تفسير سورة البقرة

التيسير في أحاديث التفسير
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب التيسير في أحاديث التفسير .
لمؤلفه المكي الناصري . المتوفي سنة 1415 هـ
سورة البقرة مدنية
وأما ( سورة البقرة ) فقد أطلق عليها هذا اللقب، أخذا من المعجزة التي أيد الله بها نبيه موسى الكليم عندما قتل إسرائيلي أحد أقربائه رغبة في إرث ماله، ولم يعرف من هو القاتل، بالرغم من جميع الوسائل، فأوحى الله إلى موسى أن يأمر بني إسرائيل بذبح بقرة وضرب القتيل بعضو منها، فتعود إليه الحياة بأمر الله، ويكشف بهذه الطريقة عن هوية القاتل، ويكون ذلك معجزة لموسى الكليم تضاف إلى معجزة العصا التي اشتهرت باسم ( عصا موسى )، وإلى هذه القصة تشير الآيات الواردة في هذه السورة حيث تقول :﴿ وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ إنَّ الله يَأمُرُكُمُ أَن تَذبَحُوا بَقَرَةً، قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُؤا، قَالَ أَعُوذُ بالله أَن أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ﴾-إلى قوله تعالى :﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفعَلُونَ، وَإِذ قَتَلتُم نَفساً فادَّارَأتُم فِيهَا، واللهُ مُخرِجٌ مَّا كُنتُم تكتُمُون، فَقُلنَا اضرِبُوهُ بِبَعضِهَا، كذَلِكَ يُحيِي اللهُ المَوتَى وَيُرِيَكُمُ آياتِهِ لَعَلَّكُم تَعقِلُون ﴾.
وسورة البقرة هذه واحدة من تسع عشرة سورة كلها نزلت على رسول الله بالمدينة، علاوة على ٩٥ سورة أخرى سبق نزولها عليه بمكة قبل الهجرة.
وتعتبر سورة البقرة أطول سورة من سور القرآن، وأول سورة نزلت بالمدينة بعد هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام إليها.
ونظرا لتنوع ما احتوت عليه السورة من حكم وأحكام، وكونها تحتوي على أكبر جزء من الدستور التشريعي للإسلام، فقد قضى عمر بن الخطاب اثني عشرة سنة في تعلمها والتفقه فيها، ولما ختمها نحر جزورا احتفالا بختمه لها، بينما ابنه عبد الله بن عمر صرف في تعلمها مدة ثمان سنين كما في موطأ الإمام مالك.
ونقل القاضي أبو بكر المشهور ( بابن العربي ) المعافري عن بعض أشياخه أنه قال : " في سورة البقرة ألف أمر، وألف نهي، وألف حكم، وألف خبر "
وفي فضل هذه السورة روى الإمام مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اقرؤا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة ".
ورغما عن تعدد الموضوعات التي تشتمل عليها هذه السورة الكريمة، فإن هناك محورا يضمها، ويربط بينها جميعا، ذلك هو الحديث عن الجماعة الإسلامية الناشئة التي أخذت تنمو وتقوى بالمدينة، وعن الجماعات الأخرى المناهضة للإسلام التي واجهت المسلمين بالسوء، وعلى رأسها الجالية الإسرائيلية التي كانت قد هاجرت إلى تلك البقاع منذ أمد بعيد، فهذه السورة تشرح كيف استقبل بنو إسرائيل الدعوة الإسلامية، وكيف كان موقفهم من الرسول وأتباعه المهاجرين والأنصار، ويمتد الحديث في نفس الموضوع حتى يشمل الأطوار التي مر بها بنو إسرائيل عبر التاريخ، من سعادة إلى شقاء، ومن قوة إلى ضعف، ومن نصر إلى هزيمة، ومن اختيار لحمل الأمانة، إلى تجريد منها ودمغ بالخيانة، ﴿ وَضُرِبَت عَلَيهِمُ الذَِلَّةُ وَالمَسكَنَةُ وَبَاءوا بغَضَبٍ مِنَ اللهِ، ذَلِكَ بأنَّهُم كانُوا يَكفُرُونَ بآياتِ اللهِ ويَقتُلُون النبيئين يغير الحَقِّ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعتَدُونَ ﴾
كما يتناول الحديث فيها توضيح المنهج الذي اختاره لسلوك المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم، وتحديد النظام الإسلامي الذي شرعه لتنظيم حياتهم الخاصة، وحياتهم العامة فيما بينهم بعضهم مع بعض، وفيما بينهم وبين الملل الأخرى، وتتحدث سورة البقرة عن الأمانة الكبرى التي ادخرها الله للمسلمين، واختارهم لحملها إلى كافة الأمم، بعدما نكل عنها أولئك الذين نقضوا عهد الله وميثاقه من أهل الكتاب، وتحذر السورة المسلمين من عثرات بني إسرائيل وانتكاساتهم المتوالية، وتبصرهم بما نالهم من سوء العاقبة، جزاءا وفاقا لعنادهم وتمردهم على الله ورسله ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطاً، لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهيداً ﴾
وهكذا جعل القرآن الكريم من بني إسرائيل مضرب المثل للمسلمين في حالتي السعادة والشقاء، والهدى والضلال، والرضى والغضب، حتى يعتبروا بما وقع لهم، ويحذروا من أن يسلكوا سبيلهم.

والآن نلقي نظرة سريعة بالخصوص على الآيات الأولى من سورة البقرة :
لقد وصف القرآن الكريم في هذه الآيات ثلاث طوائف عايش بعضها بعضا في بدء الهجرة المحمدية إلى المدينة، وهذه الأصناف من البشر وجدت في كل جيل مضى وتوجد في كل جيل لاحق، فوصف القرآن الكريم لها وصف كاشف لها في جميع الأجيال والعصور.
تلك الطوائف الثلاث هي طائفة ( المؤمنين ) الذين أكرمهم الله بالايمان، فساروا على هدى الأنبياء والرسل، وطبقوا التعاليم الإلهية على حياتهم الخاصة وحياتهم العامة.
ثم طائفة ( الكافرين ) الذين تمردوا على طاعة الله وتنكروا لهدايته، وأشهروا الحرب، بالقول والفعل، على دعوته.
وأخيرا طائفة ( المنافقين ) الذين هم أخطر على المؤمنين من الكافرين، والذين يلعبون أدوارا شيطانية ملتوية تخفى على الكثير من الناس، ولشدة خطر هذه الطائفة جعل الله عقابها أشد عقاب. فقال تعالى :﴿ إِنَّ المُنَافِقِينَ في الدّرَكِ الأسفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُم نَصِيراً ﴾.
فهذه الطوائف الثلاث التي عايشت كل الرسالات وعاصرت جميع الدعوات، ألقى عليها التنزيل الحكيم من أضوائه القوية ما كشف عنها القناع، فوضح سمات المؤمنين التي لا لبس فيها ولا غموض في أربع آيات :﴿ فِيهِ هُدًى لِلمُتَّقِينَ( ٢ ) الَّذِينَ يُومِنُونَ بالغَيبِ ويُقِيمُونَ الصّلاةَ وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ( ٣ ) والَّذينَ يُومِنُونَ بِمَا اُنزِلَ إِلَيكَ ومَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ وبالآخِرَة هُمْ يُوقِنُون( ٤ )أُولَئكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِم وَأولئِكَ هُمُ المُفلِحُون( ٥ ) ﴾.
ووضح سمات الكافرين المعلنين بالكفر في آيتين ﴿ إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيهِم ءَأَنذَرتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُومِنُون( ٦ ) خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهِم وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُم عَذَابٌ عَظِيم( ٧ ) ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ومن معجزات القرآن الكريم أن الأوصاف التي وصف بها هذه الطوائف الثلاث ( المؤمنين، والكافرين، والمنافقين ) كانت ولا تزال هي السمات البارزة والثابتة في كل طائفة منهم، تحقيقا لمدلول هذه الآيات البينات، التي أوحى بها خالق النفوس العليم الخبير بخلجات القلوب.
ثم تطرق كتاب الله لوصف الطائفة الثالثة طائفة المنافقين، فأطال الحديث عنها، وخصص للكشف عن نفاقها ثلاث عشرة آية كاملة، ابتداء من قوله تعالى ﴿ ومِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمََّنَا بالله وَبِاليَومِ الآخِر وَمَا هُم بِمُؤمِنِينَّ( ٨ ) يُخَادِعُونَ اللهَ والذِينَ آمَنُوا وَمَا يُخَادعُونَ إلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ( ٩ ) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاًّ وَلَهُم عَذَابٌ ألِيمٌ بِمَا كانُوا يُكَذِّبُونَ( ١٠ ) ﴾، إلى قوله تعالى :﴿ وَلَو شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمعِهِم وَأَبْصَارِهِمُ إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَئٍ قَدِيرٌ( ٢٠ ) ﴾.
وإنما طال الحديث عن طائفة المنافقين بما لم يطل به عن الطائفتين الأخريين، لأن طائفة المنافقين ذات ألوان مختلفة، وأقنعة متعددة، والكشف عن جوهرها المعقد، وعن شخصيتها المزدوجة، وعن تناقض مظهرها مع مخبرها، يحتاج إلى مزيد من الأضواء، وتنويع في الصور، وتكثير من الأمثال، وذلك حتى يكون المؤمنون على كامل البينة ومنتهى الحذر من دسائس المنافقين ومؤامراتهم وأخطارهم، ويعرفوهم بسيماهم معرفة كاشفة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ومن معجزات القرآن الكريم أن الأوصاف التي وصف بها هذه الطوائف الثلاث ( المؤمنين، والكافرين، والمنافقين ) كانت ولا تزال هي السمات البارزة والثابتة في كل طائفة منهم، تحقيقا لمدلول هذه الآيات البينات، التي أوحى بها خالق النفوس العليم الخبير بخلجات القلوب.
الربع الثاني من الحزب الأول في المصحف الكريم
الإشارة في مطلع هذه الآيات إلى الأمثال التي يضربها الله للناس في كتابه الحكيم، مثل قوله تعالى في وصف المنافقين في الربع الأول لهذا الحزب :﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾. وذلك زيادة في كشف المعنى، وتوضيح المراد، وإقامة الحجة ﴿ وَتِلكَ الأَمثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
وقد كانت الأمثال ولا تزال في جميع اللغات وعند جميع الأمم لها من التأثير في الإقناع ما جعل استعمالها شائعا ذائعا، ولاسيما عند العرب، فنزل القرآن بلسان عربي مبين، وجرى على مألوف استعمالهم في ضرب الأمثال، غير أن الأمثال القرآنية تختلف عن الأمثال الأخرى التي عرفها العرب والعجم، بروعتها وإعجازها، وكونها على غير نمط سابق، ومن هنا كان وقعها مختلفا باختلاف من يسمعها، فالمؤمن الذي خالطت قلبه بشاشة الإيمان يدرك مغزاها، ويزداد بواسطتها بصيرة ونورا، والكافر الذي أطبقت عليه ظلمة الكفر يقابلها بالتجاهل والتساؤل، والتساؤل الذي لا يقصد من ورائه الرغبة في المعرفة، وإنما تساؤل المنكر الممعن في الإنكار والاستهزاء، ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ﴾.
ورغما عن أن " البعوضة " في الظاهر عند الناس تعتبر كائنا حقيرا تافها قد يستغرب ضرب المثل بمثله، فإن الآية أشارت إلى أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا به، مادام الغرض من ضرب الأمثال هو مزيد الكشف والإيضاح للسامعين، ولذلك ضرب الله المثل بالنمل والعنكبوت في آيات أخرى.
على أن العصور التالية منذ نزول القرآن حتى الآن، قد أثبتت ما لهذا الكائن الحقير الصغير ( البعوضة ) من خطورة وقوة وتأثير في الفتك والتخريب والتدمير، فقد أثبتت الدراسات الطبية أن فعل هذا الكائن بالإنسان، يفوق فعل الطاعون والطوفان، ولذلك جندت الدول لحربه ومقاومته كل ما في الإمكان، واتضح الآن لذوي الفكر المستنير حكمة ذكره في القرآن.
ثم لابد أن نقف وقفة ولو قصيرة عند قوله :﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ( ٢٦ ) ﴾.
ذلك أن كثيرا من الناس عندما تسبق إلى نفوسهم فكرة من الأفكار يتعصبون لها، ويجمدون عليها، ويعتقدونها اعتقادا أعمى، فإذا ألقي إليهم بفكرة جديدة قالوا ( قلوبنا غلف ). كما أن كثيرا من الناس عندما يتورطون في نوع مرذول من أنواع السلوك، ويألفون جوه العفن، يصبحون أكثر الناس حذرا ومخافة من كل فكرة صالحة تلقي الأضواء على ما هم عليه من انحراف وشذوذ، باعتبار أن الفكرة الجديدة قد تكشف معايبهم، وتفضح أسرارهم، وتخرجهم عن مألوفاتهم التي أصبحوا أسراء لها، وتجعلهم حقراء مرذولين أمام أنفسهم أولا، وأمام الناس أخيرا، وهكذا يكتفي الفاسقون بإقفال أسماعهم عن سماع أية فكرة صالحة، بل يتصدون لها بالمقاومة والمحاربة سرا وعلنا، وبذلك يزدادون فسقا على فسق، وانحرافا فوق انحراف، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة ﴿ ومَا يُضِلُّ بهِ إلا الفَاسِقينَ ﴾ فقد أثبتت لهم هذه الآية صفة الفسوق أولا وسابقا، وبتأثير هذه الصفة الملازمة لهم والمسيطرة عليهم زادوا عتوا وضلالا، إذ الجريمة تدفع إلى أختها، والسيئة تعين على مثلها، على حد قوله تعالى ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً ﴾ وذلك بعكس ( المتقين ) الذين لازمتهم صفة التقوى، فانفعالهم من تلقاء أنفسهم يكون مزيدا من الهداية، ومزيدا من الرشد.
ومن هنا انتقلت الآيات الكريمة إلى تحليل أوصاف ( الفاسقين ) بعدما حللت آيات أخرى سابقة في مطلع هذه السورة أوصاف المتقين ﴿ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾.
وتتلخص أوصاف ( الفاسقين ) كما حددتها الآيات في ثلاثة أشياء :( ١ ) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ( ٢ ) ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ( ٣ ) ويفسدون في الأرض.
أما نقض الفاسقين لعهد الله فيتجلى في جحودهم له بعدما اعترفوا بألوهيته وربوبيته وشهدوا بذلك على أنفسهم وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم كما قال تعالى :﴿ وإِذْ آخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءادَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِم وأشْهَدَهُمْ عَلَى أنفُسِهِمُ أَلَستُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدنَا ﴾.
ويتجلى نقضهم لعهد الله في عصيانهم لرسله بعدما التزموا بطاعتهم، وفي كفرهم بكتبه وهجرهم لها بعد ما تعهدوا بإتباعها ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( ٣٨ ) ﴾. ومن كان له من الجرأة ما ينقض به عهد الله ويتحدى إرادته كان حريا بأن لا يكون له عهد، بل أن ينقض عهوده مع الناس جميعا.
وأما قطع الفاسقين لما أمر الله به أن يوصل فيتجلى في قطعهم صلة الأرحام المشتركة، وفي قطعهم صلة العقائد المشتركة، وفي قطعهم صلة الروابط المشتركة، فهم أنانيون مغرقون في الأنانية لا يعرفون الرحمة ولا الإحسان، ولا يهمهم من العيش إلا أنفسهم، وشعارهم المميز : " أنا وبعدي الطوفان " ومن بلغت به الأنانية إلى هذا الحد لا يرجى منه خير، ولا ينتظر منه نفع، لا للقريب ولا للبعيد.
وأما فساد الفاسقين وإفسادهم في الأرض، فيتجلى في سعيهم إلى تحطيم جميع المقدسات، وفي استهانتهم الظاهرة والباطنة بجميع القيم، وفي اعتدائهم المتوالي على حقوق الأفراد والجماعات، وفي إجبارهم للغير على الرضى بالفساد والعيش في ظله، ويتجلى بالأخص في محاربتهم لأوامر الله وانتهاكهم لحرماتهن والعمل بالخصوص على إقصاء تعاليمه وطردها من جميع مجالات العيش ومواكب الحياة.
وهذه الصفات الثلاث التي وصف الله بها " الفاسقين " من خيانة للعهد، وقسوة القلب، وإفساد في الأرض، كانت ولا تزال هي شعار " الفاسقين " لا تتخلف واحدة منها عن الأخرى في أي عصر ولا في أي جيل.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦:الربع الثاني من الحزب الأول في المصحف الكريم
الإشارة في مطلع هذه الآيات إلى الأمثال التي يضربها الله للناس في كتابه الحكيم، مثل قوله تعالى في وصف المنافقين في الربع الأول لهذا الحزب :﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾. وذلك زيادة في كشف المعنى، وتوضيح المراد، وإقامة الحجة ﴿ وَتِلكَ الأَمثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
وقد كانت الأمثال ولا تزال في جميع اللغات وعند جميع الأمم لها من التأثير في الإقناع ما جعل استعمالها شائعا ذائعا، ولاسيما عند العرب، فنزل القرآن بلسان عربي مبين، وجرى على مألوف استعمالهم في ضرب الأمثال، غير أن الأمثال القرآنية تختلف عن الأمثال الأخرى التي عرفها العرب والعجم، بروعتها وإعجازها، وكونها على غير نمط سابق، ومن هنا كان وقعها مختلفا باختلاف من يسمعها، فالمؤمن الذي خالطت قلبه بشاشة الإيمان يدرك مغزاها، ويزداد بواسطتها بصيرة ونورا، والكافر الذي أطبقت عليه ظلمة الكفر يقابلها بالتجاهل والتساؤل، والتساؤل الذي لا يقصد من ورائه الرغبة في المعرفة، وإنما تساؤل المنكر الممعن في الإنكار والاستهزاء، ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ﴾.
ورغما عن أن " البعوضة " في الظاهر عند الناس تعتبر كائنا حقيرا تافها قد يستغرب ضرب المثل بمثله، فإن الآية أشارت إلى أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا به، مادام الغرض من ضرب الأمثال هو مزيد الكشف والإيضاح للسامعين، ولذلك ضرب الله المثل بالنمل والعنكبوت في آيات أخرى.
على أن العصور التالية منذ نزول القرآن حتى الآن، قد أثبتت ما لهذا الكائن الحقير الصغير ( البعوضة ) من خطورة وقوة وتأثير في الفتك والتخريب والتدمير، فقد أثبتت الدراسات الطبية أن فعل هذا الكائن بالإنسان، يفوق فعل الطاعون والطوفان، ولذلك جندت الدول لحربه ومقاومته كل ما في الإمكان، واتضح الآن لذوي الفكر المستنير حكمة ذكره في القرآن.
ثم لابد أن نقف وقفة ولو قصيرة عند قوله :﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ( ٢٦ ) ﴾.
ذلك أن كثيرا من الناس عندما تسبق إلى نفوسهم فكرة من الأفكار يتعصبون لها، ويجمدون عليها، ويعتقدونها اعتقادا أعمى، فإذا ألقي إليهم بفكرة جديدة قالوا ( قلوبنا غلف ). كما أن كثيرا من الناس عندما يتورطون في نوع مرذول من أنواع السلوك، ويألفون جوه العفن، يصبحون أكثر الناس حذرا ومخافة من كل فكرة صالحة تلقي الأضواء على ما هم عليه من انحراف وشذوذ، باعتبار أن الفكرة الجديدة قد تكشف معايبهم، وتفضح أسرارهم، وتخرجهم عن مألوفاتهم التي أصبحوا أسراء لها، وتجعلهم حقراء مرذولين أمام أنفسهم أولا، وأمام الناس أخيرا، وهكذا يكتفي الفاسقون بإقفال أسماعهم عن سماع أية فكرة صالحة، بل يتصدون لها بالمقاومة والمحاربة سرا وعلنا، وبذلك يزدادون فسقا على فسق، وانحرافا فوق انحراف، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة ﴿ ومَا يُضِلُّ بهِ إلا الفَاسِقينَ ﴾ فقد أثبتت لهم هذه الآية صفة الفسوق أولا وسابقا، وبتأثير هذه الصفة الملازمة لهم والمسيطرة عليهم زادوا عتوا وضلالا، إذ الجريمة تدفع إلى أختها، والسيئة تعين على مثلها، على حد قوله تعالى ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً ﴾ وذلك بعكس ( المتقين ) الذين لازمتهم صفة التقوى، فانفعالهم من تلقاء أنفسهم يكون مزيدا من الهداية، ومزيدا من الرشد.
ومن هنا انتقلت الآيات الكريمة إلى تحليل أوصاف ( الفاسقين ) بعدما حللت آيات أخرى سابقة في مطلع هذه السورة أوصاف المتقين ﴿ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾.
وتتلخص أوصاف ( الفاسقين ) كما حددتها الآيات في ثلاثة أشياء :( ١ ) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ( ٢ ) ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ( ٣ ) ويفسدون في الأرض.
أما نقض الفاسقين لعهد الله فيتجلى في جحودهم له بعدما اعترفوا بألوهيته وربوبيته وشهدوا بذلك على أنفسهم وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم كما قال تعالى :﴿ وإِذْ آخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءادَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِم وأشْهَدَهُمْ عَلَى أنفُسِهِمُ أَلَستُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدنَا ﴾.
ويتجلى نقضهم لعهد الله في عصيانهم لرسله بعدما التزموا بطاعتهم، وفي كفرهم بكتبه وهجرهم لها بعد ما تعهدوا بإتباعها ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( ٣٨ ) ﴾. ومن كان له من الجرأة ما ينقض به عهد الله ويتحدى إرادته كان حريا بأن لا يكون له عهد، بل أن ينقض عهوده مع الناس جميعا.
وأما قطع الفاسقين لما أمر الله به أن يوصل فيتجلى في قطعهم صلة الأرحام المشتركة، وفي قطعهم صلة العقائد المشتركة، وفي قطعهم صلة الروابط المشتركة، فهم أنانيون مغرقون في الأنانية لا يعرفون الرحمة ولا الإحسان، ولا يهمهم من العيش إلا أنفسهم، وشعارهم المميز :" أنا وبعدي الطوفان " ومن بلغت به الأنانية إلى هذا الحد لا يرجى منه خير، ولا ينتظر منه نفع، لا للقريب ولا للبعيد.
وأما فساد الفاسقين وإفسادهم في الأرض، فيتجلى في سعيهم إلى تحطيم جميع المقدسات، وفي استهانتهم الظاهرة والباطنة بجميع القيم، وفي اعتدائهم المتوالي على حقوق الأفراد والجماعات، وفي إجبارهم للغير على الرضى بالفساد والعيش في ظله، ويتجلى بالأخص في محاربتهم لأوامر الله وانتهاكهم لحرماتهن والعمل بالخصوص على إقصاء تعاليمه وطردها من جميع مجالات العيش ومواكب الحياة.
وهذه الصفات الثلاث التي وصف الله بها " الفاسقين " من خيانة للعهد، وقسوة القلب، وإفساد في الأرض، كانت ولا تزال هي شعار " الفاسقين " لا تتخلف واحدة منها عن الأخرى في أي عصر ولا في أي جيل.

وفي الآيات التالية من هذه الحصة عرض رائع لقصة آدم وترشيحه للخلافة عن الله في هذه الأرض ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾. -﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ ﴾.
وفي هذه القصة إشارة أولى إلى بيان فضل آدم على الملائكة، وأن هذا الفضل يتجلى في امتنان الله عليه بعلم ما لا يعلمونه، ومعرفة ما لا يعرفونه، ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾-﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( ٣٢ ) ﴾.
وفيها إشارة ثانية إلى الفرق الجوهري القائم بين الملك والإنسان، فالملائكة ﴿ لاَّ يَعصُونَ الله مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُومَرُونَ ﴾ والإنسان خلقه الله حرا مختارا بحيث يطيع ويعصي، ويتمثل ويتمرد ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾- ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ولكن رحمة الله تنتظره في كل وقت بالتوبة المقبولة، والمغفرة المهداة، لقاء تحقيقه لمراد الله، وتنفيذه لأمره على سطح هذه الأرض، والقيام بعمارتها وإصلاحها وعبادة الله فيها ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ( ٣٧ ) ﴾.
وفي هذه القصة إشارة ثالثة إلى أن عصيان الإنسان لربه ليس نابعا من ذاته، وإنما هو بتأثير عامل خارجي عنه، قد يستبد به و يهيمن عليه، ألا وهو ( الشيطان ) الذي يوحي إليه بالعصيان ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ولو لم يكن هناك شيطان، ولا إيحاء منه بالعصيان، لاختار الإنسان طريق الخير الذي هو مجبول عليه ومندفع إليه دائما.
وفيها إشارة رابعة إلى أن عداوة الشيطان للإنسان عداوة دائمة ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾. وفي هذه الإشارة تنبيه قوي للإنسان، حتى يكون دائما على حذر من الشيطان، فلا يثق بتغريره وإغرائه، ولا يمكنه من الأخذ بتلابيبه.
وأخيرا فيها إشارة خامسة إلى العهد الإلهي المتبادل بين الإنسان وربه، ألا وهو عهد إرسال الرسل وإنزال الكتب لهداية الإنسان، رحمة به وأخذا بيده، وعهد إتباع الرسل وإنزال الرسل وتطبيق الشرائع في حياة الإنسان طاعة وامتثالا ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( ٣٨ ) ﴾.
فإتباع الهدى الإلهي هو الحصن الحصين للإنسان، من الوقوع في شبكة الشيطان، وهو الطريق الوحيد للحصول على السعادة والفلاح، بدلا من الشقاء والخسران ﴿ فَمَنْ يَّعمَل مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُومِنٌ فَلاَ كُفرانَ لِسَعْيِهِ، وإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٠:وفي الآيات التالية من هذه الحصة عرض رائع لقصة آدم وترشيحه للخلافة عن الله في هذه الأرض ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾. -﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ ﴾.
وفي هذه القصة إشارة أولى إلى بيان فضل آدم على الملائكة، وأن هذا الفضل يتجلى في امتنان الله عليه بعلم ما لا يعلمونه، ومعرفة ما لا يعرفونه، ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾-﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( ٣٢ ) ﴾.
وفيها إشارة ثانية إلى الفرق الجوهري القائم بين الملك والإنسان، فالملائكة ﴿ لاَّ يَعصُونَ الله مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُومَرُونَ ﴾ والإنسان خلقه الله حرا مختارا بحيث يطيع ويعصي، ويتمثل ويتمرد ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾- ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ولكن رحمة الله تنتظره في كل وقت بالتوبة المقبولة، والمغفرة المهداة، لقاء تحقيقه لمراد الله، وتنفيذه لأمره على سطح هذه الأرض، والقيام بعمارتها وإصلاحها وعبادة الله فيها ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ( ٣٧ ) ﴾.
وفي هذه القصة إشارة ثالثة إلى أن عصيان الإنسان لربه ليس نابعا من ذاته، وإنما هو بتأثير عامل خارجي عنه، قد يستبد به و يهيمن عليه، ألا وهو ( الشيطان ) الذي يوحي إليه بالعصيان ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ولو لم يكن هناك شيطان، ولا إيحاء منه بالعصيان، لاختار الإنسان طريق الخير الذي هو مجبول عليه ومندفع إليه دائما.
وفيها إشارة رابعة إلى أن عداوة الشيطان للإنسان عداوة دائمة ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾. وفي هذه الإشارة تنبيه قوي للإنسان، حتى يكون دائما على حذر من الشيطان، فلا يثق بتغريره وإغرائه، ولا يمكنه من الأخذ بتلابيبه.
وأخيرا فيها إشارة خامسة إلى العهد الإلهي المتبادل بين الإنسان وربه، ألا وهو عهد إرسال الرسل وإنزال الكتب لهداية الإنسان، رحمة به وأخذا بيده، وعهد إتباع الرسل وإنزال الرسل وتطبيق الشرائع في حياة الإنسان طاعة وامتثالا ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( ٣٨ ) ﴾.
فإتباع الهدى الإلهي هو الحصن الحصين للإنسان، من الوقوع في شبكة الشيطان، وهو الطريق الوحيد للحصول على السعادة والفلاح، بدلا من الشقاء والخسران ﴿ فَمَنْ يَّعمَل مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُومِنٌ فَلاَ كُفرانَ لِسَعْيِهِ، وإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٠:وفي الآيات التالية من هذه الحصة عرض رائع لقصة آدم وترشيحه للخلافة عن الله في هذه الأرض ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾. -﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ ﴾.
وفي هذه القصة إشارة أولى إلى بيان فضل آدم على الملائكة، وأن هذا الفضل يتجلى في امتنان الله عليه بعلم ما لا يعلمونه، ومعرفة ما لا يعرفونه، ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾-﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( ٣٢ ) ﴾.
وفيها إشارة ثانية إلى الفرق الجوهري القائم بين الملك والإنسان، فالملائكة ﴿ لاَّ يَعصُونَ الله مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُومَرُونَ ﴾ والإنسان خلقه الله حرا مختارا بحيث يطيع ويعصي، ويتمثل ويتمرد ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾- ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ولكن رحمة الله تنتظره في كل وقت بالتوبة المقبولة، والمغفرة المهداة، لقاء تحقيقه لمراد الله، وتنفيذه لأمره على سطح هذه الأرض، والقيام بعمارتها وإصلاحها وعبادة الله فيها ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ( ٣٧ ) ﴾.
وفي هذه القصة إشارة ثالثة إلى أن عصيان الإنسان لربه ليس نابعا من ذاته، وإنما هو بتأثير عامل خارجي عنه، قد يستبد به و يهيمن عليه، ألا وهو ( الشيطان ) الذي يوحي إليه بالعصيان ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ولو لم يكن هناك شيطان، ولا إيحاء منه بالعصيان، لاختار الإنسان طريق الخير الذي هو مجبول عليه ومندفع إليه دائما.
وفيها إشارة رابعة إلى أن عداوة الشيطان للإنسان عداوة دائمة ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾. وفي هذه الإشارة تنبيه قوي للإنسان، حتى يكون دائما على حذر من الشيطان، فلا يثق بتغريره وإغرائه، ولا يمكنه من الأخذ بتلابيبه.
وأخيرا فيها إشارة خامسة إلى العهد الإلهي المتبادل بين الإنسان وربه، ألا وهو عهد إرسال الرسل وإنزال الكتب لهداية الإنسان، رحمة به وأخذا بيده، وعهد إتباع الرسل وإنزال الرسل وتطبيق الشرائع في حياة الإنسان طاعة وامتثالا ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( ٣٨ ) ﴾.
فإتباع الهدى الإلهي هو الحصن الحصين للإنسان، من الوقوع في شبكة الشيطان، وهو الطريق الوحيد للحصول على السعادة والفلاح، بدلا من الشقاء والخسران ﴿ فَمَنْ يَّعمَل مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُومِنٌ فَلاَ كُفرانَ لِسَعْيِهِ، وإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٠:وفي الآيات التالية من هذه الحصة عرض رائع لقصة آدم وترشيحه للخلافة عن الله في هذه الأرض ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾. -﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ ﴾.
وفي هذه القصة إشارة أولى إلى بيان فضل آدم على الملائكة، وأن هذا الفضل يتجلى في امتنان الله عليه بعلم ما لا يعلمونه، ومعرفة ما لا يعرفونه، ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾-﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( ٣٢ ) ﴾.
وفيها إشارة ثانية إلى الفرق الجوهري القائم بين الملك والإنسان، فالملائكة ﴿ لاَّ يَعصُونَ الله مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُومَرُونَ ﴾ والإنسان خلقه الله حرا مختارا بحيث يطيع ويعصي، ويتمثل ويتمرد ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾- ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ولكن رحمة الله تنتظره في كل وقت بالتوبة المقبولة، والمغفرة المهداة، لقاء تحقيقه لمراد الله، وتنفيذه لأمره على سطح هذه الأرض، والقيام بعمارتها وإصلاحها وعبادة الله فيها ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ( ٣٧ ) ﴾.
وفي هذه القصة إشارة ثالثة إلى أن عصيان الإنسان لربه ليس نابعا من ذاته، وإنما هو بتأثير عامل خارجي عنه، قد يستبد به و يهيمن عليه، ألا وهو ( الشيطان ) الذي يوحي إليه بالعصيان ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ولو لم يكن هناك شيطان، ولا إيحاء منه بالعصيان، لاختار الإنسان طريق الخير الذي هو مجبول عليه ومندفع إليه دائما.
وفيها إشارة رابعة إلى أن عداوة الشيطان للإنسان عداوة دائمة ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾. وفي هذه الإشارة تنبيه قوي للإنسان، حتى يكون دائما على حذر من الشيطان، فلا يثق بتغريره وإغرائه، ولا يمكنه من الأخذ بتلابيبه.
وأخيرا فيها إشارة خامسة إلى العهد الإلهي المتبادل بين الإنسان وربه، ألا وهو عهد إرسال الرسل وإنزال الكتب لهداية الإنسان، رحمة به وأخذا بيده، وعهد إتباع الرسل وإنزال الرسل وتطبيق الشرائع في حياة الإنسان طاعة وامتثالا ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( ٣٨ ) ﴾.
فإتباع الهدى الإلهي هو الحصن الحصين للإنسان، من الوقوع في شبكة الشيطان، وهو الطريق الوحيد للحصول على السعادة والفلاح، بدلا من الشقاء والخسران ﴿ فَمَنْ يَّعمَل مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُومِنٌ فَلاَ كُفرانَ لِسَعْيِهِ، وإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٠:وفي الآيات التالية من هذه الحصة عرض رائع لقصة آدم وترشيحه للخلافة عن الله في هذه الأرض ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾. -﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ ﴾.
وفي هذه القصة إشارة أولى إلى بيان فضل آدم على الملائكة، وأن هذا الفضل يتجلى في امتنان الله عليه بعلم ما لا يعلمونه، ومعرفة ما لا يعرفونه، ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾-﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( ٣٢ ) ﴾.
وفيها إشارة ثانية إلى الفرق الجوهري القائم بين الملك والإنسان، فالملائكة ﴿ لاَّ يَعصُونَ الله مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُومَرُونَ ﴾ والإنسان خلقه الله حرا مختارا بحيث يطيع ويعصي، ويتمثل ويتمرد ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾- ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ولكن رحمة الله تنتظره في كل وقت بالتوبة المقبولة، والمغفرة المهداة، لقاء تحقيقه لمراد الله، وتنفيذه لأمره على سطح هذه الأرض، والقيام بعمارتها وإصلاحها وعبادة الله فيها ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ( ٣٧ ) ﴾.
وفي هذه القصة إشارة ثالثة إلى أن عصيان الإنسان لربه ليس نابعا من ذاته، وإنما هو بتأثير عامل خارجي عنه، قد يستبد به و يهيمن عليه، ألا وهو ( الشيطان ) الذي يوحي إليه بالعصيان ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ولو لم يكن هناك شيطان، ولا إيحاء منه بالعصيان، لاختار الإنسان طريق الخير الذي هو مجبول عليه ومندفع إليه دائما.
وفيها إشارة رابعة إلى أن عداوة الشيطان للإنسان عداوة دائمة ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾. وفي هذه الإشارة تنبيه قوي للإنسان، حتى يكون دائما على حذر من الشيطان، فلا يثق بتغريره وإغرائه، ولا يمكنه من الأخذ بتلابيبه.
وأخيرا فيها إشارة خامسة إلى العهد الإلهي المتبادل بين الإنسان وربه، ألا وهو عهد إرسال الرسل وإنزال الكتب لهداية الإنسان، رحمة به وأخذا بيده، وعهد إتباع الرسل وإنزال الرسل وتطبيق الشرائع في حياة الإنسان طاعة وامتثالا ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( ٣٨ ) ﴾.
فإتباع الهدى الإلهي هو الحصن الحصين للإنسان، من الوقوع في شبكة الشيطان، وهو الطريق الوحيد للحصول على السعادة والفلاح، بدلا من الشقاء والخسران ﴿ فَمَنْ يَّعمَل مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُومِنٌ فَلاَ كُفرانَ لِسَعْيِهِ، وإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٠:وفي الآيات التالية من هذه الحصة عرض رائع لقصة آدم وترشيحه للخلافة عن الله في هذه الأرض ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾. -﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ ﴾.
وفي هذه القصة إشارة أولى إلى بيان فضل آدم على الملائكة، وأن هذا الفضل يتجلى في امتنان الله عليه بعلم ما لا يعلمونه، ومعرفة ما لا يعرفونه، ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾-﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( ٣٢ ) ﴾.
وفيها إشارة ثانية إلى الفرق الجوهري القائم بين الملك والإنسان، فالملائكة ﴿ لاَّ يَعصُونَ الله مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُومَرُونَ ﴾ والإنسان خلقه الله حرا مختارا بحيث يطيع ويعصي، ويتمثل ويتمرد ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾- ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ولكن رحمة الله تنتظره في كل وقت بالتوبة المقبولة، والمغفرة المهداة، لقاء تحقيقه لمراد الله، وتنفيذه لأمره على سطح هذه الأرض، والقيام بعمارتها وإصلاحها وعبادة الله فيها ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ( ٣٧ ) ﴾.
وفي هذه القصة إشارة ثالثة إلى أن عصيان الإنسان لربه ليس نابعا من ذاته، وإنما هو بتأثير عامل خارجي عنه، قد يستبد به و يهيمن عليه، ألا وهو ( الشيطان ) الذي يوحي إليه بالعصيان ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ولو لم يكن هناك شيطان، ولا إيحاء منه بالعصيان، لاختار الإنسان طريق الخير الذي هو مجبول عليه ومندفع إليه دائما.
وفيها إشارة رابعة إلى أن عداوة الشيطان للإنسان عداوة دائمة ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾. وفي هذه الإشارة تنبيه قوي للإنسان، حتى يكون دائما على حذر من الشيطان، فلا يثق بتغريره وإغرائه، ولا يمكنه من الأخذ بتلابيبه.
وأخيرا فيها إشارة خامسة إلى العهد الإلهي المتبادل بين الإنسان وربه، ألا وهو عهد إرسال الرسل وإنزال الكتب لهداية الإنسان، رحمة به وأخذا بيده، وعهد إتباع الرسل وإنزال الرسل وتطبيق الشرائع في حياة الإنسان طاعة وامتثالا ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( ٣٨ ) ﴾.
فإتباع الهدى الإلهي هو الحصن الحصين للإنسان، من الوقوع في شبكة الشيطان، وهو الطريق الوحيد للحصول على السعادة والفلاح، بدلا من الشقاء والخسران ﴿ فَمَنْ يَّعمَل مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُومِنٌ فَلاَ كُفرانَ لِسَعْيِهِ، وإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٠:وفي الآيات التالية من هذه الحصة عرض رائع لقصة آدم وترشيحه للخلافة عن الله في هذه الأرض ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾. -﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ ﴾.
وفي هذه القصة إشارة أولى إلى بيان فضل آدم على الملائكة، وأن هذا الفضل يتجلى في امتنان الله عليه بعلم ما لا يعلمونه، ومعرفة ما لا يعرفونه، ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾-﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( ٣٢ ) ﴾.
وفيها إشارة ثانية إلى الفرق الجوهري القائم بين الملك والإنسان، فالملائكة ﴿ لاَّ يَعصُونَ الله مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُومَرُونَ ﴾ والإنسان خلقه الله حرا مختارا بحيث يطيع ويعصي، ويتمثل ويتمرد ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾- ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ولكن رحمة الله تنتظره في كل وقت بالتوبة المقبولة، والمغفرة المهداة، لقاء تحقيقه لمراد الله، وتنفيذه لأمره على سطح هذه الأرض، والقيام بعمارتها وإصلاحها وعبادة الله فيها ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ( ٣٧ ) ﴾.
وفي هذه القصة إشارة ثالثة إلى أن عصيان الإنسان لربه ليس نابعا من ذاته، وإنما هو بتأثير عامل خارجي عنه، قد يستبد به و يهيمن عليه، ألا وهو ( الشيطان ) الذي يوحي إليه بالعصيان ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ولو لم يكن هناك شيطان، ولا إيحاء منه بالعصيان، لاختار الإنسان طريق الخير الذي هو مجبول عليه ومندفع إليه دائما.
وفيها إشارة رابعة إلى أن عداوة الشيطان للإنسان عداوة دائمة ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾. وفي هذه الإشارة تنبيه قوي للإنسان، حتى يكون دائما على حذر من الشيطان، فلا يثق بتغريره وإغرائه، ولا يمكنه من الأخذ بتلابيبه.
وأخيرا فيها إشارة خامسة إلى العهد الإلهي المتبادل بين الإنسان وربه، ألا وهو عهد إرسال الرسل وإنزال الكتب لهداية الإنسان، رحمة به وأخذا بيده، وعهد إتباع الرسل وإنزال الرسل وتطبيق الشرائع في حياة الإنسان طاعة وامتثالا ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( ٣٨ ) ﴾.
فإتباع الهدى الإلهي هو الحصن الحصين للإنسان، من الوقوع في شبكة الشيطان، وهو الطريق الوحيد للحصول على السعادة والفلاح، بدلا من الشقاء والخسران ﴿ فَمَنْ يَّعمَل مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُومِنٌ فَلاَ كُفرانَ لِسَعْيِهِ، وإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ﴾.

