أي الحسية والمعنوية، وقدم التوابين لئلا يقنطوا وأخر المتطهرين لئلا يعجبوا وان كانوا اعلى منهم. قوله: ﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ ﴾ أي كالأرض تحرث ليوضع فيها البذر، فشبه النساء بالأرض التي تحرث وشبه النطفة بالبذر الذي يوضع في تلك الأرض، وشبه الولد بالزرع الذي ينبت من الأرض، والمراد من تلك الآية بيان الآية المتقدمة وهي قوله: ﴿ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ ﴾ فبين أن المراد به موضع الزرع وهو القبل لا غيره. قوله: (وهو القبل) أخذ بعضهم من الآية أنه يحرم وطء النساء في ادبارهن لأنه ليس محل الزرع، وحكمه النكاح وجود النسل، وإنما جعلت الشهوة وسيلة لذلك، وجعلت شهوة النساء أعظم، لأن مشقة النسل عليهن أعظم من الرجال، فتتسلى النساء عن المشقة بعظم الشهوة. قوله: ﴿ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ﴾ أنى بمعنى كيف فهي لتعميم الأحوال. قوله: (وأدبار) أي فيجامعها من جهة دبرها لكن في الفرج، والوارد في السنة عن رسول الله في صفة إتيانه لنسائه أنه كان يجلس بين شعبها الاربع وهي مستلقية على ظهرها، وقال الحكماء ادامة الجماع وهو مضطجع على جنبه يورث وجب الجنب. وقله: (جاء الولد أحول) أي بياض عينه مكان سوادها. قوله: (كالتسمية عند الجماع) أي بأن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقنا، فإنه إذا فعل ذلك حفظ الولد من الشيطان، وكتب له بعدد انفاسه وانفاس اولاده حسنات إلى يوم القيامة. قوله: (في أمر) أي بالأتيان في القبل والتسمية وقوله ونهيه عن الأتيان في الدبر، وإنما طلبت التسمية في ذلك الموضع لأنها ذكر في وقت غفلة فيكتب من الذاكرين الله في الغافلين، وأهل الله في ذلك لهم تجليات ومشاهدات تجل عن الحصر والكيف، وإلى ذلك الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام:" حبب إليّ من دنياكم ثلاث النساء والطيب وجلعت قرة عيني في الصلاة "حيث قدم النساء، ولا يقال إن الاشتغال بمشاهدة المنعم يحجب عن اللذة، لأنه يقال إنه مقام جمال وبسط لا جلال وقبض، فعند ذلك تزداد القوة لما ورد أن رسول الله اعطي قوة أربعة آلاف رجل من أهل الدنيا في الجماع، ويقرب ذلك إذا اضافك ملك عظيم وصنع لك طعاماً عظيماً وجلس معك يباسطك بأنواع المباسطات، فان شهودك له ومسامرته تزيد لذتك في طعامه وشرابه أكثر من تمتعك بذلك في حال غيبتك عنه، فسبحان المعطي المانع. قوله: ﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ ﴾ أي ملاقوا جزائه.
قوله: ﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً ﴾ سبب نزول هذه الآية أن عبد الله بن رواحة كان بينه وبين ختنه أي نسيبه وهو النعمان بن بشير شيء، فحلف أنه لا يصواله أبداً فنزلت، وقيل نزلت في حق الصديق حين حلف على مسطح لما تكلم في الافك أن لا يصله. قوله: ﴿ لأَيْمَانِكُمْ ﴾ أي افعال بركم، وسميت أيماناً لتعلق الايمان بها وقوله أن تبروا الخ بدل من أيمانكم قوله: (أي نصباً لها) أي عرضاً مانعاً من فعل البر. قوله: (بأن تكثروا الحلف به) هذا تفسير آخر للآية، فكان المناسب للمفسر أن يأتي بأو. قوله: ﴿ أَن تَبَرُّواْ ﴾ أي تصلوا الرحم مثلاً، وقوله: ﴿ وَتَتَّقُواْ ﴾ أي تصلوا أو تصوموا مثلاً، وقوله: ﴿ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ ﴾ من عطف الخاص على العام، والمعنى أن الفعل الذي يحصل لكم به خير فلا تحلفوا على تركه وهذا على التفسير الأول، وأما على الثاني فلا يحتاج لتقدير لا وإنما يقدر لام التعليل، أي لا تكثروا الحلف بالله لما فيه من ابتذال اسمه تعالى في كل شيء قليل أو كثير عظيم أو حقير، لأجل أن تكونوا من أهل البر والتقوى والاصلاح بين الناس، فالنهي عن الكثرة على هذا والايمان على بابها بمعنى الاقسام، وعرضة بمعنى معروض فهي اسم مفعول أي محل للحلف كغرض الرماة، وعلى الأول فهي بمعنى عارضة، أي لا تجعلوا الله مانعا من بركم وتقواكم واصلاحكم بواسطة القسم به. قول: (فتكره اليمين على ذلك) أي إن كان مندوباً وهو مفرع على التفسير الأول. قوله: (فهي طاعة) أي مندوب وتعتريها الحرمة كما إذا حلف على ترك واجب. قوله: ﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ ﴾ اختلف العلماء في معنى اللغو، فقال الشافعي هو ما سبق إليه اللسان من غير قصد عقد اليمين فلا أثم ولا كفارة له، وقال أبو حنيفة ومالك هو أن يحلف على ما يعتقد فيتبين خلافه، وفي الفروع تفاصيل موكولة لأربابها. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ وقعت هنا لكن بين نقيضين باعتبار وجود اليمين لأنها لا تخلوا إما أن لا يقصدها القلب بل جرت على اللسان وهي اللغو عند الشافعي، وإما أن يقصدها وهي المنعقدة، والمعنى لا يؤاخذكم الله بغير المقصود لقلوبكم وإنما يؤاخذكم بالمقصودة لها، وهذا التقرير على مذهب الشافعي، ويقال على مذهب ابي حنيفة ومالك لا يؤاخذكم الله باللغو أي بما حلفتم عليه معتقدين حقيقته بحيث يكون اللسان موافقاً للجنان، ولكن يؤاخذكم بما حلفتم عليه غير معتقدين حقيقته وهي اليمين الغموس، وقد نظم الاجهوري من المالكية صور كفارة اللغو والغموس بقوله: كفر غموساً بلا ماض يكون كذا   لغو بمستقبل لا غير فامتثلاقوله: (لما كان من اللغو) أي والخطأ. قوله: (بتأخير العقوبة عن مستحقها) أي ومن ذلك اليمين الغموس فكفارتها الغمس في جهنم.
قوله: ﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ﴾ حقيقة الايلاء الحلف بالله أو بالله أو بغيره على ترك وطء الزوجة المدخول بها المطيقة للوطء أكثر من أربعة أشهر، إما صريحاً كلا أطؤك، أو ضمناً كلا أغتسل من جنابة منك، وحكمة كما قال الله، وللذين خبر مقدم وتربص مبتدأ مؤخر، والإضافة على معنى في أي انتظار في أربعة أشهر ولها النفقة والكسوة في تلك المدة، لأن الامتناع من قبله بخلاف الناشز فلا نفقة لها ولا كسوة لأن الامتناع منها. قوله: (أي يحلفون أن لا يجامعوهن) بيان لحقيقة الايلاء الشرعي، وإلا فمعناه لغة مطلق الحلف. قوله: ﴿ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾ أي وتحسب من يوم الحلف إن كانت صريحة في ترك الوطء، ومن يوم الرفع للحاكم إن لم تكن صريحة. قوله: (رجعوا فيها) أي في الأربعة أشهر ويلزمه ما يترتب على الحنث من كفارة إن كانت اليمين بالله أو العتق إن كان به. قوله: (أي عليه) إشار بذلك إلى أن الطلاق منصوب بنزع الخافض. قوله: (فليوقعوه) قدره المفسر إشارة لجواب الشرط، فإن امتنعوا من إيقاعه ومن الوطء فإن الحاكم يأمرها بالطلاق ثم يحكم به، وقيل شيء الطلاق وهو رجعي كالطلاق على المعسر بالنفقة، لأن كل طلاق أوقعه الحاكم فهو بائن إلا المولي والمعسر بالنفقة. قوله: (المعنى) أي المراد من قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ فَآءُو ﴾ الآيتين. قوله: (تربص ما ذكر) أي الأربعة أشهر قوله: (إلا الفيئة أو الطلاق) أي ما لم ترض بالمقام معه بلا وطء، فإن استمرت على ذلك فالأمر ظاهر، فإن رفعت ثانياً وشكت للحاكم أمره إما بالفيئة أو الطلاق، فإن امتنع منهما طلق عليه الحاكم.
قوله: ﴿ وَٱلْمُطَلَّقَاتُ ﴾ أي رجعياً أو بائناً. قوله: ﴿ بِأَنْفُسِهِنَّ ﴾ يحتمل أن الباء زائدة لتوكيد النون أي يتربصن أنفسهن، ويحتمل أنها للتعدية، والمعنى أنهن لا يحتجن لحكم. قوله: (عن النكاح) أي نكاح غير المطلق. قوله: (تمضى من حين الطلاق) أي وتصدق المرأة في ذلك لأنها أمينة على فرجها ان مضى زمن تقضي العادة فيه بمضي الثلاثة الأقراء. قوله: (بفتح القاف) أي وأما الضم فجمعه اقراء كقفل واقفال، وإنما ضبطه المفسر بالفتح فقط لأجل جمعه في الآية على قروء، وإلا فهو في نفسه يصح فيه الضم والفتح. قوله: (وهو الطهر) أي وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد في أول امره. قوله (أو الحيض) أي وإليه ذهب أبو حنيفة وأحمد في آخر امره. قوله: (قولان) أي للعلماء وتظهر ثمرة الخلاف فيما إذا طلقت في طهر ثم حاضت ثم طهرت ثم حاضت ثم طهرت ثم حاضت، فعند مالك والشافعي وأحمد في أول أمره أنها تحل للأزواج بمجرد رؤية الدم لأن الأقراء قد تمت، وعند أبي حنيفة وأحمد في آخر امره أنها لا تحل حتى تطهر، وأما إذا طلقها في الحيض فلا تحسب ذلك الحيض من العدة اتفاقاً، ويأتي الخلاف في الحيضة الرابعة هل تحل بأولها أو بانقضائها. قوله: (وفي غير الآيسة) أي وهي بنت كسبعين. قوله: (والصغيرة) أي المطيقة للوطء ولم تبلغ أوان الحمل. قوله: (كما في سورة الطلاق) راجع للآيسة والصغيرة والحامل، وحاصل ما في المقام أن غير المدخول بها لا عدة عليها في الطلاق حرة كانت أو أمة، وأما المدخول بها ففيها تفصيل، فالآيسة والصغيرة عدتهما ثلاثة أشهر، والحامل وضع حملها كله لا فرق في ذلك كله بين الحرة والأمة، وأما من يأتيها الحيض فعدتها ثلاثة أقراء إن كانت حرة، وقرءان إن كانت أمة، وهذا في الطلاق، وأما في الوفاة فسيأتي أنها للحرة أربعة أشهر وعشرة وللأمة نصفها، وللحامل وضع الحمل. قوله: (من الولد أو الحيض) أي أو عيوب الفرج كالرتق والقرن والعفل والخبر والإفضاء. قوله: ﴿ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِٱللَّهِ ﴾ هذا من باب الزجر والتشديد عليهن، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله فلا يحل. قوله: ﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ ﴾ جمع بعل يطلق على الرجل والمرأة، لكن المراد به هنا الرجل، فالتاء لتأنيث الجمع لأن كل جمع يجوز تأنيثه. قوله: (لا ضرار المرأة) فتحرم الرجعة إذ ذاك ويعتريها الوجوب إن خشي على نفسه الزنا، وتكره إن أشغلته عن عبادة مندوبة، وتندب إن كانت تعينه على تلك العبادة. قوله: (الجواز الرجعة) أي مضيها فلا ينافي أنه شرط في جواز القدوم عليها. قوله: (في نكاحهن في العدة) صوابه أو يقول فلا حق لغيرهم في ردهن ورجعتهن كما عبر به غيره تأمل. قوله: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِي عَلَيْهِنَّ ﴾ حاصله أن الرجل له حقوق على المرأة من طبخ وعجن وكنس وغير ذلك من الخدمة الباطنية، وللمرأة حقوق على الرجل من نفقة وكسوة وإظهار محبة وغير ذلك، فالمماثلة في الآية في مطلق الوجوب لا في صفة الحقوق، وفي الآية احتباك حيث حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر، يشير لذلك تقدير المفسر قوله: (الأزواج) وقوله: (لهم). قوله: (فضيلة في الحق) أي فحق الرجل زائد على حقها. قوله: (لما ساقوه) علة لوجوب طاعتهن لهم ومعناه دفعوه، وقوله من المهر والانفاق بيان لما.
قوله: ﴿ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ ﴾ سبب نزول هذه الآية أنه كان في صدر الإسلام إذا طلق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً وراجعها في العدة كان له ذلك ولو طلق الف مرة، فطلق رجل امرأته طلقة رجعية ثم راجعها قبل انقضاء عدتها بشيء يسير فقال: والله لا آويك ولا تحلين لغيري أبداً فنزلت الآية فاستأنف الناس الطلاق والغوا ما مضى، وقوله مرتان أي مرة بعد أخرى أو المرتان دفعة وهو تخصيص لقوله: (وبعولتهن أحق بردهن) في ذلك. قوله: (أي التطليق) إنما فسر المصدر بالمصدر لأجل قوله أو تسريح. قوله: (أي اثنتان) دفع بذلك ما يتوهم أنه لا بد أن يكون على مرتين. قوله: (أي فعليكم) قدر ذلك إشارة إلى أن إمساك مبتدأ خبره محذوف، وقدره مقدماً عليه ليكون مسوغاً للابتداء بالنكرة. قوله: ﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ ﴾ يحتمل أن المراد بذلك إنشاء طلاق ثالث بعد المراجعة الثانية، ويحتمل أن المراد عدم المراجعة إذا طلقها ثانياً، وأما الطلقة الثالثة فمأخوذة من قوله تعالى:﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ﴾[البقرة: ٢٣٠] وهو الأقرب لأنه المتبادر من المفسر، فالرجل مخير في عدة الطلقة الأولى بين أن يراجعها بالمعروف أو يسرحها من غير مراجعة، وكذا في عدة الثانية. قوله: ﴿ بِإِحْسَٰنٍ ﴾ أي فيؤدي ما عليه لها من الحقوق ولا يذكرها بسوء. قوله: ﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ﴾ يوضح بمعنى الآية قوله تعالى:﴿ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً ﴾[النساء: ٢٠] الآيتين. قوله: (من المهور) بيان لما. قوله: (إذا طلقتموهن) أي وأما إن كانت في عصمته ووهبت له صداقها أو بعضه فلا بأس بذلك. قوله: (أن لا يقيما حدود الله تعالى) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بمن، التقدير من عدم إقامتها حدود الله، وسبب نزولها" أن امرأة اسمها جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول كانت تبغض زوجها ثابت من قيس فشكت للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قالت يا رسول الله إني لا أعيبه في دين ولا في خلق غير أني وجدته مقبلاً في جماعة فرأيته أشدهم سواداً وقصراً وأقبحهم وجهاً لا يجمع رأسي ورأسه شيء وأني لأكره الكفر في الإسلام، فلما نزلت هذه الآية أمرها رسول الله بالفداء فأخذ ما كان أعطاه لها وطلقها "وكان قد أمهرها حديقة. قوله: (وفي قراءة) أي فهما سبعيتان. قوله: (بالبناء للمفعول) أي فالضمير نائب فاعل والفاعل ولاة ولاة الأمور، أي فإن خاف ولاة الأمور الزوجين وأن لا يقيما بدل اشتمال من نائب الفاعل، قوله: (وقرى) أي قراءة شاذة. قوله: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ ﴾ خطاب لولاة الأمور. قوله: ﴿ فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ ﴾ أي كان بمهرها أو أقل أو أكثر. قوله: (لا حرج على الزوج في أخذه) أي لعدم ظلمه لها، وقوله: (ولا على الزوجة في بذله) أي لدفعها الضرر عن نفسها. قوله: ﴿ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ﴾ أي تتجاوزوها بأن تعينوا الظالم على المظلوم منهما. قوله: ﴿ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ ﴾ ذكر هذا بعد النهي عن تعديها للمبالغة في التهديد. وقوله: ﴿ ٱلظَّٰلِمُونَ ﴾ أي لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعقابه.
قوله: ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا ﴾ أي طلقة ثالثة سواء وقع الاثنتان في مرة أو مرتين، والمعنى فإن ثبت طلاقها ثلاثاً في مرة أو مرات ﴿ فَلاَ تَحِلُّ ﴾ الخ، كما إذا قال لها أنت طالق ثلاثاً أو البتة وهذا هو المجمع عليه، وأما القول بأن الطلاق الثلاث في مرة واحدة لا يقع إلا طلقة فلم يعرف إلا لابن تيمية من الحنابلة، وقد ورد عليه أئمة مذهبه حتى قال العلماء إنه الضال المضل، ونسبتها للإمام أشهب من أئمة المالكية باطله. قوله: ﴿ حَتَّىٰ تَنْكِحَ ﴾ المراد به هنا العقد مع الوطء كما بين ذلك في الحديث والاجماع عليه، خلافاً لما نقل عن ابن المسيب أن العقد كاف في التحليل. قوله: ﴿ زَوْجاً ﴾ أي لا سيداً فلا يقع به تحليل، ولا بد من كون الزوج بالغاً عند مالك لقوله في الحديث" حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته "ولا عسيلة للصبي، وقال الشافعي بعدم اشتراط بلوغه، ومن هنا المسألة الملفقة وهي أن يقلد الشافعي في صحة تحليل غير البالغ، ومالكاً في صحة طلاق وليه عنه لمصلحة وفي عدم العدة عليها من وطئه، وهذه المسألة قال العلماء فيها الورع تركها، ويشترط للتحليل عند مالك شروط عشرة تعلم من الفروع. قوله: (ويطؤها) أي ولا يشترط الأنزال. قوله: (كما في الحديث) وهو أنه" جاءت امرأة تسمى تميمة القرظية وكانت متزوجة بابن عمها رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن رفاعة أبتّ طلاقي فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير بفتح الزاي، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله وقال أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا. حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته، فمكثت مدة ثم جاءت ثانياً لرسول الله وقالت إنه مسني وذقت منه وذاق مني، فقال لها رسول الله إن قولك الأول كذبك الآن، فجاءت للصديق في خلافته وقالت له مثل ما قالت لرسول الله، فقال لها إني شهدت مجيئك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامك له، لا ترجعي، فجاءت لعمر في خلافته فقالت له كذلك فقال لها إن عدت لرفاعة رجمتك ". قوله: (رواه الشيخان) أي عن عائشة. قوله: ﴿ أَن يَتَرَاجَعَآ ﴾ (إلى النكاح) أي بعقد ومهر وولي وشهود. قوله: (بعد انقضاء العدة) أي فلا بد من عدتين: عدة للزوج الأول وعدة للثاني. قوله: ﴿ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ﴾ أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول ظن الثاني، ومعنى إقامة حدود الله زوال ما في أنفسهما من الكدر الذي كان سبباً في الطلاق. قوله: ﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ خصهم لأنهم المنتفعون بتلك الأحكام وهم الذين يعقلون الخطاب. قوله: (أي يتدبرون) أي ينظرون في عواقب أمورهم (تنبيه): يقع الطلاق فيما ذكر ولو كان سكراناً بحرام لعدم عذره بذلك أو في حماقة، وليست الحماقة من باب الإكراه الذي قال فيه رسول الله" لا طلاق في إغلاق "خلافاً لمن يفتي بذلك فإنه ضال مضل، اللهم إلا أن يطيش عقله فلا يعرف الأرض من السماء ويصير كالمجنون فلا شيء عليه.
