تفسير سورة البقرة

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمُ اللَّهُ أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا : إنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَعْظَمِ سُوَرِ الْقُرْآنِ ؛ سَمِعْتُ بَعْضَ أَشْيَاخِي يَقُولُ : فِيهَا أَلْفُ أَمْرٍ، وَأَلْفُ نَهْيٍ، وَأَلْفُ حُكْمٍ، وَأَلْفُ خَبَرٍ.
وَلِعَظِيمِ فِقْهِهَا أَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ثَمَانِي سِنِينَ فِي تَعَلُّمِهَا، وَقَدْ أَوْرَدْنَا ذَلِكَ عَلَيْكُمْ مَشْرُوحًا فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ فِي أَعْوَامٍ، وَلَيْسَ فِي فَضْلِهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ إلَّا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، وَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لَا يَدْخُلُهُ شَيْطَانٌ » خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَعَدَمُ الْهُدَى وَضَعْفُ الْقُوَى وَكَلَبُ الزَّمَانِ عَلَى الْخَلْقِ بِتَعْطِيلِهِمْ وَصَرْفِهِمْ عَنْ الْحَقِّ.
وَاَلَّذِي حَضَرَ الْآنَ مِنْ أَحْكَامِهَا فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ تِسْعُونَ آيَةً :

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :﴿ يُؤْمِنُونَ ﴾ : قَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَمِنْهَا تُؤْخَذُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ :﴿ بِالْغَيْبِ ﴾. وَحَقِيقَتُهُ مَا غَابَ عَنْ الْحَوَاسِّ مِمَّا لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْخَبَرِ دُونَ النَّظَرِ، فَافْهَمُوهُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلِ : مَا ذَكَرْنَاهُ كَوُجُوبِ الْبَعْثِ، وَوُجُودِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا وَعَذَابِهَا وَالْحِسَابِ.
الثَّانِي : بِالْقَدَرِ. الثَّالِثِ : بِاَللَّهِ تَعَالَى. الرَّابِعِ : يُؤْمِنُونَ بِقُلُوبِهِمْ الْغَائِبَةِ عَنْ الْخَلْقِ لَا بِأَلْسِنَتِهِمْ الَّتِي يُشَاهِدُهَا النَّاسُ، مَعْنَاهُ لَيْسُوا بِمُنَافِقِينَ.
وَكُلُّهَا قَوِيَّةٌ إلَّا الثَّانِي وَالثَّالِثَ ؛ فَإِنَّهُ يُدْرَكُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ، فَلَا يَكُونُ غَيْبًا حَقِيقَةً، وَهَذَا الْأَوْسَطُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَإِنَّ مَخْرَجَهُ عَلَى الْخُصُوصِ.
وَالْأَقْوَى هُوَ الْأَوَّلُ ؛ أَنَّهُ الْغَيْبُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا لَا تَهْتَدِي إلَيْهِ الْعُقُولُ، وَالْإِيمَانُ بِالْقُلُوبِ الْغَائِبَةِ عَنْ الْخَلْقِ، وَيَكُونُ مَوْضِعُ الْمَجْرُورِ عَلَى هَذَا رَفْعًا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ نَصْبًا، كَقَوْلِك : مَرَرْت بِزَيْدٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مُقَدَّرًا نَصْبًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ : جَعَلْتُ قَلْبِي مَحَلًّا لِلْإِيمَانِ، وَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ عَنْ الْخَلْقِ.
وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَلَا بِحِمَى الذِّمَارِ، وَلَا يُوجِبُ لَهُ الِاحْتِرَامَ، إلَّا بِاجْتِمَاعِ هَذِهِ الثَّلَاثِ ؛ فَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ وَلَا يَسْتَحِقُّ عِصْمَةً.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي ذِكْرِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ حَتَّى بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثَّانِي : أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي مُتَنَاوَلِ الصَّلَاةِ حَتَّى خَصَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ الْمَعْلُومِ فِي الشَّرِيعَةِ.
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ عَرَبِيٍّ يَرِدُ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُجْمَلٌ مَوْقُوفٌ بَيَانُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ متحداً لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ اشْتِرَاكٌ ؛ فَإِنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ اشْتِرَاكٌ، وَاسْتَأْثَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ بَيَانِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ طَلَبُ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مُجْمَلِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ، وَلَوْ فَرَضْنَا عَدَمَهُ لَارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ، وَذَلِكَ تَحَقَّقَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي دُونِ هَذَا أَوْ مِثْلِهِ : ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَهِدَ إلَيْنَا فِيهَا عَهْدًا نَنْتَهِي إلَيْهِ : الْجَدُّ، وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا.
فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ، وَفُرِضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، وَنَزَلَ سَحَرًا جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَصَلَّى بِهِ وَعَلَّمَهُ، ثُمَّ وَرَدَتْ الْآيَاتُ بِالْأَمْرِ بِهَا وَالْحَثِّ عَلَيْهَا ؛ فَكَانَتْ وَارِدَةً بِمَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ، وَسَقَطَ مَا ظَنَّهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمَوْهُومِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ :﴿ وَيُقِيمُونَ ﴾ : فِيهِ قَوْلَانِ :
الْأَوَّلُ : يُدِيمُونَ فِعْلَهَا فِي أَوْقَاتِهَا، مِنْ قَوْلِكَ : شَيْءٌ قَائِمٌ، أَيْ دَائِمٌ.
وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ يُقِيمُونَهَا بِإِتْمَامِ أَرْكَانِهَا وَاسْتِيفَاءِ أَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عُمَرُ بِقَوْلِهِ : مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي اشْتِقَاقِ النَّفَقَةِ ؛ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِتْلَافِ، وَلِتَأْلِيفِ " نَفَقَ " فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مَعَانٍ، أَصَحُّهَا الْإِتْلَافُ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا، يُقَالُ نَفِقَ الزَّادُ يَنْفَقُ إذَا فَنِيَ، وَأَنْفَقَهُ صَاحِبُهُ : أَفْنَاهُ، وَأَنْفَقَ الْقَوْمُ : فَنِيَ زَادُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :﴿ إذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي وَجْهِ هَذَا الْإِتْلَافِ ؛ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ بِالْمَدْحِ تَخَصَّصَ مِنْ إجْمَالِهِ جُمْلَةٌ. وَبَعْدَ ذَلِكَ التَّخْصِيصِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي : أَنَّهُ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ - قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.
الثَّالِثِ : صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ - قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
الرَّابِعِ : أَنَّهُ وَفَاءُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ الْعَارِضَةِ فِي الْمَالِ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مَا عَدَا الزَّكَاةَ. الْخَامِسِ : أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِالزَّكَاةِ.
( التَّوْجِيهُ ) أَمَّا وَجْهُ مَنْ قَالَ :" إنَّهُ الزَّكَاةُ " فَنَظَرَ إلَى أَنَّهُ قُرِنَ بِالصَّلَاةِ، وَالنَّفَقَةُ الْمُقْتَرِنَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ هِيَ الزَّكَاةُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ النَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِهِ فَلِأَنَّهُ أَفْضَلُ النَّفَقَةِ. رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ :«عِنْدِي دِينَارٌ : قَالَ : أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك قَالَ : عِنْدِي آخَرُ، قَالَ : أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ »، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَبَدَأَ بِالْأَهْلِ بَعْدَ النَّفْسِ.
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الصَّدَقَةَ عَلَى الْقَرَابَةِ صَدَقَةً وَصِلَةً.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَنَظَرَ إلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَأْتِي إلَّا بِلَفْظِهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا، وَهُوَ الزَّكَاةُ، فَإِذَا جَاءَتْ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ احْتَمَلَتْ الْفَرْضَ وَالتَّطَوُّعَ، وَإِذَا جَاءَتْ بِلَفْظِ الْإِنْفَاقِ لَمْ يَكُنْ إلَّا التَّطَوُّعُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ فِي الْحُقُوقِ الْعَارِضَةِ فِي الْأَمْوَالِ مَا عَدَا الزَّكَاةَ فَنَظَرَ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ كَانَ فَرْضًا، وَلَمَّا عَدَلَ عَنْ لَفْظِهَا كَانَ فَرْضًا سِوَاهَا.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ فَنَظَرَ إلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِهَذَا الْوَجْهِ فَرْضًا سِوَى الزَّكَاةِ، وَجَاءَتْ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ فَنَسَخَتْ كُلَّ صَدَقَةٍ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا نَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ، وَنَسَخَتِ الصَّلَاةُ كُلَّ صَلَاةٍ. وَنَحْوُ هَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ.
( التَّنْقِيحُ ) إذَا تَأَمَّلَ اللَّبِيبُ الْمُنْصِفُ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ تَحَقَّقَ أَنَّ الصَّحِيحَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ :﴿ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ : كُلُّ غَيْبٍ أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَائِنٌ. وَقَوْلُهُ :﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ﴾ : عَامٌّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا. وَقَوْلُهُ :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ عَامٌّ فِي كُلِّ نَفَقَةٍ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ هَذَا الْكَلَامِ الْقَضَاءُ بِفَرْضِيَّةِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا عَلِمْنَا الْفَرْضِيَّةَ فِي الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالنَّفَقَةِ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَهَذَا الْقَوْلُ بِمُطْلَقِهِ يَقْتَضِي مَدْحَ ذَلِكَ كُلِّهِ خَاصَّةً كَيْفَمَا كَانَتْ صِفَتُهُ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾.
الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانُ، وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ يَخْدَعُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَلَوْ عَرَفُوهُ لَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يُخْدَعُ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ.
وَالْحُكْمُ الْمُسْتَفَادُ هَاهُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُلْ الْمُنَافِقِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ وَقِيَامِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى أَكْثَرِهِمْ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ حَالَهُمْ سِوَاهُ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْتُلُ بِعِلْمِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ هَلْ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ أَمْ لَا ؟
الثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِمَصْلَحَةٍ وَتَأَلُّفِ الْقُلُوبِ عَلَيْهِ لِئَلَّا تَنْفِرَ عَنْهُ. وَقَدْ أَشَارَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ :«أَخَافُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ».
الثَّالِثُ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأَنَّ الزِّنْدِيقَ - وَهُوَ الَّذِي يُسِرُّ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ - يُسْتَتَابُ وَلَا يُقْتَلُ.
وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَتِبْهُمْ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ اسْتِتَابَةَ الزِّنْدِيقِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْرِضًا عَنْهُمْ، مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ، فَهَذَا الْمُتَأَخِّرُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي قَالَ : إنَّ اسْتِتَابَةَ الزِّنْدِيقِ جَائِزَةٌ، قَالَ مَا لَمْ يَصِحَّ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ، فَقَدْ قَتَلَ بِالْمُجَذِّرِ بْنِ زِيَادٍ - بِعِلْمِهِ - الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْد بْنِ الصَّامِتِ، لِأَنَّ الْمُجَذِّرَ قَتَلَ أَبَاهُ سُوَيْدًا يَوْمَ بُعَاثَ، فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ، وَأَغْفَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ الْحَارِثُ فَقَتَلَهُ، فَأَخْبَرَ بِهِ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ كَانَ غِيلَةً، وَقَتْلُ الْغِيلَةِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ تَأَلُّفًا وَمَخَافَةً مِنْ سُوءِ الْمَقَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّنْفِيرِ، كَمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ. وَهَذَا كَمَا كَانَ يُعْطِي الصَّدَقَةَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ تَأَلُّفًا لَهُمْ، أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْكَامَهُ عَلَى الْفَائِدَةِ الَّتِي سَنَّهَا إمْضَاءً لِقَضَايَاهُ بِالسُّنَّةِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا ﴾.
قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَوْ حَلَفَ رَجُلٌ لَا يَبِيتُ عَلَى فِرَاشٍ، وَلَا يَسْتَسْرِجُ سِرَاجًا، فَبَاتَ عَلَى الْأَرْضِ، وَجَلَسَ فِي الشَّمْسِ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا عُرْفًا.
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَبَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي الْأَيْمَانِ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى النِّيَّةِ، أَوْ السَّبَبِ، أَوْ الْبِسَاطِ، الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، فَإِنْ عَدِمَ ذَلِكَ فَالْعُرْفُ، وَبَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى مُطْلَقِ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ، وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ». وَهَذَا عَامٌّ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ اجْتَمَعَتْ فِيهِ فَائِدَتَانِ : إحْدَاهُمَا تَأْسِيسُ الْقَاعِدَةِ.
وَالثَّانِيَةُ : عُمُومُ اللَّفْظِ، فِي كُلِّ حُكْمٍ مَنْوِيٍّ. وَاَلَّذِي يَقُولُ إنَّهُ إنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْتَرِشَ فِرَاشًا وَقَصَدَ بِيَمِينِهِ الِاضْطِجَاعَ، أَوْ حَلَفَ أَلَّا يَسْتَصْبِحَ، وَنَوَى أَلَّا يَنْضَافَ إلَى نُورِ عَيْنَيْهِ نُورٌ يَعْضُدُهُ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِافْتِرَاشِ الْأَرْضِ، وَالتَّنُّورِ بِالشَّمْسِ، وَهَذَا حُكْمٌ جَارٍ عَلَى الْأَصْلِ.
الْآيَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْبِشَارَةُ هِيَ : الْإِخْبَارُ عَنْ الْمَحْبُوبِ، وَالنِّذَارَةُ هِيَ : الْإِخْبَارُ بِالْمَكْرُوهِ، وَذَلِكَ فِي الْبِشَارَةِ يَقْتَضِي أَوَّلَ مُخْبِرٍ بِالْمَحْبُوبِ، وَيَقْتَضِي فِي النِّذَارَةِ كُلَّ مُخْبِرٍ. وَتَرَتَّبَ عَلَى هَذَا مَسْأَلَةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ قَوْلُ الْمُكَلَّفِ : مَنْ بَشَّرَنِي مِنْ عَبِيدِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ.
فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مُخْبِرٍ لَهُ بِهِ يَكُونُ عَتِيقًا دُونَ الثَّانِي.
وَلَوْ قَالَ : مَنْ أَخْبَرَنِي مِنْ عَبِيدِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ، فَهَلْ يَكُونُ الثَّانِي مِثْلَ الْأَوَّلِ أَمْ لَا ؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ؛ فَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : يَكُونُ حُرًّا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ. وَعِنْدَ عُلَمَائِنَا لَا يَكُونُ بِهِ حُرًّا ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ إنَّمَا قَصَدَ خَبَرًا يَكُونُ بِشَارَةً، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ عُرْفًا، فَوَجَبَ صَرْفُ اللَّفْظِ إلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ فَاسْتَعْمَلَ الْبِشَارَةَ فِي الْمَكْرُوهِ. فَالْجَوَابُ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ كَانَ نَظَرُهُمْ لِلْبُشْرَى، فَقِيلَ لَهُمْ : بِشَارَتُكُمْ عَلَى مُقْتَضَى اعْتِقَادِكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. فَخَرَجَ اللَّفْظُ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ كَانَ نَظَرٌ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾.
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾.
الْعَهْدُ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدِهِمَا : فِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَالْآخَرُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، فَأَمَّا الَّذِي فِيهِ الْكَفَّارَةُ فَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ الشَّيْءِ أَوْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْعَهْدُ الثَّانِي : فَهُوَ الْعَقْدُ الَّذِي يَرْتَبِطُ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ فِي الشَّرِيعَةِ وَيَلْزَمُ فِي الْحُكْمِ، إمَّا عَلَى الْخُصُوصِ بَيْنَهُمَا، وَإِمَّا عَلَى الْعُمُومِ عَلَى الْخَلْقِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ حَلُّهُ، وَلَا يَحِلُّ نَقْضُهُ، وَلَا تَدْخُلُهُ كَفَّارَةٌ، وَهُوَ الَّذِي يُحْشَرُ نَاكِثُهُ غَادِرًا، يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، يُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَيَقُولُ : الْعَهْدُ بِالْيَمِينِ، لَمْ يَجُزْ حَلُّهُ لِأَجْلِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ﴾ وَهَذَا مَا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾.
لَمْ تَزَلْ هَذِهِ الْآيَةُ مَخْبُوءَةً تَحْتَ أَسْتَارِ الْمَعْرِفَةِ حَتَّى هَتَكَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِفَضْلِهِ لَنَا، وَقَدْ تَعَلَّقَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِهَا فِي أَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ، إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ بِالْحَظْرِ، وَاغْتَرَّ بِهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَتَابَعَهُمْ عَلَيْهِ.
وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِمَا الْإِشَارَةُ إلَيْهِ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا عَلَى الْحَظْرِ حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ.
الثَّانِي أَنَّهَا كُلُّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلُ الْحَظْرِ.
الثَّالِثُ أَنْ لَا حُكْمَ لَهَا حَتَّى يَأْتِيَ الدَّلِيلُ بِأَيِّ حُكْمٍ اُقْتُضِيَ فِيهَا.
وَاَلَّذِي يَقُولُ بِأَنَّ أَصْلَهَا إبَاحَةٌ أَوْ حَظْرٌ اخْتَلَفَ مَنْزَعُهُ فِي دَلِيلِ ذَلِكَ ؛ فَبَعْضُهُمْ تَعَلَّقَ فِيهِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَعَلَّقَ بِالشَّرْعِ.
وَاَلَّذِي يَقُولُ : إنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ الشَّرْعُ قَالَ : الدَّلِيلُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْإِبَاحَةِ قَوْله تَعَالَى :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ فَهَذَا سِيَاقُ الْقَوْلِ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَى الْآيَةِ.
فَأَمَّا سَائِرُ الْأَقْسَامِ الْمُقَدَّمَةِ فَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ لِلشَّرْعِ ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْإِبَاحَةِ وَدَلِيلِهَا مَدْخَلٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مُحَصِّلٌ.
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي مَعْرِضِ الدَّلَالَةِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى طَرِيقِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَتَصْرِيفِ الْمَخْلُوقَاتِ بِمُقْتَضَى التَّقْدِيرِ وَالْإِتْقَانِ بِالْعِلْمِ وَجَرَيَانِهَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِحُكْمِ الْإِرَادَةِ. وَعَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ عَلَى جَهَالَتِهِمْ بِهَا، فَقَالَ :﴿ أَئِِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِاَلَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾.
فَخَلْقُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَرْضَ، وَإِرْسَاؤُهَا بِالْجِبَالِ، وَوَضْعُ الْبَرَكَةِ فِيهَا، وَتَقْدِيرُ الْأَقْوَاتِ بِأَنْوَاعِ الثَّمَرَاتِ وَأَصْنَافِ النَّبَاتِ إنَّمَا كَانَ لِبَنِي آدَمَ ؛ تَقْدِمَةً لِمَصَالِحِهِمْ، وَأُهْبَةً لِسَدِّ مَفَاقِرِهِمْ، فَكَانَ قَوْله تَعَالَى :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ مُقَابَلَةَ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ ؛ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْقُدْرَةِ الْمُهَيِّئَةِ لَهَا لِلْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ إنَّمَا هُوَ لِحَاجَةِ الْخَلْقِ ؛ وَالْبَارِئُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْهُ مُتَفَضِّلٌ بِهِ، وَلَيْسَ فِي الْإِخْبَارِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا يَقْتَضِي حُكْمَ الْإِبَاحَةِ، وَلَا جَوَازَ التَّصَرُّفِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أُبِيحَ جَمِيعُهُ جَمِيعَهُمْ جُمْلَةً مَنْثُورَةَ النِّظَامِ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى قَطْعِ الْوَصَائِلِ وَالْأَرْحَامِ، وَالتَّهَارُشِ فِي الْحُطَامِ. وَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَ الْمِلْكِ، وَشَرَحَ لَهُمْ مَوْرِدَ الِاخْتِصَاصِ، وَقَدْ اقْتَتَلُوا وَتَهَارَشُوا وَتَقَاطَعُوا ؛ فَكَيْفَ لَوْ شَمَلَهُمْ التَّسَلُّطُ وَعَمَّهُمْ الِاسْتِرْسَالُ ؛ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ - إذَا سَمِعُوا هَذَا النِّدَاءَ - أَنْ يَخِرُّوا سُجَّدًا ؛ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الْحُرْمَةِ لِحَقِّ مَا ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ، ثُمَّ يَتَوَكَّفُوا بَعْدَ ذَلِكَ سُؤَالَ وَجْهِ الِاخْتِصَاصِ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِتِلْكَ الْمَنْفَعَةِ.
وَنَظِيرُ هَذَا مِنْ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ الْخَلْقِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ لِتَفْهِيمِ الْحَقِّ مَا قَالَ حَكِيمٌ لِبَنِيهِ : قَدْ أَعْدَدْت لَكُمْ مَا عِنْدِي مِنْ كُرَاعٍ وَسِلَاحٍ وَمَتَاعٍ وَعَرَضٍ وَقَرْضٍ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْهِ كَيْفَ شَاءُوا حَتَّى يَكُونَ مِنْهُ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ اخْتِصَاصِهِمْ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ - يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ، فَلَا يَصِلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَيْهِ إلَّا بِتِبْيَانِ حَظِّهِ مِنْهُ وَتَعْيِينِ اخْتِصَاصِهِ بِهِ.
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ ﴾.
اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لِآدَمَ لَمْ يَكُنْ سُجُودَ عِبَادَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا سَلَامُ الْأَعَاجِمِ بِالتَّكَفِّي وَالِانْحِنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، وَإِمَّا وَضْعُهُ قِبْلَةً كَالسُّجُودِ لِلْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ الْأَقْوَى ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى :﴿ فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾. وَلَمْ يَكُنْ عَلَى مَعْنَى التَّعْظِيمِ ؛ وَإِنَّمَا صَدَرَ عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ لِلْعِبَادَةِ، وَاِتِّخَاذِهِ قِبْلَةً، وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ.
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : جَاءَ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ أَنَّ إبْلِيسَ حَاوَلَ آدَمَ عَلَى أَكْلِهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَحَاوَلَ حَوَّاءَ، فَخَدَعَهَا فَأَكَلَتْ فَلَمْ يُصِبْهَا مَكْرُوهٌ، فَجَاءَتْ آدَمَ فَقَالَتْ لَهُ : إنَّ الَّذِي تَكْرَهُ مِنْ الْأَكْلِ قَدْ أَتَيْته فَمَا نَالَنِي مَكْرُوهٌ. فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ آدَم اغْتَرَّ فَأَكَلَ، فَحَلَّتْ بِهِمَا النِّقْمَةُ وَالْعُقُوبَةُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ :﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾ فَجَمَعَهُمَا فِي النَّهْيِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْزِلْ بِهِمَا الْعُقُوبَةُ حَتَّى وُجِدَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا.
وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ أَوْ أَمَتَيْهِ : إنْ دَخَلْتُمَا عَلَيَّ الدَّارَ فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ أَوْ حُرَّتَانِ - أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ لَا يَقَعُ بِدُخُولِ إحْدَاهُمَا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَا تَطْلُقَانِ وَلَا تُعْتَقَانِ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الدَّارِ فِي الدُّخُولِ، حَمْلًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَأَخْذًا بِمُقْتَضَى مُطْلَقِ اللَّفْظِ.
وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى : تُعْتَقَانِ جَمِيعًا، وَتَطْلُقَانِ جَمِيعًا بِوُجُودِ الدُّخُولِ مِنْ إحْدَاهُمَا ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْحِنْثِ حِنْثٌ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ أَحَدِهِمَا، بَلْ بِأَكْلِ لُقْمَةٍ مِنْهُمَا حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْمَسَائِلِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ : تُعْتَقُ وَتَطْلُقُ الَّتِي دَخَلَتْ وَحْدَهَا ؛ لِأَنَّ دُخُولَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَرْطٌ فِي طَلَاقِهَا أَوْ عِتْقِهَا.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إنْ وَضَعْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهِيَ حَامِلٌ، فَوَضَعَتْ وَلَدًا، وَبَقِيَ فِي بَطْنِهَا آخَرُ : إنَّهَا لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَضَعَ الْآخَرَ. وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى : تَطْلُقُ بِوَضْعِ الْأَوَّلِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْيَمِينَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا نِيَّةٌ وَبِسَاطٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَوْ بِسَاطٌ أَوْ نِيَّةٌ، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ أَشْهَبَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ عُلَمَائِنَا اخْتِلَافَ حَالٍ لَا اخْتِلَافَ قَوْلٍ ؛ فَأَمَّا الْحُكْمُ بِطَلَاقِهِمَا أَوْ عِتْقِهِمَا مَعًا بِدُخُولِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَبَعِيدٌ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ شَرْطًا إجْمَاعًا، وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالْحِنْثِ بِأَكْلِ بَعْضِ الرَّغِيفَيْنِ ؛ فَلِأَنَّهُ مَحْلُوفٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُ الْحِنْثِ حِنْثٌ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الِاجْتِنَابَ الَّذِي عَقَدَهُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾.
اخْتَلَفَ النَّاسُ كَيْفَ أَكَلَ آدَمُ مِنْ الشَّجَرَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلِ - أَنَّهُ أَكَلَهَا سَكْرَانَ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ.
الثَّانِي - أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ جِنْسِ الشَّجَرَةِ لَا مِنْ عَيْنِهَا، كَأَنَّ إبْلِيسَ غَرَّهُ بِالْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ، وَهِيَ أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ عَصَى اللَّهَ بِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَاجْتَنِبُوهُ ؛ فَإِنَّ فِي اتِّبَاعِ الظَّاهِرِ عَلَى وَجْهِهِ هَدْمَ الشَّرِيعَةِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ، وَخُصُوصًا فِي كِتَابِ النَّوَاهِي عَنْ الدَّوَاهِي.
الثَّالِثِ - أَنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ دُونَ التَّحْرِيمِ.
الرَّابِعِ - أَنَّهُ أَكَلَ مُتَأَوِّلًا ؛ لِرَغْبَةِ الْخُلْدِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْوِيلُ مَا يَعُودُ عَلَى الْمُتَأَوِّلِ بِالْإِسْقَاطِ.
الْخَامِسِ - أَنَّهُ أَكَلَ نَاسِيًا.
فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ أَكَلَهَا سَكْرَانَ فَتَعَلَّقَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ فِي أَنَّ أَفْعَالَ السَّكْرَانِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْأَحْكَامِ وَالْعُقُوبَاتِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِي فِعْلٍ ؛ بَلْ يَلْزَمُهُ حُكْمُ كُلِّ فِعْلٍ، كَمَا يَلْزَمُ الصَّاحِي، كَمَا أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ حُكْمَ الْخِلَافِ فِي الْمَعْصِيَةِ مَعَ السُّكْرِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي أَفْعَالِ السَّكْرَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ. الثَّانِي أَنَّهَا لَغْوٌ. الثَّالِثِ أَنَّ الْعُقُودَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ كَالنِّكَاحِ، وَأَنَّ الْحِلَّ مُعْتَبَرٌ كَالطَّلَاقِ، وَلِذَا إذَا أَكَلَ مِنْ جِنْسِهَا فَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ فَأَكَلَ مِنْ جِنْسِهِ حَنِثَ. وَتَحْقِيقُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا : لَا حِنْثَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ : إنْ اقْتَضَى بِسَاطُ الْيَمِينِ تَعْيِينَ الْمُشَارِ إلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ جِنْسِهِ، وَإِنْ اقْتَضَى بِسَاطُ الْيَمِينِ أَوْ سَبَبُهَا أَوْ نِيَّتُهَا الْجِنْسَ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَحَنِثَ بِأَكْلِ غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ حُمِلَتْ قِصَّةُ آدَمَ ؛ فَإِنَّهُ نُهِيَ عَنْ شَجَرَةٍ عُيِّنَتْ لَهُ، وَأُرِيدَ بِهِ جِنْسُهَا، فَحَمَلَ الْقَوْلَ عَلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي فَرْعٍ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ هَذِهِ الْحِنْطَةَ فَأَكَلَ خُبْزًا مِنْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ :
فَقَالَ فِي الْكِتَابِ : إنَّهُ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهَا هَكَذَا تُؤْكَلُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ حِنْطَةً، وَإِنَّمَا أَكَلَ خُبْزًا، فَرَاعَى الِاسْمَ وَالصِّفَةَ.
وَلَوْ قَالَ فِي يَمِينِهِ : لَا آكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَحَنِثَ بِأَكْلِ الْخُبْزِ الْمَعْمُولِ مِنْهَا.
وَأَمَّا حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ فَهِيَ - وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ - وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا، فَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ هَاهُنَا فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ ﴾ فَقَرَنَ النَّهْيَ بِالْوَعِيدِ ؛ وَلَا خِلَافَ مَعَ ذَلِكَ فِيهِ. وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ لَا تَأْكُلْهَا فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ، وَيَرْجُو أَنْ يَكُونَ مِنْ الْخَالِدِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُ أَكَلَهَا نَاسِيًا فَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ طَه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
( التَّنْقِيحُ ) أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ آدَمَ أَكَلَهَا سَكْرَانَ فَفَاسِدٌ نَقْلًا وَعَقْلًا : أَمَّا النَّقْلُ فَلِأَنَّ هَذَا لَمْ يَصِحَّ بِحَالٍ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا الْكَرْمُ، فَكَيْفَ يُنْهَى عَنْهَا وَيُوقِعُهُ الشَّيْطَانُ فِيهَا، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ خَمْرَ الْجَنَّةِ بِأَنَّهَا لَا غَوْلٌ فِيهَا، فَكَيْفَ تُوصَفُ بِغَيْرِ صِفَتِهَا الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَنْهَا فِي الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مُنَزَّهُونَ عَمَّا يُؤَدِّي إلَى الْإِخْلَالِ بِالْفَرَائِضِ وَاقْتِحَامِ الْجَرَائِمِ.
وَأَمَّا سَائِرُ التَّوْجِيهَاتِ فَمُحْتَمَلَةٌ، وَأَظْهَرُهَا الثَّانِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾.
كَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالرُّكُوعِ أَمْرٌ بِمَعْلُومٍ مُتَحَقِّقٍ سَابِقٍ لِلْفِعْلِ بِالْبَيَانِ، وَخَصَّ الرُّكُوعَ لِأَنَّهُ كَانَ أَثْقَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ.