الربع الثالث من الحزب الأول في المصحف الكريم
والحديث في هذا الربع متجه إلى بني إسرائيل المقيمين بالمدينة وما حولها، فقد كانت جالية كبيرة منهم تعايش الرسول وأصحابه المهاجرين والأنصار خلال الفترة التي تلت الهجرة النبوية، وكان لها نشاط هدام يتطلب من الإسلام يقظة وحذرا بالغين، وعن طريق هؤلاء يتجه الحديث في الحقيقة إلى جميع بني إسرائيل في العالم، وإلى الكتابيين جميعا.
فبعدما استغربت الآيات الكريمة موقفهم من الإسلام والقرآن، وأشارت إلى أن اعتراف الدعوة الإسلامية برسالة موسى الكليم كان يقتضي مبادرتهم إلى تصديق هذه الدعوة والدخول تحت لوائها، وأن المعقول والمنتظر منهم هو أن يكونوا أسبق الكتابيين إلى الإيمان بالقرآن، لا أول الكافرين به كما ارتضوا ذلك لأنفسهم، فتحملوا وزرهم وأوزار جميع الكافرين الذين أتوا من بعدهم وقلدوهم، كما قال تعالى :﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُم، وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾. توالت الآيات البينات في كشف القناع، وإلقاء الأضواء، على المساوئ التي اتصف بها بنو إسرائيل ومن سلك طريقهم، فمن كتمان لحق وطمس لمعالمه، إلى تزييف للحق وتلبيس له بالباطل، إلى تبديل لكلمات الله وتحريف لمعانيها، إلى نفاق في السلوك وازدواج في الشخصية، ينشأ عنه تناقض صارخ بين الظاهر والباطن، واختلاف كبير بين الأقوال والأعمال، ﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٤٢ ) ﴾، ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ﴾، ﴿ فَبَدَّلَ الذِينَ ظَلَمُوا قَولاً غَيرَ الذِي قِيلَ لَهُم ﴾،
ثم أخذت الآيات الكريمة في تذكير بني إسرائيل بالأطوار الغامضة المضطربة التي مروا بها، وفي تعريف غيرهم بتلك الأطوار حتى يحسبوا لها ألف حساب في الموعظة والاعتبار.
فمن إشارة إلى المعاملة القاسية والمحنة الكبرى التي لاقوها على يد فرعون وقومه، وما نالهم بعدها على يد موسى الكليم من نجاة وحرية.
ومن إشارة إلى ما أكرم الله به موسى من تكليم ووحي، وما أتى قومه من نعم وارفة الظلال، حيث ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأباح لهم أكل الطيبات من الرزق، وقبل منهم التوبة بعد ارتكاب أكبر الذنوب والموبقات.
ومن تعريض بما ارتكبوه من انحراف عن الحق وانتكاس عن الهدى، حيث عبدوا العجل عندما غاب عنهم موسى، ثم طالبوه برؤية الله عيانا متحدين له عندما عاد إليهم ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ﴾، ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾.
وواضح أن ما تذمه هذه الآيات وتنعاه على بني إسرائيل، من كتمان للحق، وتلبيس له بالباطل، ونفاق في السلوك، وجرأة على الله، وعناد لرسله، وتجاهل لنعم الله المتوالية وكفران بها-رغما عن أهميتها الكبرى-وإن كان الخطاب به متجها في الأصل إلى بني إسرائيل-ليس قاصرا عليهم وحدهم دون بقية الناس، بل إن ما فيه من الذم والنعي كما ينطبق عليهم بالأصالة، ينطبق بالتبع على جميع من سلك مسلكهم واقتدى بهم في خصالهم المستقبحة وسلوكهم المنحرف، وبذلك تعتبر هذه الآيات تنبيها دائما للمسلمين، وتحذيرا لهم، وإنذارا صريحا للمنحرفين منهم عن سواء السبيل، بسوء العاقبة وقبح المصير.
ومما يناسب الوقوف عنده وقفة خاصة من هذه الآيات قوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ( ٤٥ ) ﴾، وقوله تعالى :﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ٥٨ ) ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ( ٥٩ ) ﴾.
ذلك أن الخطاب الإلهي في هذه الآيات يعتبر توجيها عاما لا خاصا، فقوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾. فيه لفت نظر المؤمن العاقل إلى ما بين الصبر والصلاة من تلازم في الغاية، وإلى ما بين الصبر والصلاة من تكامل في الطبيعة، بحيث يعتبر مجموعهما وكل منهما عونا إلهيا على مجابهة متاعب الحياة، ومددا ربانيا للتغلب على مشاكلها اليومية.
فبالصلاة يقوى الرجاء في الله، ويرتكز الإيمان بالقدر خيره وشره على أقوى أساس، وعن طريق الصلاة يستمد المؤمن الهداية والإعانة من ربه دون انقطاع.
وبالصبر يواجه المؤمن مسؤولياته الملقاة على عاتقه، بحكم أمانة الاستخلاف عن الله، مطمئن القلب، منشرح الصدر، معتصما بالله، معتمدا عليه، وقد تكرر هذا المعنى في نفس سورة البقرة بخطاب إلهي موجه إلى المؤمنين بالذات، إذ قال تعالى :﴿ فَاذكُرُوني أَذكُركُمْ واشْكُرُوا لِي ولاَ تَكفُرُونِ ﴾- ﴿ يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾. دعوة من الله إلى عباده المؤمنين للإقبال على مائدته، والتناول من بساط رزقه الممدود غير المحدود، لكن مع الاقتصار على ( الطيبات ) التي أحلها، والاكتفاء بها دون ( الخبائث ) التي حرمها ﴿ وَيُحلُّ لَهُمُ الطَّيَباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ٥٨ ) ﴾، وعد إلهي للمحسنين من عباده بالزيادة في رزقهم، وإغداق النعم عليهم، وكما يقتضي منطوق هذا النص وعدا للمحسنين بالمزيد من فضل الله وكرمه، فإن مفهومه يتضمن وعيدا للمسيئين بالنقص والحرمان، على حد قوله تعالى :﴿ فَأنزَلنَا عَلَى الذِينَ ظَلَمُوا رِجزاُ مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ ﴾ فيه تحذير من ظلم عباده والعدوان على حقوقهم، إذ الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، طبقا لما جاء في الأثر، كما أن فيه إنذارا للظالمين بالعقاب الرادع والعذاب الشديد، ينزل عليهم من حيث لا ينتظرون ﴿ رِجزاً مِّنَ السَّماءِ ﴾، وقوله :﴿ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ( ٥٩ ) ﴾ إدراج لمعنى الظلم في إطار الفسق نفسه، وتأكيد لما سبق من الآيات في وصف ( الفاسقين ) من خيانة للعهود، وقطع للأرحام، وإفساد في الأرض، فالظلم في حد ذاته أكبر مظهر للفساد في الأرض، وبذلك يندرج تحت الفسق ويلازم الفاسقين.
أما قوله تعالى :﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ( ٤٧ ) ﴾ فإنه يشير إلى الفترة القصيرة التي استقاموا فيها على طريقة موسى الكليم، ففي تلك الفترة التي لم تطل كان المؤمنون من بني إسرائيل أفضل من غيرهم، ممن حولهم من الكفار والمشركين، حتى إذا ما بدلوا وظلموا عاقبهم الله بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ٥٧ ) ﴾
ولعل أعظم تأنيب يوجه إلى الشخص بعد تجريده من شرفه وإنزاله عن مكانته عقابا له وتأديبا، هو تذكيره بما كان له من شرف سابق عند مولاه، ومكانة مرموقة عند الناس، حتى يقارن بنفسه بين يومه وأمسه، وسعده ونحسه، ﴿ كَذَلِكَ يُريهِمُ اللهُ أعمَالَهُم حَسَراتٍ عَلَيْهِم ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:الربع الثالث من الحزب الأول في المصحف الكريم
والحديث في هذا الربع متجه إلى بني إسرائيل المقيمين بالمدينة وما حولها، فقد كانت جالية كبيرة منهم تعايش الرسول وأصحابه المهاجرين والأنصار خلال الفترة التي تلت الهجرة النبوية، وكان لها نشاط هدام يتطلب من الإسلام يقظة وحذرا بالغين، وعن طريق هؤلاء يتجه الحديث في الحقيقة إلى جميع بني إسرائيل في العالم، وإلى الكتابيين جميعا.
فبعدما استغربت الآيات الكريمة موقفهم من الإسلام والقرآن، وأشارت إلى أن اعتراف الدعوة الإسلامية برسالة موسى الكليم كان يقتضي مبادرتهم إلى تصديق هذه الدعوة والدخول تحت لوائها، وأن المعقول والمنتظر منهم هو أن يكونوا أسبق الكتابيين إلى الإيمان بالقرآن، لا أول الكافرين به كما ارتضوا ذلك لأنفسهم، فتحملوا وزرهم وأوزار جميع الكافرين الذين أتوا من بعدهم وقلدوهم، كما قال تعالى :﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُم، وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾. توالت الآيات البينات في كشف القناع، وإلقاء الأضواء، على المساوئ التي اتصف بها بنو إسرائيل ومن سلك طريقهم، فمن كتمان لحق وطمس لمعالمه، إلى تزييف للحق وتلبيس له بالباطل، إلى تبديل لكلمات الله وتحريف لمعانيها، إلى نفاق في السلوك وازدواج في الشخصية، ينشأ عنه تناقض صارخ بين الظاهر والباطن، واختلاف كبير بين الأقوال والأعمال، ﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٤٢ ) ﴾، ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ﴾، ﴿ فَبَدَّلَ الذِينَ ظَلَمُوا قَولاً غَيرَ الذِي قِيلَ لَهُم ﴾،
ثم أخذت الآيات الكريمة في تذكير بني إسرائيل بالأطوار الغامضة المضطربة التي مروا بها، وفي تعريف غيرهم بتلك الأطوار حتى يحسبوا لها ألف حساب في الموعظة والاعتبار.
فمن إشارة إلى المعاملة القاسية والمحنة الكبرى التي لاقوها على يد فرعون وقومه، وما نالهم بعدها على يد موسى الكليم من نجاة وحرية.
ومن إشارة إلى ما أكرم الله به موسى من تكليم ووحي، وما أتى قومه من نعم وارفة الظلال، حيث ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأباح لهم أكل الطيبات من الرزق، وقبل منهم التوبة بعد ارتكاب أكبر الذنوب والموبقات.
ومن تعريض بما ارتكبوه من انحراف عن الحق وانتكاس عن الهدى، حيث عبدوا العجل عندما غاب عنهم موسى، ثم طالبوه برؤية الله عيانا متحدين له عندما عاد إليهم ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ﴾، ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾.
وواضح أن ما تذمه هذه الآيات وتنعاه على بني إسرائيل، من كتمان للحق، وتلبيس له بالباطل، ونفاق في السلوك، وجرأة على الله، وعناد لرسله، وتجاهل لنعم الله المتوالية وكفران بها-رغما عن أهميتها الكبرى-وإن كان الخطاب به متجها في الأصل إلى بني إسرائيل-ليس قاصرا عليهم وحدهم دون بقية الناس، بل إن ما فيه من الذم والنعي كما ينطبق عليهم بالأصالة، ينطبق بالتبع على جميع من سلك مسلكهم واقتدى بهم في خصالهم المستقبحة وسلوكهم المنحرف، وبذلك تعتبر هذه الآيات تنبيها دائما للمسلمين، وتحذيرا لهم، وإنذارا صريحا للمنحرفين منهم عن سواء السبيل، بسوء العاقبة وقبح المصير.
ومما يناسب الوقوف عنده وقفة خاصة من هذه الآيات قوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ( ٤٥ ) ﴾، وقوله تعالى :﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ٥٨ ) ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ( ٥٩ ) ﴾.
ذلك أن الخطاب الإلهي في هذه الآيات يعتبر توجيها عاما لا خاصا، فقوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾. فيه لفت نظر المؤمن العاقل إلى ما بين الصبر والصلاة من تلازم في الغاية، وإلى ما بين الصبر والصلاة من تكامل في الطبيعة، بحيث يعتبر مجموعهما وكل منهما عونا إلهيا على مجابهة متاعب الحياة، ومددا ربانيا للتغلب على مشاكلها اليومية.
فبالصلاة يقوى الرجاء في الله، ويرتكز الإيمان بالقدر خيره وشره على أقوى أساس، وعن طريق الصلاة يستمد المؤمن الهداية والإعانة من ربه دون انقطاع.
وبالصبر يواجه المؤمن مسؤولياته الملقاة على عاتقه، بحكم أمانة الاستخلاف عن الله، مطمئن القلب، منشرح الصدر، معتصما بالله، معتمدا عليه، وقد تكرر هذا المعنى في نفس سورة البقرة بخطاب إلهي موجه إلى المؤمنين بالذات، إذ قال تعالى :﴿ فَاذكُرُوني أَذكُركُمْ واشْكُرُوا لِي ولاَ تَكفُرُونِ ﴾- ﴿ يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾. دعوة من الله إلى عباده المؤمنين للإقبال على مائدته، والتناول من بساط رزقه الممدود غير المحدود، لكن مع الاقتصار على ( الطيبات ) التي أحلها، والاكتفاء بها دون ( الخبائث ) التي حرمها ﴿ وَيُحلُّ لَهُمُ الطَّيَباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ٥٨ ) ﴾، وعد إلهي للمحسنين من عباده بالزيادة في رزقهم، وإغداق النعم عليهم، وكما يقتضي منطوق هذا النص وعدا للمحسنين بالمزيد من فضل الله وكرمه، فإن مفهومه يتضمن وعيدا للمسيئين بالنقص والحرمان، على حد قوله تعالى :﴿ فَأنزَلنَا عَلَى الذِينَ ظَلَمُوا رِجزاُ مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ ﴾ فيه تحذير من ظلم عباده والعدوان على حقوقهم، إذ الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، طبقا لما جاء في الأثر، كما أن فيه إنذارا للظالمين بالعقاب الرادع والعذاب الشديد، ينزل عليهم من حيث لا ينتظرون ﴿ رِجزاً مِّنَ السَّماءِ ﴾، وقوله :﴿ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ( ٥٩ ) ﴾ إدراج لمعنى الظلم في إطار الفسق نفسه، وتأكيد لما سبق من الآيات في وصف ( الفاسقين ) من خيانة للعهود، وقطع للأرحام، وإفساد في الأرض، فالظلم في حد ذاته أكبر مظهر للفساد في الأرض، وبذلك يندرج تحت الفسق ويلازم الفاسقين.
أما قوله تعالى :﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ( ٤٧ ) ﴾ فإنه يشير إلى الفترة القصيرة التي استقاموا فيها على طريقة موسى الكليم، ففي تلك الفترة التي لم تطل كان المؤمنون من بني إسرائيل أفضل من غيرهم، ممن حولهم من الكفار والمشركين، حتى إذا ما بدلوا وظلموا عاقبهم الله بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ٥٧ ) ﴾
ولعل أعظم تأنيب يوجه إلى الشخص بعد تجريده من شرفه وإنزاله عن مكانته عقابا له وتأديبا، هو تذكيره بما كان له من شرف سابق عند مولاه، ومكانة مرموقة عند الناس، حتى يقارن بنفسه بين يومه وأمسه، وسعده ونحسه، ﴿ كَذَلِكَ يُريهِمُ اللهُ أعمَالَهُم حَسَراتٍ عَلَيْهِم ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:الربع الثالث من الحزب الأول في المصحف الكريم
والحديث في هذا الربع متجه إلى بني إسرائيل المقيمين بالمدينة وما حولها، فقد كانت جالية كبيرة منهم تعايش الرسول وأصحابه المهاجرين والأنصار خلال الفترة التي تلت الهجرة النبوية، وكان لها نشاط هدام يتطلب من الإسلام يقظة وحذرا بالغين، وعن طريق هؤلاء يتجه الحديث في الحقيقة إلى جميع بني إسرائيل في العالم، وإلى الكتابيين جميعا.
فبعدما استغربت الآيات الكريمة موقفهم من الإسلام والقرآن، وأشارت إلى أن اعتراف الدعوة الإسلامية برسالة موسى الكليم كان يقتضي مبادرتهم إلى تصديق هذه الدعوة والدخول تحت لوائها، وأن المعقول والمنتظر منهم هو أن يكونوا أسبق الكتابيين إلى الإيمان بالقرآن، لا أول الكافرين به كما ارتضوا ذلك لأنفسهم، فتحملوا وزرهم وأوزار جميع الكافرين الذين أتوا من بعدهم وقلدوهم، كما قال تعالى :﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُم، وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾. توالت الآيات البينات في كشف القناع، وإلقاء الأضواء، على المساوئ التي اتصف بها بنو إسرائيل ومن سلك طريقهم، فمن كتمان لحق وطمس لمعالمه، إلى تزييف للحق وتلبيس له بالباطل، إلى تبديل لكلمات الله وتحريف لمعانيها، إلى نفاق في السلوك وازدواج في الشخصية، ينشأ عنه تناقض صارخ بين الظاهر والباطن، واختلاف كبير بين الأقوال والأعمال، ﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٤٢ ) ﴾، ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ﴾، ﴿ فَبَدَّلَ الذِينَ ظَلَمُوا قَولاً غَيرَ الذِي قِيلَ لَهُم ﴾،
ثم أخذت الآيات الكريمة في تذكير بني إسرائيل بالأطوار الغامضة المضطربة التي مروا بها، وفي تعريف غيرهم بتلك الأطوار حتى يحسبوا لها ألف حساب في الموعظة والاعتبار.
فمن إشارة إلى المعاملة القاسية والمحنة الكبرى التي لاقوها على يد فرعون وقومه، وما نالهم بعدها على يد موسى الكليم من نجاة وحرية.
ومن إشارة إلى ما أكرم الله به موسى من تكليم ووحي، وما أتى قومه من نعم وارفة الظلال، حيث ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأباح لهم أكل الطيبات من الرزق، وقبل منهم التوبة بعد ارتكاب أكبر الذنوب والموبقات.
ومن تعريض بما ارتكبوه من انحراف عن الحق وانتكاس عن الهدى، حيث عبدوا العجل عندما غاب عنهم موسى، ثم طالبوه برؤية الله عيانا متحدين له عندما عاد إليهم ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ﴾، ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾.
وواضح أن ما تذمه هذه الآيات وتنعاه على بني إسرائيل، من كتمان للحق، وتلبيس له بالباطل، ونفاق في السلوك، وجرأة على الله، وعناد لرسله، وتجاهل لنعم الله المتوالية وكفران بها-رغما عن أهميتها الكبرى-وإن كان الخطاب به متجها في الأصل إلى بني إسرائيل-ليس قاصرا عليهم وحدهم دون بقية الناس، بل إن ما فيه من الذم والنعي كما ينطبق عليهم بالأصالة، ينطبق بالتبع على جميع من سلك مسلكهم واقتدى بهم في خصالهم المستقبحة وسلوكهم المنحرف، وبذلك تعتبر هذه الآيات تنبيها دائما للمسلمين، وتحذيرا لهم، وإنذارا صريحا للمنحرفين منهم عن سواء السبيل، بسوء العاقبة وقبح المصير.
ومما يناسب الوقوف عنده وقفة خاصة من هذه الآيات قوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ( ٤٥ ) ﴾، وقوله تعالى :﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ٥٨ ) ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ( ٥٩ ) ﴾.
ذلك أن الخطاب الإلهي في هذه الآيات يعتبر توجيها عاما لا خاصا، فقوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾. فيه لفت نظر المؤمن العاقل إلى ما بين الصبر والصلاة من تلازم في الغاية، وإلى ما بين الصبر والصلاة من تكامل في الطبيعة، بحيث يعتبر مجموعهما وكل منهما عونا إلهيا على مجابهة متاعب الحياة، ومددا ربانيا للتغلب على مشاكلها اليومية.
فبالصلاة يقوى الرجاء في الله، ويرتكز الإيمان بالقدر خيره وشره على أقوى أساس، وعن طريق الصلاة يستمد المؤمن الهداية والإعانة من ربه دون انقطاع.
وبالصبر يواجه المؤمن مسؤولياته الملقاة على عاتقه، بحكم أمانة الاستخلاف عن الله، مطمئن القلب، منشرح الصدر، معتصما بالله، معتمدا عليه، وقد تكرر هذا المعنى في نفس سورة البقرة بخطاب إلهي موجه إلى المؤمنين بالذات، إذ قال تعالى :﴿ فَاذكُرُوني أَذكُركُمْ واشْكُرُوا لِي ولاَ تَكفُرُونِ ﴾- ﴿ يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾. دعوة من الله إلى عباده المؤمنين للإقبال على مائدته، والتناول من بساط رزقه الممدود غير المحدود، لكن مع الاقتصار على ( الطيبات ) التي أحلها، والاكتفاء بها دون ( الخبائث ) التي حرمها ﴿ وَيُحلُّ لَهُمُ الطَّيَباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ٥٨ ) ﴾، وعد إلهي للمحسنين من عباده بالزيادة في رزقهم، وإغداق النعم عليهم، وكما يقتضي منطوق هذا النص وعدا للمحسنين بالمزيد من فضل الله وكرمه، فإن مفهومه يتضمن وعيدا للمسيئين بالنقص والحرمان، على حد قوله تعالى :﴿ فَأنزَلنَا عَلَى الذِينَ ظَلَمُوا رِجزاُ مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ ﴾ فيه تحذير من ظلم عباده والعدوان على حقوقهم، إذ الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، طبقا لما جاء في الأثر، كما أن فيه إنذارا للظالمين بالعقاب الرادع والعذاب الشديد، ينزل عليهم من حيث لا ينتظرون ﴿ رِجزاً مِّنَ السَّماءِ ﴾، وقوله :﴿ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ( ٥٩ ) ﴾ إدراج لمعنى الظلم في إطار الفسق نفسه، وتأكيد لما سبق من الآيات في وصف ( الفاسقين ) من خيانة للعهود، وقطع للأرحام، وإفساد في الأرض، فالظلم في حد ذاته أكبر مظهر للفساد في الأرض، وبذلك يندرج تحت الفسق ويلازم الفاسقين.
أما قوله تعالى :﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ( ٤٧ ) ﴾ فإنه يشير إلى الفترة القصيرة التي استقاموا فيها على طريقة موسى الكليم، ففي تلك الفترة التي لم تطل كان المؤمنون من بني إسرائيل أفضل من غيرهم، ممن حولهم من الكفار والمشركين، حتى إذا ما بدلوا وظلموا عاقبهم الله بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ٥٧ ) ﴾
ولعل أعظم تأنيب يوجه إلى الشخص بعد تجريده من شرفه وإنزاله عن مكانته عقابا له وتأديبا، هو تذكيره بما كان له من شرف سابق عند مولاه، ومكانة مرموقة عند الناس، حتى يقارن بنفسه بين يومه وأمسه، وسعده ونحسه، ﴿ كَذَلِكَ يُريهِمُ اللهُ أعمَالَهُم حَسَراتٍ عَلَيْهِم ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:الربع الثالث من الحزب الأول في المصحف الكريم
والحديث في هذا الربع متجه إلى بني إسرائيل المقيمين بالمدينة وما حولها، فقد كانت جالية كبيرة منهم تعايش الرسول وأصحابه المهاجرين والأنصار خلال الفترة التي تلت الهجرة النبوية، وكان لها نشاط هدام يتطلب من الإسلام يقظة وحذرا بالغين، وعن طريق هؤلاء يتجه الحديث في الحقيقة إلى جميع بني إسرائيل في العالم، وإلى الكتابيين جميعا.
فبعدما استغربت الآيات الكريمة موقفهم من الإسلام والقرآن، وأشارت إلى أن اعتراف الدعوة الإسلامية برسالة موسى الكليم كان يقتضي مبادرتهم إلى تصديق هذه الدعوة والدخول تحت لوائها، وأن المعقول والمنتظر منهم هو أن يكونوا أسبق الكتابيين إلى الإيمان بالقرآن، لا أول الكافرين به كما ارتضوا ذلك لأنفسهم، فتحملوا وزرهم وأوزار جميع الكافرين الذين أتوا من بعدهم وقلدوهم، كما قال تعالى :﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُم، وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾. توالت الآيات البينات في كشف القناع، وإلقاء الأضواء، على المساوئ التي اتصف بها بنو إسرائيل ومن سلك طريقهم، فمن كتمان لحق وطمس لمعالمه، إلى تزييف للحق وتلبيس له بالباطل، إلى تبديل لكلمات الله وتحريف لمعانيها، إلى نفاق في السلوك وازدواج في الشخصية، ينشأ عنه تناقض صارخ بين الظاهر والباطن، واختلاف كبير بين الأقوال والأعمال، ﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٤٢ ) ﴾، ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ﴾، ﴿ فَبَدَّلَ الذِينَ ظَلَمُوا قَولاً غَيرَ الذِي قِيلَ لَهُم ﴾،
ثم أخذت الآيات الكريمة في تذكير بني إسرائيل بالأطوار الغامضة المضطربة التي مروا بها، وفي تعريف غيرهم بتلك الأطوار حتى يحسبوا لها ألف حساب في الموعظة والاعتبار.
فمن إشارة إلى المعاملة القاسية والمحنة الكبرى التي لاقوها على يد فرعون وقومه، وما نالهم بعدها على يد موسى الكليم من نجاة وحرية.
ومن إشارة إلى ما أكرم الله به موسى من تكليم ووحي، وما أتى قومه من نعم وارفة الظلال، حيث ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأباح لهم أكل الطيبات من الرزق، وقبل منهم التوبة بعد ارتكاب أكبر الذنوب والموبقات.
ومن تعريض بما ارتكبوه من انحراف عن الحق وانتكاس عن الهدى، حيث عبدوا العجل عندما غاب عنهم موسى، ثم طالبوه برؤية الله عيانا متحدين له عندما عاد إليهم ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ﴾، ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾.
وواضح أن ما تذمه هذه الآيات وتنعاه على بني إسرائيل، من كتمان للحق، وتلبيس له بالباطل، ونفاق في السلوك، وجرأة على الله، وعناد لرسله، وتجاهل لنعم الله المتوالية وكفران بها-رغما عن أهميتها الكبرى-وإن كان الخطاب به متجها في الأصل إلى بني إسرائيل-ليس قاصرا عليهم وحدهم دون بقية الناس، بل إن ما فيه من الذم والنعي كما ينطبق عليهم بالأصالة، ينطبق بالتبع على جميع من سلك مسلكهم واقتدى بهم في خصالهم المستقبحة وسلوكهم المنحرف، وبذلك تعتبر هذه الآيات تنبيها دائما للمسلمين، وتحذيرا لهم، وإنذارا صريحا للمنحرفين منهم عن سواء السبيل، بسوء العاقبة وقبح المصير.
ومما يناسب الوقوف عنده وقفة خاصة من هذه الآيات قوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ( ٤٥ ) ﴾، وقوله تعالى :﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ٥٨ ) ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ( ٥٩ ) ﴾.
ذلك أن الخطاب الإلهي في هذه الآيات يعتبر توجيها عاما لا خاصا، فقوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾. فيه لفت نظر المؤمن العاقل إلى ما بين الصبر والصلاة من تلازم في الغاية، وإلى ما بين الصبر والصلاة من تكامل في الطبيعة، بحيث يعتبر مجموعهما وكل منهما عونا إلهيا على مجابهة متاعب الحياة، ومددا ربانيا للتغلب على مشاكلها اليومية.
فبالصلاة يقوى الرجاء في الله، ويرتكز الإيمان بالقدر خيره وشره على أقوى أساس، وعن طريق الصلاة يستمد المؤمن الهداية والإعانة من ربه دون انقطاع.
وبالصبر يواجه المؤمن مسؤولياته الملقاة على عاتقه، بحكم أمانة الاستخلاف عن الله، مطمئن القلب، منشرح الصدر، معتصما بالله، معتمدا عليه، وقد تكرر هذا المعنى في نفس سورة البقرة بخطاب إلهي موجه إلى المؤمنين بالذات، إذ قال تعالى :﴿ فَاذكُرُوني أَذكُركُمْ واشْكُرُوا لِي ولاَ تَكفُرُونِ ﴾- ﴿ يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾. دعوة من الله إلى عباده المؤمنين للإقبال على مائدته، والتناول من بساط رزقه الممدود غير المحدود، لكن مع الاقتصار على ( الطيبات ) التي أحلها، والاكتفاء بها دون ( الخبائث ) التي حرمها ﴿ وَيُحلُّ لَهُمُ الطَّيَباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ٥٨ ) ﴾، وعد إلهي للمحسنين من عباده بالزيادة في رزقهم، وإغداق النعم عليهم، وكما يقتضي منطوق هذا النص وعدا للمحسنين بالمزيد من فضل الله وكرمه، فإن مفهومه يتضمن وعيدا للمسيئين بالنقص والحرمان، على حد قوله تعالى :﴿ فَأنزَلنَا عَلَى الذِينَ ظَلَمُوا رِجزاُ مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ ﴾ فيه تحذير من ظلم عباده والعدوان على حقوقهم، إذ الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، طبقا لما جاء في الأثر، كما أن فيه إنذارا للظالمين بالعقاب الرادع والعذاب الشديد، ينزل عليهم من حيث لا ينتظرون ﴿ رِجزاً مِّنَ السَّماءِ ﴾، وقوله :﴿ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ( ٥٩ ) ﴾ إدراج لمعنى الظلم في إطار الفسق نفسه، وتأكيد لما سبق من الآيات في وصف ( الفاسقين ) من خيانة للعهود، وقطع للأرحام، وإفساد في الأرض، فالظلم في حد ذاته أكبر مظهر للفساد في الأرض، وبذلك يندرج تحت الفسق ويلازم الفاسقين.
أما قوله تعالى :﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ( ٤٧ ) ﴾ فإنه يشير إلى الفترة القصيرة التي استقاموا فيها على طريقة موسى الكليم، ففي تلك الفترة التي لم تطل كان المؤمنون من بني إسرائيل أفضل من غيرهم، ممن حولهم من الكفار والمشركين، حتى إذا ما بدلوا وظلموا عاقبهم الله بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ٥٧ ) ﴾
ولعل أعظم تأنيب يوجه إلى الشخص بعد تجريده من شرفه وإنزاله عن مكانته عقابا له وتأديبا، هو تذكيره بما كان له من شرف سابق عند مولاه، ومكانة مرموقة عند الناس، حتى يقارن بنفسه بين يومه وأمسه، وسعده ونحسه، ﴿ كَذَلِكَ يُريهِمُ اللهُ أعمَالَهُم حَسَراتٍ عَلَيْهِم ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:الربع الثالث من الحزب الأول في المصحف الكريم
والحديث في هذا الربع متجه إلى بني إسرائيل المقيمين بالمدينة وما حولها، فقد كانت جالية كبيرة منهم تعايش الرسول وأصحابه المهاجرين والأنصار خلال الفترة التي تلت الهجرة النبوية، وكان لها نشاط هدام يتطلب من الإسلام يقظة وحذرا بالغين، وعن طريق هؤلاء يتجه الحديث في الحقيقة إلى جميع بني إسرائيل في العالم، وإلى الكتابيين جميعا.
فبعدما استغربت الآيات الكريمة موقفهم من الإسلام والقرآن، وأشارت إلى أن اعتراف الدعوة الإسلامية برسالة موسى الكليم كان يقتضي مبادرتهم إلى تصديق هذه الدعوة والدخول تحت لوائها، وأن المعقول والمنتظر منهم هو أن يكونوا أسبق الكتابيين إلى الإيمان بالقرآن، لا أول الكافرين به كما ارتضوا ذلك لأنفسهم، فتحملوا وزرهم وأوزار جميع الكافرين الذين أتوا من بعدهم وقلدوهم، كما قال تعالى :﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُم، وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾. توالت الآيات البينات في كشف القناع، وإلقاء الأضواء، على المساوئ التي اتصف بها بنو إسرائيل ومن سلك طريقهم، فمن كتمان لحق وطمس لمعالمه، إلى تزييف للحق وتلبيس له بالباطل، إلى تبديل لكلمات الله وتحريف لمعانيها، إلى نفاق في السلوك وازدواج في الشخصية، ينشأ عنه تناقض صارخ بين الظاهر والباطن، واختلاف كبير بين الأقوال والأعمال، ﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٤٢ ) ﴾، ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ﴾، ﴿ فَبَدَّلَ الذِينَ ظَلَمُوا قَولاً غَيرَ الذِي قِيلَ لَهُم ﴾،
ثم أخذت الآيات الكريمة في تذكير بني إسرائيل بالأطوار الغامضة المضطربة التي مروا بها، وفي تعريف غيرهم بتلك الأطوار حتى يحسبوا لها ألف حساب في الموعظة والاعتبار.
فمن إشارة إلى المعاملة القاسية والمحنة الكبرى التي لاقوها على يد فرعون وقومه، وما نالهم بعدها على يد موسى الكليم من نجاة وحرية.
ومن إشارة إلى ما أكرم الله به موسى من تكليم ووحي، وما أتى قومه من نعم وارفة الظلال، حيث ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأباح لهم أكل الطيبات من الرزق، وقبل منهم التوبة بعد ارتكاب أكبر الذنوب والموبقات.
ومن تعريض بما ارتكبوه من انحراف عن الحق وانتكاس عن الهدى، حيث عبدوا العجل عندما غاب عنهم موسى، ثم طالبوه برؤية الله عيانا متحدين له عندما عاد إليهم ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ﴾، ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾.
وواضح أن ما تذمه هذه الآيات وتنعاه على بني إسرائيل، من كتمان للحق، وتلبيس له بالباطل، ونفاق في السلوك، وجرأة على الله، وعناد لرسله، وتجاهل لنعم الله المتوالية وكفران بها-رغما عن أهميتها الكبرى-وإن كان الخطاب به متجها في الأصل إلى بني إسرائيل-ليس قاصرا عليهم وحدهم دون بقية الناس، بل إن ما فيه من الذم والنعي كما ينطبق عليهم بالأصالة، ينطبق بالتبع على جميع من سلك مسلكهم واقتدى بهم في خصالهم المستقبحة وسلوكهم المنحرف، وبذلك تعتبر هذه الآيات تنبيها دائما للمسلمين، وتحذيرا لهم، وإنذارا صريحا للمنحرفين منهم عن سواء السبيل، بسوء العاقبة وقبح المصير.
ومما يناسب الوقوف عنده وقفة خاصة من هذه الآيات قوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ( ٤٥ ) ﴾، وقوله تعالى :﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ٥٨ ) ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ( ٥٩ ) ﴾.
ذلك أن الخطاب الإلهي في هذه الآيات يعتبر توجيها عاما لا خاصا، فقوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾. فيه لفت نظر المؤمن العاقل إلى ما بين الصبر والصلاة من تلازم في الغاية، وإلى ما بين الصبر والصلاة من تكامل في الطبيعة، بحيث يعتبر مجموعهما وكل منهما عونا إلهيا على مجابهة متاعب الحياة، ومددا ربانيا للتغلب على مشاكلها اليومية.
فبالصلاة يقوى الرجاء في الله، ويرتكز الإيمان بالقدر خيره وشره على أقوى أساس، وعن طريق الصلاة يستمد المؤمن الهداية والإعانة من ربه دون انقطاع.
وبالصبر يواجه المؤمن مسؤولياته الملقاة على عاتقه، بحكم أمانة الاستخلاف عن الله، مطمئن القلب، منشرح الصدر، معتصما بالله، معتمدا عليه، وقد تكرر هذا المعنى في نفس سورة البقرة بخطاب إلهي موجه إلى المؤمنين بالذات، إذ قال تعالى :﴿ فَاذكُرُوني أَذكُركُمْ واشْكُرُوا لِي ولاَ تَكفُرُونِ ﴾- ﴿ يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾. دعوة من الله إلى عباده المؤمنين للإقبال على مائدته، والتناول من بساط رزقه الممدود غير المحدود، لكن مع الاقتصار على ( الطيبات ) التي أحلها، والاكتفاء بها دون ( الخبائث ) التي حرمها ﴿ وَيُحلُّ لَهُمُ الطَّيَباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ٥٨ ) ﴾، وعد إلهي للمحسنين من عباده بالزيادة في رزقهم، وإغداق النعم عليهم، وكما يقتضي منطوق هذا النص وعدا للمحسنين بالمزيد من فضل الله وكرمه، فإن مفهومه يتضمن وعيدا للمسيئين بالنقص والحرمان، على حد قوله تعالى :﴿ فَأنزَلنَا عَلَى الذِينَ ظَلَمُوا رِجزاُ مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ ﴾ فيه تحذير من ظلم عباده والعدوان على حقوقهم، إذ الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، طبقا لما جاء في الأثر، كما أن فيه إنذارا للظالمين بالعقاب الرادع والعذاب الشديد، ينزل عليهم من حيث لا ينتظرون ﴿ رِجزاً مِّنَ السَّماءِ ﴾، وقوله :﴿ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ( ٥٩ ) ﴾ إدراج لمعنى الظلم في إطار الفسق نفسه، وتأكيد لما سبق من الآيات في وصف ( الفاسقين ) من خيانة للعهود، وقطع للأرحام، وإفساد في الأرض، فالظلم في حد ذاته أكبر مظهر للفساد في الأرض، وبذلك يندرج تحت الفسق ويلازم الفاسقين.
أما قوله تعالى :﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ( ٤٧ ) ﴾ فإنه يشير إلى الفترة القصيرة التي استقاموا فيها على طريقة موسى الكليم، ففي تلك الفترة التي لم تطل كان المؤمنون من بني إسرائيل أفضل من غيرهم، ممن حولهم من الكفار والمشركين، حتى إذا ما بدلوا وظلموا عاقبهم الله بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ٥٧ ) ﴾
ولعل أعظم تأنيب يوجه إلى الشخص بعد تجريده من شرفه وإنزاله عن مكانته عقابا له وتأديبا، هو تذكيره بما كان له من شرف سابق عند مولاه، ومكانة مرموقة عند الناس، حتى يقارن بنفسه بين يومه وأمسه، وسعده ونحسه، ﴿ كَذَلِكَ يُريهِمُ اللهُ أعمَالَهُم حَسَراتٍ عَلَيْهِم ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:الربع الثالث من الحزب الأول في المصحف الكريم
والحديث في هذا الربع متجه إلى بني إسرائيل المقيمين بالمدينة وما حولها، فقد كانت جالية كبيرة منهم تعايش الرسول وأصحابه المهاجرين والأنصار خلال الفترة التي تلت الهجرة النبوية، وكان لها نشاط هدام يتطلب من الإسلام يقظة وحذرا بالغين، وعن طريق هؤلاء يتجه الحديث في الحقيقة إلى جميع بني إسرائيل في العالم، وإلى الكتابيين جميعا.
فبعدما استغربت الآيات الكريمة موقفهم من الإسلام والقرآن، وأشارت إلى أن اعتراف الدعوة الإسلامية برسالة موسى الكليم كان يقتضي مبادرتهم إلى تصديق هذه الدعوة والدخول تحت لوائها، وأن المعقول والمنتظر منهم هو أن يكونوا أسبق الكتابيين إلى الإيمان بالقرآن، لا أول الكافرين به كما ارتضوا ذلك لأنفسهم، فتحملوا وزرهم وأوزار جميع الكافرين الذين أتوا من بعدهم وقلدوهم، كما قال تعالى :﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُم، وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾. توالت الآيات البينات في كشف القناع، وإلقاء الأضواء، على المساوئ التي اتصف بها بنو إسرائيل ومن سلك طريقهم، فمن كتمان لحق وطمس لمعالمه، إلى تزييف للحق وتلبيس له بالباطل، إلى تبديل لكلمات الله وتحريف لمعانيها، إلى نفاق في السلوك وازدواج في الشخصية، ينشأ عنه تناقض صارخ بين الظاهر والباطن، واختلاف كبير بين الأقوال والأعمال، ﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٤٢ ) ﴾، ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ﴾، ﴿ فَبَدَّلَ الذِينَ ظَلَمُوا قَولاً غَيرَ الذِي قِيلَ لَهُم ﴾،
ثم أخذت الآيات الكريمة في تذكير بني إسرائيل بالأطوار الغامضة المضطربة التي مروا بها، وفي تعريف غيرهم بتلك الأطوار حتى يحسبوا لها ألف حساب في الموعظة والاعتبار.
فمن إشارة إلى المعاملة القاسية والمحنة الكبرى التي لاقوها على يد فرعون وقومه، وما نالهم بعدها على يد موسى الكليم من نجاة وحرية.
ومن إشارة إلى ما أكرم الله به موسى من تكليم ووحي، وما أتى قومه من نعم وارفة الظلال، حيث ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأباح لهم أكل الطيبات من الرزق، وقبل منهم التوبة بعد ارتكاب أكبر الذنوب والموبقات.
ومن تعريض بما ارتكبوه من انحراف عن الحق وانتكاس عن الهدى، حيث عبدوا العجل عندما غاب عنهم موسى، ثم طالبوه برؤية الله عيانا متحدين له عندما عاد إليهم ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ﴾، ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾.
وواضح أن ما تذمه هذه الآيات وتنعاه على بني إسرائيل، من كتمان للحق، وتلبيس له بالباطل، ونفاق في السلوك، وجرأة على الله، وعناد لرسله، وتجاهل لنعم الله المتوالية وكفران بها-رغما عن أهميتها الكبرى-وإن كان الخطاب به متجها في الأصل إلى بني إسرائيل-ليس قاصرا عليهم وحدهم دون بقية الناس، بل إن ما فيه من الذم والنعي كما ينطبق عليهم بالأصالة، ينطبق بالتبع على جميع من سلك مسلكهم واقتدى بهم في خصالهم المستقبحة وسلوكهم المنحرف، وبذلك تعتبر هذه الآيات تنبيها دائما للمسلمين، وتحذيرا لهم، وإنذارا صريحا للمنحرفين منهم عن سواء السبيل، بسوء العاقبة وقبح المصير.
ومما يناسب الوقوف عنده وقفة خاصة من هذه الآيات قوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ( ٤٥ ) ﴾، وقوله تعالى :﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ٥٨ ) ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ( ٥٩ ) ﴾.
ذلك أن الخطاب الإلهي في هذه الآيات يعتبر توجيها عاما لا خاصا، فقوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾. فيه لفت نظر المؤمن العاقل إلى ما بين الصبر والصلاة من تلازم في الغاية، وإلى ما بين الصبر والصلاة من تكامل في الطبيعة، بحيث يعتبر مجموعهما وكل منهما عونا إلهيا على مجابهة متاعب الحياة، ومددا ربانيا للتغلب على مشاكلها اليومية.
فبالصلاة يقوى الرجاء في الله، ويرتكز الإيمان بالقدر خيره وشره على أقوى أساس، وعن طريق الصلاة يستمد المؤمن الهداية والإعانة من ربه دون انقطاع.
وبالصبر يواجه المؤمن مسؤولياته الملقاة على عاتقه، بحكم أمانة الاستخلاف عن الله، مطمئن القلب، منشرح الصدر، معتصما بالله، معتمدا عليه، وقد تكرر هذا المعنى في نفس سورة البقرة بخطاب إلهي موجه إلى المؤمنين بالذات، إذ قال تعالى :﴿ فَاذكُرُوني أَذكُركُمْ واشْكُرُوا لِي ولاَ تَكفُرُونِ ﴾- ﴿ يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾. دعوة من الله إلى عباده المؤمنين للإقبال على مائدته، والتناول من بساط رزقه الممدود غير المحدود، لكن مع الاقتصار على ( الطيبات ) التي أحلها، والاكتفاء بها دون ( الخبائث ) التي حرمها ﴿ وَيُحلُّ لَهُمُ الطَّيَباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ٥٨ ) ﴾، وعد إلهي للمحسنين من عباده بالزيادة في رزقهم، وإغداق النعم عليهم، وكما يقتضي منطوق هذا النص وعدا للمحسنين بالمزيد من فضل الله وكرمه، فإن مفهومه يتضمن وعيدا للمسيئين بالنقص والحرمان، على حد قوله تعالى :﴿ فَأنزَلنَا عَلَى الذِينَ ظَلَمُوا رِجزاُ مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ ﴾ فيه تحذير من ظلم عباده والعدوان على حقوقهم، إذ الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، طبقا لما جاء في الأثر، كما أن فيه إنذارا للظالمين بالعقاب الرادع والعذاب الشديد، ينزل عليهم من حيث لا ينتظرون ﴿ رِجزاً مِّنَ السَّماءِ ﴾، وقوله :﴿ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ( ٥٩ ) ﴾ إدراج لمعنى الظلم في إطار الفسق نفسه، وتأكيد لما سبق من الآيات في وصف ( الفاسقين ) من خيانة للعهود، وقطع للأرحام، وإفساد في الأرض، فالظلم في حد ذاته أكبر مظهر للفساد في الأرض، وبذلك يندرج تحت الفسق ويلازم الفاسقين.
أما قوله تعالى :﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ( ٤٧ ) ﴾ فإنه يشير إلى الفترة القصيرة التي استقاموا فيها على طريقة موسى الكليم، ففي تلك الفترة التي لم تطل كان المؤمنون من بني إسرائيل أفضل من غيرهم، ممن حولهم من الكفار والمشركين، حتى إذا ما بدلوا وظلموا عاقبهم الله بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ٥٧ ) ﴾
ولعل أعظم تأنيب يوجه إلى الشخص بعد تجريده من شرفه وإنزاله عن مكانته عقابا له وتأديبا، هو تذكيره بما كان له من شرف سابق عند مولاه، ومكانة مرموقة عند الناس، حتى يقارن بنفسه بين يومه وأمسه، وسعده ونحسه، ﴿ كَذَلِكَ يُريهِمُ اللهُ أعمَالَهُم حَسَراتٍ عَلَيْهِم ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:الربع الثالث من الحزب الأول في المصحف الكريم
والحديث في هذا الربع متجه إلى بني إسرائيل المقيمين بالمدينة وما حولها، فقد كانت جالية كبيرة منهم تعايش الرسول وأصحابه المهاجرين والأنصار خلال الفترة التي تلت الهجرة النبوية، وكان لها نشاط هدام يتطلب من الإسلام يقظة وحذرا بالغين، وعن طريق هؤلاء يتجه الحديث في الحقيقة إلى جميع بني إسرائيل في العالم، وإلى الكتابيين جميعا.
فبعدما استغربت الآيات الكريمة موقفهم من الإسلام والقرآن، وأشارت إلى أن اعتراف الدعوة الإسلامية برسالة موسى الكليم كان يقتضي مبادرتهم إلى تصديق هذه الدعوة والدخول تحت لوائها، وأن المعقول والمنتظر منهم هو أن يكونوا أسبق الكتابيين إلى الإيمان بالقرآن، لا أول الكافرين به كما ارتضوا ذلك لأنفسهم، فتحملوا وزرهم وأوزار جميع الكافرين الذين أتوا من بعدهم وقلدوهم، كما قال تعالى :﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُم، وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾. توالت الآيات البينات في كشف القناع، وإلقاء الأضواء، على المساوئ التي اتصف بها بنو إسرائيل ومن سلك طريقهم، فمن كتمان لحق وطمس لمعالمه، إلى تزييف للحق وتلبيس له بالباطل، إلى تبديل لكلمات الله وتحريف لمعانيها، إلى نفاق في السلوك وازدواج في الشخصية، ينشأ عنه تناقض صارخ بين الظاهر والباطن، واختلاف كبير بين الأقوال والأعمال، ﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٤٢ ) ﴾، ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ﴾، ﴿ فَبَدَّلَ الذِينَ ظَلَمُوا قَولاً غَيرَ الذِي قِيلَ لَهُم ﴾،
ثم أخذت الآيات الكريمة في تذكير بني إسرائيل بالأطوار الغامضة المضطربة التي مروا بها، وفي تعريف غيرهم بتلك الأطوار حتى يحسبوا لها ألف حساب في الموعظة والاعتبار.
فمن إشارة إلى المعاملة القاسية والمحنة الكبرى التي لاقوها على يد فرعون وقومه، وما نالهم بعدها على يد موسى الكليم من نجاة وحرية.
ومن إشارة إلى ما أكرم الله به موسى من تكليم ووحي، وما أتى قومه من نعم وارفة الظلال، حيث ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأباح لهم أكل الطيبات من الرزق، وقبل منهم التوبة بعد ارتكاب أكبر الذنوب والموبقات.
ومن تعريض بما ارتكبوه من انحراف عن الحق وانتكاس عن الهدى، حيث عبدوا العجل عندما غاب عنهم موسى، ثم طالبوه برؤية الله عيانا متحدين له عندما عاد إليهم ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ﴾، ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾.
وواضح أن ما تذمه هذه الآيات وتنعاه على بني إسرائيل، من كتمان للحق، وتلبيس له بالباطل، ونفاق في السلوك، وجرأة على الله، وعناد لرسله، وتجاهل لنعم الله المتوالية وكفران بها-رغما عن أهميتها الكبرى-وإن كان الخطاب به متجها في الأصل إلى بني إسرائيل-ليس قاصرا عليهم وحدهم دون بقية الناس، بل إن ما فيه من الذم والنعي كما ينطبق عليهم بالأصالة، ينطبق بالتبع على جميع من سلك مسلكهم واقتدى بهم في خصالهم المستقبحة وسلوكهم المنحرف، وبذلك تعتبر هذه الآيات تنبيها دائما للمسلمين، وتحذيرا لهم، وإنذارا صريحا للمنحرفين منهم عن سواء السبيل، بسوء العاقبة وقبح المصير.
ومما يناسب الوقوف عنده وقفة خاصة من هذه الآيات قوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ( ٤٥ ) ﴾، وقوله تعالى :﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ٥٨ ) ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ( ٥٩ ) ﴾.
ذلك أن الخطاب الإلهي في هذه الآيات يعتبر توجيها عاما لا خاصا، فقوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾. فيه لفت نظر المؤمن العاقل إلى ما بين الصبر والصلاة من تلازم في الغاية، وإلى ما بين الصبر والصلاة من تكامل في الطبيعة، بحيث يعتبر مجموعهما وكل منهما عونا إلهيا على مجابهة متاعب الحياة، ومددا ربانيا للتغلب على مشاكلها اليومية.
فبالصلاة يقوى الرجاء في الله، ويرتكز الإيمان بالقدر خيره وشره على أقوى أساس، وعن طريق الصلاة يستمد المؤمن الهداية والإعانة من ربه دون انقطاع.
وبالصبر يواجه المؤمن مسؤولياته الملقاة على عاتقه، بحكم أمانة الاستخلاف عن الله، مطمئن القلب، منشرح الصدر، معتصما بالله، معتمدا عليه، وقد تكرر هذا المعنى في نفس سورة البقرة بخطاب إلهي موجه إلى المؤمنين بالذات، إذ قال تعالى :﴿ فَاذكُرُوني أَذكُركُمْ واشْكُرُوا لِي ولاَ تَكفُرُونِ ﴾- ﴿ يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾. دعوة من الله إلى عباده المؤمنين للإقبال على مائدته، والتناول من بساط رزقه الممدود غير المحدود، لكن مع الاقتصار على ( الطيبات ) التي أحلها، والاكتفاء بها دون ( الخبائث ) التي حرمها ﴿ وَيُحلُّ لَهُمُ الطَّيَباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ٥٨ ) ﴾، وعد إلهي للمحسنين من عباده بالزيادة في رزقهم، وإغداق النعم عليهم، وكما يقتضي منطوق هذا النص وعدا للمحسنين بالمزيد من فضل الله وكرمه، فإن مفهومه يتضمن وعيدا للمسيئين بالنقص والحرمان، على حد قوله تعالى :﴿ فَأنزَلنَا عَلَى الذِينَ ظَلَمُوا رِجزاُ مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ ﴾ فيه تحذير من ظلم عباده والعدوان على حقوقهم، إذ الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، طبقا لما جاء في الأثر، كما أن فيه إنذارا للظالمين بالعقاب الرادع والعذاب الشديد، ينزل عليهم من حيث لا ينتظرون ﴿ رِجزاً مِّنَ السَّماءِ ﴾، وقوله :﴿ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ( ٥٩ ) ﴾ إدراج لمعنى الظلم في إطار الفسق نفسه، وتأكيد لما سبق من الآيات في وصف ( الفاسقين ) من خيانة للعهود، وقطع للأرحام، وإفساد في الأرض، فالظلم في حد ذاته أكبر مظهر للفساد في الأرض، وبذلك يندرج تحت الفسق ويلازم الفاسقين.
أما قوله تعالى :﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ( ٤٧ ) ﴾ فإنه يشير إلى الفترة القصيرة التي استقاموا فيها على طريقة موسى الكليم، ففي تلك الفترة التي لم تطل كان المؤمنون من بني إسرائيل أفضل من غيرهم، ممن حولهم من الكفار والمشركين، حتى إذا ما بدلوا وظلموا عاقبهم الله بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ٥٧ ) ﴾
ولعل أعظم تأنيب يوجه إلى الشخص بعد تجريده من شرفه وإنزاله عن مكانته عقابا له وتأديبا، هو تذكيره بما كان له من شرف سابق عند مولاه، ومكانة مرموقة عند الناس، حتى يقارن بنفسه بين يومه وأمسه، وسعده ونحسه، ﴿ كَذَلِكَ يُريهِمُ اللهُ أعمَالَهُم حَسَراتٍ عَلَيْهِم ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:الربع الثالث من الحزب الأول في المصحف الكريم
والحديث في هذا الربع متجه إلى بني إسرائيل المقيمين بالمدينة وما حولها، فقد كانت جالية كبيرة منهم تعايش الرسول وأصحابه المهاجرين والأنصار خلال الفترة التي تلت الهجرة النبوية، وكان لها نشاط هدام يتطلب من الإسلام يقظة وحذرا بالغين، وعن طريق هؤلاء يتجه الحديث في الحقيقة إلى جميع بني إسرائيل في العالم، وإلى الكتابيين جميعا.
فبعدما استغربت الآيات الكريمة موقفهم من الإسلام والقرآن، وأشارت إلى أن اعتراف الدعوة الإسلامية برسالة موسى الكليم كان يقتضي مبادرتهم إلى تصديق هذه الدعوة والدخول تحت لوائها، وأن المعقول والمنتظر منهم هو أن يكونوا أسبق الكتابيين إلى الإيمان بالقرآن، لا أول الكافرين به كما ارتضوا ذلك لأنفسهم، فتحملوا وزرهم وأوزار جميع الكافرين الذين أتوا من بعدهم وقلدوهم، كما قال تعالى :﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُم، وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾. توالت الآيات البينات في كشف القناع، وإلقاء الأضواء، على المساوئ التي اتصف بها بنو إسرائيل ومن سلك طريقهم، فمن كتمان لحق وطمس لمعالمه، إلى تزييف للحق وتلبيس له بالباطل، إلى تبديل لكلمات الله وتحريف لمعانيها، إلى نفاق في السلوك وازدواج في الشخصية، ينشأ عنه تناقض صارخ بين الظاهر والباطن، واختلاف كبير بين الأقوال والأعمال، ﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٤٢ ) ﴾، ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ﴾، ﴿ فَبَدَّلَ الذِينَ ظَلَمُوا قَولاً غَيرَ الذِي قِيلَ لَهُم ﴾،
ثم أخذت الآيات الكريمة في تذكير بني إسرائيل بالأطوار الغامضة المضطربة التي مروا بها، وفي تعريف غيرهم بتلك الأطوار حتى يحسبوا لها ألف حساب في الموعظة والاعتبار.
فمن إشارة إلى المعاملة القاسية والمحنة الكبرى التي لاقوها على يد فرعون وقومه، وما نالهم بعدها على يد موسى الكليم من نجاة وحرية.
ومن إشارة إلى ما أكرم الله به موسى من تكليم ووحي، وما أتى قومه من نعم وارفة الظلال، حيث ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأباح لهم أكل الطيبات من الرزق، وقبل منهم التوبة بعد ارتكاب أكبر الذنوب والموبقات.
ومن تعريض بما ارتكبوه من انحراف عن الحق وانتكاس عن الهدى، حيث عبدوا العجل عندما غاب عنهم موسى، ثم طالبوه برؤية الله عيانا متحدين له عندما عاد إليهم ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ﴾، ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾.
وواضح أن ما تذمه هذه الآيات وتنعاه على بني إسرائيل، من كتمان للحق، وتلبيس له بالباطل، ونفاق في السلوك، وجرأة على الله، وعناد لرسله، وتجاهل لنعم الله المتوالية وكفران بها-رغما عن أهميتها الكبرى-وإن كان الخطاب به متجها في الأصل إلى بني إسرائيل-ليس قاصرا عليهم وحدهم دون بقية الناس، بل إن ما فيه من الذم والنعي كما ينطبق عليهم بالأصالة، ينطبق بالتبع على جميع من سلك مسلكهم واقتدى بهم في خصالهم المستقبحة وسلوكهم المنحرف، وبذلك تعتبر هذه الآيات تنبيها دائما للمسلمين، وتحذيرا لهم، وإنذارا صريحا للمنحرفين منهم عن سواء السبيل، بسوء العاقبة وقبح المصير.
ومما يناسب الوقوف عنده وقفة خاصة من هذه الآيات قوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ( ٤٥ ) ﴾، وقوله تعالى :﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ٥٨ ) ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ( ٥٩ ) ﴾.
ذلك أن الخطاب الإلهي في هذه الآيات يعتبر توجيها عاما لا خاصا، فقوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾. فيه لفت نظر المؤمن العاقل إلى ما بين الصبر والصلاة من تلازم في الغاية، وإلى ما بين الصبر والصلاة من تكامل في الطبيعة، بحيث يعتبر مجموعهما وكل منهما عونا إلهيا على مجابهة متاعب الحياة، ومددا ربانيا للتغلب على مشاكلها اليومية.
فبالصلاة يقوى الرجاء في الله، ويرتكز الإيمان بالقدر خيره وشره على أقوى أساس، وعن طريق الصلاة يستمد المؤمن الهداية والإعانة من ربه دون انقطاع.
وبالصبر يواجه المؤمن مسؤولياته الملقاة على عاتقه، بحكم أمانة الاستخلاف عن الله، مطمئن القلب، منشرح الصدر، معتصما بالله، معتمدا عليه، وقد تكرر هذا المعنى في نفس سورة البقرة بخطاب إلهي موجه إلى المؤمنين بالذات، إذ قال تعالى :﴿ فَاذكُرُوني أَذكُركُمْ واشْكُرُوا لِي ولاَ تَكفُرُونِ ﴾- ﴿ يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾. دعوة من الله إلى عباده المؤمنين للإقبال على مائدته، والتناول من بساط رزقه الممدود غير المحدود، لكن مع الاقتصار على ( الطيبات ) التي أحلها، والاكتفاء بها دون ( الخبائث ) التي حرمها ﴿ وَيُحلُّ لَهُمُ الطَّيَباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ٥٨ ) ﴾، وعد إلهي للمحسنين من عباده بالزيادة في رزقهم، وإغداق النعم عليهم، وكما يقتضي منطوق هذا النص وعدا للمحسنين بالمزيد من فضل الله وكرمه، فإن مفهومه يتضمن وعيدا للمسيئين بالنقص والحرمان، على حد قوله تعالى :﴿ فَأنزَلنَا عَلَى الذِينَ ظَلَمُوا رِجزاُ مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ ﴾ فيه تحذير من ظلم عباده والعدوان على حقوقهم، إذ الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، طبقا لما جاء في الأثر، كما أن فيه إنذارا للظالمين بالعقاب الرادع والعذاب الشديد، ينزل عليهم من حيث لا ينتظرون ﴿ رِجزاً مِّنَ السَّماءِ ﴾، وقوله :﴿ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ( ٥٩ ) ﴾ إدراج لمعنى الظلم في إطار الفسق نفسه، وتأكيد لما سبق من الآيات في وصف ( الفاسقين ) من خيانة للعهود، وقطع للأرحام، وإفساد في الأرض، فالظلم في حد ذاته أكبر مظهر للفساد في الأرض، وبذلك يندرج تحت الفسق ويلازم الفاسقين.
أما قوله تعالى :﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ( ٤٧ ) ﴾ فإنه يشير إلى الفترة القصيرة التي استقاموا فيها على طريقة موسى الكليم، ففي تلك الفترة التي لم تطل كان المؤمنون من بني إسرائيل أفضل من غيرهم، ممن حولهم من الكفار والمشركين، حتى إذا ما بدلوا وظلموا عاقبهم الله بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ٥٧ ) ﴾
ولعل أعظم تأنيب يوجه إلى الشخص بعد تجريده من شرفه وإنزاله عن مكانته عقابا له وتأديبا، هو تذكيره بما كان له من شرف سابق عند مولاه، ومكانة مرموقة عند الناس، حتى يقارن بنفسه بين يومه وأمسه، وسعده ونحسه، ﴿ كَذَلِكَ يُريهِمُ اللهُ أعمَالَهُم حَسَراتٍ عَلَيْهِم ﴾.

الربع الأخير من الحزب الأول في المصحف الكريم
في هذا الربع الأخير من الحزب الأول استمرار في الحديث عن قصة موسى الكليم وقومه من بني إسرائيل، ووصف لما ناله عليه السلام من إعنات وإرهاق في سبيل هدايتهم، وما قابلوا به رسالته من استكبار ودلال وعناد.
وفيه بالخصوص وصف موجز لمعجزة موسى عندما قام يستسقي لقومه، فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. ثم فيه وصف مستفيض لمعجزة موسى بعد ذبح البقرة، عندما استحالت عليه معرفة قاتل ارتكب جريمة القتل خفية، فأمر بني إسرائيل بذبح بقرة، وإلقاء عضو منها على القتيل، فأحياه الله بعد قتله، ونطق باسم القاتل، وكان ذلك معجزة جديدة لموسى الكليم.
وفي معرض الحديث عن هاتين المعجزتين، تناولت الآيات بالوصف الدقيق ما كان عليه بنو إسرائيل من شك وتردد وعناد، وإغراق في الجدل الفارغ، وتضييع للوقت في المناقشات الجزئية والجانبية بالمرة.
فها هم أولاء يعربون عن سخطهم وعدم رضاهم بما رزقهم الله، ويلحون على موسى أن يدعو ربه، لتنبت لهم الأرض نباتات أخرى ترضي شهوتهم، وتكفي نهمهم ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾.
وهاهم أولاء يجادلون موسى في شأن البقرة التي أمرهم الله بذبحها جدالا عنيفا، فيلقون عليه وابلا من الأسئلة التي لا داعي إليها، مما يعبر عن شكهم، ويعرب عن ارتيابهم، في أمر بسيط لا يستحق كل هذا التردد، ولا كل هذه الحيرة ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾. - ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾. - ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا لونها ﴾. ثم كرروا مرة أخرى :﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾. -وأخيرا قالوا :﴿ قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ( ٧١ ) ﴾.
ويلاحظ فيما جرت حكايته على لسان بني إسرائيل أنهم بدلا من أن يقولوا ادع لنا " ربنا " يفضلون أن يقولوا " ادع لنا ربك "، ويكررونها عدة مرات بهذه الصيغة، كأنهم لا يزالون في شك من أمره، ولا يعتبرونه ربا لهم، بقدر ما يعتبرونه ربا لموسى وحده، وفي ذلك جحود منهم ظاهر لربوبية الله رب العالمين، وجرأة على مقامه الأقدس، وليس هذا بغريب عليهم، فقد قالوا من قبل لموسى كما سبق في الربع الماضي ﴿ يَا مُوسى لَن نُّومِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ﴾.
ثم ها هو الحق سبحانه وتعالى ينعتهم بوصف خطير ومثير، ذلك هو وصفهم بالقسوة التي هي أشد من قسوة الحجارة، وهل يرجى التأثير في قلب أقسى من الحجر الصلد ؟ ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ﴾. وهذا الوصف الذي وصف الله به بني إسرائيل هو السر في عنادهم وإصرارهم على ما هم عليه، والحافز لهم على الوقوف في وجه الدعوة الإسلامية موقف المعارضة والإنكار، والتبجح والاستكبار، كما كان موقفهم من المسيحية قبل الإسلام، وهو السر في موقفهم الانعزالي المتحفظ دائما من بقية الأمم والملل عبر التاريخ.
ويتجه الخطاب من جديد إلى المؤمنين، منبها إياهم إلى أن يقطعوا كل أمل في انتقال بني إسرائيل انتقالا جماعيا من يهوديتهم إلى الإسلام، مذكرا بأن أولئك الذين سمعوا كلام الله بواسطة موسى الكليم، والذين عقلوا ما فيه، -وبالرغم عن ذلك كله تجرأوا على تحريفه عمدا وقصدا لحاجة في أنفسهم- قد تجاوز عنادهم كل الحدود بحيث أصبحت الموعظة لا تؤثر فيهم، والذكرى لا تنفعهم ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٧٥ ﴾. ؟
ومن جهة أخرى، نجد الآيات الكريمة في هذا الربع تسجل غضب الله على بني إسرائيل، جزاء عصيانهم وعنادهم لأمره في مختلف المواقف، وكفاء تجاهلهم التام لإحسانه إليهم في مختلف المناسبات، إذ تقول الآيات :﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ( ٦١ ) ﴾.
ولا حاجة إلى التأكيد بأن عدل الله سبحانه يقتضي عقاب كل من عصاه وتعدى حدوده، في أي جيل، ومن أية ملة، إن لم يكن بنفس العقاب الذي ناله بنو إسرائيل، فبما يقرب منه ويدانيه، فضرب المثل بقصة موسى وقومه أولا، والقصد إلى الاعتبار بمضمونها وفحواها ثانيا، كل منهما غرض شريف من أغراض القرآن الكريم، ولذلك جاء في نفس السياق بعد قوله تعالى :﴿ فَقُلنَا لَهُم كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ( ٦٥ ) ﴾ -﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيهَا ومَا خَلْفَهَا وَمَوعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ( ٦٦ ) ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٠:الربع الأخير من الحزب الأول في المصحف الكريم
في هذا الربع الأخير من الحزب الأول استمرار في الحديث عن قصة موسى الكليم وقومه من بني إسرائيل، ووصف لما ناله عليه السلام من إعنات وإرهاق في سبيل هدايتهم، وما قابلوا به رسالته من استكبار ودلال وعناد.
وفيه بالخصوص وصف موجز لمعجزة موسى عندما قام يستسقي لقومه، فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. ثم فيه وصف مستفيض لمعجزة موسى بعد ذبح البقرة، عندما استحالت عليه معرفة قاتل ارتكب جريمة القتل خفية، فأمر بني إسرائيل بذبح بقرة، وإلقاء عضو منها على القتيل، فأحياه الله بعد قتله، ونطق باسم القاتل، وكان ذلك معجزة جديدة لموسى الكليم.
وفي معرض الحديث عن هاتين المعجزتين، تناولت الآيات بالوصف الدقيق ما كان عليه بنو إسرائيل من شك وتردد وعناد، وإغراق في الجدل الفارغ، وتضييع للوقت في المناقشات الجزئية والجانبية بالمرة.
فها هم أولاء يعربون عن سخطهم وعدم رضاهم بما رزقهم الله، ويلحون على موسى أن يدعو ربه، لتنبت لهم الأرض نباتات أخرى ترضي شهوتهم، وتكفي نهمهم ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾.
وهاهم أولاء يجادلون موسى في شأن البقرة التي أمرهم الله بذبحها جدالا عنيفا، فيلقون عليه وابلا من الأسئلة التي لا داعي إليها، مما يعبر عن شكهم، ويعرب عن ارتيابهم، في أمر بسيط لا يستحق كل هذا التردد، ولا كل هذه الحيرة ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾. - ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾. - ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا لونها ﴾. ثم كرروا مرة أخرى :﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾. -وأخيرا قالوا :﴿ قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ( ٧١ ) ﴾.
ويلاحظ فيما جرت حكايته على لسان بني إسرائيل أنهم بدلا من أن يقولوا ادع لنا " ربنا " يفضلون أن يقولوا " ادع لنا ربك "، ويكررونها عدة مرات بهذه الصيغة، كأنهم لا يزالون في شك من أمره، ولا يعتبرونه ربا لهم، بقدر ما يعتبرونه ربا لموسى وحده، وفي ذلك جحود منهم ظاهر لربوبية الله رب العالمين، وجرأة على مقامه الأقدس، وليس هذا بغريب عليهم، فقد قالوا من قبل لموسى كما سبق في الربع الماضي ﴿ يَا مُوسى لَن نُّومِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ﴾.
ثم ها هو الحق سبحانه وتعالى ينعتهم بوصف خطير ومثير، ذلك هو وصفهم بالقسوة التي هي أشد من قسوة الحجارة، وهل يرجى التأثير في قلب أقسى من الحجر الصلد ؟ ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ﴾. وهذا الوصف الذي وصف الله به بني إسرائيل هو السر في عنادهم وإصرارهم على ما هم عليه، والحافز لهم على الوقوف في وجه الدعوة الإسلامية موقف المعارضة والإنكار، والتبجح والاستكبار، كما كان موقفهم من المسيحية قبل الإسلام، وهو السر في موقفهم الانعزالي المتحفظ دائما من بقية الأمم والملل عبر التاريخ.
ويتجه الخطاب من جديد إلى المؤمنين، منبها إياهم إلى أن يقطعوا كل أمل في انتقال بني إسرائيل انتقالا جماعيا من يهوديتهم إلى الإسلام، مذكرا بأن أولئك الذين سمعوا كلام الله بواسطة موسى الكليم، والذين عقلوا ما فيه، -وبالرغم عن ذلك كله تجرأوا على تحريفه عمدا وقصدا لحاجة في أنفسهم- قد تجاوز عنادهم كل الحدود بحيث أصبحت الموعظة لا تؤثر فيهم، والذكرى لا تنفعهم ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٧٥ ﴾. ؟
ومن جهة أخرى، نجد الآيات الكريمة في هذا الربع تسجل غضب الله على بني إسرائيل، جزاء عصيانهم وعنادهم لأمره في مختلف المواقف، وكفاء تجاهلهم التام لإحسانه إليهم في مختلف المناسبات، إذ تقول الآيات :﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ( ٦١ ) ﴾.
ولا حاجة إلى التأكيد بأن عدل الله سبحانه يقتضي عقاب كل من عصاه وتعدى حدوده، في أي جيل، ومن أية ملة، إن لم يكن بنفس العقاب الذي ناله بنو إسرائيل، فبما يقرب منه ويدانيه، فضرب المثل بقصة موسى وقومه أولا، والقصد إلى الاعتبار بمضمونها وفحواها ثانيا، كل منهما غرض شريف من أغراض القرآن الكريم، ولذلك جاء في نفس السياق بعد قوله تعالى :﴿ فَقُلنَا لَهُم كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ( ٦٥ ) ﴾ -﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيهَا ومَا خَلْفَهَا وَمَوعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ( ٦٦ ) ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٠:الربع الأخير من الحزب الأول في المصحف الكريم
في هذا الربع الأخير من الحزب الأول استمرار في الحديث عن قصة موسى الكليم وقومه من بني إسرائيل، ووصف لما ناله عليه السلام من إعنات وإرهاق في سبيل هدايتهم، وما قابلوا به رسالته من استكبار ودلال وعناد.
وفيه بالخصوص وصف موجز لمعجزة موسى عندما قام يستسقي لقومه، فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. ثم فيه وصف مستفيض لمعجزة موسى بعد ذبح البقرة، عندما استحالت عليه معرفة قاتل ارتكب جريمة القتل خفية، فأمر بني إسرائيل بذبح بقرة، وإلقاء عضو منها على القتيل، فأحياه الله بعد قتله، ونطق باسم القاتل، وكان ذلك معجزة جديدة لموسى الكليم.
وفي معرض الحديث عن هاتين المعجزتين، تناولت الآيات بالوصف الدقيق ما كان عليه بنو إسرائيل من شك وتردد وعناد، وإغراق في الجدل الفارغ، وتضييع للوقت في المناقشات الجزئية والجانبية بالمرة.
فها هم أولاء يعربون عن سخطهم وعدم رضاهم بما رزقهم الله، ويلحون على موسى أن يدعو ربه، لتنبت لهم الأرض نباتات أخرى ترضي شهوتهم، وتكفي نهمهم ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾.
وهاهم أولاء يجادلون موسى في شأن البقرة التي أمرهم الله بذبحها جدالا عنيفا، فيلقون عليه وابلا من الأسئلة التي لا داعي إليها، مما يعبر عن شكهم، ويعرب عن ارتيابهم، في أمر بسيط لا يستحق كل هذا التردد، ولا كل هذه الحيرة ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾. - ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾. - ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا لونها ﴾. ثم كرروا مرة أخرى :﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾. -وأخيرا قالوا :﴿ قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ( ٧١ ) ﴾.
ويلاحظ فيما جرت حكايته على لسان بني إسرائيل أنهم بدلا من أن يقولوا ادع لنا " ربنا " يفضلون أن يقولوا " ادع لنا ربك "، ويكررونها عدة مرات بهذه الصيغة، كأنهم لا يزالون في شك من أمره، ولا يعتبرونه ربا لهم، بقدر ما يعتبرونه ربا لموسى وحده، وفي ذلك جحود منهم ظاهر لربوبية الله رب العالمين، وجرأة على مقامه الأقدس، وليس هذا بغريب عليهم، فقد قالوا من قبل لموسى كما سبق في الربع الماضي ﴿ يَا مُوسى لَن نُّومِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ﴾.
ثم ها هو الحق سبحانه وتعالى ينعتهم بوصف خطير ومثير، ذلك هو وصفهم بالقسوة التي هي أشد من قسوة الحجارة، وهل يرجى التأثير في قلب أقسى من الحجر الصلد ؟ ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ﴾. وهذا الوصف الذي وصف الله به بني إسرائيل هو السر في عنادهم وإصرارهم على ما هم عليه، والحافز لهم على الوقوف في وجه الدعوة الإسلامية موقف المعارضة والإنكار، والتبجح والاستكبار، كما كان موقفهم من المسيحية قبل الإسلام، وهو السر في موقفهم الانعزالي المتحفظ دائما من بقية الأمم والملل عبر التاريخ.
ويتجه الخطاب من جديد إلى المؤمنين، منبها إياهم إلى أن يقطعوا كل أمل في انتقال بني إسرائيل انتقالا جماعيا من يهوديتهم إلى الإسلام، مذكرا بأن أولئك الذين سمعوا كلام الله بواسطة موسى الكليم، والذين عقلوا ما فيه، -وبالرغم عن ذلك كله تجرأوا على تحريفه عمدا وقصدا لحاجة في أنفسهم- قد تجاوز عنادهم كل الحدود بحيث أصبحت الموعظة لا تؤثر فيهم، والذكرى لا تنفعهم ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٧٥ ﴾. ؟
ومن جهة أخرى، نجد الآيات الكريمة في هذا الربع تسجل غضب الله على بني إسرائيل، جزاء عصيانهم وعنادهم لأمره في مختلف المواقف، وكفاء تجاهلهم التام لإحسانه إليهم في مختلف المناسبات، إذ تقول الآيات :﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ( ٦١ ) ﴾.
ولا حاجة إلى التأكيد بأن عدل الله سبحانه يقتضي عقاب كل من عصاه وتعدى حدوده، في أي جيل، ومن أية ملة، إن لم يكن بنفس العقاب الذي ناله بنو إسرائيل، فبما يقرب منه ويدانيه، فضرب المثل بقصة موسى وقومه أولا، والقصد إلى الاعتبار بمضمونها وفحواها ثانيا، كل منهما غرض شريف من أغراض القرآن الكريم، ولذلك جاء في نفس السياق بعد قوله تعالى :﴿ فَقُلنَا لَهُم كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ( ٦٥ ) ﴾ -﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيهَا ومَا خَلْفَهَا وَمَوعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ( ٦٦ ) ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٠:الربع الأخير من الحزب الأول في المصحف الكريم
في هذا الربع الأخير من الحزب الأول استمرار في الحديث عن قصة موسى الكليم وقومه من بني إسرائيل، ووصف لما ناله عليه السلام من إعنات وإرهاق في سبيل هدايتهم، وما قابلوا به رسالته من استكبار ودلال وعناد.
وفيه بالخصوص وصف موجز لمعجزة موسى عندما قام يستسقي لقومه، فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. ثم فيه وصف مستفيض لمعجزة موسى بعد ذبح البقرة، عندما استحالت عليه معرفة قاتل ارتكب جريمة القتل خفية، فأمر بني إسرائيل بذبح بقرة، وإلقاء عضو منها على القتيل، فأحياه الله بعد قتله، ونطق باسم القاتل، وكان ذلك معجزة جديدة لموسى الكليم.
وفي معرض الحديث عن هاتين المعجزتين، تناولت الآيات بالوصف الدقيق ما كان عليه بنو إسرائيل من شك وتردد وعناد، وإغراق في الجدل الفارغ، وتضييع للوقت في المناقشات الجزئية والجانبية بالمرة.
فها هم أولاء يعربون عن سخطهم وعدم رضاهم بما رزقهم الله، ويلحون على موسى أن يدعو ربه، لتنبت لهم الأرض نباتات أخرى ترضي شهوتهم، وتكفي نهمهم ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾.
وهاهم أولاء يجادلون موسى في شأن البقرة التي أمرهم الله بذبحها جدالا عنيفا، فيلقون عليه وابلا من الأسئلة التي لا داعي إليها، مما يعبر عن شكهم، ويعرب عن ارتيابهم، في أمر بسيط لا يستحق كل هذا التردد، ولا كل هذه الحيرة ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾. - ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾. - ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا لونها ﴾. ثم كرروا مرة أخرى :﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾. -وأخيرا قالوا :﴿ قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ( ٧١ ) ﴾.
ويلاحظ فيما جرت حكايته على لسان بني إسرائيل أنهم بدلا من أن يقولوا ادع لنا " ربنا " يفضلون أن يقولوا " ادع لنا ربك "، ويكررونها عدة مرات بهذه الصيغة، كأنهم لا يزالون في شك من أمره، ولا يعتبرونه ربا لهم، بقدر ما يعتبرونه ربا لموسى وحده، وفي ذلك جحود منهم ظاهر لربوبية الله رب العالمين، وجرأة على مقامه الأقدس، وليس هذا بغريب عليهم، فقد قالوا من قبل لموسى كما سبق في الربع الماضي ﴿ يَا مُوسى لَن نُّومِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ﴾.
ثم ها هو الحق سبحانه وتعالى ينعتهم بوصف خطير ومثير، ذلك هو وصفهم بالقسوة التي هي أشد من قسوة الحجارة، وهل يرجى التأثير في قلب أقسى من الحجر الصلد ؟ ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ﴾. وهذا الوصف الذي وصف الله به بني إسرائيل هو السر في عنادهم وإصرارهم على ما هم عليه، والحافز لهم على الوقوف في وجه الدعوة الإسلامية موقف المعارضة والإنكار، والتبجح والاستكبار، كما كان موقفهم من المسيحية قبل الإسلام، وهو السر في موقفهم الانعزالي المتحفظ دائما من بقية الأمم والملل عبر التاريخ.
ويتجه الخطاب من جديد إلى المؤمنين، منبها إياهم إلى أن يقطعوا كل أمل في انتقال بني إسرائيل انتقالا جماعيا من يهوديتهم إلى الإسلام، مذكرا بأن أولئك الذين سمعوا كلام الله بواسطة موسى الكليم، والذين عقلوا ما فيه، -وبالرغم عن ذلك كله تجرأوا على تحريفه عمدا وقصدا لحاجة في أنفسهم- قد تجاوز عنادهم كل الحدود بحيث أصبحت الموعظة لا تؤثر فيهم، والذكرى لا تنفعهم ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٧٥ ﴾. ؟
ومن جهة أخرى، نجد الآيات الكريمة في هذا الربع تسجل غضب الله على بني إسرائيل، جزاء عصيانهم وعنادهم لأمره في مختلف المواقف، وكفاء تجاهلهم التام لإحسانه إليهم في مختلف المناسبات، إذ تقول الآيات :﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ( ٦١ ) ﴾.
ولا حاجة إلى التأكيد بأن عدل الله سبحانه يقتضي عقاب كل من عصاه وتعدى حدوده، في أي جيل، ومن أية ملة، إن لم يكن بنفس العقاب الذي ناله بنو إسرائيل، فبما يقرب منه ويدانيه، فضرب المثل بقصة موسى وقومه أولا، والقصد إلى الاعتبار بمضمونها وفحواها ثانيا، كل منهما غرض شريف من أغراض القرآن الكريم، ولذلك جاء في نفس السياق بعد قوله تعالى :﴿ فَقُلنَا لَهُم كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ( ٦٥ ) ﴾ -﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيهَا ومَا خَلْفَهَا وَمَوعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ( ٦٦ ) ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٠:الربع الأخير من الحزب الأول في المصحف الكريم
في هذا الربع الأخير من الحزب الأول استمرار في الحديث عن قصة موسى الكليم وقومه من بني إسرائيل، ووصف لما ناله عليه السلام من إعنات وإرهاق في سبيل هدايتهم، وما قابلوا به رسالته من استكبار ودلال وعناد.
وفيه بالخصوص وصف موجز لمعجزة موسى عندما قام يستسقي لقومه، فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. ثم فيه وصف مستفيض لمعجزة موسى بعد ذبح البقرة، عندما استحالت عليه معرفة قاتل ارتكب جريمة القتل خفية، فأمر بني إسرائيل بذبح بقرة، وإلقاء عضو منها على القتيل، فأحياه الله بعد قتله، ونطق باسم القاتل، وكان ذلك معجزة جديدة لموسى الكليم.
وفي معرض الحديث عن هاتين المعجزتين، تناولت الآيات بالوصف الدقيق ما كان عليه بنو إسرائيل من شك وتردد وعناد، وإغراق في الجدل الفارغ، وتضييع للوقت في المناقشات الجزئية والجانبية بالمرة.
فها هم أولاء يعربون عن سخطهم وعدم رضاهم بما رزقهم الله، ويلحون على موسى أن يدعو ربه، لتنبت لهم الأرض نباتات أخرى ترضي شهوتهم، وتكفي نهمهم ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾.
وهاهم أولاء يجادلون موسى في شأن البقرة التي أمرهم الله بذبحها جدالا عنيفا، فيلقون عليه وابلا من الأسئلة التي لا داعي إليها، مما يعبر عن شكهم، ويعرب عن ارتيابهم، في أمر بسيط لا يستحق كل هذا التردد، ولا كل هذه الحيرة ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾. - ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾. - ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا لونها ﴾. ثم كرروا مرة أخرى :﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾. -وأخيرا قالوا :﴿ قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ( ٧١ ) ﴾.
ويلاحظ فيما جرت حكايته على لسان بني إسرائيل أنهم بدلا من أن يقولوا ادع لنا " ربنا " يفضلون أن يقولوا " ادع لنا ربك "، ويكررونها عدة مرات بهذه الصيغة، كأنهم لا يزالون في شك من أمره، ولا يعتبرونه ربا لهم، بقدر ما يعتبرونه ربا لموسى وحده، وفي ذلك جحود منهم ظاهر لربوبية الله رب العالمين، وجرأة على مقامه الأقدس، وليس هذا بغريب عليهم، فقد قالوا من قبل لموسى كما سبق في الربع الماضي ﴿ يَا مُوسى لَن نُّومِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ﴾.
ثم ها هو الحق سبحانه وتعالى ينعتهم بوصف خطير ومثير، ذلك هو وصفهم بالقسوة التي هي أشد من قسوة الحجارة، وهل يرجى التأثير في قلب أقسى من الحجر الصلد ؟ ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ﴾. وهذا الوصف الذي وصف الله به بني إسرائيل هو السر في عنادهم وإصرارهم على ما هم عليه، والحافز لهم على الوقوف في وجه الدعوة الإسلامية موقف المعارضة والإنكار، والتبجح والاستكبار، كما كان موقفهم من المسيحية قبل الإسلام، وهو السر في موقفهم الانعزالي المتحفظ دائما من بقية الأمم والملل عبر التاريخ.
ويتجه الخطاب من جديد إلى المؤمنين، منبها إياهم إلى أن يقطعوا كل أمل في انتقال بني إسرائيل انتقالا جماعيا من يهوديتهم إلى الإسلام، مذكرا بأن أولئك الذين سمعوا كلام الله بواسطة موسى الكليم، والذين عقلوا ما فيه، -وبالرغم عن ذلك كله تجرأوا على تحريفه عمدا وقصدا لحاجة في أنفسهم- قد تجاوز عنادهم كل الحدود بحيث أصبحت الموعظة لا تؤثر فيهم، والذكرى لا تنفعهم ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٧٥ ﴾. ؟
ومن جهة أخرى، نجد الآيات الكريمة في هذا الربع تسجل غضب الله على بني إسرائيل، جزاء عصيانهم وعنادهم لأمره في مختلف المواقف، وكفاء تجاهلهم التام لإحسانه إليهم في مختلف المناسبات، إذ تقول الآيات :﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ( ٦١ ) ﴾.
ولا حاجة إلى التأكيد بأن عدل الله سبحانه يقتضي عقاب كل من عصاه وتعدى حدوده، في أي جيل، ومن أية ملة، إن لم يكن بنفس العقاب الذي ناله بنو إسرائيل، فبما يقرب منه ويدانيه، فضرب المثل بقصة موسى وقومه أولا، والقصد إلى الاعتبار بمضمونها وفحواها ثانيا، كل منهما غرض شريف من أغراض القرآن الكريم، ولذلك جاء في نفس السياق بعد قوله تعالى :﴿ فَقُلنَا لَهُم كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ( ٦٥ ) ﴾ -﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيهَا ومَا خَلْفَهَا وَمَوعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ( ٦٦ ) ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٠:الربع الأخير من الحزب الأول في المصحف الكريم
في هذا الربع الأخير من الحزب الأول استمرار في الحديث عن قصة موسى الكليم وقومه من بني إسرائيل، ووصف لما ناله عليه السلام من إعنات وإرهاق في سبيل هدايتهم، وما قابلوا به رسالته من استكبار ودلال وعناد.
وفيه بالخصوص وصف موجز لمعجزة موسى عندما قام يستسقي لقومه، فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. ثم فيه وصف مستفيض لمعجزة موسى بعد ذبح البقرة، عندما استحالت عليه معرفة قاتل ارتكب جريمة القتل خفية، فأمر بني إسرائيل بذبح بقرة، وإلقاء عضو منها على القتيل، فأحياه الله بعد قتله، ونطق باسم القاتل، وكان ذلك معجزة جديدة لموسى الكليم.
وفي معرض الحديث عن هاتين المعجزتين، تناولت الآيات بالوصف الدقيق ما كان عليه بنو إسرائيل من شك وتردد وعناد، وإغراق في الجدل الفارغ، وتضييع للوقت في المناقشات الجزئية والجانبية بالمرة.
فها هم أولاء يعربون عن سخطهم وعدم رضاهم بما رزقهم الله، ويلحون على موسى أن يدعو ربه، لتنبت لهم الأرض نباتات أخرى ترضي شهوتهم، وتكفي نهمهم ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾.
وهاهم أولاء يجادلون موسى في شأن البقرة التي أمرهم الله بذبحها جدالا عنيفا، فيلقون عليه وابلا من الأسئلة التي لا داعي إليها، مما يعبر عن شكهم، ويعرب عن ارتيابهم، في أمر بسيط لا يستحق كل هذا التردد، ولا كل هذه الحيرة ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾. - ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾. - ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا لونها ﴾. ثم كرروا مرة أخرى :﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾. -وأخيرا قالوا :﴿ قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ( ٧١ ) ﴾.
ويلاحظ فيما جرت حكايته على لسان بني إسرائيل أنهم بدلا من أن يقولوا ادع لنا " ربنا " يفضلون أن يقولوا " ادع لنا ربك "، ويكررونها عدة مرات بهذه الصيغة، كأنهم لا يزالون في شك من أمره، ولا يعتبرونه ربا لهم، بقدر ما يعتبرونه ربا لموسى وحده، وفي ذلك جحود منهم ظاهر لربوبية الله رب العالمين، وجرأة على مقامه الأقدس، وليس هذا بغريب عليهم، فقد قالوا من قبل لموسى كما سبق في الربع الماضي ﴿ يَا مُوسى لَن نُّومِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ﴾.
ثم ها هو الحق سبحانه وتعالى ينعتهم بوصف خطير ومثير، ذلك هو وصفهم بالقسوة التي هي أشد من قسوة الحجارة، وهل يرجى التأثير في قلب أقسى من الحجر الصلد ؟ ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ﴾. وهذا الوصف الذي وصف الله به بني إسرائيل هو السر في عنادهم وإصرارهم على ما هم عليه، والحافز لهم على الوقوف في وجه الدعوة الإسلامية موقف المعارضة والإنكار، والتبجح والاستكبار، كما كان موقفهم من المسيحية قبل الإسلام، وهو السر في موقفهم الانعزالي المتحفظ دائما من بقية الأمم والملل عبر التاريخ.
ويتجه الخطاب من جديد إلى المؤمنين، منبها إياهم إلى أن يقطعوا كل أمل في انتقال بني إسرائيل انتقالا جماعيا من يهوديتهم إلى الإسلام، مذكرا بأن أولئك الذين سمعوا كلام الله بواسطة موسى الكليم، والذين عقلوا ما فيه، -وبالرغم عن ذلك كله تجرأوا على تحريفه عمدا وقصدا لحاجة في أنفسهم- قد تجاوز عنادهم كل الحدود بحيث أصبحت الموعظة لا تؤثر فيهم، والذكرى لا تنفعهم ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٧٥ ﴾. ؟
ومن جهة أخرى، نجد الآيات الكريمة في هذا الربع تسجل غضب الله على بني إسرائيل، جزاء عصيانهم وعنادهم لأمره في مختلف المواقف، وكفاء تجاهلهم التام لإحسانه إليهم في مختلف المناسبات، إذ تقول الآيات :﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ( ٦١ ) ﴾.
ولا حاجة إلى التأكيد بأن عدل الله سبحانه يقتضي عقاب كل من عصاه وتعدى حدوده، في أي جيل، ومن أية ملة، إن لم يكن بنفس العقاب الذي ناله بنو إسرائيل، فبما يقرب منه ويدانيه، فضرب المثل بقصة موسى وقومه أولا، والقصد إلى الاعتبار بمضمونها وفحواها ثانيا، كل منهما غرض شريف من أغراض القرآن الكريم، ولذلك جاء في نفس السياق بعد قوله تعالى :﴿ فَقُلنَا لَهُم كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ( ٦٥ ) ﴾ -﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيهَا ومَا خَلْفَهَا وَمَوعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ( ٦٦ ) ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٠:الربع الأخير من الحزب الأول في المصحف الكريم
في هذا الربع الأخير من الحزب الأول استمرار في الحديث عن قصة موسى الكليم وقومه من بني إسرائيل، ووصف لما ناله عليه السلام من إعنات وإرهاق في سبيل هدايتهم، وما قابلوا به رسالته من استكبار ودلال وعناد.
وفيه بالخصوص وصف موجز لمعجزة موسى عندما قام يستسقي لقومه، فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. ثم فيه وصف مستفيض لمعجزة موسى بعد ذبح البقرة، عندما استحالت عليه معرفة قاتل ارتكب جريمة القتل خفية، فأمر بني إسرائيل بذبح بقرة، وإلقاء عضو منها على القتيل، فأحياه الله بعد قتله، ونطق باسم القاتل، وكان ذلك معجزة جديدة لموسى الكليم.
وفي معرض الحديث عن هاتين المعجزتين، تناولت الآيات بالوصف الدقيق ما كان عليه بنو إسرائيل من شك وتردد وعناد، وإغراق في الجدل الفارغ، وتضييع للوقت في المناقشات الجزئية والجانبية بالمرة.
فها هم أولاء يعربون عن سخطهم وعدم رضاهم بما رزقهم الله، ويلحون على موسى أن يدعو ربه، لتنبت لهم الأرض نباتات أخرى ترضي شهوتهم، وتكفي نهمهم ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾.
وهاهم أولاء يجادلون موسى في شأن البقرة التي أمرهم الله بذبحها جدالا عنيفا، فيلقون عليه وابلا من الأسئلة التي لا داعي إليها، مما يعبر عن شكهم، ويعرب عن ارتيابهم، في أمر بسيط لا يستحق كل هذا التردد، ولا كل هذه الحيرة ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾. - ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾. - ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا لونها ﴾. ثم كرروا مرة أخرى :﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾. -وأخيرا قالوا :﴿ قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ( ٧١ ) ﴾.
ويلاحظ فيما جرت حكايته على لسان بني إسرائيل أنهم بدلا من أن يقولوا ادع لنا " ربنا " يفضلون أن يقولوا " ادع لنا ربك "، ويكررونها عدة مرات بهذه الصيغة، كأنهم لا يزالون في شك من أمره، ولا يعتبرونه ربا لهم، بقدر ما يعتبرونه ربا لموسى وحده، وفي ذلك جحود منهم ظاهر لربوبية الله رب العالمين، وجرأة على مقامه الأقدس، وليس هذا بغريب عليهم، فقد قالوا من قبل لموسى كما سبق في الربع الماضي ﴿ يَا مُوسى لَن نُّومِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ﴾.
ثم ها هو الحق سبحانه وتعالى ينعتهم بوصف خطير ومثير، ذلك هو وصفهم بالقسوة التي هي أشد من قسوة الحجارة، وهل يرجى التأثير في قلب أقسى من الحجر الصلد ؟ ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ﴾. وهذا الوصف الذي وصف الله به بني إسرائيل هو السر في عنادهم وإصرارهم على ما هم عليه، والحافز لهم على الوقوف في وجه الدعوة الإسلامية موقف المعارضة والإنكار، والتبجح والاستكبار، كما كان موقفهم من المسيحية قبل الإسلام، وهو السر في موقفهم الانعزالي المتحفظ دائما من بقية الأمم والملل عبر التاريخ.
ويتجه الخطاب من جديد إلى المؤمنين، منبها إياهم إلى أن يقطعوا كل أمل في انتقال بني إسرائيل انتقالا جماعيا من يهوديتهم إلى الإسلام، مذكرا بأن أولئك الذين سمعوا كلام الله بواسطة موسى الكليم، والذين عقلوا ما فيه، -وبالرغم عن ذلك كله تجرأوا على تحريفه عمدا وقصدا لحاجة في أنفسهم- قد تجاوز عنادهم كل الحدود بحيث أصبحت الموعظة لا تؤثر فيهم، والذكرى لا تنفعهم ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٧٥ ﴾. ؟
ومن جهة أخرى، نجد الآيات الكريمة في هذا الربع تسجل غضب الله على بني إسرائيل، جزاء عصيانهم وعنادهم لأمره في مختلف المواقف، وكفاء تجاهلهم التام لإحسانه إليهم في مختلف المناسبات، إذ تقول الآيات :﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ( ٦١ ) ﴾.
ولا حاجة إلى التأكيد بأن عدل الله سبحانه يقتضي عقاب كل من عصاه وتعدى حدوده، في أي جيل، ومن أية ملة، إن لم يكن بنفس العقاب الذي ناله بنو إسرائيل، فبما يقرب منه ويدانيه، فضرب المثل بقصة موسى وقومه أولا، والقصد إلى الاعتبار بمضمونها وفحواها ثانيا، كل منهما غرض شريف من أغراض القرآن الكريم، ولذلك جاء في نفس السياق بعد قوله تعالى :﴿ فَقُلنَا لَهُم كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ( ٦٥ ) ﴾ -﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيهَا ومَا خَلْفَهَا وَمَوعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ( ٦٦ ) ﴾.