قوله: ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ ﴾ أي طلاقاً رجعياً وإنما كرره للإيضاح. قوله: (قاربن انقضاء عدتهن) أي أشرفهن عليها. قوله: (مفعول له) أي لأجله. قوله: ﴿ لِّتَعْتَدُواْ ﴾ علة لقوله ضراراً. قوله: (بالإلجاء) أي الأضرار. قوله: (تطويل الحبس) أي العدة. قوله: ﴿ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ أي لما في الحديث:" يغلبن كريماً ويغلبن لئيم، فأحب أن أكون كريماً مغلوباً ولا أحب أن أكون لئيما غالباً ". قوله: (بمخالفتها) أي فأطلق الاستهزاء وأراد المخالفة، قوله: (ما فيه من الأحكام) أي العلوم النافعة. قوله: (بالعمل به) أي ولا تتخذوها هزوا. قوله: (لا يخفى عليه شيء) أي فيثيب المطيع ويعذب العاصي. قوله: (انقضت عدتهن) أي فبلوغ الأجل في المحلين مختلف. قوله: (خطاب للأولياء) أي وأما الخطاب في طلقتم فهو خطاب للأزواج، ويصح أن يكون خطاباً للأولياء أيضاً، والمعنى إذا رفعن أمورهن إليكم أيها الأولياء وتسببتم في طلاقهن من أزواجهن، ثم زال ما في النفوس وأرادوا العقد على أزواجهم فلا يكن منكم عضل لهن من ذلك. قوله: (أن أخت معقل) أي واسمها جميلة. قوله: (طلقها زوجها) أي واسمه عاصم بن عدي. قوله: (أي الأزواج والنساء) وغلب الذكور لشرفهم وهو جمع باعتبار أفراد الرجال والنساء. قوله: (لأنه المنتفع به) جواب عما يقال لمن خص المؤمنين. قوله: (سبب العلاقة) أي الارتباط. قوله: (فاتبعوا أمره) أي ولا تطيعوا أنفسكم في العضل، فمتى كان لكم منهما رغبة في الآخر فلا يكن منكم منع في ذلك لأنه لا مصلحة فيه، وقد جرت عادة الله في كتابه أنه يتخلل الأحكام والقصص بالمواعظ الجليلة، وفي الحديث" كان يتخولنا بالمواعظ مخافة السآمة "علينا. قوله: (أي ليرضعن) فسره بالأمر إشارة إلى أن الجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى فالمقصود منها الأمر وهو للندب للأم بشروط ثلاثة إن كان للولد أب موسر، أو مال، ووجد من ترضعه غير أمه وقبلها، فإن فقد شرط منها وجب عليها الرضاع. قوله: ﴿ أَوْلاَدَهُنَّ ﴾ أي ذكوراً أو إناثاً. قوله: ﴿ كَامِلَيْنِ ﴾ هذا تقريب عند مالك فألحق الشهران بالحولين وتحديد عند الشافعي. قوله: (صفة مؤكدة) أي لدفع توهم تسمية الأقل منهما باسم الكامل تسمحاً، والمقصود من النص على الحولين قطع النزاع بين الزوجين حيث أراد أحدهما أكثر من الحولين أو أقل، والآخر الحولين فإنه يقضى لمن أرادهما. قوله: ﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ ﴾ الجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف قدره المفسر بقوله ذلك وهو جواب عن سؤال مقدر. قوله: (ولا زيادة عليه) أي خلافاً لمن قال إذا شحت المرأة قضي لها بثلاثين شهر أو لمن قال بثلاثة أعوام. قوله: ﴿ وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ ﴾ أي المنسوب له الولد احترازاً عن ابن الزنا، ومن نفاه أبوه بلعان فلا يلزم أباه شيء من أجله لقطع نسبه. قوله: ﴿ رِزْقُهُنَّ ﴾ أي دفع الرزق بمعنى الأجرة التي يتحصل بها الطعام والشراب والكسوة. قوله: (إذ كن مطلقات) أي بائناً، وأما الرجعيات واللاتي في العصمة فلا يلزمه أجرة على الرضاع عند الشافعي وكذا عند مالك في غير من شأنها عدم الأرضاع بنفسها كنساء الملوك، وأما هي فلها أن تأخذ الأجرة على ذلك، هكذا حمله المفسر على غير الزوجة، وبعضهم حمله على ما يعم الزوجة بمعنى أن الزوجة تأخذ الأجرة على الرضاع ولو ناشزاً ولو يجرى على حكم النفقة الزوجية. قوله: (بقدر طاقته) أي عسراً ويسراً. قوله: ﴿ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ ﴾ ببناء الفعل للمجهول ونفس نائب الفاعل، وفي قراءة يكلف نفساً ببناء للفاعل، والفاعل هو الله سبحانه وتعالى. قوله: (بأن تكره على إرضاعه) أي بغير أجرة أو بأجرة دون أجرة المثل حيث طلبتها، قوله: (إذا امتنعت) أي ووجد غيرها وقبلها الولد وكان الأب موسراً وللولد مال، وإلا أكرهت الأم على إرضاعه إما بنفسها أو تكري له من يرضعه، قوله: (في ماله) أي وهو مقدم ثم مال الأب ثم مال الأم عند مالك، قوله: (للوالدة) أي المرضعة والدة كانت أو غيرها. قوله: ﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً ﴾ هذا تقييد لما تقدم في قوله حولين كاملين. قوله: ﴿ عَن تَرَاضٍ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لفصالا قدره المفسر بقوله صادراً. قوله: (في فعل ذلك) أي ولا في الزيادة على الحولين عند الاتفاق بل هو جائز شرعاً، ومنعه الحكماء لما فيه من توريث البلادة للطفل. قوله: (مراضع) مفعول أول لتسترضعوا مؤخر، واولادكم مفعول ثان مقدم على حذف الجار أي إن أردتم أن تطلبوا مراضع لأولادكم، لأن أفعل إذا كان متعدياً إلى مفعول واحد وزيدت فيه السين للطلب، أو النسبة يصير متعدياً إلى مفعولين كما قال الزمخشري، وقال الجمهور إنما يتعدى للثاني بحرف الجر فيكون أولادكم منصوباً بنزع الخافض، وأن ما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول أردتم. قوله: (غير الوالدات) أي حيث كانت أجرة الغير أقل من أجرة الأم أو كانت الغير ترضع مجاناً، أما إذا استويا فالأم أولى. قوله: ﴿ إِذَا سَلَّمْتُم ﴾ ليس شرطاً لصحة الإجارة بل هو بيان للأكمل لأن التعجيل أطيب لنفوسهن. قوله: ﴿ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه متعلق بسلمتم، الثاني أنه متعلق بآتيتم، الثالث أنه حال من فاعل سلمتم أو آتيتم، والعامل فيه حينئذ محذوف أي ملتبسين بالمعروف. قوله: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ مبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ﴾ بضم الياء مبنياً للمفعول، وفي قراءة بفتحها مبنياً للفاعل، والمعنى عليها يستوفون آجالهم. قوله: (يموتون) المناسب تقبض أرواحهم ليناسب الفعل المبني للمفعول. قوله: ﴿ أَزْوَاجاً ﴾ جمع زوج بمعنى زوجة لأن الزوج يقع على الذكر والأنثى. قوله: (أي ليتربصن) أشار بذلك إلى أن المراد من الآية الأمر وإن كان ظاهرها الخبر له. قوله: ﴿ بِأَنْفُسِهِنَّ ﴾ الباء زائدة للتأكيد والأصل يتربصن أنفسهن يعني لا بواسطة حكم حاكم، فإن العدة لا تحتاج لذلك. قوله: (بعدهم) الضمير عائد على اسم الموصول الواقع على الرجال، وقدره المفسر ليصح الأخبار بجملة يتربصن عن الموصول هكذا أعرب المفسر، وبعضهم قدر في المبتدأ فقال وأزواج الذين يتوفون، وبعضهم قدر في الخبر حيث قال والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً أزواجهم يتربصن، فأزواجهم مبتدأ، وجملة يتربصن خبره، والمبتدأ وخبره خبر الأول والرابط موجود. قوله: (عن النكاح) أي نكاح الغير لهن. قوله: ﴿ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ﴾ إما مفعول ليتربصن على حذف مضاف أي مضى أربعة أشهر وعشر أو ظرف له. قوله: (من الليالي) أي مع النهار وخص الليالي لسبقها على النهار. قوله: (وهذا في غير الحوامل) أي ما تقدم من العموم لا يتناول الحوامل والاماء. قوله: (أن يضعن حملهن) أي كله ولو علقة أو مضغة فلا تحل إلا بوضعه ولو مكث الزمن الطويل في بطنها. قوله: (والأمة) بالجر معطوف على الحوامل. قوله: (على النصف من ذلك) أي فعدتها شهران وخمس ليال وهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره وهي على النصف من ذلك وأعلم أن ذلك تعبد أمرنا به الشارع ولم نعقل له معنى، ولذا أمرت بتلك العدة الصغيرة وزوجة الصغير، وما قبل إنه معلل بوجود حركة الحمل بعد الأربعة أشهر فغير مطرد في الأمة الصغيرة وزوجة الصغير. قوله: (بالسنة) أي الدليل السني. قوله: (من التزين) أي الشرعي بأن تفعل ذلك ببيتها. قوله: (والتعرض للخطاب) معطوف على التزين فلا يحرم كل من التزين والتعرض للخطاب بعد العدة، وأما فيها فيحرم على الأولياء وعليهن إذا بلغن ويجب عليهن كفهن ولو بالشتم والضرب.
قوله: ﴿ فِيمَا عَرَّضْتُمْ ﴾ التعريض هو الكلام الذي يفهم منه القصود بطرف خفي. قوله: ﴿ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ ﴾ بكسر الخاء التماس النكاح قوله: (ورب راغب) رب للتكثير. قوله: ﴿ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ ﴾ أي ولو أخبرتم بذلك غير المجبر لها، فالحرمة في التصريح لها أو لوليها المجبر. قوله: (فأباح لكم التعريض) أي والأضمار في أنفسكم وهو تفريع على قوله علم الله الواقع علة لقوله ولا جناح عليكم، والمعنى إنما لم يحرم عليهم التعريض والأضمار في الأنفس لعلمه أنه إن حرم عليكم ذلك لوقعتم فيما هو أعظم الذي هو التصريح فأباح لكم التعريض. قوله: ﴿ سِرّاً ﴾ هو في الأصل ضد الجهر أطلق وأريد منه الوطء لأنه لا يكون إلا كذلك، ثم أطلق وأريد منه العقد لأنه سببه فهو مجاز على مجاز. قوله: (أي نكاحاً) أي عقداً. قوله: ﴿ إِلاَّ ﴾ (لكن) ﴿ أَن تَقُولُواْ ﴾ الخ. جعل المفسر الاستثناء منقطعاً لأن التعريض ليس من المواعدة، والمواعدة إنما تحرم إذا كانت من الجانبين، وأما من جانب فتكره عند مالك. قوله: ﴿ وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ ﴾ أي فالعقد في العدة فاسد، ويفسخ، فإن انضم لذلك العقد مباشرة ولو بعد العدة تأبد تحريمها عند مالك، وعند الشافعي يفسخ العقد فقط، وله العقد عليها ثانية بعدها. قوله: (من العزم) أي التصميم على العقد فالعزم يؤاخذ الإنسان به خيراً كان أو شراً، وقد نظم بعضهم الأمور التي تطرأ على الشخص فقال: مراتب القصد خمس هاجس ذكروا   فخاطر فحديث النفس فاستمعايليه هم فعزم كلها رفعت   سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعاقوله: ﴿ فَٱحْذَرُوهُ ﴾ أي الله بمعنى احذروا عقابه. قوله: (لمن يحذره) أي يخافه، ففي الحديث:" إذا أذنب العبد ذنباً وعلم أن الله يغفره غفر له بمجرد فعله الذنب ". قوله: (بتأخير العقوبة عن مستحقها) أي فلا يغتر العاصي بذلك فلربما يكون ذلك التأخير استدراجاً له.
قوله: ﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ ﴾ سبب نزولها أن رجلاً من الأنصار تزوج امرأة تفويضاً ثم طلقها قبل الدخول، فرفعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، فقال له رسول الله أمتعها ولو بقلنسوتك. قوله: ﴿ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ فعله مس مسند للرجل لأنه الأقوى في المس، والأقرب أن ما شرطية بمعنى إن وليست مصدرية ظرفية كما قال المفسر، لأن محل الظرفية فيما يقتضي الامتداد كقوله تعالى:﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ ﴾[هود: ١٠٧] لأن شأن الخلود الامتداد. قوله: (وفي قراءة تماسوهن) أي بضم التاء وفعله ماس مماسة مفاعلة من الجانبين، لأن كلاً يمس الآخر، واستشكل مفهوم الآية بأن الطلاق بعد المس لا إثم فيه نعم فيه المهر. وأجيب بأنه مظنة الجناح بدفع المهر، ووجود الأثم من حيث إنه قد يوقعه زمن الحيض، وأما الطلاق قبل الدخول فلا جناح فيه أصلاً. قوله: (فطلقوهن) ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ ﴾ أشار بذلك إلى أن ومتعوهن معطوف على محذوف قدره بقوله فطلقوهن. قوله: ﴿ قَدَرُهُ ﴾ بفتح الدال وسكونها قراءتان سبعيتان قوله: (يفيد أنه لا نظر إلى قدر الزوجة) أي وهو أحد الأقوال عند الشافعي، والمفتى به عند مالك، ولكن المعتمد عند الشافعي مراعاة حال الزوج والزوجة. قوله: (تمتيعاً) أشار بذلك إلى أن اسم المصدر بمعنى المصدر. قوله: (شرعاً) أي لا بشيء حرام. قوله: (أو مصدر مؤكد) أي وعامله محذوف أي أحقه حقاً. وأعلم أنه اختلف في المتعة، فقيل واجبة نظراً للأمر ولقوله حقاً وبه أخذ الشافعي، وقيل مندوبة نظراً لقوله بالمعروف، ولقوله على المحسنين، وبه أخذ مالك. قوله: ﴿ مِن قَبْلِ ﴾ متعلق بطلقتموهن وقوله: ﴿ وَقَدْ فَرَضْتُمْ ﴾ الجملة حالية. قوله: ﴿ فَرِيضَةً ﴾ بمعنى مفروضة مفعول به، وقيل مفعول مطلق بمعنى فرض، لكن الأول أقرب. قوله: ﴿ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾ مبتدأ خبره محذوف قدره المفسر بقوله (يجب لهن) ويحتمل أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره فاللازم لكم ما فرضتم، وما اسم موصول والعائد محذوف، وجملة فرضتم صلته ونصف مثلث الوزن ونصيف كرغيف، ولا يقرأ في جميع مواضع القرآن إلا بكسر النون لا غير. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ ﴾ إلا أداة استثناء، وأن حرف مصدري ونصب، ويعفون مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة وهي فاعل، والواو لام الكلمة لا واو الجماعة لأن وزنها يفعلن بخلاف الرجال يعفون فإن وزنه يفعون، وقدر المفسر لكن إشارة إلى أن الاستثناء منقطع لأن العفو ليس من جنس ماقبله فإن ما قبله وجوب دفع نصف المهر. قوله: (فيترك لها الكل) أي وتسميته عفوا مشاكلة لما قبله. قوله: (الولي) أي المجبر، وقال به مالك. قوله: (محجورة) أي مجبورة. قوله: ﴿ وَأَن تَعْفُوۤاْ ﴾ الضمير عائد على من ذكر من الرجال والنساء، وإنما غلب الرجال لشرفهم، وأصله تعفوون دخل الناصب فحذف النون ثم استثقلت الضمة على الواو فحذفت فالتقى ساكنان حذفت لام الكلمة لالتقائهما. قوله: ﴿ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ﴾ استشكل كلام ابن عباس بأن عفو الولي لا تقوى فيه. أجيب بأن المراد بالتقوى الألفة، أي فإذا عفا الولي فربما تحصل الألفة من الزوج ثانياً. قوله: (أي أن يتفضل بعضكم على بعض) أي بفعل بعضكم مع بعض مكارم الأخلاق بأن يحصل العفو عن جميع المهر من الزوج، أو تعفو الزوجة عن النصف الذي يخصها.
قوله: ﴿ حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ ﴾ أتى بهذه الآية من خلال ما يتعلق بالأزواج والأولاد تنبيهاً على أنه لا ينبغي من العبد أن يشتغل عن حقوق سيده بأمر الأزواج والأولاد، قال تعالى:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ ﴾[المنافقون: ٩].