وَقِيلَ : إنَّهُ الِانْحِنَاءُ لُغَةً، وَذَلِكَ يَعُمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَقَدْ كَانَ الرُّكُوعُ أَثْقَلَ شَيْءٍ عَلَى الْقَوْمِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ مَنْ أَسْلَمَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَى أَلَّا أَخُرَّ إلَّا قَائِمًا، فَمَنْ تَأَوَّلَهُ : عَلَى أَلَّا أَرْكَعَ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ مِنْ قَلْبِهِ اطْمَأَنَّتْ بِذَلِكَ نَفْسُهُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا أُمِرُوا بِالزَّكَاةِ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ مِنْ الْأَدْيَانِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ :«وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا » ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مِقْدَارَ الْجُزْءِ الَّذِي يَلْزَمُ بَذْلُهُ مِنْ الْمَالِ.
وَالزَّكَاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ النَّمَاءِ، يُقَالُ : زَكَا الزَّرْعِ إذَا نَمَا، وَمَأْخُوذَةٌ مِنْ الطَّهَارَةِ، يُقَالُ : زَكَا الرَّجُلُ، إذَا تَطَهَّرَ عَنْ الدَّنَاءَاتِ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾.
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : قِيلَ لَهُمْ قُولُوا حِطَّةٌ، فَقَالُوا : سُقماثاه أزه هَذْبًا، مَعْنَاهُ حَبَّةٌ مَقْلُوَّةٌ فِي شَعْرَةٍ مَرْبُوطَةٍ، اسْتِخْفَافًا مِنْهُمْ بِالدِّينِ وَمُعَانَدَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَقِّ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ : إنَّ هَذَا الذَّمَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَبْدِيلَ الْأَقْوَالِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ.
وَهَذَا الْإِطْلَاقُ فِيهِ نَظَرٌ ؛ وَسَبِيلُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنْ نَقُولَ : إنَّ الْأَقْوَالَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فِي الشَّرِيعَةِ لَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ التَّعَبُّدُ بِلَفْظِهَا، أَوْ يَقَعَ التَّعَبُّدُ بِمَعْنَاهَا، فَإِنْ كَانَ التَّعَبُّدُ وَقَعَ بِلَفْظِهَا فَلَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا. وَإِنْ وَقَعَ التَّعَبُّدُ بِمَعْنَاهَا جَازَ تَبْدِيلُهَا بِمَا يُؤَدِّي ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا بِمَا يَخْرُجُ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا تَبْدِيلَ إلَّا بِاجْتِهَادٍ.
وَمِنْ الْمُسْتَقِلِّ بِالْمَعْنَى الْمُسْتَوْفِي لِذَلِكَ الْعَالِمِ بِأَنَّ اللَّفْظَيْنِ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ الْمَحْمُولُ عَلَيْهِ طِبْقُ الْمَعْنَى. وَبَنُو إسْرَائِيلَ قِيلَ لَهُمْ قُولُوا : حِطَّةٌ، أَيْ اللَّهُمَّ اُحْطُطْ عَنَّا ذُنُوبَنَا. فَقَالُوا اسْتِخْفَافًا : حَبَّةٌ مَقْلُوَّةٌ فِي شَعْرَةٍ فَبَدَّلُوهُ بِمَا لَا يُعْطِي مَعْنَاهُ.
وَلَوْ بَدَّلُوهُ بِمَا لَا يُعْطَى مَعْنَاهُ جِدًّا لَمْ يَجُزْ ؛ فَهَذَا أَعْظَمُ فِي الْبَاطِلِ وَهُوَ الْمَمْنُوعُ الْمَذْمُومُ مِنْهُمْ.
وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَعْنَى نَقْلُ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ لَفْظِهِ إذَا أَدَّى مَعْنَاهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ؛ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ جَوَازُهُ ؛ قَالَ : لَيْسَ كُلُّ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَنْقُلُهُ إِلًيْكُمْ بِلَفْظِهِ ؛ حَسْبُكُمْ الْمَعْنَى.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ وَأَذْكُرُ لَكُمْ فِيهِ فَصْلًا بَدِيعًا ؛ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ إنَّمَا يَكُونُ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَمِنْهُمْ، وَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ تَبْدِيلُ اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى، وَإِنْ اسْتَوْفَى ذَلِكَ الْمَعْنَى ؛ فَإِنَّا لَوْ جَوَّزْنَاهُ لِكُلِّ أَحَدٍ لَمَا كُنَّا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ الْأَخْذِ بِالْحَدِيثِ ؛ إذْ كُلُّ أَحَدٍ إلَى زَمَانِنَا هَذَا قَدْ بَدَّلَ مَا نَقَلَ، وَجَعَلَ الْحَرْفَ بَدَلَ الْحَرْفِ فِيمَا رَوَاهُ ؛ فَيَكُونُ خُرُوجًا مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْجُمْلَةِ. وَالصَّحَابَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُمْ اجْتَمَعَ فِيهِمْ أَمْرَانِ عَظِيمَانِ أَحَدُهُمَا : الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ ؛ إذْ جِبِلَّتُهُمْ عَرَبِيَّةٌ، وَلُغَتُهُمْ سَلِيقَةٌ.
وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ شَاهَدُوا قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلَهُ، فَأَفَادَتْهُمْ الْمُشَاهَدَةُ عَقْلَ الْمَعْنَى جُمْلَةً، وَاسْتِيفَاءَ الْمَقْصِدِ كُلِّهِ ؛ وَلَيْسَ مَنْ أَخْبَرَ كَمَنْ عَايَنَ.
أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ : أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَذَا، وَلَا يَذْكُرُونَ لَفْظَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ خَبَرًا صَحِيحًا وَنَقْلًا لَازِمًا ؛ وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَرِيبَ فِيهِ مُنْصِفٌ لِبَيَانِهِ. ّ
الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ :﴿ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ ﴾.
هَذِهِ الْآيَةُ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ، مُشْكِلَةٌ فِي النَّظَرِ ؛ لِتَعَلُّقِهَا بِالْأُصُولِ وَمِنْ الْفُرُوعِ بِالْكَلَامِ فِي الدَّمِ، وَفِي كُلِّ فَصْلٍ إشْكَالٌ، وَذَلِكَ يَنْحَصِرُ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ ذَلِكَ : رُوِيَ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا مَنْ قَتَلَ رَجُلًا غِيلَةً بِسَبَبٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ؛ وَطَرَحَهُ بَيْنَ قَوْمٍ، وَكَانَ قَرِيبُهُ، فَادَّعَى بِهِ عَلَيْهِمْ، تَرَافَعُوا إلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ الْقَاتِلُ : قَتَلَ قَرِيبِي هَذَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ، وَقَدْ وَجَدْتُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَانْتَفُوا مِنْ ذَلِكَ، وَسَأَلُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِرَغْبَةٍ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي تَبْيِينِ الْحَقِّ لَهُمْ ؛ فَدَعَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ تَعَالَى ؛ فَأَمَرَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ وَأَخْذِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا يُضْرَبُ بِهِ الْمَيِّتُ فَيَحْيَا فَيُخْبِرُهُمْ بِقَاتِلِهِ ؛ فَسَأَلُوا عَنْ أَوْصَافِهَا وَشَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْتَهَوْا إلَى صِفَتِهَا الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ، فَطَلَبُوا تِلْكَ الْبَقَرَةَ فَلَمْ يَجِدُوهَا إلَّا عِنْدَ رَجُلٍ بَرٍّ بِأَبَوَيْهِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا ؛ فَطَلَبَ مِنْهُمْ فِيهَا مِسْكَهَا مَمْلُوءًا ذَهَبًا، فَبَذَلُوهُ فِيهَا، فَاسْتَغْنَى ذَلِكَ الرَّجُلُ بَعْدَ فَقْرِهِ، وَذَبَحُوهَا فَضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا، فَقَالَ : فُلَانٌ قَتَلَنِي، لِقَاتِلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْحَدِيثِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ : كَثُرَ اسْتِرْسَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُمْ فِي كُلِّ طَرِيقٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ ». وَمَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ بِمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَقِصَصِهِمْ لَا بِمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ أَخْبَارَهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْعَدَالَةِ وَالثُّبُوتِ إلَى مُنْتَهَى الْخَبَرِ، وَمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إقْرَارِ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ قَوْمِهِ ؛ فَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ. وَإِذَا أَخْبَرُوا عَنْ شَرْعٍ لَمْ يَلْزَمْ قَوْلُهُ ؛ فَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :«رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُمْسِكُ مُصْحَفًا قَدْ تَشَرَّمَتْ حَوَاشِيهِ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قُلْت : جُزْءٌ مِنْ التَّوْرَاةِ ؛ فَغَضِبَ وَقَالَ : وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَخْبَرَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ حُكْمٍ جَرَى فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ يَلْزَمُنَا حُكْمُهُ أَمْ لَا ؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ تُلَقَّبُ بِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ هَلْ هُوَ شَرْعٌ لَنَا حَتَّى يَثْبُتَ نَسْخُهُ أَمْ لَا ؟ فِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا وَلِنَبِيِّنَا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالشَّرِيعَةِ مَعَنَا، وَبِهِ قَالَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ ؛ وَاخْتَارَهُ الْكَرْخِيُّ وَنَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ بُكَيْر الْقَاضِي مِنْ عُلَمَائِنَا.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ : هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَالِكٍ وَمَنَازِعُهُ فِي كُتُبِهِ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الثَّانِي : أَنَّ التَّعَبُّدَ وَقَعَ بِشَرْعِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. الثَّالِثُ : أَنَّا تَعَبَّدْنَا بِشَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الرَّابِعُ : أَنَّا تَعَبَّدْنَا بِشَرْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الْخَامِسُ : أَنَّا لَمْ نَتَعَبَّدْ بِشَرْعِ أَحَدٍ، وَلَا أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِلَّةِ بَشَرٍ، وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَمَا مِنْ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إلَّا وَقَدْ نَزَعَ فِيهِ بِآيَةٍ، وَتَلَا فِيهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَرْفًا ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّحِيحَ الْقَوْلُ بِلُزُومِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا لَنَا مِمَّا أَخْبَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ دُونَ مَا وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ غَيْرِهِ، لِفَسَادِ الطُّرُقِ إلَيْهِمْ ؛ وَهَذَا هُوَ صَرِيحُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أُصُولِهِ كُلِّهَا، وَسَتَرَاهَا مَوْرُودَةً بِالتَّبْيِينِ حَيْثُ تَصَفَّحْتَ الْمَسَائِلَ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا أَوْ غَيْرِهِ.
وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا عَنْ قَصَصِ النَّبِيِّينَ، فَمَا كَانَ مِنْ آيَاتِ الِازْدِجَارِ وَذِكْرِ الِاعْتِبَارِ فَفَائِدَتُهُ الْوَعْظُ، وَمَا كَانَ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ فَالْمُرَادُ بِهِ الِامْتِثَالُ لَهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ ﴾. فَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ، وَبِهَذَا يَقَعُ الرَّدُّ عَلَى ابْنِ الْجُوَيْنِيِّ حَيْثُ قَالَ : إنَّ نَبِيَّنَا لَمْ يُسْمَعْ قَطُّ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا بَاحَثَهُمْ عَنْ حُكْمٍ، وَلَا اسْتَفْهَمَهُمْ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لِفَسَادِ مَا عِنْدَهُمْ. أَمَّا الَّذِي نَزَلَ بِهِ عَلَيْهِ الْمَلَكُ فَهُوَ الْحَقُّ الْمُفِيدُ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَلَا مَعْنَى لَهُ غَيْرُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا ضَرَبَ بَنُو إسْرَائِيلَ الْمَيِّتَ بِتِلْكَ الْقِطْعَةِ مِنْ الْبَقَرَةِ قَالَ : دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ ؛ فَتَعَيَّنَ قَتْلُهُ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقَسَامَةِ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ : دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ بِهَذَا، وَقَالَ مَالِكٌ : هَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَ الْمَيِّتِ : دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ مَقْبُولٌ وَيُقْسِمُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ هَذَا آيَةً وَمُعْجِزَةً عَلَى يَدِي مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ. قُلْنَا : الْآيَةُ وَالْمُعْجِزَةُ إنَّمَا كَانَتْ فِي إحْيَاءِ الْمَيِّتِ، فَلَمَّا صَارَ حَيًّا كَانَ كَلَامُهُ كَسَائِرِ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ كُلِّهِمْ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، وَهَذَا فَنٌّ دَقِيقٌ مِنْ الْعِلْمِ لَا يَتَفَطَّنُ لَهُ إلَّا مَالِكٌ. وَلَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُقْسِطِ فِي ذِكْرِ الْمُعْجِزَاتِ وَشُرُوطِهَا. فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّمَا قَتَلَهُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْآيَةِ.
قُلْنَا : لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ وَجَبَ صِدْقُهُ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْقَسَامَةِ مَعَهُ، أَوْ صَدَّقَهُ جِبْرِيلُ فَقَتَلَهُ مُوسَى بِعِلْمِهِ، كَمَا قَتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْد، بِالْمُجَذَّرِ بْنِ زِيَادٍ بِإِخْبَارِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ بِذَلِكَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كُبْرَى قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا. وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَفِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ، حَدِيثَ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ قَالَ فِيهِ : فَتَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَذَكَرَهُ إلَى قَوْلِهِ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ : أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ.
وَفِي مُسْلِمٍ : يَحْلِفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ إلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا بِالْقَسَامَةِ مِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : نُسْخَةُ عَمْرو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَاسْتَبْعَدَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وقَالُوا :«كَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الدَّمِ، وَهُوَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دِرْهَمٍ ».
وَإِنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِالْقَسَامَةِ الدِّيَةُ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا الْجَوَابَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي مَوْضِعِهِ، وَنُشِيرُ إلَيْهِ الْآنَ بِوَجْهَيْنِ :
أَحَدِهِمَا : أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الَّتِي تَمْضِي وَتَرِدُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا وَلَا تَنَاقُضَ فِيهَا، وَقَدْ تَلَوْنَا أَحَادِيثَهَا.
الثَّانِي : أَنَّهُ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ : لَا يُقْبَلُ فِي دِرْهَمٍ قَدْ قُلْتُمْ إنَّ قَتِيلَ الْمَحَلَّةِ يُقْسَمُ فِيهِ عَلَى الدِّيَةِ، وَلَيْسَ هُنَالِكَ قَوْلٌ لِأَحَدٍ، وَإِنَّمَا هِيَ حَالَةٌ مُحْتَمِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ وَيَجْعَلَهُ عِنْدَ دَارِ آخَرَ ؛ بَلْ هَذَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، وَبَاقِي النَّظَرِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ مُسْتَطَرٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى حَصْرِ الْحَيَوَانِ فِي الْمُعَيَّنِ بِالصِّفَةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ : لَا يُحْصَرُ الْحَيَوَانُ بِصِفَةٍ وَلَا يَتَعَيَّنُ بِحِلْيَةٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّا
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ﴾.
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ فِي قَصَصِ هَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ سُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا : الْجَرَادَةُ، تَكْرُمُ عَلَيْهِ وَيَهْوَاهَا، فَاخْتَصَمَ أَهْلُهَا مَعَ قَوْمٍ فَكَانَ صَغْوُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِأَهْلِ الْجَرَادَةِ، فَعُوقِبَ، وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ أَوْ يَخْلُو بِإِحْدَى نِسَائِهِ أَعْطَاهَا خَاتَمَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ يَوْمًا فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى صُورَتَهُ عَلَى شَيْطَانٍ، فَجَاءَهَا فَأَخَذَ الْخَاتَمَ فَلَبِسَهُ، وَدَانَتْ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ لَهُ، وَجَاءَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ يَطْلُبُهُ، فَقَالَتْ : أَلَمْ تَأْخُذْهُ ؟ فَعَلِمَ أَنَّهُ اُبْتُلِيَ، وَعَلِمَتْ الشَّيَاطِينُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُومُ لَهَا ؛ فَاغْتَنَمَتْ الْفُرْصَةَ فَوَضَعَتْ أَوْضَاعًا مِنْ السِّحْرِ وَالْكُفْرِ وَفُنُونًا مِنْ النَّيْرَجَاتِ وَسَطَّرُوهَا فِي مَهَارِقَ، وَقَالُوا : هَذَا مَا كَتَبَ آصَفُ بْنُ بَرْخِيَا كَاتِبُ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ، فَدَفَنُوهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ : وَعَادَ سُلَيْمَانُ إلَى حَالِهِ، وَاسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَقَالَتْ الشَّيَاطِينُ لِلنَّاسِ : إنَّمَا كَانَ سُلَيْمَانُ يَمْلِكُكُمْ بِأُمُورٍ أَكْثَرُهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فِيهَا عُلُومٌ غَرِيبَةٌ ؛ فَدُونَكُمْ فَاحْتَفِرُوا عَلَيْهَا، فَفَعَلُوا وَاسْتَثَارُوهَا، فَنَفَذَ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ فَصَارَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَتَنَاقَلَتْهُ الْكَفَرَةُ وَالْفَلَاسِفَةُ عَنْهُمْ حَتَّى وَصَلَ ذَلِكَ إلَى يَهُودِ الْحِجَازِ، فَكَانُوا يَعْمَلُونَهُ وَيُعَلِّمُونَهُ وَيُصَرِّفُونَهُ فِي حَوَائِجِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ ؛ وَكَانُوا بَيْنَ جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ وَأُمَّةٍ عَمْيَاءَ ؛ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ، وَنَوَّرَ الْقُلُوبَ، وَكَشَفَ قِنَاعَ الْأَلْبَابِ، لَجَأَتْ الْيَهُودُ إلَى أَنْ تُعَلِّقَ مَا كَانَ عِنْدَهَا مِنْ ذَلِكَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَزْعُمُ أَنَّهُ مِمَّا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى سُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ حَمَلَ قَوْمًا قَبْلَ الْبَعْثِ عَلَى أَنْ يَتَبَرَّءُوا مِنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا مِمَّا فِيهِ الْحَرَجُ فِي ذِكْرِهِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا أَذِنَ لَنَا أَنْ نَتَحَدَّثَ عَنْهُمْ فِي حَدِيثٍ يَعُودُ إلَيْهِمْ، وَمَا كُنَّا لِنَذْكُرَ هَذَا لَوْلَا أَنَّ الدَّوَاوِينَ قَدْ شُحِنَتْ بِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ صَغُوهُ صِحَّةَ الْحُكْمِ لِقَوْمِ الْجَرَادَةِ، فَبَاطِلٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ إجْمَاعًا فَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ بِاتِّفَاقٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ بِأَنَّ شَيْطَانًا تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ مَلَكٍ أَوْ نَبِيٍّ، فَأَخَذَ الْخَاتَمَ، فَبَاطِلٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَتَصَوَّرُ عَلَى صُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ النَّبِيِّ.
وَأَمَّا دَفْنُهَا تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيُمْكِنُ أَلَّا يَعْلَمَ بِذَلِكَ وَتَبْقَى حَتَّى يُفْتَتَنَ بِهَا الْخَلْقُ بَعْدَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَذَهَا وَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سِحْرًا، أَمَّا لَوْ عَلِمَ أَنَّهَا سِحْرٌ فَحَقُّهَا أَنْ تُحْرَقَ أَوْ تُغْرَقَ، وَلَا تَبْقَى عُرْضَةً لِلنَّقْلِ وَالْعَمَلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاتَّبَعُوا ﴾ : قِيلَ : يَهُودُ زَمَانِ سُلَيْمَانَ، وَقِيلَ يَهُودُ زَمَانِنَا، وَاللَّفْظُ فِيهِمْ عَامٌّ، وَلِجَمِيعِهِمْ مُحْتَمِلٌ، وَقَدْ كَانَ الْكُلُّ مِنْهُمْ مُتَّبِعًا لِهَذَا الْبَاطِلِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ ﴾.
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَرْفِ ( مَا ) : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ نَفْيٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَفْعُولٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ نَفْيٌ، لَا فِي نِظَامِ الْكَلَامِ، وَلَا فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى، وَلَا يَتَعَلَّقُ مِنْ كَوْنِهِ مَفْعُولًا سِيَاقُ الْكَلَامِ بِمُحَالٍ عَقْلًا وَلَا يَمْتَنِعُ شَرْعًا، وَتَقْرِيرُهُ : وَاتَّبَعَ الْيَهُودُ مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ السِّحْرِ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، أَيْ نَسَبَتْهُ إلَيْهِ وَأَخْبَرَتْ بِهِ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَمَا أَرْسَلَنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ﴾ أَيْ إذَا تَلَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ مَا لَمْ يُلْقِهِ النَّبِيُّ، يُحَاكِيهِ وَيُلَبِّسُ عَلَى السَّامِعِينَ بِهِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ.
وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ قَطُّ وَلَا سَحَرَ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا بِسِحْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يُعَلِّمُونَهُ النَّاسَ ؛ وَمُعْتَقِدُ الْكُفْرِ كَافِرٌ، وَقَائِلُهُ كَافِرٌ، وَمُعَلِّمُهُ كَافِرٌ، وَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَمَا كَانَ الْمَلَكَانِ يُعَلِّمَانِ أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا :﴿ إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ﴾.
فَإِنْ قِيلَ : وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : كَيْفَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَاطِلَ وَالْكُفْرَ ؟
قُلْنَا : كُلُّ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ أَوْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ أَوْ إيمَانٍ أَوْ كُفْرٍ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ :«مَاذَا فُتِحَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْخَزَائِنِ ؟ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْفِتَنِ ؟ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ، رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَّةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ »
فَأَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ نُزُولِ الْفِتَنِ عَلَى الْخَلْقِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَإِنْ قِيلَ : وَكَيْفَ نَزَّلَ الْكُفْرَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَيُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، فَأَنَّى يَصِحُّ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْكُفْرِ وَيُعَلِّمُوهُ ؟ قُلْنَا : هَذَا الَّذِي أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِهِمْ حَتَّى رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ الْمَلِكَيْنِ - بِكَسْرِ اللَّامِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بِبَابِلَ عِلْجَانِ، وَقَدْ بَلَغَ التَّغَافُلُ أَوْ الْغَفْلَةُ بِبَعْضِهِمْ حَتَّى قَالَ : إنَّمَا هُمَا دَاوُد وَسُلَيْمَانُ.
وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ :﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ﴾، أَيْ فِي أَيَّامِهِمَا.
وقَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ﴾ يَعْنِي الشَّيَاطِينَ.
وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ : أَطَلَعَتْ الْحَمْرَاءُ ؟ قُلْت : طَلَعَتْ. قَالَ : لَا مَرْحَبًا بِهَا وَلَا أَهْلًا، وَأَرَاهُ لَعَنَهَا. قُلْت : سُبْحَانَ اللَّهِ، نَجْمٌ مُسَخَّرٌ مُطِيعٌ تَلْعَنُهُ ؟ قَالَ : مَا قُلْت لَك إلَّا مَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«إنَّ الْمَلَائِكَةَ عَجَّتْ مِنْ مَعَاصِي بَنِي آدَمَ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَتْ : يَا رَبِّ، كَيْفَ صَبْرُك عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ ؟ فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مَكَانَهُمْ، وَيَحُلُّ الشَّيْطَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ مَحَلَّهُ مِنْ بَنِي آدَمَ لَعَمِلُوا بِعَمَلِهِمْ، وَقَدْ أَعْطَيْت بَنِي آدَمَ عَشْرًا مِنْ الشَّهَوَاتِ فَبِهَا يَعْصُونَنِي. قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : رَبَّنَا لَوْ أَعْطَيْتَنَا تِلْكَ الشَّهَوَاتِ، وَابْتَلَيْتَنَا، لَحَكَمْنَا بِالْعَدْلِ، وَمَا عَصَيْنَاك. فَأَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنْ يَخْتَارُوا مِنْهُمْ مَلَكَيْنِ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، فَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ هَارُوتُ وَمَارُوتُ وَقَالَا : نَحْنُ نَنْزِلُ ؛ وَأَعْطِنَا الشَّهَوَاتِ، وَكَلِّفْنَا الْحُكْمَ بِالْعَدْلِ.
فَنَزَلَا بِبَابِلَ، فَكَانَا يَحْكُمَانِ حَتَّى إذَا أَمْسَيَا عَرََّجَا إلَى مَكَانِهِمَا، فَفُتِنَا بِامْرَأَةٍ حَاكَمَتْ زَوْجَهَا اسْمُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ الزَّهْرَةُ، وَبِالنَّبَطِيَّةِ بَيْرخت، وَبِالْفَارِسِيَّةِ أقاهيد ؛ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : إنَّهَا لَتُعْجِبُنِي. قَالَ لَهُ الْآخَرُ : لَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ لَك ذَلِكَ، فَهَلْ لَك فِي أَنْ تَعْرِضَ لَهَا ؟ قَالَ لَهُ الْآخَ
الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ - قَوْله تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا اُنْظُرْنَا وَاسْمَعُوا ﴾.
كَانَتْ الْيَهُودُ تَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقُولُ : يَا أَبَا الْقَاسِمِ، رَاعِنَا، تُوهِمُ أَنَّهَا تُرِيدُ الدُّعَاءَ، مِنْ الْمُرَاعَاةِ، وَهِيَ تَقْصِدُ بِهِ فَاعِلًا مِنْ الرُّعُونَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَقُولُونَ : رَاعِنَا، مِنْ الرَّعْيِ، فَسَمِعَتْهُمْ الْيَهُودُ، فَقَالُوا : يَا رَاعِنَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِمْ الْيَهُودُ فِي اللَّفْظِ وَيَقْصِدُوا الْمَعْنَى الْفَاسِدَ مِنْهُ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَجَنُّبِ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ الَّتِي فِيهَا التَّعَرُّضُ لِلتَّنْقِيصِ وَالْغَضِّ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ فَهْمُ التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : بِأَنَّهُ مُلْزِمٌ لِلْحَدِّ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَا : إنَّهُ قَوْلٌ مُحْتَمِلٌ لِلْقَذْفِ وَغَيْرِهِ، وَالْحَدُّ مِمَّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ.
وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ قَوْلٌ يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَذْفُ، فَوَجَبَ فِيهِ الْحَدُّ كَالتَّصْرِيحِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَبْلَغَ مِنْ التَّصْرِيحِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ عِنَادٌ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ - قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا، أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلَّا خَائِفِينَ، لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى - فِيمَنْ نَزَلَتْ ؟
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ بُخْتُ نَصَّرَ. الثَّانِي : أَنَّهُمْ مَانِعُو بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ النَّصَارَى اتَّخَذُوهُ كِظَامَةً. وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. الرَّابِعُ : أَنَّهُ كُلُّ مَسْجِدٍ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ؛ فَتَخْصِيصُهُ بِبَعْضِ الْمَسَاجِدِ أَوْ بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ مُحَالٌ، فَإِنْ كَانَ فَأَمْثَلُهَا الثَّالِثَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَائِدَةُ هَذِهِ الْآيَةِ تَعْظِيمُ أَمْرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ وَأَعْظَمَهَا أَجْرًا كَانَ مَنْعُهَا أَعْظَمَ إثْمًا، وَإِخْرَابُ الْمَسَاجِدِ تَعْطِيلٌ لَهَا وَقَطْعٌ بِالْمُسْلِمِينَ فِي إظْهَارِ شَعَائِرِهِمْ وَتَأْلِيفِ كَلِمَتِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إنَّ قَوْله تَعَالَى :﴿ مَسَاجِدَ اللَّهِ ﴾ يَقْتَضِي أَنَّهَا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، الَّذِينَ يُعَظِّمُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَذَلِكَ حُكْمُهَا بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ؛ عَلَى أَنَّ الْبُقْعَةَ إذَا عُيِّنَتْ لِلصَّلَاةِ خَرَجَتْ عَنْ جُمْلَةِ الْأَمْلَاكِ الْمُخْتَصَّةِ بِرَبِّهَا، فَصَارَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْفَعَتِهَا وَمَسْجِدِيَّتِهَا، فَلَوْ بَنَى الرَّجُلُ فِي دَارِهٍ مَسْجِدًا وَحَجَزَهُ عَنْ النَّاسِ، وَاخْتَصَّ بِهِ لِنَفْسِهِ لَبَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ إلَى حَدِّ الْمَسْجِدِيَّةِ، وَلَوْ أَبَاحَهُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ لَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ الْعَامَّةِ، وَخَرَجَ عَنْ اخْتِصَاصِ الْأَمْلَاكِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلَّا خَائِفِينَ ﴾.
يَعْنِي إذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ، وَحَصَلَتْ تَحْتَ سُلْطَانِهِمْ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْكَافِرُ حِينَئِذٍ مِنْ دُخُولِهَا، يَعْنِي إنْ دَخَلُوهَا فَعَلَى خَوْفٍ مِنْ إخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ مِنْهَا وَأَذِيَّتِهِمْ عَلَى دُخُولِهَا ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ بِحَالٍ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صََلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ عَادَ فَصَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ ؛ فَاعْتَرَضَتْ عَلَيْهِ الْيَهُودُ، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَرَامَةً وَعَلَيْهِمْ حُجَّةً، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَخْيِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ لِيُصَلُّوا حَيْثُ شَاءُوا مِنْ النَّوَاحِي، قَالَهُ قَتَادَةُ.
الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، يَتَوَجَّهُ الْمُصَلِّي فِي السَّفَرِ إلَى حَيْثُ شَاءَ فِيهَا رَاكِبًا، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ.
الرَّابِعُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ صَلَّى الْفَرِيضَةَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، قَالَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ.
الْخَامِسُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ، آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُصَلِّ إلَى قِبْلَتِنَا، قَالَهُ قَتَادَةُ.
السَّادِسُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ.
السَّابِعُ : أَنَّ مَعْنَاهَا أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ مِنْ مَشْرِقٍ أَوْ مَغْرِبٍ فَلَكُمْ قِبْلَةٌ وَاحِدَةٌ تَسْتَقْبِلُونَهَا.
قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْأَقْوَالُ السَّبْعَةُ لِقَائِلِيهَا تَحْتَمِلُ الْآيَةُ جَمِيعَهَا ؛ فَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. . . ﴾.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، فَسَنَدٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ قَوِيٌّ فِي النَّظَرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«أَنَّهُ كَانَ يُحْرِمُ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ »، وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَدْ أُسْنِدَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَنِّفُونَ قَدْ رَوَوْهُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ؛ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : تُجْزِئُهُ، بَيْدَ أَنَّ مَالِكًا رَأَى عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ اسْتِحْبَابًا.
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ الْقِبْلَةَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَنْتَصِبُ الْخَطَأُ عُذْرًا فِي تَرْكِهَا، كَالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَالْوَقْتِ.
وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ تُبِيحُ الضَّرُورَةُ تَرْكَهَا فِي الْمُسَايَفَةِ، وَتُبِيحُهَا أَيْضًا الرُّخْصَةُ حَالَةَ السَّفَرِ، فَكَانَتْ حَالَةَ عُذْرٍ أَشْبَهَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الطَّاهِرَ لَا يُبِيحُ تَرْكَهُ إلَى الْمَاءِ النَّجِسِ ضَرُورَةٌ فَلَا يُبِيحُهُ خَطَأٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَعْنَى قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾.
أَيْ : ذَلِكَ لَهُ مِلْكٌ وَخَلْقٌ لِجَوَازِ الصَّلَاةِ إلَيْهِ وَإِضَافَتِهِ إلَيْهِ تَشْرِيفًا وَتَخْصِيصًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾.
قِيلَ : مَعْنَاهُ فَثَمَّ اللَّهُ، هَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ عَنْهُ تَعَالَى، لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَان بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ.
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ، وَيَكُونُ الْوَجْهُ اسْمًا لِلتَّوَجُّهِ.
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عِبَادَةً، وَفَرَضَ فِيهَا الْخُشُوعَ اسْتِكْمَالًا لِلْعِبَادَةِ، وَأَلْزَمَ الْجَوَارِحَ السُّكُونَ، وَاللِّسَانَ الصَّمْتَ إلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَصْبَ الْبَدَنِ إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَنْفَى لِلْحَرَكَاتِ، وَأَقْعَدَ لِلْخَوَاطِرِ، وَعُيِّنَتْ لَهُ جِهَةُ الْكَعْبَةِ تَشْرِيفًا لَهُ.
وَقِيلَ لَهُ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قِبَلَ وَجْهِك، مَعْنَاهُ أَنَّك قَصَدْت التَّوَجُّهَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ عُيِّنَ لَك هَذَا الصَّوْبُ، فَهُنَالِكَ تَجِدُ ثَوَابَك، وَتَحْمَدُ إيَابَك.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي تَنْزِيلِ الْآيَةِ عَلَى الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ :
لَا يَخْفَى أَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ يَقْتَضِي بِمُطْلَقِهِ جَوَازَ التَّوَجُّهِ إلَى جِهَتَيْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بِكُلِّ حَالٍ، لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ جَوَازَ التَّوَجُّهِ إلَى جِهَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي وَقْتٍ، وَإِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ فِي الْفَرْضِ وَالْحَضَرِ فِيهَا أَيْضًا، وَبَقِيَتْ عَلَى النَّافِلَةِ فِي السَّفَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ " النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ".
الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِذْ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُك لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾.
الْآيَةُ فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ابْتَلَى مَعْنَاهُ اخْتَبَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَاهُ أَمَرَ لِيَعْلَمَ مِنْ الِامْتِثَالِ أَوْ التَّقْصِيرِ مُشَاهَدَةً مَا عَلِمَ غَيْبًا، وَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، تَخْتَلِفُ الْأَحْوَالُ عَلَى الْمَعْلُومَاتِ، وَعِلْمُهُ لَا يَخْتَلِفُ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ تَعَلُّقًا وَاحِدًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ بِكَلِمَاتٍ ﴾ هِيَ : جَمْعُ كَلِمَةٍ، وَيَرْجِعُ تَحْقِيقُهَا إلَى كَلَامِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ، لَكِنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ بِهَا عَنْ الْوَظَائِفِ الَّتِي كَلَّفَهَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمَّا كَانَ تَكْلِيفُهَا بِالْكَلَامِ سُمِّيَتْ بِهِ، كَمَا يُسَمَّى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلِمَةً ؛ لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ الْكَلِمَةِ، وَهِيَ كُنْ، وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمُقَدِّمَتِهِ أَحَدُ قِسْمِي الْمَجَازِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : مَا تِلْكَ الْكَلِمَاتُ ؟
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، لُبَابُهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ، فَأَكْمَلَهَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَمَا قَامَ أَحَدٌ بِوَظَائِفِ الدِّينِ مِثْلُهُ يَعْنِي -وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- قَبْلَهُ ؛ فَقَدْ قَامَ بِهَا بَعْدَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَخُصُوصًا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ.
الثَّانِي : أَنَّهَا الْفِطْرَةُ الَّتِي أَوْعَزَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا إلَيْهِ، وَرَتَّبَهَا عَلَيْهِ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ : قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ، وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ }.
وَرَوَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ الْحَدِيثَ، وَقَالَ :«الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَزَادَ : الْخِتَانُ، وَذَكَرَ الِانْتِضَاحُ بَدَلَ انْتِقَاصُ الْمَاءِ ».
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا :«مِنْ الْفِطْرَةِ » يَعْنِي مِنْ السُّنَّةِ، وَأَنَا أَقُولُ : إنَّهَا مِنْ الْمِلَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ اُبْتُلِيَ بِهَا فَرْضًا، وَهِيَ لَنَا سُنَّةٌ، وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اُبْتُلِيَ بِهَا تَكْلِيفًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِنْ الْفَرْضِ أَوْ النَّدْبِ فِي جَمِيعِهَا أَوْ انْقِسَامِ الْحَالِ فِيهَا.
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْمِلَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَرَاتِبِهَا ؛ فَأَمَّا قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ فَمُخَالَفَةٌ لِلْأَعَاجِمِ فَإِنَّهُمْ يَقُصُّونَ لِحَاهُمْ، وَيُوَفِّرُونَ شَوَارِبَهُمْ، أَوْ يُوَفِّرُونَهُمَا مَعًا، وَذَلِكَ عَكْسُ الْجَمَالِ وَالنَّظَافَةِ. وَأَمَّا السِّوَاكُ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فَلِتَنْظِيفِ الْفَمِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْقَلَحِ. وَأَمَّا قَصُّ الْأَظْفَارِ فَلِتَنْزِيهِ الطَّعَامِ عَمَّا يَلْتَئِمُ مِنْ الْوَسَخِ فِيهَا وَالْأَقْذَارِ. وَأَمَّا غَسْلُ الْبَرَاجِمِ فَلِمَا يَجْتَمِعُ مِنْ الْأَوْسَاخِ فِي غُضُونِهَا. وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ تَنْظِيفًا عَمَّا يَتَلَبَّدُ مِنْ الْوَسَخِ فِيهِمَا عَلَى شَعْرِهِمَا وَمِمَّا يَجْتَمِعُ مِنْ الرَّحْض فِيهِمَا، وَالِاسْتِنْجَاءُ لِتَنْظِيفِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَتَطْبِيبِهِ عَنْ الْأَذَى وَالْأَدْوَاءِ. وَأَمَّا الْخِتَانُ فَلِنَظَافَةِ الْقُلْفَةِ عَمَّا يَجْتَمِعُ مِنْ أَذَى الْبَوْلِ فِيهَا، وَلَمْ يَخْتَتِنْ أَحَدٌ قَبْلَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؛ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ :«أَنَّهُ اخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ». وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِمَا قُرِنَ بِهِ مِنْ إخْوَتِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَرَأَى مَالِكٌ أَنَّهُ فَرْضٌ ؛ لِأَنَّهُ تُكْشَفُ لَهُ الْعَوْرَةُ وَلَا يُبَاحُ الْحَرَامُ إلَّا لِلْوَاجِبِ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَلَمَّا أَتَمَّ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْوَظَائِفَ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ :﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾.
سَمِعْت بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ : وَإِبْرَاهِيمُ الَّذِي وَفَّى بِمَالِهِ لِلضِّيفَانِ، وَبِبَدَنِهِ لِلنِّيرَانِ، وَبِقَلْبِهِ لِلرَّحْمَنِ.
الْآيَةُ الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ﴾.
هَذَا تَنْبِيهٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ عَلَى فَضْلِهِ، وَتَعْدِيدٌ لِنِعَمِهِ الَّتِي مِنْهَا أًنْ جَعَلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ لِلْعَرَبِ -عُمُومًا وَلِقُرَيْشٍ خُصُوصًا- مَثَابَةً لِلنَّاسِ، أَيْ مَعَادًا فِي كُلِّ عَامٍ لَا يَخْلُو مِنْهُمْ، يُقَالُ : ثَابَ إلَى كَذَا ؛ أَيْ رَجَعَ وَعَادَ إلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ كُلُّ مَنْ جَاءَهُ عَادَ إلَيْهِ. قُلْنَا : لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَعْدَمْ قَاصِدًا مِنْ النَّاسِ ؛ وَكَذَلِكَ جَعَلَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمْنًا يَلْقَى الرَّجُلُ فِيهِ قَاتِلَ وَلِيِّهِ فَلَا يُرَوِّعُهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾، وَكَذَلِكَ :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾. وَهَذَا لِمَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ رَكَّبَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ وَتَفْضِيلِ الْمَوْضِعِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَرْضِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ فِي الصِّفَةِ، بِهَذِهِ الْخِصِّيصَى الْمُعَظَّمَةِ.
وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ الْكَلْبَ الْخَارِجَ مِنْ الْحَرَمِ لَا يُرَوِّعُ الصَّيْدَ بِهَا، وَهَذَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا ؛ وَهَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ وَرَدَ بِالْبَيْتِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَرَمُ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِيهِ كَانَتْ وَعَلَيْهِ دَامَتْ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْأَمْنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ أَمْنٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ مُعَظِّمًا لَهُ وَقَصَدَهُ مُحْتَسِبًا فِيهِ لِمَنْ تَقَدَّمَ إلَيْهِ. وَيَعْضُدُهُ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ».
الثَّانِي : مَعْنَاهُ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا مِنْ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ، كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ فِيمَنْ أَنَابَ إلَيْهِ مِنْ تَرْكِهَا لِحَقٍّ يَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ أَمْنٌ مِنْ حَدٍّ يُقَامُ عَلَيْهِ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْكَافِرُ، وَلَا يُقْتَصُّ فِيهِ مِنْ الْقَاتِلِ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُحْصَنِ وَالسَّارِقِ ؛ قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَسَيَأْتِي عَلَيْهِ الْكَلَامُ.
الرَّابِعُ : أَنَّهُ أَمْنٌ مِنْ الْقِتَالِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :«إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ أَوْ الْقَتْلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ».
وَالصَّحِيحُ فِيهِ الْقَوْلُ الثَّانِي، وَهَذَا إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ مِنَّتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، حَيْثُ قَرَّرَ فِي قُلُوبِ الْعَرَبِ تَعْظِيمَ هَذَا الْبَيْتِ، وَتَأْمِينَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ ؛ إجَابَةً لِدَعْوَةِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَنْزَلَ بِهِ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، فَتَوَقَّعَ عَلَيْهِمْ الِاسْتِطَالَةَ، فَدَعَا أَنْ يَكُونَ أَمْنًا لَهُمْ فَاسْتُجِيبَ دُعَاؤُهُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَمْنٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَ بِجَعْلِهِ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا عَلَى حُجَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَالْأَمْنُ فِي الْآخِرَةِ لَا تُقَامُ بِهِ حُجَّةٌ.
وَأَمَّا امْتِنَاعُ الْحَدِّ فِيهِ فَقَوْلٌ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ، وَبِهِ اعْتَصَمَ الْحَرَمُ، لَا يَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ؛ وَأَمْرٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْأَصْلُ أَحْرَى أَلَا يَقْتَضِيهِ الْفَرْعُ. وَأَمَّا الْأَمْنُ عَنْ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ فَقَوْلٌ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّحْلِيلِ لِلْقِتَالِ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَحْلِيلٌ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا يَكُونُ لِعَدَمِ النُّبُوَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ امْتِنَاعِ تَحْلِيلِ الْقِتَالِ شَرْعًا لَا عَنْ مَنْعِ وُجُودِهِ حِسًّا.
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ : هُوَ مَفْعَلُ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ، مِنْ قَامَ، كَمَضْرَبٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْضًا، مِنْ ضَرَبَ ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ ؛ وَالتَّقْدِيرُ : وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَنَاسِكِ إبْرَاهِيمَ فِي الْحَجِّ عِبَادَةً وَقُدْوَةً. وَالْأَكْثَرُ حَمَلَهُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي بَعْضِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي جَعَلَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ رِجْلَهُ حِينَ غَسَلَتْ زَوْجُ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ رَأْسَهُ. وَقَدْ رَأَيْت بِمَكَّةَ صُنْدُوقًا فِيهِ حَجَرٌ، عَلَيْهِ أَثَرُ قَدَمٍ قَدْ انْمَحَى وَاخْلَوْلَقَ، فَقَالُوا كُلُّهُمْ : هَذَا أَثَرُ قَدَمِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ الْكَعْبَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي دَعَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ رَبَّهُ تَعَالَى حِينَ اسْتَوْدَعَ ذُرِّيَّتَهُ. فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ قَالَ : مَعْنَاهُ - كَمَا قَدَّمْنَا - مُصَلًّى : مَدْعَى أَيْ مَوْضِعًا لِلدُّعَاءِ. وَمَنْ خَصَّصَهُ قَالَ : مَعْنَاهُ مَوْضِعًا لِلصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ ثَبَتَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :«وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ لَوْ اتَّخَذْت مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ : وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى. . . » الْحَدِيثَ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَافَهُ مَشَى إلَى الْمَقَامِ الْمَعْرُوفِ الْيَوْمَ، وَقَرَأَ :﴿ وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ وَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ هُوَ الْمَقَامُ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ. الثَّانِي : أَنَّهُ بَيَّنَ الصَّلَاةَ وَأَنَّهَا الْمُتَضَمِّنَةُ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا مُطْلَقِ الدُّعَاءِ. الثَّالِثُ : أَنَّهُ عَرَّفَ وَقْتَ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَهُوَ عَقِبَ الطَّوَافِ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَوْقَاتِ مَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ. الرَّابِعُ : أَنَّهُ أَوْضَحَ أَنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَاجِبَتَانِ، فَمَنْ تَرَكَهُمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْيَهُودُ، عَابُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ رُجُوعَهُمْ إلَى الْكَعْبَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَوَّلًا أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتَّى إذَا دَانَى الْيَهُودَ فِي قِبْلَتِهِمْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى إجَابَتِهِمْ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى تَأْلِيفِ الْكَلِمَةِ وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَى الدِّينِ، فَقَابَلَتْ الْيَهُودُ هَذِهِ النِّعْمَةَ بِالْكُفْرَانِ، فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْجِهَاتِ كُلَّهَا لَهُ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ وَجْهُهُ، وَامْتِثَالُ أَمْرِهِ، فَحَيْثُمَا أُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ تَوَجَّهَ إلَيْهِ ؛ وَصَحَّ ذَلِكَ فِيهِ. وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾.
الْوَسَطُ فِي اللُّغَةِ : الْخِيَارُ، وَهُوَ الْعَدْلُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مِنْ وَسَطِ الشَّيْءِ، وَلَيْسَ لِلْوَسَطِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى مُلْتَقَى الطَّرَفَيْنِ هَهُنَا دُخُولٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ آخِرُ الْأُمَمِ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْخِيَارَ الْعَدْلَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى بَعْدَهُ :﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾. فَأَنْبَأَنَا رَبُّنَا تَعَالَى بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ تَفْضِيلِهِ لَنَا بِاسْمِ الْعَدَالَةِ، وَتَوْلِيَتِهِ خُطَّةَ الشَّهَادَةِ عَلَى جَمِيعِ الْخَلِيقَةِ، فَجَعَلَنَا أَوَّلًا مَكَانًا، وَإِنْ كُنَّا آخِرًا زَمَانًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ ». وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ إلَّا الْعُدُولُ، وَلَا يَنْفُذُ عَلَى الْغَيْرِ قَوْلُ الْغَيْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، وَذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ ﴾.
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ مَاتَ وَهُوَ يُصَلِّي إلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَتَصْدِيقِكُمْ لِنَبِيِّكُمْ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ مُعْظَمُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْأُصُولِيُّونَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ صَلَاتُكُمْ، زَادَ أَشْهَبُ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : قَالَ مَالِكٌ :«أَقَامَ النَّاسُ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا ؛ ثُمَّ أُمِرُوا بِالْبَيْتِ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ ؛ أَيْ فِي صَلَاتِكُمْ إلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ ».
قَالَ : وَإِنِّي لَأَذْكُرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ : إنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مِنْ الْإِيمَانِ فَلِمَ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ تَارِكَهَا غَيْرُ كَافِرٍ. وَهَذَا تَنَاقُضٌ، فَحَقِّقُوا وَجْهَ التَّقَصِّي عَنْهُ.
فَالْجَوَابُ إنَّا وَإِنْ قُلْنَا إنَّ الصَّلَاةَ مِنْ الْإِيمَانِ لَمْ يَبْعُدْ ذَلِكَ تَسْمِيَةً، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ. . . ﴾ إلَى قَوْله تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ. . . ﴾ إلَى قَوْله تَعَالَى :﴿ أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ ﴾.
وَكَذَلِكَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُسَمَّى تَارِكُهَا كَافِرًا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ ».
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الْأُصُولِيُّونَ : فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ تَسْمِيَةُ الصَّلَاةِ إيمَانًا وَتَرْكُهَا كُفْرًا مَجَازًا.
الثَّانِي : أَنْ يُرْجَعَ ذَلِكَ إلَى اعْتِقَادِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَوْ اعْتِقَادِ نَفْيِ وُجُوبِهَا ؛ وَهَذَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ بَلْ يَقُولُ عُلَمَاؤُنَا مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّهَا تُسَمَّى إيمَانًا، وَهِيَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ وَعَهْدِ الْإِسْلَامِ. وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ وَالْمُرْجِئَةِ أَنَّ الْمُرْجِئَةَ قَالَتْ : لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَتَارِكُهَا فِي الْجَنَّةِ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا : لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَتَارِكُهَا فِي الْمَشِيئَةِ، وَعُلَمَاؤُنَا الْفُقَهَاءُ قَالُوا : هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ وَتَارِكُهَا فِي الْمَشِيئَةِ، قَضَتْ بِذَلِكَ آيُ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، مَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ شَيْئًا مِنْهُنَّ اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ ».
فَقَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ وَنَظَائِرُهُمَا عَلَى كُلِّ مُتَشَابِهٍ جَاءَ مُعَارِضًا فِي الظَّاهِرِ لَهُمَا ؛ وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ تُسَمَّى الصَّلَاةُ إيمَانًا فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَيُحْكَمُ لِتَارِكِهَا بِالْمَغْفِرَةِ تَخْفِيفًا وَرَحْمَةً.
وَيُحْمَلُ مَا جَاءَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُكَفِّرَةِ ؛ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ :«مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ » وَنَحْوُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ عَلَى التَّغْلِيظِ. الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ فِعْلَ الْكَافِرِ. الثَّالِثُ أَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ دَمَهُ، كَمَا أَبَاحَهُ فِي الْكَافِرِ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾.
الشَّطْرُ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الشَّيْءِ، وَيُقَالُ عَلَى الْقَصْدِ، وَهَذَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُعَايِنًا لِلْبَيْتِ وَمَنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ.
وَذَكَرَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَيْتُ، كَمَا ذَكَرَ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ﴾ الْكَعْبَةَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَهِيَ تُعَبِّرُ عَنْ الشَّيْءِ بِمَا يُجَاوِرُهُ أَوْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُعَرِّفَ أَنَّ مَنْ بَعُدَ عَنْ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ النَّاحِيَةَ لَا عَيْنَ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ يَعْسُرُ نَظَرُهُ وَ قَصْدُهُ ؛ بَلْ لَا يُمْكِنُ أَبَدًا إلَّا لِلْمُعَايِنِ، وَرُبَّمَا الْتَفَتَ الْمُعَايِنُ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا فَإِذَا بِهِ قَدْ زَهَقَ عَنْهُ، فَاسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ ؛ وَأَضْْيَقُ مَا تَكُونُ الْقِبْلَةُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْقِبْلَةِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ فَرْضُ الْغَائِبِ عَنْ الْكَعْبَةِ اسْتِقْبَالُ الْعَيْنِ ؟ أَوْ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : فَرْضُهُ اسْتِقْبَالُ الْعَيْنِ ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ لِمَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْجِهَةُ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْمُمْكِنُ الَّذِي يَرْتَبِطُ بِهِ التَّكْلِيفُ.
الثَّانِي : أَنَّهُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، إذْ قَالَ :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ : أَنَّ الْعُلَمَاءَ احْتَجُّوا بِالصَّفِّ الطَّوِيلِ الَّذِي يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ أَضْعَافُ عَرْضِ الْبَيْتِ، وَيَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ؛ فَإِنَّ الصَّفَّ الطَّوِيلَ إذَا بَعُدَ عَنْ الْبَيْتِ أَوْ طَالَ وَعَرُضَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً لَكَانَ مُمْكِنًا أَنْ يُقَابِلَ جَمِيعَ الْبَيْتِ.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾.
وَهِيَ مُشْكِلَةٌ لُبَابُ الْكَلَامِ فِيهَا فِي مَسْأَلَتَيْنِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَنَّ الْوِجْهَةَ هِيَ هَيْئَةُ التَّوَجُّهِ كَالْقِعْدَةِ - بِكَسْرِ الْقَافِ : هَيْئَةُ الْقُعُودِ، وَالْجِلْسَةِ : هَيْئَةُ الْجُلُوسِ، وَفِي الْمُرَادِ بِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ ؛ الْمَعْنَى لِأَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ حَالَةٌ فِي التَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي : أَنَّ الْمَعْنَى لِكُلٍّ وِجْهَةٌ فِي الصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفِي الصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لِأَهْلِ كُلِّ جِهَةٍ مِنْ الْآفَاقِ وِجْهَةٌ مِمَّنْ بِمَكَّةَ وَمِمَّنْ بَعُدَ، لَيْسَ بَعْضُهَا مُقَدَّمًا عَلَى الْبَعْضِ فِي الصَّوَابِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي وَلَّى جَمِيعَهَا وَشَرَعَ جُمْلَتَهَا، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَارِضَةً فِي الظَّاهِرِ وَالْمُعَايَنَةِ فَإِنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الْقَصْدِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ.
وَقُرِئَ : هُوَ مُوَلَّاهَا، يَعْنِي الْمُصَلِّيَ ؛ التَّقْدِيرُ : الْمُصَلِّي هُوَ مُوَجَّهٌ نَحْوَهَا، وَكَذَلِكَ قَبْلُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ هُوَ مُوَلِّيهَا ؛ إنَّ الْمَعْنَى أَيْضًا أَنَّ الْمُصَلِّيَ هُوَ مُتَوَجِّهٌ نَحْوَهَا ؛ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فِي النَّظَرِ، وَأَشْهَرُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْخَبَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾.
مَعْنَاهُ، افْعَلُوا الْخَيْرَاتِ، مِنْ السَّبْقِ، وَهُوَ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْأَوَّلِيَّةِ، وَذَلِكَ حَثٌّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ وَالِاسْتِعْجَالِ إلَى الطَّاعَاتِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَفِي التَّفْضِيلِ اخْتِلَافٌ ؛ وَأَعْظَمُ مُهِمٍّ اخْتَلَفُوا فِي تَفْضِيلِهِ الصَّلَاةُ ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : أَوَّلُ الْوَقْتِ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ؛ لِظَاهِرِ هَذِهِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : آخِرُ الْوَقْتِ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ حَسْبَمَا مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَفَصَّلَ الْقَوْلَ ؛ فَأَمَّا الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ فَأَوَّلُ الْوَقْتِ فِيهِمَا أَفْضَلُ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. وَأَمَّا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ : إنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ أَفْضَلُ لِلْفَذِّ، وَإِنَّ الْجَمَاعَةَ تُؤَخَّرُ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَالْمَشْهُورُ فِي الْعِشَاءِ أَنَّ تَأْخِيرَهَا أَفْضَلُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَهَا لَيْلَةً حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ وَاسْتَيْقَظُوا، ثُمَّ قَالَ : لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَّرْتُهَا هَكَذَا ».
وَأَمَّا الظُّهْرُ فَإِنَّهَا تَأْتِي النَّاسَ عَلَى غَفْلَةٍ فَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا قَلِيلًا حَتَّى يَتَأَهَّبُوا وَيَجْتَمِعُوا. وَأَمَّا الْعَصْرُ فَتَقْدِيمُهَا أَفْضَلُ.
وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ تَقْدِيمِهَا ؛ فَإِنَّ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ مُقَدَّرٌ مَعْلُومٌ، وَفَضْلَ أَوَّلِ الْوَقْتِ مَجْهُولٌ، وَتَحْصِيلُ الْمَعْلُومِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الصُّبْحُ فَتَقْدِيمُهَا أَفْضَلُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصُّبْحِ :«كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الصُّبْحَ فَتَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُلَتَفَّاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ ». وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصُّبْحِ أَيْضًا :«كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَآهُمْ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ قَدْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ ». وَالصُّبْحُ «كَانُوا أَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ » ؛ مَعْنَاهُ كَانُوا مُجْتَمَعِينَ أَوْ لَمْ يَكُونُوا مُجْتَمَعِينَ كَانَ يُغَلِّسُ بِهَا.
وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ اُقْتُدِيَ بِهِ فِي ذَلِكَ أَوْ اُمْتُثِلَ أَمْرُهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يُعَادِلُ الْمُبَادَرَةَ إلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ شَيْءٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :﴿ وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ ». قَالَ : رِضْوَانُ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ عَفْوِهِ ؛ فَإِنَّ رِضْوَانَهُ لَلْمُحْسِنِينَ، وَعَفْوَهُ لَلْمُقَصِّرِينَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :«أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ». وَلَعَلَّهُ فِي السَّفَرِ إذَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُهُ، إذْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :«أَبْرِدُوا حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ ».
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ ﴾.
وَفِي السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا :﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ﴾. تَعَلَّقَ بَعْضُهُمْ فِي أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ هُوَ الَّذِي يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ، وَالشَّهِيدُ حَيٌّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَمَا أَنَّ الشَّهِيدَ فِي حُكْمِ الْحَيِّ فَلَا يُغَسَّلُ، فَكَذَلِكَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ تَطْهِيرٌ، وَقَدْ طُهِّرَ بِالْقَتْلِ، فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ شَفَاعَةٌ وَقَدْ أَغْنَتْهُ عَنْهَا الشَّهَادَةُ، يُؤَكِّدُهُ أَنَّ الطَّهَارَةَ إذَا سَقَطَتْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا سَقَطَتْ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّهَا شَرْطُهَا، وَسُقُوطُ الشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ الْمَشْرُوطِ، َمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهِمْ لَا يَصِحُّ فِيهِ طَرِيقُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا سِوَاهُ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾.
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ، قَالَ : سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَالَ : كَانَا مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ أَمْسَكُوا عَنْهُمَا، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ : قَوْله تَعَالَى :﴿ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ ؛ يَعْنِي مِنْ مَعَالِمِ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، وَاحِدَتُهَا شَعِيرَةٌ، وَمِنْهُ إشْعَارُ الْهَدْيِ ؛ أَيْ إعْلَامُهُ بِالْجَرْحِ وَمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ عِنْدِي مَا حَصَلَ بِهِ الْعِلْمُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَشْعَرَ بِهِ إبْرَاهِيمُ، أَيْ أَعْلَمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ ﴾.
الْجُنَاحُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَيْلِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَ، وَلَكِنَّهُ خُصَّ بِالْمَيْلِ إلَى الْإِثْمِ، ثُمَّ عَبَّرَ بِهِ عَنْ الْإِثْمِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي الْهَمِّ وَالْأَذَى، وَجَاءَ فِي أَشْعَارِهَا وَأَمْثَالِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى ﴿ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾.
وَهِيَ مُعَارَضَةُ الْآيَةِ، وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ قُلْت لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا :«أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى :﴿ إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ. . . ﴾ الْآيَةُ، فَوَاَللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا ».
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا :«بِئْسَ مَا قُلْت يَا ابْنَ أُخْتِي، إنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى مَا تَأَوَّلْتَهَا لَكَانَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، إنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ عِنْدَ الْمُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ لِمَنَاةَ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ. . . ﴾ الآيَةَ، ثُمَّ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا ».
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَذَكَرْت ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ : إنَّ هَذَا الْعِلْمُ، أَيْ مَا سَمِعْت بِهِ.
( تَحْقِيقُ هَذَا الْحَدِيثِ وَتَفْهِيمُهُ ) : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : لَا جُنَاحَ عَلَيْك أَنْ تَفْعَلَ، إبَاحَةٌ لِلْفِعْلِ، وَقَوْلَهُ :( فَلَا جُنَاحَ عَلَيْك أَلَا تَفْعَلَ ) إبَاحَةٌ لِتَرْكِ الْفِعْلِ ؛ فَلَمَّا سَمِعَ عُرْوَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ :﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ - قَالَ : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الطَّوَافِ جَائِزٌ، ثُمَّ رَأَى الشَّرِيعَةَ مُطْبِقَةً عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِهِ، فَطَلَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : لَيْسَ قَوْله تَعَالَى :﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ دَلِيلًا عَلَى تَرْكِ الطَّوَافِ ؛ إنَّمَا كَانَ يَكُونُ الدَلِيلُ عَلَى تَرْكِهِ لَوْ كَانَ :( فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ ) ؛ فَلَمْ يَأْتِ هَذَا اللَّفْظُ لِإِبَاحَةِ تَرْكِ الطَّوَافِ، وَلَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ لِإِفَادَةِ إبَاحَةِ الطَّوَافِ لِمَنْ كَانَ يَتَحَرَّجُ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لِمَنْ كَانَ يَطُوفُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَصْدًا لِلْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ ؛ فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الطَّائِفَ قَصْدًا بَاطِلًا.