الربع الأول من الحزب الثاني في المصحف الكريم
وواضح أن الآيات الكريمة في هذا الربع ما تزال تتوالى في وصف بني إسرائيل، وتعريف المسلمين بسوابقهم، والكشف عن أسرارهم، وذلك لإلقاء الأضواء الكاشفة عليهم، والتعريف بحقيقتهم من جهة، وتحذير المسلمين من الوقوع تحت تأثير دعاويهم الكاذبة وتأويلاتهم الباطلة من جهة أخرى، الأمر الذي أوجب لبني إسرائيل خزي الناس في الدنيا، وغضب الله في الآخرة ﴿ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾- ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ( ٩٠ ) ﴾.
ومما كشفته هذه الآيات من الحقائق، أن صفة ( الأمية ) التي كان بنو إسرائيل يعيبون بها العرب، متبجحين بتفوقهم عليهم في القراءة والكتابة، لم تكن قاصرة عليهم وحدهم، بل كانت خصلة شائعة بين بني إسرائيل أنفسهم، رغما عن ادعاءاتهم المزيفة وتظاهرهم بعكسها من العلم والمعرفة.
وهكذا تفضحهم الآية الكريمة أمام المسلمين والناس أجمعين، عندما تنطق بالأمر الواقع الذي ليس له من دافع، فتقول :﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ( ٧٨ ) ﴾.
الربع الأول من الحزب الثاني في المصحف الكريم
وواضح أن الآيات الكريمة في هذا الربع ما تزال تتوالى في وصف بني إسرائيل، وتعريف المسلمين بسوابقهم، والكشف عن أسرارهم، وذلك لإلقاء الأضواء الكاشفة عليهم، والتعريف بحقيقتهم من جهة، وتحذير المسلمين من الوقوع تحت تأثير دعاويهم الكاذبة وتأويلاتهم الباطلة من جهة أخرى، الأمر الذي أوجب لبني إسرائيل خزي الناس في الدنيا، وغضب الله في الآخرة ﴿ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾- ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ( ٩٠ ) ﴾.
ولا تكتفي بفضح ما يدعيه جمهورهم من العلم بالكتاب على ما هو عليه من جهل، حتى تصم النخبة منهم، بوصمة التزوير والتلفيق، لا في النصوص العادية المجردة، بل في أقدس النصوص، نصوص الوحي الإلهي والكتب المنزلة، تلاعبا منهم بالدين، ومتاجرة بالعقيدة ﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ( ٧٩ ) ﴾.
الربع الأول من الحزب الثاني في المصحف الكريم
وواضح أن الآيات الكريمة في هذا الربع ما تزال تتوالى في وصف بني إسرائيل، وتعريف المسلمين بسوابقهم، والكشف عن أسرارهم، وذلك لإلقاء الأضواء الكاشفة عليهم، والتعريف بحقيقتهم من جهة، وتحذير المسلمين من الوقوع تحت تأثير دعاويهم الكاذبة وتأويلاتهم الباطلة من جهة أخرى، الأمر الذي أوجب لبني إسرائيل خزي الناس في الدنيا، وغضب الله في الآخرة ﴿ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾- ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ( ٩٠ ) ﴾.
وتتصدى الآيات الكريمة للرد عليهم، وإبطال ما يدعونه لأنفسهم من امتياز وتفضيل على بقية الملل، بدعوى أنهم ( شعب الله المختار )، فتحكي قولهم :﴿ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾. ثم أكد القرآن الكريم أن حكم الله واحد لا يتبدل، بالنسبة لكل من انحرف عن سواء السبيل، كيفما كانت ملته، ومهما كانت نسبته، وعقب على ذلك بمبدأ عام ينطبق على الجميع لا استثناء فيه ولا تخصيص، ﴿ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾. وأعاد الحديث عنهم مرة أخرى فقال :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ( ٨٦ ) ﴾.
الربع الأول من الحزب الثاني في المصحف الكريم
وواضح أن الآيات الكريمة في هذا الربع ما تزال تتوالى في وصف بني إسرائيل، وتعريف المسلمين بسوابقهم، والكشف عن أسرارهم، وذلك لإلقاء الأضواء الكاشفة عليهم، والتعريف بحقيقتهم من جهة، وتحذير المسلمين من الوقوع تحت تأثير دعاويهم الكاذبة وتأويلاتهم الباطلة من جهة أخرى، الأمر الذي أوجب لبني إسرائيل خزي الناس في الدنيا، وغضب الله في الآخرة ﴿ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾- ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ( ٩٠ ) ﴾.
ثم تعود الآيات الكريمة من جديد للإشارة إلى المواثيق الغليظة التي أخدها الله على بني إسرائيل ميثاقا بعد ميثاق، لكنهم لم يلبثوا إلا قليلا حتى نقضوها عروة عروة، الواحد بعد الآخر ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ ﴾. - ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ﴾. وفي آية سابقة :﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعدِ ذَلِكَ ﴾- ﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ( ٨٣ ) ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٠:الربع الأول من الحزب الثاني في المصحف الكريم
وواضح أن الآيات الكريمة في هذا الربع ما تزال تتوالى في وصف بني إسرائيل، وتعريف المسلمين بسوابقهم، والكشف عن أسرارهم، وذلك لإلقاء الأضواء الكاشفة عليهم، والتعريف بحقيقتهم من جهة، وتحذير المسلمين من الوقوع تحت تأثير دعاويهم الكاذبة وتأويلاتهم الباطلة من جهة أخرى، الأمر الذي أوجب لبني إسرائيل خزي الناس في الدنيا، وغضب الله في الآخرة ﴿ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾- ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ( ٩٠ ) ﴾.
وتتصدى الآيات الكريمة للرد عليهم، وإبطال ما يدعونه لأنفسهم من امتياز وتفضيل على بقية الملل، بدعوى أنهم ( شعب الله المختار )، فتحكي قولهم :﴿ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾. ثم أكد القرآن الكريم أن حكم الله واحد لا يتبدل، بالنسبة لكل من انحرف عن سواء السبيل، كيفما كانت ملته، ومهما كانت نسبته، وعقب على ذلك بمبدأ عام ينطبق على الجميع لا استثناء فيه ولا تخصيص، ﴿ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾. وأعاد الحديث عنهم مرة أخرى فقال :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ( ٨٦ ) ﴾.

الربع الأول من الحزب الثاني في المصحف الكريم
وواضح أن الآيات الكريمة في هذا الربع ما تزال تتوالى في وصف بني إسرائيل، وتعريف المسلمين بسوابقهم، والكشف عن أسرارهم، وذلك لإلقاء الأضواء الكاشفة عليهم، والتعريف بحقيقتهم من جهة، وتحذير المسلمين من الوقوع تحت تأثير دعاويهم الكاذبة وتأويلاتهم الباطلة من جهة أخرى، الأمر الذي أوجب لبني إسرائيل خزي الناس في الدنيا، وغضب الله في الآخرة ﴿ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾- ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ( ٩٠ ) ﴾.
ومن أهم الموضوعات التي عالجها هذا الربع من القرآن الكريم، وصفه لما أبداه بنو إسرائيل من التعصب والاستكبار، والجحود والإنكار، إزاء الدعوة الإسلامية وكتابها الحكيم ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ﴾- ﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾- ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ﴾ - ﴿ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ( ٨٨ ) ﴾.
ومما يستلفت النظر في هذا المقام ورود اسم ( عيسى المسيح ) إلى جانب اسم ( موسى الكليم ) لأول مرة في سورة البقرة، وفي ذلك تقرير لتسلسل الرسالات المنزلة من عند الله وتماسك حلقاتها، وتأكيد لترابطها وتكاملها، وإقامة للحجة على بني إسرائيل الذين أنكروا رسالة جميع الرسل بعد موسى، منذ عيسى بن مريم إلى محمد بن عبد الله ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ( ٨٧ ) ﴾. - ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ( ٩١ ) ﴾.
وهكذا نجد القرآن الكريم يضع أيدي المسلمين على مواطن الداء والدواء، ويرشدهم بجميع الأساليب إلى ما فيه الهدى والشفاء، حتى يكونوا على بينة من أمرهم، ﴿ لِيَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٧:الربع الأول من الحزب الثاني في المصحف الكريم
وواضح أن الآيات الكريمة في هذا الربع ما تزال تتوالى في وصف بني إسرائيل، وتعريف المسلمين بسوابقهم، والكشف عن أسرارهم، وذلك لإلقاء الأضواء الكاشفة عليهم، والتعريف بحقيقتهم من جهة، وتحذير المسلمين من الوقوع تحت تأثير دعاويهم الكاذبة وتأويلاتهم الباطلة من جهة أخرى، الأمر الذي أوجب لبني إسرائيل خزي الناس في الدنيا، وغضب الله في الآخرة ﴿ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾- ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ( ٩٠ ) ﴾.
ومن أهم الموضوعات التي عالجها هذا الربع من القرآن الكريم، وصفه لما أبداه بنو إسرائيل من التعصب والاستكبار، والجحود والإنكار، إزاء الدعوة الإسلامية وكتابها الحكيم ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ﴾- ﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾- ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ﴾ - ﴿ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ( ٨٨ ) ﴾.
ومما يستلفت النظر في هذا المقام ورود اسم ( عيسى المسيح ) إلى جانب اسم ( موسى الكليم ) لأول مرة في سورة البقرة، وفي ذلك تقرير لتسلسل الرسالات المنزلة من عند الله وتماسك حلقاتها، وتأكيد لترابطها وتكاملها، وإقامة للحجة على بني إسرائيل الذين أنكروا رسالة جميع الرسل بعد موسى، منذ عيسى بن مريم إلى محمد بن عبد الله ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ( ٨٧ ) ﴾. - ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ( ٩١ ) ﴾.
وهكذا نجد القرآن الكريم يضع أيدي المسلمين على مواطن الداء والدواء، ويرشدهم بجميع الأساليب إلى ما فيه الهدى والشفاء، حتى يكونوا على بينة من أمرهم، ﴿ لِيَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾.

الربع الثاني من الحزب الثاني في المصحف الكريم
في هذا الربع من القرآن الكريم، تشير الآيات الكريمة من جديد إشارة موجزة إلى أكبر كبيرة ارتكبها بنو إسرائيل، ورسولهم موسى الكليم لا يزال على قيد الحياة، ألا وهي اختيارهم عن قصد وهوى في النفس لعبادة العجل، وإقبالهم على هذا النوع من العبادة الوثنية البدائية التي ما أنزل الله بها من سلطان، بمجرد غيبة رسولهم موسى عليه السلام عنهم فترة قصيرة من الزمان.
وفيها كذلك لفت الأنظار مرة أخرى إلى الميثاق الذي أخذه الله عليهم عند جبل الطور، وهو أحد المواثيق الإلهية العديدة التي أخذها عليهم فنقضوها جميعا، ولم يوفوا ولو بواحد منها ﴿ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٢:الربع الثاني من الحزب الثاني في المصحف الكريم
في هذا الربع من القرآن الكريم، تشير الآيات الكريمة من جديد إشارة موجزة إلى أكبر كبيرة ارتكبها بنو إسرائيل، ورسولهم موسى الكليم لا يزال على قيد الحياة، ألا وهي اختيارهم عن قصد وهوى في النفس لعبادة العجل، وإقبالهم على هذا النوع من العبادة الوثنية البدائية التي ما أنزل الله بها من سلطان، بمجرد غيبة رسولهم موسى عليه السلام عنهم فترة قصيرة من الزمان.
وفيها كذلك لفت الأنظار مرة أخرى إلى الميثاق الذي أخذه الله عليهم عند جبل الطور، وهو أحد المواثيق الإلهية العديدة التي أخذها عليهم فنقضوها جميعا، ولم يوفوا ولو بواحد منها ﴿ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ﴾.

ثم تنتقل الآيات الكريمة إلى استعراض الشبه والمزاعم التي أصبحوا يلوكونها بألسنتهم، ويرددونها بين المسلمين حتى يشككوهم في دينهم، وبين المشركين حتى لا يدخلوا في هذا الدين.
وتتلخص هذه الشبه والمزاعم التي تتولى الآيات الكريمة في هذا الربع تفنيدها وإبطالها في أن الدار الآخرة-ويقصدون الجنة-ستكون خالصة لبني إسرائيل من دون الناس جميعا، وإذن فلن يكون فيها نصيب للمسلمين الذين أسلموا ولا للمشركين إذا أسلموا، وفي أن جبريل الملك الذي ينزل بالوحي على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو عدو لبني إسرائيل، إذ هو في زعمهم لا يتنزل إلا بالشر والقحط والجدب، ولهذا السبب فهم يرفضون الوحي الذي ينزل بواسطته على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الوحي لو نزل بواسطة ميكائيل، ملك الرخاء والمطر والخصب، وصديق بني إسرائيل في زعمهم، لقبلوه وصدقوا به.
وهكذا تصدع آيات القرآن بالرد عليهم وإفحامهم بالحجة البالغة ﴿ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾- ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾- ﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٤:ثم تنتقل الآيات الكريمة إلى استعراض الشبه والمزاعم التي أصبحوا يلوكونها بألسنتهم، ويرددونها بين المسلمين حتى يشككوهم في دينهم، وبين المشركين حتى لا يدخلوا في هذا الدين.
وتتلخص هذه الشبه والمزاعم التي تتولى الآيات الكريمة في هذا الربع تفنيدها وإبطالها في أن الدار الآخرة-ويقصدون الجنة-ستكون خالصة لبني إسرائيل من دون الناس جميعا، وإذن فلن يكون فيها نصيب للمسلمين الذين أسلموا ولا للمشركين إذا أسلموا، وفي أن جبريل الملك الذي ينزل بالوحي على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو عدو لبني إسرائيل، إذ هو في زعمهم لا يتنزل إلا بالشر والقحط والجدب، ولهذا السبب فهم يرفضون الوحي الذي ينزل بواسطته على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الوحي لو نزل بواسطة ميكائيل، ملك الرخاء والمطر والخصب، وصديق بني إسرائيل في زعمهم، لقبلوه وصدقوا به.
وهكذا تصدع آيات القرآن بالرد عليهم وإفحامهم بالحجة البالغة ﴿ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾- ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾- ﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٤:ثم تنتقل الآيات الكريمة إلى استعراض الشبه والمزاعم التي أصبحوا يلوكونها بألسنتهم، ويرددونها بين المسلمين حتى يشككوهم في دينهم، وبين المشركين حتى لا يدخلوا في هذا الدين.
وتتلخص هذه الشبه والمزاعم التي تتولى الآيات الكريمة في هذا الربع تفنيدها وإبطالها في أن الدار الآخرة-ويقصدون الجنة-ستكون خالصة لبني إسرائيل من دون الناس جميعا، وإذن فلن يكون فيها نصيب للمسلمين الذين أسلموا ولا للمشركين إذا أسلموا، وفي أن جبريل الملك الذي ينزل بالوحي على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو عدو لبني إسرائيل، إذ هو في زعمهم لا يتنزل إلا بالشر والقحط والجدب، ولهذا السبب فهم يرفضون الوحي الذي ينزل بواسطته على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الوحي لو نزل بواسطة ميكائيل، ملك الرخاء والمطر والخصب، وصديق بني إسرائيل في زعمهم، لقبلوه وصدقوا به.
وهكذا تصدع آيات القرآن بالرد عليهم وإفحامهم بالحجة البالغة ﴿ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾- ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾- ﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾..

ثم تقرر الآيات الكريمة أن من عادى أحد الملائكة-وهو جبريل في هذا السياق-فقد عادى الملائكة جميعا ومن بينهم نفس ميكائيل، لأن الإيمان بالملائكة كل لا يتجزأ، كما أن من عادى أحد الرسل-وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا السياق-فقد عادى الرسل جميعا، وفي طليعتهم نفس موسى عليه السلام، لأن الإيمان بالرسل وحدة لا تنفصم ﴿ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، لاَ نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مَّن رُّسُلِهِ ﴾.
وهكذا يؤكد القرآن الكريم بصورة قاطعة أن جبريل وميكائيل ينتميان إلى فصيلة واحدة لا فرق في خصائصها ولا في مزاياها، ولذلك يعتبر عدو أحدهما عدوا للثاني، أي عدوا لهما معا َ﴿ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائيلَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ( ٩٨ ) ﴾.
وتعيد الآيات الكريمة إلى الأذهان معنى جوهريا وأساسيا سابقا، ألا وهو أن ( فسق الفاسق ) هو الذي يحجب قلبه عن الإيمان، وعقله عن الهداية، ويحدث فيه مضاعفات الشر والكفر ما لا سبيل له إلى قلوب المتقين ﴿ وَلَقَدْ أنزلنا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ( ٩٩ ) ﴾.
وفي نفس هذا السياق تلقي الآيات البينات بعض الأضواء الخاصة على خصلة من خصال بني إسرائيل ومن سار في طريقهم، ألا وهي خصلة الالتواء والتذبذب، والروح الانتهازية الصرفة، وهكذا إذا أعطت جماعتهم للمسلمين عهدا لم تلتزمه كلها وفي مجموعها التزاما تاما، بل إن فريقا منها ينبذه في الحين وينتمي في السر إلى الجانب المعارض، بينما يحافظ الفريق الآخر على العهد ظاهرا، فيبقى مع الجانب الذي عاهده، وذلك ليضمنوا مصالحهم مع كلا الجانبين، الجانب المتغلب اليوم، والجانب الذي يمكن أن يتغلب غدا، وهذا ما تشير إلى فحواه الآية الكريمة ﴿ أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ﴾.
وينتقل الحديث بعد ذلك إلى وصف ما اشتهر به بنو إسرائيل بين الأمم من إقبال على السحر وتهالك عليه، واستغلال لبسطاء العقول بواسطته، ولا سيما بين مشركي العرب الأميين.
ويشير القرآن الكريم إلى أن بني إسرائيل كانوا يذيعون بين الناس أن السحر إنما هو تراث أخذوه عن سليمان عليه السلام، كما كانوا ينسبونه إلى الملكين هاروت وماروت، وقصدهم من ذلك أن يجعلوا للسحر سندا صحيحا مرفوعا إلى الأنبياء ومقام الملائكة جميعا.
وهكذا ينفي القرآن الكريم تهمة السحر عن سليمان، كما ينفيها عن الملكين هاروت وماروت، وبذلك يهدم الأساس المزور الذي يبني عليه بنو إسرائيل سحرهم، ويثبت القرآن الكريم في نفس الوقت أن السحر إنما هو في الحقيقة من صنع الشياطين ووحيهم، وأن سند بني إسرائيل من السحر إنما مرده إلى الشياطين وحدهم أولا وأخيرا ﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾. أي ما تكذب به الشياطين عليه، وتنسبه إليه ﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾.
وواضح أن كلمة ( الشياطين ) كما تطلق على شياطين الجن تطلق على شياطين الإنس، على حد قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبِئٍ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُمُ إلَى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرُوراً ﴾. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ هَل أنَبِّئُكُم عَلَى من تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلَّ أَفَّاكٍ أثِيمِ، يُلقُونَ السَّمعَ وَأَكثَرُهُم كَاذِبُونَ ﴾.
ومن هذه الآيات الكريمة تتضح للمسلمين أمور ثلاثة :
١- الأمر الأول : أن تعلم السحر لاستعماله يضر ولا ينفع ﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ﴾.
٢- الأمر الثاني : أن عمل السحر واستعماله كفر أو يؤدي إلى الكفر ﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ، ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ﴾﴿ إنَّمَا نَحنُ فِتنَةُ فَلاَ تَكفُر ﴾ وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد ".
٣- الأمر الثالث : أن الضرر الذي يراد إلحاقه بالمسحور عن طريق السحر لا يتحقق إلا إذا كان أمره قدرا مقدورا ﴿ وَمَا هُم بضارين بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾.
وفي ختام هذا الربع توضح الآية الكريمة النية السيئة التي يبيتها الكافرون من أهل الكتاب والمشركين للمسلمين، وتشير إلى أنهم يريدون صرفهم عن الدعوة الإسلامية بجميع الوسائل، وشغلهم عنها بالخرافات والأوهام والأماني، وبتعلم السحر وما شابهه مما لا خير فيه ولا نفع من ورائه، حتى لا يستنيروا بكتاب الله الذي فيه الهدى والنور، والعلم والحكمة، فيفتحوا أعينهم على آفاق الكون الواسعة ورحابه الشاسعة، ويقيموا في الأرض دولة العلم والعدل والتقوى ﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾. وسيأتي في الربع القادم آية أخرى لها صلة وثيقة بهذا المعنى، وهي قوله تعالى :﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ لكن الله خيب سعيهم، وصدق المؤمنين الصادقين وعده، فقال تعالى :﴿ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ( ١٠٥ ) ﴾.
الربع الثالث من الحزب الثاني
في المصحف الكريم
مما هو معلوم من الدين بالضرورة، أن رسالة الإسلام رسالة عامة موجهة إلى كافة البشر، وأن شريعته مهيمنة على ما سبقها من الشرائع.
ومن هنا انطلقت الدعوة الإسلامية في كل اتجاه، فاتجهت إلى نفس أهل الكتاب، وفي طليعتهم بنو إسرائيل الذين كانوا يتمتعون بين مشركي العرب بشيء من الاحترام، فطالبتهم بالدخول في دين الله، والاندماج في الأمة الإسلامية اندماجا كاملا، إذ أن الإسلام جاء ناسخا لما قبله، ودعوته موجهة للجميع﴿ قُل يأيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللهِ إلَيكُم جَمِيعاً ﴾.
وقد أشار القرآن الكريم إلى الدعوة الموجهة إليهم، وإلى كيفية جوابهم عنها، فحكى عنهم موقفهم المتعنت ﴿ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا نُومِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَينَا، وَيَكفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ ﴾.
وهم في هذا الجواب الملتوي لم يكشفوا عن حقيقة رأيهم كاملا، إذ إنهم في الحقيقة كانوا ينظرون من بعيد إلى اعتقادهم الراسخ بأن شريعتهم ليست موقتة بوقت محدود، ولا مغياة ببعثة رسول آخر يأتي من بعد موسى وعيسى اسمه " أحمد "، بل إن شريعتهم ستظل مستمرة ومطلقة. وإذن فلا يمكن أن يدخل عليها، أي نسخ، لأن نسخ الشريعة بأخرى في نظرهم مستحيل، وقد بنوا نظريتهم في استحالة النسخ على مزاعم واهية، واستنتاجات خيالية.
وردا عليهم، وإبطالا لنظريتهم، جاءت الآية الكريمة تقول :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾. فتؤكد-على عكس ما يدعون-إمكان النسخ في الشرائع، بل تثبت وقوعه فيها فعلا، ثم توضح وجه الحكمة فيه، وأن مرده هو ضمان خير البشرية ونفعها تبعا لاختلاف الظروف، وكأن هذه الآية الكريمة تقول لبني إسرائيل : إن الشريعة التي جاء بها الإسلام ودعاكم إليها قد نسخت شريعتكم ووضعت لها حدا، وعوضتكم عنها بشريعة أكمل وأفضل، وهي نخبة الشرائع وخاتمة الأديان، فلا يسعكم الآن إلا أن تتخلوا عن شريعتكم وتدخلوا في دين الله أفواجا.
وبعد ما أثبتت هذه الآية مبدأ النسخ، وبينت وجه الحكمة فيه، وهو مصلحة المكلفين وخيرهم- ردا على مزاعم بني إسرائيل-عقبت على ذلك بما يؤكد أن الأمر في هذا المقام يتعلق قبل كل شئ بقدرة الله المطلقة، ويرتبط بتصرفه الشامل، تلك القدرة وذلك التصرف اللذان لا يحدهما شئ، فلله أن يرسل من يشاء، ولله أن يأمر بما يشاء، في أي وقت شاء، وبذلك تنطق هذه الآيات :﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ١٠٦ ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾. وفي مثل هذا السياق جاء قوله تعالى :﴿ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمرُ ﴾. ﴿ أَلَيسَ اللهُ بِأحكَمِ الحَاكِمينَ ﴾-
﴿ اللهُ أَعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالاَتِهِ ﴾.
ومن البديهيات المتعارفة أن الإنسانية قد مرت بعدة أطوار، وأن الله تعالى بفضل ربوبيته، وفيض رحمته، لم يزل يبعث لهداية الإنسان الأنبياء والرسل، فوجا إثر فوج، ما بين الفترة والأخرى، وكلفه على لسانهم في كل مرحلة من مراحل حياته بالتكاليف المناسبة لتلك المرحلة، أخذا بيد الإنسان، الذي اقتضت حكمته أن يستخلفه في الأرض، إلى طريق الرشاد، وتدريجا له في مدارج التكليف من حال إلى حال، على قدر إدراكه، وحسب استطاعته، وتبعا لحاجته، وهكذا كلما بلغ الإنسان درجة أرقى في التطور رفع عنه الحق سبحانه وتعالى من التكاليف ما لم يعد مناسبا، وكلفه بشرع جديد هو أكثر ملائمة لواقعه الجديد.
فلما استدار الزمان بحلول موعد البعثة المحمدية، وأذن الله بدخول الإنسان في بداية مرحلة الرشد، وإعداده لدرجة أعلى من الوعي والنضج، بعث الله خاتم الأنبياء بخاتمة الشرائع التي لا شريعة بعدها، والتي جاءت بنسخ ما قبلها مما لا يتفق معها.
ومن ثم كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عامة إلى الناس كافة، للدخول تحت حكمها، والتزام القيام بتكاليفها، ومن ثم كان رفضه البات لعذر بني إسرائيل في التخلف عن ركب الإسلام، بدعوى استحالة النسخ وزعم ( الالتزام )
وعلاوة على ذلك فإن في قوله تعالى :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾. إشارة خفيفة وتمهيدا مبدئيا لأمر إلهي آخر، سيوحي به الحق سبحانه وتعالى إلى رسوله والمؤمنين خلال فترة قريبة غير بعيدة، ألا وهو الأمر بالتخلي عن استقبال بيت المقدس في الصلاة، بعد استقباله منذ بدء الهجرة حوالي سبعة عشر شهرا، والتحول عنه إلى استقبال البيت الحرام، مما ستوضحه آيات أخرى في الحصص القادمة.
نعم جاءت في حصتنا اليوم آية كريمة تمهد الجو لهذا الحادث المهم، الذي سيخصص للمسلمين قبلة يستقلون بها عن بقية الملل، والآية التي أومأنا إليها تشير للأمر المنتظر بمنتهى الإجمال والإيجاز، وهي قوله تعالى :﴿ وَلِلَهِ المَشرِقُ والمَغرِبُ، فأينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ اللهِ، إِنَّ اللهِ واسِعٌ عَلِيمٌ( ١١٥ ) ﴾.
ومن هنا يتجه الخطاب القرآني فجأة إلى المؤمنين محذرا إياهم من تقليد بني إسرائيل في إلقاء أسئلتهم المحرجة، القائمة على روح الجدل والتعنت، فيقول :﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أن تَسئَلُوا رَسُولَكُم كَمَا سُئِلَ مُوسى مِن قَبلُ ﴾. والتشبه هنا واقع بالأسئلة التي وجهها إلى موسى بنو إسرائيل في شأن البقرة وذبحها، طبقا لما حكته عنهم الآيات السالفة.
وتأتي في نفس المقام آية أخرى تستنكر أن يقف بعض البسطاء ممن لا يعلمون، موقفا مشابها لموقف بني إسرائيل، تقليدا لأساليبهم الملتوية في العناد والتردد، إذ تقول حكاية عن هذا الفريق " الإسرائيلي الاتجاه " :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ﴾. ثم تعقب على هذا القول كاشفة عن مصدره، ومبينة لسببه، إذ تقول :﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾. وواضح أن تشابه القلوب، أي تشابه العواطف والمشاعر، عامل من عوامل التشابه في الأفكار والآراء والارتسامات، والذين قالوا مثل هذا القول من قبلهم هم بنو إسرائيل، قالوه لموسى كما حكته عنهم آية سابقة :﴿ وَإذ قُلتُم يَا مُوسى لَن نُومِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهرَةً ﴾. وهكذا يكافح الإسلام كل ما يتسرب إلى مجتمعه من شبه بني إسرائيل وضلالاتهم ودعاياتهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٦:الربع الثالث من الحزب الثاني
في المصحف الكريم
مما هو معلوم من الدين بالضرورة، أن رسالة الإسلام رسالة عامة موجهة إلى كافة البشر، وأن شريعته مهيمنة على ما سبقها من الشرائع.
ومن هنا انطلقت الدعوة الإسلامية في كل اتجاه، فاتجهت إلى نفس أهل الكتاب، وفي طليعتهم بنو إسرائيل الذين كانوا يتمتعون بين مشركي العرب بشيء من الاحترام، فطالبتهم بالدخول في دين الله، والاندماج في الأمة الإسلامية اندماجا كاملا، إذ أن الإسلام جاء ناسخا لما قبله، ودعوته موجهة للجميع﴿ قُل يأيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللهِ إلَيكُم جَمِيعاً ﴾.
وقد أشار القرآن الكريم إلى الدعوة الموجهة إليهم، وإلى كيفية جوابهم عنها، فحكى عنهم موقفهم المتعنت ﴿ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا نُومِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَينَا، وَيَكفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ ﴾.
وهم في هذا الجواب الملتوي لم يكشفوا عن حقيقة رأيهم كاملا، إذ إنهم في الحقيقة كانوا ينظرون من بعيد إلى اعتقادهم الراسخ بأن شريعتهم ليست موقتة بوقت محدود، ولا مغياة ببعثة رسول آخر يأتي من بعد موسى وعيسى اسمه " أحمد "، بل إن شريعتهم ستظل مستمرة ومطلقة. وإذن فلا يمكن أن يدخل عليها، أي نسخ، لأن نسخ الشريعة بأخرى في نظرهم مستحيل، وقد بنوا نظريتهم في استحالة النسخ على مزاعم واهية، واستنتاجات خيالية.
وردا عليهم، وإبطالا لنظريتهم، جاءت الآية الكريمة تقول :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾. فتؤكد-على عكس ما يدعون-إمكان النسخ في الشرائع، بل تثبت وقوعه فيها فعلا، ثم توضح وجه الحكمة فيه، وأن مرده هو ضمان خير البشرية ونفعها تبعا لاختلاف الظروف، وكأن هذه الآية الكريمة تقول لبني إسرائيل : إن الشريعة التي جاء بها الإسلام ودعاكم إليها قد نسخت شريعتكم ووضعت لها حدا، وعوضتكم عنها بشريعة أكمل وأفضل، وهي نخبة الشرائع وخاتمة الأديان، فلا يسعكم الآن إلا أن تتخلوا عن شريعتكم وتدخلوا في دين الله أفواجا.
وبعد ما أثبتت هذه الآية مبدأ النسخ، وبينت وجه الحكمة فيه، وهو مصلحة المكلفين وخيرهم- ردا على مزاعم بني إسرائيل-عقبت على ذلك بما يؤكد أن الأمر في هذا المقام يتعلق قبل كل شئ بقدرة الله المطلقة، ويرتبط بتصرفه الشامل، تلك القدرة وذلك التصرف اللذان لا يحدهما شئ، فلله أن يرسل من يشاء، ولله أن يأمر بما يشاء، في أي وقت شاء، وبذلك تنطق هذه الآيات :﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ١٠٦ ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾. وفي مثل هذا السياق جاء قوله تعالى :﴿ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمرُ ﴾. ﴿ أَلَيسَ اللهُ بِأحكَمِ الحَاكِمينَ ﴾-
﴿ اللهُ أَعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالاَتِهِ ﴾.
ومن البديهيات المتعارفة أن الإنسانية قد مرت بعدة أطوار، وأن الله تعالى بفضل ربوبيته، وفيض رحمته، لم يزل يبعث لهداية الإنسان الأنبياء والرسل، فوجا إثر فوج، ما بين الفترة والأخرى، وكلفه على لسانهم في كل مرحلة من مراحل حياته بالتكاليف المناسبة لتلك المرحلة، أخذا بيد الإنسان، الذي اقتضت حكمته أن يستخلفه في الأرض، إلى طريق الرشاد، وتدريجا له في مدارج التكليف من حال إلى حال، على قدر إدراكه، وحسب استطاعته، وتبعا لحاجته، وهكذا كلما بلغ الإنسان درجة أرقى في التطور رفع عنه الحق سبحانه وتعالى من التكاليف ما لم يعد مناسبا، وكلفه بشرع جديد هو أكثر ملائمة لواقعه الجديد.
فلما استدار الزمان بحلول موعد البعثة المحمدية، وأذن الله بدخول الإنسان في بداية مرحلة الرشد، وإعداده لدرجة أعلى من الوعي والنضج، بعث الله خاتم الأنبياء بخاتمة الشرائع التي لا شريعة بعدها، والتي جاءت بنسخ ما قبلها مما لا يتفق معها.
ومن ثم كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عامة إلى الناس كافة، للدخول تحت حكمها، والتزام القيام بتكاليفها، ومن ثم كان رفضه البات لعذر بني إسرائيل في التخلف عن ركب الإسلام، بدعوى استحالة النسخ وزعم ( الالتزام )
وعلاوة على ذلك فإن في قوله تعالى :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾. إشارة خفيفة وتمهيدا مبدئيا لأمر إلهي آخر، سيوحي به الحق سبحانه وتعالى إلى رسوله والمؤمنين خلال فترة قريبة غير بعيدة، ألا وهو الأمر بالتخلي عن استقبال بيت المقدس في الصلاة، بعد استقباله منذ بدء الهجرة حوالي سبعة عشر شهرا، والتحول عنه إلى استقبال البيت الحرام، مما ستوضحه آيات أخرى في الحصص القادمة.
نعم جاءت في حصتنا اليوم آية كريمة تمهد الجو لهذا الحادث المهم، الذي سيخصص للمسلمين قبلة يستقلون بها عن بقية الملل، والآية التي أومأنا إليها تشير للأمر المنتظر بمنتهى الإجمال والإيجاز، وهي قوله تعالى :﴿ وَلِلَهِ المَشرِقُ والمَغرِبُ، فأينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ اللهِ، إِنَّ اللهِ واسِعٌ عَلِيمٌ( ١١٥ ) ﴾.
ومن هنا يتجه الخطاب القرآني فجأة إلى المؤمنين محذرا إياهم من تقليد بني إسرائيل في إلقاء أسئلتهم المحرجة، القائمة على روح الجدل والتعنت، فيقول :﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أن تَسئَلُوا رَسُولَكُم كَمَا سُئِلَ مُوسى مِن قَبلُ ﴾. والتشبه هنا واقع بالأسئلة التي وجهها إلى موسى بنو إسرائيل في شأن البقرة وذبحها، طبقا لما حكته عنهم الآيات السالفة.
وتأتي في نفس المقام آية أخرى تستنكر أن يقف بعض البسطاء ممن لا يعلمون، موقفا مشابها لموقف بني إسرائيل، تقليدا لأساليبهم الملتوية في العناد والتردد، إذ تقول حكاية عن هذا الفريق " الإسرائيلي الاتجاه " :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ﴾. ثم تعقب على هذا القول كاشفة عن مصدره، ومبينة لسببه، إذ تقول :﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾. وواضح أن تشابه القلوب، أي تشابه العواطف والمشاعر، عامل من عوامل التشابه في الأفكار والآراء والارتسامات، والذين قالوا مثل هذا القول من قبلهم هم بنو إسرائيل، قالوه لموسى كما حكته عنهم آية سابقة :﴿ وَإذ قُلتُم يَا مُوسى لَن نُومِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهرَةً ﴾. وهكذا يكافح الإسلام كل ما يتسرب إلى مجتمعه من شبه بني إسرائيل وضلالاتهم ودعاياتهم.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٦:الربع الثالث من الحزب الثاني
في المصحف الكريم
مما هو معلوم من الدين بالضرورة، أن رسالة الإسلام رسالة عامة موجهة إلى كافة البشر، وأن شريعته مهيمنة على ما سبقها من الشرائع.
ومن هنا انطلقت الدعوة الإسلامية في كل اتجاه، فاتجهت إلى نفس أهل الكتاب، وفي طليعتهم بنو إسرائيل الذين كانوا يتمتعون بين مشركي العرب بشيء من الاحترام، فطالبتهم بالدخول في دين الله، والاندماج في الأمة الإسلامية اندماجا كاملا، إذ أن الإسلام جاء ناسخا لما قبله، ودعوته موجهة للجميع﴿ قُل يأيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللهِ إلَيكُم جَمِيعاً ﴾.
وقد أشار القرآن الكريم إلى الدعوة الموجهة إليهم، وإلى كيفية جوابهم عنها، فحكى عنهم موقفهم المتعنت ﴿ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا نُومِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَينَا، وَيَكفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ ﴾.
وهم في هذا الجواب الملتوي لم يكشفوا عن حقيقة رأيهم كاملا، إذ إنهم في الحقيقة كانوا ينظرون من بعيد إلى اعتقادهم الراسخ بأن شريعتهم ليست موقتة بوقت محدود، ولا مغياة ببعثة رسول آخر يأتي من بعد موسى وعيسى اسمه " أحمد "، بل إن شريعتهم ستظل مستمرة ومطلقة. وإذن فلا يمكن أن يدخل عليها، أي نسخ، لأن نسخ الشريعة بأخرى في نظرهم مستحيل، وقد بنوا نظريتهم في استحالة النسخ على مزاعم واهية، واستنتاجات خيالية.
وردا عليهم، وإبطالا لنظريتهم، جاءت الآية الكريمة تقول :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾. فتؤكد-على عكس ما يدعون-إمكان النسخ في الشرائع، بل تثبت وقوعه فيها فعلا، ثم توضح وجه الحكمة فيه، وأن مرده هو ضمان خير البشرية ونفعها تبعا لاختلاف الظروف، وكأن هذه الآية الكريمة تقول لبني إسرائيل : إن الشريعة التي جاء بها الإسلام ودعاكم إليها قد نسخت شريعتكم ووضعت لها حدا، وعوضتكم عنها بشريعة أكمل وأفضل، وهي نخبة الشرائع وخاتمة الأديان، فلا يسعكم الآن إلا أن تتخلوا عن شريعتكم وتدخلوا في دين الله أفواجا.
وبعد ما أثبتت هذه الآية مبدأ النسخ، وبينت وجه الحكمة فيه، وهو مصلحة المكلفين وخيرهم- ردا على مزاعم بني إسرائيل-عقبت على ذلك بما يؤكد أن الأمر في هذا المقام يتعلق قبل كل شئ بقدرة الله المطلقة، ويرتبط بتصرفه الشامل، تلك القدرة وذلك التصرف اللذان لا يحدهما شئ، فلله أن يرسل من يشاء، ولله أن يأمر بما يشاء، في أي وقت شاء، وبذلك تنطق هذه الآيات :﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ١٠٦ ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾. وفي مثل هذا السياق جاء قوله تعالى :﴿ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمرُ ﴾. ﴿ أَلَيسَ اللهُ بِأحكَمِ الحَاكِمينَ ﴾-
﴿ اللهُ أَعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالاَتِهِ ﴾.
ومن البديهيات المتعارفة أن الإنسانية قد مرت بعدة أطوار، وأن الله تعالى بفضل ربوبيته، وفيض رحمته، لم يزل يبعث لهداية الإنسان الأنبياء والرسل، فوجا إثر فوج، ما بين الفترة والأخرى، وكلفه على لسانهم في كل مرحلة من مراحل حياته بالتكاليف المناسبة لتلك المرحلة، أخذا بيد الإنسان، الذي اقتضت حكمته أن يستخلفه في الأرض، إلى طريق الرشاد، وتدريجا له في مدارج التكليف من حال إلى حال، على قدر إدراكه، وحسب استطاعته، وتبعا لحاجته، وهكذا كلما بلغ الإنسان درجة أرقى في التطور رفع عنه الحق سبحانه وتعالى من التكاليف ما لم يعد مناسبا، وكلفه بشرع جديد هو أكثر ملائمة لواقعه الجديد.
فلما استدار الزمان بحلول موعد البعثة المحمدية، وأذن الله بدخول الإنسان في بداية مرحلة الرشد، وإعداده لدرجة أعلى من الوعي والنضج، بعث الله خاتم الأنبياء بخاتمة الشرائع التي لا شريعة بعدها، والتي جاءت بنسخ ما قبلها مما لا يتفق معها.
ومن ثم كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عامة إلى الناس كافة، للدخول تحت حكمها، والتزام القيام بتكاليفها، ومن ثم كان رفضه البات لعذر بني إسرائيل في التخلف عن ركب الإسلام، بدعوى استحالة النسخ وزعم ( الالتزام )
وعلاوة على ذلك فإن في قوله تعالى :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾. إشارة خفيفة وتمهيدا مبدئيا لأمر إلهي آخر، سيوحي به الحق سبحانه وتعالى إلى رسوله والمؤمنين خلال فترة قريبة غير بعيدة، ألا وهو الأمر بالتخلي عن استقبال بيت المقدس في الصلاة، بعد استقباله منذ بدء الهجرة حوالي سبعة عشر شهرا، والتحول عنه إلى استقبال البيت الحرام، مما ستوضحه آيات أخرى في الحصص القادمة.
نعم جاءت في حصتنا اليوم آية كريمة تمهد الجو لهذا الحادث المهم، الذي سيخصص للمسلمين قبلة يستقلون بها عن بقية الملل، والآية التي أومأنا إليها تشير للأمر المنتظر بمنتهى الإجمال والإيجاز، وهي قوله تعالى :﴿ وَلِلَهِ المَشرِقُ والمَغرِبُ، فأينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ اللهِ، إِنَّ اللهِ واسِعٌ عَلِيمٌ( ١١٥ ) ﴾.
ومن هنا يتجه الخطاب القرآني فجأة إلى المؤمنين محذرا إياهم من تقليد بني إسرائيل في إلقاء أسئلتهم المحرجة، القائمة على روح الجدل والتعنت، فيقول :﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أن تَسئَلُوا رَسُولَكُم كَمَا سُئِلَ مُوسى مِن قَبلُ ﴾. والتشبه هنا واقع بالأسئلة التي وجهها إلى موسى بنو إسرائيل في شأن البقرة وذبحها، طبقا لما حكته عنهم الآيات السالفة.
وتأتي في نفس المقام آية أخرى تستنكر أن يقف بعض البسطاء ممن لا يعلمون، موقفا مشابها لموقف بني إسرائيل، تقليدا لأساليبهم الملتوية في العناد والتردد، إذ تقول حكاية عن هذا الفريق " الإسرائيلي الاتجاه " :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ﴾. ثم تعقب على هذا القول كاشفة عن مصدره، ومبينة لسببه، إذ تقول :﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾. وواضح أن تشابه القلوب، أي تشابه العواطف والمشاعر، عامل من عوامل التشابه في الأفكار والآراء والارتسامات، والذين قالوا مثل هذا القول من قبلهم هم بنو إسرائيل، قالوه لموسى كما حكته عنهم آية سابقة :﴿ وَإذ قُلتُم يَا مُوسى لَن نُومِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهرَةً ﴾. وهكذا يكافح الإسلام كل ما يتسرب إلى مجتمعه من شبه بني إسرائيل وضلالاتهم ودعاياتهم.

ومن المعاني الجديدة في هذه الحصة، ما وصفه كتاب الله أحسن وصف وأوجزه، من انطباعات اليهود عن النصارى، وارتسامات النصارى عن اليهود، ما ظلت هاتان الملتان تتبادلانه عبر الأجيال من التهم والشتائم والأحقاد، حتى أن كل واحدة منهما لا تعترف بالأخرى اعترافا صحيحا، وفي ذلك نزلت هذه الآيات البينات :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ﴾ وقد جاوزت حدة النزاع بين الفريقين حدود الدنيا إلى الآخرة، فادعى اليهود أن الجنة قاصرة عليهم، وزعم النصارى أن الجنة خالصة لهم، وهذا معنى الآية الأخرى :﴿ وَقَالُوا لَن ّيدخُلَ الجَنَّةَ إلاَّ مَن كانَ هُوداً أو نَصَارى، تِلكَ أمَانِيُّهُم، قُل هَاتُوا بُرهَانَكُمُ إن كُنتُم صَادِقِينَ( ١١١ ) ﴾.
إلا أن كتاب الله قد فض النزاع بينهم في هذا المجال، فقال تعالى :﴿ فَاللهُ يَحكُمُ بَينَهُم يَومَ القِيامَة فِيمُا كَانُوا فِيهِ يَختَلِفُونَ ﴾ كما قال تعالى في آية أخرى من سورة الحج :﴿ إِنَّ اللهَ يَفصِلُ بَينَهُم يَومَ القِيَامَةِ، إِنَّ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيء شَهِيدٌ( ١١٣ ) ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١١:ومن المعاني الجديدة في هذه الحصة، ما وصفه كتاب الله أحسن وصف وأوجزه، من انطباعات اليهود عن النصارى، وارتسامات النصارى عن اليهود، ما ظلت هاتان الملتان تتبادلانه عبر الأجيال من التهم والشتائم والأحقاد، حتى أن كل واحدة منهما لا تعترف بالأخرى اعترافا صحيحا، وفي ذلك نزلت هذه الآيات البينات :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ﴾ وقد جاوزت حدة النزاع بين الفريقين حدود الدنيا إلى الآخرة، فادعى اليهود أن الجنة قاصرة عليهم، وزعم النصارى أن الجنة خالصة لهم، وهذا معنى الآية الأخرى :﴿ وَقَالُوا لَن ّيدخُلَ الجَنَّةَ إلاَّ مَن كانَ هُوداً أو نَصَارى، تِلكَ أمَانِيُّهُم، قُل هَاتُوا بُرهَانَكُمُ إن كُنتُم صَادِقِينَ( ١١١ ) ﴾.
إلا أن كتاب الله قد فض النزاع بينهم في هذا المجال، فقال تعالى :﴿ فَاللهُ يَحكُمُ بَينَهُم يَومَ القِيامَة فِيمُا كَانُوا فِيهِ يَختَلِفُونَ ﴾ كما قال تعالى في آية أخرى من سورة الحج :﴿ إِنَّ اللهَ يَفصِلُ بَينَهُم يَومَ القِيَامَةِ، إِنَّ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيء شَهِيدٌ( ١١٣ ) ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٦:الربع الثالث من الحزب الثاني
في المصحف الكريم
مما هو معلوم من الدين بالضرورة، أن رسالة الإسلام رسالة عامة موجهة إلى كافة البشر، وأن شريعته مهيمنة على ما سبقها من الشرائع.
ومن هنا انطلقت الدعوة الإسلامية في كل اتجاه، فاتجهت إلى نفس أهل الكتاب، وفي طليعتهم بنو إسرائيل الذين كانوا يتمتعون بين مشركي العرب بشيء من الاحترام، فطالبتهم بالدخول في دين الله، والاندماج في الأمة الإسلامية اندماجا كاملا، إذ أن الإسلام جاء ناسخا لما قبله، ودعوته موجهة للجميع﴿ قُل يأيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللهِ إلَيكُم جَمِيعاً ﴾.
وقد أشار القرآن الكريم إلى الدعوة الموجهة إليهم، وإلى كيفية جوابهم عنها، فحكى عنهم موقفهم المتعنت ﴿ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا نُومِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَينَا، وَيَكفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ ﴾.
وهم في هذا الجواب الملتوي لم يكشفوا عن حقيقة رأيهم كاملا، إذ إنهم في الحقيقة كانوا ينظرون من بعيد إلى اعتقادهم الراسخ بأن شريعتهم ليست موقتة بوقت محدود، ولا مغياة ببعثة رسول آخر يأتي من بعد موسى وعيسى اسمه " أحمد "، بل إن شريعتهم ستظل مستمرة ومطلقة. وإذن فلا يمكن أن يدخل عليها، أي نسخ، لأن نسخ الشريعة بأخرى في نظرهم مستحيل، وقد بنوا نظريتهم في استحالة النسخ على مزاعم واهية، واستنتاجات خيالية.
وردا عليهم، وإبطالا لنظريتهم، جاءت الآية الكريمة تقول :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾. فتؤكد-على عكس ما يدعون-إمكان النسخ في الشرائع، بل تثبت وقوعه فيها فعلا، ثم توضح وجه الحكمة فيه، وأن مرده هو ضمان خير البشرية ونفعها تبعا لاختلاف الظروف، وكأن هذه الآية الكريمة تقول لبني إسرائيل : إن الشريعة التي جاء بها الإسلام ودعاكم إليها قد نسخت شريعتكم ووضعت لها حدا، وعوضتكم عنها بشريعة أكمل وأفضل، وهي نخبة الشرائع وخاتمة الأديان، فلا يسعكم الآن إلا أن تتخلوا عن شريعتكم وتدخلوا في دين الله أفواجا.
وبعد ما أثبتت هذه الآية مبدأ النسخ، وبينت وجه الحكمة فيه، وهو مصلحة المكلفين وخيرهم- ردا على مزاعم بني إسرائيل-عقبت على ذلك بما يؤكد أن الأمر في هذا المقام يتعلق قبل كل شئ بقدرة الله المطلقة، ويرتبط بتصرفه الشامل، تلك القدرة وذلك التصرف اللذان لا يحدهما شئ، فلله أن يرسل من يشاء، ولله أن يأمر بما يشاء، في أي وقت شاء، وبذلك تنطق هذه الآيات :﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ١٠٦ ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾. وفي مثل هذا السياق جاء قوله تعالى :﴿ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمرُ ﴾. ﴿ أَلَيسَ اللهُ بِأحكَمِ الحَاكِمينَ ﴾-
﴿ اللهُ أَعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالاَتِهِ ﴾.
ومن البديهيات المتعارفة أن الإنسانية قد مرت بعدة أطوار، وأن الله تعالى بفضل ربوبيته، وفيض رحمته، لم يزل يبعث لهداية الإنسان الأنبياء والرسل، فوجا إثر فوج، ما بين الفترة والأخرى، وكلفه على لسانهم في كل مرحلة من مراحل حياته بالتكاليف المناسبة لتلك المرحلة، أخذا بيد الإنسان، الذي اقتضت حكمته أن يستخلفه في الأرض، إلى طريق الرشاد، وتدريجا له في مدارج التكليف من حال إلى حال، على قدر إدراكه، وحسب استطاعته، وتبعا لحاجته، وهكذا كلما بلغ الإنسان درجة أرقى في التطور رفع عنه الحق سبحانه وتعالى من التكاليف ما لم يعد مناسبا، وكلفه بشرع جديد هو أكثر ملائمة لواقعه الجديد.
فلما استدار الزمان بحلول موعد البعثة المحمدية، وأذن الله بدخول الإنسان في بداية مرحلة الرشد، وإعداده لدرجة أعلى من الوعي والنضج، بعث الله خاتم الأنبياء بخاتمة الشرائع التي لا شريعة بعدها، والتي جاءت بنسخ ما قبلها مما لا يتفق معها.
ومن ثم كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عامة إلى الناس كافة، للدخول تحت حكمها، والتزام القيام بتكاليفها، ومن ثم كان رفضه البات لعذر بني إسرائيل في التخلف عن ركب الإسلام، بدعوى استحالة النسخ وزعم ( الالتزام )
وعلاوة على ذلك فإن في قوله تعالى :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾. إشارة خفيفة وتمهيدا مبدئيا لأمر إلهي آخر، سيوحي به الحق سبحانه وتعالى إلى رسوله والمؤمنين خلال فترة قريبة غير بعيدة، ألا وهو الأمر بالتخلي عن استقبال بيت المقدس في الصلاة، بعد استقباله منذ بدء الهجرة حوالي سبعة عشر شهرا، والتحول عنه إلى استقبال البيت الحرام، مما ستوضحه آيات أخرى في الحصص القادمة.
نعم جاءت في حصتنا اليوم آية كريمة تمهد الجو لهذا الحادث المهم، الذي سيخصص للمسلمين قبلة يستقلون بها عن بقية الملل، والآية التي أومأنا إليها تشير للأمر المنتظر بمنتهى الإجمال والإيجاز، وهي قوله تعالى :﴿ وَلِلَهِ المَشرِقُ والمَغرِبُ، فأينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ اللهِ، إِنَّ اللهِ واسِعٌ عَلِيمٌ( ١١٥ ) ﴾.
ومن هنا يتجه الخطاب القرآني فجأة إلى المؤمنين محذرا إياهم من تقليد بني إسرائيل في إلقاء أسئلتهم المحرجة، القائمة على روح الجدل والتعنت، فيقول :﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أن تَسئَلُوا رَسُولَكُم كَمَا سُئِلَ مُوسى مِن قَبلُ ﴾. والتشبه هنا واقع بالأسئلة التي وجهها إلى موسى بنو إسرائيل في شأن البقرة وذبحها، طبقا لما حكته عنهم الآيات السالفة.
وتأتي في نفس المقام آية أخرى تستنكر أن يقف بعض البسطاء ممن لا يعلمون، موقفا مشابها لموقف بني إسرائيل، تقليدا لأساليبهم الملتوية في العناد والتردد، إذ تقول حكاية عن هذا الفريق " الإسرائيلي الاتجاه " :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ﴾. ثم تعقب على هذا القول كاشفة عن مصدره، ومبينة لسببه، إذ تقول :﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾. وواضح أن تشابه القلوب، أي تشابه العواطف والمشاعر، عامل من عوامل التشابه في الأفكار والآراء والارتسامات، والذين قالوا مثل هذا القول من قبلهم هم بنو إسرائيل، قالوه لموسى كما حكته عنهم آية سابقة :﴿ وَإذ قُلتُم يَا مُوسى لَن نُومِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهرَةً ﴾. وهكذا يكافح الإسلام كل ما يتسرب إلى مجتمعه من شبه بني إسرائيل وضلالاتهم ودعاياتهم.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٦:الربع الثالث من الحزب الثاني
في المصحف الكريم
مما هو معلوم من الدين بالضرورة، أن رسالة الإسلام رسالة عامة موجهة إلى كافة البشر، وأن شريعته مهيمنة على ما سبقها من الشرائع.
ومن هنا انطلقت الدعوة الإسلامية في كل اتجاه، فاتجهت إلى نفس أهل الكتاب، وفي طليعتهم بنو إسرائيل الذين كانوا يتمتعون بين مشركي العرب بشيء من الاحترام، فطالبتهم بالدخول في دين الله، والاندماج في الأمة الإسلامية اندماجا كاملا، إذ أن الإسلام جاء ناسخا لما قبله، ودعوته موجهة للجميع﴿ قُل يأيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللهِ إلَيكُم جَمِيعاً ﴾.
وقد أشار القرآن الكريم إلى الدعوة الموجهة إليهم، وإلى كيفية جوابهم عنها، فحكى عنهم موقفهم المتعنت ﴿ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا نُومِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَينَا، وَيَكفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ ﴾.
وهم في هذا الجواب الملتوي لم يكشفوا عن حقيقة رأيهم كاملا، إذ إنهم في الحقيقة كانوا ينظرون من بعيد إلى اعتقادهم الراسخ بأن شريعتهم ليست موقتة بوقت محدود، ولا مغياة ببعثة رسول آخر يأتي من بعد موسى وعيسى اسمه " أحمد "، بل إن شريعتهم ستظل مستمرة ومطلقة. وإذن فلا يمكن أن يدخل عليها، أي نسخ، لأن نسخ الشريعة بأخرى في نظرهم مستحيل، وقد بنوا نظريتهم في استحالة النسخ على مزاعم واهية، واستنتاجات خيالية.
وردا عليهم، وإبطالا لنظريتهم، جاءت الآية الكريمة تقول :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾. فتؤكد-على عكس ما يدعون-إمكان النسخ في الشرائع، بل تثبت وقوعه فيها فعلا، ثم توضح وجه الحكمة فيه، وأن مرده هو ضمان خير البشرية ونفعها تبعا لاختلاف الظروف، وكأن هذه الآية الكريمة تقول لبني إسرائيل : إن الشريعة التي جاء بها الإسلام ودعاكم إليها قد نسخت شريعتكم ووضعت لها حدا، وعوضتكم عنها بشريعة أكمل وأفضل، وهي نخبة الشرائع وخاتمة الأديان، فلا يسعكم الآن إلا أن تتخلوا عن شريعتكم وتدخلوا في دين الله أفواجا.
وبعد ما أثبتت هذه الآية مبدأ النسخ، وبينت وجه الحكمة فيه، وهو مصلحة المكلفين وخيرهم- ردا على مزاعم بني إسرائيل-عقبت على ذلك بما يؤكد أن الأمر في هذا المقام يتعلق قبل كل شئ بقدرة الله المطلقة، ويرتبط بتصرفه الشامل، تلك القدرة وذلك التصرف اللذان لا يحدهما شئ، فلله أن يرسل من يشاء، ولله أن يأمر بما يشاء، في أي وقت شاء، وبذلك تنطق هذه الآيات :﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ١٠٦ ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾. وفي مثل هذا السياق جاء قوله تعالى :﴿ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمرُ ﴾. ﴿ أَلَيسَ اللهُ بِأحكَمِ الحَاكِمينَ ﴾-
﴿ اللهُ أَعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالاَتِهِ ﴾.
ومن البديهيات المتعارفة أن الإنسانية قد مرت بعدة أطوار، وأن الله تعالى بفضل ربوبيته، وفيض رحمته، لم يزل يبعث لهداية الإنسان الأنبياء والرسل، فوجا إثر فوج، ما بين الفترة والأخرى، وكلفه على لسانهم في كل مرحلة من مراحل حياته بالتكاليف المناسبة لتلك المرحلة، أخذا بيد الإنسان، الذي اقتضت حكمته أن يستخلفه في الأرض، إلى طريق الرشاد، وتدريجا له في مدارج التكليف من حال إلى حال، على قدر إدراكه، وحسب استطاعته، وتبعا لحاجته، وهكذا كلما بلغ الإنسان درجة أرقى في التطور رفع عنه الحق سبحانه وتعالى من التكاليف ما لم يعد مناسبا، وكلفه بشرع جديد هو أكثر ملائمة لواقعه الجديد.
فلما استدار الزمان بحلول موعد البعثة المحمدية، وأذن الله بدخول الإنسان في بداية مرحلة الرشد، وإعداده لدرجة أعلى من الوعي والنضج، بعث الله خاتم الأنبياء بخاتمة الشرائع التي لا شريعة بعدها، والتي جاءت بنسخ ما قبلها مما لا يتفق معها.
ومن ثم كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عامة إلى الناس كافة، للدخول تحت حكمها، والتزام القيام بتكاليفها، ومن ثم كان رفضه البات لعذر بني إسرائيل في التخلف عن ركب الإسلام، بدعوى استحالة النسخ وزعم ( الالتزام )
وعلاوة على ذلك فإن في قوله تعالى :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾. إشارة خفيفة وتمهيدا مبدئيا لأمر إلهي آخر، سيوحي به الحق سبحانه وتعالى إلى رسوله والمؤمنين خلال فترة قريبة غير بعيدة، ألا وهو الأمر بالتخلي عن استقبال بيت المقدس في الصلاة، بعد استقباله منذ بدء الهجرة حوالي سبعة عشر شهرا، والتحول عنه إلى استقبال البيت الحرام، مما ستوضحه آيات أخرى في الحصص القادمة.
نعم جاءت في حصتنا اليوم آية كريمة تمهد الجو لهذا الحادث المهم، الذي سيخصص للمسلمين قبلة يستقلون بها عن بقية الملل، والآية التي أومأنا إليها تشير للأمر المنتظر بمنتهى الإجمال والإيجاز، وهي قوله تعالى :﴿ وَلِلَهِ المَشرِقُ والمَغرِبُ، فأينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ اللهِ، إِنَّ اللهِ واسِعٌ عَلِيمٌ( ١١٥ ) ﴾.
ومن هنا يتجه الخطاب القرآني فجأة إلى المؤمنين محذرا إياهم من تقليد بني إسرائيل في إلقاء أسئلتهم المحرجة، القائمة على روح الجدل والتعنت، فيقول :﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أن تَسئَلُوا رَسُولَكُم كَمَا سُئِلَ مُوسى مِن قَبلُ ﴾. والتشبه هنا واقع بالأسئلة التي وجهها إلى موسى بنو إسرائيل في شأن البقرة وذبحها، طبقا لما حكته عنهم الآيات السالفة.
وتأتي في نفس المقام آية أخرى تستنكر أن يقف بعض البسطاء ممن لا يعلمون، موقفا مشابها لموقف بني إسرائيل، تقليدا لأساليبهم الملتوية في العناد والتردد، إذ تقول حكاية عن هذا الفريق " الإسرائيلي الاتجاه " :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ﴾. ثم تعقب على هذا القول كاشفة عن مصدره، ومبينة لسببه، إذ تقول :﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾. وواضح أن تشابه القلوب، أي تشابه العواطف والمشاعر، عامل من عوامل التشابه في الأفكار والآراء والارتسامات، والذين قالوا مثل هذا القول من قبلهم هم بنو إسرائيل، قالوه لموسى كما حكته عنهم آية سابقة :﴿ وَإذ قُلتُم يَا مُوسى لَن نُومِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهرَةً ﴾. وهكذا يكافح الإسلام كل ما يتسرب إلى مجتمعه من شبه بني إسرائيل وضلالاتهم ودعاياتهم.