قوله: (بأدائها في أوقاتها) أي مع استكمال شروطها وفرائضها وسننها وآدابها، فإن فقد شيء من ذلك دخل في الوعيد، قال تعالى:﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ ﴾[الماعون: ٤-٥] وخص بالذكر لأنها عماد الدين، ومعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين. قوله: ﴿ وٱلصَّلَٰوةِ ٱلْوُسْطَىٰ ﴾ فعل مؤنث الأوسط بمعنى الأفضل والأخير لا بمعنى المتوسطة بين شيئين، فإنه ليس فيه مزيد مزية وهو من عطف الخاص على العام، والنكتة مزيد فضلها على غيرها كليلة القدر فهي أفضل الليالي. قوله: (هي العصر) أي لأنه وقت نزول ملائكة الليل وصعود ملائكة النهار، وبه قال الشافعي. قوله: (أو الصبح) أي لما ذكر ولما في الحديث" بورك لأمتي في بكورها "ولأنها تأتي الناس وهم نيام، وبه قال مالك. قوله: (أو الظهر) أي لأنها أول صلاة ظهرت في الإسلام، وقوله: (أو غيرها) قيل هي المغرب لأنها وتر صلاة النهار، وقيل العشاء لأنها تأتي الناس وهم كسالى، وقيل هي الصلاة على النبي، وقيل هي صلاة الجمعة، وقيل الجنازة، وقيل صلاة العيد وحكمة إخفائها ليحافظ الإنسان على ذلك كله، كما أخفى ليلة القدر في سائر الليالي ليقوم الإنسان جميع الليالي وساعة الإجابة في يوم الجمعة والرجل الصالح في الخلق، واختار ابن العربي وابن جمرة أن الصلاة الوسطى هي مجموع العصر والصبح مستدلين بأدلة كثيرة تشهد بفضل هذين الوقتين. قوله: (وأفردها بالذكر لفضلها) أشار بذلك لنكتة عطفها على الصلوات، لأن عطف الخاص على العام يحتاج لنكتة. قوله: (قيل مطيعين) أي لا مكرهين ولا كسالى بل ممتثلين الأمر مجتنبين النهي. قوله: (وقيل ساكنين) أي إلا عن ذكر الله ويلحق به مخاطبة النبي فإنها لا تبطل الصلاة. قوله: (من عدو) أي مسلم أو كافر، وقوله: (أو سيل أو سبع) أي دافع كل منهما الناس لو توانى واحد منهم أخذه ما ذكر. قوله: (جمع راجل) أي ويجمع أيضاً على رجل بسكون الجيم، قال تعالى:﴿ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ﴾[الإسراء: ٦٤] ويجمع أيضاً على رجال بتشديد الجيم المفتوحة. قوله: (أي مشاة) أي مستقبلين القبلة أم لا. قوله: (جمع راكب) هو في الأصل راكب الإبل، لكن المراد به هنا الراكب مطلقاً إبلا أو غيرها لصلاة الخوف أقسام تأتي في سورة النساء. قوله: (أي صلوا) إنما سمى الصلاة ذكراً لأنها جمعت أنواع الذكر. قوله: ﴿ كَمَا عَلَّمَكُم ﴾ أي على الصفة التي علمكم إياها قبل حصول الخوف ولو ركعة، وحكمة الإتيان في جانب الخوف بإن التي تفيد الشك وبإذا في جانب الأمن المفيدة للتحقيق، الإشارة إلى أن الأصل الأمن وهو محقق، والخوف طارئ يزول. قوله: (وما موصولة) أي والعائد محذوف، والتقدير فأذكروا الله ذكراً مثل الذكر الذي علمكموه ما لم تكونوا تعلمون، وما الثانية بدل من ما الأولى أو من الضمير المحذوف، وقوله: (أو مصدرية) أي تسبك بمصدر، وظاهره أن الكاف أيضاً بمعنى مثل ولكنه بعيد فالأظهر أنها للتعليل، والتقدير فاذكروا الله لأجل تعليمه إياكم ما لم تكونوا تعلمون، وما معمول لتعليم.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ﴾ حاصله أنه كان في صدر الإسلام يجب على الرجل إذا حضرته الوفاة أن يوصي بالنفقة والكسوة والسكنى لزوجته سنة لأنها عدتها، ولا ينقطع عنها ذلك إلا بخروجها من نفسها، ثم نسخ ذلك. قوله: (وفي قراءة بالرفع) أي وهي سبعية. قوله: ﴿ مَّتَاعاً ﴾ مفعول لمحذوف قدره المفسر بقوله ويعطوهن. قوله: (حال) أي من الزوجات. قوله: (كالتزين وترك الأحداد) أي فكان حلالاً في العدة. قوله: (وقطع النفقة عنها) أي بخروجها من نفسها من غير إخراج أحد لها. قوله: (المتأخرة في النزول) جواب عن سؤال وهو أن المتقدم لا ينسخ المتأخر، أجاب بأنه وإن تقدم تلاوة إلا أنه متأخر في النزول. قوله: (والسكنى ثابتة لها عند الشافعي) أي أربعة أشهر وعشراً، وأما عند مالك فهي ثابتة لها إن كان المسكن له أو نقد كراءه، وإلا نقدت هي كراءة ومكثت مكانها حتى تخرج من العدة. قوله: ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ ﴾ أي مطلقاً قبل الدخول أو بعده إلا من طلقت قبل الدخول وأخذت نصف الصداق فلا متعة لها، وزاد مالك المختلعة فلا متعة لها أيضاً. قوله: ﴿ مَتَاعٌ ﴾ أي متعة وهي بقدر إمكان الزوج فقط عند مالك وعند الشافعي بقدرهما، ويسن أن لا تنقص عن الثلاثين درهماً. قوله: ﴿ عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ إنما قال هنا ذلك وقال فيما تقدم على المحسنين، لأن بعض الأعراب حين نزلت الآية الأولى طلق زوجته ولم يمتعها وقال إن أردت أحسنت وإن أردت لم أحسن، فنزلت حقاً على المتقين. قوله: (فلعه المقدر) أي تقديره أحقه حقاً. قوله: (إذ الآية السابقة في غيرها) أي وأما هذه فهي عامة في كل مطلقة ما عدا المطلقة قبل الدخول وأخذت نصف المهر، المختلعة والمخيرة والمملكة عند مالك. قوله: (كما بين لكم ما ذكر) هذا وعد من الله ببيان كل شيء في القرآن، ولذا قال الشافعي: لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في القرآن. قوله: (استفهام تعجيب) أي إيقاع في العجب، والخطاب قيل للنبي، وقيل لكل من يصلح للخطاب وهو أولى. قوله: (وتشويق) أي إيقاعه في الشوق لأن ما سيق بعد الطلب ألذ مما سبق بلا تعب، وعطف التشويق على التعجيب من عطف المسبب على السبب. قوله: (أي ينته علمك) أشار بذلك إلى أن ترى مضمن معنى ينته والحامل له على ذلك تصريح الله بالى. وإلا فرأى علمية تتعدى للمفعولين بنفسها.
قوله: (ألفاً) تمييز حذفه من الأول لدلالة الأخير عليه، وقد ذكر المفسر ستة أقوال أصحها الثلاثة الأخيرة لأن ألوفاً جمع كثرة ومبدؤه بعد العشرات. قوله: (مفعول له) أي لأجله وقد استوفى شروطه المذكورة في العربية. قوله: (ففروا) أخذت الأئمة من الآية النهي عن الخروج من بلد فيها الطاعون، فقال مالك بالكراهية. وقال الشافعي بالحرمة. قوله: (فماتوا) قدره المفسر لعطف قوله: ﴿ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ ﴾ عليه، وقوله: ﴿ فَقَالَ لَهُمُ ﴾ قيل المراد على لسان ملك، وقيل كناية عن سرعة الإيجاد. قوله: (بعد ثمانية أيام) أي حتى انتشرت عظامهم وذاب لحمهم (قوله حزقيل) هو الخليفة الثالث في بني إسرائيل بعد موسى، لأن موسى لما حضرته الوفاة خلف يوشع بن نون، فلما حضرته الوفاة خلف كالب، ثم عند موته خلف حزقيل ويسمى ابن العجوز لأنه جاءها وهي عجوز، ويلقب بذي الكفل لأنه كفل أي وقى سبعين نبياً من القتل. ورد أنه لما مر عليهم وهم موتى قال يا رب كنت في قوم يحمدونك ويهللونك ويكبرونك، فبقيت وحدي لا قوم لي، فأوحى الله إليه أن قل أيها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمعت العظام، فأوحى الله إليه أن قل أيها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً فاكتست، ثم أمره الله أن يقول لها إن الله يأمرك أن تقومي فقاموا قائلين سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا نت. إن قلت: كيف مات هؤلاء مرتين مع قوله تعالى:﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ ﴾[الدخان: ٥٦] قلت: إن الموت قبل استيفاء الأجل، إما عقوبة كموت الذين سألوا الرؤية قبلهم، أو عبرة كموت العزيز وحماره. قوله: (فعاشوا دهراً) أي مدة عمرهم. قوله: (أثر الموت) أي من الصفوة. قوله: (واستمرت في اسباطهم) أي أولادهم كما هو مشاهد في بعض اليهود. قوله: (ومنه إحياء هؤلاء) أي ليعتبروا ويظفروا بالسعادة. قوله: (تشجيع المؤمنين) أي حملهم على القتال. قوله: قوله: (ولذا عطف عليه) أي الخبر المذكور، وقيل معطوف على قوله: (حافظوا على الصلوات) الآية، وما بينهما اعتراض. قوله: (لإعلاء دينه) أي لا لغنيمة ولا لإظهار شجاعة ونحو ذلك. قوله: ﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ ﴾ الخ، فيه وعد للمجاهدين ووعيد لمن تخلف عنهم. قوله: (فيجازيكم) أي على ما يعلم منكم الجزاء على حساب البواطن لا الظواهر.
قوله: ﴿ مَّن ذَا ٱلَّذِي ﴾ يحتمل أن من اسم استفهام مبتدأ وذا خبر والذي بدل منها ويقرض صلة الموصول لا محل لها من الأعراب، ويحتمل أن من ذا اسم استفهام مبتدأ والذي خبر ويقرض صلة الموصول. قوله: ﴿ يُقْرِضُ ٱللَّهَ ﴾ أي يسلفه وهذا من تنزلات المولى لعباده، حيث خاطبهم مخاطبة المحتاج المضطر، مع إنه غني عنهم رحمة بهم على حد كتب ربكم على نفسه الرحمة، وسماه هنا قرضاً وفي آية براءة بيعاً. وفي الحقيقة لا بيع ولا قرض لان الملك كله له، وحينئذ فليست مضاعفته على ذلك رباً لأنه لا تجري أحكام الربا بين السيد وعبده الحادثين لملكه له صورة، فأولى بين السيد المالك القديم وعبده الذليل الضعيف الذي لا يملك شيئاً أصلاً فمن إحسانه عليه خلق ونسب إليه. قوله: ﴿ قَرْضاً ﴾ مفعول مطلق لقوله: يقرض. قوله: (عن طيب قلب) أي لا رياء ولا سمعة بل ينفقه من حلال خالصاً لله. قوله: ﴿ فَيُضَٰعِفَهُ ﴾ بالرفع والنصب والتشديد والتخفيف قراءات أربع سبعية، فالرفع عطف على يقرض، والنصب بأن مضمرة بعد فاء السببية في جواب الاستفهام. قوله: (كما سيأتي) أي في قوله تعالى:﴿ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ﴾[البقرة: ٢٦١] الآية، وكثرة المضاعفة على حسب الاخلاص قال عليه الصلاة والسلام:" الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً من بعدي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ". قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾ هذا كدليل لما قبله، أي إن الإنفاق لا يقبض الرزق وعدمه لا يبسطه، بل القابض الباسط هو الله. قوله: (ابتلاء) أي اختباراً هل يبصرون ولا يشكون أم لا. قوله: (امتحاناً) أي هل يشكرون أم لا، فالمطلوب من الإنسان أن يكون كما قال الشاعر: استغن ما أغناك ربك بالغنى   وإذا تصبك خصاصة فتحملفلا يشكو ربه في حال فقره، ولا يطغى في حال غناه، قال أهل الاشارات: في الآية إشارة خفية إلى أن القبض لا بد وأن يعقبه بسط بخلاف العكس. قوله: (فيجازيكم بأعمالكم) أي فيثيب المنفق ويعذب الممسك.
قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ ضمنت معنى ينتهي فعديت بإلى كما تقدم نظيره، والاستفهام هنا نظير ما تقدم، فالمقصود من ذكر هذه القصة العبرة حيث كانوا كثيرا ولم يوجد الصدق في غالبهم، فالمعنى لا تكونوا يا أمة محمد كمن ذكروا في الجبن والمخالفة. قوله: (الجماعة) أي الأشراف لأنهم هم الذين يملأون العين هيبة وأنساً. قوله: ﴿ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ من تبعيضية. وحاصل مبدأ تلك القصة أنه عند وفاة موسى خلف الله على بني إسرائيل يوشع بن نون فقام بالخلافة حق قيام، ثم لما مات تخلف عليهم كالب ثم حزقيل ثم الياس ثم اليسع فقاموا جميعاً بالخلافة كمن قبلهم. ثم ظهرت لهم العمالقة وكانوا في بلد قريبة من بيت المقدس يقال لها فلسطين وهم من ألاود عمليق بن عاد، فغلبوا على كثير من بلادهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وزيادة وضربوا عليهم الجزية، ولم يكن فيهم إذ ذاك نبي ولا ذرية إلا امرأة حبلى من ذرية لاوي من أولاد يعقوب فولدت غلاماً فسمته شمويل، فلما كبر نبأه الله عليهم وأرسله إليهم، ثم إنهم طلبوا منه ملكاً يقيم أمرهم ويرشدهم لما فيه صلاحهم فأقام لهم طالوت إلى آخر ما قص الله. قوله: ﴿ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ ﴾ من ابتدائية. قوله: (إلى قصتهم وخبرهم) بيان للمراد من الآية لأنه لا معنى لرؤية ذواتهم. قوله: ﴿ نُّقَاتِلْ ﴾ مجزوم في جواب الأمر. قوله: والاستفهام لتقرير التوقع) والمعنى أترقب منكم عدم القيام بالقتال، وقوله: (خبر عسى) أي واسمها التاء، وقوله: ﴿ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ ﴾ جملة معترضة بين اسمها وخبرها، وجواب الشرط محذوف تقديره فلا تقاتلوا. قوله: ﴿ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ ﴾ ما استفهامية بمعنى شيء مبتدأ، ولنا متعلق بمحذوف خبر، وأن مقدر قبلها الجار، ولا بمعنى عدم، ويكون المعنى أي شيء ثبت لنا في عدم القتال. قوله: ﴿ وَقَدْ أُخْرِجْنَا ﴾ جملة حالية والمعنى أخرج أصولنا وأبناؤهم. قوله: (فعل بهم ذلك قوم جالوت) أي حين مات آخر نبي لهم وهو اليسع، وضربوا عليهم الجزية وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وشيئاً فضلاً عن غيرهم. قوله: (أي لا مانع لنا منه) تفسير للمعنى المراد من الآية. قوله: ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ ﴾ مرتب على محذوف تقديره فدعا شمويل ربه بذلك فبعث فلهم ملكاً وكتب عليهم القتال فلما كتب عليهم الخ. قوله: (وجبنوا) عطف تفسير وهو ترك القتال خوف الموت وسيأتي بيان جبنهم. قوله: ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ منصوباً على الاستثناء من الواو في تولوا وهو استثناء متصل، وكان عدتهم ثلثمائة وثلاثة عشر. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ ﴾ أي منهم وهذا وعيد عظيم لمن جبن عن القتال. قوله: (كيف) تفسير لأنى والعامل فيها يكون. قوله: (لأنه ليس من سبط المملكة) أي لكونه لم يكن من ذرية يهوذا بن يعقوب، وقوله: (ولا النبوة) أي لكونه لم يكن من ذرية لاوي بل هو من ذرية بنيامين أصغر أولاد يعقوب، وكانت ذريته لا نبوة فيهم ولا مملكة، بل أقيموا في الحرف الدنيئة من أجل معاصيهم.
قوله: ﴿ سَعَةً ﴾ أصله وسع حذفت فاء الكلمة وهي الواو وعوض عنها تاء التأنيث ما في عدة وزنه، وحذف في مضارعه لوقوعها بين عدوتيها لأن أصله يوسع. قوله: (وكان أعلم بني إسرائيل) أي فكان يحفظ التوراة، وقوله: (وأتمهم خلقاً) أي فكان يزيد على أهل زمانه يكتفيه ورأسه. قيل ورد أنه لما دعا شمويل ربه أن يبعث لهم ملكاً أعطاه الله قرناً فيه طيب ويسمى طيب القدس وعصا، وأوحى إليه إذا دخل عليك رجل اسمه طالوت فانظر في القرن فإذا فار فادهن رأسه به وقسه بالعصا، فإذا جاء طولها فهو الملك فلما دخل عليه فعل به كما أمر فإذا هو طولها، ثم دهن رأسه بذلك الدهن وقال له إن الله جعلك ملكاً على بني إسرائيل، فقال كيف ذلك مع أني أدنى منهم فقال له: الله يؤتي ملكه من يشاء. قوله: ﴿ عَلِيمٌ ﴾ (بمن هو أهل له) أي فلا حرج عليه في فعل ولا ترك. قوله: ﴿ قَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ ﴾ أي حين استبعدوا مجيء الملك له. قوله: لما طلبوا منه آية) لما بمعنى حين ظرف لقوله قالوا أي وقع منهم القول وقت طلبهم منه آية. قوله: (الصندوق) ويقال بالزاي والسين وكل من الثلاثة إما مفتوح أو مضوم أفصحها بالصاد مع الضم، وكان من خشب الشمشار وطوله ثلاثة أذرع، وعرضه ذراعان مموه بالذهب، وكان عند آدم فيه صور الأنبياء جميعهم، وفيه صورة محمد وبيته وأصحابه وقيامه يصلي بينهم، ثم توارثه ذرية آدم إلى أن وصل لموسى فكان يضع فيه التوراة ووضع فيه بقية الألواح التي تكسرت، ثم أخذه بنو إسرائيل بعد موسى، وكانوا إذا خرجوا للقتال يقدمونه بين أيديهم، وكانت الملائكة تحمله فوق رؤوس المتقاتلين، ثم يشرعون في القتال فإذا سمعوا صيحة تيقنوا النصر، فلما انقرضت أنبياؤهم سلط الله عليهم العمالقة بسبب فسادهم فأخذوا منهم الصندوق وجعلوه في موضع البول والغائط، فلما أراد الله إظهار ملك طالوت سلط عليهم البلاء، فكان كل من بال عنده ابتلي بالبواسير، حتى خرجت خمس بلاد من بلادهم، فلما كبر خوفهم منه أخرجوه للخلاء، ثم حملته الملائكة وأتت به طالوت. قوله: (أنزل الله على آدم) أي ثم توارثه ذريته من بعده. قوله: فغلبتهم العمالقة) أي بعد موت أنبيائهم. قوله: (وكانوا يستفتحون به) أي يطلبون الفتح والنصر به. قوله: (ويسكنون إليه) أي يطمئنون بقدومه على العدو. قوله: (طمأنينة لقلوبكم) أي ففي للسببية فالمعنى أن السكينة تحصل بسببه ومن أجله، وقيل المراد بالسكينة صورة من زبرجد على صورة الهرة غير أن لها جناحين فإذا صوتت في الصندوق استبشروا بالنصر، وقيل المراد بالسكينة صورة الأنبياء، فالظرفية على بابها. قوله: (أي تركاهما) بيان للمراد من الآية فأطلق الآل وأراد منه نفس موسى وهارون، وكثيراً ما يطلق آل الرجل على الرجل نفسه. قوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ أي إتيان التابوت على الوصف المذكور. قوله: (فاختار من شبابهم) أي الدين لا شاغل لهم دنيوي لأنه كان لا يأخذ من كان عنده بناء لم يتم، ومن عقد على زوجة ولم يدخل بها، ومن كان مشغولاً بتجارة. قوله: (سبعين ألفاً) وقيل ثمانون ألفاً وقيل مائة ألف وعشرون ألفاً.