فَأَدَّتْ الْآيَةُ إبَاحَةَ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا، وَسَلَّ سَخِيمَةَ الْحَرَجِ الَّتِي كَانَتْ فِي صُدُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ ؛ أَيْ مِنْ مَعَالِمِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ وَمَشْرُوعَاتِهِ، لَا مِنْ مَوَاضِعِ الْكُفْرِ، وَمَوْضُوعَاتِهِ ؛ فَمَنْ جَاءَ الْبَيْتَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَلَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ الطَّوَافِ بِهِمَا.
( وَهْمٌ وَتَنْبِيهٌ ) : قَالَ الْفَرَّاءُ : مَعْنَى قَوْلِهِ :( لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) مَعْنَاهُ أَنْ يَطُوفَ، وَحَرْفُ " لَا " زَائِدَةٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ " لَا " زَائِدَةً.
الثَّانِي : أَنَّهُ لَا لُغَوِيٌّ وَلَا فَقِيهٌ يُعَادِلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَقَدْ قَرَرَتْهَا غَيْرَ زَائِدَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَتْ مَعْنَاهَا، فَلَا رَأْيَ لِلْفَرَّاءِ وَلَا غَيْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ : فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ رُكْنٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ بِرُكْنٍ. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ رُكْنٌ، وَفِي الْعُتْبِيَّةِ : يُجْزِئُ تَارِكَهُ الدَّمُ.
وَمُعَوَّلُ مَنْ نَفَى وُجُوبَهُ وَرُكْنِيَّتَهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ خَاصَّةً كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا ». صَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَيَعْضُدُهُ الْمَعْنَى ؛ فَإِنَّهُ شِعَارٌ لَا يَخْلُو عَنْهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، فَكَانَ رُكْنًا كَالطَّوَافِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ رَفْعِ الْحَرَجِ أَوْ تَرْكِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا ﴾.
تَعَلَّقَ بِهِ مَنْ يَنْفِي رُكْنِيَّةَ السَّعْيِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ الْحَرَجَ عَنْ تَرْكِهِ، وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ : وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا بِفِعْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُهُ. وَالتَّطَوُّعُ هُوَ مَا يَأْتِيهِ الْمَرْءُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَهَذَا لَيْسَ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا إلَى أَيِّ مَعْنَى يَعُودُ رَفْعُ الْجُنَاحِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَنْ تَطَوَّعَ ﴾، إشَارَةً إلَى أَنَّ السَّعْيِ وَاجِبٌ، فَمَنْ تَطَوَّعَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَشْكُرُ ذَلِكَ لَهُ.
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ ﴾.
اسْتَدَلَّ بِهَا عُلَمَاؤُنَا عَلَى وُجُوبِ تَبْلِيغِ الْحَقِّ وَبَيَانِ الْعِلْمِ عَلَى الْجُمْلَةِ.
وَلِلْآيَةِ تَحْقِيقٌ هُوَ أَنَّ الْعَالِمَ إذَا قَصَدَ الْكِتْمَانَ عَصَى، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّبْلِيغُ إذَا عَرَفَ أَنَّ مَعَهُ غَيْرَهُ.
قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ : قَالَ عُرْوَةُ : الْآيَةَ ﴿ إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ. . . ﴾ الْآيَة، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَوَاَللَّهِ لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ شَيْئًا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يُحَدِّثَانِ بِكُلِّ مَا سَمِعَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ.
وَكَانَ الزُّبَيْرُ أَقَلَّهُمْ حَدِيثًا مَخَافَةَ أَنْ يُوَاقِعَ الْكَذِبَ ؛ وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْعِلْمَ عَمَّ جَمِيعَهُمْ فَسَيُبَلِّغُ وَاحِدٌ إنْ تَرَكَ آخَرُ.
فَإِنْ قِيلَ : فَالتَّبْلِيغُ فَضِيلَةٌ أَوْ فَرْضٌ، فَإِنْ كَانَ فَرْضًا فَكَيْفَ قَصَّرَ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْجِلَّةُ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَالزُّبَيْرِ، وَأَمْثَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فَضِيلَةً فَلِمَ قَعَدُوا عَنْهَا ؟
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ سُئِلَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّبْلِيغُ لِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُسْأَلْ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّبْلِيغُ إلَّا فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ ». وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ : إنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرٍو هَذَا إنَّمَا جَاءَ فِي الشَّهَادَةِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُبَلِّغُ اُكْتُفِيَ بِهِ، وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ، وَسَكَتَ الْخُلَفَاءُ عَنْ الْإِشَارَةِ بِالتَّبْلِيغِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَنْصِبِ مَنْ يَرُدُّ مَا يَسْمَعُ أَوْ يُمْضِيهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِعُمُومِ التَّبْلِيغِ فِيهِ، حَتَّى إنَّ عُمَرَ كَرِهَ كَثْرَةَ التَّبْلِيغِ، وَسَجَنَ مَنْ كَانَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضِيلَةِ التَّبْلِيغِ أَنَّهُ قَالَ :«نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا ». وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الْمُوَفِّيَةُ ثَلَاثِينَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ لِي كَثِيرٌ مِنْ أَشْيَاخِي : إنَّ الْكَافِرَ الْمُعَيَّنَ لَا يَجُوزُ لَعْنُهُ ؛ لِأَنَّ حَالَهُ عِنْدَ الْمُوَافَاةِ لَا تُعْلَمُ، وَقَدْ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي إطْلَاقِ اللَّعْنَةِ الْمُوَافَاةَ عَلَى الْكُفْرِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعْنُ أَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا :«دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ فَأَغْضَبَاهُ فَلَعَنَهُمَا » ؛ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِمَآلِهِمَا. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُ لَعْنِهِ لِظَاهِرِ حَالِهِ، كَجَوَازِ قِتَالِهِ وَقَتْلِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«اللَّهُمَّ إنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ هَجَانِي، قَدْ عَلِمَ أَنِّي لَسْت بِشَاعِرٍ فَالْعَنْهُ، اللَّهُمَّ وَاهْجُهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي » فَلَعَنَهُ. وَقَدْ كَانَ إلَى الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ وَالْإِيمَانِ مَآلُهُ، وَانْتَصَفَ بِقَوْلِهِ :«عَدَدَ مَا هَجَانِي ». وَلَمْ يَزِدْ لَيُعَلِّمَ الْعَدْلَ وَالْإِنْصَافَ وَالِانْتِصَافَ، وَأَضَافَ الْهَجْوَ إلَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي بَابِ الْجَزَاءِ دُونَ الِابْتِدَاءِ بِالْوَصْفِ لَهُ بِذَلِكَ، كَمَا يُضَافُ إلَيْهِ الِاسْتِهْزَاءُ وَالْمَكْرُ وَالْكَيْدُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ ذِمِّيًّا يَجُوزُ إصْغَارُهُ فَكَذَلِكَ لَعْنُهُ.
( تَرْكِيبٌ ) وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَأَمَّا الْعَاصِي الْمُعَيَّنُ، فَلَا يَجُوزُ لَعْنُهُ اتِّفَاقًا، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيءَ إلَيْهِ بِشَارِبِ خَمْرٍ مِرَارًا، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ : مَا لَهُ لَعَنَهُ اللَّهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ !فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَكُونُوا أَعْوَانًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ » ؛ فَجَعَلَ لَهُ حُرْمَةَ الْأُخُوَّةِ، وَهَذَا يُوجِبُ الشَّفَقَةَ، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا لَعْنُ الْعَاصِي مُطْلَقًا، وَهِيَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) فَيَجُوزُ إجْمَاعًا، لِمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ». وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ : إنَّ مَعْنَاهُ عَلَيْهِمْ اللَّعْنَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾. وَاَلَّذِي عِنْدِي صِحَّةُ لَعْنِهِ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ وَافَى كَافِرًا بِظَاهِرِ الْحَالِ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْكَفَرَةِ مِنْ لَعْنَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ حَالَةٌ أُخْرَى، وَبَيَانٌ لِحُكْمٍ آخَرَ وَحَالَةٍ وَاقِعَةٍ تَعْضُدُ جَوَازَ اللَّعْنِ فِي الدُّنْيَا ؛ وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ لِجَوَازِ اللَّعْنِ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ لِلْآيَتَيْنِ مَعْنَيَانِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ تَحْكُمُونَ بِجَوَازِ لَعْنَةِ اللَّهِ لِمَنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِ الْكُفْرِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوَافَاتَهُ مُؤْمِنًا ؟ قُلْنَا : كَذَلِكَ نَقُولُ، وَلَكِنّ لَعْنَةَ اللَّهِ لَهُ حُكْمُهُ بِجَوَازِ لَعْنِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَخْذًا بِظَاهِرِ حَالِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَآلِهِ.
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِّلَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّمَا ﴾ : وَهِيَ كَلِمَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْحَصْرِ تَتَضَمَّنُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ ؛ فَتُثْبِتُ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ.
وَقَدْ حَصَرَتْ هَاهُنَا الْمُحَرَّمَ لَاسِيَّمَا وَقَدْ جَاءَتْ عَقِبَ الْمُحَلَّلِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾. فَأَدَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْإِبَاحَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ عَقَّبَهَا بِالْمُحَرَّمِ بِكَلِمَةِ «إنَّمَا » الْحَاصِرَةِ ؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْإِيعَابَ لِلْقِسْمَيْنِ ؛ فَلَا مُحَرَّمَ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَأَكَّدَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى الَّتِي رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِعَرَفَةَ :﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا. . . ﴾ إلَى آخِرِهَا، فَاسْتَوَى الْبَيَانُ أَوَّلًا وَآخِرًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الْمَيْتَةَ ﴾.
وَهِيَ الْإِطْلَاقُ عُرْفًا، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ حُكْمًا مَا مَاتَ مِنْ الْحَيَوَانِ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ بِذَكَاةٍ، أَوْ مَقْتُولًا بِغَيْرِ ذَكَاةٍ، كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَسْتَبِيحُهُ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ فَجَادَلُوا فِيهِ فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي شَعْرِهَا وَصُوفِهَا وَقَرْنِهَا : وَيَأْتِي فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ وَخُصُوصِهَا :
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَالْمَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ ». ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ فِي الْجَرَادِ وَالسَّمَكِ، وَأَجَازَ أَكْلَهُمَا مِنْ غَيْرِ مُعَالَجَةٍ وَلَا ذَكَاةٍ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ فِي السَّمَكِ وَأَجَازَهُ فِي الْجَرَادِ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَعَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ. وَلَكِنَّهُ وَرَدَ فِي السَّمَكِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ جِدًّا : فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ يَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ، فَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَرُفِعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ، فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : مَيْتَةٌ، ثُمَّ قَالَ : بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ اُضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا. قَالَ : فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى سَمِنَّا، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ : فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ : هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا ؟ قَالَ : فَأَرْسَلْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، فَأَكَلَهُ ».
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ».
فَهَذَا الْحَدِيثُ يُخَصِّصُ بِصِحَّةِ سَنَدِهِ عُمُومَ الْقُرْآنِ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَيَعْضُدُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ﴾، فَصَيْدُهُ مَا صِيدَ وَتُكَلِّفُ أَخْذُهُ، وَطَعَامُهُ مَا طَفَا عَلَيْهِ، أَوْ جَزَرَ عَنْهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ فِي السَّمَكِ خَاصَّةً، وَرَأَى أَكْلَ مَيْتَتِهِ، وَمَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْجَرَادِ إلَّا بِذَكَاةٍ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ يَجْرِي عَلَى حَالِهِ حَتَّى يُخَصِّصَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، أَوْ الْآيَةُ الظَّاهِرَةُ، وَقَدْ وُجِدَ كِلَاهُمَا فِي السَّمَكِ، وَلَيْسَ فِي الْجَرَادِ حَدِيثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي أَكْلِ مَيْتَتِهِ.
أَمَّا أَكْلُ الْجَرَادِ فَجَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِيهِ أَخْبَارٌ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى :«غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ مَعَهُ ». وَرَوَى سَلْمَانُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«هُوَ أَكْثَرُ جُنُودِ اللَّهِ، لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ »، وَلَمْ يَصِحَّ. بَيْدَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ أَكَلَتْهُ، وَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ذَكَاةٍ عَلَى مَا يَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ كَعْبُ : إنَّهُ نَتْرَةُ حُوتٍ.
قُلْنَا : لَا يَنْبَنِي عَلَى قَوْل كَعْبٍ حُكْمٌ ؛ لِأَنَّهُ يُحَدِّثُ عَمَّا يَلْزَمُنَا تَصْدِيقُهُ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا تَكْذِيبُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَالدَّمَ ﴾.
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الدَّمَ حَرَامٌ نَجِسٌ لَا يُؤْكَلُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَقَدْ عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَاهُنَا مُطْلَقًا، وَعَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مُقَيَّدًا بِالْمَسْفُوحِ، وَحَمَلَ الْعُلَمَاءُ هَاهُنَا الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ إجْمَاعًا.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ :«لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي الْعُرُوقِ ؛ فَلَا تَلْتَفِتُوا فِي ذَلِكَ إلَى مَا يُعْزَى إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الدَّمِ ».
ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ فِي الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا تَخْصِيصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ مَخْصُوصٌ فِي الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يُخَصَّصْ، وَأَنَّ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ لَحْمٌ، يَشْهَدُ بِذَلِكَ الْعِيَانُ الَّذِي لَا يُعَارِضُهُ بَيَانٌ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى بُرْهَانٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ﴾.
اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ حَرَامٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ. وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ اللَّحْمِ أَنَّهُ حَيَوَانٌ يُذْبَحُ لِلْقَصْدِ إلَى لَحْمِهِ، وَقَدْ شَغَفَتْ الْمُبْتَدَعَةُ بِأَنْ تَقُولَ : فَمَا بَالُ شَحْمِهِ، بِأَيِّ شَيْءٍ حُرِّمَ ؟ وَهُمْ أَعَاجِمُ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَنْ قَالَ لَحْمًا فَقَدْ قَالَ شَحْمًا، وَمَنْ قَالَ شَحْمًا فَلَمْ يَقُلْ لَحْمًا ؛ إذْ كُلُّ شَحْمٍ لَحْمٌ، وَلَيْسَ كُلُّ لَحْمٍ شَحْمًا مِنْ جِهَةِ اخْتِصَاصِ اللَّفْظِ ؛ وَهُوَ لَحْمٌ مِنْ جِهَةِ حَقِيقَةِ اللَّحْمِيَّةِ، كَمَا أَنَّ كُلَّ حَمْدٍ شُكْرٌ، وَلَيْسَ كُلُّ شُكْرٍ حَمْدًا مِنْ جِهَةِ ذِكْرِ النِّعَمِ، وَهُوَ حَمْدٌ مِنْ جِهَةِ ذِكْرِ فَضَائِلِ الْمُنْعِمِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَتِهِ : فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ نَجِسٌ، وَقَالَ مَالِكٌ : إنَّهُ طَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ حَيَوَانٍ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الطَّهَارَةِ عِنْدَهُ هِيَ الْحَيَاةُ. وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَبَيَّنَّاهُ طَرْدًا وَعَكْسًا، وَحَقَّقْنَا مَا فِيهِ مِنْ الْإِحَالَةِ وَالْمُلَاءَمَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ وَمَنْ لَا يَرَاهُ بِمَا لَا مَطْعَن فِيهِ، وَهَذَا يُشِيرُ بِك إلَيْهِ، فَأَمَّا شَعْرُهُ فَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ﴾.
وَمَوْضِعُهَا سُورَةُ الْأَنْعَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَنْ اُضْطُرَّ ﴾.
وَتَصْرِيفُهُ اُفْتُعِلَ مِنْ الضَّرَرِ، كَقَوْلِهِ : اُفْتُتِنَ مِنْ الْفِتْنَةِ، أَيْ أَدْرَكَهُ ضَرَرٌ، وَوُجِدَ بِهِ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي حَقِيقَةِ الضَّرَرِ وَالْمُضْطَرِّ فِي كِتَابِ " الْمُشْكَلَيْنِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ.
بَيَانُهُ : أَنَّ الضَّرَرَ هُوَ الْأَلَمُ الَّذِي لَا نَفْعَ فِيهِ يُوَازِيهِ أَوْ يُرْبِي عَلَيْهِ، وَهُوَ نَقِيضُ النَّفْعِ، وَهُوَ الَّذِي لَا ضَرَرَ فِيهِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُوصَفْ شُرْبُ الْأَدْوِيَةِ الْكَرِيهَةِ وَالْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ بِالضَّرَرِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النَّفْعِ الْمُوَازِي لَهُ أَوْ الْمُرْبِي عَلَيْهِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ هُوَ الْمُكَلَّفُ بِالشَّيْءِ الْمُلْجَأُ إلَيْهِ، الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ اسْمُ الْمُكْرَهِ إلَّا لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الشَّيْءِ، وَمَنْ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ فِعْلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ، كَالْمُرْتَعِشِ وَالْمَحْمُومِ، لَا يُسَمَّى مُ
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا قَبْلُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَقَدْ كَانَ الشَّعْبِيُّ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْهُ يَقُولُ : فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَيَحْتَجُّ بِحَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ». وَهَذَا ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ عَنْ الشَّعْبِيِّ، وَلَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَإِذَا وَقَعَ أَدَاءُ الزَّكَاةِ وَنَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ حَاجَةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ الْمَالِ إلَيْهَا بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : يَجِبُ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِدَاءُ أَسَرَاهُمْ وَإِنْ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُمْ، وَكَذَا إذَا مَنَعَ الْوَالِي الزَّكَاةَ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ إغْنَاءُ الْفُقَرَاءِ ؟ مَسْأَلَةٌ فِيهَا نَظَرٌ، أَصَحُّهَا عِنْدِي وُجُوبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَالْمَسَاكِينَ ﴾ : يَعْنِي : الَّذِينَ لَا يَسْأَلُونَ، وَالسَّائِلِينَ يَعْنِي الَّذِينَ كَشَفُوا وُجُوهَهُمْ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَفِي الرِّقَابِ ﴾ : هُمْ عَبِيدٌ يُعْتَقُونَ قُرْبَةً، قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ : أَنَّهُمْ الْمُكَاتَبُونَ يُعَانُونَ فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ، وَذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ عَامٌّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾. قِيلَ الْمُرَادُ بِإِيتَاءِ الْمَالِ فِي أَوَّلِهَا التَّطَوُّعُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا قَدَّرْنَاهُ، وَبِالزَّكَاةِ هَاهُنَا الزَّكَاةُ الْمَعْرُوفَةُ. وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ هَاهُنَا تَفْسِيرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ ؛ فَبَيَّنَ الْمَالَ الْمُؤْتَى وَوَجْهَ الْإِيتَاءِ فِيهِ وَهُوَ الزَّكَاةُ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُمَا فَائِدَتَانِ : الْإِيتَاءُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوهِهِ، فَتَارَةً يَكُونُ نَدْبًا وَتَارَةً يَكُونُ فَرْضًا ؛ وَالْإِيتَاءُ الثَّانِي هُوَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى، فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ، ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَالَهَا الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ مِنْ الْعَرَبِ لَا يَرْضَى أَنْ يَأْخُذَ بِعَبْدٍ إلَّا حُرًّا، وَبِوَضِيعٍ إلَّا شَرِيفًا، وَبِامْرَأَةٍ إلَّا رَجُلًا ذَكَرًا، وَيَقُولُونَ : الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، فَرَدَّهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ إلَى الْقِصَاصِ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، فَقَالَ :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾. وَقَالَ تَعَالَى :﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾. وَبَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْعَدْلِ بَوْنٌ عَظِيمٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَعْنَى ﴿ كُتِبَ ﴾ : فُرِضَ وَأُلْزِمَ، وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَالْقِصَاصُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِخِيرَةِ الْوَلِيِّ ؛ وَمَعْنَى ذَلِكَ كُتِبَ وَفُرِضَ إذَا أَرَدْتُمْ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ فَقَدْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ، كَمَا يُقَالُ كُتِبَ عَلَيْك إذَا أَرَدْت التَّنَفُّلَ الْوُضُوءُ ؛ وَإِذَا أَرَدْت الصِّيَامَ النِّيَّةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ ؛ فَقِيلَ : هُوَ كَلَامٌ عَامٌّ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ سَائِرُهُمْ : لَا يَتِمُّ الْكَلَامُ هَاهُنَا ؛ وَإِنَّمَا يَنْقَضِي عِنْدَ قَوْله تَعَالَى :﴿ الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ﴾، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لَهُ، وَتَتْمِيمٌ لِمَعْنَاهُ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
( فَائِدَةٌ ) : وَرَدَ عَلَيْنَا بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَقِيهٌ مِنْ عُظَمَاءِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْرَفُ بِالزَّوْزَنِيِّ زَائِرًا لِلْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَحَضَرْنَا فِي حَرَمِ الصَّخْرَةِ الْمُقَدَّسَةِ طَهَّرَهَا اللَّهُ مَعَهُ، وَشَهِدَ عُلَمَاءُ الْبَلَدِ، فَسُئِلَ عَلَى الْعَادَةِ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، فَقَالَ : يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا ؛ فَطُولِبَ بِالدَّلِيلِ، فَقَالَ : الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى ﴿ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾. وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ قَتِيلٍ.
فَانْتَدَبَ مَعَهُ لِلْكَلَامِ فَقِيهُ الشَّافِعِيَّةِ بِهَا وَإِمَامُهُمْ عَطَاءٌ الْمَقْدِسِيُّ، وَقَالَ : مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ ﴾، فَشَرَطَ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمُجَازَاةِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ؛ فَإِنَّ الْكُفْرَ حَطَّ مَنْزِلَتَهُ وَوَضَعَ مَرْتَبَتَهُ.
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَبَطَ آخِرَ الْآيَةِ بِأَوَّلِهَا، وَجَعَلَ بَيَانَهَا عِنْدَ تَمَامِهَا، فَقَالَ :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ﴾ فَإِذَا نَقَصَ الْعَبْدُ عَنْ الْحُرِّ بِالرِّقِّ، وَهُوَ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ فَأَحْرَى وَأَوْلَى أَنْ يَنْقُصَ عَنْهُ الْكَافِرُ.
الثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ ؛ وَلَا مُؤَاخَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ؛ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِ فِي هَذَا الْقَوْلِ.
فَقَالَ الزَّوْزَنِيُّ : بَلْ ذَلِكَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ، وَمَا اعْتَرَضْت بِهِ لَا يَلْزَمُنِي مِنْهُ شَيْءٌ.
أَمَّا قَوْلُك : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمُجَازَاةِ فَكَذَلِكَ أَقُولُ. وَأَمَّا دَعْوَاك أَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ فِي الْقِصَاصِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْحُرْمَةِ الَّتِي تَكْفِي فِي الْقِصَاصِ، وَهِيَ حُرْمَةُ الدَّمِ الثَّابِتَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ ؛ فَإِنَّ الذِّمِّيَّ مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْمُسْلِمَ مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَكِلَاهُمَا قَدْ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَالَ الذِّمِّيِّ قَدْ سَاوَى مَالَ الْمُسْلِمِ ؛ فَدَلَّ عَلَى مُسَاوَاتِهِ لِدَمِهِ ؛ إذِ الْمَالُ إنَّمَا يَحْرُمُ بِحُرْمَةِ مَالِكِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُك : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبَطَ آخِرَ الْآيَةِ بِأَوَّلِهَا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ عَامٌّ وَآخِرُهَا خَاصٌّ، وَخُصُوصُ آخِرِهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ أَوَّلِهَا ؛ بَلْ يَجْرِي كُلٌّ عَلَى حُكْمِهِ مِنْ عُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ.
وَأَمَّا قَوْلُك : إنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، فَلَا أُسَلِّمُ بِهِ ؛ بَلْ يُقْتَلُ بِهِ عِنْدِي قِصَاصًا، فَتَعَلَّقْت بِدَعْوَى لَا تَصِحُّ لَك.
وَأَمَّا قَوْلُك : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ، يَعْنِي الْمُسْلِمَ، فَكَذَلِكَ أَقُولُ، وَلَكِنَّ هَذَا خُصُوصٌ فِي الْعَفْوِ ؛ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ وُرُودِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ ؛ فَعُمُومُ إحْدَاهُمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ خُصُوصِ الْأُخْرَى، وَلَا خُصُوصَ هَذِهِ يُنَاقِضُ عُمُومَ تِلْكَ. وَجَرَتْ فِي ذَلِكَ مُنَاظَرَةٌ عَظِيمَةٌ حَصَّلْنَا مِنْهَا فَوَائِدَ جَمَّةً أَثْبَتْنَاهَا فِي " نُزْهَةِ النَّاظِرِ "، وَهَذَا الْمِقْدَارُ يَكْفِي هُنَا مِنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الْحُرُّ بِالْحُرِّ ﴾. تَعَلَّقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذَا التَّنْوِيعِ وَالتَّقْسِيمِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ نَظِيرَ الْحُرِّ وَمُسَاوِيهِ وَهُوَ الْحُرُّ، وَبَيَّنَ الْعَبْدَ وَمُسَاوِيهِ وَهُوَ الْعَبْدُ، وَيَعْضُدُهُ مَا نَاقَضَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ طَرْفِ الْحُرِّ وَطَرْفِ الْعَبْدِ، وَلَا يَجْرِي الْقِصَاصُ مِنْهُمَا فِي الْأَطْرَافِ، فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ أَنْ يَجْرِيَ فِي الْأَنْفُسِ، وَلَقَدْ بَلَغَتِ الْجَهَالَةُ بِأَقْوَامٍ أَنْ قَالُوا : يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِ نَفْسِهِ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ ». وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ﴾. والْوَلِيُّ هَاهُنَا السَّيِّدُ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى نَفْسِهِ !
فَإِنْ قِيلَ : جَعَلَهُ إلَى الْإِمَامِ.
قِيلَ : إنَّمَا يَكُونُ لِلْإِمَامِ إذَا ثَبَتَ لِلْمُسْلِمِينَ مِيرَاثًا، فَيَأْخُذُهُ الْإِمَامُ نِيَابَةً عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُمْ، وَنِيَابَتُهُ هَاهُنَا عَنْ السَّيِّدِ مُحَالٌ فَلَا يُقَادُ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ – وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ - فَقَدْ قَالَ تَعَالَى :﴿ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ﴾، فَلَمْ يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى.
قُلْنَا : ذَلِكَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ دَلِيلٌ آخَرُ، وَلَوْ تَرَكْنَا هَذَا التَّقْسِيمَ لَقُلْنَا : لَا يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى.
فَإِنْ قِيلَ : إذَا قَتَلَ الرَّجُلُ زَوْجَهُ لِمَ لَمْ تَقُولُوا : يَنْتَصِبُ النِّكَاحُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ عَنْ الزَّوْجِ كَمَا انْتَصَبَ النَّسَبُ الَّذِي هُوَ فَرْعُهُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ عَنْ النَّسَبِ ؛ إذْ النِّكَاحُ ضَرْبٌ مِنْ الرِّقِّ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَنْتَصِبَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ.
قُلْنَا : النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ لَهَا عَلَيْهِ كَمَا يَنْعَقِدُ لَهُ عَلَيْهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ أُخْتَهَا وَلَا أَرْبَعًا سِوَاهَا، وَيَحِلُّ لَهَا مِنْهُ مَا يَحِلُّ لَهُ مِنْهَا، وَتُطَالِبُهُ مِنْ الْوَطْءِ بِمَا يُطَالِبُهَا، وَلَكِنْ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلُ الْقَوَامِيَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ عَلَيْهَا بِمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ، أَيْ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ صَدَاقٍ وَنَفَقَةٍ، فَلَوْ أَوْرَثَ شُبْهَةً لَأَوْرَثَهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَقُولُوا كَمَا قَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ : إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَتَلَ امْرَأَتَهُ فَقَتَلَهُ وَلِيُّهَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ شَيْءٌ زَائِدٌ. وَلَوْ قَتَلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا قُتِلَتْ، وَأُخِذَ مِنْ مَالِهَا نِصْفُ الْعَقْلِ.
قُلْنَا : هُوَ مَسْبُوقٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَحْجُوجٌ بِالْعُمُومِيَّاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْقِصَاصِ دُونَ اعْتِبَارِ شَيْءٍ مِنْ الدِّيَةِ فِيهِمَا.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ :
أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي هَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ الْحُرَّةَ تُقْتَلُ بِالْحُرَّةِ، كَمَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْأَمَةُ تُقْتَلُ بِالْأَمَةِ كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْقِصَاصُ أَيْضًا يَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ﴾. وَهَذ
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ ﴾ : وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَبَدِيعُ الْإِشَارَةِ فِيهِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْمُشْكَلَيْنِ " الْمَحْفُوظِ.
الْمَعْنَى ثَبَتَ عَلَيْكُمْ فِي اللَّوْحِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ وَلَا يَلْحَقُهُ تَبْدِيلٌ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ أَنَّ الْفُرُوضَ عَلَى قِسْمَيْنِ : فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ، وَفَرْضٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِرَادَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ ﴾.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَيْسَ يُرِيدُ حُضُورَ الْمَوْتِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ، وَلَا لَهُ فِي الدُّنْيَا حِصَّةٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَنْظِمَ مِنْ كَلَامِهَا لَفْظَةً، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ لَكَانَ تَكْلِيفٌ مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ ؛ وَلَكِنْ يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا إذَا قَرُبَ حُضُورُ الْمَوْتِ، وَأَمَارَةُ ذَلِكَ كِبَرُهُ فِي السِّنِّ ؛ أَوْ سَفَرٍ ؛ فَإِنَّهُ غَرَرٌ ؛ أَوْ تَوَقُّعُ أَمْرٍ طَارِئٍ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ أَوْ تَحَقُّقُ النَّفْسِ لَهُ بِأَنَّهَا سَبِيلٌ هُوَ آتِيهَا لَا مَحَالَةَ، إذِ الْمَوْتُ رُبَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا.