ويواصل الخطاب الإلهي تحذيره للمسلمين من الوقوع في أشراك وحبائل الملل الأخرى، ومن السير في ركاب أهلها، مؤكدا بأقوى وجوه التأكيد أن الرضى التام من غير المسلمين عن المسلمين مرهون مسبقا وقبل كل شئ بالاندماج فيهم وبالتنكر للإسلام، وهكذا يخاطب الله رسوله، وعن طريقه يخاطب كافة المؤمنين :﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ ثم يلقن الله لرسوله والمؤمنين الجواب الفاصل للدفاع في هذا الموقف ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ وإذن فلا هدى في سواه، وإنما في سواه الضلال والخبال، على حد ما جاء في الأثر في وصف القرآن ( من ابتغى الهدى في غيره أضله الله ).
الربع الأخير من الحزب الثاني
في المصحف الكريم
ففي هذا الربع من سورة البقرة، يتولى القرآن الكريم الحديث عن أكبر وأضخم شخصية عرفها التاريخ في عالم النبوة قبل البعثة المحمدية، ألا وهي شخصية " أب الأنبياء وخليل الرحمن " كما أطلقت عليه الأجيال اللاحقة من مختلف الأديان.
ولا يقتصر الحديث هنا على شخصيته الفذة، ومكانته الفريدة، كأول رسول بعد نوح عليه السلام، ضرب الرقم القياسي في مكافحة الوثنية والوثنيين، حتى ألقى به قومه في أتون النار، فقال لها الله ﴿ يا نَارُ كُونِي بَرداً وسَلاَماً عَلَى إبرَاهِيمَ ﴾، بل يتناول ملة إبراهيم فيشرح حقيقتها، ويعيد الحق في شأنها إلى نصابه، كما يتناول بالذكر مقام إبراهيم، والبيت الحرام الذي أسسه باسم الله، ولأجل عبادته وحده لا شريك له، فكان أول بيت وضع للناس.
وفي هذا السياق المنسجم المتناسق يكشف القرآن الكريم عن حقائق أساسية، دينية وتاريخية، هو أول من كشف عنها الستار، ولفت إليها الأنظار.
* الحقيقة الأولى : إن ملة إبراهيم، القائمة على توحيد الله، وإفراده بالألوهية والربوبية دون سواه، كانت ولا تزال وستظل دائما هي الملة الوحيدة التي بعث الله بها كافة الأنبياء والرسل، والعقيدة الجوهرية التي أوحى الله بها إلى الناس، وطالبهم بالإيمان بها في كتبه المنزلة، تعريفا للخلق بخالقهم بديع السموات والأرض ﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ( ١٣٠ ) ﴾- ﴿ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ( ١٣٨ ) ﴾
* الحقيقة الثانية : إن ملة إبراهيم هي وحدها الدين الخالد الذي توارثه الأنبياء والرسل، وتواصوا به خلفا عن سلف، وأبا عن جد، وعاشوا في سبيله دون تبديل ولا تغيير ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ وفي مثل هذا المعنى نزل قوله تعالى في سورة الشورى :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصى بِهِ نُوحاً وَالذِي أوحَيناَ إلَيكَ ومَا وَصَّيناَ بِهِ إبرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدِّينَ ولاَ تَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى المُشرِكينَ مَا تَدعُوهُمُ إليهِ ﴾
* الحقيقة الثالثة : إن إبراهيم الخليل الذي دعا الله أن يبعث في ذريته رسولا منهم فقال وهو يناجي ربه ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( ١٢٩ ) ﴾ قد تقبل الله دعاءه، واستجاب له، فبعث ذلك الرسول، المرتقب منذ عهد طويل، وهو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل ذلك الكتاب، المنتظر منذ أمد بعيد وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
* الحقيقة الرابعة : إن ملة إبراهيم في صفائها ونقائها وبعدها عن كل شائبة من شوائب الشك والانحراف، هي بنفسها ملة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ مِّلَّةِ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ، هُوَ سَمَّاكُم المُسلِمينَ مِن قَبلُ وفي هَذاَ، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ فهو الذي أرسله الله لإحيائها وتجديد معالمها بعد الاندثار، وهو الذي بعثه لبعثها بين الناس من جديد، تحقيقا لدعوة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾
* الحقيقة الخامسة : إن أول بيت أقيم على وجه الأرض باسم الله ولعبادته وحده، عبادة خالصة من كل شرك، طاهرة من كل دنس، هو مقام إبراهيم الذي أمر الله باتخاذه مصلى، فهو بيت الله الحرام، وهو البيت العتيق، وهو البيت المقدس قبل بيت المقدس ﴿ وَإذ جَعَلنَا البَيتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمناً، واتَّخَذُوا مِن مَّقَام إبرَاهِيمَ مُصَلَّى، وَعَهِدنَا إلَى إبراهِيمَ وإسمَاعِيلَ أن طَهِّرا بَيتِي لِلطَائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ( ١٢٥ ) ﴾- ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٢٧ ) ﴾ وفي مثل هذا المقام نزل قوله تعالى في سورة آل عمران :﴿ إِنَّ أَوَلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدَىً لِّلعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، مَّقَامُ إبرَاهِيمَ، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً، وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيتِ مَن استطَاعَ إلَيهِ سَبِيلاً ﴾.
* الحقيقة السادسة : إن اليهودية والنصرانية التي تنتمي كل واحدة منهما زورا وبهتانا إلى إبراهيم الخليل وملته الحنيفية، قد انقطعت علاقتهما مع ملة إبراهيم انقطاعا تاما منذ دخلهما التحريف والتأويل، والتغيير والتبديل، وإن وثنية الجاهلية التي يدين بها المشركون العرب هي نقيض الحنيفية السمحة، بحيث لا يمكن أن يلتقيا في أي خط من الخطوط، ومهما ادعت اليهودية أو النصرانية أو الوثنية من قرابة مع ملة إبراهيم، ومن اقتباس من عقائدها أو شعائرها، فإنما تدعي زورا وتقول بهتانا.
وعلى فرض أنها لم تزل تتناقل بعض العقائد أو بعض الشعائر عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لا ينفي أنها قد غيرت حقيقة الملة الحنيفية، وشوهت معالمها، وأدخلت عليها من العناصر الغريبة والدخيلة ما جعلها مناقضة للأصل كل المناقضة، جوهرا ومظهرا ﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ١٣٥ ) ﴾.
﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ( ١٤٠ ) ﴾. -﴿ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشرِكينَ ﴾.
هذه ست حقائق أساسية لفهم طبيعة الإسلام ومكانه بين الأديان، من جهة، ولإبراز أصالته وعراقته واتصال سنده وصحته، من جهة ثانية، ولتوجيه الأنظار إلى وجه الحكمة فيما سيؤول إليه الأمر عما قريب، من وقوع الاختيار الإلهي على البيت الحرام، وجعله دون سواه قبلة خالصة للمسلمين دون غيرهم من جهة ثالثة.
والآن نقف وقفة قصيرة أمام بعض الآيات البينات الواردة في هذا المقام.
فهذه آية تشير من قريب إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يرشح من بين عباده للمقامات العليا إلا من برهنوا على أهليتهم لها، بأداء التكاليف التي كلفهم بها على وجهها، وجوازهم لامتحان الابتلاء الإلهي بنجاح تام، وذلك قوله تعالى :﴿ وإذِ ابتَلَى إبرَاهِيمَ رَبُّهُ يِكَلِمَاتٍ فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾. أي قدوة يقتدي به الأنبياء فمن دونهم، ويناسبه قوله تعالى في مكان آخر :﴿ إِنَّ إبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾، ﴿ وَإِبرَاهِيمَ الذِي وَفَّى ﴾، ﴿ وَاتَّخّذَ اللهُ إبراهيم خَلِيلاً ﴾.
وهذه آية أخرى تشير إلى أن مجرد الانتساب إلى سلف صالح دون قيام المنتسب لهم بالعمل الصالح لا ينفع صاحبه في قليل ولا كثير، إذ العبرة بالعمل قبل النسب، وذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل قَالَ :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾. فأجابه الحق سبحانه وتعالى :﴿ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ( ١٢٤ ) ﴾. وفي هذا المعنى قوله تعالى :﴿ إنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم ﴾. ﴿ فَإذاَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلاَ يَتَساءَلُونَ ﴾. وقوله صلى الله عليه وسلم :( من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).
وهذه آية ثالثة تسجل دعاء إبراهيم للبيت الحرام وما حوله بالأمن الدائم والرزق المستمر، فتمضي القرون تلو القرون منذ وقت دعائه إلى الآن، وإلى ما شاء الله من الأزمان، ودعوة إبراهيم التي استجابها الله بفضله وكرمه قائمة لا تتخلف، ومفعولها سار لا ينقطع، فظلال الأمن فيه وارفة، وثمرات الرزق وافرة، والطائفون والعاكفون والركع السجود لا يخلو منهم بيت الله لحظة من اللحظات، فقد جعله الله بفضله مثابة للناس وأمنا :
( مثابة ) تشد إليه الرحال، ويأتيه الناس من كل فج عميق، ومن سعد بالحج إليه مرة حاول أن يعود إليه مرارا، لما يلازمه من شوق وحنين، وهوى في القلب دفين.
و( أمنا ) يتناسى فيه الموتورون أحقادهم، والمغرضون أهواءهم، فلا يذكرون فيه إلا شيئا واحدا هو عبادة الله الواحد الأحد، ولا يهتمون فيه إلا بشيء واحد هو تعظيم حرمات الله، والوقوف فيها عندما حد الله، وذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾.
ومما يتصل بهذا الموضوع اتصالا وثيقا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل في سورة إبراهيم، وهو مسك الختام لهذا الحديث :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾. - ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٤:الربع الأخير من الحزب الثاني
في المصحف الكريم
ففي هذا الربع من سورة البقرة، يتولى القرآن الكريم الحديث عن أكبر وأضخم شخصية عرفها التاريخ في عالم النبوة قبل البعثة المحمدية، ألا وهي شخصية " أب الأنبياء وخليل الرحمن " كما أطلقت عليه الأجيال اللاحقة من مختلف الأديان.
ولا يقتصر الحديث هنا على شخصيته الفذة، ومكانته الفريدة، كأول رسول بعد نوح عليه السلام، ضرب الرقم القياسي في مكافحة الوثنية والوثنيين، حتى ألقى به قومه في أتون النار، فقال لها الله ﴿ يا نَارُ كُونِي بَرداً وسَلاَماً عَلَى إبرَاهِيمَ ﴾، بل يتناول ملة إبراهيم فيشرح حقيقتها، ويعيد الحق في شأنها إلى نصابه، كما يتناول بالذكر مقام إبراهيم، والبيت الحرام الذي أسسه باسم الله، ولأجل عبادته وحده لا شريك له، فكان أول بيت وضع للناس.
وفي هذا السياق المنسجم المتناسق يكشف القرآن الكريم عن حقائق أساسية، دينية وتاريخية، هو أول من كشف عنها الستار، ولفت إليها الأنظار.
* الحقيقة الأولى : إن ملة إبراهيم، القائمة على توحيد الله، وإفراده بالألوهية والربوبية دون سواه، كانت ولا تزال وستظل دائما هي الملة الوحيدة التي بعث الله بها كافة الأنبياء والرسل، والعقيدة الجوهرية التي أوحى الله بها إلى الناس، وطالبهم بالإيمان بها في كتبه المنزلة، تعريفا للخلق بخالقهم بديع السموات والأرض ﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ( ١٣٠ ) ﴾- ﴿ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ( ١٣٨ ) ﴾
* الحقيقة الثانية : إن ملة إبراهيم هي وحدها الدين الخالد الذي توارثه الأنبياء والرسل، وتواصوا به خلفا عن سلف، وأبا عن جد، وعاشوا في سبيله دون تبديل ولا تغيير ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ وفي مثل هذا المعنى نزل قوله تعالى في سورة الشورى :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصى بِهِ نُوحاً وَالذِي أوحَيناَ إلَيكَ ومَا وَصَّيناَ بِهِ إبرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدِّينَ ولاَ تَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى المُشرِكينَ مَا تَدعُوهُمُ إليهِ ﴾
* الحقيقة الثالثة : إن إبراهيم الخليل الذي دعا الله أن يبعث في ذريته رسولا منهم فقال وهو يناجي ربه ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( ١٢٩ ) ﴾ قد تقبل الله دعاءه، واستجاب له، فبعث ذلك الرسول، المرتقب منذ عهد طويل، وهو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل ذلك الكتاب، المنتظر منذ أمد بعيد وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
* الحقيقة الرابعة : إن ملة إبراهيم في صفائها ونقائها وبعدها عن كل شائبة من شوائب الشك والانحراف، هي بنفسها ملة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ مِّلَّةِ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ، هُوَ سَمَّاكُم المُسلِمينَ مِن قَبلُ وفي هَذاَ، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ فهو الذي أرسله الله لإحيائها وتجديد معالمها بعد الاندثار، وهو الذي بعثه لبعثها بين الناس من جديد، تحقيقا لدعوة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾
* الحقيقة الخامسة : إن أول بيت أقيم على وجه الأرض باسم الله ولعبادته وحده، عبادة خالصة من كل شرك، طاهرة من كل دنس، هو مقام إبراهيم الذي أمر الله باتخاذه مصلى، فهو بيت الله الحرام، وهو البيت العتيق، وهو البيت المقدس قبل بيت المقدس ﴿ وَإذ جَعَلنَا البَيتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمناً، واتَّخَذُوا مِن مَّقَام إبرَاهِيمَ مُصَلَّى، وَعَهِدنَا إلَى إبراهِيمَ وإسمَاعِيلَ أن طَهِّرا بَيتِي لِلطَائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ( ١٢٥ ) ﴾- ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٢٧ ) ﴾ وفي مثل هذا المقام نزل قوله تعالى في سورة آل عمران :﴿ إِنَّ أَوَلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدَىً لِّلعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، مَّقَامُ إبرَاهِيمَ، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً، وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيتِ مَن استطَاعَ إلَيهِ سَبِيلاً ﴾.
* الحقيقة السادسة : إن اليهودية والنصرانية التي تنتمي كل واحدة منهما زورا وبهتانا إلى إبراهيم الخليل وملته الحنيفية، قد انقطعت علاقتهما مع ملة إبراهيم انقطاعا تاما منذ دخلهما التحريف والتأويل، والتغيير والتبديل، وإن وثنية الجاهلية التي يدين بها المشركون العرب هي نقيض الحنيفية السمحة، بحيث لا يمكن أن يلتقيا في أي خط من الخطوط، ومهما ادعت اليهودية أو النصرانية أو الوثنية من قرابة مع ملة إبراهيم، ومن اقتباس من عقائدها أو شعائرها، فإنما تدعي زورا وتقول بهتانا.
وعلى فرض أنها لم تزل تتناقل بعض العقائد أو بعض الشعائر عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لا ينفي أنها قد غيرت حقيقة الملة الحنيفية، وشوهت معالمها، وأدخلت عليها من العناصر الغريبة والدخيلة ما جعلها مناقضة للأصل كل المناقضة، جوهرا ومظهرا ﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ١٣٥ ) ﴾.
﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ( ١٤٠ ) ﴾. -﴿ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشرِكينَ ﴾.
هذه ست حقائق أساسية لفهم طبيعة الإسلام ومكانه بين الأديان، من جهة، ولإبراز أصالته وعراقته واتصال سنده وصحته، من جهة ثانية، ولتوجيه الأنظار إلى وجه الحكمة فيما سيؤول إليه الأمر عما قريب، من وقوع الاختيار الإلهي على البيت الحرام، وجعله دون سواه قبلة خالصة للمسلمين دون غيرهم من جهة ثالثة.
والآن نقف وقفة قصيرة أمام بعض الآيات البينات الواردة في هذا المقام.
فهذه آية تشير من قريب إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يرشح من بين عباده للمقامات العليا إلا من برهنوا على أهليتهم لها، بأداء التكاليف التي كلفهم بها على وجهها، وجوازهم لامتحان الابتلاء الإلهي بنجاح تام، وذلك قوله تعالى :﴿ وإذِ ابتَلَى إبرَاهِيمَ رَبُّهُ يِكَلِمَاتٍ فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾. أي قدوة يقتدي به الأنبياء فمن دونهم، ويناسبه قوله تعالى في مكان آخر :﴿ إِنَّ إبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾، ﴿ وَإِبرَاهِيمَ الذِي وَفَّى ﴾، ﴿ وَاتَّخّذَ اللهُ إبراهيم خَلِيلاً ﴾.
وهذه آية أخرى تشير إلى أن مجرد الانتساب إلى سلف صالح دون قيام المنتسب لهم بالعمل الصالح لا ينفع صاحبه في قليل ولا كثير، إذ العبرة بالعمل قبل النسب، وذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل قَالَ :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾. فأجابه الحق سبحانه وتعالى :﴿ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ( ١٢٤ ) ﴾. وفي هذا المعنى قوله تعالى :﴿ إنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم ﴾. ﴿ فَإذاَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلاَ يَتَساءَلُونَ ﴾. وقوله صلى الله عليه وسلم :( من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).
وهذه آية ثالثة تسجل دعاء إبراهيم للبيت الحرام وما حوله بالأمن الدائم والرزق المستمر، فتمضي القرون تلو القرون منذ وقت دعائه إلى الآن، وإلى ما شاء الله من الأزمان، ودعوة إبراهيم التي استجابها الله بفضله وكرمه قائمة لا تتخلف، ومفعولها سار لا ينقطع، فظلال الأمن فيه وارفة، وثمرات الرزق وافرة، والطائفون والعاكفون والركع السجود لا يخلو منهم بيت الله لحظة من اللحظات، فقد جعله الله بفضله مثابة للناس وأمنا :
( مثابة ) تشد إليه الرحال، ويأتيه الناس من كل فج عميق، ومن سعد بالحج إليه مرة حاول أن يعود إليه مرارا، لما يلازمه من شوق وحنين، وهوى في القلب دفين.
و( أمنا ) يتناسى فيه الموتورون أحقادهم، والمغرضون أهواءهم، فلا يذكرون فيه إلا شيئا واحدا هو عبادة الله الواحد الأحد، ولا يهتمون فيه إلا بشيء واحد هو تعظيم حرمات الله، والوقوف فيها عندما حد الله، وذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾.
ومما يتصل بهذا الموضوع اتصالا وثيقا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل في سورة إبراهيم، وهو مسك الختام لهذا الحديث :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾. - ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٤:الربع الأخير من الحزب الثاني
في المصحف الكريم
ففي هذا الربع من سورة البقرة، يتولى القرآن الكريم الحديث عن أكبر وأضخم شخصية عرفها التاريخ في عالم النبوة قبل البعثة المحمدية، ألا وهي شخصية " أب الأنبياء وخليل الرحمن " كما أطلقت عليه الأجيال اللاحقة من مختلف الأديان.
ولا يقتصر الحديث هنا على شخصيته الفذة، ومكانته الفريدة، كأول رسول بعد نوح عليه السلام، ضرب الرقم القياسي في مكافحة الوثنية والوثنيين، حتى ألقى به قومه في أتون النار، فقال لها الله ﴿ يا نَارُ كُونِي بَرداً وسَلاَماً عَلَى إبرَاهِيمَ ﴾، بل يتناول ملة إبراهيم فيشرح حقيقتها، ويعيد الحق في شأنها إلى نصابه، كما يتناول بالذكر مقام إبراهيم، والبيت الحرام الذي أسسه باسم الله، ولأجل عبادته وحده لا شريك له، فكان أول بيت وضع للناس.
وفي هذا السياق المنسجم المتناسق يكشف القرآن الكريم عن حقائق أساسية، دينية وتاريخية، هو أول من كشف عنها الستار، ولفت إليها الأنظار.
* الحقيقة الأولى : إن ملة إبراهيم، القائمة على توحيد الله، وإفراده بالألوهية والربوبية دون سواه، كانت ولا تزال وستظل دائما هي الملة الوحيدة التي بعث الله بها كافة الأنبياء والرسل، والعقيدة الجوهرية التي أوحى الله بها إلى الناس، وطالبهم بالإيمان بها في كتبه المنزلة، تعريفا للخلق بخالقهم بديع السموات والأرض ﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ( ١٣٠ ) ﴾- ﴿ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ( ١٣٨ ) ﴾
* الحقيقة الثانية : إن ملة إبراهيم هي وحدها الدين الخالد الذي توارثه الأنبياء والرسل، وتواصوا به خلفا عن سلف، وأبا عن جد، وعاشوا في سبيله دون تبديل ولا تغيير ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ وفي مثل هذا المعنى نزل قوله تعالى في سورة الشورى :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصى بِهِ نُوحاً وَالذِي أوحَيناَ إلَيكَ ومَا وَصَّيناَ بِهِ إبرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدِّينَ ولاَ تَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى المُشرِكينَ مَا تَدعُوهُمُ إليهِ ﴾
* الحقيقة الثالثة : إن إبراهيم الخليل الذي دعا الله أن يبعث في ذريته رسولا منهم فقال وهو يناجي ربه ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( ١٢٩ ) ﴾ قد تقبل الله دعاءه، واستجاب له، فبعث ذلك الرسول، المرتقب منذ عهد طويل، وهو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل ذلك الكتاب، المنتظر منذ أمد بعيد وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
* الحقيقة الرابعة : إن ملة إبراهيم في صفائها ونقائها وبعدها عن كل شائبة من شوائب الشك والانحراف، هي بنفسها ملة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ مِّلَّةِ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ، هُوَ سَمَّاكُم المُسلِمينَ مِن قَبلُ وفي هَذاَ، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ فهو الذي أرسله الله لإحيائها وتجديد معالمها بعد الاندثار، وهو الذي بعثه لبعثها بين الناس من جديد، تحقيقا لدعوة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾
* الحقيقة الخامسة : إن أول بيت أقيم على وجه الأرض باسم الله ولعبادته وحده، عبادة خالصة من كل شرك، طاهرة من كل دنس، هو مقام إبراهيم الذي أمر الله باتخاذه مصلى، فهو بيت الله الحرام، وهو البيت العتيق، وهو البيت المقدس قبل بيت المقدس ﴿ وَإذ جَعَلنَا البَيتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمناً، واتَّخَذُوا مِن مَّقَام إبرَاهِيمَ مُصَلَّى، وَعَهِدنَا إلَى إبراهِيمَ وإسمَاعِيلَ أن طَهِّرا بَيتِي لِلطَائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ( ١٢٥ ) ﴾- ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٢٧ ) ﴾ وفي مثل هذا المقام نزل قوله تعالى في سورة آل عمران :﴿ إِنَّ أَوَلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدَىً لِّلعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، مَّقَامُ إبرَاهِيمَ، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً، وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيتِ مَن استطَاعَ إلَيهِ سَبِيلاً ﴾.
* الحقيقة السادسة : إن اليهودية والنصرانية التي تنتمي كل واحدة منهما زورا وبهتانا إلى إبراهيم الخليل وملته الحنيفية، قد انقطعت علاقتهما مع ملة إبراهيم انقطاعا تاما منذ دخلهما التحريف والتأويل، والتغيير والتبديل، وإن وثنية الجاهلية التي يدين بها المشركون العرب هي نقيض الحنيفية السمحة، بحيث لا يمكن أن يلتقيا في أي خط من الخطوط، ومهما ادعت اليهودية أو النصرانية أو الوثنية من قرابة مع ملة إبراهيم، ومن اقتباس من عقائدها أو شعائرها، فإنما تدعي زورا وتقول بهتانا.
وعلى فرض أنها لم تزل تتناقل بعض العقائد أو بعض الشعائر عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لا ينفي أنها قد غيرت حقيقة الملة الحنيفية، وشوهت معالمها، وأدخلت عليها من العناصر الغريبة والدخيلة ما جعلها مناقضة للأصل كل المناقضة، جوهرا ومظهرا ﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ١٣٥ ) ﴾.
﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ( ١٤٠ ) ﴾. -﴿ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشرِكينَ ﴾.
هذه ست حقائق أساسية لفهم طبيعة الإسلام ومكانه بين الأديان، من جهة، ولإبراز أصالته وعراقته واتصال سنده وصحته، من جهة ثانية، ولتوجيه الأنظار إلى وجه الحكمة فيما سيؤول إليه الأمر عما قريب، من وقوع الاختيار الإلهي على البيت الحرام، وجعله دون سواه قبلة خالصة للمسلمين دون غيرهم من جهة ثالثة.
والآن نقف وقفة قصيرة أمام بعض الآيات البينات الواردة في هذا المقام.
فهذه آية تشير من قريب إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يرشح من بين عباده للمقامات العليا إلا من برهنوا على أهليتهم لها، بأداء التكاليف التي كلفهم بها على وجهها، وجوازهم لامتحان الابتلاء الإلهي بنجاح تام، وذلك قوله تعالى :﴿ وإذِ ابتَلَى إبرَاهِيمَ رَبُّهُ يِكَلِمَاتٍ فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾. أي قدوة يقتدي به الأنبياء فمن دونهم، ويناسبه قوله تعالى في مكان آخر :﴿ إِنَّ إبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾، ﴿ وَإِبرَاهِيمَ الذِي وَفَّى ﴾، ﴿ وَاتَّخّذَ اللهُ إبراهيم خَلِيلاً ﴾.
وهذه آية أخرى تشير إلى أن مجرد الانتساب إلى سلف صالح دون قيام المنتسب لهم بالعمل الصالح لا ينفع صاحبه في قليل ولا كثير، إذ العبرة بالعمل قبل النسب، وذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل قَالَ :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾. فأجابه الحق سبحانه وتعالى :﴿ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ( ١٢٤ ) ﴾. وفي هذا المعنى قوله تعالى :﴿ إنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم ﴾. ﴿ فَإذاَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلاَ يَتَساءَلُونَ ﴾. وقوله صلى الله عليه وسلم :( من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).
وهذه آية ثالثة تسجل دعاء إبراهيم للبيت الحرام وما حوله بالأمن الدائم والرزق المستمر، فتمضي القرون تلو القرون منذ وقت دعائه إلى الآن، وإلى ما شاء الله من الأزمان، ودعوة إبراهيم التي استجابها الله بفضله وكرمه قائمة لا تتخلف، ومفعولها سار لا ينقطع، فظلال الأمن فيه وارفة، وثمرات الرزق وافرة، والطائفون والعاكفون والركع السجود لا يخلو منهم بيت الله لحظة من اللحظات، فقد جعله الله بفضله مثابة للناس وأمنا :
( مثابة ) تشد إليه الرحال، ويأتيه الناس من كل فج عميق، ومن سعد بالحج إليه مرة حاول أن يعود إليه مرارا، لما يلازمه من شوق وحنين، وهوى في القلب دفين.
و( أمنا ) يتناسى فيه الموتورون أحقادهم، والمغرضون أهواءهم، فلا يذكرون فيه إلا شيئا واحدا هو عبادة الله الواحد الأحد، ولا يهتمون فيه إلا بشيء واحد هو تعظيم حرمات الله، والوقوف فيها عندما حد الله، وذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾.
ومما يتصل بهذا الموضوع اتصالا وثيقا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل في سورة إبراهيم، وهو مسك الختام لهذا الحديث :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾. - ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٤:الربع الأخير من الحزب الثاني
في المصحف الكريم
ففي هذا الربع من سورة البقرة، يتولى القرآن الكريم الحديث عن أكبر وأضخم شخصية عرفها التاريخ في عالم النبوة قبل البعثة المحمدية، ألا وهي شخصية " أب الأنبياء وخليل الرحمن " كما أطلقت عليه الأجيال اللاحقة من مختلف الأديان.
ولا يقتصر الحديث هنا على شخصيته الفذة، ومكانته الفريدة، كأول رسول بعد نوح عليه السلام، ضرب الرقم القياسي في مكافحة الوثنية والوثنيين، حتى ألقى به قومه في أتون النار، فقال لها الله ﴿ يا نَارُ كُونِي بَرداً وسَلاَماً عَلَى إبرَاهِيمَ ﴾، بل يتناول ملة إبراهيم فيشرح حقيقتها، ويعيد الحق في شأنها إلى نصابه، كما يتناول بالذكر مقام إبراهيم، والبيت الحرام الذي أسسه باسم الله، ولأجل عبادته وحده لا شريك له، فكان أول بيت وضع للناس.
وفي هذا السياق المنسجم المتناسق يكشف القرآن الكريم عن حقائق أساسية، دينية وتاريخية، هو أول من كشف عنها الستار، ولفت إليها الأنظار.
* الحقيقة الأولى : إن ملة إبراهيم، القائمة على توحيد الله، وإفراده بالألوهية والربوبية دون سواه، كانت ولا تزال وستظل دائما هي الملة الوحيدة التي بعث الله بها كافة الأنبياء والرسل، والعقيدة الجوهرية التي أوحى الله بها إلى الناس، وطالبهم بالإيمان بها في كتبه المنزلة، تعريفا للخلق بخالقهم بديع السموات والأرض ﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ( ١٣٠ ) ﴾- ﴿ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ( ١٣٨ ) ﴾
* الحقيقة الثانية : إن ملة إبراهيم هي وحدها الدين الخالد الذي توارثه الأنبياء والرسل، وتواصوا به خلفا عن سلف، وأبا عن جد، وعاشوا في سبيله دون تبديل ولا تغيير ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ وفي مثل هذا المعنى نزل قوله تعالى في سورة الشورى :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصى بِهِ نُوحاً وَالذِي أوحَيناَ إلَيكَ ومَا وَصَّيناَ بِهِ إبرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدِّينَ ولاَ تَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى المُشرِكينَ مَا تَدعُوهُمُ إليهِ ﴾
* الحقيقة الثالثة : إن إبراهيم الخليل الذي دعا الله أن يبعث في ذريته رسولا منهم فقال وهو يناجي ربه ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( ١٢٩ ) ﴾ قد تقبل الله دعاءه، واستجاب له، فبعث ذلك الرسول، المرتقب منذ عهد طويل، وهو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل ذلك الكتاب، المنتظر منذ أمد بعيد وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
* الحقيقة الرابعة : إن ملة إبراهيم في صفائها ونقائها وبعدها عن كل شائبة من شوائب الشك والانحراف، هي بنفسها ملة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ مِّلَّةِ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ، هُوَ سَمَّاكُم المُسلِمينَ مِن قَبلُ وفي هَذاَ، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ فهو الذي أرسله الله لإحيائها وتجديد معالمها بعد الاندثار، وهو الذي بعثه لبعثها بين الناس من جديد، تحقيقا لدعوة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾
* الحقيقة الخامسة : إن أول بيت أقيم على وجه الأرض باسم الله ولعبادته وحده، عبادة خالصة من كل شرك، طاهرة من كل دنس، هو مقام إبراهيم الذي أمر الله باتخاذه مصلى، فهو بيت الله الحرام، وهو البيت العتيق، وهو البيت المقدس قبل بيت المقدس ﴿ وَإذ جَعَلنَا البَيتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمناً، واتَّخَذُوا مِن مَّقَام إبرَاهِيمَ مُصَلَّى، وَعَهِدنَا إلَى إبراهِيمَ وإسمَاعِيلَ أن طَهِّرا بَيتِي لِلطَائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ( ١٢٥ ) ﴾- ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٢٧ ) ﴾ وفي مثل هذا المقام نزل قوله تعالى في سورة آل عمران :﴿ إِنَّ أَوَلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدَىً لِّلعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، مَّقَامُ إبرَاهِيمَ، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً، وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيتِ مَن استطَاعَ إلَيهِ سَبِيلاً ﴾.
* الحقيقة السادسة : إن اليهودية والنصرانية التي تنتمي كل واحدة منهما زورا وبهتانا إلى إبراهيم الخليل وملته الحنيفية، قد انقطعت علاقتهما مع ملة إبراهيم انقطاعا تاما منذ دخلهما التحريف والتأويل، والتغيير والتبديل، وإن وثنية الجاهلية التي يدين بها المشركون العرب هي نقيض الحنيفية السمحة، بحيث لا يمكن أن يلتقيا في أي خط من الخطوط، ومهما ادعت اليهودية أو النصرانية أو الوثنية من قرابة مع ملة إبراهيم، ومن اقتباس من عقائدها أو شعائرها، فإنما تدعي زورا وتقول بهتانا.
وعلى فرض أنها لم تزل تتناقل بعض العقائد أو بعض الشعائر عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لا ينفي أنها قد غيرت حقيقة الملة الحنيفية، وشوهت معالمها، وأدخلت عليها من العناصر الغريبة والدخيلة ما جعلها مناقضة للأصل كل المناقضة، جوهرا ومظهرا ﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ١٣٥ ) ﴾.
﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ( ١٤٠ ) ﴾. -﴿ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشرِكينَ ﴾.
هذه ست حقائق أساسية لفهم طبيعة الإسلام ومكانه بين الأديان، من جهة، ولإبراز أصالته وعراقته واتصال سنده وصحته، من جهة ثانية، ولتوجيه الأنظار إلى وجه الحكمة فيما سيؤول إليه الأمر عما قريب، من وقوع الاختيار الإلهي على البيت الحرام، وجعله دون سواه قبلة خالصة للمسلمين دون غيرهم من جهة ثالثة.
والآن نقف وقفة قصيرة أمام بعض الآيات البينات الواردة في هذا المقام.
فهذه آية تشير من قريب إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يرشح من بين عباده للمقامات العليا إلا من برهنوا على أهليتهم لها، بأداء التكاليف التي كلفهم بها على وجهها، وجوازهم لامتحان الابتلاء الإلهي بنجاح تام، وذلك قوله تعالى :﴿ وإذِ ابتَلَى إبرَاهِيمَ رَبُّهُ يِكَلِمَاتٍ فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾. أي قدوة يقتدي به الأنبياء فمن دونهم، ويناسبه قوله تعالى في مكان آخر :﴿ إِنَّ إبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾، ﴿ وَإِبرَاهِيمَ الذِي وَفَّى ﴾، ﴿ وَاتَّخّذَ اللهُ إبراهيم خَلِيلاً ﴾.
وهذه آية أخرى تشير إلى أن مجرد الانتساب إلى سلف صالح دون قيام المنتسب لهم بالعمل الصالح لا ينفع صاحبه في قليل ولا كثير، إذ العبرة بالعمل قبل النسب، وذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل قَالَ :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾. فأجابه الحق سبحانه وتعالى :﴿ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ( ١٢٤ ) ﴾. وفي هذا المعنى قوله تعالى :﴿ إنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم ﴾. ﴿ فَإذاَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلاَ يَتَساءَلُونَ ﴾. وقوله صلى الله عليه وسلم :( من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).
وهذه آية ثالثة تسجل دعاء إبراهيم للبيت الحرام وما حوله بالأمن الدائم والرزق المستمر، فتمضي القرون تلو القرون منذ وقت دعائه إلى الآن، وإلى ما شاء الله من الأزمان، ودعوة إبراهيم التي استجابها الله بفضله وكرمه قائمة لا تتخلف، ومفعولها سار لا ينقطع، فظلال الأمن فيه وارفة، وثمرات الرزق وافرة، والطائفون والعاكفون والركع السجود لا يخلو منهم بيت الله لحظة من اللحظات، فقد جعله الله بفضله مثابة للناس وأمنا :
( مثابة ) تشد إليه الرحال، ويأتيه الناس من كل فج عميق، ومن سعد بالحج إليه مرة حاول أن يعود إليه مرارا، لما يلازمه من شوق وحنين، وهوى في القلب دفين.
و( أمنا ) يتناسى فيه الموتورون أحقادهم، والمغرضون أهواءهم، فلا يذكرون فيه إلا شيئا واحدا هو عبادة الله الواحد الأحد، ولا يهتمون فيه إلا بشيء واحد هو تعظيم حرمات الله، والوقوف فيها عندما حد الله، وذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾.
ومما يتصل بهذا الموضوع اتصالا وثيقا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل في سورة إبراهيم، وهو مسك الختام لهذا الحديث :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾. - ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٤:الربع الأخير من الحزب الثاني
في المصحف الكريم
ففي هذا الربع من سورة البقرة، يتولى القرآن الكريم الحديث عن أكبر وأضخم شخصية عرفها التاريخ في عالم النبوة قبل البعثة المحمدية، ألا وهي شخصية " أب الأنبياء وخليل الرحمن " كما أطلقت عليه الأجيال اللاحقة من مختلف الأديان.
ولا يقتصر الحديث هنا على شخصيته الفذة، ومكانته الفريدة، كأول رسول بعد نوح عليه السلام، ضرب الرقم القياسي في مكافحة الوثنية والوثنيين، حتى ألقى به قومه في أتون النار، فقال لها الله ﴿ يا نَارُ كُونِي بَرداً وسَلاَماً عَلَى إبرَاهِيمَ ﴾، بل يتناول ملة إبراهيم فيشرح حقيقتها، ويعيد الحق في شأنها إلى نصابه، كما يتناول بالذكر مقام إبراهيم، والبيت الحرام الذي أسسه باسم الله، ولأجل عبادته وحده لا شريك له، فكان أول بيت وضع للناس.
وفي هذا السياق المنسجم المتناسق يكشف القرآن الكريم عن حقائق أساسية، دينية وتاريخية، هو أول من كشف عنها الستار، ولفت إليها الأنظار.
* الحقيقة الأولى : إن ملة إبراهيم، القائمة على توحيد الله، وإفراده بالألوهية والربوبية دون سواه، كانت ولا تزال وستظل دائما هي الملة الوحيدة التي بعث الله بها كافة الأنبياء والرسل، والعقيدة الجوهرية التي أوحى الله بها إلى الناس، وطالبهم بالإيمان بها في كتبه المنزلة، تعريفا للخلق بخالقهم بديع السموات والأرض ﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ( ١٣٠ ) ﴾- ﴿ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ( ١٣٨ ) ﴾
* الحقيقة الثانية : إن ملة إبراهيم هي وحدها الدين الخالد الذي توارثه الأنبياء والرسل، وتواصوا به خلفا عن سلف، وأبا عن جد، وعاشوا في سبيله دون تبديل ولا تغيير ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ وفي مثل هذا المعنى نزل قوله تعالى في سورة الشورى :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصى بِهِ نُوحاً وَالذِي أوحَيناَ إلَيكَ ومَا وَصَّيناَ بِهِ إبرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدِّينَ ولاَ تَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى المُشرِكينَ مَا تَدعُوهُمُ إليهِ ﴾
* الحقيقة الثالثة : إن إبراهيم الخليل الذي دعا الله أن يبعث في ذريته رسولا منهم فقال وهو يناجي ربه ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( ١٢٩ ) ﴾ قد تقبل الله دعاءه، واستجاب له، فبعث ذلك الرسول، المرتقب منذ عهد طويل، وهو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل ذلك الكتاب، المنتظر منذ أمد بعيد وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
* الحقيقة الرابعة : إن ملة إبراهيم في صفائها ونقائها وبعدها عن كل شائبة من شوائب الشك والانحراف، هي بنفسها ملة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ مِّلَّةِ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ، هُوَ سَمَّاكُم المُسلِمينَ مِن قَبلُ وفي هَذاَ، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ فهو الذي أرسله الله لإحيائها وتجديد معالمها بعد الاندثار، وهو الذي بعثه لبعثها بين الناس من جديد، تحقيقا لدعوة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾
* الحقيقة الخامسة : إن أول بيت أقيم على وجه الأرض باسم الله ولعبادته وحده، عبادة خالصة من كل شرك، طاهرة من كل دنس، هو مقام إبراهيم الذي أمر الله باتخاذه مصلى، فهو بيت الله الحرام، وهو البيت العتيق، وهو البيت المقدس قبل بيت المقدس ﴿ وَإذ جَعَلنَا البَيتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمناً، واتَّخَذُوا مِن مَّقَام إبرَاهِيمَ مُصَلَّى، وَعَهِدنَا إلَى إبراهِيمَ وإسمَاعِيلَ أن طَهِّرا بَيتِي لِلطَائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ( ١٢٥ ) ﴾- ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٢٧ ) ﴾ وفي مثل هذا المقام نزل قوله تعالى في سورة آل عمران :﴿ إِنَّ أَوَلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدَىً لِّلعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، مَّقَامُ إبرَاهِيمَ، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً، وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيتِ مَن استطَاعَ إلَيهِ سَبِيلاً ﴾.
* الحقيقة السادسة : إن اليهودية والنصرانية التي تنتمي كل واحدة منهما زورا وبهتانا إلى إبراهيم الخليل وملته الحنيفية، قد انقطعت علاقتهما مع ملة إبراهيم انقطاعا تاما منذ دخلهما التحريف والتأويل، والتغيير والتبديل، وإن وثنية الجاهلية التي يدين بها المشركون العرب هي نقيض الحنيفية السمحة، بحيث لا يمكن أن يلتقيا في أي خط من الخطوط، ومهما ادعت اليهودية أو النصرانية أو الوثنية من قرابة مع ملة إبراهيم، ومن اقتباس من عقائدها أو شعائرها، فإنما تدعي زورا وتقول بهتانا.
وعلى فرض أنها لم تزل تتناقل بعض العقائد أو بعض الشعائر عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لا ينفي أنها قد غيرت حقيقة الملة الحنيفية، وشوهت معالمها، وأدخلت عليها من العناصر الغريبة والدخيلة ما جعلها مناقضة للأصل كل المناقضة، جوهرا ومظهرا ﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ١٣٥ ) ﴾.
﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ( ١٤٠ ) ﴾. -﴿ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشرِكينَ ﴾.
هذه ست حقائق أساسية لفهم طبيعة الإسلام ومكانه بين الأديان، من جهة، ولإبراز أصالته وعراقته واتصال سنده وصحته، من جهة ثانية، ولتوجيه الأنظار إلى وجه الحكمة فيما سيؤول إليه الأمر عما قريب، من وقوع الاختيار الإلهي على البيت الحرام، وجعله دون سواه قبلة خالصة للمسلمين دون غيرهم من جهة ثالثة.
والآن نقف وقفة قصيرة أمام بعض الآيات البينات الواردة في هذا المقام.
فهذه آية تشير من قريب إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يرشح من بين عباده للمقامات العليا إلا من برهنوا على أهليتهم لها، بأداء التكاليف التي كلفهم بها على وجهها، وجوازهم لامتحان الابتلاء الإلهي بنجاح تام، وذلك قوله تعالى :﴿ وإذِ ابتَلَى إبرَاهِيمَ رَبُّهُ يِكَلِمَاتٍ فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾. أي قدوة يقتدي به الأنبياء فمن دونهم، ويناسبه قوله تعالى في مكان آخر :﴿ إِنَّ إبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾، ﴿ وَإِبرَاهِيمَ الذِي وَفَّى ﴾، ﴿ وَاتَّخّذَ اللهُ إبراهيم خَلِيلاً ﴾.
وهذه آية أخرى تشير إلى أن مجرد الانتساب إلى سلف صالح دون قيام المنتسب لهم بالعمل الصالح لا ينفع صاحبه في قليل ولا كثير، إذ العبرة بالعمل قبل النسب، وذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل قَالَ :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾. فأجابه الحق سبحانه وتعالى :﴿ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ( ١٢٤ ) ﴾. وفي هذا المعنى قوله تعالى :﴿ إنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم ﴾. ﴿ فَإذاَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلاَ يَتَساءَلُونَ ﴾. وقوله صلى الله عليه وسلم :( من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).
وهذه آية ثالثة تسجل دعاء إبراهيم للبيت الحرام وما حوله بالأمن الدائم والرزق المستمر، فتمضي القرون تلو القرون منذ وقت دعائه إلى الآن، وإلى ما شاء الله من الأزمان، ودعوة إبراهيم التي استجابها الله بفضله وكرمه قائمة لا تتخلف، ومفعولها سار لا ينقطع، فظلال الأمن فيه وارفة، وثمرات الرزق وافرة، والطائفون والعاكفون والركع السجود لا يخلو منهم بيت الله لحظة من اللحظات، فقد جعله الله بفضله مثابة للناس وأمنا :
( مثابة ) تشد إليه الرحال، ويأتيه الناس من كل فج عميق، ومن سعد بالحج إليه مرة حاول أن يعود إليه مرارا، لما يلازمه من شوق وحنين، وهوى في القلب دفين.
و( أمنا ) يتناسى فيه الموتورون أحقادهم، والمغرضون أهواءهم، فلا يذكرون فيه إلا شيئا واحدا هو عبادة الله الواحد الأحد، ولا يهتمون فيه إلا بشيء واحد هو تعظيم حرمات الله، والوقوف فيها عندما حد الله، وذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾.
ومما يتصل بهذا الموضوع اتصالا وثيقا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل في سورة إبراهيم، وهو مسك الختام لهذا الحديث :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾. - ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٤:الربع الأخير من الحزب الثاني
في المصحف الكريم
ففي هذا الربع من سورة البقرة، يتولى القرآن الكريم الحديث عن أكبر وأضخم شخصية عرفها التاريخ في عالم النبوة قبل البعثة المحمدية، ألا وهي شخصية " أب الأنبياء وخليل الرحمن " كما أطلقت عليه الأجيال اللاحقة من مختلف الأديان.
ولا يقتصر الحديث هنا على شخصيته الفذة، ومكانته الفريدة، كأول رسول بعد نوح عليه السلام، ضرب الرقم القياسي في مكافحة الوثنية والوثنيين، حتى ألقى به قومه في أتون النار، فقال لها الله ﴿ يا نَارُ كُونِي بَرداً وسَلاَماً عَلَى إبرَاهِيمَ ﴾، بل يتناول ملة إبراهيم فيشرح حقيقتها، ويعيد الحق في شأنها إلى نصابه، كما يتناول بالذكر مقام إبراهيم، والبيت الحرام الذي أسسه باسم الله، ولأجل عبادته وحده لا شريك له، فكان أول بيت وضع للناس.
وفي هذا السياق المنسجم المتناسق يكشف القرآن الكريم عن حقائق أساسية، دينية وتاريخية، هو أول من كشف عنها الستار، ولفت إليها الأنظار.
* الحقيقة الأولى : إن ملة إبراهيم، القائمة على توحيد الله، وإفراده بالألوهية والربوبية دون سواه، كانت ولا تزال وستظل دائما هي الملة الوحيدة التي بعث الله بها كافة الأنبياء والرسل، والعقيدة الجوهرية التي أوحى الله بها إلى الناس، وطالبهم بالإيمان بها في كتبه المنزلة، تعريفا للخلق بخالقهم بديع السموات والأرض ﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ( ١٣٠ ) ﴾- ﴿ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ( ١٣٨ ) ﴾
* الحقيقة الثانية : إن ملة إبراهيم هي وحدها الدين الخالد الذي توارثه الأنبياء والرسل، وتواصوا به خلفا عن سلف، وأبا عن جد، وعاشوا في سبيله دون تبديل ولا تغيير ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ وفي مثل هذا المعنى نزل قوله تعالى في سورة الشورى :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصى بِهِ نُوحاً وَالذِي أوحَيناَ إلَيكَ ومَا وَصَّيناَ بِهِ إبرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدِّينَ ولاَ تَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى المُشرِكينَ مَا تَدعُوهُمُ إليهِ ﴾
* الحقيقة الثالثة : إن إبراهيم الخليل الذي دعا الله أن يبعث في ذريته رسولا منهم فقال وهو يناجي ربه ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( ١٢٩ ) ﴾ قد تقبل الله دعاءه، واستجاب له، فبعث ذلك الرسول، المرتقب منذ عهد طويل، وهو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل ذلك الكتاب، المنتظر منذ أمد بعيد وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
* الحقيقة الرابعة : إن ملة إبراهيم في صفائها ونقائها وبعدها عن كل شائبة من شوائب الشك والانحراف، هي بنفسها ملة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ مِّلَّةِ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ، هُوَ سَمَّاكُم المُسلِمينَ مِن قَبلُ وفي هَذاَ، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ فهو الذي أرسله الله لإحيائها وتجديد معالمها بعد الاندثار، وهو الذي بعثه لبعثها بين الناس من جديد، تحقيقا لدعوة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾
* الحقيقة الخامسة : إن أول بيت أقيم على وجه الأرض باسم الله ولعبادته وحده، عبادة خالصة من كل شرك، طاهرة من كل دنس، هو مقام إبراهيم الذي أمر الله باتخاذه مصلى، فهو بيت الله الحرام، وهو البيت العتيق، وهو البيت المقدس قبل بيت المقدس ﴿ وَإذ جَعَلنَا البَيتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمناً، واتَّخَذُوا مِن مَّقَام إبرَاهِيمَ مُصَلَّى، وَعَهِدنَا إلَى إبراهِيمَ وإسمَاعِيلَ أن طَهِّرا بَيتِي لِلطَائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ( ١٢٥ ) ﴾- ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٢٧ ) ﴾ وفي مثل هذا المقام نزل قوله تعالى في سورة آل عمران :﴿ إِنَّ أَوَلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدَىً لِّلعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، مَّقَامُ إبرَاهِيمَ، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً، وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيتِ مَن استطَاعَ إلَيهِ سَبِيلاً ﴾.
* الحقيقة السادسة : إن اليهودية والنصرانية التي تنتمي كل واحدة منهما زورا وبهتانا إلى إبراهيم الخليل وملته الحنيفية، قد انقطعت علاقتهما مع ملة إبراهيم انقطاعا تاما منذ دخلهما التحريف والتأويل، والتغيير والتبديل، وإن وثنية الجاهلية التي يدين بها المشركون العرب هي نقيض الحنيفية السمحة، بحيث لا يمكن أن يلتقيا في أي خط من الخطوط، ومهما ادعت اليهودية أو النصرانية أو الوثنية من قرابة مع ملة إبراهيم، ومن اقتباس من عقائدها أو شعائرها، فإنما تدعي زورا وتقول بهتانا.
وعلى فرض أنها لم تزل تتناقل بعض العقائد أو بعض الشعائر عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لا ينفي أنها قد غيرت حقيقة الملة الحنيفية، وشوهت معالمها، وأدخلت عليها من العناصر الغريبة والدخيلة ما جعلها مناقضة للأصل كل المناقضة، جوهرا ومظهرا ﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ١٣٥ ) ﴾.
﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ( ١٤٠ ) ﴾. -﴿ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشرِكينَ ﴾.
هذه ست حقائق أساسية لفهم طبيعة الإسلام ومكانه بين الأديان، من جهة، ولإبراز أصالته وعراقته واتصال سنده وصحته، من جهة ثانية، ولتوجيه الأنظار إلى وجه الحكمة فيما سيؤول إليه الأمر عما قريب، من وقوع الاختيار الإلهي على البيت الحرام، وجعله دون سواه قبلة خالصة للمسلمين دون غيرهم من جهة ثالثة.
والآن نقف وقفة قصيرة أمام بعض الآيات البينات الواردة في هذا المقام.
فهذه آية تشير من قريب إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يرشح من بين عباده للمقامات العليا إلا من برهنوا على أهليتهم لها، بأداء التكاليف التي كلفهم بها على وجهها، وجوازهم لامتحان الابتلاء الإلهي بنجاح تام، وذلك قوله تعالى :﴿ وإذِ ابتَلَى إبرَاهِيمَ رَبُّهُ يِكَلِمَاتٍ فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾. أي قدوة يقتدي به الأنبياء فمن دونهم، ويناسبه قوله تعالى في مكان آخر :﴿ إِنَّ إبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾، ﴿ وَإِبرَاهِيمَ الذِي وَفَّى ﴾، ﴿ وَاتَّخّذَ اللهُ إبراهيم خَلِيلاً ﴾.
وهذه آية أخرى تشير إلى أن مجرد الانتساب إلى سلف صالح دون قيام المنتسب لهم بالعمل الصالح لا ينفع صاحبه في قليل ولا كثير، إذ العبرة بالعمل قبل النسب، وذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل قَالَ :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾. فأجابه الحق سبحانه وتعالى :﴿ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ( ١٢٤ ) ﴾. وفي هذا المعنى قوله تعالى :﴿ إنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم ﴾. ﴿ فَإذاَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلاَ يَتَساءَلُونَ ﴾. وقوله صلى الله عليه وسلم :( من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).
وهذه آية ثالثة تسجل دعاء إبراهيم للبيت الحرام وما حوله بالأمن الدائم والرزق المستمر، فتمضي القرون تلو القرون منذ وقت دعائه إلى الآن، وإلى ما شاء الله من الأزمان، ودعوة إبراهيم التي استجابها الله بفضله وكرمه قائمة لا تتخلف، ومفعولها سار لا ينقطع، فظلال الأمن فيه وارفة، وثمرات الرزق وافرة، والطائفون والعاكفون والركع السجود لا يخلو منهم بيت الله لحظة من اللحظات، فقد جعله الله بفضله مثابة للناس وأمنا :
( مثابة ) تشد إليه الرحال، ويأتيه الناس من كل فج عميق، ومن سعد بالحج إليه مرة حاول أن يعود إليه مرارا، لما يلازمه من شوق وحنين، وهوى في القلب دفين.
و( أمنا ) يتناسى فيه الموتورون أحقادهم، والمغرضون أهواءهم، فلا يذكرون فيه إلا شيئا واحدا هو عبادة الله الواحد الأحد، ولا يهتمون فيه إلا بشيء واحد هو تعظيم حرمات الله، والوقوف فيها عندما حد الله، وذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾.
ومما يتصل بهذا الموضوع اتصالا وثيقا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل في سورة إبراهيم، وهو مسك الختام لهذا الحديث :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾. - ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٤:الربع الأخير من الحزب الثاني
في المصحف الكريم
ففي هذا الربع من سورة البقرة، يتولى القرآن الكريم الحديث عن أكبر وأضخم شخصية عرفها التاريخ في عالم النبوة قبل البعثة المحمدية، ألا وهي شخصية " أب الأنبياء وخليل الرحمن " كما أطلقت عليه الأجيال اللاحقة من مختلف الأديان.
ولا يقتصر الحديث هنا على شخصيته الفذة، ومكانته الفريدة، كأول رسول بعد نوح عليه السلام، ضرب الرقم القياسي في مكافحة الوثنية والوثنيين، حتى ألقى به قومه في أتون النار، فقال لها الله ﴿ يا نَارُ كُونِي بَرداً وسَلاَماً عَلَى إبرَاهِيمَ ﴾، بل يتناول ملة إبراهيم فيشرح حقيقتها، ويعيد الحق في شأنها إلى نصابه، كما يتناول بالذكر مقام إبراهيم، والبيت الحرام الذي أسسه باسم الله، ولأجل عبادته وحده لا شريك له، فكان أول بيت وضع للناس.
وفي هذا السياق المنسجم المتناسق يكشف القرآن الكريم عن حقائق أساسية، دينية وتاريخية، هو أول من كشف عنها الستار، ولفت إليها الأنظار.
* الحقيقة الأولى : إن ملة إبراهيم، القائمة على توحيد الله، وإفراده بالألوهية والربوبية دون سواه، كانت ولا تزال وستظل دائما هي الملة الوحيدة التي بعث الله بها كافة الأنبياء والرسل، والعقيدة الجوهرية التي أوحى الله بها إلى الناس، وطالبهم بالإيمان بها في كتبه المنزلة، تعريفا للخلق بخالقهم بديع السموات والأرض ﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ( ١٣٠ ) ﴾- ﴿ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ( ١٣٨ ) ﴾
* الحقيقة الثانية : إن ملة إبراهيم هي وحدها الدين الخالد الذي توارثه الأنبياء والرسل، وتواصوا به خلفا عن سلف، وأبا عن جد، وعاشوا في سبيله دون تبديل ولا تغيير ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ وفي مثل هذا المعنى نزل قوله تعالى في سورة الشورى :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصى بِهِ نُوحاً وَالذِي أوحَيناَ إلَيكَ ومَا وَصَّيناَ بِهِ إبرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدِّينَ ولاَ تَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى المُشرِكينَ مَا تَدعُوهُمُ إليهِ ﴾
* الحقيقة الثالثة : إن إبراهيم الخليل الذي دعا الله أن يبعث في ذريته رسولا منهم فقال وهو يناجي ربه ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( ١٢٩ ) ﴾ قد تقبل الله دعاءه، واستجاب له، فبعث ذلك الرسول، المرتقب منذ عهد طويل، وهو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل ذلك الكتاب، المنتظر منذ أمد بعيد وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
* الحقيقة الرابعة : إن ملة إبراهيم في صفائها ونقائها وبعدها عن كل شائبة من شوائب الشك والانحراف، هي بنفسها ملة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ مِّلَّةِ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ، هُوَ سَمَّاكُم المُسلِمينَ مِن قَبلُ وفي هَذاَ، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ فهو الذي أرسله الله لإحيائها وتجديد معالمها بعد الاندثار، وهو الذي بعثه لبعثها بين الناس من جديد، تحقيقا لدعوة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾
* الحقيقة الخامسة : إن أول بيت أقيم على وجه الأرض باسم الله ولعبادته وحده، عبادة خالصة من كل شرك، طاهرة من كل دنس، هو مقام إبراهيم الذي أمر الله باتخاذه مصلى، فهو بيت الله الحرام، وهو البيت العتيق، وهو البيت المقدس قبل بيت المقدس ﴿ وَإذ جَعَلنَا البَيتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمناً، واتَّخَذُوا مِن مَّقَام إبرَاهِيمَ مُصَلَّى، وَعَهِدنَا إلَى إبراهِيمَ وإسمَاعِيلَ أن طَهِّرا بَيتِي لِلطَائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ( ١٢٥ ) ﴾- ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٢٧ ) ﴾ وفي مثل هذا المقام نزل قوله تعالى في سورة آل عمران :﴿ إِنَّ أَوَلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدَىً لِّلعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، مَّقَامُ إبرَاهِيمَ، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً، وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيتِ مَن استطَاعَ إلَيهِ سَبِيلاً ﴾.
* الحقيقة السادسة : إن اليهودية والنصرانية التي تنتمي كل واحدة منهما زورا وبهتانا إلى إبراهيم الخليل وملته الحنيفية، قد انقطعت علاقتهما مع ملة إبراهيم انقطاعا تاما منذ دخلهما التحريف والتأويل، والتغيير والتبديل، وإن وثنية الجاهلية التي يدين بها المشركون العرب هي نقيض الحنيفية السمحة، بحيث لا يمكن أن يلتقيا في أي خط من الخطوط، ومهما ادعت اليهودية أو النصرانية أو الوثنية من قرابة مع ملة إبراهيم، ومن اقتباس من عقائدها أو شعائرها، فإنما تدعي زورا وتقول بهتانا.
وعلى فرض أنها لم تزل تتناقل بعض العقائد أو بعض الشعائر عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لا ينفي أنها قد غيرت حقيقة الملة الحنيفية، وشوهت معالمها، وأدخلت عليها من العناصر الغريبة والدخيلة ما جعلها مناقضة للأصل كل المناقضة، جوهرا ومظهرا ﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ١٣٥ ) ﴾.
﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ( ١٤٠ ) ﴾. -﴿ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشرِكينَ ﴾.
هذه ست حقائق أساسية لفهم طبيعة الإسلام ومكانه بين الأديان، من جهة، ولإبراز أصالته وعراقته واتصال سنده وصحته، من جهة ثانية، ولتوجيه الأنظار إلى وجه الحكمة فيما سيؤول إليه الأمر عما قريب، من وقوع الاختيار الإلهي على البيت الحرام، وجعله دون سواه قبلة خالصة للمسلمين دون غيرهم من جهة ثالثة.
والآن نقف وقفة قصيرة أمام بعض الآيات البينات الواردة في هذا المقام.
فهذه آية تشير من قريب إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يرشح من بين عباده للمقامات العليا إلا من برهنوا على أهليتهم لها، بأداء التكاليف التي كلفهم بها على وجهها، وجوازهم لامتحان الابتلاء الإلهي بنجاح تام، وذلك قوله تعالى :﴿ وإذِ ابتَلَى إبرَاهِيمَ رَبُّهُ يِكَلِمَاتٍ فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾. أي قدوة يقتدي به الأنبياء فمن دونهم، ويناسبه قوله تعالى في مكان آخر :﴿ إِنَّ إبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾، ﴿ وَإِبرَاهِيمَ الذِي وَفَّى ﴾، ﴿ وَاتَّخّذَ اللهُ إبراهيم خَلِيلاً ﴾.
وهذه آية أخرى تشير إلى أن مجرد الانتساب إلى سلف صالح دون قيام المنتسب لهم بالعمل الصالح لا ينفع صاحبه في قليل ولا كثير، إذ العبرة بالعمل قبل النسب، وذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل قَالَ :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾. فأجابه الحق سبحانه وتعالى :﴿ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ( ١٢٤ ) ﴾. وفي هذا المعنى قوله تعالى :﴿ إنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم ﴾. ﴿ فَإذاَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلاَ يَتَساءَلُونَ ﴾. وقوله صلى الله عليه وسلم :( من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).
وهذه آية ثالثة تسجل دعاء إبراهيم للبيت الحرام وما حوله بالأمن الدائم والرزق المستمر، فتمضي القرون تلو القرون منذ وقت دعائه إلى الآن، وإلى ما شاء الله من الأزمان، ودعوة إبراهيم التي استجابها الله بفضله وكرمه قائمة لا تتخلف، ومفعولها سار لا ينقطع، فظلال الأمن فيه وارفة، وثمرات الرزق وافرة، والطائفون والعاكفون والركع السجود لا يخلو منهم بيت الله لحظة من اللحظات، فقد جعله الله بفضله مثابة للناس وأمنا :
( مثابة ) تشد إليه الرحال، ويأتيه الناس من كل فج عميق، ومن سعد بالحج إليه مرة حاول أن يعود إليه مرارا، لما يلازمه من شوق وحنين، وهوى في القلب دفين.
و( أمنا ) يتناسى فيه الموتورون أحقادهم، والمغرضون أهواءهم، فلا يذكرون فيه إلا شيئا واحدا هو عبادة الله الواحد الأحد، ولا يهتمون فيه إلا بشيء واحد هو تعظيم حرمات الله، والوقوف فيها عندما حد الله، وذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾.
ومما يتصل بهذا الموضوع اتصالا وثيقا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل في سورة إبراهيم، وهو مسك الختام لهذا الحديث :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾. - ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٤:الربع الأخير من الحزب الثاني
في المصحف الكريم
ففي هذا الربع من سورة البقرة، يتولى القرآن الكريم الحديث عن أكبر وأضخم شخصية عرفها التاريخ في عالم النبوة قبل البعثة المحمدية، ألا وهي شخصية " أب الأنبياء وخليل الرحمن " كما أطلقت عليه الأجيال اللاحقة من مختلف الأديان.
ولا يقتصر الحديث هنا على شخصيته الفذة، ومكانته الفريدة، كأول رسول بعد نوح عليه السلام، ضرب الرقم القياسي في مكافحة الوثنية والوثنيين، حتى ألقى به قومه في أتون النار، فقال لها الله ﴿ يا نَارُ كُونِي بَرداً وسَلاَماً عَلَى إبرَاهِيمَ ﴾، بل يتناول ملة إبراهيم فيشرح حقيقتها، ويعيد الحق في شأنها إلى نصابه، كما يتناول بالذكر مقام إبراهيم، والبيت الحرام الذي أسسه باسم الله، ولأجل عبادته وحده لا شريك له، فكان أول بيت وضع للناس.
وفي هذا السياق المنسجم المتناسق يكشف القرآن الكريم عن حقائق أساسية، دينية وتاريخية، هو أول من كشف عنها الستار، ولفت إليها الأنظار.
* الحقيقة الأولى : إن ملة إبراهيم، القائمة على توحيد الله، وإفراده بالألوهية والربوبية دون سواه، كانت ولا تزال وستظل دائما هي الملة الوحيدة التي بعث الله بها كافة الأنبياء والرسل، والعقيدة الجوهرية التي أوحى الله بها إلى الناس، وطالبهم بالإيمان بها في كتبه المنزلة، تعريفا للخلق بخالقهم بديع السموات والأرض ﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ( ١٣٠ ) ﴾- ﴿ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ( ١٣٨ ) ﴾
* الحقيقة الثانية : إن ملة إبراهيم هي وحدها الدين الخالد الذي توارثه الأنبياء والرسل، وتواصوا به خلفا عن سلف، وأبا عن جد، وعاشوا في سبيله دون تبديل ولا تغيير ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ وفي مثل هذا المعنى نزل قوله تعالى في سورة الشورى :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصى بِهِ نُوحاً وَالذِي أوحَيناَ إلَيكَ ومَا وَصَّيناَ بِهِ إبرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدِّينَ ولاَ تَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى المُشرِكينَ مَا تَدعُوهُمُ إليهِ ﴾
* الحقيقة الثالثة : إن إبراهيم الخليل الذي دعا الله أن يبعث في ذريته رسولا منهم فقال وهو يناجي ربه ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( ١٢٩ ) ﴾ قد تقبل الله دعاءه، واستجاب له، فبعث ذلك الرسول، المرتقب منذ عهد طويل، وهو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل ذلك الكتاب، المنتظر منذ أمد بعيد وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
* الحقيقة الرابعة : إن ملة إبراهيم في صفائها ونقائها وبعدها عن كل شائبة من شوائب الشك والانحراف، هي بنفسها ملة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ مِّلَّةِ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ، هُوَ سَمَّاكُم المُسلِمينَ مِن قَبلُ وفي هَذاَ، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ فهو الذي أرسله الله لإحيائها وتجديد معالمها بعد الاندثار، وهو الذي بعثه لبعثها بين الناس من جديد، تحقيقا لدعوة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾
* الحقيقة الخامسة : إن أول بيت أقيم على وجه الأرض باسم الله ولعبادته وحده، عبادة خالصة من كل شرك، طاهرة من كل دنس، هو مقام إبراهيم الذي أمر الله باتخاذه مصلى، فهو بيت الله الحرام، وهو البيت العتيق، وهو البيت المقدس قبل بيت المقدس ﴿ وَإذ جَعَلنَا البَيتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمناً، واتَّخَذُوا مِن مَّقَام إبرَاهِيمَ مُصَلَّى، وَعَهِدنَا إلَى إبراهِيمَ وإسمَاعِيلَ أن طَهِّرا بَيتِي لِلطَائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ( ١٢٥ ) ﴾- ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٢٧ ) ﴾ وفي مثل هذا المقام نزل قوله تعالى في سورة آل عمران :﴿ إِنَّ أَوَلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدَىً لِّلعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، مَّقَامُ إبرَاهِيمَ، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً، وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيتِ مَن استطَاعَ إلَيهِ سَبِيلاً ﴾.
* الحقيقة السادسة : إن اليهودية والنصرانية التي تنتمي كل واحدة منهما زورا وبهتانا إلى إبراهيم الخليل وملته الحنيفية، قد انقطعت علاقتهما مع ملة إبراهيم انقطاعا تاما منذ دخلهما التحريف والتأويل، والتغيير والتبديل، وإن وثنية الجاهلية التي يدين بها المشركون العرب هي نقيض الحنيفية السمحة، بحيث لا يمكن أن يلتقيا في أي خط من الخطوط، ومهما ادعت اليهودية أو النصرانية أو الوثنية من قرابة مع ملة إبراهيم، ومن اقتباس من عقائدها أو شعائرها، فإنما تدعي زورا وتقول بهتانا.
وعلى فرض أنها لم تزل تتناقل بعض العقائد أو بعض الشعائر عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لا ينفي أنها قد غيرت حقيقة الملة الحنيفية، وشوهت معالمها، وأدخلت عليها من العناصر الغريبة والدخيلة ما جعلها مناقضة للأصل كل المناقضة، جوهرا ومظهرا ﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ١٣٥ ) ﴾.
﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ( ١٤٠ ) ﴾. -﴿ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشرِكينَ ﴾.
هذه ست حقائق أساسية لفهم طبيعة الإسلام ومكانه بين الأديان، من جهة، ولإبراز أصالته وعراقته واتصال سنده وصحته، من جهة ثانية، ولتوجيه الأنظار إلى وجه الحكمة فيما سيؤول إليه الأمر عما قريب، من وقوع الاختيار الإلهي على البيت الحرام، وجعله دون سواه قبلة خالصة للمسلمين دون غيرهم من جهة ثالثة.
والآن نقف وقفة قصيرة أمام بعض الآيات البينات الواردة في هذا المقام.
فهذه آية تشير من قريب إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يرشح من بين عباده للمقامات العليا إلا من برهنوا على أهليتهم لها، بأداء التكاليف التي كلفهم بها على وجهها، وجوازهم لامتحان الابتلاء الإلهي بنجاح تام، وذلك قوله تعالى :﴿ وإذِ ابتَلَى إبرَاهِيمَ رَبُّهُ يِكَلِمَاتٍ فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾. أي قدوة يقتدي به الأنبياء فمن دونهم، ويناسبه قوله تعالى في مكان آخر :﴿ إِنَّ إبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾، ﴿ وَإِبرَاهِيمَ الذِي وَفَّى ﴾، ﴿ وَاتَّخّذَ اللهُ إبراهيم خَلِيلاً ﴾.
وهذه آية أخرى تشير إلى أن مجرد الانتساب إلى سلف صالح دون قيام المنتسب لهم بالعمل الصالح لا ينفع صاحبه في قليل ولا كثير، إذ العبرة بالعمل قبل النسب، وذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل قَالَ :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾. فأجابه الحق سبحانه وتعالى :﴿ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ( ١٢٤ ) ﴾. وفي هذا المعنى قوله تعالى :﴿ إنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم ﴾. ﴿ فَإذاَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلاَ يَتَساءَلُونَ ﴾. وقوله صلى الله عليه وسلم :( من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).
وهذه آية ثالثة تسجل دعاء إبراهيم للبيت الحرام وما حوله بالأمن الدائم والرزق المستمر، فتمضي القرون تلو القرون منذ وقت دعائه إلى الآن، وإلى ما شاء الله من الأزمان، ودعوة إبراهيم التي استجابها الله بفضله وكرمه قائمة لا تتخلف، ومفعولها سار لا ينقطع، فظلال الأمن فيه وارفة، وثمرات الرزق وافرة، والطائفون والعاكفون والركع السجود لا يخلو منهم بيت الله لحظة من اللحظات، فقد جعله الله بفضله مثابة للناس وأمنا :
( مثابة ) تشد إليه الرحال، ويأتيه الناس من كل فج عميق، ومن سعد بالحج إليه مرة حاول أن يعود إليه مرارا، لما يلازمه من شوق وحنين، وهوى في القلب دفين.
و( أمنا ) يتناسى فيه الموتورون أحقادهم، والمغرضون أهواءهم، فلا يذكرون فيه إلا شيئا واحدا هو عبادة الله الواحد الأحد، ولا يهتمون فيه إلا بشيء واحد هو تعظيم حرمات الله، والوقوف فيها عندما حد الله، وذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾.
ومما يتصل بهذا الموضوع اتصالا وثيقا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل في سورة إبراهيم، وهو مسك الختام لهذا الحديث :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾. - ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٤:الربع الأخير من الحزب الثاني
في المصحف الكريم
ففي هذا الربع من سورة البقرة، يتولى القرآن الكريم الحديث عن أكبر وأضخم شخصية عرفها التاريخ في عالم النبوة قبل البعثة المحمدية، ألا وهي شخصية " أب الأنبياء وخليل الرحمن " كما أطلقت عليه الأجيال اللاحقة من مختلف الأديان.
ولا يقتصر الحديث هنا على شخصيته الفذة، ومكانته الفريدة، كأول رسول بعد نوح عليه السلام، ضرب الرقم القياسي في مكافحة الوثنية والوثنيين، حتى ألقى به قومه في أتون النار، فقال لها الله ﴿ يا نَارُ كُونِي بَرداً وسَلاَماً عَلَى إبرَاهِيمَ ﴾، بل يتناول ملة إبراهيم فيشرح حقيقتها، ويعيد الحق في شأنها إلى نصابه، كما يتناول بالذكر مقام إبراهيم، والبيت الحرام الذي أسسه باسم الله، ولأجل عبادته وحده لا شريك له، فكان أول بيت وضع للناس.
وفي هذا السياق المنسجم المتناسق يكشف القرآن الكريم عن حقائق أساسية، دينية وتاريخية، هو أول من كشف عنها الستار، ولفت إليها الأنظار.
* الحقيقة الأولى : إن ملة إبراهيم، القائمة على توحيد الله، وإفراده بالألوهية والربوبية دون سواه، كانت ولا تزال وستظل دائما هي الملة الوحيدة التي بعث الله بها كافة الأنبياء والرسل، والعقيدة الجوهرية التي أوحى الله بها إلى الناس، وطالبهم بالإيمان بها في كتبه المنزلة، تعريفا للخلق بخالقهم بديع السموات والأرض ﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ( ١٣٠ ) ﴾- ﴿ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ( ١٣٨ ) ﴾
* الحقيقة الثانية : إن ملة إبراهيم هي وحدها الدين الخالد الذي توارثه الأنبياء والرسل، وتواصوا به خلفا عن سلف، وأبا عن جد، وعاشوا في سبيله دون تبديل ولا تغيير ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ وفي مثل هذا المعنى نزل قوله تعالى في سورة الشورى :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصى بِهِ نُوحاً وَالذِي أوحَيناَ إلَيكَ ومَا وَصَّيناَ بِهِ إبرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدِّينَ ولاَ تَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى المُشرِكينَ مَا تَدعُوهُمُ إليهِ ﴾
* الحقيقة الثالثة : إن إبراهيم الخليل الذي دعا الله أن يبعث في ذريته رسولا منهم فقال وهو يناجي ربه ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( ١٢٩ ) ﴾ قد تقبل الله دعاءه، واستجاب له، فبعث ذلك الرسول، المرتقب منذ عهد طويل، وهو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل ذلك الكتاب، المنتظر منذ أمد بعيد وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
* الحقيقة الرابعة : إن ملة إبراهيم في صفائها ونقائها وبعدها عن كل شائبة من شوائب الشك والانحراف، هي بنفسها ملة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ مِّلَّةِ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ، هُوَ سَمَّاكُم المُسلِمينَ مِن قَبلُ وفي هَذاَ، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ فهو الذي أرسله الله لإحيائها وتجديد معالمها بعد الاندثار، وهو الذي بعثه لبعثها بين الناس من جديد، تحقيقا لدعوة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾
* الحقيقة الخامسة : إن أول بيت أقيم على وجه الأرض باسم الله ولعبادته وحده، عبادة خالصة من كل شرك، طاهرة من كل دنس، هو مقام إبراهيم الذي أمر الله باتخاذه مصلى، فهو بيت الله الحرام، وهو البيت العتيق، وهو البيت المقدس قبل بيت المقدس ﴿ وَإذ جَعَلنَا البَيتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمناً، واتَّخَذُوا مِن مَّقَام إبرَاهِيمَ مُصَلَّى، وَعَهِدنَا إلَى إبراهِيمَ وإسمَاعِيلَ أن طَهِّرا بَيتِي لِلطَائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ( ١٢٥ ) ﴾- ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٢٧ ) ﴾ وفي مثل هذا المقام نزل قوله تعالى في سورة آل عمران :﴿ إِنَّ أَوَلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدَىً لِّلعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، مَّقَامُ إبرَاهِيمَ، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً، وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيتِ مَن استطَاعَ إلَيهِ سَبِيلاً ﴾.
* الحقيقة السادسة : إن اليهودية والنصرانية التي تنتمي كل واحدة منهما زورا وبهتانا إلى إبراهيم الخليل وملته الحنيفية، قد انقطعت علاقتهما مع ملة إبراهيم انقطاعا تاما منذ دخلهما التحريف والتأويل، والتغيير والتبديل، وإن وثنية الجاهلية التي يدين بها المشركون العرب هي نقيض الحنيفية السمحة، بحيث لا يمكن أن يلتقيا في أي خط من الخطوط، ومهما ادعت اليهودية أو النصرانية أو الوثنية من قرابة مع ملة إبراهيم، ومن اقتباس من عقائدها أو شعائرها، فإنما تدعي زورا وتقول بهتانا.
وعلى فرض أنها لم تزل تتناقل بعض العقائد أو بعض الشعائر عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لا ينفي أنها قد غيرت حقيقة الملة الحنيفية، وشوهت معالمها، وأدخلت عليها من العناصر الغريبة والدخيلة ما جعلها مناقضة للأصل كل المناقضة، جوهرا ومظهرا ﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ١٣٥ ) ﴾.
﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ( ١٤٠ ) ﴾. -﴿ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشرِكينَ ﴾.
هذه ست حقائق أساسية لفهم طبيعة الإسلام ومكانه بين الأديان، من جهة، ولإبراز أصالته وعراقته واتصال سنده وصحته، من جهة ثانية، ولتوجيه الأنظار إلى وجه الحكمة فيما سيؤول إليه الأمر عما قريب، من وقوع الاختيار الإلهي على البيت الحرام، وجعله دون سواه قبلة خالصة للمسلمين دون غيرهم من جهة ثالثة.
والآن نقف وقفة قصيرة أمام بعض الآيات البينات الواردة في هذا المقام.
فهذه آية تشير من قريب إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يرشح من بين عباده للمقامات العليا إلا من برهنوا على أهليتهم لها، بأداء التكاليف التي كلفهم بها على وجهها، وجوازهم لامتحان الابتلاء الإلهي بنجاح تام، وذلك قوله تعالى :﴿ وإذِ ابتَلَى إبرَاهِيمَ رَبُّهُ يِكَلِمَاتٍ فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾. أي قدوة يقتدي به الأنبياء فمن دونهم، ويناسبه قوله تعالى في مكان آخر :﴿ إِنَّ إبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾، ﴿ وَإِبرَاهِيمَ الذِي وَفَّى ﴾، ﴿ وَاتَّخّذَ اللهُ إبراهيم خَلِيلاً ﴾.
وهذه آية أخرى تشير إلى أن مجرد الانتساب إلى سلف صالح دون قيام المنتسب لهم بالعمل الصالح لا ينفع صاحبه في قليل ولا كثير، إذ العبرة بالعمل قبل النسب، وذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل قَالَ :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾. فأجابه الحق سبحانه وتعالى :﴿ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ( ١٢٤ ) ﴾. وفي هذا المعنى قوله تعالى :﴿ إنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم ﴾. ﴿ فَإذاَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلاَ يَتَساءَلُونَ ﴾. وقوله صلى الله عليه وسلم :( من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).
وهذه آية ثالثة تسجل دعاء إبراهيم للبيت الحرام وما حوله بالأمن الدائم والرزق المستمر، فتمضي القرون تلو القرون منذ وقت دعائه إلى الآن، وإلى ما شاء الله من الأزمان، ودعوة إبراهيم التي استجابها الله بفضله وكرمه قائمة لا تتخلف، ومفعولها سار لا ينقطع، فظلال الأمن فيه وارفة، وثمرات الرزق وافرة، والطائفون والعاكفون والركع السجود لا يخلو منهم بيت الله لحظة من اللحظات، فقد جعله الله بفضله مثابة للناس وأمنا :
( مثابة ) تشد إليه الرحال، ويأتيه الناس من كل فج عميق، ومن سعد بالحج إليه مرة حاول أن يعود إليه مرارا، لما يلازمه من شوق وحنين، وهوى في القلب دفين.
و( أمنا ) يتناسى فيه الموتورون أحقادهم، والمغرضون أهواءهم، فلا يذكرون فيه إلا شيئا واحدا هو عبادة الله الواحد الأحد، ولا يهتمون فيه إلا بشيء واحد هو تعظيم حرمات الله، والوقوف فيها عندما حد الله، وذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾.
ومما يتصل بهذا الموضوع اتصالا وثيقا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل في سورة إبراهيم، وهو مسك الختام لهذا الحديث :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾. - ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ﴾.