قوله: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ ﴾ أي انفصل وهو مرتب على محذوف تقديره فجمعهم. قوله: (وهو بين الأردن) بفتح الهمزة وسكون الراء وضم الدال وتشديد النون، موضع قريب من بيت المقدس، وقوله: (وفلسطين) بفتح الفاء وكسرها وفتح اللام لا غير، قال بعضهم إنه قرية، وقال بعضهم إنه عدة قرى قرب بيت المقدس. قوله: ﴿ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ ﴾ أي بكثرة بدليل ما بعده، وهذا النهر باق يجري إلى الآن بين الخليل وغزة. قوله: (يذقه) أشار بذلك إلى أن الطعم بمعنى الذوقان، يطلق على المأكول والمشروب. قوله: (بالفتح والضم) قراءتان سبعيتان بمعنى الشيء المغروف، وقيل بالفتح اسم للاغتراف وبالضم اسم للشيء المغروف، وقيل بالفتح والضم بمعنى المصدر أشهرها أوسطها. قوله: ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾ استثناء من قوله فشربوا منه المقيد بالكثرة، فالمعنى إلا قليلا شربوا منه بقلة، فيؤخذ منه أن الجميع شربوا لكن أكثرهم شرب بكثرة، وأقلهم شرب منه بقلة. قوله: (وبضعة عشر) البضعة من ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، لكن المراد هنا ثلاثة عشر كما في أكثر الروايات وهم عدة غزوة بدر. قوله: ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ ﴾ أي تعداه. قوله: ﴿ وَجُنودِهِ ﴾ قيل عدتهم مائة ألف شاكي السلاح وقيل أكثر، وكان طول جالوت ميلاً وخوذته التي على رأسه ثلثمائة رطل. قوله: ﴿ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ ﴾ استشكل بأن من شرب كثيراً مؤمنون أيضاً، وأجيب بأنهم صلب إيمانهم بكثرة شربهم، وأجيب أيضاً بان المراد يظنون أنهم ملاقوا الله أي بالموت في تلك الواقعة فلا أمل لهم في الحياة. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ ﴾ قيل من كلامهم من كلام الله بشارة لهم، والمراد معية معنوية خاصة. قوله: (أي ظهروا لقتالهم) أي فلم يبق بينهم حجاب أبداً، بل خرجوا في البراز الذي هو صحراء الأرض. قوله: (اصبب) ﴿ عَلَيْنَا صَبْراً ﴾ أي كصب الماء على الأرض الجرز. قوله: ﴿ وَقَتَلَ دَاوُدُ ﴾ أي ابن أيشا من جملة عسكر طالوت، وكان أولاده ثلاثة عشر معه أصغرهم داود وكان يرعى الغنم، فلما خرجوا للقتال مر داود بحجر فناداه يا داود احملني فإني حجر هارون، فحمله ثم مر بآخر فقال له احملني فإني حجر موسى فحمله، ثم مر بآخر فقال له احملني فإني حجرك الذي تقتل به جالوت فحمله، ووضع الثلاثة في مخلاته، فلما تصافوا للقتال نادى طالوت كل من يقتل جالوت أزوجه ابنتي وأناصفه في ملكي، فلم يتقدم أحد، فسأل طالوت شمويل فدعا ربه فأتى بقرن فيه دهو وقيل له إن الذي يقتل جالوت هو الذي إذا وضع الدهن على رأسه لا يسيل على وجهه، فدعا طالوت القوم فصار يدهن رؤوسهم فلم تصادف تلك الصفة أحداً، إلى أن وصل لداود فصادف، فقال له أنت تبرز له؟ فقال نعم، فأتى بالمقلاع وأخرج حجراً من مخلاته وقالت باسم رب إبراهيم، وأخرج حجراً آخر وقال باسم رب إسحاق، وأخرج حجراً آخر وقال باسم رب يعقوب، ثم وضعها في مقلاعه فصارت الثلاثة حجراً واحداً، فرمى به جالوت فأصابه في خوذته وخرج من دماغه فقتل ثلاثين رجلاً، فأخذ داود جالوت حتى ألقاه بين يدي طالوت ففرح هو ومن معه من بني إسرائيل وزوجه ابنته وأعطاه نصف الملك، فمكث كذلك أربعين سنة، فلما مات طالوت وشمويل انفرد فعاش نبياً ملكاً سبع سنين، ثم خلفه سليمان ولده في النبوة والملك. قوله: ﴿ وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ ﴾ أي استقلالاً سبع سنين. قوله: (كصنعة الدروع) أي وكان يلين في يده من غير نار وينسجه كالغزل. قوله: (ومنطق الطير) أي فهم أصواتها بل وجميع الحيوانات. قوله: ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ ﴾ أي لولا أن الله دفع الناس وهم أهل الكفر والمعاصي، ببعض الناس وهم أهل الإيمان والطاعة، لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين وخرجوا المساجد والبلاد، وقيل معناه لولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار على الكفار والفجار لفسدت الأرض أي هلكت ومن فيها، ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر، وبالصالح عن الفاجر، وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة من أهل بيت من جيرانه البلاء "ثم قرأ ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ الآية. قوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ ﴾ يعني دفع الفساد على هذا الوجه بطريق إنعام الله وتفضله فعم الناس كلهم، ومن المعلوم أن لولا حرف امتناع لوجود فالمعنى امتنع فساد الأرض لأجل وجود دفع الناس بعضهم عن بعضهم، وهذه الآية كالدليل لما ذكر في القصة من مشروعية القتال، ونصر داود على جالوت.
قوله: (هذه الآيات) أي فالإشارة عائدة على ما تقدم من أول الربيع إلى آخره لما فيه من عظيم العجائب والإشارة في الآية للبعد نظراً لبعد زمن تلك القصة، وإنما فسره بالقريب نظراً للفظ الدال عليها، فأفاد المفسر أنه يصح إرادة المعنيين، فلا مخالفة بين إشارة الآية وإشارة المفسر. قوله: (بالصدق) أي الذي لا يحتمل النقيض. قوله: (وغيرها) أي وهي اللام والجملة الأسمية.
قوله: ﴿ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ ﴾ اسم الإشارة عائد الرسل المذكورين من أول السورة إلى هنا أو على المذكورين بلصقها، وأتى بالإشارة البعيدة نظراً لبعد زمنهم أو لبعد رتبتهم وعلوها عند الله. قوله: (صفة) أي أو عطف بيان أو بدل لأن المحلى بأل بعد اسم الإشارة يجوز فيه الثلاثة. قوله: (بتخصيصه بمنقبه) أي بصفة الكمال وذلك بفضل الله لا بصفة قائمة بذاته بحيث تقتضي التخصيص بالمناقب لذاته، قال تعالى:﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾[النساء: ٨٣] ما زكا منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء. قوله: ﴿ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ ﴾ بيان للتفضيل، وقوله: (كلم الله) أي كلمة الله بغير واسطة. قوله: (كموسى) أي في الطور ليلة الإسراء، وإنما لم يشتهر بالكلام لأنه حاز منصباً أشرف من المكالمة وهي الرؤية. قوله: (أي محمداً) مثل هذا التفسير لا يقال من قبل الرأي بل هو الوارد، وقد أشار لذلك العارف بقوله: وإن ذكروا نجي الطور فاذكر   نجي العرش مفتقراً لتغنىفإن الله كلم ذاك وحياً   وكلم ذا مشافهة وأدنىوإن قابلت لفظة لن تراني   بما كذب الفؤاد فهمت معنىفموسى خر مغيشاً عليه   وأحمد لم يكن ليزيغ ذهناًقوله: (بعموم الدعوة) أي لجميع المخلوقات حتى الجمادات والملائكة والجن، ولا يرد حكم سليمان في الجن فإنه حكم سلطنة لا رسالة. قوله: (وختم النبوة) أي فلا نبي بعده تبتدأ رسالته ويلزم من ذلك نسخ شرعه. قوله: (وتفضيل أمته على سائر الأمم) قال تعالى:﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾[آل عمران: ١١٠] وأما قوله تعالى في حق بني إسرائيل:﴿ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ ﴾[البقرة: ٤٧] فالمراد عالموا زمانهم. قوله: (والمعجزات المتكاثرة) أي الكثيرة التي لا تحصى بحد ولا عد، قال العارف البوصيري: إنما فضلك الزمان وآيا   تك فيما نعده الآناءقوله: (والخصائص العديدة) أي كالحوض المورود والمقام المحمود والوسيلة وغير ذلك قوله: ﴿ ٱلْبَيِّنَاتِ ﴾ أي كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص. قوله: (يسير معه حيث سار) أي من مبدأ خلقه لأن خلقه كان على يده. قوله: (هدى الناس) مفعول لشاء، وقوله: ﴿ مَا ٱقْتَتَلَ ﴾ جواب لو، وهو إشارة لقياس استثنائي نظمه أن تقول لو شاء الله هدى الناس جميعاً ما اقتتل الذين من بعد الرسل ولكنهم اقتتلوا فلم يشأ الله هداهم جميعاً. قوله: (بعد الرسل) أي بعد مجيئهم. قوله: (أي أممهم) تفسير للذين، وقوله: ﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ﴾ متعلق باقتتل وما مصدرية أي من بعد مجيء البينات لهم. قوله: (لاختلافهم) علة للاقتتال. قوله: ﴿ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ ﴾ هذا استثناء لنقيض التالي فينتج نقيض المقدم، وهو لم يشأ الله هداهم لكنه عبر بالسبب وهو الاختلاف عن المسبب وهو الاقتتال. قوله: (لمشيئة ذلك) أي فلو شاء هداهم لم يختلفوا ولم يقتتلوا، فالحق واضح ظاهر، وإنما كفر من كفر بإرادة الله عدم إيمانه فالعبد مجبور في قالب مختار. قوله: (ثبت على إيمانه) أي بإرادة الله. قوله: (زكاته) قدره إشارة إلى أن المراد الانفاق الواجب بدليل الوعيد العظيم ونحو الزكاة كل نفقة واجبة. قوله: (بغير إذنه) أشار بذلك إلى أن الآية المطلقة فتحمل على المقيدة وهي قوله تعالى:﴿ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾[البقرة: ٢٥٥] قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية. قوله: (برفع الثلاثة) أي على أن لا نافية مهملة أو عاملة عمل ليس، لأنها إذا تكررت جاز إعمالها وإلغاؤها، وأما على القراءة الأولى فهي عاملة عمل إن تنصب الاسم وترفع الخبر. قوله: (بالله) أي فهو كفر حقيقي، وقوله: (أو بما فرض عليهم) أي بالتفريط في الفرائض وهو كفر مجازي.
قوله: ﴿ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ هذه الآية تسمى آية الكرسي وهي أفضل أي القرآن، لأن التوحيد الذي أستفيد منها لم يستفد من آية سواها، لأن الشيء يشرف بشرف موضوعه، فإنها اشتملت على أمهات المسائل الدالة على ثبوت الكمالات لله ونفي النقائض عنه تعالى، وورد في فضلها من الأحاديث الكثيرة ما يجل على الحصر، منها من قرأها عند خروجه من بيته كان في ضمان الله حتى يرجع، ومنها من قرأها دبر كل صلاة لم يمنعه دخول الجنة إلا الموت، ومنها ما قرئت في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة، يا علي علمها ولدك وأهلك وجيرانك فما نزلت آية أعظم منها، ومنها من قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله، ومنها سيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة الكرسي، ومنها ما ورد أنه نزل جبريل على موسى وقال له ربك يقول لك من قال عقب كل صلاة اللهم إني أقدم إليك بين يدي كل نفس ولمحة وطرفة يطرف بها أهل السماوات وأهل الأرض وكل شيء هو في علمك كائن أو قد كان أقدم إليك بين يدي ذلك كله الله لا إله إلا هو الحي القيوم إلى آخرها، فإن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة ليس منها ساعة إلا ويصعد إلى الله منه فيها سبعون ألف ألف حسنة، حتى ينفخ في الصور وتشتغل الملائكة، وأخذ العارفون منها فوائد جمة منها من قرأها عقب كل صلاة أربع وعشرة عدة فصولها أحبه العالم العلوي والسفلي، ومن قرأها عدة الرسل ثلاثمائة وثلاث عشرة فرج الله عنه وأزال عنه ما يكره، ومنها من قرأها عدد حروفها وهي مائة وسبعون حرفاً لا يطلب منزلة إلا وجدها ولا سعة إلا نالها ولا فرجاً من سائر الشدائد إلا حصل، ومنها أنه إذا سقي المبطون حروفها مقطعة شفي بإذن الله، ومنها من كتبها عدد كلماتها وهي خمسون كلمة وحملها أدرك غرضه من عدوه وحاسده، وإن كان للمحبة والألفة نال مقصده، وتسميتها آية الكرسي من باب تسمية الشيء باسم جزئه لذكره فيها. قوله: (الدائم البقاء) أي فحياته ذاتية له. قوله: ﴿ ٱلْقَيُّومُ ﴾ هو من صيغ المبالغة وإن لم تكن من الصيغ المشهورة. قوله: (المبالغ في القيام بتدبير خلقه) أي فلا يشغله شأن عن شأن (ولا تخفى عليه خافية) أبداً سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، ومن هو مستخف بالليل وسارب النهار، وما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة، فقوم السماء وزينها، وبسط الأرض وجملها، وأرضى كل إنسان بما قسم له من غير تعب يحصل له من ذلك، قال تعالى:﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ﴾[ق: ٣٨].
قوله: ﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ﴾ هذا من صفات السلوب والسنة هي النوم في العين وهي نوم الأنبياء. قوله: ﴿ وَلاَ نَوْمٌ ﴾ عرف بأنه فترة طبيعية تهجم على الشخص قهراً عليه، تمنع حواسه الحركة وعقله الإدراك، إن قلت حيث كان منزهاً عن السنة فهو منزه عن النوم بالأول أجيب بأنه زيادة في الإيضاح، وأجيب أيضاً بأنه ذكر النوم لأنه ربما يتوهم من كونه يهجم قهراً أنه يغلبه فلا يلزم من نفي السنة نفي النوم وهذا هو الأثم، لأنه لا يلزم من نفي الأخف نفي الأثقل. إن قلت: إن الملائكة أيضاً لا تأخذهم سنة ولا نوم فليس في ذكر هذه الصفة مزيد مزية. أجيب: بأن تنزه الملائكة عن النوم من إخبار الله فقط، وإلا فالعقل يجوزه عليهم بخلاف تنزه الله عنه، فالدليل العقلي قائم على تنزهه عنه. قوله: ﴿ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ كالدليل لما قبله، وأتى بما تغليباً لغير العاقل لكثرته. قوله: (ملكاً) بضم الميم معناه التصرف، وقوله وخلقاً أي إيجاداً، وقوله وعبيداً أي مملوكين له (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً) ولا نزاع في كون السماوات والأرض ملكاً لله، قال تعالى:﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ ﴾[الزخرف: ٩] وفي ذلك رد على الكفار حيث أثبتوا له شريكاً، فكأن الله يقول لهم ما أشركتموه لا يخرج عن السماوات والأرض، وشأن الشريك أن يكون مستقلاً خارجاً عن مملكة الشريك الآخر. قوله: ﴿ مَن ذَا ﴾ اسم استفهام مبتدأ و ﴿ ٱلَّذِي ﴾ خبره وهو استفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لا شفيع في أحد يستحق النار يشفع عنده بغير مراده. قوله: (أي لا أحد) تفسير للاستفهام الإنكاري. قوله: ﴿ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ أي مراده. قوله: (أي من أمر الدنيا) راجع لقوله ما بين أيديهم، وقوله: (والآخرة) راجع لقوله: ﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ فهو لف ونشر مرتب ويصح العكس فيكون لفاً ونشراً مشوشاً، والأقرب أن يقال المراد بما بين أيديهم ما يستقبل من الدنيا والآخرة، وقوله وما خلفهم ما انقضى من أمر الدنيا، فعلم أمر الدنيا والآخرة مستو عنده بخلاف المخلوقات، قال الشاعر: وأعلم علم اليوم والأمس قبله   ولكنني عن علم ما في غد عميقوله: (أي لا يعلمون شيئاً من معلوماته) دفع بذلك ما يتوهم أن علم الله يتجزأ مع أنه ليس كذلك، وما يتوهم أيضاً أنه يشاء إطلاع أحد على علمه مع أنه مستحيل، إذ ليس في طاقة الحادث اطلاع على حقيقة القديم ولا صفاته، سبحان من لا يعلم قدره غيره، ولا يبلغ الواصفون صفته. قوله: (منها) إي من معلوماته. قوله: (بأخبار الرسل) أي فلا يصل لأحد علم إلا بواسطة الأنبياء، فالأنبياء وسائط لأممهم في كل شيء، وواسطتهم رسول الله، قال العارف: اللهم صل على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق، وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق. قوله: (وقل أحاط علمه بهما) أي فالكرسي بضم الكاف وكسرها يطلق على العلم، كما يطلق على السرير الذي يجلس عليه. قوله: (وقيل الكرسي نفسه) أي وهو مخلوق عظيم فوق السماء السابعة، يحمله أربعة ملائكة، لكل ملك أربعة أوجه أرجلهم تحت الصخرة التي تحت الأرض السابعة، وتحت الأرض السفلى ملك على صورة آدم يسأل الرزق لبني آدم، وملك على صورة الثور يسأل الرزق للبهائم، وملك على صورة السبع يسأل الرزق للوحوش، وملك على صورة النسر يسأل الرزق للطيور، بينهم وبين حملة العرش سبعون حجاباً من ظلمه، وسبعون حجاباً من نور، سمك كل حجاب خمسمائة سنة، وذلك لئلا تحترق حملة الكرسي من نور حملة العرش، وخلق العرش والكرسي من حكم الله لا لاحتياج لهما. قال صاحب الجوهرة: والعرش والكرسي ثم القلم   والكاتبون اللوح كل حكمقوله: (في ترس) هو ما يتترس به عند الحرب، وهو المسمى بالدرقة. قوله: ﴿ وَلاَ يَؤُودُهُ ﴾ أي الله وهو ظاهر، أو الكرسي وهو أبلغ، لأنه إذا لم تثقل السماوات والأرض مع عظمها الكرسي مع أنه مخلوق فكيف بخالقه. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ﴾ أي المنزه عن صفات الحوادث فهو من صفات السلوب. قوله: ﴿ ٱلْعَظِيمُ ﴾ أي المتصب بالعظم وقدم العلي عليه لأنه من باب تقديم التخلية على التحلية.