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا مَرِضَ ؛ فَإِنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ، وَمَتَى حَضَرَ السَّبَبُ كَنَّتْ بِهِ الْعَرَبُ عَنْ الْمُسَبَّبِ قَالَ شَاعِرُهُمْ :
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا قَوْلًا يُبَرِّئْكُمْ إنِّي أَنَا الْمَوْتُ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الْوَصِيَّةُ ﴾ : هِيَ الْقَوْلُ الْمُبَيِّنُ لِمَا يَسْتَأْنِفُ عَمَلَهُ وَالْقِيَامَ بِهِ، وَهِيَ هَاهُنَا مَخْصُوصَةٌ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِطْلَاقِ وَالْعُرْفِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : تَأْخِيرُ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمَرَضِ مَذْمُومٌ شَرْعًا، رَوَى مُسْلِمٌ وَالْأَئِمَّةُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْت : لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ كَذَا ».
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي حُكْمِهَا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهَا وَاجِبَةٌ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ - وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ - إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ ».
وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي نَسْخِهَا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : نُسِخَ جَمِيعُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : نُسِخَ بَعْضُهَا، وَهِيَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ ؛ وَالصَّحِيحُ نَسْخُهَا، وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ إلَّا فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَيَانُهُ أَوْ الْخُرُوجُ بِأَدَاءٍ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ اللَّفْظُ بِظَاهِرِهِ، وَذِكْرُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ الْحَقِّ الَّذِي يَقْتَضِي الْحَثَّ، وَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالنَّدْبَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنْ تَرَكَ خَيْرًا ﴾ : يَعْنِي مَالًا، وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَقْدِيرِهِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ والأحْكامِيُّونَ أَقْوَالًا كُلُّهَا دَعَاوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَخْتَلِفْ وَلَا يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ، بَلْ يُوصِي مِنْ الْقَلِيلِ قَلِيلًا، وَمِنْ الْكَثِيرِ كَثِيرًا، وَحَيْثُ وَرَدَ ذِكْرُ الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ يُسَمَّى بِالْخَيْرِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَةِ الدُّنْيَا. فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَو َيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إلَّا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إلَّا آكِلَةُ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى إذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ؛ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ ».
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فِي كَيْفِيَّةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، لُبَابُهُ مَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْوَالِدَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَفَرَضَ لِلزَّوْجِ وَلِلزَّوْجَةِ فَرْضَيْهِمَا ؛ وَهَذَا نَصٌّ لَا مَعْدَلَ لِأَحَدٍ عَنْهُ، فَمَنْ كَانَ مِنْ الْقَرَابَةِ وَارِثًا دَخَلَ مَدْخَلَ الْأَبَوَيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا قِيلَ لَهُ : إنْ قَطْعَك مِنْ الْمِيرَاثِ الْوَاجِبِ إخْرَاجٌ لَك عَنْ الْوَصِيَّةِ الْوَاجِبَةِ، وَيَبْقَى الِاسْتِحْبَابُ لِسَائِرِ الْقَرَابَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : يَعْنِي بِالْعَدْلِ الَّذِي لَا وَكْسَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ ؛ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِ الْمَيِّتِ وَنَظَرِ الْمُوصِي، ثُمَّ تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى تَقْدِيرَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ :«الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ » ؛ فَصَارَ ذَلِكَ مِقْدَارًا شَرْعِيًّا مُبَيَّنًا حُكْمُهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ :«إنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ». وَقَدْ أَخْبَرَنَا ابْنُ يُوسُفَ مِنْ كِتَابِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصٍ الْقَاضِي الْحِيرِيُّ بِشَاغُورَ قِرَاءَةً عَلَيْهِ : أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ : سَمِعْت طَلْحَةَ بْنِ عُمَرَ الْمَكِّيِّ، سَمِعْت عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ :«إنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ».
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ :﴿ حَقًّا ﴾ : يَعْنِي ثَابِتًا ثُبُوتَ نَظَرٍ وَتَخْصِيصٍ، لَا ثُبُوتَ فَرْضٍ وَوُجُوبٍ، وَهَكَذَا وَرَدَ عَنْ عُلَمَائِنَا حَيْثُ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثَّابِتُ، وَقَدْ ثَبَتَ الْمَعْنَى فِي الشَّرِيعَةِ نَدْبًا، وَقَدْ ثَبَتَ فَرْضًا، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَدْبًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَتَّقِي، أَيْ يَخَافُ تَقْصِيرًا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَمَا يُتَوَقَّعُ تَلَفُهُ إنْ مَاتَ فَتَلْزَمُهُ فَرْضًا الْمُبَادَرَةُ بِكَتْبِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَمِمَّا صَحَّ مِنْ النَّظَرِ، وَأَنَّهُ إنْ سَكَتَ عَنْهُ كَانَ تَضْيِيعًا لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ ﴾، يَعْنِي سَمِعَهُ مِنَ الْمُوصِي، أَوْ سَمِعَهُ مِمَّنْ ثَبَتَ بِهِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ عَدْلَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ﴾ :
الْمَعْنَى أَنَّ الْمُوصِيَ بِالْوَصِيَّةِ خَرَجَ عَنْ اللَّوْمِ وَتَوَجَّهَ عَلَى الْوَارِثِ أَوْ الْوَلِيِّ.
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ إذَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ خَرَجَ عَنْ ذِمَّتِهِ وَصَارَ الْوَلِيُّ مَطْلُوبًا بِهِ، لَهُ الْأَجْرُ فِي قَضَائِهِ، وَعَلَيْهِ الْوِزْرُ فِي تَأْخِيرِهِ ؛ وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْمَيِّتُ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَدَائِهِ، وَأَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَتَرَكَهُ، ثُمَّ وَصَّى بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُزِيلُهُ عَنْ ذِمَّتِهِ تَفْرِيطُ الْوَلِيِّ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا ﴾.
الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَمَنْ خَافَ ﴾ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، قِيلَ
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٨٠:الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.

فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ ﴾ : وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَبَدِيعُ الْإِشَارَةِ فِيهِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْمُشْكَلَيْنِ " الْمَحْفُوظِ.
الْمَعْنَى ثَبَتَ عَلَيْكُمْ فِي اللَّوْحِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ وَلَا يَلْحَقُهُ تَبْدِيلٌ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ أَنَّ الْفُرُوضَ عَلَى قِسْمَيْنِ : فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ، وَفَرْضٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِرَادَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ ﴾.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَيْسَ يُرِيدُ حُضُورَ الْمَوْتِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ، وَلَا لَهُ فِي الدُّنْيَا حِصَّةٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَنْظِمَ مِنْ كَلَامِهَا لَفْظَةً، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ لَكَانَ تَكْلِيفٌ مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ ؛ وَلَكِنْ يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا إذَا قَرُبَ حُضُورُ الْمَوْتِ، وَأَمَارَةُ ذَلِكَ كِبَرُهُ فِي السِّنِّ ؛ أَوْ سَفَرٍ ؛ فَإِنَّهُ غَرَرٌ ؛ أَوْ تَوَقُّعُ أَمْرٍ طَارِئٍ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ أَوْ تَحَقُّقُ النَّفْسِ لَهُ بِأَنَّهَا سَبِيلٌ هُوَ آتِيهَا لَا مَحَالَةَ، إذِ الْمَوْتُ رُبَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا.
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا مَرِضَ ؛ فَإِنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ، وَمَتَى حَضَرَ السَّبَبُ كَنَّتْ بِهِ الْعَرَبُ عَنْ الْمُسَبَّبِ قَالَ شَاعِرُهُمْ :
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا قَوْلًا يُبَرِّئْكُمْ إنِّي أَنَا الْمَوْتُ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الْوَصِيَّةُ ﴾ : هِيَ الْقَوْلُ الْمُبَيِّنُ لِمَا يَسْتَأْنِفُ عَمَلَهُ وَالْقِيَامَ بِهِ، وَهِيَ هَاهُنَا مَخْصُوصَةٌ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِطْلَاقِ وَالْعُرْفِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : تَأْخِيرُ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمَرَضِ مَذْمُومٌ شَرْعًا، رَوَى مُسْلِمٌ وَالْأَئِمَّةُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْت : لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ كَذَا ».
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي حُكْمِهَا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهَا وَاجِبَةٌ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ - وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ - إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ ».
وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي نَسْخِهَا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : نُسِخَ جَمِيعُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : نُسِخَ بَعْضُهَا، وَهِيَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ ؛ وَالصَّحِيحُ نَسْخُهَا، وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ إلَّا فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَيَانُهُ أَوْ الْخُرُوجُ بِأَدَاءٍ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ اللَّفْظُ بِظَاهِرِهِ، وَذِكْرُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ الْحَقِّ الَّذِي يَقْتَضِي الْحَثَّ، وَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالنَّدْبَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنْ تَرَكَ خَيْرًا ﴾ : يَعْنِي مَالًا، وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَقْدِيرِهِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ والأحْكامِيُّونَ أَقْوَالًا كُلُّهَا دَعَاوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَخْتَلِفْ وَلَا يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ، بَلْ يُوصِي مِنْ الْقَلِيلِ قَلِيلًا، وَمِنْ الْكَثِيرِ كَثِيرًا، وَحَيْثُ وَرَدَ ذِكْرُ الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ يُسَمَّى بِالْخَيْرِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَةِ الدُّنْيَا. فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَو َيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إلَّا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إلَّا آكِلَةُ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى إذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ؛ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ ».
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فِي كَيْفِيَّةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، لُبَابُهُ مَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْوَالِدَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَفَرَضَ لِلزَّوْجِ وَلِلزَّوْجَةِ فَرْضَيْهِمَا ؛ وَهَذَا نَصٌّ لَا مَعْدَلَ لِأَحَدٍ عَنْهُ، فَمَنْ كَانَ مِنْ الْقَرَابَةِ وَارِثًا دَخَلَ مَدْخَلَ الْأَبَوَيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا قِيلَ لَهُ : إنْ قَطْعَك مِنْ الْمِيرَاثِ الْوَاجِبِ إخْرَاجٌ لَك عَنْ الْوَصِيَّةِ الْوَاجِبَةِ، وَيَبْقَى الِاسْتِحْبَابُ لِسَائِرِ الْقَرَابَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : يَعْنِي بِالْعَدْلِ الَّذِي لَا وَكْسَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ ؛ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِ الْمَيِّتِ وَنَظَرِ الْمُوصِي، ثُمَّ تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى تَقْدِيرَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ :«الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ » ؛ فَصَارَ ذَلِكَ مِقْدَارًا شَرْعِيًّا مُبَيَّنًا حُكْمُهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ :«إنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ». وَقَدْ أَخْبَرَنَا ابْنُ يُوسُفَ مِنْ كِتَابِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصٍ الْقَاضِي الْحِيرِيُّ بِشَاغُورَ قِرَاءَةً عَلَيْهِ : أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ : سَمِعْت طَلْحَةَ بْنِ عُمَرَ الْمَكِّيِّ، سَمِعْت عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ :«إنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ».
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ :﴿ حَقًّا ﴾ : يَعْنِي ثَابِتًا ثُبُوتَ نَظَرٍ وَتَخْصِيصٍ، لَا ثُبُوتَ فَرْضٍ وَوُجُوبٍ، وَهَكَذَا وَرَدَ عَنْ عُلَمَائِنَا حَيْثُ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثَّابِتُ، وَقَدْ ثَبَتَ الْمَعْنَى فِي الشَّرِيعَةِ نَدْبًا، وَقَدْ ثَبَتَ فَرْضًا، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَدْبًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَتَّقِي، أَيْ يَخَافُ تَقْصِيرًا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَمَا يُتَوَقَّعُ تَلَفُهُ إنْ مَاتَ فَتَلْزَمُهُ فَرْضًا الْمُبَادَرَةُ بِكَتْبِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَمِمَّا صَحَّ مِنْ النَّظَرِ، وَأَنَّهُ إنْ سَكَتَ عَنْهُ كَانَ تَضْيِيعًا لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ ﴾، يَعْنِي سَمِعَهُ مِنَ الْمُوصِي، أَوْ سَمِعَهُ مِمَّنْ ثَبَتَ بِهِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ عَدْلَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ﴾ :
الْمَعْنَى أَنَّ الْمُوصِيَ بِالْوَصِيَّةِ خَرَجَ عَنْ اللَّوْمِ وَتَوَجَّهَ عَلَى الْوَارِثِ أَوْ الْوَلِيِّ.
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ إذَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ خَرَجَ عَنْ ذِمَّتِهِ وَصَارَ الْوَلِيُّ مَطْلُوبًا بِهِ، لَهُ الْأَجْرُ فِي قَضَائِهِ، وَعَلَيْهِ الْوِزْرُ فِي تَأْخِيرِهِ ؛ وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْمَيِّتُ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَدَائِهِ، وَأَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَتَرَكَهُ، ثُمَّ وَصَّى بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُزِيلُهُ عَنْ ذِمَّتِهِ تَفْرِيطُ الْوَلِيِّ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا ﴾.
الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَمَنْ خَافَ ﴾ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، قِيلَ

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٨٠:الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.

فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ ﴾ : وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَبَدِيعُ الْإِشَارَةِ فِيهِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْمُشْكَلَيْنِ " الْمَحْفُوظِ.
الْمَعْنَى ثَبَتَ عَلَيْكُمْ فِي اللَّوْحِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ وَلَا يَلْحَقُهُ تَبْدِيلٌ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ أَنَّ الْفُرُوضَ عَلَى قِسْمَيْنِ : فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ، وَفَرْضٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِرَادَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ ﴾.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَيْسَ يُرِيدُ حُضُورَ الْمَوْتِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ، وَلَا لَهُ فِي الدُّنْيَا حِصَّةٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَنْظِمَ مِنْ كَلَامِهَا لَفْظَةً، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ لَكَانَ تَكْلِيفٌ مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ ؛ وَلَكِنْ يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا إذَا قَرُبَ حُضُورُ الْمَوْتِ، وَأَمَارَةُ ذَلِكَ كِبَرُهُ فِي السِّنِّ ؛ أَوْ سَفَرٍ ؛ فَإِنَّهُ غَرَرٌ ؛ أَوْ تَوَقُّعُ أَمْرٍ طَارِئٍ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ أَوْ تَحَقُّقُ النَّفْسِ لَهُ بِأَنَّهَا سَبِيلٌ هُوَ آتِيهَا لَا مَحَالَةَ، إذِ الْمَوْتُ رُبَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا.
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا مَرِضَ ؛ فَإِنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ، وَمَتَى حَضَرَ السَّبَبُ كَنَّتْ بِهِ الْعَرَبُ عَنْ الْمُسَبَّبِ قَالَ شَاعِرُهُمْ :
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا قَوْلًا يُبَرِّئْكُمْ إنِّي أَنَا الْمَوْتُ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الْوَصِيَّةُ ﴾ : هِيَ الْقَوْلُ الْمُبَيِّنُ لِمَا يَسْتَأْنِفُ عَمَلَهُ وَالْقِيَامَ بِهِ، وَهِيَ هَاهُنَا مَخْصُوصَةٌ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِطْلَاقِ وَالْعُرْفِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : تَأْخِيرُ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمَرَضِ مَذْمُومٌ شَرْعًا، رَوَى مُسْلِمٌ وَالْأَئِمَّةُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْت : لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ كَذَا ».
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي حُكْمِهَا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهَا وَاجِبَةٌ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ - وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ - إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ ».
وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي نَسْخِهَا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : نُسِخَ جَمِيعُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : نُسِخَ بَعْضُهَا، وَهِيَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ ؛ وَالصَّحِيحُ نَسْخُهَا، وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ إلَّا فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَيَانُهُ أَوْ الْخُرُوجُ بِأَدَاءٍ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ اللَّفْظُ بِظَاهِرِهِ، وَذِكْرُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ الْحَقِّ الَّذِي يَقْتَضِي الْحَثَّ، وَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالنَّدْبَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنْ تَرَكَ خَيْرًا ﴾ : يَعْنِي مَالًا، وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَقْدِيرِهِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ والأحْكامِيُّونَ أَقْوَالًا كُلُّهَا دَعَاوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَخْتَلِفْ وَلَا يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ، بَلْ يُوصِي مِنْ الْقَلِيلِ قَلِيلًا، وَمِنْ الْكَثِيرِ كَثِيرًا، وَحَيْثُ وَرَدَ ذِكْرُ الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ يُسَمَّى بِالْخَيْرِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَةِ الدُّنْيَا. فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَو َيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إلَّا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إلَّا آكِلَةُ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى إذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ؛ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ ».
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فِي كَيْفِيَّةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، لُبَابُهُ مَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْوَالِدَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَفَرَضَ لِلزَّوْجِ وَلِلزَّوْجَةِ فَرْضَيْهِمَا ؛ وَهَذَا نَصٌّ لَا مَعْدَلَ لِأَحَدٍ عَنْهُ، فَمَنْ كَانَ مِنْ الْقَرَابَةِ وَارِثًا دَخَلَ مَدْخَلَ الْأَبَوَيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا قِيلَ لَهُ : إنْ قَطْعَك مِنْ الْمِيرَاثِ الْوَاجِبِ إخْرَاجٌ لَك عَنْ الْوَصِيَّةِ الْوَاجِبَةِ، وَيَبْقَى الِاسْتِحْبَابُ لِسَائِرِ الْقَرَابَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : يَعْنِي بِالْعَدْلِ الَّذِي لَا وَكْسَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ ؛ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِ الْمَيِّتِ وَنَظَرِ الْمُوصِي، ثُمَّ تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى تَقْدِيرَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ :«الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ » ؛ فَصَارَ ذَلِكَ مِقْدَارًا شَرْعِيًّا مُبَيَّنًا حُكْمُهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ :«إنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ». وَقَدْ أَخْبَرَنَا ابْنُ يُوسُفَ مِنْ كِتَابِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصٍ الْقَاضِي الْحِيرِيُّ بِشَاغُورَ قِرَاءَةً عَلَيْهِ : أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ : سَمِعْت طَلْحَةَ بْنِ عُمَرَ الْمَكِّيِّ، سَمِعْت عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ :«إنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ».
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ :﴿ حَقًّا ﴾ : يَعْنِي ثَابِتًا ثُبُوتَ نَظَرٍ وَتَخْصِيصٍ، لَا ثُبُوتَ فَرْضٍ وَوُجُوبٍ، وَهَكَذَا وَرَدَ عَنْ عُلَمَائِنَا حَيْثُ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثَّابِتُ، وَقَدْ ثَبَتَ الْمَعْنَى فِي الشَّرِيعَةِ نَدْبًا، وَقَدْ ثَبَتَ فَرْضًا، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَدْبًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَتَّقِي، أَيْ يَخَافُ تَقْصِيرًا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَمَا يُتَوَقَّعُ تَلَفُهُ إنْ مَاتَ فَتَلْزَمُهُ فَرْضًا الْمُبَادَرَةُ بِكَتْبِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَمِمَّا صَحَّ مِنْ النَّظَرِ، وَأَنَّهُ إنْ سَكَتَ عَنْهُ كَانَ تَضْيِيعًا لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ ﴾، يَعْنِي سَمِعَهُ مِنَ الْمُوصِي، أَوْ سَمِعَهُ مِمَّنْ ثَبَتَ بِهِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ عَدْلَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ﴾ :
الْمَعْنَى أَنَّ الْمُوصِيَ بِالْوَصِيَّةِ خَرَجَ عَنْ اللَّوْمِ وَتَوَجَّهَ عَلَى الْوَارِثِ أَوْ الْوَلِيِّ.
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ إذَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ خَرَجَ عَنْ ذِمَّتِهِ وَصَارَ الْوَلِيُّ مَطْلُوبًا بِهِ، لَهُ الْأَجْرُ فِي قَضَائِهِ، وَعَلَيْهِ الْوِزْرُ فِي تَأْخِيرِهِ ؛ وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْمَيِّتُ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَدَائِهِ، وَأَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَتَرَكَهُ، ثُمَّ وَصَّى بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُزِيلُهُ عَنْ ذِمَّتِهِ تَفْرِيطُ الْوَلِيِّ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا ﴾.
الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَمَنْ خَافَ ﴾ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، قِيلَ

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ ﴾، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الصِّيَامُ ﴾ : وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةً عَنْ الْإِمْسَاكِ الْمُطْلَقِ لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا مَعْنَى لَهُ غَيْرَهُ، وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ هَكَذَا خَاصَّةً لَكَانَ فِيهِ كَلَامٌ فِي الْعُمُومِ وَالْإِجْمَالِ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى :﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ كَانَ تَفْسِيرًا لَهُ وَتَمْثِيلًا بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾.
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قِيلَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَقِيلَ هُم النَّصَارَى. وَقِيلَ هُمْ جَمِيعُ النَّاسِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ الصَّوْمُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا بِإِمْسَاكِ اللِّسَانِ عَنْ الْكَلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِنَا ؛ فَصَارَ ظَاهِرُ الْقَوْلِ رَاجِعًا إلَى النَّصَارَى لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ الْأَدْنَوْنَ إلَيْنَا. الثَّانِي أَنَّ الصَّوْمَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ كَانَ إذَا نَامَ الرَّجُلُ لَمْ يُفْطِرْ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِصَوْمِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ كَمَا كُتِبَ ﴾.
وَجْهُ التَّشْبِيهِ فِيهِ مُحْتَمِلٌ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
الزَّمَانُ وَالْقَدْرُ وَالْوَصْفُ، وَمُحْتَمِلٌ لِجَمِيعِهَا، وَمُحْتَمِلٌ لِاثْنَيْنِ مِنْهَا ؛ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الزَّمَانِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَصُومُونَ رَمَضَانَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ عَلَيْهِمْ الزَّمَانُ فَكَانَ يَأْتِي فِي الْحَرِّ يَوْمًا طَوِيلًا، وَفِي الْبَرْدِ يَوْمًا قَصِيرًا ؛ فَارْتَأَوْا بِرَأْيِهِمْ أَنْ يَرُدُّوهُ فِي الزَّمَانِ الْمُعْتَدِلِ.
وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْعَدَدِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ.
الثَّانِي : أَنَّهُ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ النَّاسَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ :«مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا يَوْمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَغْرَقَ فِيهِ فِرْعَوْنَ ؛ فَقَالَ : نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ »، فَكَانَ هُوَ الْفَرِيضَةَ، حَتَّى نَزَلَ رَمَضَانُ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَكْتُبْ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَهُ ».
الثَّالِثُ : أَنَّهُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، كَمَا فُرِضَ عَلَى النَّصَارَى فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ غَيَّرُوهُ لِأَسْبَابٍ مَرْوِيَّةٍ.
وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْوَصْفِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، وَقَدْ كَانَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا يَصُومُونَ عَنْ الْكَلَامِ كُلِّهِ، وَفِي شَرْعِنَا الْأَمْرُ بِالصِّيَامِ عَنْ قَوْلِ الزُّورِ مُتَأَكَّدٌ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ فِي غَيْرِ الصِّيَامِ.
وَالْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ التَّشْبِيهُ فِي الْفَرْضِيَّةِ خَاصَّةً ؛ وَسَائِرُهُ مُحْتَمِلٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فِعْلَهُ.
الثَّانِي : لَعَلَّكُمْ تَضْعُفُونَ فَتَتَّقُونَ ؛ فَإِنَّهُ كُلَّمَا قَلَّ الْأَكْلُ ضَعُفَتْ الشَّهْوَةُ، وَكُلَّمَا ضَعُفَتْ الشَّهْوَةُ قَلَّتْ الْمَعَاصِي.
الثَّالِثُ : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مَا فَعَلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رُوِيَ أَنَّ النَّصَارَى بَدَّلَتْهُ إلَى الزَّمَانِ الْمُعْتَدِلِ، وَزَادَتْ فِيهِ كَفَّارَةُ عَشْرَةِ أَيَّامٍ ؛ وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ، وَمُرَادَةٌ بِالْآيَةِ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ حَقِيقَةٌ، وَالثَّانِي مَجَازٌ حَسَنٌ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي مَعْصِيَةٌ، وَالثَّالِثُ كُفْرٌ.
وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ عَلَى مَعْنَى الِاحْتِيَاطِ لِلْعِبَادَةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ إنَّمَا يُحْتَاطُ لَهَا إذَا وَجَبَتْ، وَقَبْلَ أَلَا تَجِبَ لَا احْتِيَاطَ شَرْعًا، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِدْعَةً وَمَكْرُوهًا. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَبِّهًا عَلَى ذَلِكَ :«لَا تُقَدِّمُوا الشَّهْرَ بِيَوْمٍ وَلَا بِيَوْمَيْنِ خَوْفًا أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : أَتَلَقَّى رَمَضَانَ بِالْعِبَادَةِ ». وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ عَدَمُ الزِّيَادَةِ فَقَالَ :«إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا يَصُمْ أَحَدٌ حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَانُ ». وَقَدْ شَنَّعَ أَهْلُ الْجَهَالَةِ بِأَنْ يَقُولُوا نُشَيِّعُ رَمَضَانَ ؛ وَلَا تُتَلَقَّى الْعِبَادَةُ وَلَا تُشَيَّعُ، إنَّمَا تُحْفَظُ فِي نَفْسِهَا وَتُحْرَسُ مِنْ زِيَادَةٍ فِيهَا أَوْ نُقْصَانٍ مِنْهَا. وَلِذَلِكَ كَرِهَ عُلَمَاءُ الدَّيْنِ أَنْ تُصَامَ الْأَيَّامُ السِّتَّةُ الَّتِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا :«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَسِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ » مُتَّصِلَةً بِرَمَضَانَ مَخَافَةَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَهْلُ الْجَهَالَةِ أَنَّهَا مِنْ رَمَضَانَ، وَرَأَوْا أَنَّ صَوْمَهَا مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ إلَى شَعْبَانَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا حَاصِلٌ بِتَضْعِيفِ الْحَسَنَةِ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا مَتَى فُعِلَتْ ؛ بَلْ صَوْمُهَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَفِي شَعْبَانَ أَفْضَلُ، وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ صَوْمَهَا مَخْصُوصٌ بِثَانِي يَوْمِ الْعِيدِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ سَالِكٌ سُنَنَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الزِّيَادَاتِ، دَاخِلٌ فِي وَعِيدِ الشَّرْعِ حَيْثُ قَالَ :«لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. . . » الْحَدِيثَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ رَمَضَانُ، لَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَقَدْ أَبْعَدَ ؛ لِأَنَّهُ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي الْوِصَالَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِيهِ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ.
الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ اقْتَضَى وِصَالًا غَيْرَ مَحْدُودٍ لَمَا تَحَصَّلَ لِأَحَدٍ تَقْدِيرُهُ، لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِيهِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْعُرْفِ، أَيْ أَنْ تَصُومُوا الْأَيَّامَ وَتُفْطِرُوا مِنْهَا زَمَنًا مَخْصُوصًا، وَكَانَ عِنْدَهُمْ مُتَعَيِّنًا إمَّا بِالْعُرْفِ الْمُتَقَدِّمِ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ نَصًّا، وَإِمَّا بِبَيَانٍ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ مُجْمَلًا، حَتَّى بَيَّنَهُ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ ﴾ :
لِلْمَرِيضِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَلَّا يُطِيقَ الصَّوْمَ بِحَالٍ، فَعَلَيْهِ الْفِطْرُ وَاجِبًا.
الثَّانِي : أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ بِضَرَرٍ وَمَشَقَّةٍ ؛ فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْفِطْرُ، وَلَا يَصُومُ إلَّا جَاهِلٌ.
وَقَدْ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَزْدِيُّ، أَنْبَأَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُسْلِمٍ عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ اللَّيْثِيُّ الْحَارِثِيُّ، قَالَ : أَخْبَرَنَا الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ رَبِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ، حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ النَّسَوِيُّ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي أَبُو حَسَّانَ صُهَيْبُ بْنُ سُلَيْمٍ، قَالَ : سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ : اعْتَلَلْتُ بِنَيْسَابُورَ عِلَّةً خَفِيفَةً، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَعَادَنِي إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لِي : أَفْطَرْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّه ! فَقُلْت : نَعَمْ. فَقَالَ : خَشِيتُ أَنْ أَضْعُفَ عَنْ قَبُولِ الرُّخْصَةِ.
قُلْت : أَنْبَأَنَا عَبْدَانُ، عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ : قُلْت لِعَطَاءٍ : مِنْ أَيِّ الْمَرَضِ أُفْطِرُ ؟ قَالَ : مِنْ أَيِّ مَرَضٍ كَانَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا ﴾.
قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَلَمْ يَكُنْ هَكَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ إِسْحَاقَ، وَهُوَ الثَّالِثُ.
الثَّانِي : الْمُسَافِرُ، وَالسَّفَرُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ الِانْكِشَافِ وَالْخُرُوجِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ ؛ وَهُوَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجٍ يَتَكَلَّفُ فِيهِ مُؤْنَةً، وَيَفْصِلُ فِيهِ بُعْدٌ فِي الْمَسَافَةِ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ مِنْ الشَّارِعِ نَصٌّ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِيهِ تَنْبِيهٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الصَّحِيحِ :«لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا ».
وَفِي تَقْدِيرِهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسَائِلِ.