الربع الأول من الحزب الثالث
في المصحف الكريم
في هذا الربع من سورة البقرة يتركز الاهتمام، ويدور الحديث حول محور واحد هو موضوع القبلة التي اختارها الله للمسلمين، توحيدا لوجهتهم بعد توحيد عقيدتهم، فجعلها في البيت العتيق، أول بيت لعبادة الله وضع للناس.
وهاهنا ينبغي أن نعود إلى الوراء قليلا لنجد في الربع الثالث من الحزب الثاني آية كريمة تقول :﴿ وَمَن أَظلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ وَسَعَى في خَرَابِها، أولَئِكَ مَا كَانَ لَهُم أَن يَّدخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ، لَهُم فِي الدُّنيا خِزيٌ ولَهُم في الآخِرَةِ عّذَابٌ عَظِيمٌ ﴾. والإشارة في هذه الآية إلى الموقف المخزي الذي وقفه المشركون بمكة، من المؤمنين الراغبين في ارتياد المسجد الحرام لعبادة الواحد الأحد، والحيلولة بينهم وبين الصلاة فيه والحج إليه، على غرار ما جاء في آية كريمة أخرى تقول :﴿ إنَّ الذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ والمَسجِدِ الحَرَام الذي جَعَلنَاهُ لِلنَّاس، سَوَاءٌ العَاكِفُ فيهِ والبَادِ، وَمَن يُّرِد فيهِ بإلحادِ بِظُلمٍ نُّذِقهُ مِن عّذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
فهاهو القرآن الكريم يرفع عقيرته ضد احتكار المشركين للبيت الحرام، وتدنيسهم له بوضع التماثيل والأصنام، وتحويلهم إياه عن الهدف السامي الذي أقيم لأجله منذ أقدم الأيام.
ومادام الأمر هكذا، وقد هاجر المسلمون إلى المدينة وفارق كثير منهم مكة التي أصبحت ( دار حرب ) بالنسبة للمسلمين وهم على أبواب تكوين مجتمع جديد، من طراز فريد، فلم لا يتوجهون بصلاتهم-ولو مؤقتا- إلى صخرة بيت المقدس، التي لها نوع شبيه ولو بعيد بالبيت الحرام، وبذلك يوجهون طعنة كبرى في الصميم إلى استغلال الشرك والوثنية، ويعلنون احتجاجهم الصارخ على احتكار مشركي قريش لبيت الله، وتحويلهم له عن هدفه الأول، الذي من أجله أقامه إبراهيم، وساعده فيه إسماعيل، ألا وهو عبادة الله وحده لا شريك له، لا عبادة الأوثان والأصنام.
على أن توجه المسلمين في المدينة إلى بيت المقدس موقتا بدلا من البيت الحرام الذي كان لا يزال الشرك مسيطرا عليه، ومحتكرا له إذ ذاك، يقوم في نفس الوقت مقام اختبار نفسي وديني لنفس المهاجرين والأنصار، فهو اختبار لقوة إيمانهم، وامتحان لدرجة امتثالهم، وجس لنبض من قد يكون مدسوسا بينهم من المنافقين والمترددين ولمثل هذا تشير الآية الكريمة :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ﴾.
وهكذا تم التوجه إلى بيت المقدس في بدء الهجرة بأمر نبوي كريم، صادر عن اجتهاده عليه السلام، كما حكاه القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري رضوان الله عليهم، واستمر المسلمون على ذلك خلال سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا.
غير أن الجالية الإسرائيلية بالمدينة وما حولها التي ناصبت الإسلام العداء من أول وهلة، وتصدت له بالمقاومة الدعائية سرا وعلنا، والتي واجهها الإسلام بحججه الباهرة، وبراهينه القاهرة، فكشف الستار عن ماضيها وحاضرها، وألقى عليها من الأضواء ما لم يسبق له نظير، أخذت تستغل، في سبيل الدفاع عن نفسها وعن موقفها، مسألة اتجاه المسلمين أنفسهم إلى بيت المقدس، واتخذت من ذلك ذريعة إلى القول بأنها هي وحدها التي على الحق، وأن ملتها هي الملة المثلى التي تقتدي بها بقية الملل، وكانت تظن أن هذا الاختيار النبوي المؤقت إنما هو اختيار نهائي بالنسبة للقبلة الإسلامية، وأنها يمكن أن تستغله لبلبلة الأفكار زمنا طويلا.
إلا أن قوة الإسلام التي مضت تنمو مع الأيام في المدينة وما حولها، ودعوة الحنيفية السمحة التي أخذت توتي أكلها بين قادة الشرك في مكة، حيث عرفتهم وجه الحق في نشأة البيت الحرام، الوظيفة الأساسية التي أقامه من أجلها إبراهيم وإسماعيل، والأولوية التي يتمتع بها هذا البيت بين كافة بيوت الله في الأرض، كل ذلك مهد الجو لإعادة الحق إلى نصابه، وانتصار العقيدة الإسلامية الإبراهيمية في طبيعة المسجد الحرام ورسالته الخالدة.
ولم يلبث الرسول عليه السلام أن تلقى الوحي من ربه على هذا النحو الرقيق الرفيق ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾. وتأتي الآية ثانية في نفس المقام :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾. وتأتي آية ثالثة تركز نفس الاتجاه، وتوضح في نفس الوقت وجه الحكمة الإلهية فيه :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾. فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بما نزل من القرآن في شأن استقبال المسجد الحرام، وكانت أول صلاة صلاها إليه بهذه المناسبة التاريخية هي صلاة العصر كما ورد في الصحيحين من رواية البراء.
ولعل أحد السائلين يتساءل ما هو السر في ترادف هذه الآيات كلها على موضوع واحد هو الأمر باستقبال المسجد الحرام ؟
إن السر في ذلك على ما قاله ابن عباس ترجمان القرآن هو مجرد التأكيد، نظرا لأن الأمر يتعلق بأول نسخ وقع في الإسلام.
وأما السر في ذلك على ما وجهه فخر الدين الرازي فهو اختلاف الأحوال بالنسبة للمصلين عند الاستقبال.
فالأمر الأول :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ موجه لمن يشاهد الكعبة ﴾.
والأمر الثاني :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾. موجه لمن هو في مكة، لكنه غائب عن الكعبة بحيث لا يشاهدها.
والأمر الثالث :﴿ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾. موجه لمن هو في بقية البلدان والأقطار.
وقال القرطبي : الأمر الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو في بقية الأمصار، والثالث لمن خرج في الأسفار.
أما صلاة من صلى إلى بيت المقدس وقضى نحبه، أو من صلى إلى القبلتين معا، فقد تعهد الحق سبحانه وتعالى بثوابها فقال :﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١٤٣ ) ﴾.
وأما رد الفعل الذي نشأ في صفوف اليهود والمنافقين عند إعلان الاختيار الإلهي والنهائي لاستقبال المسجد الحرام، فقد توقعته هذه الآية الكريمة قبل وقوعه إذ قالت :﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّهُم عَن قِبلَتِهِمُ التي كانوا عليها ﴾.
ولقن الحق سبحانه وتعالى لرسوله الرد المفحم على سفههم قال :﴿ قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( ١٤٢ ) ﴾، ﴿ وَلِكُلَّ وِجهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاستَبِقُوا الخَيرَاتِ ﴾.
وتأكيدا لمعرفة بني إسرائيل بأولية المسجد الحرام وأولويته على بيت المقدس، وتأييدا لكون استقبال المسجد الحرام الذي هو بناء إبراهيم، ومقام إبراهيم، وقبلة إبراهيم، هو الموقف الطبيعي والمنطقي من طرف الرسول الذي بعثه الله لإحياء ملة إبراهيم، ومن طرف أمته التي تعتز بأبوة إبراهيم ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمُ إبرَاهِيمَ ﴾ : تأكيدا وتأييدا لكل هذه المعاني جاءت الآيات الكريمة التالية :﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.
وهكذا كان استقبال المسجد الحرام نعمة كبرى من نعم الله على المسلمين أبرزت شخصيتهم، ووحدت قلوبهم، كما قال تعالى في نفس السياق :﴿ وَلأُتِمَّ نِعمَتِي عَلَيكُم وَلَعَلَّكُم تَهتَدُونَ( ١٥٠ ) ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٢:الربع الأول من الحزب الثالث
في المصحف الكريم
في هذا الربع من سورة البقرة يتركز الاهتمام، ويدور الحديث حول محور واحد هو موضوع القبلة التي اختارها الله للمسلمين، توحيدا لوجهتهم بعد توحيد عقيدتهم، فجعلها في البيت العتيق، أول بيت لعبادة الله وضع للناس.
وهاهنا ينبغي أن نعود إلى الوراء قليلا لنجد في الربع الثالث من الحزب الثاني آية كريمة تقول :﴿ وَمَن أَظلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ وَسَعَى في خَرَابِها، أولَئِكَ مَا كَانَ لَهُم أَن يَّدخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ، لَهُم فِي الدُّنيا خِزيٌ ولَهُم في الآخِرَةِ عّذَابٌ عَظِيمٌ ﴾. والإشارة في هذه الآية إلى الموقف المخزي الذي وقفه المشركون بمكة، من المؤمنين الراغبين في ارتياد المسجد الحرام لعبادة الواحد الأحد، والحيلولة بينهم وبين الصلاة فيه والحج إليه، على غرار ما جاء في آية كريمة أخرى تقول :﴿ إنَّ الذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ والمَسجِدِ الحَرَام الذي جَعَلنَاهُ لِلنَّاس، سَوَاءٌ العَاكِفُ فيهِ والبَادِ، وَمَن يُّرِد فيهِ بإلحادِ بِظُلمٍ نُّذِقهُ مِن عّذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
فهاهو القرآن الكريم يرفع عقيرته ضد احتكار المشركين للبيت الحرام، وتدنيسهم له بوضع التماثيل والأصنام، وتحويلهم إياه عن الهدف السامي الذي أقيم لأجله منذ أقدم الأيام.
ومادام الأمر هكذا، وقد هاجر المسلمون إلى المدينة وفارق كثير منهم مكة التي أصبحت ( دار حرب ) بالنسبة للمسلمين وهم على أبواب تكوين مجتمع جديد، من طراز فريد، فلم لا يتوجهون بصلاتهم-ولو مؤقتا- إلى صخرة بيت المقدس، التي لها نوع شبيه ولو بعيد بالبيت الحرام، وبذلك يوجهون طعنة كبرى في الصميم إلى استغلال الشرك والوثنية، ويعلنون احتجاجهم الصارخ على احتكار مشركي قريش لبيت الله، وتحويلهم له عن هدفه الأول، الذي من أجله أقامه إبراهيم، وساعده فيه إسماعيل، ألا وهو عبادة الله وحده لا شريك له، لا عبادة الأوثان والأصنام.
على أن توجه المسلمين في المدينة إلى بيت المقدس موقتا بدلا من البيت الحرام الذي كان لا يزال الشرك مسيطرا عليه، ومحتكرا له إذ ذاك، يقوم في نفس الوقت مقام اختبار نفسي وديني لنفس المهاجرين والأنصار، فهو اختبار لقوة إيمانهم، وامتحان لدرجة امتثالهم، وجس لنبض من قد يكون مدسوسا بينهم من المنافقين والمترددين ولمثل هذا تشير الآية الكريمة :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ﴾.
وهكذا تم التوجه إلى بيت المقدس في بدء الهجرة بأمر نبوي كريم، صادر عن اجتهاده عليه السلام، كما حكاه القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري رضوان الله عليهم، واستمر المسلمون على ذلك خلال سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا.
غير أن الجالية الإسرائيلية بالمدينة وما حولها التي ناصبت الإسلام العداء من أول وهلة، وتصدت له بالمقاومة الدعائية سرا وعلنا، والتي واجهها الإسلام بحججه الباهرة، وبراهينه القاهرة، فكشف الستار عن ماضيها وحاضرها، وألقى عليها من الأضواء ما لم يسبق له نظير، أخذت تستغل، في سبيل الدفاع عن نفسها وعن موقفها، مسألة اتجاه المسلمين أنفسهم إلى بيت المقدس، واتخذت من ذلك ذريعة إلى القول بأنها هي وحدها التي على الحق، وأن ملتها هي الملة المثلى التي تقتدي بها بقية الملل، وكانت تظن أن هذا الاختيار النبوي المؤقت إنما هو اختيار نهائي بالنسبة للقبلة الإسلامية، وأنها يمكن أن تستغله لبلبلة الأفكار زمنا طويلا.
إلا أن قوة الإسلام التي مضت تنمو مع الأيام في المدينة وما حولها، ودعوة الحنيفية السمحة التي أخذت توتي أكلها بين قادة الشرك في مكة، حيث عرفتهم وجه الحق في نشأة البيت الحرام، الوظيفة الأساسية التي أقامه من أجلها إبراهيم وإسماعيل، والأولوية التي يتمتع بها هذا البيت بين كافة بيوت الله في الأرض، كل ذلك مهد الجو لإعادة الحق إلى نصابه، وانتصار العقيدة الإسلامية الإبراهيمية في طبيعة المسجد الحرام ورسالته الخالدة.
ولم يلبث الرسول عليه السلام أن تلقى الوحي من ربه على هذا النحو الرقيق الرفيق ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾. وتأتي الآية ثانية في نفس المقام :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾. وتأتي آية ثالثة تركز نفس الاتجاه، وتوضح في نفس الوقت وجه الحكمة الإلهية فيه :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾. فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بما نزل من القرآن في شأن استقبال المسجد الحرام، وكانت أول صلاة صلاها إليه بهذه المناسبة التاريخية هي صلاة العصر كما ورد في الصحيحين من رواية البراء.
ولعل أحد السائلين يتساءل ما هو السر في ترادف هذه الآيات كلها على موضوع واحد هو الأمر باستقبال المسجد الحرام ؟
إن السر في ذلك على ما قاله ابن عباس ترجمان القرآن هو مجرد التأكيد، نظرا لأن الأمر يتعلق بأول نسخ وقع في الإسلام.
وأما السر في ذلك على ما وجهه فخر الدين الرازي فهو اختلاف الأحوال بالنسبة للمصلين عند الاستقبال.
فالأمر الأول :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ موجه لمن يشاهد الكعبة ﴾.
والأمر الثاني :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾. موجه لمن هو في مكة، لكنه غائب عن الكعبة بحيث لا يشاهدها.
والأمر الثالث :﴿ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾. موجه لمن هو في بقية البلدان والأقطار.
وقال القرطبي : الأمر الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو في بقية الأمصار، والثالث لمن خرج في الأسفار.
أما صلاة من صلى إلى بيت المقدس وقضى نحبه، أو من صلى إلى القبلتين معا، فقد تعهد الحق سبحانه وتعالى بثوابها فقال :﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١٤٣ ) ﴾.
وأما رد الفعل الذي نشأ في صفوف اليهود والمنافقين عند إعلان الاختيار الإلهي والنهائي لاستقبال المسجد الحرام، فقد توقعته هذه الآية الكريمة قبل وقوعه إذ قالت :﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّهُم عَن قِبلَتِهِمُ التي كانوا عليها ﴾.
ولقن الحق سبحانه وتعالى لرسوله الرد المفحم على سفههم قال :﴿ قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( ١٤٢ ) ﴾، ﴿ وَلِكُلَّ وِجهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاستَبِقُوا الخَيرَاتِ ﴾.
وتأكيدا لمعرفة بني إسرائيل بأولية المسجد الحرام وأولويته على بيت المقدس، وتأييدا لكون استقبال المسجد الحرام الذي هو بناء إبراهيم، ومقام إبراهيم، وقبلة إبراهيم، هو الموقف الطبيعي والمنطقي من طرف الرسول الذي بعثه الله لإحياء ملة إبراهيم، ومن طرف أمته التي تعتز بأبوة إبراهيم ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمُ إبرَاهِيمَ ﴾ : تأكيدا وتأييدا لكل هذه المعاني جاءت الآيات الكريمة التالية :﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.
وهكذا كان استقبال المسجد الحرام نعمة كبرى من نعم الله على المسلمين أبرزت شخصيتهم، ووحدت قلوبهم، كما قال تعالى في نفس السياق :﴿ وَلأُتِمَّ نِعمَتِي عَلَيكُم وَلَعَلَّكُم تَهتَدُونَ( ١٥٠ ) ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٢:الربع الأول من الحزب الثالث
في المصحف الكريم
في هذا الربع من سورة البقرة يتركز الاهتمام، ويدور الحديث حول محور واحد هو موضوع القبلة التي اختارها الله للمسلمين، توحيدا لوجهتهم بعد توحيد عقيدتهم، فجعلها في البيت العتيق، أول بيت لعبادة الله وضع للناس.
وهاهنا ينبغي أن نعود إلى الوراء قليلا لنجد في الربع الثالث من الحزب الثاني آية كريمة تقول :﴿ وَمَن أَظلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ وَسَعَى في خَرَابِها، أولَئِكَ مَا كَانَ لَهُم أَن يَّدخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ، لَهُم فِي الدُّنيا خِزيٌ ولَهُم في الآخِرَةِ عّذَابٌ عَظِيمٌ ﴾. والإشارة في هذه الآية إلى الموقف المخزي الذي وقفه المشركون بمكة، من المؤمنين الراغبين في ارتياد المسجد الحرام لعبادة الواحد الأحد، والحيلولة بينهم وبين الصلاة فيه والحج إليه، على غرار ما جاء في آية كريمة أخرى تقول :﴿ إنَّ الذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ والمَسجِدِ الحَرَام الذي جَعَلنَاهُ لِلنَّاس، سَوَاءٌ العَاكِفُ فيهِ والبَادِ، وَمَن يُّرِد فيهِ بإلحادِ بِظُلمٍ نُّذِقهُ مِن عّذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
فهاهو القرآن الكريم يرفع عقيرته ضد احتكار المشركين للبيت الحرام، وتدنيسهم له بوضع التماثيل والأصنام، وتحويلهم إياه عن الهدف السامي الذي أقيم لأجله منذ أقدم الأيام.
ومادام الأمر هكذا، وقد هاجر المسلمون إلى المدينة وفارق كثير منهم مكة التي أصبحت ( دار حرب ) بالنسبة للمسلمين وهم على أبواب تكوين مجتمع جديد، من طراز فريد، فلم لا يتوجهون بصلاتهم-ولو مؤقتا- إلى صخرة بيت المقدس، التي لها نوع شبيه ولو بعيد بالبيت الحرام، وبذلك يوجهون طعنة كبرى في الصميم إلى استغلال الشرك والوثنية، ويعلنون احتجاجهم الصارخ على احتكار مشركي قريش لبيت الله، وتحويلهم له عن هدفه الأول، الذي من أجله أقامه إبراهيم، وساعده فيه إسماعيل، ألا وهو عبادة الله وحده لا شريك له، لا عبادة الأوثان والأصنام.
على أن توجه المسلمين في المدينة إلى بيت المقدس موقتا بدلا من البيت الحرام الذي كان لا يزال الشرك مسيطرا عليه، ومحتكرا له إذ ذاك، يقوم في نفس الوقت مقام اختبار نفسي وديني لنفس المهاجرين والأنصار، فهو اختبار لقوة إيمانهم، وامتحان لدرجة امتثالهم، وجس لنبض من قد يكون مدسوسا بينهم من المنافقين والمترددين ولمثل هذا تشير الآية الكريمة :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ﴾.
وهكذا تم التوجه إلى بيت المقدس في بدء الهجرة بأمر نبوي كريم، صادر عن اجتهاده عليه السلام، كما حكاه القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري رضوان الله عليهم، واستمر المسلمون على ذلك خلال سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا.
غير أن الجالية الإسرائيلية بالمدينة وما حولها التي ناصبت الإسلام العداء من أول وهلة، وتصدت له بالمقاومة الدعائية سرا وعلنا، والتي واجهها الإسلام بحججه الباهرة، وبراهينه القاهرة، فكشف الستار عن ماضيها وحاضرها، وألقى عليها من الأضواء ما لم يسبق له نظير، أخذت تستغل، في سبيل الدفاع عن نفسها وعن موقفها، مسألة اتجاه المسلمين أنفسهم إلى بيت المقدس، واتخذت من ذلك ذريعة إلى القول بأنها هي وحدها التي على الحق، وأن ملتها هي الملة المثلى التي تقتدي بها بقية الملل، وكانت تظن أن هذا الاختيار النبوي المؤقت إنما هو اختيار نهائي بالنسبة للقبلة الإسلامية، وأنها يمكن أن تستغله لبلبلة الأفكار زمنا طويلا.
إلا أن قوة الإسلام التي مضت تنمو مع الأيام في المدينة وما حولها، ودعوة الحنيفية السمحة التي أخذت توتي أكلها بين قادة الشرك في مكة، حيث عرفتهم وجه الحق في نشأة البيت الحرام، الوظيفة الأساسية التي أقامه من أجلها إبراهيم وإسماعيل، والأولوية التي يتمتع بها هذا البيت بين كافة بيوت الله في الأرض، كل ذلك مهد الجو لإعادة الحق إلى نصابه، وانتصار العقيدة الإسلامية الإبراهيمية في طبيعة المسجد الحرام ورسالته الخالدة.
ولم يلبث الرسول عليه السلام أن تلقى الوحي من ربه على هذا النحو الرقيق الرفيق ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾. وتأتي الآية ثانية في نفس المقام :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾. وتأتي آية ثالثة تركز نفس الاتجاه، وتوضح في نفس الوقت وجه الحكمة الإلهية فيه :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾. فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بما نزل من القرآن في شأن استقبال المسجد الحرام، وكانت أول صلاة صلاها إليه بهذه المناسبة التاريخية هي صلاة العصر كما ورد في الصحيحين من رواية البراء.
ولعل أحد السائلين يتساءل ما هو السر في ترادف هذه الآيات كلها على موضوع واحد هو الأمر باستقبال المسجد الحرام ؟
إن السر في ذلك على ما قاله ابن عباس ترجمان القرآن هو مجرد التأكيد، نظرا لأن الأمر يتعلق بأول نسخ وقع في الإسلام.
وأما السر في ذلك على ما وجهه فخر الدين الرازي فهو اختلاف الأحوال بالنسبة للمصلين عند الاستقبال.
فالأمر الأول :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ موجه لمن يشاهد الكعبة ﴾.
والأمر الثاني :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾. موجه لمن هو في مكة، لكنه غائب عن الكعبة بحيث لا يشاهدها.
والأمر الثالث :﴿ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾. موجه لمن هو في بقية البلدان والأقطار.
وقال القرطبي : الأمر الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو في بقية الأمصار، والثالث لمن خرج في الأسفار.
أما صلاة من صلى إلى بيت المقدس وقضى نحبه، أو من صلى إلى القبلتين معا، فقد تعهد الحق سبحانه وتعالى بثوابها فقال :﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١٤٣ ) ﴾.
وأما رد الفعل الذي نشأ في صفوف اليهود والمنافقين عند إعلان الاختيار الإلهي والنهائي لاستقبال المسجد الحرام، فقد توقعته هذه الآية الكريمة قبل وقوعه إذ قالت :﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّهُم عَن قِبلَتِهِمُ التي كانوا عليها ﴾.
ولقن الحق سبحانه وتعالى لرسوله الرد المفحم على سفههم قال :﴿ قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( ١٤٢ ) ﴾، ﴿ وَلِكُلَّ وِجهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاستَبِقُوا الخَيرَاتِ ﴾.
وتأكيدا لمعرفة بني إسرائيل بأولية المسجد الحرام وأولويته على بيت المقدس، وتأييدا لكون استقبال المسجد الحرام الذي هو بناء إبراهيم، ومقام إبراهيم، وقبلة إبراهيم، هو الموقف الطبيعي والمنطقي من طرف الرسول الذي بعثه الله لإحياء ملة إبراهيم، ومن طرف أمته التي تعتز بأبوة إبراهيم ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمُ إبرَاهِيمَ ﴾ : تأكيدا وتأييدا لكل هذه المعاني جاءت الآيات الكريمة التالية :﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.
وهكذا كان استقبال المسجد الحرام نعمة كبرى من نعم الله على المسلمين أبرزت شخصيتهم، ووحدت قلوبهم، كما قال تعالى في نفس السياق :﴿ وَلأُتِمَّ نِعمَتِي عَلَيكُم وَلَعَلَّكُم تَهتَدُونَ( ١٥٠ ) ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٢:الربع الأول من الحزب الثالث
في المصحف الكريم
في هذا الربع من سورة البقرة يتركز الاهتمام، ويدور الحديث حول محور واحد هو موضوع القبلة التي اختارها الله للمسلمين، توحيدا لوجهتهم بعد توحيد عقيدتهم، فجعلها في البيت العتيق، أول بيت لعبادة الله وضع للناس.
وهاهنا ينبغي أن نعود إلى الوراء قليلا لنجد في الربع الثالث من الحزب الثاني آية كريمة تقول :﴿ وَمَن أَظلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ وَسَعَى في خَرَابِها، أولَئِكَ مَا كَانَ لَهُم أَن يَّدخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ، لَهُم فِي الدُّنيا خِزيٌ ولَهُم في الآخِرَةِ عّذَابٌ عَظِيمٌ ﴾. والإشارة في هذه الآية إلى الموقف المخزي الذي وقفه المشركون بمكة، من المؤمنين الراغبين في ارتياد المسجد الحرام لعبادة الواحد الأحد، والحيلولة بينهم وبين الصلاة فيه والحج إليه، على غرار ما جاء في آية كريمة أخرى تقول :﴿ إنَّ الذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ والمَسجِدِ الحَرَام الذي جَعَلنَاهُ لِلنَّاس، سَوَاءٌ العَاكِفُ فيهِ والبَادِ، وَمَن يُّرِد فيهِ بإلحادِ بِظُلمٍ نُّذِقهُ مِن عّذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
فهاهو القرآن الكريم يرفع عقيرته ضد احتكار المشركين للبيت الحرام، وتدنيسهم له بوضع التماثيل والأصنام، وتحويلهم إياه عن الهدف السامي الذي أقيم لأجله منذ أقدم الأيام.
ومادام الأمر هكذا، وقد هاجر المسلمون إلى المدينة وفارق كثير منهم مكة التي أصبحت ( دار حرب ) بالنسبة للمسلمين وهم على أبواب تكوين مجتمع جديد، من طراز فريد، فلم لا يتوجهون بصلاتهم-ولو مؤقتا- إلى صخرة بيت المقدس، التي لها نوع شبيه ولو بعيد بالبيت الحرام، وبذلك يوجهون طعنة كبرى في الصميم إلى استغلال الشرك والوثنية، ويعلنون احتجاجهم الصارخ على احتكار مشركي قريش لبيت الله، وتحويلهم له عن هدفه الأول، الذي من أجله أقامه إبراهيم، وساعده فيه إسماعيل، ألا وهو عبادة الله وحده لا شريك له، لا عبادة الأوثان والأصنام.
على أن توجه المسلمين في المدينة إلى بيت المقدس موقتا بدلا من البيت الحرام الذي كان لا يزال الشرك مسيطرا عليه، ومحتكرا له إذ ذاك، يقوم في نفس الوقت مقام اختبار نفسي وديني لنفس المهاجرين والأنصار، فهو اختبار لقوة إيمانهم، وامتحان لدرجة امتثالهم، وجس لنبض من قد يكون مدسوسا بينهم من المنافقين والمترددين ولمثل هذا تشير الآية الكريمة :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ﴾.
وهكذا تم التوجه إلى بيت المقدس في بدء الهجرة بأمر نبوي كريم، صادر عن اجتهاده عليه السلام، كما حكاه القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري رضوان الله عليهم، واستمر المسلمون على ذلك خلال سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا.
غير أن الجالية الإسرائيلية بالمدينة وما حولها التي ناصبت الإسلام العداء من أول وهلة، وتصدت له بالمقاومة الدعائية سرا وعلنا، والتي واجهها الإسلام بحججه الباهرة، وبراهينه القاهرة، فكشف الستار عن ماضيها وحاضرها، وألقى عليها من الأضواء ما لم يسبق له نظير، أخذت تستغل، في سبيل الدفاع عن نفسها وعن موقفها، مسألة اتجاه المسلمين أنفسهم إلى بيت المقدس، واتخذت من ذلك ذريعة إلى القول بأنها هي وحدها التي على الحق، وأن ملتها هي الملة المثلى التي تقتدي بها بقية الملل، وكانت تظن أن هذا الاختيار النبوي المؤقت إنما هو اختيار نهائي بالنسبة للقبلة الإسلامية، وأنها يمكن أن تستغله لبلبلة الأفكار زمنا طويلا.
إلا أن قوة الإسلام التي مضت تنمو مع الأيام في المدينة وما حولها، ودعوة الحنيفية السمحة التي أخذت توتي أكلها بين قادة الشرك في مكة، حيث عرفتهم وجه الحق في نشأة البيت الحرام، الوظيفة الأساسية التي أقامه من أجلها إبراهيم وإسماعيل، والأولوية التي يتمتع بها هذا البيت بين كافة بيوت الله في الأرض، كل ذلك مهد الجو لإعادة الحق إلى نصابه، وانتصار العقيدة الإسلامية الإبراهيمية في طبيعة المسجد الحرام ورسالته الخالدة.
ولم يلبث الرسول عليه السلام أن تلقى الوحي من ربه على هذا النحو الرقيق الرفيق ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾. وتأتي الآية ثانية في نفس المقام :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾. وتأتي آية ثالثة تركز نفس الاتجاه، وتوضح في نفس الوقت وجه الحكمة الإلهية فيه :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾. فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بما نزل من القرآن في شأن استقبال المسجد الحرام، وكانت أول صلاة صلاها إليه بهذه المناسبة التاريخية هي صلاة العصر كما ورد في الصحيحين من رواية البراء.
ولعل أحد السائلين يتساءل ما هو السر في ترادف هذه الآيات كلها على موضوع واحد هو الأمر باستقبال المسجد الحرام ؟
إن السر في ذلك على ما قاله ابن عباس ترجمان القرآن هو مجرد التأكيد، نظرا لأن الأمر يتعلق بأول نسخ وقع في الإسلام.
وأما السر في ذلك على ما وجهه فخر الدين الرازي فهو اختلاف الأحوال بالنسبة للمصلين عند الاستقبال.
فالأمر الأول :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ موجه لمن يشاهد الكعبة ﴾.
والأمر الثاني :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾. موجه لمن هو في مكة، لكنه غائب عن الكعبة بحيث لا يشاهدها.
والأمر الثالث :﴿ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾. موجه لمن هو في بقية البلدان والأقطار.
وقال القرطبي : الأمر الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو في بقية الأمصار، والثالث لمن خرج في الأسفار.
أما صلاة من صلى إلى بيت المقدس وقضى نحبه، أو من صلى إلى القبلتين معا، فقد تعهد الحق سبحانه وتعالى بثوابها فقال :﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١٤٣ ) ﴾.
وأما رد الفعل الذي نشأ في صفوف اليهود والمنافقين عند إعلان الاختيار الإلهي والنهائي لاستقبال المسجد الحرام، فقد توقعته هذه الآية الكريمة قبل وقوعه إذ قالت :﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّهُم عَن قِبلَتِهِمُ التي كانوا عليها ﴾.
ولقن الحق سبحانه وتعالى لرسوله الرد المفحم على سفههم قال :﴿ قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( ١٤٢ ) ﴾، ﴿ وَلِكُلَّ وِجهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاستَبِقُوا الخَيرَاتِ ﴾.
وتأكيدا لمعرفة بني إسرائيل بأولية المسجد الحرام وأولويته على بيت المقدس، وتأييدا لكون استقبال المسجد الحرام الذي هو بناء إبراهيم، ومقام إبراهيم، وقبلة إبراهيم، هو الموقف الطبيعي والمنطقي من طرف الرسول الذي بعثه الله لإحياء ملة إبراهيم، ومن طرف أمته التي تعتز بأبوة إبراهيم ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمُ إبرَاهِيمَ ﴾ : تأكيدا وتأييدا لكل هذه المعاني جاءت الآيات الكريمة التالية :﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.
وهكذا كان استقبال المسجد الحرام نعمة كبرى من نعم الله على المسلمين أبرزت شخصيتهم، ووحدت قلوبهم، كما قال تعالى في نفس السياق :﴿ وَلأُتِمَّ نِعمَتِي عَلَيكُم وَلَعَلَّكُم تَهتَدُونَ( ١٥٠ ) ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٢:الربع الأول من الحزب الثالث
في المصحف الكريم
في هذا الربع من سورة البقرة يتركز الاهتمام، ويدور الحديث حول محور واحد هو موضوع القبلة التي اختارها الله للمسلمين، توحيدا لوجهتهم بعد توحيد عقيدتهم، فجعلها في البيت العتيق، أول بيت لعبادة الله وضع للناس.
وهاهنا ينبغي أن نعود إلى الوراء قليلا لنجد في الربع الثالث من الحزب الثاني آية كريمة تقول :﴿ وَمَن أَظلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ وَسَعَى في خَرَابِها، أولَئِكَ مَا كَانَ لَهُم أَن يَّدخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ، لَهُم فِي الدُّنيا خِزيٌ ولَهُم في الآخِرَةِ عّذَابٌ عَظِيمٌ ﴾. والإشارة في هذه الآية إلى الموقف المخزي الذي وقفه المشركون بمكة، من المؤمنين الراغبين في ارتياد المسجد الحرام لعبادة الواحد الأحد، والحيلولة بينهم وبين الصلاة فيه والحج إليه، على غرار ما جاء في آية كريمة أخرى تقول :﴿ إنَّ الذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ والمَسجِدِ الحَرَام الذي جَعَلنَاهُ لِلنَّاس، سَوَاءٌ العَاكِفُ فيهِ والبَادِ، وَمَن يُّرِد فيهِ بإلحادِ بِظُلمٍ نُّذِقهُ مِن عّذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
فهاهو القرآن الكريم يرفع عقيرته ضد احتكار المشركين للبيت الحرام، وتدنيسهم له بوضع التماثيل والأصنام، وتحويلهم إياه عن الهدف السامي الذي أقيم لأجله منذ أقدم الأيام.
ومادام الأمر هكذا، وقد هاجر المسلمون إلى المدينة وفارق كثير منهم مكة التي أصبحت ( دار حرب ) بالنسبة للمسلمين وهم على أبواب تكوين مجتمع جديد، من طراز فريد، فلم لا يتوجهون بصلاتهم-ولو مؤقتا- إلى صخرة بيت المقدس، التي لها نوع شبيه ولو بعيد بالبيت الحرام، وبذلك يوجهون طعنة كبرى في الصميم إلى استغلال الشرك والوثنية، ويعلنون احتجاجهم الصارخ على احتكار مشركي قريش لبيت الله، وتحويلهم له عن هدفه الأول، الذي من أجله أقامه إبراهيم، وساعده فيه إسماعيل، ألا وهو عبادة الله وحده لا شريك له، لا عبادة الأوثان والأصنام.
على أن توجه المسلمين في المدينة إلى بيت المقدس موقتا بدلا من البيت الحرام الذي كان لا يزال الشرك مسيطرا عليه، ومحتكرا له إذ ذاك، يقوم في نفس الوقت مقام اختبار نفسي وديني لنفس المهاجرين والأنصار، فهو اختبار لقوة إيمانهم، وامتحان لدرجة امتثالهم، وجس لنبض من قد يكون مدسوسا بينهم من المنافقين والمترددين ولمثل هذا تشير الآية الكريمة :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ﴾.
وهكذا تم التوجه إلى بيت المقدس في بدء الهجرة بأمر نبوي كريم، صادر عن اجتهاده عليه السلام، كما حكاه القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري رضوان الله عليهم، واستمر المسلمون على ذلك خلال سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا.
غير أن الجالية الإسرائيلية بالمدينة وما حولها التي ناصبت الإسلام العداء من أول وهلة، وتصدت له بالمقاومة الدعائية سرا وعلنا، والتي واجهها الإسلام بحججه الباهرة، وبراهينه القاهرة، فكشف الستار عن ماضيها وحاضرها، وألقى عليها من الأضواء ما لم يسبق له نظير، أخذت تستغل، في سبيل الدفاع عن نفسها وعن موقفها، مسألة اتجاه المسلمين أنفسهم إلى بيت المقدس، واتخذت من ذلك ذريعة إلى القول بأنها هي وحدها التي على الحق، وأن ملتها هي الملة المثلى التي تقتدي بها بقية الملل، وكانت تظن أن هذا الاختيار النبوي المؤقت إنما هو اختيار نهائي بالنسبة للقبلة الإسلامية، وأنها يمكن أن تستغله لبلبلة الأفكار زمنا طويلا.
إلا أن قوة الإسلام التي مضت تنمو مع الأيام في المدينة وما حولها، ودعوة الحنيفية السمحة التي أخذت توتي أكلها بين قادة الشرك في مكة، حيث عرفتهم وجه الحق في نشأة البيت الحرام، الوظيفة الأساسية التي أقامه من أجلها إبراهيم وإسماعيل، والأولوية التي يتمتع بها هذا البيت بين كافة بيوت الله في الأرض، كل ذلك مهد الجو لإعادة الحق إلى نصابه، وانتصار العقيدة الإسلامية الإبراهيمية في طبيعة المسجد الحرام ورسالته الخالدة.
ولم يلبث الرسول عليه السلام أن تلقى الوحي من ربه على هذا النحو الرقيق الرفيق ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾. وتأتي الآية ثانية في نفس المقام :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾. وتأتي آية ثالثة تركز نفس الاتجاه، وتوضح في نفس الوقت وجه الحكمة الإلهية فيه :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾. فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بما نزل من القرآن في شأن استقبال المسجد الحرام، وكانت أول صلاة صلاها إليه بهذه المناسبة التاريخية هي صلاة العصر كما ورد في الصحيحين من رواية البراء.
ولعل أحد السائلين يتساءل ما هو السر في ترادف هذه الآيات كلها على موضوع واحد هو الأمر باستقبال المسجد الحرام ؟
إن السر في ذلك على ما قاله ابن عباس ترجمان القرآن هو مجرد التأكيد، نظرا لأن الأمر يتعلق بأول نسخ وقع في الإسلام.
وأما السر في ذلك على ما وجهه فخر الدين الرازي فهو اختلاف الأحوال بالنسبة للمصلين عند الاستقبال.
فالأمر الأول :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ موجه لمن يشاهد الكعبة ﴾.
والأمر الثاني :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾. موجه لمن هو في مكة، لكنه غائب عن الكعبة بحيث لا يشاهدها.
والأمر الثالث :﴿ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾. موجه لمن هو في بقية البلدان والأقطار.
وقال القرطبي : الأمر الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو في بقية الأمصار، والثالث لمن خرج في الأسفار.
أما صلاة من صلى إلى بيت المقدس وقضى نحبه، أو من صلى إلى القبلتين معا، فقد تعهد الحق سبحانه وتعالى بثوابها فقال :﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١٤٣ ) ﴾.
وأما رد الفعل الذي نشأ في صفوف اليهود والمنافقين عند إعلان الاختيار الإلهي والنهائي لاستقبال المسجد الحرام، فقد توقعته هذه الآية الكريمة قبل وقوعه إذ قالت :﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّهُم عَن قِبلَتِهِمُ التي كانوا عليها ﴾.
ولقن الحق سبحانه وتعالى لرسوله الرد المفحم على سفههم قال :﴿ قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( ١٤٢ ) ﴾، ﴿ وَلِكُلَّ وِجهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاستَبِقُوا الخَيرَاتِ ﴾.
وتأكيدا لمعرفة بني إسرائيل بأولية المسجد الحرام وأولويته على بيت المقدس، وتأييدا لكون استقبال المسجد الحرام الذي هو بناء إبراهيم، ومقام إبراهيم، وقبلة إبراهيم، هو الموقف الطبيعي والمنطقي من طرف الرسول الذي بعثه الله لإحياء ملة إبراهيم، ومن طرف أمته التي تعتز بأبوة إبراهيم ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمُ إبرَاهِيمَ ﴾ : تأكيدا وتأييدا لكل هذه المعاني جاءت الآيات الكريمة التالية :﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.
وهكذا كان استقبال المسجد الحرام نعمة كبرى من نعم الله على المسلمين أبرزت شخصيتهم، ووحدت قلوبهم، كما قال تعالى في نفس السياق :﴿ وَلأُتِمَّ نِعمَتِي عَلَيكُم وَلَعَلَّكُم تَهتَدُونَ( ١٥٠ ) ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٢:الربع الأول من الحزب الثالث
في المصحف الكريم
في هذا الربع من سورة البقرة يتركز الاهتمام، ويدور الحديث حول محور واحد هو موضوع القبلة التي اختارها الله للمسلمين، توحيدا لوجهتهم بعد توحيد عقيدتهم، فجعلها في البيت العتيق، أول بيت لعبادة الله وضع للناس.
وهاهنا ينبغي أن نعود إلى الوراء قليلا لنجد في الربع الثالث من الحزب الثاني آية كريمة تقول :﴿ وَمَن أَظلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ وَسَعَى في خَرَابِها، أولَئِكَ مَا كَانَ لَهُم أَن يَّدخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ، لَهُم فِي الدُّنيا خِزيٌ ولَهُم في الآخِرَةِ عّذَابٌ عَظِيمٌ ﴾. والإشارة في هذه الآية إلى الموقف المخزي الذي وقفه المشركون بمكة، من المؤمنين الراغبين في ارتياد المسجد الحرام لعبادة الواحد الأحد، والحيلولة بينهم وبين الصلاة فيه والحج إليه، على غرار ما جاء في آية كريمة أخرى تقول :﴿ إنَّ الذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ والمَسجِدِ الحَرَام الذي جَعَلنَاهُ لِلنَّاس، سَوَاءٌ العَاكِفُ فيهِ والبَادِ، وَمَن يُّرِد فيهِ بإلحادِ بِظُلمٍ نُّذِقهُ مِن عّذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
فهاهو القرآن الكريم يرفع عقيرته ضد احتكار المشركين للبيت الحرام، وتدنيسهم له بوضع التماثيل والأصنام، وتحويلهم إياه عن الهدف السامي الذي أقيم لأجله منذ أقدم الأيام.
ومادام الأمر هكذا، وقد هاجر المسلمون إلى المدينة وفارق كثير منهم مكة التي أصبحت ( دار حرب ) بالنسبة للمسلمين وهم على أبواب تكوين مجتمع جديد، من طراز فريد، فلم لا يتوجهون بصلاتهم-ولو مؤقتا- إلى صخرة بيت المقدس، التي لها نوع شبيه ولو بعيد بالبيت الحرام، وبذلك يوجهون طعنة كبرى في الصميم إلى استغلال الشرك والوثنية، ويعلنون احتجاجهم الصارخ على احتكار مشركي قريش لبيت الله، وتحويلهم له عن هدفه الأول، الذي من أجله أقامه إبراهيم، وساعده فيه إسماعيل، ألا وهو عبادة الله وحده لا شريك له، لا عبادة الأوثان والأصنام.
على أن توجه المسلمين في المدينة إلى بيت المقدس موقتا بدلا من البيت الحرام الذي كان لا يزال الشرك مسيطرا عليه، ومحتكرا له إذ ذاك، يقوم في نفس الوقت مقام اختبار نفسي وديني لنفس المهاجرين والأنصار، فهو اختبار لقوة إيمانهم، وامتحان لدرجة امتثالهم، وجس لنبض من قد يكون مدسوسا بينهم من المنافقين والمترددين ولمثل هذا تشير الآية الكريمة :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ﴾.
وهكذا تم التوجه إلى بيت المقدس في بدء الهجرة بأمر نبوي كريم، صادر عن اجتهاده عليه السلام، كما حكاه القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري رضوان الله عليهم، واستمر المسلمون على ذلك خلال سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا.
غير أن الجالية الإسرائيلية بالمدينة وما حولها التي ناصبت الإسلام العداء من أول وهلة، وتصدت له بالمقاومة الدعائية سرا وعلنا، والتي واجهها الإسلام بحججه الباهرة، وبراهينه القاهرة، فكشف الستار عن ماضيها وحاضرها، وألقى عليها من الأضواء ما لم يسبق له نظير، أخذت تستغل، في سبيل الدفاع عن نفسها وعن موقفها، مسألة اتجاه المسلمين أنفسهم إلى بيت المقدس، واتخذت من ذلك ذريعة إلى القول بأنها هي وحدها التي على الحق، وأن ملتها هي الملة المثلى التي تقتدي بها بقية الملل، وكانت تظن أن هذا الاختيار النبوي المؤقت إنما هو اختيار نهائي بالنسبة للقبلة الإسلامية، وأنها يمكن أن تستغله لبلبلة الأفكار زمنا طويلا.
إلا أن قوة الإسلام التي مضت تنمو مع الأيام في المدينة وما حولها، ودعوة الحنيفية السمحة التي أخذت توتي أكلها بين قادة الشرك في مكة، حيث عرفتهم وجه الحق في نشأة البيت الحرام، الوظيفة الأساسية التي أقامه من أجلها إبراهيم وإسماعيل، والأولوية التي يتمتع بها هذا البيت بين كافة بيوت الله في الأرض، كل ذلك مهد الجو لإعادة الحق إلى نصابه، وانتصار العقيدة الإسلامية الإبراهيمية في طبيعة المسجد الحرام ورسالته الخالدة.
ولم يلبث الرسول عليه السلام أن تلقى الوحي من ربه على هذا النحو الرقيق الرفيق ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾. وتأتي الآية ثانية في نفس المقام :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾. وتأتي آية ثالثة تركز نفس الاتجاه، وتوضح في نفس الوقت وجه الحكمة الإلهية فيه :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾. فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بما نزل من القرآن في شأن استقبال المسجد الحرام، وكانت أول صلاة صلاها إليه بهذه المناسبة التاريخية هي صلاة العصر كما ورد في الصحيحين من رواية البراء.
ولعل أحد السائلين يتساءل ما هو السر في ترادف هذه الآيات كلها على موضوع واحد هو الأمر باستقبال المسجد الحرام ؟
إن السر في ذلك على ما قاله ابن عباس ترجمان القرآن هو مجرد التأكيد، نظرا لأن الأمر يتعلق بأول نسخ وقع في الإسلام.
وأما السر في ذلك على ما وجهه فخر الدين الرازي فهو اختلاف الأحوال بالنسبة للمصلين عند الاستقبال.
فالأمر الأول :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ موجه لمن يشاهد الكعبة ﴾.
والأمر الثاني :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾. موجه لمن هو في مكة، لكنه غائب عن الكعبة بحيث لا يشاهدها.
والأمر الثالث :﴿ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾. موجه لمن هو في بقية البلدان والأقطار.
وقال القرطبي : الأمر الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو في بقية الأمصار، والثالث لمن خرج في الأسفار.
أما صلاة من صلى إلى بيت المقدس وقضى نحبه، أو من صلى إلى القبلتين معا، فقد تعهد الحق سبحانه وتعالى بثوابها فقال :﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١٤٣ ) ﴾.
وأما رد الفعل الذي نشأ في صفوف اليهود والمنافقين عند إعلان الاختيار الإلهي والنهائي لاستقبال المسجد الحرام، فقد توقعته هذه الآية الكريمة قبل وقوعه إذ قالت :﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّهُم عَن قِبلَتِهِمُ التي كانوا عليها ﴾.
ولقن الحق سبحانه وتعالى لرسوله الرد المفحم على سفههم قال :﴿ قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( ١٤٢ ) ﴾، ﴿ وَلِكُلَّ وِجهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاستَبِقُوا الخَيرَاتِ ﴾.
وتأكيدا لمعرفة بني إسرائيل بأولية المسجد الحرام وأولويته على بيت المقدس، وتأييدا لكون استقبال المسجد الحرام الذي هو بناء إبراهيم، ومقام إبراهيم، وقبلة إبراهيم، هو الموقف الطبيعي والمنطقي من طرف الرسول الذي بعثه الله لإحياء ملة إبراهيم، ومن طرف أمته التي تعتز بأبوة إبراهيم ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمُ إبرَاهِيمَ ﴾ : تأكيدا وتأييدا لكل هذه المعاني جاءت الآيات الكريمة التالية :﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.
وهكذا كان استقبال المسجد الحرام نعمة كبرى من نعم الله على المسلمين أبرزت شخصيتهم، ووحدت قلوبهم، كما قال تعالى في نفس السياق :﴿ وَلأُتِمَّ نِعمَتِي عَلَيكُم وَلَعَلَّكُم تَهتَدُونَ( ١٥٠ ) ﴾.