قوله: ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ ﴾ قيل إن من هنا إلى خالدون من تمام آية الكرسي، وقيل ليست منها وهو الحق، وإنما ذكرت عقبها كالنتيجة لما ذكر فيها من خالص التوحيد، والمعنى لا يكره أحد أحداً على الدخول في الإسلام، فإن الحق والباطل ظاهران لكل أحد فلا ينفع الاكراه، قال تعالى:﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾[يونس: ٩٩].
قوله: (أي ظهر بالآيات البينات) أي الدلائل الظاهرة على باهر قدرته وعظيم حكمته، قال تعالى:﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾[البقرة: ١٦٤] الآية. قوله: (فيمن كان له من الأنصار أولاد) أي وهو أبو الحصين كان له ابنان تنصرا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة بتجارة زيت فلقيهما أبوهما، وأحب أن يكهرههما على الإسلام، فارتفع معهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال أبوهما يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر إليه فنزلت وهذه الآية يحتمل أنها منسوخة بآيات القتال أو محكمة، وتحمل على من ضرب عليهم الجزية ويؤيده سبب نزولها. قوله: ﴿ بِٱلطَّاغُوتِ ﴾ مبالغة في الطغيان كالجبروت والملكوت، والمراد به ما يعبد من دون الله، ومعنى الكفر به جحده والإعراض عنه. قوله: (وهو يطلق على المفرد والجمع) أي ويعود الضمير عليه مؤنثاً ومذكراً وهو قيل مصدر وقيل اسم جنس. قوله: ﴿ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ ﴾ تقديم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله من باب تقديم التخلية على التحلية، لأنه لا يصح إيمان بالله مع إشراك غيره معه. قوله: ﴿ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ ﴾ هذه الجملة جواب الشرط الذي هو من وقرن بالفاء لدخول قد عليها. قوله:(تمسك) أشار بذلك إلى السين والتاء زائدتان لتقوية الاستمساك. قوله: ﴿ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ ﴾ فيه استعارة تصريحية أصلية، حيث شبه دين الإسلام بالعروة الوثقى، وهي موضع المسك من الحبل بجامع أن كلا لا يخشى منه الخلل، واستعير اسم المشبه به وهو العروة الوثقى للمشبه وهو دين الإسلام، والاستمساك وعدم الانفصام ترشيحان لأنه من ملائمات المشبه به، أو فيه استعارة تمثيلية بأن يقال شبه حال من تمسك بدين الإسلام وأحكامه بحال من تمسك بالعروة الوثقى، بجامع أن كلا لا يخشى الانفكاك ولا الخلل، واستعير المشبه به للمشبه والاستمساك وعدم الانفصام ترشيحان أيضاً. قوله: ﴿ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا ﴾ الانفصام الانقطاع بغير بينونة، والانقصام بالقاف الانقطاع مع بينونة، فالتعبير بالانفصام أبلغ. قوله: (لما يقال) أي سراً أو جهراً. قوله: (بما يفعل) أي خيراً أو شراً سراً أو جهراً.
قوله: ﴿ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ هذا كالدليل لما قبله وولي فعيل بمعنى فاعل أي متولي أمر عباده، وأما الولي من العبيد فبمعنى فاعل أي موالي طاعة ربه، أو بمعنى أي تولاه الله فلم يكله لغيره. قوله: (الكفر) شبه بالظلمات الحسية للحيرة وعدم الاهتداء في كل، ولأنه يكون كذلك يوم القيامة، قال تعالى:﴿ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾[النور: ٤٠]، وقوله (الإيمان) شبه بالنور لأنه يهتدى بكل ولأنه يكون كذلك يوم القيامة، قال تعالى:﴿ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ﴾[التحريم: ٨]، فالكفر ظلمة معنوية في الدنيا وحسية في الآخرة، والإيمان نور معنوي في الدنيا وحسي في الآخرة، قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ ﴾ إنما لم يقل والطاغوت أولياء الذين كفروا لأجل المقابلة لئلا يكون الطاغوت مقابلاً لاسم الله وهو قبيح، فبدأ بكفرهم تقبيحاً وتبكيتاً لهم. قوله: (ذكر الاخراج الخ) جواب عن سؤال مقدر حاصله أن الكفار لم يكونوا في نور فأخرجوا منه إلى الظلمات كيف ذلك أجاب المفسر بجوابين: الأول أنه مشاكلة لما قبله والمراد منهم من أصل النور، والثاني أنه إخراج حقيقي وهو في كل من آمن بالنبي قبل مبعثه ثم ارتد بعد ذلك، وفي هذه الآية وعد من الله بالأمن للمؤمن من المخاوف دنيا وأخرى.
قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ الاستفهام لتقرير النفي مع التعجب، والمعنى ألم ينته علمك إلى هذا الذي قابله الله بالجود والاحسان، وقابل مولاه بالكفر والطغيان، وهذا كالدليل لقوله:﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ ﴾[البقرة: ٢٥٧] الآية. فإن الشيطان طاغوت نمروذ وهو طاغوت غيره ما عدا إبراهيم ومن تبعه قوله: ﴿ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ ﴾ لم يصرح باسمه تبكيتا له وإظهار لقبحه. قوله: (جادل) أي مجادلة باطلة وهي مقابلة الحجة بالحجة فإبراهيم يجادل بالحق، ونمروذ يجادل بالباطل. قوله: ﴿ فِي رَبِّهِ ﴾ أي إبراهيم فبالإضافة للتشريف، أو نمروذ والإضافة لإقامة الحجة عليه حيث نازع خالقه في وصفه. قوله: ﴿ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ ﴾ مفعول لأجله وهو مجرور باللام لفقد أحد شروطه وهو عدم اتحاد الفاعل، لأن فاعل المحاججة النمروذ وفاعل إيتاء الملك هو الله، قال ابن مالك: وإن شرط فقد. فاجرره بالحرف. وحذف الجار لأن حذفه مطرد مع أن وإن. قوله: (بطره) هو الاستخفاف بآلاء الله. قوله: (بنعم الله) أي وهي ملك الدنيا، لإنه لم يملك إلا أربعة اثنان مسلمان، واثنان كافران سليمان وذو القرنين، والنمروذ وبختنصر. قوله: (وهو نمورذ) أي ابن كنعان حملت به أمه من زنا خوفاً على ملك أبيه من الضياع حيث كان أبوه عقيماً، وهو أول من لبس التاج المكلل، وهذه الواقعة كانت بعد إلقاء إبراهيم في النار، وكان النمروذ قد ملك أقوات الأرض كلها، فكان لا يعطي القوت إلا لمن آمن به، فذهب إبراهيم إليه وطلب منه شيئاً من القوت فامتنع حتى يتبعه، فذهب إبراهيم إلى كثيب من رمل وملأ وعاءه فلما وصل منزله صار دقيقاً فصار يأكل منه هو ومن تبعه. قوله: (بدل من حاج) أي بدل اشتمال. قوله: (لما قال له) ظرف لقوله قال إبراهيم، إي قال إبراهيم ذلك وقت قوله له من ربك. قوله: ﴿ أَنَا أُحْيِـي ﴾ الضمير قبل أن وحدها والألف زائدة لبيان الحركة في حالة الوقف، وقيل بل وكلها الضمير، والصحيح أن فيه لغتين لغة تميم إثبات ألفه وصلاً ووقفاً، والثانية إثباتها وقفاً وحذفها وصلا. قوله: (غيباً) أي بليداً لا يفهم جواباً ولا يحسن خطاباً، وهو جواب عن سؤال مقدر حاصله أن ما وقع من إبراهيم ليس صناعة المناظرة لأنه كان الواجب إبطال حجة الأحياء والإماتة التي ادعاها اللعين أولاً ثم ينتقل لحجة أخرى، أجاب المفسر بأنه لما رآه غيباً لم يدقق عليه في ذلك وانتقل لحجة أخرى.
قوله: ﴿ أَوْ كَٱلَّذِي ﴾ هذا كالدليل لقوله: الله ولي الذين آمنوا، فهو من باب اللف والنشر المشوش فمن أراد الله هدايته جعل له كل شيء دليلاً يستدل به على ذات صانعه وصفاته، ومن أراد الله خذلانه أضله بكل شيء وأعمى قلبه عن النظر في المصنوعات، وإنما قدم ما يتعلق بالكافر لقصر الكلام عليه واتصاله بما قبله بخلاف ما يتعلق بالمؤمن، واعلم أنهم ذكروا أن في الكاف قولين: الأول أنها بمعنى مثل وعليه درج المفسر حيث قدر رأيت فيكون المعنى ألم ينته علمك إلى الشخص الذي مر أي مثله وصفته فقوله الكاف زائدة غير مناسب لحله، الثاني أنها زائدة والمعنى ألم ينته علمك إلى الشخص الذي مر الخ. قوله: (وهو عزيز) أي ابن شرخيا كان من بني إسرائيل، قيل كان نبياً وقيل ولياً وقيل هو الخضر وقيل رجل كان كافراً ينكر البعث فأراد الله له الهدى، والقرية قيل هي بيت المقدس كما قال المفسر، وقيل هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت. قوله: (لما خربها بختنصر) بخت معناه ابن ونصر اسم للصنم، سمي بذلك لأن أمه لما ولدته وضعته عنده فلما وجدوه قالوا بختنصر أي ابن الصنم، وكان كافراً ملك الأرض مشرقاً ومغرباً، وسبب تخريبها أن بني إسرائيل لما طغوا سلط الله عليهم بختنصر فتوجه إليهم في ستمائة راية، فلما ملكهم قسمهم ثلاثة أقسام: قسم قتله وقسم أقره بالشام وقسم استرقه، وكان ذلك مائة ألف، فقسمه بين الملوك الذين كانوا فأصاب كل واحد منهم أربعة فكانوا خمسة وعشرين ألف ملك، وكان من جملة من أسر عزيز، وفك من الأسر فلما مر عليها وهي بهذه الحالة قال ما ذكر. قوله: ﴿ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ يحتمل أن المراد في الدنيا أو يوم القيامة، وليس ذلك شكا واستغراباً لفعل الله، بل ذلك سؤال عن تعلق قدرة الله كأنه قال هل تعلقت قدرة الله بإحيائها فيحييها، أو بعدمه فيبقيها على ما هي عليه. قوله: (كيف) وقيل بمعنى متى. قوله: (استعظاماً لقدرته) أي إنه لا يقدر على ذلك إلا صحاب القدرة العظيمة. قوله: (وألبثه) قدره إشارة إلى أن قوله مائة عام متعلق بمحذوف، ولا يصح تعلقه بأماته لأنه لا معنى له. وسبب ذلك أنه لما دخل بيت المقدس وربط حماره فلم يرا أحداً بها ثم رأى أشجارها قد أثمرت فأكل منها ونام فأماته الله في منامه، فلما مضى من موته سبعون سنة، وجه الله ملكاً من ملوك فارس إلى بيت المقدس ليعمره فعمره ورد من بقي من بني إسرائيل إليه، فلما تمت المائدة أحياه الله. قوله: ﴿ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ أو للاضراب لأنه نام ضحوة النهار فأحيي آخر النهار، فظن أنه يوم النوم، فالبضرورة ليس يوماً كاملاً، قوله: (قيل أصل) أي فهي لام الكلمة والفعل مجزوم بسكون الهاء فأصل سنة سنهة. قوله: (وقيل للسكت) أي فهي زائدة وأصل سنة سنو. قوله: (وفي قراءة بحذفها) أي وصلاً. قوله: (من أنشر ونشر) لف ونشر مرتب. قوله: (ونرفعها) أي نرفع بعضها إلى بعض. قوله: (علم مشاهدة) جواب عن سؤال مقدر. قوله: (أمر من الله له) أي وترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، روي أن العزيز لما أحيي ورأسه ولحيته إذ ذاك سوداوان وهو ابن أربعين سنة، ركب حماره واتى محلته، فأنكره الناس وأنكر هو الناس والمنازل، فانطلق على وهم منه حتى أتى منزله، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أدركت زمن عزير، فقال عزير: يا هذه هذا منزل عزير، قالت: نعم، وأين عزير، قد فقدناه منذ كذا وكذا فبكت بكاء شديداً قال: فإني عزير، قالت: سبحانه الله وأني يكون ذلك، قال: قد أماتني الله مائة عام ثم بعثني. قالت: إن عزيراً كان رجلاً مجاب الدعوة فادع الله لي يرد علي بصري حتى أراك، فدعا ربه وسمح بين عينيها فصحتا فأخذ بيدها فقال لها قومي بإذن الله فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال، فنظرت إليه فقالت أشهد إنك عزير، فانطلقت به إلى محلة بني إ سرائيل وهم في أنديتهم، وكان في المجلس ابن لعزير قد بلغ مائة وثماني عشرة سنة وبنو بنته شيوخ، فنادت هذا عزير قد جاءكم فكذبوها، فقالت انظروا فإني بدعائه رجعت إلى هذه الحالة، فنهض الناس فأقبلوا إليه، فقال انبه كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه مثل الهلال فكشف فإذا هو كذلك، وقد كان قبل بختنصر ببيت المقدس من قراء التوراة أربعون ألف رجل، ولم يكن يومئذ بينهم نسخة من التوراة ولا أحد يعرف التوراة، فقرأها عليهم عن ظهر قلبه من غير أن يخل منها بحرف، فقال رجل من أولاد المسبيين ممن ورد بيت المقدس بعد هلاك بختنصر حدثني أبي عن جدي أنه دفنت التوراة يوم سبينا في خابية في كرم فإن أريتموني كرم جدي أخرجتها لكم، فذهبوا به إلى كرم جده ففتشوا فوجودها فعارضوها بما أملى عليهم عزير عن ظهر القلب فما اختلفا في حرف واحد، فعند ذلك قالوا هو ابن الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﴾ هذا دليل آخر لقوله الله ولي الذين آمنوا، وقصة إبراهيم أبلغ من قصة العزيز لعظم مقام إبراهيم، وإنما غاير الأسلوب ولم يقل أو كالذي (قال رب أرني) الخ لأن إبراهيم قد تقدم له ذكر، وأيضاً الأمر المعجز لم يقع له في نفسه كالعزير وإنما أراه الله ذلك في غيره، وسبب سؤال إبراهيم أنه مر بساحل طبريا فوجد جيفة إنسان وقيل حمار وقيل حوت، فلما رآه وجد السباع والطيور والسمك تأكل منها، فاشتاقت نفسه إلى رؤية جمع الله لها، فقال أعلم أن الله قادر على جمعها لكن أحب أن أرى ذلك، وقيل سبب سؤاله أنه لما حاجج النمروذ حيث (قال ربي الذي يحيي و يميت) فقال النمروذ أنا أحيي وأميت، ودعا رجلين فقتل أحدهما وعفا عن الآخر، فقال له إبراهيم ليس هذا إحياء إدخال الروح في الجسم وتقويمه بها، فقال النمروذ أو ربك يفعل ذلك فقال إبراهيم نعم، فقال له هل عاينته فانتقل لحجة أخرى وهي (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق) الآية، فعند ذلك تشوق للمعاينة لتقوى حجته على قومه إذ سألوه عن المعاينة وقال رب أرني، الآية. قوله: ﴿ أَرِنِي ﴾ أصله أرئيني بوزن أكرمني حذفت الياء لأن الأمر كالمضارع فصار أرئني ثم نقلت حركة الهمزة إلى الراء، وحذفت الهمزة والرؤية هنا بصرية تتعدى إلى مفعول واحد فلما دخلت همزة النقل تعدت إلى مفعول ثاني وهو جملة الاستفهام. قوله: (سأله) أي سأل إبراهيم. قوله: (بذلك) أي بقدرته على إحياء الموتى. قوله: (ليجيب) علة لسأل وفاعل الإجابة إبراهيم وهو المسؤول. وقوله: (بما سأله) أي الله، وقوله: (فيعلم السامعون غرضه) أي لأن سؤاله أولاً يوهم عدمه إيمانه فترتب على سؤال الله بقوله: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن ﴾ كشف إبراهيم عن مراده. قوله: ﴿ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ قوله: (آمنت) قدره إشارة إلى أن قوله ولكن ليطمئن قلبي مرتب عليه وهناك محذوف آخر تقديره وليس سؤالي لعدم إيمان مني ولكن الخ. قوله: (يسكن) ﴿ قَلْبِي ﴾ أي من اضطرابه واشتياقه إلى المعاينة، ولا يقدح ذلك في إيمان إبراهيم، فإن الإنسان مؤمن برسول الله وبيت الله الحرام، ولكن قلبه مشتاق ومضطرب لمشاهدة رسول الله وبيته الحرام غاية الاشتياق، ومع ذلك لا يقدح في إيمانه بما ذكر، وكسؤال موسى رؤية الله مع كونه في أعلى مراتب الإيمان بالله. قوله: (بالمعاينة المضمونة إلى الاستدلال) إن قلت: إن إيمان الأنبياء حق يقين لا علم يقين ولا عين يقين، فكيف يطلب إبراهيم الانتقال من علم اليقين إلى عين اليقين مع أن مرتبته فوق ذلك، أجيب بأن هذا الكلام بالنسبة للذات والصفات لوجدها بحيث لو كشف عنا الحجاب لرأيناها، وأما إيجاد الله للأشياء فهو أمر اعتباري يطلع الله على ذلك من خصه برحمته فلا يشاهده إلا من رآه بعينه، وأجيب أيضاً بأنه من أهل حق اليقين في الجميع لأن الله يمثل لأحبائه الأمور الاعتبارية التي ستحصل. فتصير كالمشاهدة الحاضرة فلا فرق في حق اليقين بين شهود الذات والصفات والأفعال، وإنما طلب ذلك لأجل تمام الاستدلال والاحتجاج على قومه وهذا هو الأتم. قوله: (بكسر الصاد وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أملهن إليك) أي (وقطعهن) فهما معنيان لصرهن والمفسر جمع بينهما. قوله: من جبال أرضك) أي من جبال حولك وكانت أربعاً وقيل سبعاً. قوله: (فأخذ طاووساً الخ) الحكمة في اختيار هذه الطيور الأربعة شبهها بالإنسان فإن في الطاووس الخيلاء والعجب، وفي النسر شهوة الأكل والشرب، وفي الغراب الحرص، وفي الديك شهوة النكاح، وذلك كله في الإنسان. قوله: (ثم أقبلت إلى رؤوسها) أي بدعائها ثانياً، فالدعوة الأولى لالتئام أجزائها، والثانية لاتيانها إليه لأخذ رؤوسها وإنما لم تكن من جنس واحد ليظهر التمييز وكانت من الطيور لأن الطير صفته الطيران في العلو، وهمة إبراهيم إلى جهة العلو فمعجزته مشاكلة لهمته.