الربع الثاني من الحزب الثالث
في المصحف الكريم
في مطلع هذا الربع يتحدث كتاب الله عن السعي بين الصفا والمروة، ويؤكد تقرير الإسلام لحرمة كل منهما، بصفتهما من شعائر الله، وذلك إزالة لمخاوف المسلمين الذين توقفوا في أمرهما، ظنا منهم أنه يسري عليهما حكم الإسلام في منع كثير من مظاهر الجاهلية وتقاليدها ﴿ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ( ١٥٨ ) ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٨:الربع الثاني من الحزب الثالث
في المصحف الكريم
في مطلع هذا الربع يتحدث كتاب الله عن السعي بين الصفا والمروة، ويؤكد تقرير الإسلام لحرمة كل منهما، بصفتهما من شعائر الله، وذلك إزالة لمخاوف المسلمين الذين توقفوا في أمرهما، ظنا منهم أنه يسري عليهما حكم الإسلام في منع كثير من مظاهر الجاهلية وتقاليدها ﴿ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ( ١٥٨ ) ﴾.

وتشير الآيات البينات بعد ذلك إلى عقيدة التوحيد الخالص، وبراهينها الكونية الساطعة، معتمدة على وسائل الإقناع الفطرية الملموسة، وطرقه التجريبية المحسوسة، التي يستوي في إدراكها وفهمها كل الناس، من مختلف المستويات والأجناس، ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ( ١٦٣ ) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( ١٦٤ ) ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٣:وتشير الآيات البينات بعد ذلك إلى عقيدة التوحيد الخالص، وبراهينها الكونية الساطعة، معتمدة على وسائل الإقناع الفطرية الملموسة، وطرقه التجريبية المحسوسة، التي يستوي في إدراكها وفهمها كل الناس، من مختلف المستويات والأجناس، ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ( ١٦٣ ) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( ١٦٤ ) ﴾.
وتتناول الآيات الكريمة في هذا السياق بالوصف والتعقيب طائفة من الناس غلبت عليها روح الانتهازية، فتجاهلت طاعة الله ومحبته، ونسيت قضاءه وقدره، والتزمت بدلا من ذلك طاعة بعض المخلوقين، إذ ملأت قلوبها بمحبتهم والخضوع لهم، وسايرتهم في أهوائهم ابتغاء مرضاتهم، فجعلت من هواهم المدخول قانونا متبعا، ومن كلمتهم السفلى كلمة عليا، وبذلك كله أقامتهم مقام الأضداد المنافسين، أو الأشباه المماثلين، للحق جل جلاله، وذلك قوله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ﴾.
ثم عقبت الآية على ذلك بما يوضح البون الشاسع والفرق الكبير بين هذه الطائفة الخاسرة والمؤمنين الخلص، فقالت ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ ﴾. وإذن فلن يستبدلوا بمحبة الله وطاعته طاعة ولا محبة أحد سواه.
وتنتقل الآيات الكريمة إلى رسم صورة كاشفة لموقف قادة الضلال من أتباعهم في سائر العصور، ولموقف الأتباع الضالين من قادتهم في الدنيا والآخرة، ومحاولة كل فريق منهما في نهاية المطاف التبرؤ من الفريق الآخر، وإنكار كل رابطة كانت تربط بين التابع والمتبوع، إذ تنقلب المحبة المصطنعة بينهما إلى عداوة، والثقة العمياء إلى ضياع للثقة بالمرة، وتبلغ الحسرة بالأتباع أضعاف أضعاف ما بلغته حسرة القادة، حيث يكتشف الأتباع المخدوعون أنهم إنما كانوا آلة مسخرة في أيدي القادة، ويدركون أن أعمالهم إنما كانت نكبة عليهم ووبالا، وأنهم كانوا في الحقيقة من الأخسرين أعمالا، وذلك قوله تعالى :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ( ١٦٦ ) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ( ١٦٧ ) ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٦:وتنتقل الآيات الكريمة إلى رسم صورة كاشفة لموقف قادة الضلال من أتباعهم في سائر العصور، ولموقف الأتباع الضالين من قادتهم في الدنيا والآخرة، ومحاولة كل فريق منهما في نهاية المطاف التبرؤ من الفريق الآخر، وإنكار كل رابطة كانت تربط بين التابع والمتبوع، إذ تنقلب المحبة المصطنعة بينهما إلى عداوة، والثقة العمياء إلى ضياع للثقة بالمرة، وتبلغ الحسرة بالأتباع أضعاف أضعاف ما بلغته حسرة القادة، حيث يكتشف الأتباع المخدوعون أنهم إنما كانوا آلة مسخرة في أيدي القادة، ويدركون أن أعمالهم إنما كانت نكبة عليهم ووبالا، وأنهم كانوا في الحقيقة من الأخسرين أعمالا، وذلك قوله تعالى :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ( ١٦٦ ) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ( ١٦٧ ) ﴾.
ومن هناك اتجهت الآيات الكريمة إلى استنكار التقليد الأعمى، وإلى الحض على ترك التقاليد المستهجنة، المتوارثة عن عهود الجهالة والضلالة، والدعوة إلى إتباع الحق الذي أنزله الله نورا وهدى، وهذه الدعوة تتضمن إعمال الفكر فيما يجد عليه الأبناء آباهم، وتتطلب عدم الاتكال على المألوف والرضى بالمتعارف دون نقد ولا تمحيص، وتقتضي هذه الدعوة بالأخص وزن التراث المتلقى من الآباء والأجداد بميزان الوحي والعقل، فما وافقهما كان حريا بالإتباع، وما خالفهما كان حريا بالإهمال، وذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ( ١٧٠ ) ﴾.
وأمامي الآن في هذا الربع من القرآن آيات كريمة، صيغتها أكبر وأخطر من كل إنذار تعارف عليه الناس، وجهها الحق سبحانه وتعالى إلى كل من علم علما فكتمه، أو استغل علمه في سبيل منفعة شخصية تعود على مقتضى علمه بالنقض والإبطال، أو وجه علمه وجهة الشر والأذى، أو خان بعلمه الأمانة، أو غش بعلمه الأمة، بحيث يندرج تحت هذه الآيات كل استعمال للعلم في غير وجهه، وكل كتمان له حتى لا يستعمل في وجهه، وذلك قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَنَا مِنَ البَيَّنَاتِ وَالهُدى مِن بَعدِ ما بَيَّنَاهُ لِلنَّاسِ في الكِتَابِ أولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلعَنُهُمُ اللَّعِنُونَ( ١٥٩ ) ﴾. وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾.
وقد كان لهذه الآيات بما تضمنته من وعيد وإنذار، أبلغ أثر في دفع علماء الإسلام من السلف والخلف إلى نشر العلم وروايته، مهما كلف من المشاق والمتاعب، وإلى الجهر بالحق ونصرته مهما اقتضى من التضحيات والمكاره، وبآية :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَنَا مِنَ البَيَّنَاتِ وَالهُدى ﴾. استشهد عثمان بن عفان عندما قال :( لأحدثنكم حديثا لولا آية من كتاب الله عز وجل ما حدثتكموه ) وإليها استند أبو هريرة إذ قال :( إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ووالله لولا آية في كتاب الله ما حدثت شيئا ).
وآخر آية في هذا الربع تؤكد بشكل قاطع وصورة جازمة ما نزل به كتاب الله من الحق والصدق، وما نطق به القول الفصل بالنسبة لبقية الملل والأديان المنقسمة على نفسها والمختلفة فيما بينها، وبذلك كان القرآن الكريم هو المعيار الوحيد لما ينسب إلى الكتب المنزلة، والحكم العدل في شؤونها المجملة والمفصلة ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ( ١٧٦ ) ﴾، ﴿ وتَمَّت كَلِمَاتُ رَبَّكَ صِدقاً وَعَدلاً ﴾.
في هذه الحصة من سورة البقرة، يتولى الحق سبحانه وتعالى تنظيم حياة المسلمين أفرادا وجماعات، ويصدر إليهم أحكاما خالدة قاطعة في عدة شؤون من العبادات والمعاملات.
ففيها آيات عن الصيام وعن الاعتكاف من جهة، وفيها آيات عن طريقة كسب المال وعن وجوه إنفاقه وصاحبه لا يزال على قيد الحياة، وعن الوصية به لمن ينتفع به بعد الموت، وعن القصاص وحكمته، وعن رشوة الحكام لصالح المحكومين.
وأما وجوه إنفاق المال التي يحض عليها الإسلام ويعطيها الأولوية بعد كفاية حاجات النفس والعيال المشروعة، فهي الإنفاق في وجوه البر التي لها أثر اجتماعي مباشر، ونفع إنساني محقق.
وذلك مثل الإنفاق على الأقرباء المحتاجين، وعلى اليتامى الفقراء العاجزين عن الكسب، وعلى المساكين الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، وعلى السائلين الذين لا يسألون الناس إلحافا، وعلى أبناء السبيل العابرين من بلد إلى بلد في طلب علم أو أداء عبادة، وعلى الأرقاء، بغية تحريرهم من الرق، وأسارى المسلمين، افتداء لهم من الأسر، وهذا ما ينص عليه قوله تعالى :﴿ وَلَكِنِ البِرُّ مَن آمَنَ باللهِ وَاليَومِ الآخر والمَلاَئِكَةِ والكِتَابِ والنَبِيين وءاتى الماَلَ عَلى حُبِّه ذوِي القُربَى، واليَتَامَى وَالمَسَاكِنَ وابنِ السَّبِيلِ، والسَائِلِينَ، وفِي الرِّقَاب، وأَقَامَ الصَّلاَةَ، وءاتَى الزَّكاةَ ﴾.
ويتكرر هذا المعنى في نفس سورة البقرة بنزول قوله تعالى :﴿ يَسأَلُونَك مَاذا يُنفِقُونَ، قُل ما أنفقتُم مِّن خَير فَلِلوالِدَينِ، والأَقرَبِينَ، واليَتَامى، والمسَاكِين، وابن السَّبِيل، ومَا تفعَلُوا مِن خَيرٍ فَإنَّ اللهَ به عَلِيمٌ ﴾.
وواضح بموجب هذه الآيات الكريمة، أن في المال حقا سوى الزكاة، فقد ذكرت الزكاة على حدة، منفصلة في آخرها، كشيء زائد على بقية وجوه الإنفاق التي ذكرت مفصلة في أولها.
ولا حاجة إلى التنبيه على الأهمية الكبيرة التي يعطيها كتاب الله لإنفاق المال في وجوه البر وأنواع الإحسان، بحيث لا يغني عنه ولا يقوم مقامه مجرد التعبد الفردي والتبتل الشخصي الذي لا يستفيد منه إلا شخص المتعبد وحده، فمن رزقه الله المال ينبغي أن يجمع بين الحسنيين : عبادة الله بالصلاة وغيرها فرضا ونفلا، وشكر الله بالإنفاق في وجوه البر وجوبا وتطوعا، زكاة وصدقة، وبذلك يندرج في عداد العابدين الشاكرين، ويسجل في سجل الصابرين الصادقين.
وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى :﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ ﴾. إلى قوله :﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ ﴾. إلى آخر الآية. وإلى المتصفين بهذه الصفات يشير أيضا قوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ( ١٧٧ ) ﴾.
في هذه الحصة من سورة البقرة، يتولى الحق سبحانه وتعالى تنظيم حياة المسلمين أفرادا وجماعات، ويصدر إليهم أحكاما خالدة قاطعة في عدة شؤون من العبادات والمعاملات.
ففيها آيات عن الصيام وعن الاعتكاف من جهة، وفيها آيات عن طريقة كسب المال وعن وجوه إنفاقه وصاحبه لا يزال على قيد الحياة، وعن الوصية به لمن ينتفع به بعد الموت، وعن القصاص وحكمته، وعن رشوة الحكام لصالح المحكومين.
وفي هذا الربع أيضا تناولت الآيات الكريمة حكم القصاص والحكمة في تشريعه، وقد كان هذا الحكم الإسلامي الحاسم تدشينا لعهد السلام والأمن بين الناس، إذ وضع حدا لسفك الدماء وإزهاق الأرواح بدون حق.
وأشارت نفس الآيات إلى أن تقرير حد القصاص على أساس من العدل والمساواة، إنما هو وسيلة فعالة للحد من جرائم القتل، وإقامة حياة آمنة مطمئنة يعيش في ضلالها الجميع عيشة راضية، وذلك قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ القِصَاصُ فِي القَتلَى، الحُرُّ بالحُرِّ والعَبدُ بالعَبدِ والأُنثى بالأنثَى ﴾. وقوله تعالى :﴿ وَلَكُم فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَااُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ( ١٧٩ ) ﴾.
في هذه الحصة من سورة البقرة، يتولى الحق سبحانه وتعالى تنظيم حياة المسلمين أفرادا وجماعات، ويصدر إليهم أحكاما خالدة قاطعة في عدة شؤون من العبادات والمعاملات.
ففيها آيات عن الصيام وعن الاعتكاف من جهة، وفيها آيات عن طريقة كسب المال وعن وجوه إنفاقه وصاحبه لا يزال على قيد الحياة، وعن الوصية به لمن ينتفع به بعد الموت، وعن القصاص وحكمته، وعن رشوة الحكام لصالح المحكومين.
وسيرا في نفس الاتجاه الذي خطه دستور الإسلام الخالد، وهو أن للمال وظيفة اجتماعية سامية، ألا وهي الإسهام في إسعاد المجتمع ورفاهيته ورفع مستواه، وتوزيع الثروة بين أفراده على أوسع نطاق، لم يقتصر كتاب الله على ذكر نماذج من وجوه البر التي يطالب المسلم بالإنفاق فيها وهو على قيد الحياة، بل امتد نظره إلى ماذا سيكون مآل أموالهم وماذا سيفعل بها بعد موتهم.
فنزلت آيات خاصة بالمواريث تحدد فرائض الوارثين في تركة موروثهم تحديدا قاطعا لا تبديل فيه ولا تغيير﴿ يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَولاَدِكُمْ ﴾. إلى آخر آيات الميراث التي ستأتي مع تفسيرها بحول الله وقوته في سورة النساء.
وفي حق هؤلاء اكتفى الشارع بتحديد أنصبة الإرث الخاصة بكل وارث، ومنعهم من الانتفاع بالوصية، اكتفاء بما نالوه من إرث، طبقا لقوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح " لا وصية لوارث ".
أما أقرباء المسلم وذوو أرحامه الذين لا يدخلون في عداد الوارثين، ولا ينجر إليهم أدنى حق في التركة، فهؤلاء قد حض الإسلام على الوصية لهم، إن كانت ثروة المسلم الذي ينتمون لقرابته تتسع للورثة الأصليين وبقية الأقربين، وذلك ما ينبغي فهمه من قوله تعالى في هذا الربع :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ( ١٨٠ ) ﴾.
ولا يستغربن السامع ذكر الوالدين هنا في سياق الوصية دون الإرث، فهناك من الوالدين من لا حق له في الإرث، وهناك من الأقارب من لا حق لهم فيه أيضا، مثال ذلك الأم الكتابية التي ليست على دين ابنها المسلم، والزوجة الكتابية التي ليست على دين زوجها المسلم، فهذه الأم لا ترث ابنها، وهذه الزوجة لا ترث زوجها، وإنما أباح الله في حق مثلهما الوصية دون الإرث، فيمكن لولد الأولى أو لزوج الثانية أن يوصي لها قبل وفاته بنصيب من ثروته، لكن يجب أن تكون هذه الوصية ( بالمعروف ) كما قال الله تعالى، أي بحيث لا تؤدي إلى الإجحاف بحقوق الورثة الشرعيين، وتكون في حدود الثلث الجائز فما دونه.
والوصية لهؤلاء ومن في حكمهم ليست في درجة الوجوب، وإنما هي أمر مرغب فيه ومطلوب، وذلك بالنسبة لمن يرغب في صلة رحمه، وستر ذويه من بعده، جزاء ما بذلوا في سبيله من اعتناء وبرور، وجهد مشكور، حتى لا يوصم بالتقصير في حقهم ونكران جميلهم، ولهذا المعنى يشير قوله تعالى :﴿ حَقّاً عَلَى المُتَّقِينَ ﴾. قال القاضي أبو بكر ( ابن العربي ) المعافري في كتابه أحكام القرآن : " قوله تعالى-على المتقين-يدل على كونه ندبا، لأنه لو كان فرضا لكان على جميع المسلمين، فلما خص الله تعالى به من يتقي، أي من يخاف تقصيرا، دل على أنه غير لازم ".
في هذه الحصة من سورة البقرة، يتولى الحق سبحانه وتعالى تنظيم حياة المسلمين أفرادا وجماعات، ويصدر إليهم أحكاما خالدة قاطعة في عدة شؤون من العبادات والمعاملات.
ففيها آيات عن الصيام وعن الاعتكاف من جهة، وفيها آيات عن طريقة كسب المال وعن وجوه إنفاقه وصاحبه لا يزال على قيد الحياة، وعن الوصية به لمن ينتفع به بعد الموت، وعن القصاص وحكمته، وعن رشوة الحكام لصالح المحكومين.
الربع الثالث من الحزب الثالث
في المصحف الكريم
أما الصيام فقد بين الحق سبحانه وتعالى للمسلمين أنه ليس بدعا في التشريع الإسلامي، بل إنه شعيرة من شعائر الدين التي جاء بها الأنبياء والرسل السابقون ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾. كما بين وجه الحكمة فيه، وأن الغرض منه ليس هو إرهاق المكلفين بالجوع والعطش وكبت الشهوة، وإنما المراد منه ثمرته الروحية، التي تتجلى في سلوك المؤمن أثناء صيامه، ثم بعد انقضاء شهر الصيام، طيلة بقية شهور العام، وهي ما يكتسبه الصائم بفضل الصوم من تقوى القلب وتهذيب النفس، وذلك قوله تعالى :﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( ١٨٣ ) ﴾. بعد قوله :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾. وقوله تعالى :﴿ وَاَن تَصُومُوا خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمُونَ( ١٨٤ ) ﴾. على حد قوله تعالى في آية أخرى تشير إلى الأضاحي والهدايا بمناسبة موسم الحج وعيد الأضحى :﴿ لَن يَّنَالَ اللهَ لُحُومُهَا ولاَ دِماؤُهَا، ولَكِن يَّنَالُهُ التَّقوى مِنكُم ﴾.
في هذه الحصة من سورة البقرة، يتولى الحق سبحانه وتعالى تنظيم حياة المسلمين أفرادا وجماعات، ويصدر إليهم أحكاما خالدة قاطعة في عدة شؤون من العبادات والمعاملات.
ففيها آيات عن الصيام وعن الاعتكاف من جهة، وفيها آيات عن طريقة كسب المال وعن وجوه إنفاقه وصاحبه لا يزال على قيد الحياة، وعن الوصية به لمن ينتفع به بعد الموت، وعن القصاص وحكمته، وعن رشوة الحكام لصالح المحكومين.
ثم تفضل الحق سبحانه وتعالى فأشعر المؤمنين برفقه ولطفه، إذ جعل فريضة الصيام ﴿ أَيَّاماً مَّعدُودَاتِ ﴾. فلم يفرض عليهم صوم الدهر، وإنما طالبهم بالصيام مدة شهر، هو أحق الشهور بالذكر والشكر ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾. ﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾. - ﴿ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ١٨٥ ) ﴾.
وتخفيفا عن المسلمين ورحمة بهم، اكتفى منهم بصيام النهار دون وصال بالليل، فقال تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾. - ﴿ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ﴾.
وفي نفس السياق تناولت الآية الكريمة بالذكر عبادة أخرى لها شبه قريب بالصيام، ألا وهي عبادة الاعتكاف، حيث يعتزل المؤمن الحياة اليومية العادية، وينفرد عن أهله في ركن من أركان المسجد، مكرسا وقته للعبادة والتبتل دون بقية الشؤون، وهذه العبادة يمكن القيام بها في رمضان وغيره، ولمدة قصيرة أو طويلة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعلها في رمضان، ولا يتجاوز اعتكافه عشرة أيام، والشرط المجمع عليه في هذه العبادة هو الامتناع أثناء مدة الاعتكاف عن المباشرة بتاتا، ليلا ونهارا، لقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ( ١٨٧ ) ﴾. واتفق الإمامان مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما على اشتراط الصوم في الاعتكاف، استنادا إلى قوله صلى الله عليه وسلم :( اعتكف وصم ).
ومن أدب فقهاء الإسلام مع كتاب الله، أنهم اصطلحوا في مصنفاتهم على عقد باب خاص بالاعتكاف ووضعه في الترتيب بعد الانتهاء من الباب الخاص بالصيام، تأسيا بهذه الآيات الكريمة التي ذكرت الاعتكاف في أعقاب الآيات المتعلقة بالصيام.
وإمعانا في الرفق والرحمة بعباده، لم يجعل الحق سبحانه وتعالى أي حرج على المريض والمسافر في الإفطار خلال أيام المرض وأثناء السفر، بدلا من الإمساك، على أن يقضي المفطر بقدر عدد الأيام التي أفطر فيها أياما أخر، تعويضا عما أفطر، وإنما يباح الفطر للمسافر إذا لم ينو إقامة أربعة أيام فأكثر بالمكان الذي انتقل إليه، فإذا نوى الإقامة به أربعة أيام فأكثر لزمه الصيام منذ وصوله، ولم يجز له الفطر، وقد اعتبر علماء الإسلام في حكم المريض المرأة الحامل والمرأة المرضع إذا خافتا على نفسهما من الصيام، أو خافت الأولى على حملها والثانية على رضيعها، وفي هذا السياق قال تعالى :﴿ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾.
أما الذين فقدوا القدرة على الصيام كالشيخ الهرم الذي بلغ من الكبر عتيا، والمرأة الكبيرة التي عجزت عن الإمساك، فقد رخص الإسلام لهما ولمن ماثلهما بالإفطار، على أن يقوموا بإطعام مسكين واحد، فدية عن كل يوم، ولا قضاء عليهم بالمرة، وذلك تفسير قوله تعالى :﴿ وَعَلَى الذِينَ يُطِيقُونَهُ-أي يتجشمونه ويتكلفونه على مشقة- فِديَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ ﴾. على ما قاله ابن مسعود وغيره.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٨٤:في هذه الحصة من سورة البقرة، يتولى الحق سبحانه وتعالى تنظيم حياة المسلمين أفرادا وجماعات، ويصدر إليهم أحكاما خالدة قاطعة في عدة شؤون من العبادات والمعاملات.
ففيها آيات عن الصيام وعن الاعتكاف من جهة، وفيها آيات عن طريقة كسب المال وعن وجوه إنفاقه وصاحبه لا يزال على قيد الحياة، وعن الوصية به لمن ينتفع به بعد الموت، وعن القصاص وحكمته، وعن رشوة الحكام لصالح المحكومين.
ثم تفضل الحق سبحانه وتعالى فأشعر المؤمنين برفقه ولطفه، إذ جعل فريضة الصيام ﴿ أَيَّاماً مَّعدُودَاتِ ﴾. فلم يفرض عليهم صوم الدهر، وإنما طالبهم بالصيام مدة شهر، هو أحق الشهور بالذكر والشكر ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾. ﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾. - ﴿ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ١٨٥ ) ﴾.
وتخفيفا عن المسلمين ورحمة بهم، اكتفى منهم بصيام النهار دون وصال بالليل، فقال تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾. - ﴿ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ﴾.
وفي نفس السياق تناولت الآية الكريمة بالذكر عبادة أخرى لها شبه قريب بالصيام، ألا وهي عبادة الاعتكاف، حيث يعتزل المؤمن الحياة اليومية العادية، وينفرد عن أهله في ركن من أركان المسجد، مكرسا وقته للعبادة والتبتل دون بقية الشؤون، وهذه العبادة يمكن القيام بها في رمضان وغيره، ولمدة قصيرة أو طويلة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعلها في رمضان، ولا يتجاوز اعتكافه عشرة أيام، والشرط المجمع عليه في هذه العبادة هو الامتناع أثناء مدة الاعتكاف عن المباشرة بتاتا، ليلا ونهارا، لقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ( ١٨٧ ) ﴾. واتفق الإمامان مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما على اشتراط الصوم في الاعتكاف، استنادا إلى قوله صلى الله عليه وسلم :( اعتكف وصم ).
ومن أدب فقهاء الإسلام مع كتاب الله، أنهم اصطلحوا في مصنفاتهم على عقد باب خاص بالاعتكاف ووضعه في الترتيب بعد الانتهاء من الباب الخاص بالصيام، تأسيا بهذه الآيات الكريمة التي ذكرت الاعتكاف في أعقاب الآيات المتعلقة بالصيام.
وإمعانا في الرفق والرحمة بعباده، لم يجعل الحق سبحانه وتعالى أي حرج على المريض والمسافر في الإفطار خلال أيام المرض وأثناء السفر، بدلا من الإمساك، على أن يقضي المفطر بقدر عدد الأيام التي أفطر فيها أياما أخر، تعويضا عما أفطر، وإنما يباح الفطر للمسافر إذا لم ينو إقامة أربعة أيام فأكثر بالمكان الذي انتقل إليه، فإذا نوى الإقامة به أربعة أيام فأكثر لزمه الصيام منذ وصوله، ولم يجز له الفطر، وقد اعتبر علماء الإسلام في حكم المريض المرأة الحامل والمرأة المرضع إذا خافتا على نفسهما من الصيام، أو خافت الأولى على حملها والثانية على رضيعها، وفي هذا السياق قال تعالى :﴿ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾.
أما الذين فقدوا القدرة على الصيام كالشيخ الهرم الذي بلغ من الكبر عتيا، والمرأة الكبيرة التي عجزت عن الإمساك، فقد رخص الإسلام لهما ولمن ماثلهما بالإفطار، على أن يقوموا بإطعام مسكين واحد، فدية عن كل يوم، ولا قضاء عليهم بالمرة، وذلك تفسير قوله تعالى :﴿ وَعَلَى الذِينَ يُطِيقُونَهُ-أي يتجشمونه ويتكلفونه على مشقة- فِديَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ ﴾. على ما قاله ابن مسعود وغيره.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٨٤:في هذه الحصة من سورة البقرة، يتولى الحق سبحانه وتعالى تنظيم حياة المسلمين أفرادا وجماعات، ويصدر إليهم أحكاما خالدة قاطعة في عدة شؤون من العبادات والمعاملات.
ففيها آيات عن الصيام وعن الاعتكاف من جهة، وفيها آيات عن طريقة كسب المال وعن وجوه إنفاقه وصاحبه لا يزال على قيد الحياة، وعن الوصية به لمن ينتفع به بعد الموت، وعن القصاص وحكمته، وعن رشوة الحكام لصالح المحكومين.
ثم تفضل الحق سبحانه وتعالى فأشعر المؤمنين برفقه ولطفه، إذ جعل فريضة الصيام ﴿ أَيَّاماً مَّعدُودَاتِ ﴾. فلم يفرض عليهم صوم الدهر، وإنما طالبهم بالصيام مدة شهر، هو أحق الشهور بالذكر والشكر ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾. ﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾. - ﴿ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ١٨٥ ) ﴾.
وتخفيفا عن المسلمين ورحمة بهم، اكتفى منهم بصيام النهار دون وصال بالليل، فقال تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾. - ﴿ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ﴾.
وفي نفس السياق تناولت الآية الكريمة بالذكر عبادة أخرى لها شبه قريب بالصيام، ألا وهي عبادة الاعتكاف، حيث يعتزل المؤمن الحياة اليومية العادية، وينفرد عن أهله في ركن من أركان المسجد، مكرسا وقته للعبادة والتبتل دون بقية الشؤون، وهذه العبادة يمكن القيام بها في رمضان وغيره، ولمدة قصيرة أو طويلة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعلها في رمضان، ولا يتجاوز اعتكافه عشرة أيام، والشرط المجمع عليه في هذه العبادة هو الامتناع أثناء مدة الاعتكاف عن المباشرة بتاتا، ليلا ونهارا، لقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ( ١٨٧ ) ﴾. واتفق الإمامان مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما على اشتراط الصوم في الاعتكاف، استنادا إلى قوله صلى الله عليه وسلم :( اعتكف وصم ).
ومن أدب فقهاء الإسلام مع كتاب الله، أنهم اصطلحوا في مصنفاتهم على عقد باب خاص بالاعتكاف ووضعه في الترتيب بعد الانتهاء من الباب الخاص بالصيام، تأسيا بهذه الآيات الكريمة التي ذكرت الاعتكاف في أعقاب الآيات المتعلقة بالصيام.
وإمعانا في الرفق والرحمة بعباده، لم يجعل الحق سبحانه وتعالى أي حرج على المريض والمسافر في الإفطار خلال أيام المرض وأثناء السفر، بدلا من الإمساك، على أن يقضي المفطر بقدر عدد الأيام التي أفطر فيها أياما أخر، تعويضا عما أفطر، وإنما يباح الفطر للمسافر إذا لم ينو إقامة أربعة أيام فأكثر بالمكان الذي انتقل إليه، فإذا نوى الإقامة به أربعة أيام فأكثر لزمه الصيام منذ وصوله، ولم يجز له الفطر، وقد اعتبر علماء الإسلام في حكم المريض المرأة الحامل والمرأة المرضع إذا خافتا على نفسهما من الصيام، أو خافت الأولى على حملها والثانية على رضيعها، وفي هذا السياق قال تعالى :﴿ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾.
أما الذين فقدوا القدرة على الصيام كالشيخ الهرم الذي بلغ من الكبر عتيا، والمرأة الكبيرة التي عجزت عن الإمساك، فقد رخص الإسلام لهما ولمن ماثلهما بالإفطار، على أن يقوموا بإطعام مسكين واحد، فدية عن كل يوم، ولا قضاء عليهم بالمرة، وذلك تفسير قوله تعالى :﴿ وَعَلَى الذِينَ يُطِيقُونَهُ-أي يتجشمونه ويتكلفونه على مشقة- فِديَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ ﴾. على ما قاله ابن مسعود وغيره.

في هذه الحصة من سورة البقرة، يتولى الحق سبحانه وتعالى تنظيم حياة المسلمين أفرادا وجماعات، ويصدر إليهم أحكاما خالدة قاطعة في عدة شؤون من العبادات والمعاملات.
ففيها آيات عن الصيام وعن الاعتكاف من جهة، وفيها آيات عن طريقة كسب المال وعن وجوه إنفاقه وصاحبه لا يزال على قيد الحياة، وعن الوصية به لمن ينتفع به بعد الموت، وعن القصاص وحكمته، وعن رشوة الحكام لصالح المحكومين.
أما طريقة كسب المال الحلال، فتنحصر في كسبه بالحق لا بالباطل، أي عن طريق الكسب المشروع الذي ارتضاه الشارع وأقرته حكمة التشريع، مقابل منفعة محققة يجنيها كلا الطرفين، على أن يتم ذلك عن طيب نفس، لا عن إكراه أو اضطرار أو إحراج، وكل كسب لم تتوفر فيه هذه الشروط وما ناسبها فهو كسب حرام، وذلك قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ﴾ أي لا يأكل بعضكم مال بعض دون سبب مشروع، والتعبير هنا بكلمة ( أموالكم ) جاء على غرار التعبير الوارد في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقتُلُوا أَنفُسَكُم ﴾ وقوله تعالى في سورة النور :﴿ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُم ﴾ بمعنى : لا يقتل بعضكم بعضا، وليسلم بعضكم على بعض.
وهذا التعبير القرآني إنما جاء متشابها في هذه الآيات الكريمة كلها حكمة ومغزى، وكأنه يلفت نظر المسلمين إلى ما يجب أن يكونوا عليه من الامتزاج والاندماج فيما بينهم، حتى يكونوا أسرة واحدة، بل ذاتا واحدة.
فمن أكل مال أخيه المسلم بالباطل فقد أكل مال نفسه في حقيقة الأمر، ومن اعتدى على أخيه المسلم بالقتل فقد اعتدى على نفسه قبل الغير، كما أن من سلم على أخيه المسلم فقد سلم في الحقيقة على نفسه، لأن المجتمع الإسلامي لا يكون ( إسلاميا ) إلا إذا كان مجتمعا قائما على التضامن والتكافل والتعاون والتآخي التام، بحيث لا يسيء أي فرد من أفراده إلى الباقين.
أما إذا أساء المسلم إلى إخوانه، واعتدى على حقوقهم، وألحق الأذى بمصالحهم، فإنه يفتح الباب على مصراعيه-بحكم التقليد والعدوى وغريزة الانتقام-ليسيئوا بدورهم إليه، وليعتدوا على حقوقه، وليلحقوا أكبر الأذى بمصالحه، جزءا وفاقا، وهكذا يصدق عليه المثل العربي الشهير : " على نفسها جنت براقش ".
وختمت آيات هذا الربع من القرآن الكريم باستنكار الرشوة والنهي عنها، والتحذير من أكل أموال الناس عن طريقها، والتنبيه إلى الإثم البالغ الذي يقع فيه الراشي والمرتشي من المحكومين والحكام، وذلك قوله تعالى :﴿ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ( ١٨٨ ) ﴾. عطفا على قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ﴾.
وهكذا وقفت توجيهات القرآن الكريم، وتعاليمه السامية، تؤيد الحق ضد الباطل، وتنصر العدل ضد الظلم، وتضع حدا للأنانية والطمع في جميع المجالات، ولاسيما مجال العلاقات الاجتماعية وما تقوم عليه من المعاملات.
والموضوع الرئيسي في هذا الربع من سورة البقرة يكاد ينحصر في إعادة تنظيم فريضة الحج، وإرجاعها إلى أصلها الأصيل، حسبما كانت عليه في ملة إبراهيم الخليل، بغية تخليصها من جميع شوائب الشرك، وتطهيرها تطهيرا تاما من تقاليد الجاهلية ونزغاتها وشعاراتها ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾. - ﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أَفَضتُم مِّن عَرَفَاتٍ فاذكُرُوا اللهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَراَمِ، واذكُرُوهُ كَماَ هَداكُم وَإن كُنتُم مَّن قَبلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَاستَغفِرُوا اللهَ، إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيتُم مَّنَاسِكَكُم فاذكُرُوا اللهَ كَذِكرِكُمُ آبَاءَكُمُ أَوَ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾.
ولا بد لنا من أن نقف وقفة خاصة عند قوله تعالى في هذا الربع ﴿ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلقُوا بِأَيديكُمُ إِلَى التَّهلُكَةِ وَأَحسِنُوا، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ( ١٩٥ ) ﴾.
روى الإمام البخاري في الصحيح بسنده عن حذيفة قال : نزلت هذه الآية في النفقة ( أي في الحض عليها، وعدم قبض اليد عنها ).
وروى النسائي وأبو داود والترمذي عن أسلم مولى عمران التجيبي قال : حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري فقال ناس : ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب : إنكم لتتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه يرد علينا ما قلنا ﴿ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلقُوا بِأَيديكُمُ إِلَى التَّهلُكَةِ ﴾.
وكانت التهلكة هي الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دهن بأرض الروم. قال الترمذي :" هذا الحديث حسن صحيح غريب. وقال الحاكم : هذا الحديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وإذن، فالهلاك الذي هو معنى التهلكة إنما يكون في الواقع إذا اقتصر المسلمون على خدمة مصالحهم المادية، وانهمكوا في ترضية شهواتهم الشخصية، وتركوا حماهم مستباحا دون قوة و لا قدرة على الدفاع عن أنفسهم، فيستولي عليهم العدو دون تعب كبير.
كما أن هلاك المسلمين يكون نتيجة للشح والبخل، على عكس ما يتوقعه بعض ضعفاء الإيمان، من أن الإنفاق والبذل في سبيل الله هما اللذان يؤديان إلى الضياع والخسران، إذ إنه عندما تنقبض الأيدي عن البذل في وجوه البر والخير ينقلب المجتمع إلى مجتمع بائس عاجز ضعيف منقسم على نفسه، بل ينقلب إلى مجتمع مشلول الحركة عديم النفع من جميع الوجوه ﴿ وَأَحسِنُوا، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ( ١٩٥ ) ﴾.
والموضوع الرئيسي في هذا الربع من سورة البقرة يكاد ينحصر في إعادة تنظيم فريضة الحج، وإرجاعها إلى أصلها الأصيل، حسبما كانت عليه في ملة إبراهيم الخليل، بغية تخليصها من جميع شوائب الشرك، وتطهيرها تطهيرا تاما من تقاليد الجاهلية ونزغاتها وشعاراتها ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾. - ﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أَفَضتُم مِّن عَرَفَاتٍ فاذكُرُوا اللهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَراَمِ، واذكُرُوهُ كَماَ هَداكُم وَإن كُنتُم مَّن قَبلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَاستَغفِرُوا اللهَ، إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيتُم مَّنَاسِكَكُم فاذكُرُوا اللهَ كَذِكرِكُمُ آبَاءَكُمُ أَوَ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾.
الربع الأخير من الحزب الثالث
في المصحف الكريم
وفي آيات هذا الربع من القرآن الكريم يتجلى رفق الإسلام، وما انبنى عليه من السماحة واليسر، حيث يسمح لمن أصابه مرض أو لحقه أذى، أثناء حجه، بارتكاب ما كان ممنوعا عليه في حالة الصحة وعدم الأذى، والفدية عنه مقابل الرخصة التي رخص له بها الحق سبحانه وتعالى تيسيرا وتخفيفا، وتعرف هذه الفدية بفدية الأذى ﴿ فمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾.
والموضوع الرئيسي في هذا الربع من سورة البقرة يكاد ينحصر في إعادة تنظيم فريضة الحج، وإرجاعها إلى أصلها الأصيل، حسبما كانت عليه في ملة إبراهيم الخليل، بغية تخليصها من جميع شوائب الشرك، وتطهيرها تطهيرا تاما من تقاليد الجاهلية ونزغاتها وشعاراتها ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾. - ﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أَفَضتُم مِّن عَرَفَاتٍ فاذكُرُوا اللهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَراَمِ، واذكُرُوهُ كَماَ هَداكُم وَإن كُنتُم مَّن قَبلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَاستَغفِرُوا اللهَ، إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيتُم مَّنَاسِكَكُم فاذكُرُوا اللهَ كَذِكرِكُمُ آبَاءَكُمُ أَوَ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾.
وما دام الحديث في معرض الحج الذي هو أحسن فرصة يتزود فيها المؤمنون من دعاء الخير ﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾. فقد أرشد الحق سبحانه وتعالى عباده إلى أحسن طريقة لسؤاله ودعائه أثناء قيامهم بعبادة الحج التي هي مظنة الإجابة.
والموضوع الرئيسي في هذا الربع من سورة البقرة يكاد ينحصر في إعادة تنظيم فريضة الحج، وإرجاعها إلى أصلها الأصيل، حسبما كانت عليه في ملة إبراهيم الخليل، بغية تخليصها من جميع شوائب الشرك، وتطهيرها تطهيرا تاما من تقاليد الجاهلية ونزغاتها وشعاراتها ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾. - ﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أَفَضتُم مِّن عَرَفَاتٍ فاذكُرُوا اللهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَراَمِ، واذكُرُوهُ كَماَ هَداكُم وَإن كُنتُم مَّن قَبلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَاستَغفِرُوا اللهَ، إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيتُم مَّنَاسِكَكُم فاذكُرُوا اللهَ كَذِكرِكُمُ آبَاءَكُمُ أَوَ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾.
وفي نفس هذا الاتجاه وعلى أساس القاعدة الإسلامية، قاعدة اليسر ورفع الحرج التي تميز بها الإسلام، نزل قوله تعالى :﴿ لَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ أَن تَبتَغُوا فَضلاً مِّن رَّبِّكُم ﴾. فقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثموا في الإسلام أن يتجروا فيها ( أي خافوا أن ينالهم إثم بالتجارة فيها ) فنزلت الآية :﴿ لَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ أَن تَبتَغُوا فَضلاً مِّن رَّبِّكُم ﴾. يعني موسم الحج.
قال القاضي أبو بكر ( ابن العربي ) المعافري في كتابه أحكام القرآن : " في هذا دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا، ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه " إلى آخر كلامه.
ومما ينسجم مع هذه الآية ويؤكد معناها قوله تعالى في سورة الحج ﴿ وأذِّن فِي النَّاسِ بالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقِ، لِّيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم وَيَذكُرُوا اسمَ اللهِ فِي أيَّامٍ مَّعلُومَاتٍ ﴾.
والموضوع الرئيسي في هذا الربع من سورة البقرة يكاد ينحصر في إعادة تنظيم فريضة الحج، وإرجاعها إلى أصلها الأصيل، حسبما كانت عليه في ملة إبراهيم الخليل، بغية تخليصها من جميع شوائب الشرك، وتطهيرها تطهيرا تاما من تقاليد الجاهلية ونزغاتها وشعاراتها ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾. - ﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أَفَضتُم مِّن عَرَفَاتٍ فاذكُرُوا اللهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَراَمِ، واذكُرُوهُ كَماَ هَداكُم وَإن كُنتُم مَّن قَبلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَاستَغفِرُوا اللهَ، إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيتُم مَّنَاسِكَكُم فاذكُرُوا اللهَ كَذِكرِكُمُ آبَاءَكُمُ أَوَ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾.
كما نبه إلى الطريقة التي ينبغي تجنبها في الدعاء، وبدأ في الذكر بالتنبيه على ما ينبغي تجنبه فقال عز من قائل :﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ( ٢٠٠ ) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، ( ٢٠١ ) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ( ٢٠٢ ) ﴾.
وهذه الآية تتضمن أمرين :
١ ) الأمر الأول : استنكار موقف الذين يقصرون دعائهم في مواطن الخير على ما يهم من الشؤون المادية الصرفة، وإنذارهم بأن لا يكون لهم في الآخرة حظ ولا نصيب، ماداموا قد نسوا الدار الآخرة، وهذا يقتضي بطبيعة الحال ذمهم والتنفير من التشبه بهم، قال ابن عباس رضي الله عنه : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون : اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن، فأنزل الله فيهم ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ( ٢٠٠ ) ﴾.
٢ ) الأمر الثاني : تحبيذ موقف الذين لا ينسون آخرتهم بدنياهم ولا دنياهم بآخرتهم، بل يجمعون في دعائهم بين خير الدنيا وخير الآخرة، اهتماما منهم بالاثنين، وجمعا بين الحسنيين، طبقا لأمر الله، وتحقيقا لمراده، على حد قوله تعالى في آية أخرى :﴿ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيَا ﴾. وهؤلاء هم الذين تعهد لهم الحق سبحانه وتعالى بالإجابة، قال ابن عباس : وكان يجيء آخرون من المؤمنين فيقولون : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فأنزل الله :﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ( ٢٠٢ ) ﴾، فمدح من يسأله الدنيا والآخرة. قال ابن كثير : " فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هين، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا، وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما أمر النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام ".
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستعمل في دعائه هذه الصيغة الثانية التي أثنى عليها القرآن الكريم. روى الإمام البخاري في كتاب التفسير من صحيحه بسنده إلى أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ".
الربع الأول من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
تشير أول آية في هذا الربع إلى ما شرعه الله للمسلمين من التكبير جهرا عند انقضاء كل صلاة خلال أيام التشريق، ويبتدئ هذا التكبير على ما قاله ابن عمر وابن عباس ومالك والشافعي من صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهذا التكبير كما يطالب به المسلم الحاج الذي توجه إليه الخطاب في الأصل، يطالب به أيضا بقية المسلمين الذين لم يحضروا موسم الحج، وذلك تذكيرا لهم جميعا بشعائر الحج الخالدة، وبأنهم-حاضرين وغائبين- أمة واحدة. على ذلك أجمع فقهاء الأمصار والمشاهير من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، وذلك معنى قوله تعالى هنا :﴿ وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ﴾.
قال مالك في الموطأ : " الأمر عندنا أن التكبير في أيام التشريق دبر الصلوات، وأول ذلك تكبير الإمام والناس معه دبر صلاة الظهر من يوم النحر، وآخر ذلك تكبير الإمام والناس معه دبر صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، ثم يقطع التكبير ".
قال مالك : " والتكبير في أيام التشريق على الرجال والنساء، من كان في جماعة أو وحده، بمنى أو بالآفاق كلها، واجب، وقال : " الأيام المعدودات أيام التشريق ".
ثم تولى القرآن الكريم مرة أخرى في هذا الربع، ومن زاوية جديدة، بيان الوصف الواضح الكاشف، وتقديم التعريف الجامع المانع الذي يعرف المؤمنين بطائفة المنافقين، وذلك زيادة على ما سبق في وصفهم أول سورة البقرة، فبين أن طائفة المنافقين تحاول دائما سلب العقول وبلبلة الأفكار عن طريق السفسطة والتضليل، وتواجه البسطاء بما يعجبهم ويغريهم، حتى يقعوا في شبكتها من أيسر طريق، ولا تتورع أن تحلف الأيمان المغلظة، تأكيدا لصدقها المزعوم، وإثباتا لحسن نيتها المزيفة، إذ أنها تحس من أعماقها بما هي عليه من تزييف يهددها بالفضيحة في كل حين، حتى إذا ما واتاها الحظ وأدركت القصد، انكشفت عورتها، وظهرت حقيقتها، وتبين للناس أنها عامل من عوامل الإفساد، لا من عوامل الإصلاح، وأنها سبب من أسباب الهلاك والخسران، لا من أسباب الفلاح والعمران، وذلك قوله تعالى في شأنها :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، ( ٢٠٤ ) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ( ٢٠٥ ) ﴾.
وقوله تعالى :﴿ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا ﴾. بعد قوله تعالى :﴿ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُه ﴾. فيه تلميح إلى أن طائفة المنافقين تختار دائما أن تضرب على الوتر الحساس، الذي يهم أكبر عدد من الناس، وهو وتر المصالح المادية القريبة، والمنافع الشخصية العاجلة، فعن ذلك الطريق السهل تحاول الوصول إلى أهدافها الملتوية، وأغراضها المنحرفة.
وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾. فيه وصف دقيق لكل فرد من أفراد هذه الطائفة، وهو صورة ناطقة بما عليه المنافقون جميعا من قدرة خاصة على الجدل الفارغ، واستعداد خاص للمناقشات البيزنطية العقيمة، وطول نفس في الأخذ والرد، فهم ثرثارون متفيهقون دائما، وعليهم وعلى أمثالهم يصدق قوله تعالى في سورة الأنعام :﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَائِهِم لِيُجَادِلُوكُم، وَإِنَ أَطَعتُمُوهُمُ إِنَّكُم لَمُشرِكُونَ ﴾. وقوله تعالى في نفس السورة :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبِئٍ عّدُوّاً شَيَاطِينَ الإنسَ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُمُ إِلَى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرُوراً ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٠٤:ثم تولى القرآن الكريم مرة أخرى في هذا الربع، ومن زاوية جديدة، بيان الوصف الواضح الكاشف، وتقديم التعريف الجامع المانع الذي يعرف المؤمنين بطائفة المنافقين، وذلك زيادة على ما سبق في وصفهم أول سورة البقرة، فبين أن طائفة المنافقين تحاول دائما سلب العقول وبلبلة الأفكار عن طريق السفسطة والتضليل، وتواجه البسطاء بما يعجبهم ويغريهم، حتى يقعوا في شبكتها من أيسر طريق، ولا تتورع أن تحلف الأيمان المغلظة، تأكيدا لصدقها المزعوم، وإثباتا لحسن نيتها المزيفة، إذ أنها تحس من أعماقها بما هي عليه من تزييف يهددها بالفضيحة في كل حين، حتى إذا ما واتاها الحظ وأدركت القصد، انكشفت عورتها، وظهرت حقيقتها، وتبين للناس أنها عامل من عوامل الإفساد، لا من عوامل الإصلاح، وأنها سبب من أسباب الهلاك والخسران، لا من أسباب الفلاح والعمران، وذلك قوله تعالى في شأنها :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، ( ٢٠٤ ) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ( ٢٠٥ ) ﴾.
وقوله تعالى :﴿ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا ﴾. بعد قوله تعالى :﴿ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُه ﴾. فيه تلميح إلى أن طائفة المنافقين تختار دائما أن تضرب على الوتر الحساس، الذي يهم أكبر عدد من الناس، وهو وتر المصالح المادية القريبة، والمنافع الشخصية العاجلة، فعن ذلك الطريق السهل تحاول الوصول إلى أهدافها الملتوية، وأغراضها المنحرفة.
وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾. فيه وصف دقيق لكل فرد من أفراد هذه الطائفة، وهو صورة ناطقة بما عليه المنافقون جميعا من قدرة خاصة على الجدل الفارغ، واستعداد خاص للمناقشات البيزنطية العقيمة، وطول نفس في الأخذ والرد، فهم ثرثارون متفيهقون دائما، وعليهم وعلى أمثالهم يصدق قوله تعالى في سورة الأنعام :﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَائِهِم لِيُجَادِلُوكُم، وَإِنَ أَطَعتُمُوهُمُ إِنَّكُم لَمُشرِكُونَ ﴾. وقوله تعالى في نفس السورة :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبِئٍ عّدُوّاً شَيَاطِينَ الإنسَ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُمُ إِلَى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرُوراً ﴾.