قوله: ﴿ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ ﴾ مثل مبتدأ مضاف للموصول وينفقون صلته والخبر قوله كمثل حبة، وقدر المفسر قوله نفقات ليصح التشبيه لأن ذوات المنفقين لا يصح تشبيهها بالحبة، والحاصل أنه لا يصح التشبيه إلا بتقدير، إما في الأول كما صنع المفسر أو في الثاني أي مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل باذر حبة، قوله: (طَاعَتِهِ) أي واجبة أو مندوبة فيشمل الجهاد وطلب العلم والحج والتوسعة على العيال وغير ذلك، وكلما عظمت القرية كانت الحسنات فيها أكثر، قوله: ﴿ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ﴾ أي في سبع شعب والأصل والساق واحد وسنابل جمع سنبلة ويقال أيضاً: سبل وسبلة وفعل الأول سنبل والثاني سبل وغالباً يوجد ذلك في الذرة والدخن والشعير. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ ﴾ (أكثر من ذلك) أي على حسب الأخلاص وطيب المال ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" الله الله في أصحابي لا تتخذهم غرضاً من بعدي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً لما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه "وأعلم أن أقل المضاعفة عشر ثم سبعون ثم سبعمائة إلى غير نهاية، وظاهر المفسر أن وعد الله الذي لا يتخلف هو المضاعفة بالسبعمائة، وأما ما زاد فيختص برمته من يشاء، والحق أن وعد الله الذي لا يختلف هو المضاعفة بالعشر وما زاد فيخص به من يشاء فقوله: ﴿ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ ﴾ صادق بما فوق العشرة، قوله: ﴿ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ ﴾ (فضله) أي فلا يستغرب إعطاؤه الشيء الكثير في نظير شيء قليل لا تخفى عليه خافية، وهذا كالدليل لما قبله. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾، " نزلت هذه الآية في حق عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في غزوة تبوك، حيث جهز عثمان ألف بعير بأحلاسها وأقتابها ووضع بين يدي رسول الله الف دينار، فصار رسول الله يقلبها ويقول: " ما ضر عثمان مافعل بعد اليوم " " وأتى عبد الرحمن النبي عليه الصلاة والسلام بأربعة آلاف درهم وأخبره بأنه ابقى لأهله نظيرها، فقال له: بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أنفقت " فصار بعد ذلك ماله كالتراب ". قوله: ﴿ مَنّاً ﴾ هو تعداد النعم، وأتى بثم إشارة أن المن يقع بعد الانفاق بمهلة وهو حرام مخبط للعمل إلا من الوالد على ولده، والشيخ على تمليذه والسيد على عبده، فليس بحرام، قوله: ﴿ وَلاَ أَذًى ﴾ من عطف العام على الخاص، لأن المن من جملة الأذى، قوله: (ونحوه) أي كان يعطيه ويسبه، قوله: ﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ أي مدخر عنده والعندية عندية مكانة وشرف لا مكان. قوله: ﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ أي في الآخرة والخوف غم لما يستقبل، وقوله: ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ أي فيها والحزن غم لما مضى فقوله: (والآخرة) راجع لهما وأما في الدنيا فلا مانع من حصول ذلك لما في الحديث:" اشدكم بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ".
قوله: ﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾ الخ، قول مبتدأ ومعروف صفته ومغفرة معطوف عليه وخير خبره، وسوغ الابتداء بالنكرة الأولى وصفها، وبالثانية عطفها على ما له مسوغ. قوله: (كلام حسن) أي من المسؤول كأن يقول له الله يرزقك مثلاً، قوله: ﴿ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى ﴾ أعلم أن أعلى المراتب الأحسان مع الكلام الحسن، ثم الكلام الحسن من غير إعطاء، وادناها الاعطاء مع الأذى، وهل له في هذه الحالة ثواب لقضاء حاجة السائل، ويعاقب من جهة الأذية أو لا ثواب ولا عقاب، أو يعاقب فقط ولا ثواب لوجود الأذية، ويؤيده ما يأتي في قوله: ﴿ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ ﴾ الآية وعلى ذلك فيشكل الأتيان باسم التفضيل، وأجيب بأن الخيرية بالنسبة للسائل لا للمسؤول. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ ﴾ أي فلا يحوج عباده الفقراء إلى من الأغنياء وأذاهم، ويرزقهم من جهة أخرى إذا استد باب يفتح الله عشرة وفي الحقيقة الصدقة نفع صرف لصاحبها (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) وأما قسمة الله للعبد فلا تخطئه، بل إن لم تكن من هذا فمن غيره، قوله: (أي أجورها) يحتمل أن المراد مضاعفتها أو ثوابها من أصله، قوله: (إبطالاً) أشار بذلك إلى قوله كالذي صفة لمصدر محذوف، قوله: (أي كإبطال نفقة الذي) الكلام على حذف مضاف إي كإبطال أجر نفقة الذي الخ، قوله: (أي مرائياً لهم) أشار بذلك إلى أن رئاه مصدر بمعنى اسم الفاعل حال من فاعل ينفق، والمراءاة مفاعلة من الجانبين. قوله: (وهو المنافق) أي وهو قسمان: نفاق عملي ونفاق ديني، فالأول أن يقصد بصدقاته وصلاته وصومه غير وجه الله لكنه مسلم، والثاني أن يظهر الإسلام ويخفي الكفر، فمعنى قوله: ﴿ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ﴾ أي أصلاً بأن يكون كافراً أو إيماناً كاملاً بأن يكون مسلماً عاصياً. قوله: ﴿ فَمَثَلُهُ ﴾ أي في الانفاق، قوله: (حجر أملس) أي وهو كبير، قوله: (مطر شديد) وأوله رش ثم طش ثم طل ثم نضح ثم هطل ثم وابل، قوله: (وجمع الضمير باعتبار معنى الذي) أي وأفرد فيما قبله نظر اللفظة.
قوله: ﴿ ٱبْتِغَآءَ ﴾ مفعول لأجله. قوله: (أي تحقيقاً للثواب) أي جازماً ومصمماً أن الله يثيبه. قوله: (مكان مرتفع) أي طيب حسن شجرة تام ثمرة، وقوله: (مستو) أي لا مسنم لعدم بقاء الماء عليه، وقوله: (بضم الراء وفتحها) أي فهما قراءاتان سبعيتان، قوله: (لارتفاعها) أي واستوائها، قوله: (كثرت أم قلت) أي فحيث حسن باطنه بالإخلاص فقيل عمله ككثيره في رضا الله عنه، قال العارف: وبعد الفنا في الله كن كيف ما تشا   فعلمك لا جهل وفعلك لا وزرقوله: (فيجازيكم به) في ذلك وعد للمخلصين برضا الله والفوز الأكبر ووعيد المرائين بغضب الله وعدم الرضا عليهم.
قوله: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ﴾ شروع في ذكر مثال آخر للمرائي والمان والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، ومصبه قوله فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت. وقوله: (أيحب) تفسير ليود فالمودة هي المحبة لكن مع تمني اللقاء، قوله: ﴿ جَنَّةٌ ﴾ قيل إن المراد بالجنة الأرض ذات الشجر، وقيل الشجر نفسه، قوله: ﴿ مِّن نَّخِيلٍ ﴾ اسم جنس جمعي واحدة نخلة ولا يكون إلا لشجر البلح، والأعناب جمع عنبة اسم للكرم المعلوم، وخصمهما لعظم منافعهما ومزيد فضلهما على سائر الأشجار، وإلا فالمراد في الآية جميع الثمار بدليل باقي الآية. قوله: ﴿ لَهُ فِيهَا ﴾ (ثمر) ﴿ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ ﴾ أشار بذلك إلى أن من كل الثمرات جر ومجرور متعلق بمحذوف صفة لموصوف محذوف على حد منا ظعن ومنا أقام، أي منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، وكقوله تعالى:﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾[الصافات: ١٦٤] أي ما منا أحد، وقوله له متعلق بمحذوف خبر لثمر المقدر وقوله فيها متعلق بمحذوف حال من ضيمر الخبر. قوله: ﴿ وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ ﴾ الجملة حالية و(قد) مقدرة كما ذكره المفسر، لأن الجملة الماضوية إذا وقعت حالاً فإن قد تصحبها إما لفظاً أو تقديراً. قوله: ﴿ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ ﴾ جملة حالية أيضاً. قوله: ﴿ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ ﴾ هذا هو مصب الاستفهام لأن هذا هو موضع المصيبة، قوله: (ريح شديدة) هي المسماة بالزوبعة لأنها تعصر الشجر كما يعصر الإنسان الثوب وتقلعه من أصله. قوله: ﴿ فَٱحْتَرَقَتْ ﴾ معطوف على أصابها. قوله: (أحوج ما كان إليها) حال من فاعل فقدها، أي فقدها هو حال كونه محتاجاً إليها. قوله: (عجزة) جمع عاجز ككملة وكامل. قوله: (وهذا تمثيل لنفقة المرائي والمان) أي لأنهما خصلتان من خصال المنافقين، وهو كافر بهما إن استحل ذلك. قوله: (والاستفهام بمعنى النفي) أي فهو إنكاري يعنى لا يحب مسلم ذلك. قوله: (وعن ابن عباس) أي فهو تفسير آخر لمعنى الآية. قوله: (ما ذكر) أي من نفقة المخلص. بقوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) الآية، ونفقة المرائي والمان. بقوله: (فمثله كمثل صفوان) الآية. قوله: ﴿ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ ﴾ أي فلم يكلفكم إلا بعد البيان. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ ﴾ هذا نتيجة ما قبله، فبين أولاً الأخلاص في الأنفاق، وبين هنا الأخلاص في الشيء المنفق. قوله: (زكوا) أي أدوا الزكاة وما قاربها. قوله: (من المال) أي وهو النقد المواشي وعروض التجارة. قوله: ﴿ وَمِمَّآ ﴾ (طيبات) ﴿ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ ﴾ ظاهر الآية أن جميع ما خرج من الأرض يجب فيه الزكاة، ولكن تفصيل ذلك موكول للسنة، فأوجب الشافعي الزكاة فيما كان مقتاتاً للآدمي حالة الاختيار إذا بلغ ذلك خمسة أوسق ففيه إن سقي بآلة نصف العشر وبغيرها العشر، وأبقاها أبو حنيفة على ظاهرها فأوجب الزكاة في جميع ما يخرج من الأرض من مأكولات الآدمي كالفواكة والخضروات وأوجب في ذلك العشر قليلاً أو كثيراً، وعند مالك تجب الزكاة في عشرين نوعاً: القمح والشعير والسلث والدخن والذر والأرز والعلس، والقطاني السبع وهي: الفول والحمص والترمس والبسلة والجليان واللوبيا والعدس، وذوات الزيوت الأربع وهي: الزيتون والقرطم وحب الفجل الأحمر والسمسم والتمر والزبيب، فيخرج من ذلك نصف العشر إن سقي بآلة، والعشر كاملاً إن سقي بغيرها إن بلغ حب ذلك أو زيت ما له زيت خمسة أوسق. قوله: (أي من المذكور) أي الخبيث. فقوله: ﴿ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾ متعلق بالخبيث. قوله: ﴿ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ ﴾ هذا احتجاج على من أدى الزكاة من الرديء وامتنع من إعطائها من الطيب، وقد نزلت في الأنصار عن البراء بن عازب قال نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر أو التمر فيأكل، وكان فينا من لا يرغب في الخير، فيأتي بالقنو فيه الشيص والحشف وبالقنو قد أنكسر فيعلقه، فأنزل الله (ولا تيمموا) الآية. قوله: (بالتساهل) أشار بذلك إلى قوله: ﴿ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ﴾ كناية عن التساهل، لأن من تساهل في شيء فقد غض بصره عنه. قوله: (عن نفاقكم) أي فأمركم بها لانتفاعكم بها لا لعجزه عن نفقة الفقراء.
قوله: ﴿ ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ﴾ أي يخبركم بأسباب الفقرة ويجعله بين أعينكم. قوله: (البخل) قال بعضهم الفحشاء في القرآن جميعه معناه الزنا إلا هذه فمعناها البخل، والمعنى يغويكم ويخبركم بأمور يتسبب عنها البخل فيترتب على ذلك مطاوعتكم له كمطاوعة المأمور للآمر، وسمي إخبار الشيطان بالفقر وعد مع أنه وعيد لأنه شر مشاكلة لقوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً ﴾.
قوله: (خلفاً منه) ورد" أن الله بعث ملكين أحدهما ينادي: اللهم أعط منفقاً خلفاً والآخر ينادي اللهم أعط ممسكاً تلفاً "وفي الحديث أيضاً" إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة به، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان ثم قرأ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء "أخرجه الترمذي. قوله: (بالمنفق) يقرأ بصيغة اسم الفاعل أي بنية الشخص المنفق، وبصيغة اسم المفعول أي بالشيء المنفق. قوله: (العلم النافع الخ) هذا هو أصح الأقوال وأولاها بالصواب وفي تفسيرها أقوال كثيرة: قيل النبوة، وقيل المعرفة بإحكام القرآن، وقيل الفهم فيه، وقيل الإصابة في القول والفعل، وقيل الفقه في الدين مطلقاً، وقيل خشية الله، وقيل القرآن لما ورد" إذا أراد الله إنزال العذاب بقوم سمع تعليم صبيانهم الحكمة رفعه عنهم "ويشهد لما قاله المفسر حديث" لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الخير، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها للناس "قوله: (المؤدي إلى العمل) أي وأما شقشقة اللسان التي لم تورث القلب خشية لا تسمى حكمة بل يعذب الإنسان على ذلك ويبعث جاهلاً، قال الإمام الشافعي: إذا لم يزيد علم الفتى هدى   وسيرته عدلاً وأخلاقه حسنافبشره أن الله أولاه نقمة   ينكل بها من قبل من عبد الوثنانسأل الله السلامة. قوله: (فيه إدغام التاء في الأصل الخ) أي فإن أصله يتذكر قلبت التاء دالاً ثم أعجمت وأدغمت في الذال. قوله: (أصحاب العقول) أي الكاملة السالمة من شوائب النقص. قوله: فوفيتم به) أشار بذلك إلى أن في الآية حذف العاطف والمعطوف، لأن المجازاة لا تترتب إلا على الوفاء بالنذر لا على نفس النذر. قوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾ دليل الجواب، وقدر المفسر الجواب، بقوله: (فيجازيكم عليه). قوله: ﴿ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ من صلة، والأنصار الأعوان.
قوله: ﴿ إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ ﴾ لما تقدم فضل الصدقة كأن قائلاً يقول هل هذا الفضل مخصوص بمن أسرها وأو بمن أعلنها فأجاب بذلك وحذف من هنا شيئاً أثبت نظيره في الآخر، تقديره إن تبدو الصدقات وتعطوها الأغنياء فنعما هي. قوله: (أي النوافل) أي فالمراد بالصدقات صدقات التطوع لأنها هي التي يصح اعطاؤها للأغنياء. قوله: ﴿ فَنِعِمَّا هِيَ ﴾ بكسر النون وفتحها قراءتان سبعيتان، والعين مكسورة على كل حال، والقياس فتح النون لأنه على وزن علم، وإنما كسرت النون في القراءة الأخرى اتباعاً لكسرة العين، ونعم فعل ماض وما مميز وقيل فاعل وهي هو المخصوص بالمدح. قوله: (شيئاً) تفسير لما، وقوله: (ابداؤها) بيان لكون المخصوص على حذف مضاف قوله: (فالأفضل إظهارها) أي حيث كان مشهوراً بالمال ولم يخش على نفسه تسلط الظلمة على مال. قوله: (وايتاؤها الفقراء متعين) التعيين بالنسبة للأغنياء وإلا فالأصناف التي تدفع لهم ثمانية مذكورة في سورة براءة. قوله: (بالياء) أي مع الرفع لا غير، وقوله: (والنون) أي مع الجزم والرفع فالقراءات ثلاث، فقول المفسر مجزوماً ومرفوعاً راجع لقوله والنون لا غير. وقوله: (على محل فهو) أي مع خبره ومحله جزم لوقوعه جواب الشرط. قوله: (بعض) ﴿ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ أشار بذلك إلى أن ﴿ مِّن ﴾ للتبعيض لأن الصدقات لا تكفر جميع السيئات، بخلاف التوبة فتكفر جميعها قوله: (لا يخفى عليه شيء منه) أي من العمل سراً أو جهراً، فاسرار العمل لا يدل على الاخلاص، واجهاره لا يدل على الرياء قوله: (ولما منع) أشار بذلك إلى سبب نزول الآية. قوله: (من التصدق على المشركين) أي الكفار الفقراء يهوداً أو غيرهم. قوله: (ليسلوا) أي ليضطروا فربما يترتب على ذلك إسلامهم.