ثم تزيد الآية الكريمة توضيحا لحقيقة المنافقين وكشفا عن مواقفهم المتناقضة، فتنبه إلى أن المنافق بعد أن يستولي على العقول البسيطة، ويتمكن من الأمر والنهي في أصحابها طبقا لشهواتهم، يبلغ به الكبر، والإعجاب بالنفس، والاستبداد بالرأي، إلى درجة أن يعتقد أنه غني عن كل نصيحة، وغير محتاج إلى أي إرشاد، فمن اتجه إليه مرشدا إياه ولو باسم الله، وإلى تقوى الله، اعتبره مسيئا إليه، أو متمردا عليه، وذلك ما يفهم من قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أّخَذَتهُ العِزَّةُ بالإِثمِ ﴾. أي أنه يصبح ناسيا ما كان يتظاهر به قبل ذلك، حيث كان أمام الناس ﴿ يُشهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلبِهِ ﴾. فتبين أخيرا أن قوله مجرد زور وبهتان، لا عن عقيدة وإيمان، ثم عقبت الآية على ذلك بما ينتظر المنافقين من عذاب شديد، إذ قالت ﴿ فَحَسبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِيسَ المهَادُ( ٢٠٦ ) ﴾.
وعلى عكس طائفة المنافقين التي وصفتها هذه الآيات أدق وصف، تحذيرا من ألاعيبها وتنبيها إلى مناوراتها، وتعريفا بمظاهرها البراقة الخلابة حتى لا يقع المسلمون في أشراكها، تولت آيات أخرى وصف المؤمنين الصادقين أحسن وصف وأصدقه تعريفا بهم، وتنبيها إليهم، حتى يلتف المسلمون حولهم كل الالتفاف، فقال تعالى ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاة اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ( ٢٠٧ ) ﴾. وهذا يقضي أن هناك طائفة من الناس تكرس حياتها، وتخصص جهودها، وتبيع نفسها في سبيل الله، ابتغاء مرضاة الله، لا ابتغاء مرضاة الناس، فهي لا تبخل بوقت ولا بجهد في سبيل الصالح العام والخير المشترك، والتعاون على البر والتقوى، وفي سبيل ذلك تتنازل عن شهواتها، وتتخلى عن أهوائها، وتتجرد من أنانيتها، حتى تتقمص فيها روح الجماعة وخيرها، ولا تتحرك إلا بها ولها، امتثالا لأمر الله، وابتغاء مرضاة الله، ولا شك أن وجود هذه الطائفة من الناس في المجتمعات والأمم نعمة كبرى من أكبر النعم التي ينعم الله بها عليها، إذ بواسطتها يتحقق كثير من الإصلاح، وعلى يدها يزول كثير من الفساد، وبفضل توجيهها والمثل الصالح الذي تضربه لبقية الناس يتم كثير من التقدم والازدهار، وتنتشر بينهم ظاهرة التضحية والإيثار، فهي رحمة من الله عميقة الأثر في الأفراد والجماعات، وقوله تعالى في هذا السياق :﴿ واللهُ رَؤُوفٌ بالعِبَادِ ﴾. إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى يهيئ لعباده من بينهم من يأخذ بيدهم، ويمهد لهم سبل الصلاح والفلاح، على غرار قوله تعالى :﴿ لَقَد جَاءَكُم رَسُولٌ مَّنَ أَنفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّم، حَريصٌ عَلَيكُم، بالمُؤمِنينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾.
ومن المعاني السامية التي يحمل عليها قوله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّشرِي نَفسَهُ ابتِغَاءَ مَرضَاة اللهِ ﴾. الرجل القوي من المسلمين الذي يجاهد في سبيل الله، إذا أراد أن يحمل أثناء جهاده على جيش كبير من العدو، وكان ذلك منه بنية خالصة، طلبا للشهادة، فهذا العمل جائز عند المدققين من علماء الشريعة، وتنطبق عليه هذه الآية تمام الانطباق.
قال أبو بكر ( ابن العربي ) المعافري : " والصحيح عندي جوازه، لأن فيه أربعة أوجه، الأول طلب الشهادة، الثاني وجود النكاية، أي النكاية في العدو، الثالث تجرئة المسلمين عليهم، الرابع إضعاف نفوس الأعداء، ليروا أن هذا صنع واحد، فما ظنك بالجميع ( أي إلقاء الرعب في قلوبهم ).
وبهذه الآية استشهد أبو هريرة عندما حمل هشام بن عامر على الصف حتى شقه، فقال أبو هريرة : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ".
وإليها استند عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أرسل جيشا فحاصروا حصنا، فتقدم رجل عليه فقاتل فقتل، فقال الناس :( ألقى بيده للتهلكة )، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال " كذبوا " أو ليس الله تعالى يقول :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّشرِي نَفسَهُ ابتِغَاءَ مَرضَاة اللهِ ﴾.
وتعريفا بالمنزلة الرفيعة عند الله التي ينالها المؤمنون المجاهدون في سبيله، قال تعالى في ختام هذا الربع ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَة اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ٢١٨ ) ﴾.
الربع الثاني من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
في هذا الربع من سورة البقرة، يتناول القرآن الكريم عدة موضوعات في غاية الأهمية، بالنسبة للأسرة المسلمة والمجتمع الإسلامي، فمن أحكام تتعلق بالحياة الزوجية العادية، وما قد ينشأ في طريقها من العوائق الطبيعية أو العارضة، كما تتعلق بكفالة اليتامى وحضانتهم، ومن أحكام تتعلق بحلف الأيمان المقصود منها وغير المقصود، ومن أحكام تتعلق بخطبة النساء، وأخرى تتعلق بأمر الزواج بين المسلم وغير المسلمة، وبين المسلمة وغير المسلم، ومن أحكام تتعلق بالخمر والميسر، وحرص الإسلام على تطهير المجتمع الإسلامي منهما ومن آثامهما وآثارهما.
وواضح أن ضيق الوقت المخصص لحصتنا اليومية لا يتسع لإلقاء نظرة على هذه الموضوعات جميعا، فسنقتصر على بعضها دون البعض، على أن نتدارك الباقي في أول مناسبة قادمة.
وأول آية تواجهنا في هذا الربع من سورة البقرة قوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وإثمهما أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾. فقد أحس المسلمون بفطرتهم السليمة، التي أزال الإسلام عنها غشاوة الجاهلية أن الخمر والميسر لم يعد لهما مكان ولا معنى في المجتمع الإسلامي الناشئ وأنهما قد فقدا كل مبرر كان يبررهما من تقاليد الجاهلية، الفاسدة، ونخوتها الكاذبة، وفوضاها الاجتماعية، وروحها الإباحية، فالإسلام كما يحس ويشعر به كل مسلم يتلقى كلام الله من فم رسول الله غضا طريا بمجرد ما يوحى إليه، ليس دين لهو، ولا ملة عبث، ولا شريعة فوضى وإباحية، والمسلمون الذين يعدهم الحق سبحانه وتعالى لحمل الأمانة إلى كافة البشر أخذوا يدركون من تلقاء أنفسهم أنه لا يناسب مقامهم، ولا ينسجم مع رسالتهم-وهم شهداء على الناس جميعا- أن يكونوا سكارى معربدين، ولا مقامرين مغامرين، ولذلك وجه المسلمون السؤال إلى رسول الله عن الخمر والميسر، اقتناعا مسبقا منهم بأن طبيعة الإسلام ورسالة الإسلام لا تتفقان معهما في شيء، وكان الجواب هو ما تقتضيه حكمة التربية الإلهية التدريجية التي درج عليها الإسلام، بتوجيه من الله، في تربية المسلمين، وتنظيم حياتهم اليومية مرحلة بعد مرحلة :﴿ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾. فلم ينكر الجواب أن يكون لفريق من الناس منفعة خاصة في تجارة الخمر وترويجها، وفي مغامرة القمار وتنظيمه، إذ الواقع في حياة الناس يؤكد هذا المعنى، وإن كان معنى أنانيا ماديا صرفا لا أساس له من الدين ولا من الأخلاق.
غير أن كتاب الله طبع على الخمر والميسر بطابع ( الإثم ) الذي يتحاشاه كل مسلم ولا يرضاه، وبطابع ( الإثم الكبير ) الذي هو أخطر وأفحش من الإثم اليسير.
وبديهي لمن عرف فطرة الإسلام وتملى من روحه أن ما غلب جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة كان حريا بالتحريم، كما أنه من البديهي أن المؤمن بالله يتحرى ما فيه الأجر والثواب لا ما فيه العقاب والتأثيم، وبذلك كان الجواب في شأن الخمر والميسر ضدهما لا في صالحهما، وإنذارا لمن لا يزال مبتلى بالإدمان عليهما، بقرب أجل تحريمهما تحريما صريحا لا رجعة فيه، وذلك عندما ينزل قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ والأنصَابُ والأزلاَمُ رِجسٌ مِّن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ ﴾.
وقد أثبتت الأيام صدق نظر الإسلام، فأجمع علماء الطب، وعلماء الاقتصاد، وعلماء الاجتماع، الجديرون بحمل هذه الصفة، على أن الخمر والميسر لهما من الآثار الفاسدة على حياة الأفراد والجماعات ما يعتبران معه من أكبر أعداء الإنسانية، ومن أعظم عوامل التخريب والتدمير للحضارة والمدنية، وقد تكونت لمحاربتهما في مختلف البلدان ومن مختلف الملل والنحل عدة هيآت دولية، ونادت بمكافحتهما منظمة الصحة العالمية نفسها، وكان الإسلام هو الرائد الأول للجميع في هذا الميدان الاجتماعي الإصلاحي الخطير كشأنه في بقية الميادين.
الربع الثاني من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
في هذا الربع من سورة البقرة، يتناول القرآن الكريم عدة موضوعات في غاية الأهمية، بالنسبة للأسرة المسلمة والمجتمع الإسلامي، فمن أحكام تتعلق بالحياة الزوجية العادية، وما قد ينشأ في طريقها من العوائق الطبيعية أو العارضة، كما تتعلق بكفالة اليتامى وحضانتهم، ومن أحكام تتعلق بحلف الأيمان المقصود منها وغير المقصود، ومن أحكام تتعلق بخطبة النساء، وأخرى تتعلق بأمر الزواج بين المسلم وغير المسلمة، وبين المسلمة وغير المسلم، ومن أحكام تتعلق بالخمر والميسر، وحرص الإسلام على تطهير المجتمع الإسلامي منهما ومن آثامهما وآثارهما.
وواضح أن ضيق الوقت المخصص لحصتنا اليومية لا يتسع لإلقاء نظرة على هذه الموضوعات جميعا، فسنقتصر على بعضها دون البعض، على أن نتدارك الباقي في أول مناسبة قادمة.
وأمامنا آية كريمة ينبغي الوقوف عندها لتوضيح معناها وتحديد مداها في موضوع زواج المسلم بغير المسلمة، وهي قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾. فهذه الآية الصريحة تنبه المسلمين إلى أن وحدة العقيدة التي ينطوي عليها قلب الزوج والزوجة أمر مطلوب ومرغوب، بل أمر ضروري لوحدة الأسرة وأمنها واستقرارها، إذ من المستحيل أن تقوم رابطة الزواج من الناحية المادية الصرفة مقام العقيدة الأساسية التي ينطوي عليها قلب الزوج والزوجة، والتي تضمن اشتراكهما الفعلي في نظرة واحدة، ومن زاوية واحدة، إلى الحياة الدنيا والحياة الأخرى معا، وفي نظرة واحدة، ومن زاوية واحدة، إلى القيم الروحية والأخلاقية التي يجب أن تسود حياة الأسرة والأولاد.
ومن أجل ذلك منع على المسلم التزوج بالمشركة، ويدخل في عداد المشركة الممنوع زواج المسلم بها الكتابية المسيحية التي تعتقد أن المسيح ابن مريم هو ابن الله، واليهودية التي تعتقد أن عزير ابن الله، وذلك طبقا لما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عمر أنه قال :( لا أعلم شركا أعظم من أن تقول : ربها عيسى ) على أساس أن كل كافر هو في الحقيقة مشرك، غير أن بقية العلماء رأوا أن الكتابية لا تدخل تحت هذه الآية :﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾. وإنما تدخل تحت ظاهر آية أخرى وهي قوله تعالى :﴿ وَالمُحصَنَاتُ مِنَ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابِ مِن قَبلِكُمُ إِذَا آتَيتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحصِنِينَ غَيرَ مُسَافِحِينَ ﴾. فيباح التزوج بها على هذا الرأي، باعتبار أن المسلم والكتابية قد يلتقيان في أصل الاعتقاد بالله، وإن كان التصور الإسلامي لعقيدة التوحيد لا يتفق بتاتا مع عقيدة التثليث، ولعل هذه الرخصة استقر العمل بها ودولة الإسلام في عنفوانها، ودعوة الإسلام تلتمس جميع الطرق لتسربها وانتشارها في العالم، فكانت حينئذ في صالح الإسلام لا في صالح غيره.
هذا وقد روى ابن جرير الطبري بسنده إلى عبد الله بن عباس أنه قال :" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، وحرم كل ذات دين غير الإسلام " قال الله عز وجل ﴿ وَمَن يَكفُر بالإيمَانِ فَقَد حَبِطَ عَمَلُهُ ﴾. وقد نكح طلحة ابن عبد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر ابن الخطاب غضبا شديدا، حتى هم أن يسطو عليهما فقالا : " نحن نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب " فقال : " لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن، ولكنني أنتزعهن منكم صغرة قمأة : أي أذلاء صاغرين.
كما روى ابن جرير عن شقيق وهو ابن سلمة الأسدي أنه قال : " تزوج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر : خل سبيلها، فكتب إليه : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها ؟ فقال : لا. لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهم "، أي تخوضوا في الزواج من الزانيات. ثم عقب ابن جرير على ذلك بقوله : " وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني " واليوم قد تبدلت أوضاع الحياة، وانتشر هذا النوع من الزواج المختلط انتشارا فاحشا، وبرزت آثاره الحتمية الفاسدة في تربية أبناء المسلمين وبناتهم في أحضان الأمهات غير المسلمات، اللاتي يسيطرن على الزوج وبيته سيطرة تامة تجعل الأسرة كلها منعزلة عن المجتمع الإسلامي كل الانعزال، ومرتبطة قبل كل شئ بالأخوال والأصهار والجدات من غير المسلمين كل الارتباط، تتجدد مخاوف علماء الإسلام في كل بلد، وتعود نظرية عمر بن الخطاب في كراهية هذا الزواج المختلط، والتنديد به إلى الظهور، ويبرز من جديد بعد نظر هذا الخليفة العبقري الذي كان مفخرة الخلفاء الراشدين، ويبدو للجميع أن موقفه بالنسبة للظروف الحاضرة أصبح أوفق وأنسب بمصالح المسلمين.
على أن مضار الزواج المختلط وعواقبه الوخيمة أصبحت مسلما بها من وجهة النظر القومية والسياسية البحتة عند كثير من الدول غير الإسلامية، إذ منعت هذه الدول من التوظف في مناصب الدول العليا العسكرية والدبلوماسية كل المواطنين المتزوجين بزوجات من غير جنسيتهم، حتى ولو كن على نفس ديانتهم، كل ذلك احتياطا على أسرار الدولة في الميدانين العسكري والدبلوماسي، تلك الأسرار التي لا شئ يضمن عدم تسربها إلى الأعداء في بيت مختلط الزوجية.
ومن لطائف التفسير المتعلقة بالآية التي هي موضوعنا ما ذكره القاضي أبو بكر ( ابن العربي ) المعافري في كتابه ( أحكام القرآن ) من أن كلمة ( أمة ) في قوله تعالى :﴿ وَلأَمَةٌ مُّومِنَةٌ خَيرٌ مَّن مُّشرِكَةٍ وَلَو أَعجَبَتكُم ﴾. لم يرد بها الرقيق المملوك، وإنما أراد بها ( الآدمية والآدميات )، والآدميون بأجمعهم هم عبيد الله وإماؤه، ونسب هذا التفسير إلى قاضي البصرة أبي العباس الجرجاني رحمه الله، إلا أن حملها على الرقيق المملوك-في نظره- أبلغ في المقارنة والتفضيل بينهما وبين المشركة، إذ يكون المعنى عليه أن المؤمنة وإن كانت مسترقة وناقصة في درجتها بسبب الرقية، فإنها تعتبر أفضل من المشركة، رغما عن كونها حرة وذات جمال، وذلك لإسلام الأولى وشرك الثانية.
وخير ما نختم به هذا الموضوع ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( تنكح المرأة لأربع، لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك ) وما جاء في صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة ).
الربع الثالث من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
وقد تناولت الآيات الكريمة في هذا الربع بجانب أحكام الرضاعة، عدة الوفاة، والتعريض بخطبة النساء أثناءها، فقال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾. إلى آخر ما نزل في هذا الموضوع، وتناولت الطلاق قبل التمكن من الدخول، والصداق المحدود حين العقد والمحدود بعده، فقال تعالى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾. إلى آخر ما نزل في نفس الموضوع، وتناولت وجوب المحافظة على الصلوات في حالتي الأمن والخوف، فقال تعالى :﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ﴾. إلى آخر الآيات، وتناولت كذلك المتعة التي يقدمها الزوج لزوجته عند الفراق، فقال تعالى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾.
والآن فلنستعرض الآيات الأولى من هذا الربع المتعلقة بموضوع إرضاع الوالدات لأولادهن، ثم لنلق نظرة خاصة على كل واحدة منها، تحليلا وتوضيحا لهذا الموضوع، الذي حكم الله فيه من فوق سبع سموات، لأهميته وخطورته، قال تعالى :﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تضار وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( ٢٣٣ ) ﴾.
ومن هذه الآيات التي اشتمل عليها الدستور القرآني الكريم يتجلى مبلغ عناية الإسلام بتكوين نسل إسلامي صحيح سليم، ويتضح ما للطفل الوليد على ضعفه وضآلته من مكانة مرموقة وحرمة خاصة عند خالقه ورازقه، فهو سبحانه لم يترك أمره موكولا إلى شهوة الأب والأم، يفعل به كل منهما ما يشاء، بل تدخل الحق سبحانه وتعالى لتقرير حقوق الطفل على والديه، وطالبهما بصيانة هذه الحقوق وضمانها على الوجه الأكمل، منذ اللحظة الأولى التي يفارق فيها بطن أمه ويرى النور.
وطبقا لمقتضى هذه الآيات تتكفل الأم نفسها بإرضاع وليدها، أداء لرسالة الأمومة على وجهها الكامل، دون كبر ولا بخل ولا أنانية، مادامت صحيحة سليمة، وتمتد مدة الرضاعة من ثدييها عامين كاملين، وذلك تمكينا للوليد من تغذيته تغذية طبيعية نظيفة، وحماية له من الجراثيم والعناصر الغريبة من جهة، ومن المواد الغذائية التي لا يقوى جهازه الضعيف على هضمها، من جهة أخرى، حتى يمر الوليد بمرحلة نموه الأولى-وهي أخطر المراحل- في سلامة وأمان، وراحة واطمئنان، فهذه هي الرضاعة التامة التي ينصح بها كتاب الله، إذ يقول :﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾. قال الإمام مالك : كل أم يلزمها رضاع ولدها بما أخبر الله تعالى من حكم الشريعة فيها.
لكن إذا كانت للزوجين-الأب والأم-أو لأحدهما مصلحة مشروعة تستلزم التخفيض من مدة الرضاع المقدرة بسنتين، وتقتضي فطام وليدهما بعد مرور ما يقارب السنتين، ولم يكن ينتج عن هذا التخفيض والفطام المبكر أي ضرر على الوليد، فإن الشارع لا يقف في طريق التخفيض ولا يؤخذ عليه، بشرط أن يتم كل ذلك بعد اتفاق الأب والأم عليه، وتشاورهما وتراضيهما في شأنه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً ﴾. أي فطاما لوليدهما ﴿ عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾.
ولم يغفل كتاب الله الإشارة إلى الحكم المشروع في الأحوال التي قد يضطر فيها إلى الاستغناء عن إرضاع الأم لوليدها، وتأجير ظئر لإرضاعه بدلا منها إذا كان يقبل الرضاع من غير أمه، مثال ذلك أن تكون الأم غير قادرة على القيام بإرضاع وليدها بحيث يخشى عليه من الضياع والتقصير إذا بقي في حضنها، أو أن يكون الأب في حالة فيزيولوجية لا تسمح له بالاستغناء عن زوجته مدة الرضاعة، بحيث يتضرر بانشغالها عنه، ويطالبها بالتفرغ له، أو لأن يكون الأب والأم يخافان على وليدهما من آثار الغيل وعواقبه السيئة، ففي مثل هذه الأحوال يتخير الأب لوليده مرضعة بأجر تنوب عن أمه، إما حفظا لمصلحة الوليد، وإما حفظا لمصلحة الوالدين، وذلك قوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ ﴾.
ولا حاجة إلى التنبيه على أن قيام غير الأم بإرضاع الوليد خلال المدة المعتادة للرضاع ينزل مرضعته منه منزلة الأم، فتحرم عليه هي وكل من يحرم على الابن من قبل أم النسب، ومن صور هذا الحكم قوله تعالى :﴿ وَاُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أرْضَعْنَكُم وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ ﴾. عطفا على قوله تعالى :﴿ حُرِّمَت عَلَيكُمُ اُمَّهَاتُكُمُ وبَنَاتِكُم وأَخَوَاتِكُم ﴾. الآية. وثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ).
ونظرا إلى أن نفقة الولد تجب على والده بحكم الشرع، ونظرا إلى أن تغذية ولده الرضيع إنما تتم عن طريق الرضاعة التي تقوم بها والدته، أو من ينوب عنها في إرضاعه، فقد أوجب الله على والد الرضيع أن ينفق على والدته أو مرضعته من غير تقتير ولا إسراف، في حدود استطاعته وعلى قدر حاله من سعة أو ضيق، ويشمل الإنفاق كل ما يلزم لمعيشتها وكسوتها، ويظهر وجه الحاجة إلى لزوم هذه النفقة بالنسبة للأم التي طلقها الأب قبل ولادة الطفل، أو طلقها عقب ولادته وإبان الرضاعة ولم يقبل الطفل إلا ثديها، وذلك قوله تعالى في هذا الربع من سورة البقرة :﴿ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾. وقوله تعالى في سورة الطلاق :﴿ فإِنَ أَرْضَعنَ لَكُم فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾.
وكما حكم الله بالنفقة من أجل الرضاعة فقد حكم بها للمرأة الحامل، فأوجب الإنفاق عليها لصالح حملها إلى حين الوضع بقوله تعالى :﴿ وَإنْ كُنَّ أُولاَتِ حَملٍ فَاَنفِقُوا عَلَيهِنَّ حَتَّى يَضَعنَ حَملَهُنَّ ﴾.
وهذه الأحكام الشرعية التي نص عليها كتاب الله تؤكد صحة أصل شهير من أصول التشريع الإسلامي ألا وهو " أن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب مثله "، وقد حكى ابن جرير وابن كثير عند تفسير قوله تعالى في هذا السياق :﴿ وَعَلَى الوَارِثِ مِثلُ ذَلِكَ ﴾. أن على الوارث مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل، والقيام بحقوقها، وعدم الإضرار بها، وهو قول الجمهور فيما حكاه ابن كثير.
وفي هذا المجال العاطفي المعرض للضغط والاستغلال-وهو مجال رضاعة الطفل وتربيته الأولى- نبه القرآن الكريم كلا من الأب والأم إلى وجوب الابتعاد عن كل ما من شأنه إلحاق الضرر من أحدهما بالآخر، وذلك قوله تعالى :﴿ لاَ تُضَارَّ وَالِدَةُ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَولُودٌ لَّهُ بِوَلَدِه ﴾.
وبناء على هذا الحكم الإلهي القاطع لا يحل للأم أن تمتنع عن إرضاع وليدها وتدفعه عنها، رغبة في الإضرار بأبيه، كما لا يحل للأب أن ينتزع الوليد من أمه ويمنعها من إرضاعه، بغية الإضرار بها.
ولعل من أوضح الواضحات أن الوالدات المسلمات إذا نفذن وصية القرآن الكريم على وجهها الكامل، وخصصن لإرضاع أولادهن عامين كاملين دون حمل ولا غيل، فإنهن يسدين بذلك أكبر خدمة لأولادهن من جهة، وإلى أنفسهن من جهة أخرى، فالأولاد يتمتعون بغذائهم الطاهر المفضل الذي يتلقونه من أثداء الوالدات مدة كافية، دون حدوث أي ارتباك في أمعائهم، والوالدات يأخذن وقتا كافيا للراحة والاستجمام من عناء الوضع والحمل، وفي نفس الوقت يجدن من الفراغ ما يساعدهن على العناية بتنشئة وليدهن الرضيع تنشئة مثالية، دون إرهاق ولا اضطراب.
ومما يناسب التنبيه إليه في موضوعنا أن اشتراط كتاب الله لشرط التراضي والتشاور بين الأب والأم في شأن رضاع وليدهما وفطامه معناه أن الوليد-وإن كان ثمرة غرسهما-فإنما ينظر كل منهما إلى مصلحته وسلامته، ويزنهما بالوزن الدقيق، وأنه لا يجوز لأحد منهما أن يستبد دون الآخر بتقرير مصير الطفل، كما قاله سفيان الثوري وغيره، بحيث لا يتصرفان في شأنه ولو في هذا السن المبكر، إلا بما يضمن مصلحته ضمانة محققة من جميع الوجوه.
ويقوي هذا المعنى ويزيده تركيزا وتثبيتا صيغة التعقيب الذي جاء بعد الانتهاء من موضوع رضاعة الأطفال بقوله تعالى :﴿ وَاتَّقُوا اللهَ، واعلَمُوا أنَّ اللهَ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ( ٢٣٣ ) ﴾. مما فيه حض بالغ على وجوب التحري في هذا الأمر، ومراقبة الله فيه مراقبة دقيقة.
وإذا كان لأمر رضاعة الطفل وفطامه من الأهمية البالغة ما جعلهما موضوع عناية القرآن الكريم حتى خصص لهما عدة آيات بينات، فما بالك بتربية الطفل الأخلاقية، وتنشئته على الروح الإسلامية ليكون عضوا نافعا للمجتمع، متمسكا بالدين معتزا بالوطن.
وإذا كانت رضاعة الطفل وفطامه مما تجب فيه المشاورة والتراضي بين الوالدين كما قال تعالى في هذا الربع من سورة البقرة :﴿ عَن تَراضٍ مِّنهُمَا وَتَشَاوُرٍ ﴾. وكما قال تعالى في سورة الطلاق ﴿ واَتمُروا بَينَكُم بِمَعرُوفٍ ﴾. بعد ذكر المطلقات اللاتي يقمن بإرضاع أولادهن، وقوله ﴿ فَإنَ أَرضَعنَ لَكُم فَئاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾. فما بالك ببقية شؤون الأسرة الأخرى، فالمشاورة فيها تعتبر من باب أولى وأحرى، وذلك توجيه من الله تعالى لعباده المؤمنين، أن يجعلوا من أسرهم أسرا قائمة على التعاون، ومن بيوتهم بيوتا مؤسسة على التضامن، يتكامل فيها رأي الزوج برأي الزوجة، وتدبير الأب بتدبير الأم.
ثم إذا كانت مملكة البيت الصغرى يجب أن تقوم في نظر الإسلام ووحي القرآن على أساس الائتمار بالمعروف والتراضي والتشاور، تحصينا لها من الدمار، وضمانا لما يلزمها من الاستقرار، فإن مملكة الإسلام الكبرى لا تزدهر ولا تستقر إلا إذا كانت الشورى بالحق دستورها، والتعاون على البر شعارها، والائتمار بالمعروف رائدها، وإلى ذلك يشير قوله تعالى :﴿ وَاَمرُهُم شُورَى بَينَهُم ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَشَاوِرهُم فِي الأَمرِ ﴾.
وبهذا يتجلى لمن ألقى السمع وهو شهيد، من القريب والبعيد، أن كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن الإسلام منطقي مع نفسه، بحيث تتناسق جزئياته مع كلياته، وتتوافق تطبيقاته مع نظرياته، ﴿ وتَمَّت كلمات رَبِّكَ صِدقاً وَعَدلاً وَمنَ أصدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً ﴾.
الربع الثالث من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
وقد تناولت الآيات الكريمة في هذا الربع بجانب أحكام الرضاعة، عدة الوفاة، والتعريض بخطبة النساء أثناءها، فقال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾. إلى آخر ما نزل في هذا الموضوع، وتناولت الطلاق قبل التمكن من الدخول، والصداق المحدود حين العقد والمحدود بعده، فقال تعالى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾. إلى آخر ما نزل في نفس الموضوع، وتناولت وجوب المحافظة على الصلوات في حالتي الأمن والخوف، فقال تعالى :﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ﴾. إلى آخر الآيات، وتناولت كذلك المتعة التي يقدمها الزوج لزوجته عند الفراق، فقال تعالى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾.
الربع الثالث من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
وقد تناولت الآيات الكريمة في هذا الربع بجانب أحكام الرضاعة، عدة الوفاة، والتعريض بخطبة النساء أثناءها، فقال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾. إلى آخر ما نزل في هذا الموضوع، وتناولت الطلاق قبل التمكن من الدخول، والصداق المحدود حين العقد والمحدود بعده، فقال تعالى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾. إلى آخر ما نزل في نفس الموضوع، وتناولت وجوب المحافظة على الصلوات في حالتي الأمن والخوف، فقال تعالى :﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ﴾. إلى آخر الآيات، وتناولت كذلك المتعة التي يقدمها الزوج لزوجته عند الفراق، فقال تعالى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾.
الربع الثالث من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
وقد تناولت الآيات الكريمة في هذا الربع بجانب أحكام الرضاعة، عدة الوفاة، والتعريض بخطبة النساء أثناءها، فقال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾. إلى آخر ما نزل في هذا الموضوع، وتناولت الطلاق قبل التمكن من الدخول، والصداق المحدود حين العقد والمحدود بعده، فقال تعالى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾. إلى آخر ما نزل في نفس الموضوع، وتناولت وجوب المحافظة على الصلوات في حالتي الأمن والخوف، فقال تعالى :﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ﴾. إلى آخر الآيات، وتناولت كذلك المتعة التي يقدمها الزوج لزوجته عند الفراق، فقال تعالى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾.
الربع الثالث من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
وقد تناولت الآيات الكريمة في هذا الربع بجانب أحكام الرضاعة، عدة الوفاة، والتعريض بخطبة النساء أثناءها، فقال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾. إلى آخر ما نزل في هذا الموضوع، وتناولت الطلاق قبل التمكن من الدخول، والصداق المحدود حين العقد والمحدود بعده، فقال تعالى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾. إلى آخر ما نزل في نفس الموضوع، وتناولت وجوب المحافظة على الصلوات في حالتي الأمن والخوف، فقال تعالى :﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ﴾. إلى آخر الآيات، وتناولت كذلك المتعة التي يقدمها الزوج لزوجته عند الفراق، فقال تعالى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾.
الربع الثالث من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
وقد تناولت الآيات الكريمة في هذا الربع بجانب أحكام الرضاعة، عدة الوفاة، والتعريض بخطبة النساء أثناءها، فقال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾. إلى آخر ما نزل في هذا الموضوع، وتناولت الطلاق قبل التمكن من الدخول، والصداق المحدود حين العقد والمحدود بعده، فقال تعالى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾. إلى آخر ما نزل في نفس الموضوع، وتناولت وجوب المحافظة على الصلوات في حالتي الأمن والخوف، فقال تعالى :﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ﴾. إلى آخر الآيات، وتناولت كذلك المتعة التي يقدمها الزوج لزوجته عند الفراق، فقال تعالى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾.
الربع الثالث من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
وقد تناولت الآيات الكريمة في هذا الربع بجانب أحكام الرضاعة، عدة الوفاة، والتعريض بخطبة النساء أثناءها، فقال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾. إلى آخر ما نزل في هذا الموضوع، وتناولت الطلاق قبل التمكن من الدخول، والصداق المحدود حين العقد والمحدود بعده، فقال تعالى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾. إلى آخر ما نزل في نفس الموضوع، وتناولت وجوب المحافظة على الصلوات في حالتي الأمن والخوف، فقال تعالى :﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ﴾. إلى آخر الآيات، وتناولت كذلك المتعة التي يقدمها الزوج لزوجته عند الفراق، فقال تعالى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾.
الربع الثالث من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
وقد تناولت الآيات الكريمة في هذا الربع بجانب أحكام الرضاعة، عدة الوفاة، والتعريض بخطبة النساء أثناءها، فقال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾. إلى آخر ما نزل في هذا الموضوع، وتناولت الطلاق قبل التمكن من الدخول، والصداق المحدود حين العقد والمحدود بعده، فقال تعالى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾. إلى آخر ما نزل في نفس الموضوع، وتناولت وجوب المحافظة على الصلوات في حالتي الأمن والخوف، فقال تعالى :﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ﴾. إلى آخر الآيات، وتناولت كذلك المتعة التي يقدمها الزوج لزوجته عند الفراق، فقال تعالى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾.
الربع الثالث من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
وقد تناولت الآيات الكريمة في هذا الربع بجانب أحكام الرضاعة، عدة الوفاة، والتعريض بخطبة النساء أثناءها، فقال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾. إلى آخر ما نزل في هذا الموضوع، وتناولت الطلاق قبل التمكن من الدخول، والصداق المحدود حين العقد والمحدود بعده، فقال تعالى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾. إلى آخر ما نزل في نفس الموضوع، وتناولت وجوب المحافظة على الصلوات في حالتي الأمن والخوف، فقال تعالى :﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ﴾. إلى آخر الآيات، وتناولت كذلك المتعة التي يقدمها الزوج لزوجته عند الفراق، فقال تعالى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾.
الربع الأخير من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
من خصائص القرآن الكريم أنه يقص على الرسول الأعظم وأمته المستخلفة في الأرض أحسن القصص، دفعا إلى الموعظة والاعتبار من جهة، وضربا للمثل بواقع التاريخ من جهة أخرى، وهذا الربع الذي نحن بصدده من هذا القبيل، فقد تناولت أغلب آياته الكريمة قصة تجري وقائعها بأرض فلسطين بعد مرور حقبة من الدهر انتصر فيها الفلسطينيون على بني إسرائيل، وهزموهم هزيمة شنعاء، واستولوا على التابوت الذي كان بنو إسرائيل يتحصنون به من قبل في حروبهم، تبركا بما فيه من آثار موسى وهارون، فلما طال أمد الهزيمة على بني إسرائيل لجأوا إلى نبيهم صمويل يطلبون منه أن يختار لهم ملكا يلتفون من حوله، عسى أن يغسلوا العار الذي لحقهم، ويسترجعوا مكانتهم، وهذه القصة تلتقي في بطولتها ثلاثة أسماء بارزة : جالوت وطالوت وداود، أما جالوت فهو ملك القوم الذين انتصروا على بني إسرائيل وهزموهم من قبل وأخذوا تابوتهم المقدس، وهو قائدهم الأعلى، وأما طالوت فهو الإسرائيلي الذي رشحه النبي صمويل ملكا جديدا على بني إسرائيل، إجابة لطلبهم، وأملا في إعادة الكرة على خصومهم، بعدما ضاع ملكهم واندثر نفوذهم زمنا طويلا.
وأما داود فهو الفتى الشجاع الذي أردى جالوت قتيلا بمقلاعه البسيط وأحجاره الملساء، بعدما رأى بني إسرائيل يتساقطون كالذباب أمام جالوت العملاق، وقد كان إقباله على هذه المغامرة بعد استئذان منه لملكه طالوت، الذي زوجه بعد الانتصار على جالوت وجنوده ابنته ( ميكال )، مكافأة له على شجاعته التي أصبحت مضرب الأمثال، الأمر الذي كان بعد ذلك من أقوى العوامل في ترشيح داود لملك بني إسرائيل عندما تخلى طالوت وساح في الفلوات، هائما على وجهه يلتمس النجاة والتوبة ﴿ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ﴾.
والذي يهمنا من هذه القصة بالذات، هو ما احتوت عليه مشاهدها من التوجيهات القرآنية السامية، التي يجب أن تكون نبراسا لحياة المسلمين في كل عصر.
أمامنا قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾.
فهذه الآية تشير إلى أن كبار الأمة وذوي الرأي فيها المعبر عنهم هنا ( بالملأ ) يجب أن يفكروا دائما في مصلحة أمتهم، وأن يحاولوا إنقاذها وإصلاح أمرها كلما اقتضى الأمر ذلك، على غرار قوله تعالى :﴿ وَإذَا جَاءَهُمُ أَمرٌ مِّنَ الأمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ، وَلَو رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم ﴾. كما أنها تشير إلى أن أي عمل جماعي له صبغة العموم والشمول لا ينجح ولا يثمر إلا إذا كانت تشرف عليه وتوجهه من أعلى قيادة عليا يطمئن إليها ويطيعها الجميع، وهذا ما يومئ إليه قولهم المحكي عنهم ﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾. أي ابعث لنا ملكا نجتمع عليه، ونلتف من حوله، ونسير تحت قيادته.
أمامنا قوله تعالى :﴿ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وأبنائنا ﴾. وهذه الآية تشير إلى أن الذين يتعرضون لعدوان خارجي تهون عليهم كل تضحية في سبيل الخلاص من يد العدو، ولذلك يقومون بالدفاع عن أنفسهم ويصدون عنهم العدوان بكل ما في الإمكان، على غرار قوله تعالى :﴿ أُذِنَ لِلَذِينَ يُقاتِلُونَ بِأَنَّهُم ظلِمُوا وإِنَّ اللهَ عَلَى نَصرِهِم لَقَدِير ﴾.
الربع الأخير من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
من خصائص القرآن الكريم أنه يقص على الرسول الأعظم وأمته المستخلفة في الأرض أحسن القصص، دفعا إلى الموعظة والاعتبار من جهة، وضربا للمثل بواقع التاريخ من جهة أخرى، وهذا الربع الذي نحن بصدده من هذا القبيل، فقد تناولت أغلب آياته الكريمة قصة تجري وقائعها بأرض فلسطين بعد مرور حقبة من الدهر انتصر فيها الفلسطينيون على بني إسرائيل، وهزموهم هزيمة شنعاء، واستولوا على التابوت الذي كان بنو إسرائيل يتحصنون به من قبل في حروبهم، تبركا بما فيه من آثار موسى وهارون، فلما طال أمد الهزيمة على بني إسرائيل لجأوا إلى نبيهم صمويل يطلبون منه أن يختار لهم ملكا يلتفون من حوله، عسى أن يغسلوا العار الذي لحقهم، ويسترجعوا مكانتهم، وهذه القصة تلتقي في بطولتها ثلاثة أسماء بارزة : جالوت وطالوت وداود، أما جالوت فهو ملك القوم الذين انتصروا على بني إسرائيل وهزموهم من قبل وأخذوا تابوتهم المقدس، وهو قائدهم الأعلى، وأما طالوت فهو الإسرائيلي الذي رشحه النبي صمويل ملكا جديدا على بني إسرائيل، إجابة لطلبهم، وأملا في إعادة الكرة على خصومهم، بعدما ضاع ملكهم واندثر نفوذهم زمنا طويلا.
وأما داود فهو الفتى الشجاع الذي أردى جالوت قتيلا بمقلاعه البسيط وأحجاره الملساء، بعدما رأى بني إسرائيل يتساقطون كالذباب أمام جالوت العملاق، وقد كان إقباله على هذه المغامرة بعد استئذان منه لملكه طالوت، الذي زوجه بعد الانتصار على جالوت وجنوده ابنته ( ميكال )، مكافأة له على شجاعته التي أصبحت مضرب الأمثال، الأمر الذي كان بعد ذلك من أقوى العوامل في ترشيح داود لملك بني إسرائيل عندما تخلى طالوت وساح في الفلوات، هائما على وجهه يلتمس النجاة والتوبة ﴿ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ﴾.
والذي يهمنا من هذه القصة بالذات، هو ما احتوت عليه مشاهدها من التوجيهات القرآنية السامية، التي يجب أن تكون نبراسا لحياة المسلمين في كل عصر.
أمامنا قوله تعالى في بيان فضل طالوت المرشح للملك على غيره من بني إسرائيل ﴿ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ( ٢٤٧ ) ﴾، وهذه الآية تشير إلى جملة من الخصال الرئيسية المطلوبة في قائد الأمة ورئيسها الأعلى، وأنه يتأهل لرياسة الدولة إلا من آتاه الله حظا وافرا من الخصائص والمواهب الروحية والجسمية، وكان له شفوف على الباقين، ومكانة مرموقة بين الناس أجمعين.
ومن هذه الآية وما شابهها استنبط علماء الشريعة في ( الأحكام السلطانية ) التي تقابل في الفقه الإسلامي ( القانون والنظام الدستوري الحديث ) جملة من الشروط المعتبرة في الإمامة العظمى، فذكروا في طليعتها العلم المؤدي إلى الاجتهاد وحسن النظر في النوازل والأحكام، والرأي المفضي إلى حسن سياسة الرعية وتدبير مصالحها العامة، والشجاعة المؤدية إلى حماية البيضة وصد العدو، وسلامة الأعضاء والحواس من كل نقص يمنع من مباشرة المهام، التي هي في عهدة الإمام.
كما تشير نفس الآية إلى أن الرياسة العليا للأمة والدولة لا يكفي للبت في أمرها مجرد الهوى الشخصي ومعسول الأماني، بل إن للحكمة الإلهية-التي كثيرا ما تبقى مطوية في عالم الغيب- دخلا كبيرا في الترشيح لها والإعانة عليها، وإن كره الكارهون، وهذا ما تومئ إليه الآية :﴿ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ( ٢٤٧ ) ﴾.
الربع الأخير من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
من خصائص القرآن الكريم أنه يقص على الرسول الأعظم وأمته المستخلفة في الأرض أحسن القصص، دفعا إلى الموعظة والاعتبار من جهة، وضربا للمثل بواقع التاريخ من جهة أخرى، وهذا الربع الذي نحن بصدده من هذا القبيل، فقد تناولت أغلب آياته الكريمة قصة تجري وقائعها بأرض فلسطين بعد مرور حقبة من الدهر انتصر فيها الفلسطينيون على بني إسرائيل، وهزموهم هزيمة شنعاء، واستولوا على التابوت الذي كان بنو إسرائيل يتحصنون به من قبل في حروبهم، تبركا بما فيه من آثار موسى وهارون، فلما طال أمد الهزيمة على بني إسرائيل لجأوا إلى نبيهم صمويل يطلبون منه أن يختار لهم ملكا يلتفون من حوله، عسى أن يغسلوا العار الذي لحقهم، ويسترجعوا مكانتهم، وهذه القصة تلتقي في بطولتها ثلاثة أسماء بارزة : جالوت وطالوت وداود، أما جالوت فهو ملك القوم الذين انتصروا على بني إسرائيل وهزموهم من قبل وأخذوا تابوتهم المقدس، وهو قائدهم الأعلى، وأما طالوت فهو الإسرائيلي الذي رشحه النبي صمويل ملكا جديدا على بني إسرائيل، إجابة لطلبهم، وأملا في إعادة الكرة على خصومهم، بعدما ضاع ملكهم واندثر نفوذهم زمنا طويلا.
وأما داود فهو الفتى الشجاع الذي أردى جالوت قتيلا بمقلاعه البسيط وأحجاره الملساء، بعدما رأى بني إسرائيل يتساقطون كالذباب أمام جالوت العملاق، وقد كان إقباله على هذه المغامرة بعد استئذان منه لملكه طالوت، الذي زوجه بعد الانتصار على جالوت وجنوده ابنته ( ميكال )، مكافأة له على شجاعته التي أصبحت مضرب الأمثال، الأمر الذي كان بعد ذلك من أقوى العوامل في ترشيح داود لملك بني إسرائيل عندما تخلى طالوت وساح في الفلوات، هائما على وجهه يلتمس النجاة والتوبة ﴿ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ﴾.
والذي يهمنا من هذه القصة بالذات، هو ما احتوت عليه مشاهدها من التوجيهات القرآنية السامية، التي يجب أن تكون نبراسا لحياة المسلمين في كل عصر.
أمامنا قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾. وهذه الآية تشير إلى وجوب اختيار الرؤساء لمرؤوسيهم، وقادة الجيوش لعساكرهم، وتنبه إلى أن السر كل السر كامن في طاعة القيادة العليا وامتثال أوامرها الرشيدة، دون تردد ولا اعتراض، فهذا هو مفتاح النجاح والنصر في مختلف المعارك وفي مختلف العصور.
والاختبار الذي تشير إليه الآية هو في حد ذاته اختبار بسيط ومهم في نفس الوقت، فالمحارب الذي انكب على النهر يشرب من مائه حتى يمتلئ وهو في طريقه مباشرة إلى الميدان، محكوم عليه مسبقا بالهزيمة والخسران، إذ هو محارب فاقد للصبر، غير قادر على الاحتمال، قد أثقله العرق وأبطأ به اللهث، وقد أعطى الدليل قبل دخول المعركة وهو في طريقه إليها على أنه لا يعير لأوامر قائده الأعلى أدنى اهتمام، بل إنه يعصي هذه الأوامر دون تردد ولا إحجام، فهل يعتمد على مثل هذا في الحصول على النصر، أم أنه عامل أساسي من عوامل الهزيمة ؟
وعلى العكس من ذلك المحارب المتحلي بروح الامتثال، والملتزم لطاعة قائده في كل الظروف، فهذا المحارب الذي امتثل أمر ملكه وقائده طالوت، ولم يسمح لنفسه إلا بغرفة من الماء اغترفها بيده من النهر، دون أن يرتوي ولا أن يمتلئ، كان أقدر على مجابهة العدو، وأشد احتمالا لهول المعركة، وهذا المحارب الصابر ومن ماثله من المحاربين المتحلين بروح الامتثال والطاعة لقيادتهم، هم الذين تحملوا عبء المعركة، ووصفتهم الآية الكريمة أصدق وصف وأقواه تأثيرا، فقالت عنهم في صيغة إعجاب وثناء ما جعلهم أسوة لمن بعدهم :﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ( ٢٤٩ ) وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، ( ٢٥٠ ) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٤٩:الربع الأخير من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
من خصائص القرآن الكريم أنه يقص على الرسول الأعظم وأمته المستخلفة في الأرض أحسن القصص، دفعا إلى الموعظة والاعتبار من جهة، وضربا للمثل بواقع التاريخ من جهة أخرى، وهذا الربع الذي نحن بصدده من هذا القبيل، فقد تناولت أغلب آياته الكريمة قصة تجري وقائعها بأرض فلسطين بعد مرور حقبة من الدهر انتصر فيها الفلسطينيون على بني إسرائيل، وهزموهم هزيمة شنعاء، واستولوا على التابوت الذي كان بنو إسرائيل يتحصنون به من قبل في حروبهم، تبركا بما فيه من آثار موسى وهارون، فلما طال أمد الهزيمة على بني إسرائيل لجأوا إلى نبيهم صمويل يطلبون منه أن يختار لهم ملكا يلتفون من حوله، عسى أن يغسلوا العار الذي لحقهم، ويسترجعوا مكانتهم، وهذه القصة تلتقي في بطولتها ثلاثة أسماء بارزة : جالوت وطالوت وداود، أما جالوت فهو ملك القوم الذين انتصروا على بني إسرائيل وهزموهم من قبل وأخذوا تابوتهم المقدس، وهو قائدهم الأعلى، وأما طالوت فهو الإسرائيلي الذي رشحه النبي صمويل ملكا جديدا على بني إسرائيل، إجابة لطلبهم، وأملا في إعادة الكرة على خصومهم، بعدما ضاع ملكهم واندثر نفوذهم زمنا طويلا.
وأما داود فهو الفتى الشجاع الذي أردى جالوت قتيلا بمقلاعه البسيط وأحجاره الملساء، بعدما رأى بني إسرائيل يتساقطون كالذباب أمام جالوت العملاق، وقد كان إقباله على هذه المغامرة بعد استئذان منه لملكه طالوت، الذي زوجه بعد الانتصار على جالوت وجنوده ابنته ( ميكال )، مكافأة له على شجاعته التي أصبحت مضرب الأمثال، الأمر الذي كان بعد ذلك من أقوى العوامل في ترشيح داود لملك بني إسرائيل عندما تخلى طالوت وساح في الفلوات، هائما على وجهه يلتمس النجاة والتوبة ﴿ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ﴾.
والذي يهمنا من هذه القصة بالذات، هو ما احتوت عليه مشاهدها من التوجيهات القرآنية السامية، التي يجب أن تكون نبراسا لحياة المسلمين في كل عصر.
أمامنا قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾. وهذه الآية تشير إلى وجوب اختيار الرؤساء لمرؤوسيهم، وقادة الجيوش لعساكرهم، وتنبه إلى أن السر كل السر كامن في طاعة القيادة العليا وامتثال أوامرها الرشيدة، دون تردد ولا اعتراض، فهذا هو مفتاح النجاح والنصر في مختلف المعارك وفي مختلف العصور.
والاختبار الذي تشير إليه الآية هو في حد ذاته اختبار بسيط ومهم في نفس الوقت، فالمحارب الذي انكب على النهر يشرب من مائه حتى يمتلئ وهو في طريقه مباشرة إلى الميدان، محكوم عليه مسبقا بالهزيمة والخسران، إذ هو محارب فاقد للصبر، غير قادر على الاحتمال، قد أثقله العرق وأبطأ به اللهث، وقد أعطى الدليل قبل دخول المعركة وهو في طريقه إليها على أنه لا يعير لأوامر قائده الأعلى أدنى اهتمام، بل إنه يعصي هذه الأوامر دون تردد ولا إحجام، فهل يعتمد على مثل هذا في الحصول على النصر، أم أنه عامل أساسي من عوامل الهزيمة ؟
وعلى العكس من ذلك المحارب المتحلي بروح الامتثال، والملتزم لطاعة قائده في كل الظروف، فهذا المحارب الذي امتثل أمر ملكه وقائده طالوت، ولم يسمح لنفسه إلا بغرفة من الماء اغترفها بيده من النهر، دون أن يرتوي ولا أن يمتلئ، كان أقدر على مجابهة العدو، وأشد احتمالا لهول المعركة، وهذا المحارب الصابر ومن ماثله من المحاربين المتحلين بروح الامتثال والطاعة لقيادتهم، هم الذين تحملوا عبء المعركة، ووصفتهم الآية الكريمة أصدق وصف وأقواه تأثيرا، فقالت عنهم في صيغة إعجاب وثناء ما جعلهم أسوة لمن بعدهم :﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ( ٢٤٩ ) وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، ( ٢٥٠ ) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ ﴾.

الربع الأخير من الحزب الرابع
في المصحف الكريم
من خصائص القرآن الكريم أنه يقص على الرسول الأعظم وأمته المستخلفة في الأرض أحسن القصص، دفعا إلى الموعظة والاعتبار من جهة، وضربا للمثل بواقع التاريخ من جهة أخرى، وهذا الربع الذي نحن بصدده من هذا القبيل، فقد تناولت أغلب آياته الكريمة قصة تجري وقائعها بأرض فلسطين بعد مرور حقبة من الدهر انتصر فيها الفلسطينيون على بني إسرائيل، وهزموهم هزيمة شنعاء، واستولوا على التابوت الذي كان بنو إسرائيل يتحصنون به من قبل في حروبهم، تبركا بما فيه من آثار موسى وهارون، فلما طال أمد الهزيمة على بني إسرائيل لجأوا إلى نبيهم صمويل يطلبون منه أن يختار لهم ملكا يلتفون من حوله، عسى أن يغسلوا العار الذي لحقهم، ويسترجعوا مكانتهم، وهذه القصة تلتقي في بطولتها ثلاثة أسماء بارزة : جالوت وطالوت وداود، أما جالوت فهو ملك القوم الذين انتصروا على بني إسرائيل وهزموهم من قبل وأخذوا تابوتهم المقدس، وهو قائدهم الأعلى، وأما طالوت فهو الإسرائيلي الذي رشحه النبي صمويل ملكا جديدا على بني إسرائيل، إجابة لطلبهم، وأملا في إعادة الكرة على خصومهم، بعدما ضاع ملكهم واندثر نفوذهم زمنا طويلا.
وأما داود فهو الفتى الشجاع الذي أردى جالوت قتيلا بمقلاعه البسيط وأحجاره الملساء، بعدما رأى بني إسرائيل يتساقطون كالذباب أمام جالوت العملاق، وقد كان إقباله على هذه المغامرة بعد استئذان منه لملكه طالوت، الذي زوجه بعد الانتصار على جالوت وجنوده ابنته ( ميكال )، مكافأة له على شجاعته التي أصبحت مضرب الأمثال، الأمر الذي كان بعد ذلك من أقوى العوامل في ترشيح داود لملك بني إسرائيل عندما تخلى طالوت وساح في الفلوات، هائما على وجهه يلتمس النجاة والتوبة ﴿ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ﴾.
والذي يهمنا من هذه القصة بالذات، هو ما احتوت عليه مشاهدها من التوجيهات القرآنية السامية، التي يجب أن تكون نبراسا لحياة المسلمين في كل عصر.
وتختم الآيات الكريمة هذه القصة بتقرير مبدأ أساسي للحياة أقامته الحكمة الإلهية لضمان التعايش السلمي بين البشر، وفرض التعاون بينهم على عمارة الأرض وصلاحها، وهذا المبدأ هو مبدأ حفظ التوازن بين القوى المتصارعة، وبث الخوف والحذر في الجبهات المتنافسة، حتى يحسب بعضها الحساب للبعض الآخر، فيصدهم ذلك عن الطغيان والعدوان، ويتمكن الإنسان من تحقيق رسالته في الأرض، التي هي رسالة الإصلاح والعمران، وذلك قوله تعالى :﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ( ٢٥١ ) ﴾.
ومما اشتمل عليه هذا الربع إثبات التفاضل بين الرسل بعد تقرير فضلهم على الناس جميعا، وأنهم درجات بعضها فوق بعض في الفضل والمنزلة عند الله، وهذا التفاوت الواقع بينهم ليس تفاوتا في طبيعة رسالتهم نفسها، ولا في محتوى عقيدتهم الإيمانية المشتركة، وإنما هو تفاوت في دائرة الاختصاص المحدودة لكل منهم، إذ تضيق بالنسبة لأحدهم فتنحصر في شعب مخصوص دون غيره، وتتسع بالنسبة لأحدهم بالنسبة لبعضهم حتى تشمل شعبه وشعوب العالم أجمع، وهو أيضا تفاوت في المواهب والخصال التي يمنحها الحق سبحانه وتعالى لهم، فمنهم " أولو العزم " الذين يتحملون في سبيل رسالتهم أقسى المتاعب وأشد التضحيات، ومنهم من يتحمل ما دون ذلك، وهذا ما ينبغي فهمه من قوله تعالى ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾. بعد قوله تعالى في نهاية الربع الماضي :﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾.
الربع الأول من الحزب الخامس
في المصحف الكريم
في هذا الربع من سورة البقرة تقع آية الكرسي التي تكشف عن جملة من صفات الله العليا وأسمائه الحسنى، تعريفا بسمات الألوهية وخصائص الربوبية، وهي من الآيات التي من شأن كل مسلم أن يعرفها ويحفظها كما يعرف ويحفظ فاتحة الكتاب :﴿ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ( ٢٥٥ ) ﴾.
ومن أبرز المبادئ والقواعد الأساسية في الإسلام التي اشتمل عليها هذا الربع قوله تعالى :﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾. أي بالأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان ﴿ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا واللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ٢٥٦ ) ﴾. فهذه الآية تقرر أن الإسلام دين يقوم الإيمان به على الاقتناع بعقائده الواضحة، والإعجاب بشعائره الكاملة، والرضى بشرائعه العادلة، وأنه دين حجة وبرهان، يوجهان الإنسان تلقائيا نحو الإيمان والإذعان، فمن آمن به كان له ما لبقية المسلمين من حقوق وعليه ما عليهم من واجبات، ومن لم يؤمن به وهو في دار الإسلام وجب عليه أن يلتزم طاعة الدولة الإسلامية، التي تتكفل بحماية حقوقه وصيانتها، ووجب عليه أن يساهم في تمويلها مقابل حمايته ورعايته، وذلك عن طريق " الجزية " المحدودة، كما يساهم المسلمون أنفسهم في تمويل دولتهم عن طريق ( الزكاة ) المفروضة، فإن لم يؤمن بالإسلام وحاول علاوة على ذلك فتنة المسلمين عن دينهم، بالتآمر على الدولة الإسلامية، أو بتضليل المسلمين وإفساد عقيدتهم، أوقفه المسلمون عند حده، وعاملوه بنقيض قصده.
ومما ينبغي مزيد التأمل فيه من آيات هذا الربع قوله تعالى :﴿ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أولياؤهم الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( ٢٥٧ ) ﴾.
فهاهنا كلمتان هما محور الآية الذي يدور عليه موضوعها من أولها إلى آخرها : الكلمة الأولى كلمة ( ظلمات ) التي وردت بصيغة الجمع، والكلمة الثانية كلمة ( نور ) التي جاءت بصيغة الإفراد، فالنور الواحد الذي لا يتجزأ ولا يتعدد هو المصباح الإلهي المنير، الذي يضئ به قلوب أوليائه، ممن تغلب عليهم طاعة الله وتقواه، وامتثال أمره ونهيه، على حد قوله تعالى :﴿ نُورُهُم يَسعَى بَينَ أَيدِهِم وبِأَيمَانٍهٍم ﴾. ومن كان الله له وليا كفاه كل شئ ﴿ وَكَفَى باللهِ وَلِيًّا وَكَفَى باللهِ نَصِيراً ﴾. و( الظلمات ) المتعددة التي لا تنحصر أنواعها ولا أصنافها، من ظلمة الكفر والشرك، إلى ظلمة المعصية والفسق، ومن ظلمة الظلم والعدوان، إلى ظلمة الزور والبهتان، وهكذا إلى ما لا نهاية له، هي السحب السوداء، والغيوم الكثيفة، التي تغشي أبصار الكافرين والمنافقين وبصائرهم، ممن أحاطت بهم خطيئاتهم من كل جانب، حتى أصبحوا وهم لا يهتدون سبيلا، ولا يجدون بين أيديهم دليلا، وفي مثل هؤلاء نزل قوله تعالى :﴿ وَمَن لَّم يَجعَلِ اللهُ لَهُ نُوراُ فَمَالَهُ مِن نُّورِ ﴾.
وفي هذا الربع قصة إبراهيم الخليل، وذكر مناظرته مع ملك من ملوك عصره ادعى الربوبية لنفسه، فانتصر عليه إبراهيم بما أتاه الله من حجج بالغة ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( ٢٥٨ ) ﴾.
وفيه كذلك تأكيد للمعاد الجسماني وضرب المثل لوقوعه ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾. أي لم يتغير أو لم يتعفن ﴿ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ٢٥٩ ) ﴾.
وفي هذا الربع أيضا ذكر الدعاء الذي دعا به إبراهيم ربه ليريه كيف يحيي الموتى ويدرك سر الحياة والموت، وذكر استجابة الدعاء الذي دعا به خليل الرحمان ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ إلى آخر الآية.
وفي حصة هذا الربع آية أخرى كان لها أبلغ الأثر في تعميق عاطفة الإحسان بين المسلمين، ودفعهم إلى البذل في وجوه البر والخير دون حساب، ألا وهي قوله تعالى :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) ﴾. فهاهنا تعهد صريح من الحق سبحانه وتعالى الذي لا يخلف وعده بمضاعفة ربح المؤمن المحسن سبعمائة مرة، مقابل الواحد الذي أنفقه في سبيل الله، بينما أقصى ما يمكن أن يصل إليه ربح الأناني المستغل-مهما بذل من الوسائل-لن يتجاوز في الغالب المائة في المائة، وهذا إغراء لمن رزقهم الله أن ينفقوا مما رزقهم، ووعد لهم بمضاعفة الرزق والأجر إلى أقصى الحدود، حتى لا يشحوا ولا يبخلوا ﴿ وَمن يُّوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَاُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ ﴾.
غير أن الحق سبحانه وتعالى حذر المؤمنين المحسنين من أن يفسدوا صنيعهم، ويحبطوا عملهم، بالمن والأذى إذا أنفقوا وأحسنوا، فقال تعالى تهذيبا لهم وتعليما :﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( ٢٦٢ ) ﴾.
والحكمة في ذلك أن المؤمن مهما كان فقيرا محتاجا فإن حرمته عند الله عظيمة لا يسوغ امتهانها، وكرامته مصونة لا ينبغي انتهاكها، بل يجب على المسلم الموسر أن يصون ماء وجه أخيه المسلم المعسر، وأن يعامله معاملة كريمة لا تجرح عاطفته، ولا تؤذي شعوره، فذلك هو الإحسان على وجهه الشامل، والأدب الإسلامي الكامل.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦١:وفي حصة هذا الربع آية أخرى كان لها أبلغ الأثر في تعميق عاطفة الإحسان بين المسلمين، ودفعهم إلى البذل في وجوه البر والخير دون حساب، ألا وهي قوله تعالى :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) ﴾. فهاهنا تعهد صريح من الحق سبحانه وتعالى الذي لا يخلف وعده بمضاعفة ربح المؤمن المحسن سبعمائة مرة، مقابل الواحد الذي أنفقه في سبيل الله، بينما أقصى ما يمكن أن يصل إليه ربح الأناني المستغل-مهما بذل من الوسائل-لن يتجاوز في الغالب المائة في المائة، وهذا إغراء لمن رزقهم الله أن ينفقوا مما رزقهم، ووعد لهم بمضاعفة الرزق والأجر إلى أقصى الحدود، حتى لا يشحوا ولا يبخلوا ﴿ وَمن يُّوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَاُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ ﴾.
غير أن الحق سبحانه وتعالى حذر المؤمنين المحسنين من أن يفسدوا صنيعهم، ويحبطوا عملهم، بالمن والأذى إذا أنفقوا وأحسنوا، فقال تعالى تهذيبا لهم وتعليما :﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( ٢٦٢ ) ﴾.
والحكمة في ذلك أن المؤمن مهما كان فقيرا محتاجا فإن حرمته عند الله عظيمة لا يسوغ امتهانها، وكرامته مصونة لا ينبغي انتهاكها، بل يجب على المسلم الموسر أن يصون ماء وجه أخيه المسلم المعسر، وأن يعامله معاملة كريمة لا تجرح عاطفته، ولا تؤذي شعوره، فذلك هو الإحسان على وجهه الشامل، والأدب الإسلامي الكامل.