قوله: ﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ﴾ أي لم يكلفك يا محمد ربك يخلق الهدى فيهم، بل كلفك بتبليغ شرعه، ويسمى هدى أيضاً، قال تعالى:﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾[الرعد: ٧] بمعنى مبلغ ودال لهم على طريق الحق، فتحصل أن الهدى يطلق بمعنى الدلالة وهو مكلف به الأنبياء والعلماء، وبمعنى إيصال الخير للقلب، وهو لم يكلف به أحد، قال تعالى:﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾[القصص: ٥٦] ومن هنا قول العارف: من نظر للخلق بعين الحقيقة عذرهم، ومن نظر لهم بعين الشريعة مقتهم، فعذرهم بالنظر لخلق الله الضلال والهدى في قلوبهم، فالخالق للضلال والهدى والأفعال جميعها هو الله وحده، فمن نظر لذلك لم يستقبح فعل أحد لأنه فعل الله في الحقيقة قال العارف: إذا ما رأيت الله في الكل فاعلا   رأيت جميع الكائنات ملاحاوإن لم تر إلا مظاهر صنعه   حجبت فصيرت الحسان قباحاومقتهم بالنظر للتكليف الظاهري فالعبد مجبور في قالب مختار قوله: (هدايته) قدره إشارة إلى مفعول يشاء قوله: (لأن ثوابه لها) أي فلا يضيع الثواب سواء تصدق على مؤمن أو مشرك. قوله: (لا غيره من أعراض الدنيا) أي فلا تجعلوا نفقاتكم عليه إلا لوجه الله لا لشيء آخر لأن من كان مقصده وجه الله فلا يخيب أبداً كانت النفقة على مسلم أو كافر، بل ورد أن الله غفر لإنسان بسبب سقيه كلباً يلهث عطشاً. قوله: (خبر بمعنى النهي) راجع للجملة الثانية أي فهي خبرية لفظاً إنشائية معنى، والمعنى لا تجعلوا إنفاقكم إلا خالصاً لوجه الله لا لغرض آخر لا دنيوي ولا أخروي، وهذا هو المقام الأعلى، أو لا تقصدوا إلا وجه الله بمعنى ثوابه، وهذا أدنى منه، وارتكبه المفسر وإن كانت الآية محتملة لهما بالنظر لأخلاق العامة، والمعنى في هذه الجملة أن تكون خبرية لفظاً ومعنى وتكون قيداً فيما قبلها فالمعنى: ﴿ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ ﴾ إن قصدتم بها وجه الله. قوله: ﴿ مِنْ خَيْرٍ ﴾ أي قليلاً أو كثيراً. قوله: (تنقصون منه شيئاً) أي سواء كان قليلاً أو كثيراً ولو خردلة. قوله: (للأولى) وهي. قوله: ﴿ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ ﴾ قوله: (أي الصدقات) أي المتقدم ذكرها تصرف وتعطى للفقراء الذين أحصروا الخ. قوله: (في أهل الصفة) أي وهي محل في مؤخر المسجد النبوي، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالمراد كل من كان متصفاً بأوصافهم فالصدقات تعطى له. قوله: (وهم أربعمائة) أي ورئيسهم عبد الرحمن بن صخر المكنى بأبي هريرة. قوله: (من المهاجرين) أي الذين هاجروا مع رسول الله من مكة وما حولها وتركوا أموالهم وديارهم، ولم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر، وكانوا غير متزوجين، وكانوا يستغرقون أوقاتهم في الاشتغال بالقرآن والسنة والعبادة ليلاً والجهاد نهاراً، وكانوا يقفون أول صف في الصلاة الجهاد. قوله: (أرصدوا لتعلم القرآن) أي والصلاة خلف النبي وقيام الليل. قوله: (بالجهاد) أي في طاعة الله، إما بالغزو أو بتعلمهم القرآن، وغير ذلك من أنواع الطاعات. قوله: (وأثر الجهد) أي من عظيم الخدمة مع الجوع. قوله: (شيئاً) قدره إشارة إلى مفعول يسألون، قوله: (فيحلفون) قدره إشارة إلى أن إلحافاً مفعول لمحذوف. قوله: (أي لا سؤال لهم أصلاً) أي فالنفي منصب على القيد هو الالحاف والمقيد وهو أصل السؤال، فالالحاف منفي قطعاً لانتفاء أصل السؤال. قوله: ﴿ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ ﴾ هذه الجملة تأكيد للجملة المتقدمة. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾ قيل نزلت في أبي بكر حيث تصدق بأربعين ألف دينار، عشرة آلاف بالليل ومثلها بالنهار، ومثلها سراً ومثلها علانية، وقيل في علي كان مع أربعة دراهم لم يملك غيرها، فتصدق بدرهم ليلاً وبآخر نهاراً وبآخر سراً وبآخر علانية، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالمراد بيان أجر المنفق على هذا الوجه، فلا خصوصية لأبي بكر بذلك ولا لعلي. قوله: (أي يأخذونه) أشار بذلك إلى أن المراد ليس خصوص الأكل بل التناول مطلقاً. قوله: (القدر) مراده به ربا الفضل أي الزيادة وهو حرام في متحد الجنس فقط، وقوله: (والأجل) مراده به ربا النساء وهو حرام وإن تعدد الجنس، قال الأجهوري: ربا النسا في النقد حرم مثله   طعام وإن جنساهما قد تعدداوخص ربا فضل ينقد ومثله   طعام ربا إن جنس كل توحداواعلم أن الربا محرم كتاباً وسنة واجماعاً فمن استحله فقد كفر، وقد ورد في ذم آكل الربا من الأحاديث ما لايحصى، فمنها" لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده كلهم في اللعنة سواء "ومنها" أنه رأى ليلة الأسراء رجلاً يسبح في نهر من دم يلقم الحجارة فقال ما هذا يا جبريل قال هذا مثل آكل الربا ".
قوله: ﴿ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ أي وهذه علامة يعرفون بها يوم القيامة. قوله: (بسبب أنهم) ﴿ قَالُوۤاْ ﴾ الخ أي فقد ضلوا بالربا قولاً وفعلاً واعتقاداً. قوله: (وهذا عن عكس التشبيه) أي فقد جعلوا المشبة به مشبهاً، فجعلوا الربا أصلاً في الحل والبيع مقيساً عليه. قوله: (له ما سلف) أي سبق قبل النهي عنه قوله: (في العفو عنه) أي عن آكله، والمعنى فأمره في الثواب لامتثال أمر الله موكول له، يعني أن من سمع النهي من رسول الله عنه وتاب فقد فاز بما أكله قبل النهي وثوابه موكول لله، فهذه الآية محمولة على الصحابة الذين سبق منهم الربا قبل تحريمه. قوله: ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ أي لاستحلالهم ما حرم الله. قوله: ﴿ يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَٰواْ ﴾ أي المال كله. قوله: ﴿ وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَٰتِ ﴾ أي لما في الحديث" إذا تصدق العبد بصدقة فإن الله يربيها له كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون في ميزانه كأحد ". قوله: (أي يعاقبه) تفسير لعدم محبة الله له. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي بما أنزل الله ومن جملة ذلك تحريم الربا. وقوله: ﴿ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ ﴾ أي بتركهم الربا واتباعهم ما أحل الله. قوله: ﴿ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ ﴾ نص عليهما وإن كانا داخلين في قوله وعملوا الصالحات لعظم شأنهما. قوله: ﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ أي من مكروه يوم القيامة. قوله: ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ أي في يوم القيامة على ما فاتهم من الدنيا.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي امتثلوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه قوله: ﴿ وَذَرُواْ ﴾ أمر من وذر يذر وأصله أو ذروا حذفت الواو حملاً على حذفها في المضارع. قوله: (لما طالب بعض الصحابة) قيل هو عثمان بن عفان والعباس كانا أسلما رجلاً في قدر من التمر، فلما حل الأجل طالباه فقال لهما إن أعطيتكما الحق بتمامه لم يبق شيء للعيال، وإنما أعطيكما الآن نصفه والنصف الآخر أخواني به وأزيدكما مثله، فتراضياً معه على ذلك قبل التحريم ثم حل الأجل فطالباه بذلك فنزلت الآية. إن قلت: كيف يطالبانه بالربا مع علمهما بالنهي السابق قبل التحريم؟ أجيب: بأنهما تأولاً ذلك حيث ظنا أنه لا حرمة إلا على من جدد عقداً بعد التحريم. قوله: ﴿ فَأْذَنُواْ ﴾ بالقصر والمد قراءتان سبعيتان، فعلى القصر معناها أيقنوا وعلى المد معناها أعلموا غيركم بذلك، وكلام المفسر يحتملهما. قوله: ﴿ بِحَرْبٍ ﴾ أي حرب الكفار إن استحله أو البغاة إن لم يستحله. قوله: (لا يدي لنا) هكذا بالتثنية وكان مقتضى الفصيح لا يدين إلا أن يقال حذفت النون تخفيفاً، أو يلاحظ إضافته للضمير واللام مقحمة، وفي نسخة لا يد لنا بالأفراد وهي ظاهره، ومعناهما لا طاقة ولا قدرة لنا على محاربته، وهذا كناية عن كونهم امتثلوا ما أمروا به لورود هذا الوعيد العظيم فيه، ومن ذلك قول عمر وكان قد صعد المنبر: أيها الناس إن آية الربا آخر ما نزل على نبيكم ولو عاش لبين لكم وجوها كثيرة لا تعلمونها فاتقوا الربا والريبة. قوله: ﴿ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾ (بزيادة) ومن ذلك مهاداة المدين لرب الدين فهو حرام وربا إن لم تكن عادته الهدية قبل شغل الذمة. قوله: (وقع غريم) أشار بذلك إلى أن كان تامة وذو فاعلها وهو الاقرب، ويصح كونها ناقصة وذو اسمها وخبرها محذوف تقديره غريماً لكم. قوله: ﴿ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ أي حيث كان ثابتاً عسرة بالبينة أو بإقرار صاحب الدين، وأما من لم يكن عسره ثابتاً بأن كان ظاهر الملاء فإنه يحبس حتى يؤدي أو يثبت عسره أو يموت. قوله: (عليكم تأخيره) أي وجوباً وأشار بذلك إلى أن نظرة مبتدأ خبره محذوف. قوله: (في الأصل في الصاد) أي فأصله تتصدقوا قلبت الثانية صاداً ثم أدغمت في الصاد. قوله: (على حذفها) أي التاء، قال ابن مالك: وما بتاءين ابتدى قد يقتصر   فيه على تا كتبين العبرقوله: (بالإبراء) أي وهو مندوب وهو أفضل من الواجب هو الأنظار لأنه انظار وزيادة، وله نظائره نظمها المفسر بقوله: الفرض أفضل ما أتى متعبد   حتى ولو قد جاء منه بأكثرإلا التطهر قبل وقت وابتدا   بالسلام كذاك أبرأ المعسر
قوله: ﴿ وَٱتَّقُواْ يَوْماً ﴾ هذه الآية آخر القرآن نزولاً كما قال ابن عباس، وأمر جبريل رسول الله بوضعها على رأس مائتين وثمانين آية، وتقدم لنا ان البقرة مائتان وست وثمانون آية، فيكون الباقي بعد خمس آيات أولها آية الدين، وثانيها وإن كنتم على سفر إلى قوله عليم، ثالثها لله ما في السماوات وما في الأرض إلى قدير، رابعها آمن الرسول إلى المصير، خامسها لا يكلف الله نفساً إلا وسعها إلى آخرها، ونزلت قبل وفاة الرسول بثلاث ساعات، وقيل بسبعة أيام، وقيل بأحد وعشرين، وقيل بأحد وثمانين، قوله: (جزاء) ﴿ مَّا كَسَبَتْ ﴾ أشار بذلك إلى الكلام على حذف مضاف.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ ﴾ هذه الآية من هنا إلى عليم أطول آي القرآن، وقد اشتلمت على بيان إرشاد العباد لمصالح دنياهم، وذلك لأن الدنيا مزرعة الآخرة والدين المعاملة، فحينئذ لا يتم إصلاح الآخرة إلا باصلاح الدنيا، فبين هنا ما به إصلاح الدنيا. قوله: (تعاملتم) فسر المداينة بالمعاملة التي هي مفاعلة من الجانبين، أي سواء كنت آخذاً أو مأخوذاً منك. قوله: ﴿ بِدَيْنٍ ﴾ حكمة التصريح به وإن علم من تداينتم ليعود الضمير في قوله فاكتبوه عليه صراحة، وأيضاً لدفع توهم أن المراد بالمداينة المجازاة كقوله كما يدين الفتى يدان أي كما يجازي يجازى، وأيضاً صرح به إشارة إلى عموم الدين قليلاً أو كثيراً جليلاً أو حقيراً، فالمعنى لا تستخفون به. قوله: (كسلم) أي مسلم فيه كما إذا دفع عشرة دراهم مثلاً ليأتي له بقنطار من سمن عند أجل معلوم بينهما. وقوله: (وقرض) المراد به السلف. قوله: ﴿ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ أي وأما الحلال فلا يحتاج لكتابة، لأنه ليس من المهمات ولمزيد المشقة قوله: (معلوم) أي فالجهل فيه مفسد للعقد إن كان مسلماً، وأما السلف فيجوز فيه التأجيل والحلول فإن وقع على الحلول فلا بد عند مالك من مضي زمن يمكن انتفاعه به عادة، وإن وقع على التأجيل فيلزم المقرض الصبر إلى الأجل عند مالك، وعند الشافعي لا يلزمه الصبر إليه بل له أن يطلبه قبله. قوله: (أستيشاقاً) أشار بذلك إلى أن الأمر في الآية للإرشاد لا للوجوب، كالأمر بالصلاة والصوم بحيث يعاقب على تركه. قوله: (كتاب الدين) أشار بذلك إلى أن مفعول يكتب محذوف. قوله: ﴿ بِٱلْعَدْلِ ﴾ أي ولا يكون إلا فقيهاً عدلاً، ويشترط أن يكتب كلاماً معروفاً لا موهماً. قوله: ﴿ وَلاَ يَأْبَ ﴾ لا ناهية والفعل مجزوم بحذف الألف والفتحة دليل عليها وكاتب فاعل يأب، وقوله: (من) ﴿ أَنْ يَكْتُبَ ﴾ قدر من إشارة إلى أن الجار والمجرور محذوف وهو مطرود من أن وإن عند أمن اللبس فهو في محل نصب مفعول ليأب. قوله: (والكاف متعلقة بيأب) أي تعليلية وما مصدرية وعبارة غيره والكاف متعلقة بلا يأب وهي الأوضح، لأن من لم يعرف الوضع ولا الأحكام لا يتعلق به النهي، والمعنى لا يمتنع كاتب من الكتابة من أجل تعليم الله له تلك الكتابة. قوله: (تأكيد) أي زيادة في الإيضاح. قوله: (الكاتب) مفعول أول ليملل ومفعوله الثاني قوله الدين، قوله: (يمل) أشار بذلك إلى أن الأملاء والأملال لغتان يقال أمليته وأمللته بمعنى ألقيت عليه ذلك شيئاً فشيئاً، ومن ذلك سميت الملة ملة لاملائها وإلقائها على رسول الله شيئاً فشيئاً والقراءة بالفك هنا، ويصح في غير القرآن الادغام لقول ابن مالك: وفي جرم وشبه الجزم تخيير قفي. قوله: (لأنه المشهود عليه) أي فلا يكتب الكاتب إلا بحضرتهما لقطع النزاع بينهما. قوله: ﴿ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ ﴾ أي فلا يكتب كلاماً موهماً للزيادة أو النقص، قوله: ﴿ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ﴾ تفسير للتقوى وذلك كأن يكتب ألفاً ولم يبين كونه فضة أو محبوباً أو ريالاً أو غير ذلك أو عشرين محبوباً مثلاً، ولم يبين كونها معاملة أو ذهباً أو غير ذلك. قوله: ﴿ فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ ﴾ أي أو الذي له الحق، قوله: (مبذراً) أي في أمور دنياه عند مالك أو في أمور دنياه ودينه عند الشافعي، قوله: (أو كبر) أي مفرط بحيث لا يدري شيئاً أو كان من عليه الحق أنثى يخشى منها الفتنة فتولك محرمها. قوله: (ومترجم) أي إن كان لا يعرف اللغة العربية مثلاً، قوله: ﴿ بِٱلْعَدْلِ ﴾ متعلق بقوله فليملل، قوله: (أشهدوا على الدين) أشار بذلك إلى السين والتاء لتأكيد الطلب. قوله: ﴿ مِّن رِّجَالِكُمْ ﴾ متعلق بمحذوف صفة لشهيدين. قوله: (أي بالغي المسلمين الأحرار) أي العقلاء العدول، فشهادة الصبيان لا تقبل في الأموال ولا فيما آل إليها، وعند مالك تجوز شهادة الصبيان على بعضهم في الجراح، وكذا لا تقبل شهادة العبيد ولا الكفار ولا المجانين ولا غير العدول، ولكن إذا لم يوجد العدول فليستكثر من الشهود، قوله: ﴿ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ ﴾ أي في الأموال وما آل إليها، فإذا لم يوجد الرجل كفى اليمين معهما كما يكفي اليمين معه وحده، وهذا مذهب مالك والشافعي وأما أبو حنيفة فلا يكتفي باليمين مع باليمين مع الشاهد. قوله: ﴿ مِمَّن تَرْضَوْنَ ﴾ متعلق باستشهدوا فيؤخذ منه شرط العدالة في الجميع، وقد صرح بالعدالة في مواضع، أخر، قوله (وعدالته) العدل هو من لم يفعل كبيرة ولا صغيرة خسة كتطفيف حبة، ولا ما يخل بالمروءة كالأكل في الأسواق. قوله: (وتعدد النساء الخ) أشار بذلك إلى قوله إن قوله أن تضل متعلق بمحذوف جواب عن سؤال مقدر تقديره لم اشترط تعدد النساء مع أنهن شقائق الرجال، أجيب بأنه لتذكر إحداهما الأخرى، وإنما احتج للتذكار لأن شأنهن النسيان لنقص عقلهن وعدم ضبطهن. قوله: (فتذكر) معطوف على تضل عطف مسبب على سبب أو معلول على علة، لأن التذكار علة للتعداد، والاضلال علة للتذكار فهو علة للعلة، قوله: (ورفع تذكر) أي بالتشديد لا غير، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية فعلى هذه القراءة تضل فعل الشرط وهو مجزوم بسكون مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة الادغام، قوله: (استئناف) أي خبر لمبتدأ محذوف، والجملة في محل جزم جواب الشرط، أي فهي تذكر. قوله: (لا يأب الشهداء) أي لا يجوز للشهود الامتناع من أداء الشهادة أو تحملها، لأنه فرض كفاية إن وجد من يثبت به الحق غيرهم وإن لم يوجد غيرهم كان التحمل أو الأداء فرض عين، ومن تأخر عن ذلك كان عاصياً. قوله: (من) ﴿ أَن تَكْتُبُوهُ ﴾ أشار بذلك إلى أن قوله أن تكتبوه في تأويل مصدر مجرور بمن مقدرة معمول لتسأموا، والمعنى: لا تسأموا من كتابته وظاهره لزوم تقديره من، وليس كذلك لأن سئم يتعدى بنفسه وبحرف الجر فعلى عدم التقدير أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول لتسأموا. قوله: (لكثرة وقوع ذلك) علة للنهي أي لا يسأم من الكتابة من يكثر منه الحقوق فبالأولى من لم تكثر منه، وظاهر قوله أي ما شهدتم عليه أن الضمير في تكتبوه عائد على الشهود وهو معنى صحيح فبين أولاً كتابة المتداينين، وثانياً كتابة الشاهدين لشهادتهما لتكون تلك الكتابة مذكرة لهما، ويصح أن يكون خطاباً للمتداينين ويؤول قول المفسر ما شهدتم بأشهدتم، قوله: ﴿ صَغِيراً ﴾ (كانْ) قدر كان إشارة إلى أن صغيراً أو كبيراً خبران لكان المحذوف، قال ابن مالك: ويحذفونها ويبقون الخبر   وبعد إن ولو كثيراً ذا اشتهروليس بمتعين بل يصح جعلهما حالين من الهاء في تكتبوه، قوله: (أي الكتب) أي المفهوم من أن تكتبوه على حد (اعدلوا هو أقرب للتقوى). قوله: ﴿ وَأَقْومُ لِلشَّهَٰدَةِ ﴾ هذا يؤيد ما ذكره المفسر أولاً من أن الضمير في تكتبوه عائد على الشهود. قوله: (أي تشكوا في قدر الحق والأجل) أي فيلزم على ذلك إما ضرر المدين أو من له الدين. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً ﴾ إما بالرفع على أن تكون تامة، أو بالنصب على أنها ناقصة واسمها ضمير تكون قراءتان سبعيتان وحاضرة وتديرونها صفتان لتجارة، وهو وصف بالجملة بعد الوصف بالمفرد، عكس قوله تعالى:﴿ وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ ﴾[الأنعام: ٩٢] والاستثناء يحتمل أن يكون متصلاً من عموم الأحوال ويحتمل أن يكون منقطعاً وهو الأقرب، لأن ما بيع مناجزة ليس داخلاً تحت قوله إلى أجل مسمى، الآية قوله: (تقبضونها) راجع لقوله تديرونها وقوله ولأجل فيها راجع لقوله حاضرة، فهو لف ونشر مشوش، قوله: (أمر ندب) أي إرشاد لمصالح الدنيا لقطع النزاع، وهذا تقييد للاستثناء أي إن الاشهاد المذكور يكون في العقارات والأمور التي تبقى، وأما الاستثناء فمحله الأمور التي لا تبقى، قوله: (صاحب الحق) قدره إشارة إلى أن يضار اسم فاعل، وكاتب فاعل، وأصله يضارر، فلا ناهية ويضار مجزوم بسكون مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة الأدغام، قوله: (بتحريف) أي من الكتابة بأن يزيد أو ينقص فيضر البائع أو المشتري، وقوله: (أو امتناع من الشهادة) أي يتركها حتى يأخذ عليها جعلاً مثلاً وذلك إضرار من الكاتب، والشهيد لصاحب الحق، قوله: (أو لا يضرهما صاحب الحق) أي فيضار مبني للمفعول، وكاتب وشهيد نائب الفاعل فأصله يضارر، قوله: (ما لا يليق في الكتابة) أي بأن يأمره بكتابه ما لم يطلع عليه أو يمتنع من إعطاء أجرته له، وقوله: (والشهادة) أي بأن يستشهد على ما لم يرد ويأخذه على مسافة القصر قهراً من غير دفع شيء له يتمون به. قوله: (مانهيتم عنه) أي من مضاره الكاتب والشاهد. قوله: ﴿ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ ﴾ أي يترتب عليه الفسوق آخراً لأن من لم يدر العواقب فليس له في الدنيا صاحب، قوله: (لاحق) ﴿ بِكُمْ ﴾ قدره إشارة إلى أن بكم متعلق بمحذوف، قوله: (أو مستأنفة) الأولى الاقتصار عليه لأن جعله حالاً خلاف القاعدة النحوية، فإن القاعدة أن الجملة المضارعية المثبتة إذا وقعت حالاً فإن الضمير يلزمها وتخلو من الواو، ولا يصح أيضاً عطفها على جملة واتقوا الله لأنه يلزم عليه عطف الخبر على الانشاء وفيه خلاف، وقوله: ﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي العلم النافع لأن العلم نور لا يهدي لغير المتقي، قال الإمام الشافعي: شكوت إلى وكيع سوء حظي   فأرشدني إلى ترك المعاصيوأعلمني بأن العلم نور   ونور الله لا يهدي لعاصيوقال الإمام مالك: من عمل بما علم ورثة الله علم ما لم يكن يعلم، فالتقوى سبب لإعطاء العلم النافع. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ أي فيجازي كلاً من الفاسق والمتقي على ما صدر منه.
قوله: ﴿ وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ ﴾ فيه استعارة تبعية حيث شبه الظرفية المطلقة بالاستعلاء المطلق، فسرى التشبيه من الكليات للجزيئات فاستعيرت على الموضوعة للاستعلاء الخاص لمعنى في الموضوعة للظرفية الخاصة عكس ولأصلبنكم في جذوع النخل، والجامع بينهما التمكن في كل، فكما أن المسافر متمكن من السفر، كذلك الراكب متمكن من الركوب ومستعل على المركوب، وقد أشار للاستعارة المفسر بقوله: (أي مسافرين). قوله: ﴿ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً ﴾ يصح عطفه على فعل الشرط فهو في حل جزم، أو على خبر كان فهو في محل نصب، أو حالاً فهو في محل نصب أيضاً، ولم يقل ولا شهوداً لأن الشأن وجودهم إذ ذاك بخلاف الكاتب. قوله: ﴿ فَرِهَٰنٌ ﴾ مبتدأ وقوله مقبوضة صفته وخبره محذوف قدره المفسر بقوله تستوثقون بها والجملة جواب الشرط في محل جزم. قوله: (جمع رهن) أي كل من رهن ورهان جمع لرهن. قوله: (وبينت السنة الخ) جواب عن سؤال مقدر، وهو أن مفهوم الآية أن الرهن في الحصر لا يسوغ أخذه أجاب بأن السنة بينت الجواز في الحضر. قوله: (لأن التوثيق فيه أشد) أي لأن الغالب في السفر عدم وجود الكاتب ونسيان الدين والتعرض للموت. قوله: (اشترط القبض في الرهن) أي وهل يشترط من الراهن الاقباض بأن يسلمه الرهن بيده خلاف عند مالك والشافعي والمعتمد عدم اشتراطه ولا بد أن يكون القبض بعلم الراهن أو وكيله ورضاه، فلو سرقه المرتهن مثلاً ومات الراهن أو فلس فلا يختص المرتهن به بل هو أسوة الغرماء. قوله: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً ﴾ أي رضي بعضكم وهو صاحب الدين بأمانة بعض وهو المدين. قوله: (فلم يرتهنه) تفريع على قوله فإن أمن الخ. قوله: ﴿ فَلْيُؤَدِّ ﴾ الخ جواب الشرط وقرن بالفاء لأن الجملة طلبية، وقد أكد ذلك بأمور: منها الأمر، ومنها تسميته أمانة، ومنها الأمر بتقوى الله في الأداء، ومنها التصريح بقوله: الله ربه. قوله: (دينه) إنما سماه أمانة لأنه صار لا يعلم إلا منه. قوله: ﴿ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ ﴾ أي ليخش عقاب ربه في الأداء ولا يماطله به. قوله: ﴿ وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ ﴾ أي الإقرار بالدين وسمي شهادة لأنه لا يعلم إلا من المدين فكأنه شاهد بالدين، فحيث كتمه فقد كتم الشهادة بالدين. قوله: ﴿ فَإِنَّهُ آثِمٌ ﴾ جواب الشرط وقلبه فاعل بآثم. قوله: (ولأنه إذا تبعه غيره) أي في الأثم لأنه سلطان الأعضاء إذا صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله، قوله: ﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ أي فيجازي الخلق على أعمالهم خيراً أو شراً.
قوله: ﴿ للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي ملكاً وخلقاً وعبيداً وهذا كالدليل لما قبله، وعبر بما تغليباً لغير العاقل لكثرته. قوله: (تظهروا) ﴿ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ ﴾ أي فتفعلوا بمقتضاه. قوله: (والعزم عليه) عطف تفسير وهذا هو محل المؤاخذة، وهو إشارة لجواب عن الآية حيث عمم في المؤاخذة مع أن لا يؤاخذ إلا بالفعل أو العزم عليه، ولكن ينافيه ما يأتي من أن عموم الآية منسوخ بآية (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) إلا أن يقال إنه إشارة لجواب آخر، فما يأتي على هذا بيان للمراد هنا، والحاصل أنه إن أبقيت الآية على عمومها كانت منسوخة بما بعدها وإن حملت على العزم فلا نسخ، وما يأتي توضيح لما أجمل هنا، وقد تقدمت مراتب القصد نظماً ونثراً. قوله: (يخبركم) أي يعلمكم به. قوله: (والفعلان بالجزم عطفاً على جواب الشرط) أي الذي هو يحاسب، وقوله: (والرفع أي) على الاستئناف خبر لمحذوف قراءتان سبعيتان، وصح في غير القرآن النصب على إضمار إن قال ابن مالك: والفعل من بعد الجزاإن يقترن   بالفا أو الواو بتثليث قمنوهذه الآية محمولة على من مات مسلماً عاصياً لا من مات كافراً. قوله: (ومنه محاسبتكم) ورد أنه يحاسب الخلق في نصف يوم من أيام الدنيا.
قوله: ﴿ ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ ﴾ روى مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من قرأ هاتين الآيتين آخر سورة البقرة كفتاه ". قيل عن قيام الليل كما روي عن ابن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" أنزل الله علي آيتين من كنوز الجنة ختم بهما سورة البقرة من قرأهما بعد العشاء مرتين أجزأتاه عن قيام الليل آمن الرسول إلى آخر السورة ". وقيل كفتاه من شر الشيطان فلا يكون عليه سلطان، وإنما ختم السورة بهاتين الآيتين لأنها بينت فرض الصلاة والزكاة والصوم والحج والطلاق والإيلاء والحيض والجهاد وقصص الأنبياء فناسب أن يذكر تصديق النبي والمؤمنين بجميع ذلك. قوله: ﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ أي فاشترك الرسول والمؤمنون في أصل الإيمان، لكن افترقا من جهة أخرى، وهو أن إيمان الرسول من قبيل حق اليقين، وإيمان المؤمنين من قبيل علم اليقين أو عين اليقين فالافتراق من حيث المراتب لا من حيث أصله. قوله: (عطف عليه) أي فهو مرفوع بالفاعلية والوقف عليه، ويدل على صحة هذا قراءة علي بن أبي طالب وآمن المؤمنون فأظهر الفعل ويكون قوله: ﴿ كُلٌّ آمَنَ ﴾ جملة مبتدأ وخبر تدل على أن جميع من تقدم ذكره آمن بما ذكر. قوله: (عوض عن المضاف إليه) أي فيكون الضمير الذي ناب عنه التنوين في كل راجعاً إلى الرسول والمؤمنين أي كلهم، وتوحيد الضمير في آمن مع رجوعه إلى كل المؤمنين، ليكون المراد بيان كل فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع. قوله: ﴿ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ ﴾ كل مبتدأ أخبر عنه بخبرين راعى في اولهما لفظ كل فأفرد، وفي ثانيهما معناها فجمع حيث قال: (وقالوا سمعنا) الخ. قوله: (بالجمع والأفراد) أي في الكتب قراءتان سبعيتان. قوله: (يقول الخ) قدر الفعل ليفيد أن هذه الجملة منصوبة بقول محذوف، وهذا القول المضمر في محل نصب على الحال أي قائلين. قوله: ﴿ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾ أي في الإيمان به وأضيف بين إلى أحد وهو مفرد، وإن كانت قاعدتهم أنه إنما يضاف إلى متعدد نحو بين زيد وعمر، ولأن أحد يستوي فيه الواحد والمتعدد. وقلة: (فنؤمن ببعض الخ) بالنصب في حين النفي فالنفي مسلط عليه، وسيأتي وصفهم في قوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾[النساء: ١٥٠] الآية. قوله: (سماع قبول) فيه تعريض بالرد على من قال سمعنا وعصينا، قوله: ﴿ وَأَطَعْنَا ﴾ أي انقذنا للطاعة ولو بالعزم عليها. قوله: ﴿ غُفْرَانَكَ ﴾ مفعول المحذوف قدره بقوله نسألك، ومعنى الغفران ستر الذنوب كبيرها وصغيرها جليها وخفيها، فالإنسان يطلب المغفرة ولو في حالة الطاعة بسبب ما يطرأ عليها من العجب وحب المحمدة وغير ذلك من الآفات التي تذهبها، فالعارف لا يعتمد على أعماله أبداً، وعلامة ذلك كونه يجدد التوبة والاستغفار ولو كان متلبساً بأكبر الطاعات. قوله: ﴿ رَبَّنَا ﴾ منادى وحرف النداء محذوف أي يا ربنا. قوله: ﴿ وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ ﴾ قيل معطوف على محذوف تقديره لك المبدأ وإليك المصير. قوله: (ولما نزلت الآية قبلها) أي قوله وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله. قوله: (من الوسوسة) أي التي تطرأ على القلب كالهاجس وهو ما لاح وذهب بسرعة، والخاطر وهو ما لاح ومكث برهة من الزمن، وحدث النفس وهو تزيينها الأمور وتحسينها، وهذه لا تكتب خيراً كانت أو شراً، والهم وهو ترجيح الفعل وهو يكتب إن كان خيراً لا شراً، وأما العزم فيكتب خيره وشره.
قوله: (فنزل) ﴿ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ ﴾ أي فهذه الآية إما ناسخة للأولى أو مبينة لها، وتقدمت الإشارة بذلك. قوله: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ عبر في جانب الخير باللام، وفي جانب الشر بعلى، لأن اللام للمسرة وعلى للمضرة، وعبر في جانب الطاعة بكسبت، وفي جانب المعصية باكتسبت، لأن شأن المعصية التعالي والشهوة بخلاف الطاعة فشأنها عدم الشهوة لما في الحديث" حفت الجنة بالكارة وحفت النار بالشهوات "وأيضاً لا يؤخذ في المعصية بالهم بل بالعزم أو الفعل بخلاف الطاعة فيكتب له ثواب الهم عليها، وأيضاً يؤجر المرء رغماً عن انفه بخلاف المعصية، وأيضاً الطاعة تتعدى لغير فاعلها بخلاف المعصية. قوله: (ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد) هذا في جانب المعصية، وأما في جانب الطاعة فقد تنفع في غير فاعلها. قوله: (ولا بما لم يكسبه) المناسب يكتسبه. قوله: (مما وسوست به نفسه) أي من هاجس وخاطر وحديث نفس وهم. قوله: ﴿ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ أي أو استكرهنا عليه، وقد علم ذلك من قوله لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. ومن هنا إلى آخر السور سبع دعوات مستجابة. قوله: (تركنا الصواب لا عن عمد) تفسير لكل من الخطأ والنسيان. قوله (كما ورد في الحديث) أي" رفع عن أمتي الخطا والنسيان وما استكرهوا عليه "قوله: (فسؤاله اعتراف بنعمة الله) جواب عما يقال حيث رفعه الله فما وجه سؤالنا لرفعه فأجاب بما ذكر. قوله: (من قتل النفس في التوبة) أي حين عبدوا العجل فتوبتهم قتل طائعهم العاصي منهم، وأما توبتنا فالندم. قوله: (وإخراج ربع المال في الزكاة) أي وأما نحن فربع العشر في النقدين والعشر أو نصفه في الحبوب، قوله: (وقرض موضع النجاسة) أي من الثواب أو البدن. قوله: (من التكاليف) أي فلم يكفنا بالحج من غير استطاعة مثلاً، ولا بالصلاة من قيام مع كونه مريضاً لا يقدر عليه، ولا باستعمال الماء مع عدم القدرة عليه. قوله: (والبلاء) أي مكان ينزل بمن قبلنا الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والصيحة والخسف والمسخ، وغير ذلك من أنواع البلايا العامة التي لا تبقي ولا تذر. قوله: (امح ذنوبنا) أي من الصحف. قوله: ﴿ وَٱغْفِرْ لَنَا ﴾ أي استرها عن أعين المخلوقات. قوله: ﴿ وَٱرْحَمْنَآ ﴾ أي أنعم علينا وذلك في حق من تاب جزماً، وأما من لم يتب ومات فأمره مفوض لخالقه. قوله: (سيدنا ومتولي أمورنا) هذا أحد معاني المولى ويطلق على الناصر، ولا شك أن الله كذلك. قوله: (أن ينصر مواليه) أي عبيده فإن المولى كما يطلق على العبد يطلق على السيد. قوله: (عقيب) لغة رديئة في عقب. وقوله: (كل كلمة) أي هي سبع وكلها مستجابة، وكرر لفظ ربنا بين المتعاطفات زيادة في التضرع. قوله: (قد فعلت) أي أجبت مطلوبكم لما في الحديث:" إن الله لأفرح بتوبة عبده ممن ظلت منه راحلته فوجدها بعد طلبها "وفي رواية" لما قرأ النبي قوله: (غفرانك ربنا) قال الله قد غفرت، وفي قوله: (ولا تؤخذنا إن نسينا أو أخطأنا) قال لا أؤخاذكم، وفي قوله: (ولا تحمل علينا إصرا) قال لا أحمل عليكم، وفي قوله: (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) قال لا أحملكم، وفي قوله: (واعف عنا واغفرن لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين)، قال قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين "والحكمة في زيادة قوله القوم ولم يقل الكافرين، إنه لا يلزم من النصرة على أفراد الكفار النصرة على الهيئة المجتمعة وفي هذه الآية تعليم آداب الدعاء، وفي الحديث:" إذا دعوتم فعمموا ".
Icon