الربع الثاني من الحزب الخامس
في المصحف الكريم
مما نلاحظه بادئ ذي بدء في هذا الربع من سورة البقرة اقتصاره من البداية إلى النهاية على موضوع البذل والإنفاق في سبيل الله، وتحريكه لهمم المسلمين وعزائمهم بشتى الوسائل، حتى يقوموا بهذا الواجب الاجتماعي الجليل.
ففي الآية الأولى من هذا الربع يعلم الحق سبحانه وتعالى للمؤمنين من عباده أدب الصدقة وحسن الإنفاق، ويعرفهم بأن الحكمة في إسداء المعروف من القادر إلى العاجز، ومن الغني إلى المحتاج ليست هي مجرد ترضية حاجاته المادية، وقضاء ضرورياته الحيوية، بقدر ما هي إكرام له، وإعزاز لجانبه، وترفيه عنه، وإشعار له بالإخاء الصادق من جانب بقية إخوانه المسلمين، والامتزاج التام معهم، على أساس قوله تعالى :﴿ إنَّمَا المُومِنُونَ إِخوَةٌ ﴾. وقوله عليه السلام :( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ).
أما إذا كان الشخص سيتصدق وينفق ساخطا كارها، متسلطا بالأذى على ضعفاء المسلمين، فإنه أولى به أن لا يتصدق مطلقا، وإن أفضل صدقة يسديها إلى المحتاجين بالنسبة إليه هي كلمة طيبة ودعوة صالحة، تطييبا لخاطرهم، وتطمينا لقلوبهم، وإحياء لروح الأمل والتفاؤل في نفوسهم، فقد كاد الفقر أن يكون كفرا، كما جاء في الأثر، وبالإجمال، فالأثر النفسي الطيب الذي تحدثه الصدقة في نفس المحتاج، والشعور الذي توحي به إليه من التضامن والتكافل القائم بينه وبين إخوانه المسلمين هو الغرض الأساسي الأول، والهدف الأساسي الإسلامي الأسمى، المقصود من الصدقة والإنفاق في سبيل الله، والإسلام يحافظ بكل ما في الإمكان على شعور المسلم، ويعمل بكل الوسائل على صيانة كرامته كيفما كانت الظروف، وهذه المعاني كلها وما يناسبها هي التي يومئ إليها قوله تعالى :﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يتبعها أَذًى ﴾. ونظرا لأن الحق سبحانه وتعالى لا يقبل الصدقة التي يتبعها المن والأذى من جهة، ونظرا لأنه سبحانه وتعالى يريد من عباده الصالحين أن يقابلوا ضعفاء المسلمين بروح الحلم والتسامح، لا بالأذى والقول الجارح، جاء ختام هذه الآية بالصيغة الآتية ﴿ واللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ( ٢٦٣ ) ﴾. ( غني ) عن المتبجحين بصدقاتهم، الذين يبذلونها كارهين مسيئين، ( حليم ) على الذين يبذلونها بحلم وكرم وإغضاء عن جفاء الفقير المضطر، إن بدرت منه بادرة قلق.
الربع الثاني من الحزب الخامس
في المصحف الكريم
مما نلاحظه بادئ ذي بدء في هذا الربع من سورة البقرة اقتصاره من البداية إلى النهاية على موضوع البذل والإنفاق في سبيل الله، وتحريكه لهمم المسلمين وعزائمهم بشتى الوسائل، حتى يقوموا بهذا الواجب الاجتماعي الجليل.
وفي الآية الثانية من هذا الربع نداء كريم من الرحمن الرحيم إلى عباده المؤمنين بأعز صفاتهم وأكرمها عند الله :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾. ثم إرشاد لهم إلى أن يتفادوا الأثر السيئ الذي ينشأ عن امتنان المتصدقين بصدقتهم وأذاهم للمتصدق عليهم، حيث يحبط الله عملهم، ولا يقبل صدقتهم، بل تكون وبالا على صاحبها، بدلا من أن تكون بركة وخيرا له وللمنتفع بها ﴿ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى ﴾. وفي نفس الوقت نبه القرآن الكريم إلى أن الصدقة الحقيقية التي يقبلها الله هي الصدقة التي تنبعث عن مجرد الإخلاص والإيمان بدافع قلبي صادق، بحيث لا يبتغي من بذلها من ورائها إلا طاعة الله وامتثال أمره في الإحسان إلى إخوانه مما رزقه الله، ابتغاء مرضاة الله بالخصوص، وبحيث لا ينتظر عنها أي تعويض مادي أو أدبي، لا شكرا ممن أعطيت له، ولا ذكرا بين بقية الناس، وإن كان صانع الخير بنية صالحة مع الله لا يلقى من ربه ومن عباده إلا الخير ﴿ إِنَّ الذِينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجعَلُ لَهُم الرَّحمَانُ وُداًّ ﴾.
وهذا التوجيه الإسلامي هو المقصود من التنظير الذي جاء في الآية الكريمة ﴿ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾. بعد قوله تعالى :﴿ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى ﴾.
ثم ضرب الله المثل للمنفق المرائي والمتصدق بالمن والأذى، فقال تعالى :﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفوانٍ عَلَيهِ تُرَابٌ فأصابه وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلداً، لاَّ يَقدِرُونَ عَلَى شَيء مِّمَّا كَسَبُوا، واللهُ لاَ يهدِي القَومَ الكَافِرِينَ( ٢٦٤ ) ﴾.
فمثل هذا النوع ببستان مزروع، غير أن الزرع فيه إنما يقع على طبقة ترابية غير سميكة، تنتهي بطبقة حجرية ملساء، ثم يفاجأ هذا الزرع بنزول مطر غزير عليه كالسيل، فيذهب بالقشرة الترابية التي كان ينبت فوقها الزرع، وتنكشف الأحجار الملساء على طبيعتها دون تراب ولا زرع، وتبلغ الحسرة بصاحبها إلى أقصى الحدود، عندما يبدو عجزه التام أمام القدرة الإلهية، فلا هو قادر على حفظ الزرع الذي ضاع له في الموسم الفلاحي، ولا هو قادر على تعويض التراب الذي ذهب من مزرعته مع السيل، وقد لا يعود أبدا.
فقلب المرائي والمتصدق بالمن والأذى يشبه الصخر الأملس الذي لا يمسك نباتا ولا ماء، وإيمانهما الضعيف الهزيل يشبه القشرة الترابية الخفيفة التي كانت تستر الصخر الأملس، ورياء المرائي ومن المنان وأذاه يشبه السيل الذي فاجأ الزرع، فذهب به وبالتراب، فلم يبق منهما ولا لهما أي أثر، كما ذهبت صدقة المرائي والمنان المؤذي أدراج الرياح.
الربع الثاني من الحزب الخامس
في المصحف الكريم
مما نلاحظه بادئ ذي بدء في هذا الربع من سورة البقرة اقتصاره من البداية إلى النهاية على موضوع البذل والإنفاق في سبيل الله، وتحريكه لهمم المسلمين وعزائمهم بشتى الوسائل، حتى يقوموا بهذا الواجب الاجتماعي الجليل.
أما المؤمن الواثق بربه وبفضله، الذي ينفق ابتغاء وجه الله بدءا وختاما، والذي يقوم بواجب الإحسان إلى إخوانه المسلمين عن عقيدة راسخة، وبنفس مطمئنة، فقد ضربت له الآية الكريمة المثل بما يتفق مع عقيدته وإيمانه، ويتناسب مع إخلاصه واطمئنانه، على عكس المثل المضروب من قبل للمرائي والمنان المؤذي، وذلك قوله تعالى :﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاة اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ﴾. أي مزرعة بهضبة عالية ﴿ أَصَابَهَا وَابِلٌ ﴾. أي مطر غزير ﴿ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾. أي أن الله تعالى لا يعاقبها بالقحط والجدب، بل يسقيها من فضله أحيانا بالمطر الغزير، وأحيانا بالندى والرذاذ ﴿ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( ٢٦٥ ) ﴾.
الربع الثاني من الحزب الخامس
في المصحف الكريم
مما نلاحظه بادئ ذي بدء في هذا الربع من سورة البقرة اقتصاره من البداية إلى النهاية على موضوع البذل والإنفاق في سبيل الله، وتحريكه لهمم المسلمين وعزائمهم بشتى الوسائل، حتى يقوموا بهذا الواجب الاجتماعي الجليل.
ثم عادت الآيات الكريمة مرة ثانية تحذر المؤمنين من نتائج الرياء والمن والأذى بصدقاتهم، وتنبههم إلى أن عاقبة ذلك إنما هي إحباط عملهم بالمرة، نظير المزرعة الغنية بالنخيل والأعناب والمياه الجارية، عندما يسلط عليها الإعصار والنار، فيحترق كل ما فيها، وتذروها الرياح فتذهب هباء منثورا، هذا مع أنها كانت معقد الأمل وعدة الدهر، لشيخ أصابه الكبر وأعجزه الهرم، ولذرية ضعفاء لا يقوون على الكسب بأي وجه من الوجوه، فكم تكون حسرتهم بالغة، وكم يكون أملهم ضائعا، وذلك قوله تعالى :﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ( ٢٦٦ ) ﴾.
الربع الثاني من الحزب الخامس
في المصحف الكريم
مما نلاحظه بادئ ذي بدء في هذا الربع من سورة البقرة اقتصاره من البداية إلى النهاية على موضوع البذل والإنفاق في سبيل الله، وتحريكه لهمم المسلمين وعزائمهم بشتى الوسائل، حتى يقوموا بهذا الواجب الاجتماعي الجليل.
وفي نفس هذا الربع دعوة من الله لعباده المؤمنين إلى تجنب الإنفاق والصدقة بالدون من الأشياء، والرديء من الأصناف، الأمر الذي يقتضي أن يكون عمل البر بالطيب لا بالخبيث، وبالمحبوب لا بالمستكره، وذلك قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ﴾. ثم ختمت هذه التعليمات الإلهية بقوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ( ٢٦٧ ) ﴾. أي ( غني ) عن الخبيث والمستكره الذي قد ينفق منه ضعفاء الإيمان، ( حميد ) لما ينفقه أقوياء الإيمان من طيبات ما رزقهم الله، ابتغاء مرضاة الله، ويتصل بهذا الموضوع أيضا قوله تعالى :﴿ لَن تَنالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾.
الربع الثاني من الحزب الخامس
في المصحف الكريم
مما نلاحظه بادئ ذي بدء في هذا الربع من سورة البقرة اقتصاره من البداية إلى النهاية على موضوع البذل والإنفاق في سبيل الله، وتحريكه لهمم المسلمين وعزائمهم بشتى الوسائل، حتى يقوموا بهذا الواجب الاجتماعي الجليل.
وزيادة في إلقاء الأضواء على دوافع البر عند فريق ودوافع الشح عند فريق، قال تعالى :﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً ﴾. فكل شح وبخل أولا، وكل صدقة بالخبيث دون الطيب ثانيا، إنما مردهما إلى إغواء الشيطان، وتضليله للإنسان، فهو الذي يرسم لمن يغويه صورة قاتمة عن المستقبل الذي ينتظره، ويبعث في قلبه الرعب والخوف من تقلبات الدهر، ويخيل إليه موهما إياه أنه إذا بخل وشح وكنز ماله، أو أنفق الخبيث من ماله دون الطيب، فإنه يصبح بمنجاة من الفقر، مضمون الرزق، ثابت الغنى إلى الموت، وهذه الضمانة التي يعطيها له الشيطان، إنما هي مجرد زور وبهتان، ولا يقوم على صدقها من واقع الحياة المستقبلية أي برهان، بينما الحق سبحانه وتعالى يعد عباده-ووعد حق وصدق-بالفضل والغنى والرزق، ويعد المحسنين منهم بمضاعفة أرزاقهم في الدنيا وحسناتهم في الآخرة، وإذا أزل الشيطان بعض العباد فارتكبوا الفواحش ثم تابوا منها، وعدهم الله بمغفرة ذنوبهم، وشملهم بواسع رحمته ﴿ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ( ٢٦٨ ) ﴾.
الربع الثالث من الحزب الخامس
في المصحف الكريم
لا يزال كتاب الله يوالي في هذا الربع الأوامرَ الإلهيةَ والتوجيهاتِ الساميةَ في موضوع البر والنفقة والصدقة، ولا يزال يتولى الدفاع عن حقوق الفقراء من المسلمين بأقوى الحجج وأبلغها تأثيرا في النفوس.
وفي هذا الربع نفسه يوجه القرآن الكريم أقوى الحملات إلى الربا، وأقسى الطعنات إلى المرابين المستغلين، إلى حد أن ينذرهم بإشهار حرب عليهم هي أخطر الحروب وأفتكها، إذ يشنها عليهم الله ورسوله، فلا مناص لهم من الخذلان والبوار، في هذه الدار وفي تلك الدار.
وفي هذا الربع أيضا يتولى الحق سبحانه وتعالى إرشاد المسلمين إلى ما يجب أن تكون عليه معاملاتهم المالية، وعلاقاتهم الاقتصادية، إذ تناولت الآيات الكريمة موضوع الدين وكتابته، والإعسار به وانتظاره أو إسقاطه، وتناولت موضوع الشهادة والشهود من الرجال والنساء، وما للشهود من حقوق وما عليهم من واجبات، وتناولت موضوع التجارة الحاضرة التي يصفى أمرها في الحين، والتجارة التي تدخلها الآجال بالنسبة للثمن أو المثمن، مما يوضح تعاليم الإسلام في النظام الاقتصادي الذي يجب أن يقوم بين المسلمين.
ففيما يخص النفقة على فقراء المسلمين جاء قوله تعالى :﴿ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾. وهذه الآية الكريمة توضح صفات الفقير المسلم، الذي لا ينزل به الفقر إلى درجة التطاول على الناس وإحراجهم، كما لا تنزل به الحاجة إلى درجة التبذل والاستغلال الدنيء، وفي نفس الوقت تشير نفس الآية إلى أن فقر هذا الفقير واحتياجه ليس صفة لازمة له، ولاصقة به على الدوام، وإنما هو أمر عارض في حياته، بسبب فقدان وسائل العمل، وتعذر وجوه الكسب، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾. أي أقفلت في وجوههم كافة الطرق :﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ ﴾. أي لا يجدون مجالا للكسب والاتجار، إذ الضرب في الأرض في لغة القرآن خاصة، والاستعمال العربي عامة معناه السعي للتكسب والتنقل للبيع والشراء ﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء ﴾. أي أن الجاهل بحقيقة حالهم يعتقد أنهم في سعة وغنى ﴿ مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾. أي لعدم قيامهم بأي إزعاج للغير، أو إلحاح عليه ﴿ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾. أي يعرفهم أخوهم المؤمن بما له من صدق الفراسة، حيث إن المؤمن ينظر بنور الله، وهم لا يلحون في السؤال، فضلا عن طلب ما يزيد على حاجتهم بقصد الاستغلال.
وهكذا لا ينزل الفقر بالمسلم حالة اضطراره إلى درجة البؤس والذلة والمهانة، لأن الإسلام حريص على إعزازه والأخذ بيده ورفع مستواه المادي المنخفض، إلى درجة مستواه الروحي الإسلامي الممتاز.
وهذه الآية نفسها يقتضي مفهومها أنه بمجرد ما يجد الفقير المسلم وسيلة للعمل ووجها للكسب لا يسوغ له أن يتكل على غيره، ولا يسوغ لغيره أن يساعده على التواكل والكسل، باسم الاحتياج ووصف الفقر، بل يحاول أن ينتقل من صف الفقراء المعسرين، إلى صف القادرين على الكسب الموسرين.
ومما يجب التنبيه إليه في هذا المقام ما ذكره القاضي أبو بكر ( ابن العربي ) المعافري إذ قال : " الواجب على معطي الصدقة-كان إماما أو مالكا-أن يراعي أحوال الناس، فمن علم فيه صبرا على الخصاصة، وتحليا بالقناعة، آثر عليه من لا يستطيع الصبر، فربما وقع التسخط. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح : إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه " انتهى.
الربع الثالث من الحزب الخامس
في المصحف الكريم
لا يزال كتاب الله يوالي في هذا الربع الأوامرَ الإلهيةَ والتوجيهاتِ الساميةَ في موضوع البر والنفقة والصدقة، ولا يزال يتولى الدفاع عن حقوق الفقراء من المسلمين بأقوى الحجج وأبلغها تأثيرا في النفوس.
وفي هذا الربع نفسه يوجه القرآن الكريم أقوى الحملات إلى الربا، وأقسى الطعنات إلى المرابين المستغلين، إلى حد أن ينذرهم بإشهار حرب عليهم هي أخطر الحروب وأفتكها، إذ يشنها عليهم الله ورسوله، فلا مناص لهم من الخذلان والبوار، في هذه الدار وفي تلك الدار.
وفي هذا الربع أيضا يتولى الحق سبحانه وتعالى إرشاد المسلمين إلى ما يجب أن تكون عليه معاملاتهم المالية، وعلاقاتهم الاقتصادية، إذ تناولت الآيات الكريمة موضوع الدين وكتابته، والإعسار به وانتظاره أو إسقاطه، وتناولت موضوع الشهادة والشهود من الرجال والنساء، وما للشهود من حقوق وما عليهم من واجبات، وتناولت موضوع التجارة الحاضرة التي يصفى أمرها في الحين، والتجارة التي تدخلها الآجال بالنسبة للثمن أو المثمن، مما يوضح تعاليم الإسلام في النظام الاقتصادي الذي يجب أن يقوم بين المسلمين.
وفي هذا السياق سياق بر الأغنياء بالفقراء، وإحسانهم إليهم دون مقابل، إحسانا لا من فيه ولا أذى، والحض على أن يكون هذا الإحسان من الطيبات التي رزقهم الله لا من الخبائث، جاء الإنذار الصارخ إلى المرابين المستغلين الذين يستغلون فقر الفقراء واحتياج المضطرين، وجاءت الدعوة الملحة إلى وجوب التنازل عن الربا والابتعاد منه ابتعادا كليا في المجتمع الإسلامي، فقال تعالى :﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( ٢٧٥ ) يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، ( ٢٧٨ ) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ( ٢٧٩ ) ﴾.
وهذا التشريع المفصل القاطع في شأن الربا الذي نزلت به هذه الآيات في سورة البقرة ظهرت نواته الأولى لأول مرة في سورة الروم المكية، حيث قال تعالى :﴿ وَمَا آتَيتُم مِّن رِّبِّا لِّتَربُوا فِي أَموَالِ النَّاسِ فَلاَ يَربُوا عِندَ اللهِ، ومَا آتَيتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجهَ اللهِ فَاُولَئِكَ هُمُ المُضعَفُونَ ﴾. ثم جاءت آيات سورة البقرة التي هي موضوع حديثنا تقرر للمسلمين وللناس أجمعين خمسة مبادئ ثابتة وقواعد راسخة رئيسية :
١ ) المبدأ الأول : إبطال تشبيه البيع بالربا، ومنع قياس الأول على الثاني، لأن البيع عقد تبادل وتعادل بين البائع والمشتري لمصلحة الطرفين يقوم على أساس التراضي والاختيار، والربا يرافقه ويؤثر فيه من البداية إلى النهاية عامل الضغط والاحتياج والاضطرار، ولذلك تكون مصلحة المرابي فيه و أنانيته الجامحة هما الأساس والمقياس، ويكون الضرر المحقق هو نصيب من اضطر إلى قبوله من ضعفاء الناس، والبيع أكل مال بالحق عن عوض، بينما الربا أكل مال بالباطل دون عوض ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾.
٢ ) المبدأ الثاني : إقرار ما سبق وانتهى أمره من المعاملات الربوية التي تمت قبل تحريم الربا على ما كانت عليه، فلا رجوع من " مسلم " على " جاهلي " بما أخذه الجاهلي منه في رباه، قبل تحريم الإسلام للربا، إذا ليس لهذا التحريم مفعول رجعي ﴿ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ ﴾. قال سعيد بن جبير والسدي :" فله ما سلف : أي له ما كان أكل من الربا قبل التحريم "
٣ ) المبدأ الثالث : إسقاط حصة الربا الزائدة على رأس المال من المعاملات الربوية، التي صادف الحال -حين نزل القرآن بتحريم الربا- أنها لم تكن قد تمت تسويتها من قبل، فحكم الله في هذه المعاملات التي بقيت معلقة إلى حين التحريم هو تسليم رأس المال غير منقوص إلى صاحبه، مع إعفاء دافع رأس المال من أداء حصة الربا، التي كان مطالبا بها قبل التحريم زيادة على رأس المال ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ( ٢٧٨ ) ﴾. ﴿ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ( ٢٧٩ ) ﴾. أي لا تظلمون بأخذ الزيادة عليها، ولا تظلمون بالتنقيص منها.
٤ ) المبدأ الرابع : إعلان السخط الإلهي بأروع صورة وأقوى تعبير على المرابين المستغلين، الذين يستغلون حاجة المحتاجين واضطرار المضطرين، فيختلسون منهم ثمرة أعمالهم، ويقطفون زهرة أموالهم، وذلك هو مغزى إشهار الحرب من الله ورسوله على عصابة المرابين، وعقابهم في الدنيا بمس الشياطين، وفي الآخرة بجعلهم في النار من الخالدين ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾. ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾. ﴿ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى :﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾. معنى آخر يستحق الالتفات، وهذا المعنى حسبما عبر عنه ابن عباس هو أن من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه كان حقا على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه. ومعنى " نزع " كف وانتهى عنه.
٥ ) المبدأ الخامس : صدور حكم الله تعالى الذي لا يقبل أي نقض بمحق الربا وبوار ربح المرابين المستغلين، ونزع البركة مما تحت أيديهم من الثروات التي يكدسونها، ومن الأموال التي يكنزونها.
ومن آثار هذا المحق المحكوم عليهم به من الله ما يعاقب به من يتعاطون الربا من الأفراد والجماعات، ولاسيما عن طريق الكوارث الطبيعية، كالزلازل والفيضانات والأعاصير والأوبئة والأمراض وأنواع القحط والجدب، أو عن طريق المآسي الاجتماعية كالسرقات والاختلاسات والحروب، وهكذا يقبض المرابون بيد وهم فرحون مستبشرون، ويدفعون باليد الأخرى ما قبضوه وهم متشائمون كارهون ﴿ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ( ٢٧٦ ) ﴾.
ونظرا إلى أنه لا يوجد أمر استنكره الإسلام كما استنكر الربا، أو أغلظ فيه القول كما أغلظه في أمره، إذ هو الأمر الوحيد الذي هدد مرتكبوه بحرب من الله ورسوله، فقد عالج علماء الإسلام من السلف والخلف موضوعه بكثير من اليقظة والحذر، واتفقوا على إثبات صفة ( الربوية ) لعدد محدود من المعاملات، فوقع الإجماع على إدراجها في الربا، وفي طليعة ما أجمعوا على منعه منعا باتا ربا الجاهلية، الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في حجة الوداع :( ألا وإن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب )، وهذا ما تعارفوا عليه بقولهم : " أنظرني أزدك "، ثم اختلف اجتهاد علماء السلف وأئمتهم في عدة صور ومعاملات، مما وجدوه متعارفا بين أظهرهم، فأثبت بعضهم لها صفة الربوية وحكم بتحريمها، ونفى بعضهم الآخر عنها تلك الصفة وأباح التعامل بها.
قال ابن كثير في تفسيره : " ومن أجل هذا حرم الفقهاء أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا، والوسائل الموصلة إليه وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال تعالى :﴿ وفَوقَ كُلِّ ِّذي عِلمٍ عَلِيم ﴾. "
ثم عقب ابن كثير على ذلك فقال بالحرف الواحد :" وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث وددت لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه، الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا ". يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا ".
ثم نقل ابن كثير بعد ذلك-برواية سعيد بن المسيب إلى عمر بن الخطاب-أنه قال في نفي الموضوع :( من آخر ما نزل آية الربا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة ).
وعندما نراجع ( أحكام القرآن ) للقاضي أبي بكر ( ابن العربي ) المعافري نجده قد خصص لموضوع الربا بحثا شافيا تبرز من خلاله أهمية الموضوع وخطورته، وبين أن الرجل من العرب في الجاهلية كان يبايع الرجل إلى أجل، فإذا حل الأجل قال له : " أتقضي أم تربي وأصبر أجلا آخر "، فحرم الله تعالى الربا وهو الزيادة، وأشار إلى اختلاف العلماء في حمل آية الربا هل هي عامة في تحريم كل ربا، أو مجملة لا بيان لها إلا من غيرها، ولم يهمل الإشارة إلى أن تطبيق آية الربا قد أشكل على أكثر العلماء، فقال ما نصه :" لأجل هذا صارت الآية مشكلة على الأكثر، معلومة لمن أيده الله تعالى بالنور الأظهر " ثم عقب على ذلك قائلا حكاية عن نفسه :" وقد فاوضت فيها علماء، وباحثت رفعاء، فكل منهم أعطى ما عنده، حتى انتظم فيها سلك المعرفة بدرره وجوهرته العليا " انتهى كلام ابن العربي.
وبناء على ما ذكر نرى أن المسلم يجب عليه أن يتفادى كل معاملة أجمع العلماء على اعتبارها معاملة ربوية محرمة، وفيما عدا المجمع على تحريمه من المعاملات ينبغي من باب الاحتياط والبعد عن التشهي أن يلتزم المسلم فيها مذهب إمامه، فما هو ممنوع تركه، وما لا منع فيه استباحه لنفسه.
أما الصور الجديدة والمعقدة من المعاملات التجارية والمالية التي ظهرت في العصر الحديث والتي لم يسبق لها نظير، ولم يفت فيها الأئمة والعلماء بحكم سابق، حيث لم تكن متعارفة ولا معهودة في وقتهم، فإن الواجب يقضي بإعمال النظر فيها طبقا لمقاصد التشريع وأصوله الثابتة، وتمييز ما يندرج منها تحت اسم الربا وفي حقيقته، حتى يعلم المسلمون قاطبة حكم الله في شأن المعاملات الربوية الحديثة، كما عرفوا حكم المعاملات الربوية القديمة.
وفي نظرنا أن هذا الموضوع الحيوي الخطير يجب أن يتم النظر فيه على أساس اجتهاد فقهي جماعي يشترك فيه علماء الإسلام المعاصرون، ثم تعلن نتيجته على رؤوس الملأ في العالم الإسلامي كله، إنقاذا للشعوب والدول الإسلامية من حيرتها الاقتصادية، وتوجيها لمنظماتها التجارية والمالية، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧٥:الربع الثالث من الحزب الخامس
في المصحف الكريم
لا يزال كتاب الله يوالي في هذا الربع الأوامرَ الإلهيةَ والتوجيهاتِ الساميةَ في موضوع البر والنفقة والصدقة، ولا يزال يتولى الدفاع عن حقوق الفقراء من المسلمين بأقوى الحجج وأبلغها تأثيرا في النفوس.
وفي هذا الربع نفسه يوجه القرآن الكريم أقوى الحملات إلى الربا، وأقسى الطعنات إلى المرابين المستغلين، إلى حد أن ينذرهم بإشهار حرب عليهم هي أخطر الحروب وأفتكها، إذ يشنها عليهم الله ورسوله، فلا مناص لهم من الخذلان والبوار، في هذه الدار وفي تلك الدار.
وفي هذا الربع أيضا يتولى الحق سبحانه وتعالى إرشاد المسلمين إلى ما يجب أن تكون عليه معاملاتهم المالية، وعلاقاتهم الاقتصادية، إذ تناولت الآيات الكريمة موضوع الدين وكتابته، والإعسار به وانتظاره أو إسقاطه، وتناولت موضوع الشهادة والشهود من الرجال والنساء، وما للشهود من حقوق وما عليهم من واجبات، وتناولت موضوع التجارة الحاضرة التي يصفى أمرها في الحين، والتجارة التي تدخلها الآجال بالنسبة للثمن أو المثمن، مما يوضح تعاليم الإسلام في النظام الاقتصادي الذي يجب أن يقوم بين المسلمين.
وفي هذا السياق سياق بر الأغنياء بالفقراء، وإحسانهم إليهم دون مقابل، إحسانا لا من فيه ولا أذى، والحض على أن يكون هذا الإحسان من الطيبات التي رزقهم الله لا من الخبائث، جاء الإنذار الصارخ إلى المرابين المستغلين الذين يستغلون فقر الفقراء واحتياج المضطرين، وجاءت الدعوة الملحة إلى وجوب التنازل عن الربا والابتعاد منه ابتعادا كليا في المجتمع الإسلامي، فقال تعالى :﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( ٢٧٥ ) يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، ( ٢٧٨ ) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ( ٢٧٩ ) ﴾.
وهذا التشريع المفصل القاطع في شأن الربا الذي نزلت به هذه الآيات في سورة البقرة ظهرت نواته الأولى لأول مرة في سورة الروم المكية، حيث قال تعالى :﴿ وَمَا آتَيتُم مِّن رِّبِّا لِّتَربُوا فِي أَموَالِ النَّاسِ فَلاَ يَربُوا عِندَ اللهِ، ومَا آتَيتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجهَ اللهِ فَاُولَئِكَ هُمُ المُضعَفُونَ ﴾. ثم جاءت آيات سورة البقرة التي هي موضوع حديثنا تقرر للمسلمين وللناس أجمعين خمسة مبادئ ثابتة وقواعد راسخة رئيسية :
١ ) المبدأ الأول : إبطال تشبيه البيع بالربا، ومنع قياس الأول على الثاني، لأن البيع عقد تبادل وتعادل بين البائع والمشتري لمصلحة الطرفين يقوم على أساس التراضي والاختيار، والربا يرافقه ويؤثر فيه من البداية إلى النهاية عامل الضغط والاحتياج والاضطرار، ولذلك تكون مصلحة المرابي فيه و أنانيته الجامحة هما الأساس والمقياس، ويكون الضرر المحقق هو نصيب من اضطر إلى قبوله من ضعفاء الناس، والبيع أكل مال بالحق عن عوض، بينما الربا أكل مال بالباطل دون عوض ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾.
٢ ) المبدأ الثاني : إقرار ما سبق وانتهى أمره من المعاملات الربوية التي تمت قبل تحريم الربا على ما كانت عليه، فلا رجوع من " مسلم " على " جاهلي " بما أخذه الجاهلي منه في رباه، قبل تحريم الإسلام للربا، إذا ليس لهذا التحريم مفعول رجعي ﴿ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ ﴾. قال سعيد بن جبير والسدي :" فله ما سلف : أي له ما كان أكل من الربا قبل التحريم "
٣ ) المبدأ الثالث : إسقاط حصة الربا الزائدة على رأس المال من المعاملات الربوية، التي صادف الحال -حين نزل القرآن بتحريم الربا- أنها لم تكن قد تمت تسويتها من قبل، فحكم الله في هذه المعاملات التي بقيت معلقة إلى حين التحريم هو تسليم رأس المال غير منقوص إلى صاحبه، مع إعفاء دافع رأس المال من أداء حصة الربا، التي كان مطالبا بها قبل التحريم زيادة على رأس المال ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ( ٢٧٨ ) ﴾. ﴿ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ( ٢٧٩ ) ﴾. أي لا تظلمون بأخذ الزيادة عليها، ولا تظلمون بالتنقيص منها.
٤ ) المبدأ الرابع : إعلان السخط الإلهي بأروع صورة وأقوى تعبير على المرابين المستغلين، الذين يستغلون حاجة المحتاجين واضطرار المضطرين، فيختلسون منهم ثمرة أعمالهم، ويقطفون زهرة أموالهم، وذلك هو مغزى إشهار الحرب من الله ورسوله على عصابة المرابين، وعقابهم في الدنيا بمس الشياطين، وفي الآخرة بجعلهم في النار من الخالدين ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾. ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾. ﴿ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى :﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾. معنى آخر يستحق الالتفات، وهذا المعنى حسبما عبر عنه ابن عباس هو أن من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه كان حقا على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه. ومعنى " نزع " كف وانتهى عنه.
٥ ) المبدأ الخامس : صدور حكم الله تعالى الذي لا يقبل أي نقض بمحق الربا وبوار ربح المرابين المستغلين، ونزع البركة مما تحت أيديهم من الثروات التي يكدسونها، ومن الأموال التي يكنزونها.
ومن آثار هذا المحق المحكوم عليهم به من الله ما يعاقب به من يتعاطون الربا من الأفراد والجماعات، ولاسيما عن طريق الكوارث الطبيعية، كالزلازل والفيضانات والأعاصير والأوبئة والأمراض وأنواع القحط والجدب، أو عن طريق المآسي الاجتماعية كالسرقات والاختلاسات والحروب، وهكذا يقبض المرابون بيد وهم فرحون مستبشرون، ويدفعون باليد الأخرى ما قبضوه وهم متشائمون كارهون ﴿ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ( ٢٧٦ ) ﴾.
ونظرا إلى أنه لا يوجد أمر استنكره الإسلام كما استنكر الربا، أو أغلظ فيه القول كما أغلظه في أمره، إذ هو الأمر الوحيد الذي هدد مرتكبوه بحرب من الله ورسوله، فقد عالج علماء الإسلام من السلف والخلف موضوعه بكثير من اليقظة والحذر، واتفقوا على إثبات صفة ( الربوية ) لعدد محدود من المعاملات، فوقع الإجماع على إدراجها في الربا، وفي طليعة ما أجمعوا على منعه منعا باتا ربا الجاهلية، الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في حجة الوداع :( ألا وإن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب )، وهذا ما تعارفوا عليه بقولهم :" أنظرني أزدك "، ثم اختلف اجتهاد علماء السلف وأئمتهم في عدة صور ومعاملات، مما وجدوه متعارفا بين أظهرهم، فأثبت بعضهم لها صفة الربوية وحكم بتحريمها، ونفى بعضهم الآخر عنها تلك الصفة وأباح التعامل بها.
قال ابن كثير في تفسيره :" ومن أجل هذا حرم الفقهاء أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا، والوسائل الموصلة إليه وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال تعالى :﴿ وفَوقَ كُلِّ ِّذي عِلمٍ عَلِيم ﴾. "
ثم عقب ابن كثير على ذلك فقال بالحرف الواحد :" وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث وددت لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه، الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا ". يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا ".
ثم نقل ابن كثير بعد ذلك-برواية سعيد بن المسيب إلى عمر بن الخطاب-أنه قال في نفي الموضوع :( من آخر ما نزل آية الربا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة ).
وعندما نراجع ( أحكام القرآن ) للقاضي أبي بكر ( ابن العربي ) المعافري نجده قد خصص لموضوع الربا بحثا شافيا تبرز من خلاله أهمية الموضوع وخطورته، وبين أن الرجل من العرب في الجاهلية كان يبايع الرجل إلى أجل، فإذا حل الأجل قال له :" أتقضي أم تربي وأصبر أجلا آخر "، فحرم الله تعالى الربا وهو الزيادة، وأشار إلى اختلاف العلماء في حمل آية الربا هل هي عامة في تحريم كل ربا، أو مجملة لا بيان لها إلا من غيرها، ولم يهمل الإشارة إلى أن تطبيق آية الربا قد أشكل على أكثر العلماء، فقال ما نصه :" لأجل هذا صارت الآية مشكلة على الأكثر، معلومة لمن أيده الله تعالى بالنور الأظهر " ثم عقب على ذلك قائلا حكاية عن نفسه :" وقد فاوضت فيها علماء، وباحثت رفعاء، فكل منهم أعطى ما عنده، حتى انتظم فيها سلك المعرفة بدرره وجوهرته العليا " انتهى كلام ابن العربي.
وبناء على ما ذكر نرى أن المسلم يجب عليه أن يتفادى كل معاملة أجمع العلماء على اعتبارها معاملة ربوية محرمة، وفيما عدا المجمع على تحريمه من المعاملات ينبغي من باب الاحتياط والبعد عن التشهي أن يلتزم المسلم فيها مذهب إمامه، فما هو ممنوع تركه، وما لا منع فيه استباحه لنفسه.
أما الصور الجديدة والمعقدة من المعاملات التجارية والمالية التي ظهرت في العصر الحديث والتي لم يسبق لها نظير، ولم يفت فيها الأئمة والعلماء بحكم سابق، حيث لم تكن متعارفة ولا معهودة في وقتهم، فإن الواجب يقضي بإعمال النظر فيها طبقا لمقاصد التشريع وأصوله الثابتة، وتمييز ما يندرج منها تحت اسم الربا وفي حقيقته، حتى يعلم المسلمون قاطبة حكم الله في شأن المعاملات الربوية الحديثة، كما عرفوا حكم المعاملات الربوية القديمة.
وفي نظرنا أن هذا الموضوع الحيوي الخطير يجب أن يتم النظر فيه على أساس اجتهاد فقهي جماعي يشترك فيه علماء الإسلام المعاصرون، ثم تعلن نتيجته على رؤوس الملأ في العالم الإسلامي كله، إنقاذا للشعوب والدول الإسلامية من حيرتها الاقتصادية، وتوجيها لمنظماتها التجارية والمالية، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧٥:الربع الثالث من الحزب الخامس
في المصحف الكريم
لا يزال كتاب الله يوالي في هذا الربع الأوامرَ الإلهيةَ والتوجيهاتِ الساميةَ في موضوع البر والنفقة والصدقة، ولا يزال يتولى الدفاع عن حقوق الفقراء من المسلمين بأقوى الحجج وأبلغها تأثيرا في النفوس.
وفي هذا الربع نفسه يوجه القرآن الكريم أقوى الحملات إلى الربا، وأقسى الطعنات إلى المرابين المستغلين، إلى حد أن ينذرهم بإشهار حرب عليهم هي أخطر الحروب وأفتكها، إذ يشنها عليهم الله ورسوله، فلا مناص لهم من الخذلان والبوار، في هذه الدار وفي تلك الدار.
وفي هذا الربع أيضا يتولى الحق سبحانه وتعالى إرشاد المسلمين إلى ما يجب أن تكون عليه معاملاتهم المالية، وعلاقاتهم الاقتصادية، إذ تناولت الآيات الكريمة موضوع الدين وكتابته، والإعسار به وانتظاره أو إسقاطه، وتناولت موضوع الشهادة والشهود من الرجال والنساء، وما للشهود من حقوق وما عليهم من واجبات، وتناولت موضوع التجارة الحاضرة التي يصفى أمرها في الحين، والتجارة التي تدخلها الآجال بالنسبة للثمن أو المثمن، مما يوضح تعاليم الإسلام في النظام الاقتصادي الذي يجب أن يقوم بين المسلمين.
وفي هذا السياق سياق بر الأغنياء بالفقراء، وإحسانهم إليهم دون مقابل، إحسانا لا من فيه ولا أذى، والحض على أن يكون هذا الإحسان من الطيبات التي رزقهم الله لا من الخبائث، جاء الإنذار الصارخ إلى المرابين المستغلين الذين يستغلون فقر الفقراء واحتياج المضطرين، وجاءت الدعوة الملحة إلى وجوب التنازل عن الربا والابتعاد منه ابتعادا كليا في المجتمع الإسلامي، فقال تعالى :﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( ٢٧٥ ) يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، ( ٢٧٨ ) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ( ٢٧٩ ) ﴾.
وهذا التشريع المفصل القاطع في شأن الربا الذي نزلت به هذه الآيات في سورة البقرة ظهرت نواته الأولى لأول مرة في سورة الروم المكية، حيث قال تعالى :﴿ وَمَا آتَيتُم مِّن رِّبِّا لِّتَربُوا فِي أَموَالِ النَّاسِ فَلاَ يَربُوا عِندَ اللهِ، ومَا آتَيتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجهَ اللهِ فَاُولَئِكَ هُمُ المُضعَفُونَ ﴾. ثم جاءت آيات سورة البقرة التي هي موضوع حديثنا تقرر للمسلمين وللناس أجمعين خمسة مبادئ ثابتة وقواعد راسخة رئيسية :
١ ) المبدأ الأول : إبطال تشبيه البيع بالربا، ومنع قياس الأول على الثاني، لأن البيع عقد تبادل وتعادل بين البائع والمشتري لمصلحة الطرفين يقوم على أساس التراضي والاختيار، والربا يرافقه ويؤثر فيه من البداية إلى النهاية عامل الضغط والاحتياج والاضطرار، ولذلك تكون مصلحة المرابي فيه و أنانيته الجامحة هما الأساس والمقياس، ويكون الضرر المحقق هو نصيب من اضطر إلى قبوله من ضعفاء الناس، والبيع أكل مال بالحق عن عوض، بينما الربا أكل مال بالباطل دون عوض ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾.
٢ ) المبدأ الثاني : إقرار ما سبق وانتهى أمره من المعاملات الربوية التي تمت قبل تحريم الربا على ما كانت عليه، فلا رجوع من " مسلم " على " جاهلي " بما أخذه الجاهلي منه في رباه، قبل تحريم الإسلام للربا، إذا ليس لهذا التحريم مفعول رجعي ﴿ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ ﴾. قال سعيد بن جبير والسدي :" فله ما سلف : أي له ما كان أكل من الربا قبل التحريم "
٣ ) المبدأ الثالث : إسقاط حصة الربا الزائدة على رأس المال من المعاملات الربوية، التي صادف الحال -حين نزل القرآن بتحريم الربا- أنها لم تكن قد تمت تسويتها من قبل، فحكم الله في هذه المعاملات التي بقيت معلقة إلى حين التحريم هو تسليم رأس المال غير منقوص إلى صاحبه، مع إعفاء دافع رأس المال من أداء حصة الربا، التي كان مطالبا بها قبل التحريم زيادة على رأس المال ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ( ٢٧٨ ) ﴾. ﴿ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ( ٢٧٩ ) ﴾. أي لا تظلمون بأخذ الزيادة عليها، ولا تظلمون بالتنقيص منها.
٤ ) المبدأ الرابع : إعلان السخط الإلهي بأروع صورة وأقوى تعبير على المرابين المستغلين، الذين يستغلون حاجة المحتاجين واضطرار المضطرين، فيختلسون منهم ثمرة أعمالهم، ويقطفون زهرة أموالهم، وذلك هو مغزى إشهار الحرب من الله ورسوله على عصابة المرابين، وعقابهم في الدنيا بمس الشياطين، وفي الآخرة بجعلهم في النار من الخالدين ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾. ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾. ﴿ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى :﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾. معنى آخر يستحق الالتفات، وهذا المعنى حسبما عبر عنه ابن عباس هو أن من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه كان حقا على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه. ومعنى " نزع " كف وانتهى عنه.
٥ ) المبدأ الخامس : صدور حكم الله تعالى الذي لا يقبل أي نقض بمحق الربا وبوار ربح المرابين المستغلين، ونزع البركة مما تحت أيديهم من الثروات التي يكدسونها، ومن الأموال التي يكنزونها.
ومن آثار هذا المحق المحكوم عليهم به من الله ما يعاقب به من يتعاطون الربا من الأفراد والجماعات، ولاسيما عن طريق الكوارث الطبيعية، كالزلازل والفيضانات والأعاصير والأوبئة والأمراض وأنواع القحط والجدب، أو عن طريق المآسي الاجتماعية كالسرقات والاختلاسات والحروب، وهكذا يقبض المرابون بيد وهم فرحون مستبشرون، ويدفعون باليد الأخرى ما قبضوه وهم متشائمون كارهون ﴿ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ( ٢٧٦ ) ﴾.
ونظرا إلى أنه لا يوجد أمر استنكره الإسلام كما استنكر الربا، أو أغلظ فيه القول كما أغلظه في أمره، إذ هو الأمر الوحيد الذي هدد مرتكبوه بحرب من الله ورسوله، فقد عالج علماء الإسلام من السلف والخلف موضوعه بكثير من اليقظة والحذر، واتفقوا على إثبات صفة ( الربوية ) لعدد محدود من المعاملات، فوقع الإجماع على إدراجها في الربا، وفي طليعة ما أجمعوا على منعه منعا باتا ربا الجاهلية، الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في حجة الوداع :( ألا وإن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب )، وهذا ما تعارفوا عليه بقولهم :" أنظرني أزدك "، ثم اختلف اجتهاد علماء السلف وأئمتهم في عدة صور ومعاملات، مما وجدوه متعارفا بين أظهرهم، فأثبت بعضهم لها صفة الربوية وحكم بتحريمها، ونفى بعضهم الآخر عنها تلك الصفة وأباح التعامل بها.
قال ابن كثير في تفسيره :" ومن أجل هذا حرم الفقهاء أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا، والوسائل الموصلة إليه وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال تعالى :﴿ وفَوقَ كُلِّ ِّذي عِلمٍ عَلِيم ﴾. "
ثم عقب ابن كثير على ذلك فقال بالحرف الواحد :" وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث وددت لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه، الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا ". يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا ".
ثم نقل ابن كثير بعد ذلك-برواية سعيد بن المسيب إلى عمر بن الخطاب-أنه قال في نفي الموضوع :( من آخر ما نزل آية الربا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة ).
وعندما نراجع ( أحكام القرآن ) للقاضي أبي بكر ( ابن العربي ) المعافري نجده قد خصص لموضوع الربا بحثا شافيا تبرز من خلاله أهمية الموضوع وخطورته، وبين أن الرجل من العرب في الجاهلية كان يبايع الرجل إلى أجل، فإذا حل الأجل قال له :" أتقضي أم تربي وأصبر أجلا آخر "، فحرم الله تعالى الربا وهو الزيادة، وأشار إلى اختلاف العلماء في حمل آية الربا هل هي عامة في تحريم كل ربا، أو مجملة لا بيان لها إلا من غيرها، ولم يهمل الإشارة إلى أن تطبيق آية الربا قد أشكل على أكثر العلماء، فقال ما نصه :" لأجل هذا صارت الآية مشكلة على الأكثر، معلومة لمن أيده الله تعالى بالنور الأظهر " ثم عقب على ذلك قائلا حكاية عن نفسه :" وقد فاوضت فيها علماء، وباحثت رفعاء، فكل منهم أعطى ما عنده، حتى انتظم فيها سلك المعرفة بدرره وجوهرته العليا " انتهى كلام ابن العربي.
وبناء على ما ذكر نرى أن المسلم يجب عليه أن يتفادى كل معاملة أجمع العلماء على اعتبارها معاملة ربوية محرمة، وفيما عدا المجمع على تحريمه من المعاملات ينبغي من باب الاحتياط والبعد عن التشهي أن يلتزم المسلم فيها مذهب إمامه، فما هو ممنوع تركه، وما لا منع فيه استباحه لنفسه.
أما الصور الجديدة والمعقدة من المعاملات التجارية والمالية التي ظهرت في العصر الحديث والتي لم يسبق لها نظير، ولم يفت فيها الأئمة والعلماء بحكم سابق، حيث لم تكن متعارفة ولا معهودة في وقتهم، فإن الواجب يقضي بإعمال النظر فيها طبقا لمقاصد التشريع وأصوله الثابتة، وتمييز ما يندرج منها تحت اسم الربا وفي حقيقته، حتى يعلم المسلمون قاطبة حكم الله في شأن المعاملات الربوية الحديثة، كما عرفوا حكم المعاملات الربوية القديمة.
وفي نظرنا أن هذا الموضوع الحيوي الخطير يجب أن يتم النظر فيه على أساس اجتهاد فقهي جماعي يشترك فيه علماء الإسلام المعاصرون، ثم تعلن نتيجته على رؤوس الملأ في العالم الإسلامي كله، إنقاذا للشعوب والدول الإسلامية من حيرتها الاقتصادية، وتوجيها لمنظماتها التجارية والمالية، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧٥:الربع الثالث من الحزب الخامس
في المصحف الكريم
لا يزال كتاب الله يوالي في هذا الربع الأوامرَ الإلهيةَ والتوجيهاتِ الساميةَ في موضوع البر والنفقة والصدقة، ولا يزال يتولى الدفاع عن حقوق الفقراء من المسلمين بأقوى الحجج وأبلغها تأثيرا في النفوس.
وفي هذا الربع نفسه يوجه القرآن الكريم أقوى الحملات إلى الربا، وأقسى الطعنات إلى المرابين المستغلين، إلى حد أن ينذرهم بإشهار حرب عليهم هي أخطر الحروب وأفتكها، إذ يشنها عليهم الله ورسوله، فلا مناص لهم من الخذلان والبوار، في هذه الدار وفي تلك الدار.
وفي هذا الربع أيضا يتولى الحق سبحانه وتعالى إرشاد المسلمين إلى ما يجب أن تكون عليه معاملاتهم المالية، وعلاقاتهم الاقتصادية، إذ تناولت الآيات الكريمة موضوع الدين وكتابته، والإعسار به وانتظاره أو إسقاطه، وتناولت موضوع الشهادة والشهود من الرجال والنساء، وما للشهود من حقوق وما عليهم من واجبات، وتناولت موضوع التجارة الحاضرة التي يصفى أمرها في الحين، والتجارة التي تدخلها الآجال بالنسبة للثمن أو المثمن، مما يوضح تعاليم الإسلام في النظام الاقتصادي الذي يجب أن يقوم بين المسلمين.
وفي هذا السياق سياق بر الأغنياء بالفقراء، وإحسانهم إليهم دون مقابل، إحسانا لا من فيه ولا أذى، والحض على أن يكون هذا الإحسان من الطيبات التي رزقهم الله لا من الخبائث، جاء الإنذار الصارخ إلى المرابين المستغلين الذين يستغلون فقر الفقراء واحتياج المضطرين، وجاءت الدعوة الملحة إلى وجوب التنازل عن الربا والابتعاد منه ابتعادا كليا في المجتمع الإسلامي، فقال تعالى :﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( ٢٧٥ ) يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، ( ٢٧٨ ) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ( ٢٧٩ ) ﴾.
وهذا التشريع المفصل القاطع في شأن الربا الذي نزلت به هذه الآيات في سورة البقرة ظهرت نواته الأولى لأول مرة في سورة الروم المكية، حيث قال تعالى :﴿ وَمَا آتَيتُم مِّن رِّبِّا لِّتَربُوا فِي أَموَالِ النَّاسِ فَلاَ يَربُوا عِندَ اللهِ، ومَا آتَيتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجهَ اللهِ فَاُولَئِكَ هُمُ المُضعَفُونَ ﴾. ثم جاءت آيات سورة البقرة التي هي موضوع حديثنا تقرر للمسلمين وللناس أجمعين خمسة مبادئ ثابتة وقواعد راسخة رئيسية :
١ ) المبدأ الأول : إبطال تشبيه البيع بالربا، ومنع قياس الأول على الثاني، لأن البيع عقد تبادل وتعادل بين البائع والمشتري لمصلحة الطرفين يقوم على أساس التراضي والاختيار، والربا يرافقه ويؤثر فيه من البداية إلى النهاية عامل الضغط والاحتياج والاضطرار، ولذلك تكون مصلحة المرابي فيه و أنانيته الجامحة هما الأساس والمقياس، ويكون الضرر المحقق هو نصيب من اضطر إلى قبوله من ضعفاء الناس، والبيع أكل مال بالحق عن عوض، بينما الربا أكل مال بالباطل دون عوض ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾.
٢ ) المبدأ الثاني : إقرار ما سبق وانتهى أمره من المعاملات الربوية التي تمت قبل تحريم الربا على ما كانت عليه، فلا رجوع من " مسلم " على " جاهلي " بما أخذه الجاهلي منه في رباه، قبل تحريم الإسلام للربا، إذا ليس لهذا التحريم مفعول رجعي ﴿ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ ﴾. قال سعيد بن جبير والسدي :" فله ما سلف : أي له ما كان أكل من الربا قبل التحريم "
٣ ) المبدأ الثالث : إسقاط حصة الربا الزائدة على رأس المال من المعاملات الربوية، التي صادف الحال -حين نزل القرآن بتحريم الربا- أنها لم تكن قد تمت تسويتها من قبل، فحكم الله في هذه المعاملات التي بقيت معلقة إلى حين التحريم هو تسليم رأس المال غير منقوص إلى صاحبه، مع إعفاء دافع رأس المال من أداء حصة الربا، التي كان مطالبا بها قبل التحريم زيادة على رأس المال ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ( ٢٧٨ ) ﴾. ﴿ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ( ٢٧٩ ) ﴾. أي لا تظلمون بأخذ الزيادة عليها، ولا تظلمون بالتنقيص منها.
٤ ) المبدأ الرابع : إعلان السخط الإلهي بأروع صورة وأقوى تعبير على المرابين المستغلين، الذين يستغلون حاجة المحتاجين واضطرار المضطرين، فيختلسون منهم ثمرة أعمالهم، ويقطفون زهرة أموالهم، وذلك هو مغزى إشهار الحرب من الله ورسوله على عصابة المرابين، وعقابهم في الدنيا بمس الشياطين، وفي الآخرة بجعلهم في النار من الخالدين ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾. ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾. ﴿ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى :﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾. معنى آخر يستحق الالتفات، وهذا المعنى حسبما عبر عنه ابن عباس هو أن من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه كان حقا على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه. ومعنى " نزع " كف وانتهى عنه.
٥ ) المبدأ الخامس : صدور حكم الله تعالى الذي لا يقبل أي نقض بمحق الربا وبوار ربح المرابين المستغلين، ونزع البركة مما تحت أيديهم من الثروات التي يكدسونها، ومن الأموال التي يكنزونها.
ومن آثار هذا المحق المحكوم عليهم به من الله ما يعاقب به من يتعاطون الربا من الأفراد والجماعات، ولاسيما عن طريق الكوارث الطبيعية، كالزلازل والفيضانات والأعاصير والأوبئة والأمراض وأنواع القحط والجدب، أو عن طريق المآسي الاجتماعية كالسرقات والاختلاسات والحروب، وهكذا يقبض المرابون بيد وهم فرحون مستبشرون، ويدفعون باليد الأخرى ما قبضوه وهم متشائمون كارهون ﴿ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ( ٢٧٦ ) ﴾.
ونظرا إلى أنه لا يوجد أمر استنكره الإسلام كما استنكر الربا، أو أغلظ فيه القول كما أغلظه في أمره، إذ هو الأمر الوحيد الذي هدد مرتكبوه بحرب من الله ورسوله، فقد عالج علماء الإسلام من السلف والخلف موضوعه بكثير من اليقظة والحذر، واتفقوا على إثبات صفة ( الربوية ) لعدد محدود من المعاملات، فوقع الإجماع على إدراجها في الربا، وفي طليعة ما أجمعوا على منعه منعا باتا ربا الجاهلية، الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في حجة الوداع :( ألا وإن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب )، وهذا ما تعارفوا عليه بقولهم :" أنظرني أزدك "، ثم اختلف اجتهاد علماء السلف وأئمتهم في عدة صور ومعاملات، مما وجدوه متعارفا بين أظهرهم، فأثبت بعضهم لها صفة الربوية وحكم بتحريمها، ونفى بعضهم الآخر عنها تلك الصفة وأباح التعامل بها.
قال ابن كثير في تفسيره :" ومن أجل هذا حرم الفقهاء أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا، والوسائل الموصلة إليه وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال تعالى :﴿ وفَوقَ كُلِّ ِّذي عِلمٍ عَلِيم ﴾. "
ثم عقب ابن كثير على ذلك فقال بالحرف الواحد :" وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث وددت لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه، الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا ". يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا ".
ثم نقل ابن كثير بعد ذلك-برواية سعيد بن المسيب إلى عمر بن الخطاب-أنه قال في نفي الموضوع :( من آخر ما نزل آية الربا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة ).
وعندما نراجع ( أحكام القرآن ) للقاضي أبي بكر ( ابن العربي ) المعافري نجده قد خصص لموضوع الربا بحثا شافيا تبرز من خلاله أهمية الموضوع وخطورته، وبين أن الرجل من العرب في الجاهلية كان يبايع الرجل إلى أجل، فإذا حل الأجل قال له :" أتقضي أم تربي وأصبر أجلا آخر "، فحرم الله تعالى الربا وهو الزيادة، وأشار إلى اختلاف العلماء في حمل آية الربا هل هي عامة في تحريم كل ربا، أو مجملة لا بيان لها إلا من غيرها، ولم يهمل الإشارة إلى أن تطبيق آية الربا قد أشكل على أكثر العلماء، فقال ما نصه :" لأجل هذا صارت الآية مشكلة على الأكثر، معلومة لمن أيده الله تعالى بالنور الأظهر " ثم عقب على ذلك قائلا حكاية عن نفسه :" وقد فاوضت فيها علماء، وباحثت رفعاء، فكل منهم أعطى ما عنده، حتى انتظم فيها سلك المعرفة بدرره وجوهرته العليا " انتهى كلام ابن العربي.
وبناء على ما ذكر نرى أن المسلم يجب عليه أن يتفادى كل معاملة أجمع العلماء على اعتبارها معاملة ربوية محرمة، وفيما عدا المجمع على تحريمه من المعاملات ينبغي من باب الاحتياط والبعد عن التشهي أن يلتزم المسلم فيها مذهب إمامه، فما هو ممنوع تركه، وما لا منع فيه استباحه لنفسه.
أما الصور الجديدة والمعقدة من المعاملات التجارية والمالية التي ظهرت في العصر الحديث والتي لم يسبق لها نظير، ولم يفت فيها الأئمة والعلماء بحكم سابق، حيث لم تكن متعارفة ولا معهودة في وقتهم، فإن الواجب يقضي بإعمال النظر فيها طبقا لمقاصد التشريع وأصوله الثابتة، وتمييز ما يندرج منها تحت اسم الربا وفي حقيقته، حتى يعلم المسلمون قاطبة حكم الله في شأن المعاملات الربوية الحديثة، كما عرفوا حكم المعاملات الربوية القديمة.
وفي نظرنا أن هذا الموضوع الحيوي الخطير يجب أن يتم النظر فيه على أساس اجتهاد فقهي جماعي يشترك فيه علماء الإسلام المعاصرون، ثم تعلن نتيجته على رؤوس الملأ في العالم الإسلامي كله، إنقاذا للشعوب والدول الإسلامية من حيرتها الاقتصادية، وتوجيها لمنظماتها التجارية والمالية، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة.

الربع الثالث من الحزب الخامس
في المصحف الكريم
لا يزال كتاب الله يوالي في هذا الربع الأوامرَ الإلهيةَ والتوجيهاتِ الساميةَ في موضوع البر والنفقة والصدقة، ولا يزال يتولى الدفاع عن حقوق الفقراء من المسلمين بأقوى الحجج وأبلغها تأثيرا في النفوس.
وفي هذا الربع نفسه يوجه القرآن الكريم أقوى الحملات إلى الربا، وأقسى الطعنات إلى المرابين المستغلين، إلى حد أن ينذرهم بإشهار حرب عليهم هي أخطر الحروب وأفتكها، إذ يشنها عليهم الله ورسوله، فلا مناص لهم من الخذلان والبوار، في هذه الدار وفي تلك الدار.
وفي هذا الربع أيضا يتولى الحق سبحانه وتعالى إرشاد المسلمين إلى ما يجب أن تكون عليه معاملاتهم المالية، وعلاقاتهم الاقتصادية، إذ تناولت الآيات الكريمة موضوع الدين وكتابته، والإعسار به وانتظاره أو إسقاطه، وتناولت موضوع الشهادة والشهود من الرجال والنساء، وما للشهود من حقوق وما عليهم من واجبات، وتناولت موضوع التجارة الحاضرة التي يصفى أمرها في الحين، والتجارة التي تدخلها الآجال بالنسبة للثمن أو المثمن، مما يوضح تعاليم الإسلام في النظام الاقتصادي الذي يجب أن يقوم بين المسلمين.
الربع الأخير من الحزب الخامس
في المصحف الكريم
أمامنا في هذا الربع قوله تعالى :﴿ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ﴾ بعد قوله تعالى في الربع الماضي ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ وهذا إرشاد من الحق سبحانه وتعالى إلى المسلمين إذا تعاملوا فيما بينهم معاملة إلى أجل، ولم يجدوا من الشهود من يسجل لهم وثيقة بحقوق الطرفين فإن صاحب الحق يقبض رهنا من الطرف الثاني، ضمانا لحقه إلى حين الوفاء، ويمكن حيازة الرهن منه في السفر والحضر، وإن كانت الآية إنما أشارت إلى حالة السفر بالخصوص، لظهور الحاجة فيها إلى الرهن أكثر، وواضح أن الرهن هنا قام مقام الشاهد، بحيث إذا اختلف الراهن والمرتهن فالقول قول المرتهن.
وقوله تعالى :﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ ﴾ يمكن تفسيره على وجهين :
الوجه الأول : إن المدين المؤتمن على الدين، والدائن المؤتمن على الرهن، مدعوان معا، كل فيما يخصه، إلى رد ما ائتمنه عليه الطرف الثاني.
الوجه الثاني : أن يعتمد الطرفان في معاملتهما على مجرد صفة الأمانة دون وثيقة ولا رهن ولا شاهد، ففي هذه الحالة يبقى الأمر كله موقوفا على التزام المدين المؤتمن بأداء ما اؤتمن عليه.
والتعقيب عليه بقوله تعالى :﴿ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ ﴾ منطبق على كلا الوجهين، ففي الوجه الأول يظهر تقوى الله بتسديد الدين كاملا غير منقوص من طرف المدين، وبإعادة الشيء المرهون على وجهه دون تغيير ولا تبديل من طرف الدائن، وفي الوجه الثاني يظهر تقوى الله على أكمل وجوهه بأداء المدين لما عليه، رغما عن عدم أي سند يلزمه بالأداء ما عدا خوف الله وتقواه. قال ( ابن العربي ) المعافري : " وجملة الأمر أن الإشهاد حزم، والائتمان ثقة بالله من المداين، ومروءة من المدين ".
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ يقتضي نهي الشاهد عن كتمان شهادته، إذ في كتمانه لها إضرار بمن ينجز له الحق بواسطتها، لكن أداءها مقيد بقوله تعالى في الربع الماضي ﴿ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ﴾ كأن يطلب من الشاهد مؤونة مجيئه من بلد بعيد.
قال القاضي أبو بكر ( ابن العربي ) : " إذا كان على الحق شهود تعين عليهم أداء الشهادة على الكفاية، فإن أداها اثنان واجتزأ بهما الحاكم سقط الفرض عن الباقين، وإن لم يجتزئ بهما تعين المشي إليه حتى يقع الإثبات، وهذا يعلم بدعاء صاحبها، فإذا قال للشاهد :" أحي حقي بأداء ما عندك لي من شهادة " تعين ذك عليه " وما قاله ابن العربي ينسجم كل الانسجام مع قوله تعالى في الربع الماضي ﴿ وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ﴾.
وكما نهى الشارع عن كتمان الشهادة نهى عن تبديلها وتحويلها نهيا باتا، غير أن تبديلها وتحويلها إثم باللسان، أما كتمانها وإخفاؤها فهو إثم بالقلب، ذلك معنى قوله تعالى :﴿ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ ثم عقب على نفس المعنى بقوله تعالى :﴿ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ( ٢٨٣ ) ﴾ تحذيرا من كتمان الشهادة وإخفاء الحق، حيث إنه سبحانه لا تخفى عليه خافية، نظير ذلك قوله تعالى في آية أخرى ﴿ وَلاَ نَكتُمُ شَهَادَةَ اللهِ، إنَّا إذاًّ لَّمِنَ الآثِمِين ﴾.
ثم قال تعالى ﴿ لِلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ٢٨٤ ) ﴾.
وهذه الآية من الآيات التي اشتد وقعها على الصحابة رضوان الله عليهم، ورجفت لها قلوبهم، وذلك بقوة إيمانهم وشدة خوفهم من الله، إذ إنها لا تتضمن فقط مجرد علم الله بما يخفيه عباده، واطلاعه على مكنونات صدورهم، مثل آيات أخرى جاءت بهذا المعنى كقوله تعالى :﴿ قُل إن تُخفُوا مَا فِي صُدُورِكُم أو تُبدُوهُ يَعلَمُهُ اللهُ ﴾ وقوله تعالى ﴿ يَعلَمُ السِّرَّ وَاَخفَى ﴾ فهذا الأمر لا يجادل فيه مسلم، مادام الحق سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شئ علما، وإنما تضمنت الآية التي نحن بصددها أمرا زائدا على العلم بالسر والنجوى، ألا وهو محاسبة الله لعباده حتى على ما يخفونه، وقد يكون ذلك من الهواجس والوساوس والخواطر التي تهجم على الإنسان ولا يملك لها تصريفا، فقالوا :" يا رسول الله هلكنا إن كنا نواخذ بما تكلمنا وبما نعمل، فأما قلوبنا فليست بأيدينا ". قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية ﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ ﴾ دخل قلوبهم منها شئ لم يدخل قلوبهم من قبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا "، فألقى الله الإيمان في قلوبهم، ثم أنزل ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ إلى قوله ﴿ فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾، وفي أثنائها لقن الله عباده المؤمنين هذا الدعاء ﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ -﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾
وفي هذا المعنى ورد قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الجماعة في الكتب الستة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم أو تعمل ".
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٨٤:ثم قال تعالى ﴿ لِلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ٢٨٤ ) ﴾.
وهذه الآية من الآيات التي اشتد وقعها على الصحابة رضوان الله عليهم، ورجفت لها قلوبهم، وذلك بقوة إيمانهم وشدة خوفهم من الله، إذ إنها لا تتضمن فقط مجرد علم الله بما يخفيه عباده، واطلاعه على مكنونات صدورهم، مثل آيات أخرى جاءت بهذا المعنى كقوله تعالى :﴿ قُل إن تُخفُوا مَا فِي صُدُورِكُم أو تُبدُوهُ يَعلَمُهُ اللهُ ﴾ وقوله تعالى ﴿ يَعلَمُ السِّرَّ وَاَخفَى ﴾ فهذا الأمر لا يجادل فيه مسلم، مادام الحق سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شئ علما، وإنما تضمنت الآية التي نحن بصددها أمرا زائدا على العلم بالسر والنجوى، ألا وهو محاسبة الله لعباده حتى على ما يخفونه، وقد يكون ذلك من الهواجس والوساوس والخواطر التي تهجم على الإنسان ولا يملك لها تصريفا، فقالوا :" يا رسول الله هلكنا إن كنا نواخذ بما تكلمنا وبما نعمل، فأما قلوبنا فليست بأيدينا ". قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية ﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ ﴾ دخل قلوبهم منها شئ لم يدخل قلوبهم من قبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا "، فألقى الله الإيمان في قلوبهم، ثم أنزل ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ إلى قوله ﴿ فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾، وفي أثنائها لقن الله عباده المؤمنين هذا الدعاء ﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ -﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾
وفي هذا المعنى ورد قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الجماعة في الكتب الستة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم أو تعمل ".

ومن هنا ننتقل إلى خواتيم سورة البقرة التي وردت في فضلها أحاديث كثيرة، منها حديث البخاري عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ) وجاء الأثر عن علي رضي الله عنه أنه قال :( ما أرى أحد يعقل بلغه الإسلام ينام، حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، فإنها من كنز تحت العرش ).
وسنرى أن خاتمة سورة البقرة منسجمة كل الانسجام ومتناسبة كل التناسب مع موضوعاتها على العموم، ومع فاتحتها بالخصوص، فكما ابتدأت سورة البقرة بقوله تعالى ﴿ أَلِمِّ، ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فيهِ هُدًى لِّلمُتَقينَ، الذِينَ بُومِنُونَ بِالغَيبِ ﴾ إلى قوله ﴿ وَالذِينَ يُومِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إلَيكَ ومَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ وبالآخِرَة هُمْ يُوقِنُون ﴾ نجدها تختتم بقوله تعالى :﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾.
وبعدما تعرضت سورة البقرة للتكاليف الدينية والتشريعات الإسلامية في مختلف الشؤون الروحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية نجدها تختتم بقوله تعالى ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ مؤكدة بذلك مدى التكليف في الشريعة الإسلامية، وأنه لا يتجاوز حدود الطاقة الإنسانية.
وبعدما قَصّت سورة البقرة على المسلمين قصةَ بني إسرائيلَ وما عاقبهم الله به على عنادهم وجحودهم من التكاليف الصعبة والكفارات الثقيلة تختتم بدعاء الخشوع والضراعة إلى الله، رجاء رفقه بعباده المؤمنين ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وارحمنا ﴾
وكما طالب الله المسلمين أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وحضهم على ذلك في عشرات الآيات من سورة البقرة، وبشتى وجوه الحض والإغراء، تختتم نفس السورة برجاء الحق سبحانه وتعالى أن يحقق للمسلمين وعده، وذلك قوله تعالى على لسانهم ﴿ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ( ٢٨٦ ) ﴾.
Icon