وَالْعُمْدَةُ فِيهِ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَثْبُتُ فِي الذِّمِّيَّةِ بِيَقِينٍ، فَلَا بَرَاءَةَ لَهَا إلَّا بِيَقِينٍ مُسْقِطٍ ؛ وَقَدْرُ السَّفَرِ مَشْكُوكٌ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ سَفَرًا ظَاهِرًا، فَيَسْقُطُ الْأَصْلُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَبَحْثُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَتِنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالسَّفَرِ عَلِمَتْ الْعَرَبُ ذَلِكَ بِفَضْلِ عِلْمِهَا بِلِسَانِهَا، وَجَرْيِ عَادَتِهَا فِي أَعْمَالِهَا ؛ فَلَمَّا جَاءَ الْأَمْرُ اقْتَصَرْنَا فِيهِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْأَمْرِ مَبْنَى الْخِلَافِ ؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : أَقَلُّ السَّفَرِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ». وَفِي حَدِيثٍ :«وَسَفَرُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ »، وَفِي آخَرَ وَذَكَرَ تَمَامَهُ ؛ فَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ السَّفَرَ يَتَحَقَّقُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ : يَوْمٌ يَتَحَمَّلُ فِيهِ عَنْ أَهْلِهِ، وَيَوْمٍ يَنْزِلُ فِيهِ فِي مُسْتَقَرِّهِ، وَالْيَوْمِ الْأَوْسَطُ هُوَ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ السَّيْرُ الْمُجَرَّدُ، بِتَحَمُّلٍ لَا عَنْ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ، وَنُزُولٍ لَا فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ.
وَقُلْنَا لَهُ : إذَا كَانَ السَّفَرُ مُتَحَقِّقًا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَمَا سَرَدْت فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِثْلُهُ، وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّحَمُّلِ عَنْ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ فِي تَحْقِيقِ السَّفَرِ عَلَى الْمَبِيتِ فِي غَيْرِ الْمَنْزِلِ، ثُمَّ التَّحْدِيدُ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا، أَوْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا مَرَاحِلُ لَا تُدْرَكُ بِتَحْقِيقٍ أَبَدًا، وَإِنَّمَا هِيَ ظُنُونٌ ؛ فَرَجُلٌ احْتَاطَ وَزَادَ، وَرَجُلٌ تَرَخَّصَ، وَرَجُلٌ تَقَصَّرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا الْقَوْلُ مِنْ لَطِيفِ الْفَصَاحَةِ، لِأَنَّ تَقْرِيرَهُ : فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ ﴾. تَقْدِيرُهُ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ.
وَقَدْ عُزِيَ إلَى قَوْمٍ : إنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ قَضَاهُ، صَامَهُ أَوْ أَفْطَرَهُ، وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ إلَّا ضُعَفَاءُ الْأَعَاجِمِ ؛ فَإِنَّ جَزَالَةَ الْقَوْلِ وَقُوَّةَ الْفَصَاحَةِ تَقْتَضِي «فَأَفْطَرَ » ؛ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ قَوْلًا وَفِعْلًا ». وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ يُعْطِي بِظَاهِرِهِ قَضَاءَ الصَّوْمِ مُتَفَرِّقًا، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ.
وَإِنَّمَا وَجَبَ التَّتَابُعُ فِي الشَّهْرِ لِكَوْنِهِ مُعَيَّنًا، وَقَدْ عُدِمَ التَّعْيِينُ فِي الْقَضَاءِ فَجَازَ بِكُلِّ حَالٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ : يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِزَمَانٍ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّرَاخِيَ، فَإِنَّ اللَّفْظَ مُسْتَرْسِلٌ عَلَى الْأَزْمِنَةِ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ :«إنْ كَانَ لَيَكُونَ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ قَضَاءَهُ إلَّا فِي شَعْبَانَ لِلشُّغْلِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَكَانَتْ تَصُومُ بِصِيَامِهِ ؛ إذْ كَانَ صَوْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مَا كَانَ فِي شَعْبَانَ ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾.
وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ قِرَاءَاتٌ وَتَأْوِيلَاتٌ وَاخْتِلَافَاتٌ، وَهِيَ بَيْضَةُ الْعُقْرِ.
قُرِئَ يُطِيقُونَهُ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَقُرِئَ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالْيَاءِ وَتَشْدِيدِهِمَا، وَقُرِئَ كَذَلِكَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ، لَكِنَّ الْأُولَى مَضْمُومَةٌ، وَقُرِئَ يَطُوقُونَهُ، وَالْقِرَاءَةُ هِيَ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى، وَمَا وَرَاءَهَا - وَإِنْ رُوِيَ وَأُسْنِدَ - فَهِيَ شَوَاذٌّ، وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكْمٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا أَصْلٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ بَيَانًا شَافِيًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ كَذَلِكَ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَلَمَةَ، وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُمَا.
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : مَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا لَزِمَهُ الصَّوْمُ، وَمَنْ كَانَ مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا وَلَزِمَهُ الصَّوْمُ، وَأَرَادَ تَرْكَهُ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ مُطْلَقًا.
وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَرَّرَهُ، وَلَوْلَا تَجْدِيدُ الْفَرْضِ فِيهِ وَتَحْدِيدُهُ وَتَأْكِيدُهُ مَا كَانَ لِتَكْرَارِ ذَلِكَ فَائِدَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَهَذَا مُنْتَزَعٌ عَنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فََمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ﴾.
فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا مَنْ زَادَ عَلَى طَعَامِ مِسْكِينٍ. وَقِيلَ : مَنْ صَامَ ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ :﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ مَعْنَاهُ الصَّوْمُ خَيْرٌ مِنْ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، وَخَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ.
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّوْمَ الْفَرْضَ خَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ النَّفْلِ، وَالصَّدَقَةَ النَّفَلَ خَيْرٌ مِنْ الصَّوْمِ الن
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾ : تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ ﴾.
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ طَلْحَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ :«أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ ؛ فَقَالَ : خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ ؟ قَالَ : لَا، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ وَذَكَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ ؟ قَالَ : لَا، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. . . » الْحَدِيثَ.
فَجَاءَ هَذَا تَفْسِيرًا لِلْمَفْرُوضِ وَبَيَانًا لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾ : يَعْنِي هِلَالَ رَمَضَانَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الشَّهْرُ شَهْرًا لِشُهْرَتِهِ، فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا الصَّوْمَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَهَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ ». فَفَرَضَ عَلَيْنَا عِنْدَ غُمَّةِ الْهِلَالِ إكْمَالُ عِدَّةِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَإِكْمَالَ عِدَّةِ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا عِنْدَ غُمَّةِ هِلَالِ شَوَّالٍ، حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْعِبَادَةِ بِيَقِينٍ، وَيَخْرُجَ عَنْهَا بِيَقِينٍ.
وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَرَّحًا بِهِ أَنَّهُ قَالَ :«لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ ».
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«احْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾.
مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ بِمُشَاهَدَةِ الشَّهْرِ، وَهِيَ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ، وَكَذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ».
وَقَدْ زَلَّ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ فَقَالَ : يُعَوَّلُ عَلَى الْحِسَابِ بِتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ، حَتَّى يَدُلَّ مَا يَجْتَمِعُ حِسَابُهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحْوٌ لَرُئِيَ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ». مَعْنَاهُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فَأَكْمِلُوا الْمِقْدَارَ، وَلِذَلِكَ قَالَ :«فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ». وَفِي رِوَايَةٍ :«فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا صَوْمَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا » رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَقَدْ زَلَّ أَيْضًا بَعْضُ أَصْحَابِنَا فحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ :«يُعَوَّلُ عَلَى الْحِسَابِ وَهِيَ عَثْرَةٌ لَا لَعًا لَهَا ».
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ ﴾.
فِيهِ قَوْلَانِ :
الْأَوَّلُ : مَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ، وَهُوَ مُقِيمٌ، ثُمَّ سَافَرَ لَزِمَهُ الصَّوْمُ فِي بَقِيَّتِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ.
الثَّانِي : مَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْ مِنْهُ مَا شَهِدَ وَلْيُفْطِرْ مَا سَافَرَ.
وَقَدْ سَقَطَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ عَلَى الثَّانِي، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْ مِنْهُ مَا لَمْ يَشْهَدْ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ، فَأَفْطَرَ وَأَفْطَرَ الْمُسْلِمُونَ ».
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا صَامَ فِي الْمِصْرِ، ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ لَزِمَهُ إكْمَالُ الصَّوْمِ، فَلَوْ أَفْطَرَ قَالَ مَالِكٌ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ عُذْرٌ طَرَأَ، فَكَانَ كَالْمَرَضِ يَطْرَأُ عَلَيْهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَبِهِ أَقُولُ ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ طَرَأَ بَعْدَ لُزُومِ الْعِبَادَةِ، وَيُخَالِفُ الْمَرَضَ وَالْحَيْضَ، لِأَنَّ الْمَرَضَ يُبِيحُ لَهُ الْفِطْرَ، و الْحَيْضُ يُحَرِّمُ عَلَيْهِ الصَّوْمَ، وَالسَّفَرُ لَا يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ ؛ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِهَتْكِ حُرْمَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَصُومُهُ مَنْ رَآهُ، فَأَمَّا مَنْ أُخْبِرَ بِهِ فَيَلْزَمُهُ الصَّوْمُ ؛ لِأَنَّ رُؤْيَتَهُ قَدْ تَكُونُ لَمْحَةً، فَلَوْ وَقَفَ صَوْمُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى رُؤْيَتِهِ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْقَاطِهِ، إذْ لَا يُمْكِنُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَرَاهُ وَقْتَ طُلُوعِهِ، وَإِنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِي دَرْكِهِ كُلُّ أَحَدٍ وَيَمْتَدُّ أَمَدُهُ يُعْلَمُ بِخَبَرِ الْمُؤَذِّنِ، فَكَيْفَ الْهِلَالُ الَّذِي يَخْفَى أَمْرُهُ وَيَقْصُرُ أَمَدُهُ ؟
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِ الْخَبَرِ عَنْهُ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُجْزِي فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ كَالصَّلَاةِ، قَالَهُ أَبُو ثَوْرٍ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الشَّهَادَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، قَالَهُ مَالِكٌ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى أَوَّلَهُ مَجْرَى الْإِخْبَارِ وَأَجْرَى آخِرَهُ مَجْرَى الشَّهَادَةِ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ ؛ وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الِاحْتِيَاطِ لِلْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاطُ لِدُخُولِهَا كَمَا يَحْتَاطُ لِخُرُوجِهَا، وَالِاحْتِيَاطُ لِدُخُولِهَا أَلَّا تَلْزَمَ إلَّا بِيَقِينٍ.
وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَاسْتَظْهَرَ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :«جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَبْصَرْتُ الْهِلَالَ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ : أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ. قَالَ : يَا بِلَالُ ؛ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا ». خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :«أَخْبَرْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْت الْهِلَالَ، فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ ».
وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رُوِيَ مُرْسَلًا تَارَةً وَتَارَةً مُسْنَدًا ؛ وَهَذَا مِمَّا لَا يَقْدَحُ عِنْدَنَا فِي الْإِخْبَارِ، وَبِهِ قَالَ النَّظَّامُ ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ يُسْنِدُهُ تَارَةً وَيُرْسِلُهُ تَارَةً أُخْرَى، وَيُسْنِدُهُ رَجُلٌ وَيُرْسِلُهُ آخَرُ.
وَقِيلَ : يَحْتَمِلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ رَآهُ غَيْرُهُ قَبْلَهُ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَزِيَادَةٌ عَلَى السَّبَبِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا جَائِزًا لَبَطَلَ كُلُّ خَبَرٍ بِتَقْدِيرِ الزِّيَادَةِ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ : نُؤَيِّدُهُ بِالْأَدِلَّةِ، قُلْنَا : لَا دَلِيلَ، إنَّمَا الصَّحِيحُ فِيهِ قَبُولُ الْخَبَرِ مِنْ الْعَدْلِ وَلُزُومُ الْعَمَلِ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إذَا أَخْبَرَ مُخْبِرٌ عَنْ رُؤْيَةِ بَلَدٍ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقْرُبَ أَوْ يَبْعُدَ ؛ فَإِنْ قَرُبَ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ، وَإِنْ بَعُدَ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : لِأَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ.
وَقِيلَ : يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ كُرَيْبٍ، «أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بَعَثَتْهُ إلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِالشَّامِ، قَالَ : فَقَدِمْت الشَّامَ فَقَضَيْت حَاجَتَهَا، وَاسْتَهَلَّ عَلَيَّ هِلَالُ رَمَضَانَ وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْت الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْت الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ : مَتَى رَأَيْته ؟ فَقُلْت : لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ : أَنْتَ رَأَيْته ؟ قُلْت : نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، قَالَ : لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَقُلْت لَهُ : أَوَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ ؟ قَالَ : لَا ؛ هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ }. وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا، فَقِيلَ : رَدَّهُ لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ، وَقِيلَ : رَدَّهُ ؛ لِأَنَّ الْأَقْطَارَ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْمَطَالِعِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ كُرَيْبًا لَمْ يَشْهَدْ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ حُكْمٍ ثَبَتَ بِشَهَادَةٍ ؛ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالشَّهَادَةِ يُجْزَى فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ ؛ وَنَظِيرُ مَا لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَهَلَّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِأَغْمَاتَ، وَأَهَلَّ بِإِشْبِيلِيَّةَ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَيَكُونُ لِأَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ سُهَيْلًا يُكْشَفُ مِنْ أَغْمَاتَ وَلَا يُكْشَفُ مِنْ إشْبِيلِيَّةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ﴾.
مَعْنَاهُ عِدَّةُ الْهِلَالِ، كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ، قَالَ اب
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾.
فِيهَا تِسْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
رَوَى الْأَئِمَّةُ : الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ الْبَرَاءِ :«أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إذَا حَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَأَنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ : أَعِنْدَكِ طَعَامٌ ؟ قَالَتْ : لَا، وَلَكِنِّي أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ، وَكَانَ يَعْمَلُ يَوْمَهُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَدْ نَامَ قَالَتْ : خَيْبَةً لَك ؛ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ }، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ نَحْوَهُ، «وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَمَرَ عِنْدَهُ لَيْلَةً، فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ نَامَتْ فَأَرَادَهَا فَقَالَتْ : قَدْ نِمْتُ، فَقَالَ : مَا نِمْت، ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا، وَصَنَعَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ مِثْلَهُ. فَغَدَا عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَعْتَذِرُ إلَى اللَّهِ وَإِلَيْك ؟ فَإِنَّ نَفْسِي زَيَّنَتْ لِي مُوَاقَعَةَ أَهْلِي، فَهَلْ تَجِدُ لِي مِنْ رُخْصَةٍ ؟ فَقَالَ لَهُ : لَمْ تَكُنْ بِذَلِكَ حَقِيقًا يَا عُمَرُ ! فَلَمَّا بَلَغَ بَيْتَهُ أَرْسَلَ إلَيْهِ فَأَنْبَأَهُ بِعُذْرِهِ فِي آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ ».
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي أَبْوَابِ الْأَذَانِ قَالَ : جَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَرَادَ أَهْلَهُ، فَقَالَتْ : إنِّي قَدْ نِمْت : فَظَنَّ أَنَّهَا تَعْتَلُّ، فَأَتَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي «الرَّفَثِ ».
الرَّفَثُ يَكُونُ الْإِفْحَاشَ فِي الْمَنْطِقِ، وَيَكُونُ حَدِيثَ النِّسَاءِ، وَيَكُونُ مُبَاشَرَتَهُنَّ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْمُبَاشَرَةُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : الْمُبَاشَرَةُ الْجَمْعُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ يَكُنِّي، وَهَذَا يَعْضُدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى :﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ ؛ فَإِنَّهُمْ كَذَلِكَ يَصُومُونَ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ ﴾.
الْمَعْنَى هُنَّ لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ، وَيُفْضِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ إلَى صَاحِبِهِ، وَيَسْتَتِرُ بِهِ وَيَسْكُنُ إلَيْهِ.
وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ صَاحِبِهِ لِمُخَالَطَتِهِ إيَّاهُ وَمُبَاشَرَتِهِ لَهُ.
وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مُتَعَفِّفٌ بِصَاحِبِهِ مُسْتَتِرٌ بِهِ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ التَّعَرِّي مَعَ غَيْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ رِوَايَةِ عُمَرَ وَكَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلِمَ الْخِيَانَةَ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَا عَلِمَ مَوْجُودًا. وَإِنْ كَانَ عَلَى حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فَتَقْدِيرُهُ : عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَرَخَّصَ لَكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾.
قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمْرِ تَوْبَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الخلْقِ وَمَعْنَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ التَّوَّابُ. وَقَدْ تَابَ عَلَيْنَا رَبُّنَا هَاهُنَا بِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : قَبُولُهُ تَوْبَةَ مَنْ اخْتَانَ نَفْسَهُ.
وَالثَّانِي : تَخْفِيفُ مَا ثَقُلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ ؛ أَيْ رَجَعَ إلَى التَّخْفِيفِ.
قَالَ عُلَمَاءُ الزُّهْدِ : وَكَذَا فَلْتَكُنْ الْعِنَايَةُ وَشَرَفُ الْمَنْزِلَةِ، خَانَ نَفْسَهُ عُمَرُ فَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى شَرِيعَةً، وَخَفَّفَ لِأَجْلِهِ عَنْ الْأُمَّةِ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ﴾.
مَعْنَاهُ : قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْآيَةِ جِمَاعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا جُوعُ قَيْسٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّبَبُ جُوعَ قَيْسٍ لَقَالَ : فَالْآنَ كُلُوا، ابْتَدَأَ بِهِ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ الَّذِي نَزَلَتْ الْآيَةُ لِأَجْلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾.
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ الْحَلَالِ.
الثَّانِي : مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ الْوَلَدِ.
الثَّالِثُ : لَيْلَةُ الْقَدْرِ. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَامٌّ يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ قَيْسٍ، وَالثَّانِي خَاصٌّ يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ عُمَرَ، وَالثَّالِثُ عَامٌّ فِي الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾.
هَذَا جَوَابُ نَازِلَةِ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ، وَالْأَوَّلُ جَوَابُ نَازِلَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَبَدَأَ بِنَازِلَةِ عُمَرَ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ فَهُوَ الْمُقَدَّمُ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ﴾.
رَوَى الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ : قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ :«لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَمَدْت إلَى عِقَالَيْنِ لِي أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، وَجَعَلْت أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ إلَيْهِمَا فَلَا يَسْتَبِينُ لِي فَعَمَدْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْت ذَلِكَ، فَقَالَ : إنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى :﴿ مِنْ الْفَجْرِ ﴾.
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لَا يَمْنَعَنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سُحُورِكُمْ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، لِيُرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ، وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا - وَصَوَّبَ يَدَهُ وَرَفَعَهَا حَتَّى يَقُولَ : هَكَذَا - وَضَرَبَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ }.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ ﴾.
فَشَرَطَ رَبُّنَا تَعَالَى إتْمَامَ الصَّوْمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ اللَّيْلُ، كَمَا جَوَّزَ الْأَكْلَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ النَّهَارُ، وَلَكِنْ إذَا تَبَيَّنَ اللَّيْلُ فَالسُّنَّةُ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ.
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ مِنْهُمْ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ :«كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ ؛ فَصَامَ حَتَّى أَمْسَى، فَقَالَ لِرَجُلٍ : انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي. قَالَ : لَوْ انْتَظَرْت حَتَّى تُمْسِيَ. قَالَ : انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي إذَا رَأَيْت اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ ».
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : كَمَا أَنَّ السُّنَّةَ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ مُخَالَفَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ كَذَلِكَ السُّنَّةُ تَقْدِيمُ الْإِمْسَاكِ - إذَا قَرُبَ الْفَجْرُ - عَنْ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ.
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ الْأَكْلَ مَعَ الشَّكِّ فِي الْفَجْرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيُّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ﴾ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ »، وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ : أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ.
وَتَأَوَّلَهُ عُلَمَاؤُنَا : قَارَبْت الصَّبَاحَ، وَقَارَبْت تَبَيُّنَ الْخَيْطِ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِوَضْعِ الشَّرِيعَةِ وَحُرْمَةِ الْعِبَادَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«يُوشِكُ مَنْ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى أَنْ يَقَعَ فِيهِ ». وَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ فَأَكَلْت لَمْ تَخَفْ مُوَاقَعَةَ مَحْظُورٍ، وَإِذَا دَنَا الصَّبَاحُ لَمْ يَحِلَّ لَك الْأَكْلُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَوْقَعَك فِي الْمَحْظُورِ غَالِبًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا تَبَيَّنَ اللَّيْلُ سُنَّ الْفِطْرُ شَرْعًا، أَكَلَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ ؛ فَإِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ لِعُذْرٍ أَوْ لِشُغْلٍ جَازَ، وَإِنْ تَرَكَهُ قَصْدًا لِمُوَالَاةِ الصِّيَامِ قُرْبَةً اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ؛ فَمِمَّنْ رَآهُ جَائِزًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، كَانَ يَصُومُ الْأُسْبُوعَ وَيُفْطِرُ عَلَى
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ، مِنْ قَوَاعِدِ الْمُعَامَلَاتِ، وَأَسَاسِ الْمُعَاوَضَاتِ يَنْبَنِي عَلَيْهَا، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ : هَذِهِ الْآيَةُ، وقَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ وَأَحَادِيثُ الْغَرَرِ، وَاعْتِبَارُ الْمَقَاصِدِ وَالْمَصَالِحِ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَعَلِّقُ كُلِّ مُؤَالِفٍ وَمُخَالِفٍ فِي كُلِّ حُكْمٍ يَدَّعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾.
فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ حَتَّى تُبَيِّنَهُ بِالدَّلِيلِ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومُ ؛ فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَاطِلَ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ فِيهَا تَعْيِينُ الْبَاطِلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ ﴾.
الْمَعْنَى لَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ : الْمَعْنَى : لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَوَجْهُ هَذَا الِامْتِزَاجِ أَنَّ أَخَا الْمُسْلِمِ كَنَفْسِهِ فِي الْحُرْمَةِ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ ؛ أَمَّا الْأَثَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ :«مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ ».
وَأَمَّا النَّظَرُ فَلِأَنَّ رِقَّةَ الْجِنْسِيَّةَ تَقْتَضِيهِ وَشَفَقَةَ الْآدَمِيَّةِ تَسْتَدْعِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَأْكُلُوا ﴾.
مَعْنَاهُ : وَلَا تَأْخُذُوا وَلَا تَتَعَاطَوْا. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ التَّمَتُّعَ بِهِ فِي شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ قَالَ تَعَالَى :﴿ وَلَا تَأْكُلُوا ﴾، فَخَصَّ شَهْوَةَ الْبَطْنِ ؛ لِأَنَّهَا الْأُولَى الْمُثِيرَةُ لِشَهْوَةِ الْفَرْجِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ بِالْبَاطِلِ ﴾.
يَعْنِي بِمَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا وَلَا يُفِيدُ مَقْصُودًا ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْهُ، وَمَنَعَ مِنْهُ، وَحَرَّمَ تَعَاطِيَهُ، كَالرِّبَا وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهِمَا. وَالْبَاطِلُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَفِي الْمَعْقُولِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْدُومِ، وَفِي الْمَشْرُوعِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَا يُفِيدُ مَقْصُودًا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ ﴾.
أَيْ تُورِدُونَ كَلَامَكُمْ فِيهَا، ضَرَبَ لِلْكَلَامِ الْمَوْرُودِ عَلَى السَّامِعِ مَثَلًا بِالدَّلْوِ الْمَوْرُودَةِ عَلَى الْمَاءِ، لِيَأْخُذَ الْمَاءَ.
وَحَقِيقَةُ اللَّفْظِ : وَتُدْلُوا كَلَامَكُمْ. أَوْ يَكُونُ الْكَلَامِ مُمَثَّلًا بِالْحَبْلِ، وَالْمَالُ الْمَذْكُورُ مُمَثَّلًا بِالدَّلْوِ ؛ لِتَقْطَعُوا قِطْعَةً مِنْ أَمْوَالِ غَيْرِكُمْ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُخَاصِمُ.
﴿ بِالْإِثْمِ ﴾ : أَيْ مَقْرُونَةً بِالْإِثْمِ. ﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ : تَحْرِيمَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ قَطْعًا غَيْرُ جَائِزٍ إجْمَاعًا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ }.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ مَدَارَ حُكْمِ الْحَاكِمِ هُوَ فِي الظَّاهِرِ عَلَى كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْبَاطِنِ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُهُ عِلْمُهُ، فَلَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُهُ ؛ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصْطَفَى لِلِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ يَتَبَرَّأُ مِنْ الْبَاطِنِ، وَيَتَنَصَّلُ مِنْ تَعَدِّي حُكْمِهِ إلَيْهِ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْخَلْقِ ؟
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ مُصِيبٌ فِي حُكْمِهِ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ أَخْطَأَ الصَّوَابَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ :﴿ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا ﴾ بِحُكْمِهِمْ ﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ بُطْلَانَ ذَلِكَ، وَالْحَاكِمُ فِي عَفْوِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ، وَالظَّالِمُ فِي سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِقَابِهِ.
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَاسًا سَأَلُوا عَنْ زِيَادَةِ الْأَهِلَّةِ وَنُقْصَانِهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
الثَّانِي : رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ :«أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ لِمَ جُعِلَتِ الْأَهِلَّةُ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ ».
وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَيْنِ. وَفِي الْأَثَرِ أَنَّهُ وَكَّلَ بِهِمَا مَلَكَيْنِ ؛ وَرَتَّبَ لَهُمَا مَطْلَعَيْنِ، وَصَرَّفَهُمَا بَيْنَهُمَا لِمَصْلَحَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا دُنْيَاوِيَّةٌ وَهِيَ مَقْرُونَةٌ بِالشَّمْسِ، وَالْأُخْرَى دِينِيَّةٌ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَمَرِ ؛ وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ جَعَلَ أَهْلُ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا الشَّمْسَ مَلَكًا أَعْجَمِيًّا وَالْقَمَرَ مَلَكًا عَرَبِيًّا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ﴾.
يَعْنِي فِي صَوْمِهِمْ وَإِفْطَارِهِمْ وَآجَالِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ وَمَنَافِعَ كَثِيرَةٍ لَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَالْحَجِّ ﴾.
مَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْحَجِّ آخِرًا مَعَ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ ؟ وَهِيَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَحُجُّ بِالْعَدَدِ وَتُبَدِّلُ الشُّهُورَ ؛ فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِعْلَهُمْ وَقَوْلَهُمْ، وَجَعَلَهُ مَقْرُونًا بِالرُّؤْيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِيقَاتٌ فَعَلَيْهِ يُعَوَّلُ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ »، فَإِنْ لَمْ يُرَ فَلْيُرْجَعْ إلَى الْعَدَدِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، وَإِنْ جُهِلَ أَوَّلُ الشَّهْرِ عُوِّلَ عَلَى عَدَدِ الْهِلَالِ قَبْلَهُ، وَإِنْ عُلِمَ أَوَّلُهُ بِالرُّؤْيَةِ بُنِيَ آخِرُهُ عَلَى الْعَدَدِ الْمُرَتَّبِ عَلَى رُؤْيَتِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ ».
وَرُوِيَ :«فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ، ثُمَّ أَفْطِرُوا ».
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا رَأَى أَحَدٌ الْهِلَالَ كَبِيرًا.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يُعَوَّلُ عَلَى كِبَرِهِ وَلَا عَلَى صِغَرِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ لَيْلَتِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :«إنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْدَ مَا تَزُولُ الشَّمْسُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ».
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ أَنَّ هِلَالَ شَوَّالٍ رُئِيَ بِعَشِيٍّ فَلَمْ يُفْطِرْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى أَمْسَى.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ :«قَدِمْنَا حُجَّاجًا حَتَّى إذَا كُنَّا بِالصِّفَاحِ رَأَيْنَا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ كَأَنَّهُ ابْنُ خَمْسِ لَيَالٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ سَأَلْنَاهُ فَقَالَ : جَعَلَ اللَّهُ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ يُصَامُ لِرُؤْيَتِهَا وَيُفْطَرُ لِرُؤْيَتِهَا ».
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إذَا رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُمَا : هُوَ لِلْمَاضِيَةِ. وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ ضَعِيفٌ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ أَنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ قَوْمٌ : إنَّ الْمَنَاسِكَ مِنْ صَوْمٍ وَحَجٍّ تَنْبَنِي عَلَى حِسَابِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ :«لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ».
وَتَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾، فَجَعَلَ جَمِيعَهَا مِيقَاتًا لِلْحَجِّ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَفَادَتْ بَيَانَ حِكْمَةِ الْأَهِلَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا تَخْصِيصُ الْفَوَائِدِ بِالْأَهِلَّةِ وَتَعْيِينُهَا فَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُصَامُ لِجَمِيعِهَا، فَكَذَلِكَ لَا يُحَجُّ لِجَمِيعِهَا. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ :﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ ؛ فَبَيَّنَ أَنَّ أَهِلَّتَهُ مَعْلُومَةٌ مَخْصُوصَةٌ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْأَهِلَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ﴾.
كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ «أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانُوا إذَا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ شَيْءٌ، فَإِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِهِ فَرَجَعَ لِحَاجَةٍ لَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْحُجْرَةِ مِنْ أَجْلِ سَقْفِ الْبَيْتِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ ؛ فَيَقْتَحِمَ الْجِدَارَ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ يَقُومَ فِي حُجْرَتِهِ فَيَأْمُرَ بِحَاجَتِهِ، فَتَخْرُجَ إلَيْهِ مِنْ بَيْتِهِ، حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَدَخَلَ حُجْرَتَهُ، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى أَثَرِهِ كَانَ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنِّي أَحْمَسِيٌّ. قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَكَانَتْ الْحُمْسُ لَا يُبَالُونَ ذَلِكَ. قَالَ الْأَنْصَارِيُّ : وَأَنَا أَحْمَسِيٌّ - يَعْنِي عَلَى دِينِك - فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ ».
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : فِي تَأْوِيلِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا بُيُوتُ الْمَنَازِلِ.
الثَّانِي : أَنَّهَا النِّسَاءُ أَمَرَنَا بِإِتْيَانِهِنَّ مِنْ الْقُبُلِ لَا مِنْ الدُّبُرِ.
الثَّالِثُ : أَنَّهَا مَثَلٌ ؛ أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَأْتُوا الْأُمُورَ مِنْ وُجُوهِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ :
أَمَّا الْقَوْلُ إنَّ الْمُرَادَ بِهَا النِّسَاءُ فَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، فَلَمْ يُوجَدْ وَلَا دَعَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ مَثَلًا فِي إتْيَانِ الْأُمُورِ مِنْ وُجُوهِهَا فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي كُلِّ آيَةٍ ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ حَقِيقَةٍ مَثَلًا مِنْهَا مَا يَقْرُبُ وَمِنْهَا مَا يَبْعُدُ.
وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْآيَةِ الْبُيُوتُ الْمَعْرُوفَةُ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ ذَكَرْنَا أَوْعَبَهَا عَنْ الزُّهْرِيِّ، فَحَقَّقَ أَنَّهَا الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، ثُمَّ رَكَّبَ مِنْ الْأَمْثَالِ مَا يَحْمِلُهُ اللَّفْظُ وَيَقْرَبُ، وَلَا يُعَارِضُهُ شَيْءٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ مِنْ الْفِقْهِ، وَهِيَ أَنَّ الْفِعْلَ بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَنْدُوبَاتِ خَاصَّةً دُونَ الْمُبَاحِ وَدُونَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَاقْتِحَامُ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا عِنْدَ التَّلَبُّسِ بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَكُنْ نَدْبًا فَيُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ الْقُرْبَةِ ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ النَّذْرُ بِمُبَاحٍ وَلَا مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَنْدُوبٍ ؛ وَهَذَا أَصْلٌ حَسَنٌ.
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي مُقَدَّمَةٍ لَهَا :
إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ، وَأَوْعَزَ إلَى عِبَادِهِ عَلَى لِسَانِهِ بِالْمُعْجِزَةِ وَالتَّذْكِرَةِ، وَفَسَّحَ لَهُمْ فِي الْمَهْلِ، وَأَرْخَى لَهُمْ فِي الطِّيَلِ مَا شَاءَ مِنْ الْمُدَّةِ بِمَا اقْتَضَتْهُ الْمَقَادِيرُ الَّتِي أَنْفَذهَا، وَاسْتَمَرَّتْ بِهِ الْحِكْمَةُ، وَالْكُفَّارُ يُقَابِلُونَهُ بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ، وَيَتَعَمَّدُونَهُ وَأَصْحَابَهُ بِالْعَدَاوَةِ وَالْإِذَايَةِ، وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ بِاحْتِمَالِ الْأَذَى وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِعْرَاضِ تَارَةً وَبِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ أُخْرَى، حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، إلَى أَنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي الْقِتَالِ.
فَقِيلَ : إنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ :﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ﴾، وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ قَاتَلَ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ أُذِنَ لِلَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَعْتَقِدُونَ قِتَالَهُمْ وَقَتْلَهُمْ بِأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَتَيْنِ، ثُمَّ صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرْضًا، فَقَالَ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾.
ثُمَّ أَمَرَ بِقِتَالِ الْكُلِّ، فَقَالَ :﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ. . . ﴾ الْآيَةَ. وَقِيلَ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ.
وَالصَّحِيحُ مَا رَتَّبْنَاهُ ؛ لِأَنَّ آيَةَ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ مَكِّيَّةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَارَ إلَى الْعُمْرَةِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا، فَأُمِرَ بِقِتَالِهِمْ، فَبَايَعَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ إلَى أَمْرٍ رَبُّك أَعْلَمُ بِهِ ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ بَرَاءَةَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ هَاهُنَا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ، وَكَذَلِكَ أُمِرَ بِذَا بَعْدَهُ، فَقَالَ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ﴾، بَيْدَ أَنَّ أَشْهَبَ رَوَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ، أُمِرُوا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُمْ.
وَقَالَ غَيْرُهُ : هُوَ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ أُمِرَ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ، إذْ لَا يُمْكِنُ سِوَاهُ ؛ أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ بَيَّنَهَا تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةِ بِقَوْلِهِ :﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ ﴾ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَوَّلًا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ فَتَعَيَّنَتِ الْبِدَايَةُ بِهِمْ وَبِكُلِّ مَنْ عَرَضَ دُونَهُمْ أَوْ عَاوَنَهُمْ ؛ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَّةَ كَانَ الْقِتَالُ لِمَنْ يَلِي مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِي، حَتَّى تَعُمَّ الدَّعْوَةُ وَتَبْلُغَ الْكَلِمَةُ جَمِيعَ الْآفَاقِ، وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ الْكَفَرَةِ، وَذَلِكَ مُتَمَادٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مُمْتَدٌّ إلَى غَايَةٍ هِيَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ : الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ ». وَذَلِكَ لِبَقَاءِ الْقِتَالِ ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾.
وَقِيلَ غَايَتُهُ نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«يَنْزِلُ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ ». وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ نُزُولَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَسَيُقَاتِلُ الدَّجَّالَ، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُوَ آخِرُ الْأَمْرِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ الْجِهَادَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ لَيْسَ بِفَرْضٍ إلَّا أَنْ يَسْتَنْفِرَ الْإِمَامُ أَحَدًا مِنْهُمْ، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَمَالَ إلَيْهِ سَحْنُونٌ، وَظَنَّهُ قَوْمٌ بِابْنِ عُمَرَ حِينَ رَأَوْهُ مُوَاظِبًا عَلَى الْحَجِّ تَارِكًا لِلْجِهَادِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ». ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ.
وَهَذَا هُوَ دَلِيلُنَا ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْجِهَادَ بَاقٍ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَإِنَّمَا رَفَعَ الْفَتْحُ الْهِجْرَةَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ ؛ يَعْنِي كُفْرًا ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾.
وَمُوَاظَبَةُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْحَجِّ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ الْحَقَّ، وَهُوَ أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَأَى أَنَّهُ لَا يُجَاهِدُ مَعَ وُلَاةِ الْجَوْرِ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي زَمَانِهِ عُدُولٌ وَجَائِرُونَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُؤْثِرٌ لِلْحَجِّ مُوَاظِبٌ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَشَرَةَ أَعْوَامٍ أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ، ثُمَّ تَعَيَّنَ الْقِتَالُ بَعْدَ ذَلِكَ، سَقَطَ فَرْضُ الدَّعْوَةِ إلَّا عَلَى الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، وَبَقِيَتْ مُسْتَحَبَّةً. فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ بَلَغَتْ الدَّعْوَةُ وَعَمَّتْ، وَظَهَرَ الْعِنَادُ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْبَابَ لَا يَنْقَطِعُ.
رَوَى مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«اُدْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، فَإِنْ أَجَابُوك إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ »، فَذَكَرَ الدُّعَاءَ إلَى الشَّهَادَةِ، ثُمَّ إلَى الْهِجْرَةِ أَوْ إلَى الْجِزْيَةِ، وَهَذَا إنَّمَا كَانَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْفَتْحِ.
وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُمْ غَارُّونَ فَقَتَلَ وَسَبَى، فَعَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَائِزَ وَالْمُسْتَحَبَّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾.
فِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : لَا تَقْتُلُوا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ﴾، وَ ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾.
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾ ؛ أَيْ لَا تُقَاتِلُوا عَلَى غَيْرِ الدِّينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ ؛ يَعْنِي دِينًا.
الثَّالِثُ : أَلَّا يُقَاتَلَ إلَّا مَنْ قَاتَلَ، وَهُمْ الرِّجَالُ الْبَالِغُونَ ؛ فَأَمَّا النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ وَالرُّهْبَانُ وَالحَشْوة فَلَا يُقْتَلُونَ ؛ وَبِذَلِكَ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ أَرْسَلَهُ إلَى الشَّامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِهَؤُلَاءِ إِذَايَةٌ. وَفِيهِ سِتُّ صُوَرٍ :
الْأُولَى : النِّسَاءُ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ إلَّا أَنْ يُقَاتِلْنَ ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِنَّ. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالْأَئِمَّةُ، وَهَذَا مَا لَمْ يُقَاتِلْنَ، فَإِنْ قَاتَلْنَ قُتِلْنَ. قَالَ سَحْنُونٌ : فِي حَالَةِ الْمُقَاتَلَةِ.
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ قَتْلُهُنَّ، إذَا قَاتَلْنَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي حَالَةِ الْمُقَاتَلَةِ وَبَعْدَهَا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾، وقَوْله تَعَالَى :﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾، وَلِلْمَرْأَةِ آثَارٌ عَظِيمَةٌ فِي الْقِتَالِ ؛ مِنْهَا الْإِمْدَادُ بِالْأَمْوَالِ، وَمِنْهَا التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ، فَقَدْ كُنَّ يَخْرُجْنَ نَاشِرَاتٍ شُعُورَهُنَّ، نَادِبَاتٍ، مُثِيرَاتٍ لِلثَّأْرِ، مُعَيِّرَاتٍ بِالْفِرَارِ، وَذَلِكَ يُبِيحُ قَتْلَهُنَّ.
الثَّانِيَةُ : الصِّبْيَانُ ؛ فَلَا يُقْتَلُ الصَّبِيُّ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الذُّرِّيَّةِ، خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ، فَإِنْ قَاتَلَ قُتِلَ حَالَةَ الْقِتَالِ، فَإِذَا زَالَ الْقِتَالُ فَفِي سَمَاعِ يَحْيَى فِي الْعُتْبِيَّةِ يُقْتَلُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ، فَإِنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ، وَفِي ثَمَانِيَةِ أَبِي زَيْدٍ : لَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ وَلَا الصَّبِيُّ إذَا قَاتَلَا، وَأُخِذَا بَعْدَ ذَلِكَ أَسِيرَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَا قَتَلَا، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْقَتْلَ هَاهُنَا لَيْسَ قِصَاصًا، وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِدَاءٌ وَحَدٌّ. وَاَلَّذِي يُقَوِّي عِنْدِي قَتْلَ الْمَرْأَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمُنَّةِ، وَالْعَفْوِ ع
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنْ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْمَعْنَى حَيْثُ أَخَذْتُمُوهُمْ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى قَتْلِ الْأَسِيرِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَبَطَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ :«خَيِّرْهُمْ - يَعْنِي أَصْحَابَك - فِي أَسْرَى بَدْرٍ : الْقَتْلَ أَوْ الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ تَقْتُلَ مِنْهُمْ قَاتِلًا مِثْلَهُمْ. قَالُوا : الْفِدَاءَ، وَيُقْتَلُ مِنَّا ». وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ؛ فَقِيلَ لَهُ :«إنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾.
فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُحْكَمٌ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ.
الثَّانِي : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾. وَقَالَ قَتَادَةُ : هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : وَقَدْ حَضَرْت فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ طَهَّرَهُ اللَّهُ بِمَدْرَسَةِ أَبِي عُتْبَةَ الْحَنَفِيِّ وَالْقَاضِي الرَّيْحَانِيِّ يُلْقِي عَلَيْنَا الدَّرْسَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ بَهِيُّ الْمَنْظَرِ عَلَى ظَهْرِهِ أَطْمَارٌ، فَسَلَّمَ سَلَامَ الْعُلَمَاءِ، وَتَصَدَّرَ فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ بِمَدَارِعِ الرِّعَاءِ، فَقَالَ لَهُ الرَّيْحَانِيُّ : مَنْ السَّيِّدُ ؟ فَقَالَ لَهُ : رَجُلٌ سَلَبَهُ الشُّطَّارُ أَمْس، وَكَانَ مَقْصِدِي هَذَا الْحَرَمَ الْمُقَدَّس، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ صَاغَانَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ. فَقَالَ الْقَاضِي مُبَادِرًا : سَلُوهُ، عَلَى الْعَادَةِ فِي إكْرَامِ الْعُلَمَاءِ بِمُبَادَرَةِ سُؤَالِهِمْ. وَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكَافِرِ إذَا الْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ، هَلْ يُقْتَلُ فِيهِ أَمْ لَا ؟ فَأَفْتَى بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ، فَسُئِلَ عَنْ الدَّلِيلِ، فَقَالَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾. قُرِئَ : وَلَا تَقْتُلُوهُمْ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ، فَإِنْ قُرِئَ وَلَا تَقْتُلُوهُمْ فَالْمَسْأَلَةُ نَصٌّ، وَإِنْ قُرِئَ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ فَهُوَ تَنْبِيهٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ الْقِتَالِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقَتْلِ كَانَ دَلِيلًا بَيِّنًا ظَاهِرًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْقَتْلِ.
فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الرَّيْحَانِيُّ مُنْتَصِرًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَإِنْ لَمْ يَرَ مَذْهَبَهُمَا عَلَى الْعَادَةِ، فَقَالَ : هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾. فَقَالَ لَهُ الصَّاغَانِيُّ : هَذَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الْقَاضِي وَعِلْمِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي اعْتَرَضْت بِهَا عَلَيَّ عَامَّةٌ فِي الْأَمَاكِنِ، وَالْآيَةَ الَّتِي احْتَجَجْت بِهَا خَاصَّةٌ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْعَامَّ يَنْسَخُ الْخَاصَّ، فَأَبَهَتَ الْقَاضِي الرَّيْحَانِيُّ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ.
وَقَدْ سَأَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَهْلَ بِلَادِنَا، فَقَالَ لَهُمْ : إنَّ الْعَامَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْسَخُ الْخَاصَّ، وَهَذَا الْبَائِسُ لَيْتَهُ سَكَتَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ، وَأَمْسَكَ عَمَّا لَا يَفْهَمُ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَسَائِلَ مُجَرَّدَةٍ.
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ :«إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ».
فَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ الْقِتَالِ فِيهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً ؛ فَإِنْ لَجَأَ إلَيْهَا كَافِرٌ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ. وَأَمَّا الزَّانِي وَالْقَاتِلُ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَبْتَدِئَ الْكَافِرُ بِالْقِتَالِ فِيهَا فَيُقْتَلُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾.
هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا قَاتَلَ قُتِلَ بِكُلِّ حَالٍ، بِخِلَافِ الْبَاغِي الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ إذَا قَاتَلَ يُقَاتَلُ بِنِيَّةِ الدَّفْعِ، وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ، وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِنْ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
يَعْنِي انْتَهَوْا بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ، وَيَرْحَمُ كُلًّا مِنْهُمْ بِالْعَفْوِ عَمَّا اجْتَرَمَ.
وَهَذَا مَا لَمْ يُؤْسَرْ، فَإِنْ أُسِرَ مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ عَنْ الْقَتْلِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ الرِّقُّ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، «أَنَّ ثَقِيفًا كَانَتْ حُلَفَاءَ لِبَنِي عَقِيلٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ وَمَعَهُ نَاقَةٌ لَهُ، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ؛ بِمَ أَخَذْتَنِي وَأَخَذْت سَابِقَةَ الْحَاجِّ ؟ قَالَ : أَخَذْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك ثَقِيفٍ، وَقَدْ كَانُوا أَسَرُوا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ، فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ، إنِّي مُسْلِمٌ. قَالَ : لَوْ كُنْت قُلْت ذَلِكَ وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك أَفْلَحْت كُلَّ الْفَلَاحِ، فَفَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْسَكَ النَّاقَةَ لِنَفْسِهِ }.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾.
يَعْنِي كُفْرٌ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ ﴾، يَعْنِي الْكُفْرَ، فَإِذَا كَفَرُوا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَعَبَدُوا فِيهِ الْأَصْنَامَ، وَعَذَّبُوا فِيهِ أَهْلَ الْإِسْلَامِ لِيَرُدُّوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَكُلُّ ذَلِكَ فِتْنَةٌ ؛ فَإِنَّ الْفِتْنَةَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْكُفْرُ فِتْنَةً لِأَنَّ مَآلَ الِابْتِلَاءِ كَانَ إلَيْهِ، فَلَا تُنْكِرُوا قَتْلَهُمْ وَقِتَالَهُمْ ؛ فَمَا فَعَلُوا مِنْ الْكُفْرِ أَشَدُّ مِمَّا عَابُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قُوتِلُوا وَهُمْ الظَّالِمُونَ لَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَيْهِمْ ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ هُوَ الْكُفْر بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ :﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ ؛ فَجَعَلَ الْغَايَةَ عَدَمَ الْكُفْرِ نَصًّا، وَأَبَانَ فِيهَا أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ الْمُبِيحَ لِلْقِتَالِ الْكُفْرُ. وَقَدْ ضَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا، وَزَعَمُوا أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ الْمُبِيحَ لِلْقِتَالِ هِيَ الْخَرْبَةُ، وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْضِي عَلَيْهَا الَّتِي بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ أَوَّلًا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ قِتَالِهِ وَقَتْلِهِ كُفْرُهُ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الْقِتَالِ، وَأَمَرَ بِقِتَالِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِابْتِدَاءِ قِتَالٍ مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الْمُبِيحُ لِلْقَتْلِ هُوَ الْكُفْرُ لَقُتِلَ كُلُّ كَافِرٍ وَأَنْتَ تَتْرُكُ مِنْهُمْ النِّسَاءَ وَالرُّهْبَانَ وَمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَهُمْ.
فَالْجَوَابُ أَنَّا إنَّمَا تَرَكْنَاهُمْ مَعَ قِيَامِ الْمُبِيحِ بِهِمْ لِأَجْلِ مَا عَارَضَ الْأَمْرَ مِنْ مَنْفَعَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ :
أَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَالِاسْتِرْقَاقُ فِيمَنْ يُسْتَرَقُّ ؛ فَيَكُونُ مَالًا وَخَدَمًا، وَهِيَ الْغَنِيمَةُ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لَنَا مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ.
وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ فَإِنَّ فِي اسْتِبْقَاءِ الرُّهْبَانِ بَاعِثًا عَلَى تَخَلِّي رِجَالِهِمْ عَنْ الْقِتَالِ فَيُضْعِفُ حَرْبَهُمْ وَيُقِلُّ حِزْبَهُمْ فَيَنْتَشِرُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾.
إبَاحَةٌ لِقِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ إلَى غَايَةٍ هِيَ الْإِيمَانُ ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ وَهْبٍ : لَا تُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ جِزْيَةٌ. وَقَالَ سَائِرُ عُلَمَائِنَا : تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَسَمِعْت الشَّيْخَ الْإِمَامَ أَبَا عَلِيٍّ الْرفَاءَ بْنَ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيَّ إمَامَهُمْ بِبَغْدَادَ يَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾. إنَّ قَوْله تَعَالَى :﴿ قَاتِلُوا ﴾ أَمْرٌ بِالْقَتْلِ. وقَوْله تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ ﴾ سَبَبٌ لِلْقِتَالِ. وقَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ إلْزَامٌ لِلْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ الثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ. وقَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ بَيَانُ أَنَّ فُرُوعَ الشَّرِيعَةِ كَأُصُولِهَا وَأَحْكَامَهَا كَعَقَائِدِهَا. وقَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ ﴾ أَمْرٌ بِخَلْعِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إلَّا دِينَ الْإِسْلَامِ. وقَوْله تَعَالَى :﴿ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ تَأْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ، ثُمَّ بَيَّنَ الْغَايَةَ وَبَيَّنَ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ، وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِي قِتَالِهِ لِفَارِسَ :«إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ ». وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبُرَيْدَةَ :«اُدْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ. . . ، وَذَكَرَ الْجِزْيَةَ »، وَذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحٌ.
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَكُونُ هَذَا نَسْخًا أَوْ تَخْصِيصًا ؟ فَلَنَا : هُوَ تَخْصِيصٌ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ قِتَالَهُمْ وَأَمَرَ بِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ كُفْرٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى :﴿ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ ﴾ ؛ فَخَصَّصَ مِنْ الْحَالَةِ الْعَامَّةِ حَالَةً أُخْرَى خَاصَّةً، وَزَادَ إلَى الْغَايَةِ الْأُولَى غَايَةً أُخْرَى، وَهَذَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ }.
وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ :«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ». ثُمَّ ذَكَرَ فِي حَدِيثِ آخَرَ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَسْخًا، وَإِنَّمَا كَانَ بَيَانًا وَكَمَالًا. وَكَذَلِكَ :«لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ »، ثُمَّ بَيَّنَ الْقَتْلَ فِي مَوَاضِعَ لِعَشَرَةِ أَسْبَابٍ سَنُبَيِّنُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
قِيلَ : إنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ سَبْعٍ حِينَ قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَتَهُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَنْ الَّتِي صَدَّهُ عَنْهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ سَنَةَ سِتٍّ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَقَدْ أَخْلَتْهَا قُرَيْشٌ، وَقَضَى نُسُكَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
الْمَعْنَى شَهْرٌ بِشَهْرٍ وَحُرْمَةٌ بِحُرْمَةٍ، وَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي كُلِّ مُكَلَّفٍ قَطَعَ بِهِ عُذْرٌ أَوْ عَدُوٌّ عَنْ عِبَادَةٍ ثُمَّ قَضَاهَا، أَنَّ الْحُرْمَةَ وَاحِدَةٌ وَالْمَثُوبَةَ سَوَاءٌ.
وَقِيلَ : إنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا : أَنُهِيتَ يَا مُحَمَّدُ عَنْ الْقِتَالِ فِي شَهْرِ الْحَرَامِ ؟ قَالَ : نَعَمْ، فَأَرَادُوا قِتَالَهُ فِيهِ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ.
الْمَعْنَى إنْ اسْتَحَلُّوا ذَلِكَ فِيهِ فَقَاتِلْهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحُرْمَةَ بِالْحُرْمَةِ قِصَاصٌ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَك أَنْ تُبِيحَ دَمَ مَنْ أَبَاحَ دَمَك، وَتَحِلَّ مَالَ مَنْ اسْتَحَلَّ مَالَك، وَمَنْ أَخَذَ عِرْضَك فَخُذْ عِرْضَهُ بِمِقْدَارِ مَا قَالَ فِيك، وَلِذَلِكَ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ :
أَمَّا مَنْ أَبَاحَ دَمَك فَمُبَاحٌ دَمُهُ لَك، لَكِنْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَا بِاسْتِطَالَتِك وَأَخْذٍ لِثَأْرِك بِيَدِك، وَلَا خِلَافَ فِيهِ.
وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ مَالَك فَخُذْ مَالَهُ إذَا تَمَكَّنْت مِنْهُ، إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَالِك : طَعَامًا بِطَعَامٍ، وَذَهَبًا بِذَهَبٍ، وَقَدْ أَمِنْت مِنْ أَنْ تُعَدَّ سَارِقًا.
وَأَمَّا إنْ تَمَكَّنْت مِنْ مَالِهِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَالِك فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَتَحَرَّى قِيمَتَهُ وَيَأْخُذُ مِقْدَارَ ذَلِكَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي.
وَأَمَّا إنْ أَخَذَ عِرْضَك فَخُذْ عِرْضَهُ لَا تَتَعَدَّاهُ إلَى أَبَوَيْهِ وَلَا إلَى ابْنِهِ أَوْ قَرِيبِهِ. لَكِنْ لَيْسَ لَك أَنْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَذَبَ عَلَيْك، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُقَابَلُ بِالْمَعْصِيَةِ ؛ فَلَوْ قَالَ لَك مَثَلًا : يَا كَافِرُ، جَازَ لَك أَنْ تَقُولَ لَهُ : أَنْتَ الْكَافِرُ ؛ وَإِنْ قَالَ لَك : يَا زَانٍ، فَقِصَاصُك أَنْ تَقُولَ : يَا كَذَّابُ، يَا شَاهِدَ زُورٍ. وَلَوْ قُلْت لَهُ : يَا زَانٍ، كُنْت كَاذِبًا فَأَثِمْت فِي الْكَذِبِ، وَأَخَذْت فِيمَا نُسِبَ إلَيْك مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ تَرْبَحْ شَيْئًا، وَرُبَّمَا خَسِرْت. وَإِنْ مَطَلَك وَهُوَ غَنِيٌّ دُونَ عُذْرٍ قُلْ : يَا ظَالِمُ، يَا آكِلَ أَمْوَالِ النَّاسِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ :«لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ ». أَمَّا عِرْضُهُ فَبِمَا فَسَّرْنَاهُ، وَأَمَّا عُقُوبَتُهُ فَبِالسَّجْنِ حَتَّى يُؤَدِّيَ.
وَعِنْدِي أَنَّ الْعُقُوبَةَ هِيَ أَخْذُ الْمَالِ كَمَا أَخَذَ مَالَهُ، وَأَمَّا إنْ جَحَدَك وَدِيعَةً وَقَدْ اسْتَوْدَعَك أُخْرَى فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : اصْبِرْ عَلَى ظُلْمِهِ، وَأَدِّ إلَيْهِ أَمَانَتَهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك }.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : اجْحَدْهُ، كَمَا جَحَدَك ؛ لَكِنْ هَذَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ، وَلَوْ صَحَّ فَلَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ، وَهُوَ إذَا أَوْدَعَك مِائَةً وَأَوْدَعْته خَمْسِينَ فَجَحَدَ الْخَمْسِينَ فَاجْحَدْهُ خَمْسِينَ مِثْلَهَا، فَإِنْ جَحَدْت الْمِائَةَ كُنْت قَدْ خُنْت مَنْ خَانَك فِيمَا لَمْ يَخُنْك فِيهِ، وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَبِهَذَا الْأَخِيرِ أَقُولُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ : هَذِهِ الْآيَةُ عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعُمْدَةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَفِيمَا جَانَسَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾.
هَذِهِ مَسْأَلَةٌ بِكْرٌ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّمَا سُمِّيَ الْفِعْلُ الثَّانِي اعْتِدَاءً، وَهُوَ مَفْعُولٌ بِحَقٍّ، حَمْلًا لِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ. قَالُوا : وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾. وَاَلَّذِي أَقُولُ فِيهِ : إنَّ الثَّانِيَ كَالْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ فِي اللُّغَةِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مَوْجُودٌ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَلِّقُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ؛ فَالْأَوَّلُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالثَّانِي مَأْمُورٌ بِهِ، وَتَعَلُّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يُغَيِّرُ الْحَقَائِقَ وَلَا يَقْلِبُ الْمَعَانِيَ ؛ بَلْ إنَّهُ يُكْسِبُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ وَصْفَ الطَّاعَةِ وَالْحُسْنِ، وَيُكْسِبُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ وَصْفَ الْمَعْصِيَةِ وَالْقُبْحِ ؛ وَكِلَا الْفِعْلَيْنِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَكِلَا الْفِعْلَيْنِ يَسُوءُ الْوَاقِعُ بِهِ، وَأَحَدُهُمَا حَقٌّ وَالْآخَرُ بَاطِلٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ صَحِيحٌ وَعُمُومٌ صَرِيحٌ ؛ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا قَوَدَ إلَّا بِحَدِيدَةٍ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«لَا قَوَدَ إلَّا بِحَدِيدَةٍ وَلَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْف ».
الثَّانِي : أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِكُلِّ مَا قَتَلَ، إلَّا الْخَمْرَ وَآلَةَ اللِّوَاطِ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ.
الثَّالِثُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُقْتَلُ بِكُلِّ مَا قَتَلَ إلَّا فِي وَجْهَيْنِ وَصِفَتَيْنِ : أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَالْمَعْصِيَةُ كَالْخَمْرِ وَاللِّوَاطُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَالسُّمُّ وَالنَّارُ لَا يُقْتَلُ بِهِمَا.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لِأَنَّهُ مِنْ الْمِثْلِ ؛ وَلَسْت أَقُولُهُ ؛ وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ الْعَذَابِ. وَقَدْ بَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا حَرَقَ نَاسًا ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ ؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَمْ أَكُنْ لِأُحَرِّقَهُمْ بِالنَّارِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :﴿ لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ ﴾، وَلَقَتَلْتهمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ». وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَالسُّمُّ نَارٌ بَاطِنَةٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارَيْنِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِهِ.
وَأَمَّا الْوَصْفَانِ فَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ : إنْ كَانَتْ الضَّرْبَةُ بِالْحَجَرِ مُجْهِزَةً قُتِلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ ضَرَبَاتٍ فَلَا.
وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا : ذَلِكَ إلَى الْوَلِيِّ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ يُضْرَبُ بِالْعَصَا حَتَّى يَمُوتَ، وَلَا يُطَوَّلُ عَلَيْهِ. وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ : إنْ رُجِيَ أَنْ يَمُوتَ بِالضَّرْبِ ضُرِبَ، وَإِلَّا أُقِيدَ مِنْهُ بِالسَّيْفِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : لَا يُقْتَلُ بِالنَّبْلِ وَلَا بِالرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعْذِيبِ. وَاتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَفَقَأَ عَيْنَهُ قَصْدَ التَّعْذِيبَ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ الرِّعَاءَ حَسْبَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ فِي مُدَافَعَةٍ وَمُضَارَبَةٍ قُتِلَ بِالسَّيْفِ.
وَالصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَائِنَا أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ وَاجِبَةٌ، إلَّا أَنْ تَدْخُلَ فِي حَدِّ التَّعْذِيبِ فَلْتُتْرَكْ إلَى السَّيْفِ.
وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ جَمِيعُ الْأَقْوَالِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُوَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَلَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا لَا يَصِحُّ أَيْضًا.
وَاَلَّذِي يَصِحُّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ : إنِّي لَقَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ. فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَذَا قَتَلَ أَخِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«أَقَتَلْتَهُ ؟ فَقَالَ : إنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَأَقَمْت عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ. قَالَ : نَعَمْ، قَتَلْتُه. قَالَ : كَيْفَ قَتَلْتَه ؟ قَالَ : كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَحْتَطِبُ مِنْ شَجَرَةٍ فَسَبَّنِي فَأَغْضَبَنِي فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلْته ».
وَرَوَى أَبُو دَاوُد :«وَلَمْ أُرِدْ قَتْلَهُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ لَك مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّي عَنْ نَفْسِك ؟ فَقَالَ : مَا لِي
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ، قَالَ :«كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ، فَأَخْرَجُوا إلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَحَمَلَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا : سُبْحَانَ اللَّهِ !يُلْقِي بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ ! فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ : يَأَيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمْ لَتَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ.
فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا :﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ ﴾، وَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحَهَا، وَتَرَكْنَا الْغَزْوَ ؛ فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِ النَّفَقَةِ.
فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ نَدَبَهُمْ إلَى النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ، أَيْ هَلُمَّ ».
الثَّانِي : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ ﴾.
الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَخْرُجُوا بِغَيْرِ زَادٍ تَوَكُّلًا وَاتِّكَالًا.
وَحَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا، وَالِاتِّكَالُ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ لَا يَجُوزُ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ دَائِمٌ، وَالثَّانِي : قَدْ يُتَصَوَّرُ إذَا وَجَبَ الْجِهَادُ. وَالثَّالِثُ صَحِيحٌ لِأَنَّ إعْدَادَ الزَّادِ فَرْضٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَفْسِيرِ التَّهْلُكَةِ.
فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : لَا تَتْرُكُوا النَّفَقَةَ. الثَّانِي : لَا تَخْرُجُوا بِغَيْرِ زَادٍ، يَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾. الثَّالِثُ : لَا تَتْرُكُوا الْجِهَادَ. الرَّابِعُ : لَا تَدْخُلُوا عَلَى الْعَسَاكِرِ الَّتِي لَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهَا. الْخَامِسُ : لَا تَيْأَسُوا مِنْ الْمَغْفِرَةِ ؛ قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ : هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِهَا لَا تَنَاقُضَ فِيهِ، وَقَدْ أَصَابَ إلَّا فِي اقْتِحَامِ الْعَسَاكِرِ ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ ؛ فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ عُلَمَائِنَا : لَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ عَلَى الْجَيْشِ الْعَظِيمِ إذَا كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ وَكَانَ لِلَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ فَذَلِكَ مِنْ التَّهْلُكَةِ.
وَقِيلَ : إذَا طَلَبَ الشَّهَادَةَ وَخَلَصَتِ النِّيَّةُ فَلْيَحْمِلْ ؛ لِأَنَّ مَقْصِدَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ﴾.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : طَلَبُ الشَّهَادَةِ. الثَّانِي : وُجُودُ النِّكَايَةِ. الثَّالِثُ : تَجْرِيَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ. الرَّابِعُ : ضَعْفُ نُفُوسِهِمْ لِيَرَوْا أَنَّ هَذَا صُنْعُ وَاحِدٍ، فَمَا ظَنَّك بِالْجَمِيعِ، وَالْفَرْضُ لِقَاءُ وَاحِدٍ اثْنَيْنِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَحْسِنُوا ﴾.
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاَللَّهِ ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ.
الثَّانِي : فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
الثَّالِثُ : أَحْسِنُوا إلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ.
قَالَ الْقَاضِي : الْإِحْسَانُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْحُسْنِ، وَهُوَ كُلُّ مَا مُدِحَ فَاعِلُهُ. وَلَيْسَ الْحُسْنُ صِفَةً لِلشَّيْءِ ؛ وَإِنَّمَا الْحُسْنُ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ بِمَدْحِ فَاعِلِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْلَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ :«مَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك ».
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
فِيهَا اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَتِمُّوا ﴾، فِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَحْرِمُوا بِهِمَا مِنْ دِيَارِكُمْ ؛ قَالَهُ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَسُفْيَانُ.
الثَّانِي : أَتِمُّوهُمَا إلَى الْبَيْتِ ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.
الثَّالِثُ : بِحُدُودِهِمَا وَسُنَنِهِمَا ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الرَّابِعُ : أَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ.
الْخَامِسُ : أَلَّا يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.
السَّادِسُ : إتْمَامُهُمَا إذَا دَخَلَ فِيهِمَا ؛ قَالَهُ مَسْرُوقٌ.
السَّابِعُ : أَلَا يَتَّجِرَ مَعَهُمَا.
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : حَقِيقَةُ الْإِتْمَامِ لِلشَّيْءِ اسْتِيفَاؤُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَشُرُوطِهِ، وَحِفْظُهُ مِنْ مُفْسِدَاتِهِ وَمُنْقِصَاتِهِ.
وَكُلُّ الْأَقْوَالِ مُحْتَمَلٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ ؛ إلَّا أَنَّ بَعْضَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ : أَحْرِمْ بِهَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك، فَإِنَّهَا مَشَقَّةٌ رَفَعَهَا الشَّرْعُ وَهَدَمَتْهَا السُّنَّةُ بِمَا وَقَّتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَوَاقِيتِ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ إلَى الْبَيْتِ، فَذَلِكَ وَاجِبٌ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ، وَلَهُ شُرُوطٌ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَصَحِيحٌ. وَأَمَّا أَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَالسُّنَّةُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، كَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَأَمَّا أَلَّا يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ التَّمَتُّعُ. وَأَمَّا إتْمَامُهُمَا إذَا دَخَلَ فِيهِمَا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِيهِمَا حَتَّى بَالَغُوا فَقَالُوا : يَلْزَمُهُ إتْمَامُهُمَا، وَإِنْ أَفْسَدَهُمَا. وَأَمَّا أَلَّا يَتَّجِرَ فِيهِمَا فَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَرَاءِ أَلَّا تَمْتَزِجَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ، وَهُوَ أَخْلَصُ فِي النِّيَّةِ وَأَعْظَمُ لِلْأَجْرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَرَامٍ ؛ وَالْكُلُّ يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْحَجُّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ، وَخَصَّهُ الشَّرْعُ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَبِمَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، وَقَدْ كَانَ الْحَجُّ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَرَبِ، لَكِنَّهَا غَيَّرَتْهُ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَتَهُ، وَأَعَادَ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صِفَتَهُ، وَحَثَّ عَلَى تَعَلُّمِهِ، فَقَالَ :«خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْعُمْرَةُ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَارَةِ، وَهِيَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ زِيَارَةِ الْبَيْتِ، خَصَّصَتْهُ الشَّرِيعَةُ بِبَعْضِ مَوَارِدِهِ، وَقَصَرَتْهُ عَلَى مَعْنًى مِنْ مُطْلَقِهِ، عَلَى عَادَتِهَا فِي أَلْفَاظِهَا عَلَى سِيرَةِ الْعَرَبِ فِي لُغَاتِهَا، وَقَدْ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانَ الْحَجِّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ وَاجِبَةٌ، وَيُؤْثَرُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : هِيَ تَطَوُّعٌ، وَإِلَيْهِ مَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ.
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةٌ لِلْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَرَنَهَا بِالْحَجِّ فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ لَا فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِنَّهُ ابْتَدَأَ إيجَابَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَقَالَ تَعَالَى :﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾. وَابْتَدَأَ بِإِيجَابِ الْحَجِّ فَقَالَ تَعَالَى :«وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا ». وَلَمَّا ذَكَرَ الْعُمْرَةَ أَمَرَ بِإِتْمَامِهَا لَا بِابْتِدَائِهَا، فَلَوْ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ أَوْ اعْتَمَرَ عَشْرَ عُمَرَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ فِي جَمِيعِهَا، وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْآيَةُ لِإِلْزَامِ الْإِتْمَامِ لَا لِإِلْزَامِ الِابْتِدَاءِ، وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لِلَّهِ ﴾.
الْأَعْمَالُ كُلُّهَا لِلَّهِ، خَلْقٌ وَتَقْدِيرٌ، وَعِلْمٌ وَإِرَادَةٌ، وَمَصْدَرٌ وَمَوْرِدٌ، وَتَصْرِيفٌ وَتَكْلِيفٌ ؛ وَفَائِدَةُ هَذَا التَّخْصِيصِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَقْصِدُ الْحَجَّ لِلِاجْتِمَاعِ وَالتَّظَاهُرِ، وَالتَّنَاضُلِ وَالتَّنَافُرِ، وَالتَّفَاخُرِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَحُضُورِ الْأَسْوَاقِ ؛ وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حَظٌّ يُقْصَدُ، وَلَا قُرْبَةٌ تُعْتَقَدُ ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْقَصْدِ إلَيْهِ لِأَدَاءِ فَرْضِهِ وَقَضَاءِ حَقِّهِ، ثُمَّ سَامَحَ فِي التِّجَارَةِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ :﴿ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة ﴾.
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ " وَالْعُمْرَةُ " بِالرَّفْعِ لِلْهَاءِ، وَحَكَى قَوْمٌ أَنَّهُ إنَّمَا فَرَّ مِنْ فَرْضِ الْعُمْرَةِ ؛ وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقِرَاءَةَ يَنْبَنِي عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ، وَلَا يُقْرَأُ بِحُكْمِ الْمَذْهَبِ.
الثَّانِي : أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّصْبَ لَا يَقْتَضِي ابْتِدَاءَ الْفَرْضِ، فَلَا مَعْنَى لِقِرَاءَةِ الرَّفْعِ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ : يُقْرَأُ بِكُلِّ لُغَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾.
هَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ عُضْلَةٌ مِنْ الْعُضَلِ، فِيهَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : مُنِعْتُمْ بِأَيِّ عُذْرٍ كَانَ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ.
الثَّانِي : مُنِعْتُمْ بِالْعَدُوِّ خَاصَّةً ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ، وَالشَّافِعِيُّ ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا، وَرَأْيُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَمُحَصِّلِيهَا عَلَى أَنَّ أُحْصِرَ عُرِّضَ لِلْمَرَضِ، وَحُصِرَ نَزَلَ بِهِ الْحَصْرُ. وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَدَّ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَكَّةَ، وَمَا كَانُوا حَبَسُوهُ وَلَكِنْ حَبَسُوا الْبَيْتَ وَمَنَعُوهُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ فَقَالَ :«وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ».
وَقَدْ تَأْتِي أَفْعَالٌ يَكُونُ فِيهَا فَعَلَ وَأَفْعَلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَمَعْنَاهَا : فَإِنْ مُنِعْتُمْ. وَيُقَالُ : مُنِعَ الرَّجُلُ عَنْ كَذَا ؛ فَإِنَّ الْمَنْعَ مُضَافٌ إلَيْهِ أَوْ إلَى الْمَمْنُوعِ عَنْهُ.
وَحَقِيقَةُ الْمَنْعِ عِنْدَنَا الْعَجْزُ الَّذِي يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْفِعْلُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَمْنُوعِ بِعُذْرٍ، وَأَنَّ لَفْظَهَا فِي كُلِّ مَمْنُوعٍ، وَمَعْنَاهَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي تَحْقِيقِ جَوَابِ الشَّرْطِ مِنْ قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾.
وَظَاهِرُهُ قَوْلُهُ :﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ ﴾، وَبِهَذَا قَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ ؛ وَإِنَّمَا الْهَدْيُ عَلَى ذِي التَّفْرِيطِ ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ ﴾ ؛ فَهُوَ تَرْكٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَتَعَلُّقٌ بِالْمَعْنَى.
الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ. وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ الْهَدْيَ تَطَوُّعًا، وَكَذَلِكَ كَانَ ؛ فَأَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَلَا كَلَامَ فِيهِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ الْبَارِي تَعَالَى الْهَدْيَ وَاجِبًا - مَعَ التَّفْرِيطِ وَمَعَ عَدَمِهِ - عِبَادَةً مِنْهُ لِسَبَبٍ وَلِغَيْرِ سَبَبٍ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.
وَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ، وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْهَدْيُ مَنْ أُحْصِرَ بِمَرَضٍ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِالْعُمْرَةِ وَيُهْدِي.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَتَحَلَّلُ بِالْمَرَضِ فِي مَوْضِعِهِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا مَعْنَى لِلْآيَةِ إلَّا حَصْرَ الْعَدُو
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَعْدِيدِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : شَوَّالٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ كُلُّهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَتَادَةُ، وَطَاوُسٌ، وَمَالِكٌ.
الثَّانِي : وَعَشْرَةُ أَيَّامٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ.
الثَّالِثُ : وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّافِعِيُّ.
الرَّابِعُ : إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا.
فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ ذُو الْحِجَّةِ كُلُّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالتَّعْدِيدُ لِلثَّلَاثَةِ.
وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ قَالَ : إنَّ الطَّوَافَ وَالرَّمْيَ فِي الْعَقَبَةِ رُكْنَانِ يُفْعَلَانِ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ.
وَمَنْ قَالَ : عَشْرُ لَيَالٍ قَالَ : إنَّ الْحَجَّ يَكْمُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ لِصِحَّةِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَهُوَ الْحَجُّ كُلُّهُ.
وَمَنْ قَالَ : آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَأَى أَنَّ الرَّمْيَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَشَعَائِرِهِ، وَبَعْضُ الشَّهْرِ يُسَمَّى شَهْرًا لُغَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَائِدَةُ مَنْ جَعَلَهُ ذَا الْحِجَّةِ كُلَّهُ أَنَّهُ إذَا أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ إلَى آخِرِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا وَتَنْصِيصِهِ عَلَيْهَا أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَهَا كَذَلِكَ فِي مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ الْحَالُ إلَى أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَبَقِيَتْ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ الْعَرَبُ تَرَى أَنَّ الْعُمْرَةَ فِيهَا مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تُغَيِّرُهَا فَتُنْسِئُهَا وَتُقَدِّمُهَا حَتَّى عَادَتْ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ إلَى حَدِّهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَأْثُورِ الْمُنْتَقَى :«إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا. . . » الْحَدِيثَ.
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ التَّمَتُّعَ، وَهُوَ ضَمُّ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بَيَّنَ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ لَيْسَتْ جَمِيعَ الشُّهُورِ فِي الْعَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ الْمَعْلُومَاتُ مِنْ لَدُنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيَّنَ قَوْله تَعَالَى :﴿ يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾. أَنَّ جَمِيعَهَا لَيْسَ الْحَجُّ تَفْصِيلًا لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ تَخْصِيصًا لِبَعْضِهَا بِذَلِكَ، وَهِيَ شَوَّالُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَجَمِيعُ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَصَحِيحُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا ؛ فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا مَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْعَامِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا مَنْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْمَخْصُوصَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهَا ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَسِوَاهُ : تَقْدِيرُهَا الْحَجُّ حَجُّ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ مِنْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْإِحْرَامَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا لَا يَرَى أَحَدٌ الْإِحْرَامَ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : أَشْهُرُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ لُغَةً فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ وَعَيَّنَّاهُ فِقْهًا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ النِّيَّةَ تَكْفِي بَاطِنًا فِي الْتِزَامِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾.
الْمَعْنَى الْتَزَمَهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِ بِالنِّيَّةِ قَصْدًا بَاطِنًا، وَبِالْإِحْرَامِ فِعْلًا ظَاهِرًا، وَبِالتَّلْبِيَةِ نُطْقًا مَسْمُوعًا ؛ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي التَّلْبِيَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ النِّيَّةَ تَكْفِي بَاطِنًا فِي الْتِزَامِهِ عَنْ فِعْلٍ أَوْ نُطْقٍ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ : إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْأَشْهُرِ، فَلَا يُقَدَّمُ عَلَيْهَا، وَأَبَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ.
وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ مُعْضِلَةٌ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْبَيَانَ فِيهَا، وَأَوْضَحْنَا لُبَابَهُ فِي كِتَابِ التَّلْخِيصِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ فِيهَا دَائِرٌ مِنْ قِبَلِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ مِنْ الْحَجِّ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِهِ، وَمُعَوَّلُنَا عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَهُنَاكَ تَبَيَّنَ التَّرْجِيحُ بَيْنَ النَّظَرَيْنِ، وَظَهَرَ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي الْآيَةِ مِنْ الْقَوْلَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ ﴾.
الرَّفَثُ : كُلُّ قَوْلٍ يَتَعَلَّقُ بِذِكْرِ النِّسَاءِ ؛ يُقَالُ : رَفَثَ يَرْفُثُ - بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ مِنْ الْجِمَاعِ وَالْمُبَاشَرَةِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ ﴾. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَرَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ إلَّا إذَا رُوجِعَ بِهِ النِّسَاءُ، وَأَمَّا إذَا ذَكَرَهُ الرَّجُلُ مُفْرِدًا عَنْهُنَّ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّ الْحَجَّ مُنِعَ فِيهِ مِنْ التَّلَفُّظِ بِالنِّكَاحِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، فَكَيْفَ بِالِاسْتِرْسَالِ عَلَى الْقَوْلِ يُذْكَرُ كُلُّهُ، وَهَذِهِ بَدِيعَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ ﴾ : أَرَادَ نَفْيَهُ مَشْرُوعًا لَا مَوْجُودًا، فَإِنَّا نَجِدُ الرَّفَثَ فِيهِ وَنُشَاهِدُهُ. وَخَبَرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ النَّفْيُ إلَى وُجُودِهِ مَشْرُوعًا لَا إلَى وُجُودِهِ مَحْسُوسًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾. مَعْنَاهُ شَرْعًا لَا حِسًّا، فَإِنَّا نَجِدُ الْمُطَلَّقَاتِ لَا يَتَرَبَّصْنَ، فَعَادَ النَّفْيُ إلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، لَا إلَى الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾ إذَا قُلْنَا : إنَّهُ وَارِدٌ فِي الْآدَمِيِّينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَمَسُّهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِشَرْعٍ ؛ فَإِنْ وُجِدَ الْمَسُّ فَعَلَى خِلَافِ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَهَذِهِ الدَّقِيقَةُ هِيَ الَّتِي فَاتَتِ الْعُلَمَاءَ فَقَالُوا : إنَّ الْخَبَرَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَمَا وُجِدَ ذَلِكَ قَطُّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ فَإِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً وَيَتَضَادَّانِ وَصْفًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا وَقَعَ الْوَطْءُ فِي الْحَجِّ أَفْسَدَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ أَوْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ ؛ فَإِنْ وَقَعَتْ الْمُبَاشَرَةُ لَمْ تُفْسِدْهُ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا لِكَوْنِهَا دَاعِيَةً إلَى الْجِمَاعِ، كَمَا حَرَّمَ الطِّيبَ وَالنِّكَاحَ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ »، وَلَوْ وُجِدَ الطِّيبُ وَالنِّكَاحُ لَمْ يَفْسُدْ الْحَجُّ، فَكَذَلِكَ بِالْمُبَاشَرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا فُسُوقَ ﴾.
فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ ؛ أُمَّهَاتُهَا ثَلَاثٌ :
الْأَوَّلُ : جَمِيعُ الْمَعَاصِي، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ ».
الثَّانِي : أَنَّهُ قَتْلُ الصَّيْدِ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الذَّبْحُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَخْلُو عَنْ ذَبْحٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ فِسْقًا، فَشَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِوَجْهِهِ نُسُكًا.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ جَمِيعُهَا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ :«مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ».
وَقَالَ :«الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ ». فَقَالَ الْفُقَهَاءُ : الْحَجُّ الْمَبْرُورُ، هُوَ الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهَ فِي أَثْنَاءِ أَدَائِهِ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ : الْحَجُّ الْمَبْرُورُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهُ بَعْدَهُ. وَقَدْ رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ :«مَنْ حَجّ ثُمَّ لَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ » بِقَوْلِهِ : ثُمَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾.
أَرَادَ لَا جِدَالَ فِي وَقْتِهِ ؛ فَإِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَعَادَ بِذَلِكَ إلَى يَوْمِهِ وَوَقْتِهِ. وَق
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لِمَنْ الضَّالِّينَ ﴾.
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :«كَانَتْ عُكَاظٌ وَمِجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَأَثَّمُوا فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَّجِرُوا فِيهَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ ؛ يَعْنِي فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ لِلْحَاجِّ مَعَ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَإٍنَّ الْقَصْدَ إلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ شِرْكًا، وَلَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُكَلَّفُ عَنْ رَسْمِ الْإِخْلَاصِ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ، خِلَافًا لِلْفُقَرَاءِ أَنَّ الْحَجَّ دُونَ تِجَارَةٍ أَفْضَلُ أَجْرًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ﴾.
الْإِفَاضَةُ : السُّرْعَةُ بِالدَّفْعِ، هَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا دَفْعٌ، وَهِيَ حَقِيقَةُ الْإِفَاضَةِ، وَالْإِسْرَاعُ هَيْئَةٌ فِي الْإِفَاضَةِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ كَانَ إذَا دَفَعَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ ». وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَنَّهُ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ فَسَمِعَ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ ».
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ مِنْ عَرَفَاتٍ ﴾ : مَوْضِعٌ مَعْلُومُ الْحُدُودِ، مَشْهُورٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«الْحَجُّ عَرَفَةَ ثَلَاثًا، مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ ». وَرَوَيَا وَمَعَهُمَا أَبُو دَاوُد أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مُضَرِّسٍ الطَّائِيَّ قَالَ :«أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَوْقِفِ يَعْنِي بِجَمْعٍ فَقُلْت : جِئْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ، أَكَلَلْت مَطِيَّتِي، وَأَتْعَبْت نَفْسِي، وَاَللَّهِ مَا تَرَكْت مِنْ جَبَلٍ إلَّا وَقَفْت عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَأَتَى عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ ».
وَهَذَا صَحِيحٌ يَلْزَمُ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا إخْرَاجُهُ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ، وَسَتَرَوْنَهُ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : هَذَا الْقَوْلُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يَقْتَضِي جَوَازَ عُمُومِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ كُلِّهَا وَإِجْزَاءَهُ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«وَقَفْت هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ. وَنَحَرْت هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَوَقَفْت هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ » خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى قُزَحَ، فَقَالَ :«هَذَا قُزَحُ، وَهَذَا الْمَوْقِفُ، وَجَمْعٌ، كُلُّهَا مَوْقِفٌ ».
وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ قُبَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ خَرَجَ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ. . . الْحَدِيثَ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ ».
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَمْ يُبَيِّنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَقْتَ الْإِفَاضَةِ، وَبَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ، فَإِنَّهُ وَقَفَ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَلِيلًا، وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ، وَغَابَ الْقُرْصُ. خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ ؛ فَكَانَ بَيَانًا لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ : الْفَرْضُ الْوُقُوفُ بِاللَّيْلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : الْوُقُوفُ بِالنَّهَارِ. وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ : لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَلَى حَدِيثِ عُرْوَةَ. وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَغَيْرِهَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾.
رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي الصَّحِيحِ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ بِعَرَفَةَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ دَفَعَ فَأَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى فِيهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ لَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ الصُّبْحَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَدَعَا وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَوَحَّدَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، ثُمَّ دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ » خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَالَ قَوْمٌ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾ ؛ إشَارَةٌ إلَى الصَّلَاةِ بِهِ دُونَ أَنْ تُفْعَلَ فِي الطَّرِيقِ ؛ فَإِنِ الْوَقْتُ أَخَذَهُ بِعَرَفَةَ وَتَمَادَى عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فِي الطَّرِيقِ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُصَلِّيَ، وَكَذَلِكَ قَالَ أُسَامَةُ :«الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الصَّلَاةُ أَمَامَك، حَتَّى نَزَلَ الْمُزْدَلِفَةَ فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِيهَا »، خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ، حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنْ صَلَّاهَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«الصَّلَاةُ أَمَامَك »، فَجَعَلَهُ لَهَا حَدًّا.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَيْسَ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ رُكْنًا فِي الْحَجِّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ : هُوَ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾ ؛ وَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمَبِيتِ، وَإِنَّمَا فِيهِ مُجَرَّدُ الذِّكْرِ.
الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لِعُرْوَةِ بْنِ مُضَرِّسٍ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ إجْزَاءَ الْحَجِّ مَعَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ دُونَ الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ كُلُّهُ مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ مُحَسِّرٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«جَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفُ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ ». رَوَاهُ مَالِكٌ بَلَاغًا، وَأَسْنَدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ ».
الآية الثامنة والأربعون : قَوْله تَعَالَى :﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ :«فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا. . . » وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْإِفَاضَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مِنْ عَرَفَاتٍ مُخَالَفَةً لِقُرَيْشٍ ؛ قَالَهُ الْجَمَاعَةُ.
الثَّانِي : الْمُرَادُ بِهِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إلَى مِنًى ؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَإِنَّمَا صَارَ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَأَى اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْإِفَاضَةَ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَالْإِفَاضَةُ الَّتِي بَعْدَ الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ هِيَ الْإِفَاضَةُ إلَى مِنًى.
وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَرْبَعَةِ أَجْوِبَةٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، التَّقْدِيرُ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ مَعَ النَّاسِ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ.
الثَّانِي : أَنْ " ثُمَّ " بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ﴾.
الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَاهُ : ثُمَّ ذَكَرْنَا لَكُمْ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، فَيَرْجِعُ التَّعْقِيبُ إلَى ذِكْرِ وُجُودِ الشَّيْءِ لَا إلَى نَفْسِ وُجُودِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ﴾. الْمَعْنَى : ثُمَّ أَخْبَرْنَاكُمْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ؛ فَيَكُونُ التَّعْقِيبُ فِي الْإِخْبَارِ لَا فِي الْإِيتَاءِ.
الرَّابِعُ :- وَهُوَ التَّحْقِيقُ - أَنَّ الْمَعْنَى فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ : يَا مَعْشَرَ مَنْ حَلَّ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ. وَأَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْخِطَابَ إلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ لِيَعُمَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَمَنْ لَمْ يَقِفْ حَتَّى يَمْتَثِلَهُ مَعَ مَنْ وَقَفَ.
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم أَو أََشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ َخلاقٍ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَقِيقَةَ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ، وَخُصُوصًا فِي رِسَالَةِ نُزُولِ الْوَافِدِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَدَاءِ ؛ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ الْعِبَادَاتِ فِي وَقْتِهَا، وَهِيَ حَقِيقَتُهُ الَّتِي خَفِيَتْ عَلَى النَّاسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْمَنَاسِكِ هَاهُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الذَّبْحُ. الثَّانِي : أَنَّهَا شَعَائِرُ الْحَجِّ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا الرَّمْي أَوْ جَمِيعُ مَعَانِي الْحَجِّ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ ». وَالْمَعْنَى بِالْآيَةِ كُلِّهَا : إذَا فَعَلْتُمْ مَنْسَكًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ فَاذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى : كَالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَالتَّكْبِيرِ عِنْدَ الرَّمْيِ، وَالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ.
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ خَمْسِينَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هَاهُنَا التَّكْبِيرُ. وَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فَاعْلَمُوا أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ إلَى رَمْيِ الْجَمْرَةِ بِالْعَقَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَتَعْيِينِهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَيَّامُ الرَّمْيِ مَعْدُودَاتٌ، وَأَيَّامُ النَّحْرِ مَعْلُومَاتٌ ؛ فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَعْدُودٍ، وَالْيَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ مَعْلُومَانِ مَعْدُودَانِ، وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ مَعْدُودٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ ؛ وَاَلَّذِي أَصَارَهُمْ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ بَعْدَ قَوْله تَعَالَى :﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ أَنَّهَا أَيَّامُ مِنًى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الرَّمْيِ فِيهَا.
وَاعْلَمُوا أَنَّ أَيَّامَ مِنًى ثَلَاثَةٌ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ، أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ »، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ﴾، وَذَلِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ أَفِيضُوا يَعْنِي : إلَى مِنًى عَلَى التَّقْدِيرِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَوَّلُهُ لِلْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَآخِرُهُ لِمِنًى، فَلَمَّا لَمْ يَخْتَصَّ بِمِنًى لَمْ يُعَدَّ فِيهَا، وَصَارَتْ أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةً سِوَى يَوْمِ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدً الْإِطْلَاقِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ قَالَ حِينَئِذٍ عُلَمَاؤُنَا : الْيَوْمُ الْأَوَّلُ غَيْرُ مَعْدُودٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَيَّامِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِمِنًى فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾، وَلَا مِنْ الَّتِي عَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ :«أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ »، وَكَانَ مَعْلُومًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ﴾. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّحْرُ، وَكَانَ النَّحْرُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الرَّابِعِ نَحْرٌ ؛ فَكَانَ الرَّابِعُ غَيْرَ مُرَادٍ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ مَعْلُومَاتٍ ﴾ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْحَرُ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، وَكَانَ مِمَّا يُرْمَى فِيهِ ؛ فَصَارَ مَعْدُودًا فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ الرَّمْيِ، غَيْرَ مَعْلُومٍ لِعَدَمِ النَّحْرِ فِيهِ.
وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مَعْدُودٌ بِالرَّمْيِ مَعْلُومٌ بِالذَّبْحِ، لَكِنَّهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا لَيْسَ مُرَادًا فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾.
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا يَكُونُ - كَمَا قُلْتُمْ - يَوْمُ النَّحْرِ مُرَادًا فِي الْمَعْدُودَاتِ وَتَكُونُ الْمَعْدُودَاتُ أَرْبَعَةً وَالْمَعْلُومَاتُ ثَلَاثَةً ؟ وَكَمَا يُعْطِي ذِكْرُ الْأَيَّامِ ثَلَاثَةً كَذَلِكَ يَقْتَضِي أَرْبَعَةً.
فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نَمْنَعُ أَنْ يُسَمَّى بِمَعْدُودٍ وَلَا بِمَعْلُومٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَعْدُودٍ مَعْلُومٌ، وَكُلَّ مَعْلُومٍ مَعْدُودٌ، لَكِنْ يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِذِكْرِ الْمَعْدُودَاتِ هَاهُنَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ كَمَا قَدَّمْنَا قَدْ اسْتَحَقَّ أَوَّلُهُ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَمِنْهُ تَكُونُ الْإِفَاضَةُ إلَى مِنًى ؛ فَصَارَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْإِفَاضَةِ، وَبَعْدَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾.
الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ». وَلَوْ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ مَعْدُودًا مِنْهَا لَاقْتَضَى مُطْلَقُ هَذَا الْقَوْلِ لِمَنْ نَفَرَ فِي يَوْمِ ثَانِي النَّحْرِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْدُودٍ فِيهَا لَا قُرْآنًا وَلَا سُنَّةً، وَهَذَا مُنْتَهَى بَدِيعٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدْفَعُهُ ؛ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الذِّكْرِ :
لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ هُوَ الْحَاجُّ، خُوطِبَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ، فَأَمَّا غَيْرُ الْحَاجِّ فَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هُوَ أَيْضًا خِطَابٌ لِلْحَاجِّ بِغَيْرِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرَّمْيِ ؟ فَنَقُولُ : أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ وَالْمَشَاهِيرُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّكْبِيرُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَخُصُوصًا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ؛ فَيُكَبِّرُ عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ صَلَاةٍ، كَانَ الْمُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ أَوْ وَحْدَهُ يُكَبِّرُ تَكْبِيرًا ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ. لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ صَاحِبُهُ وَالْمُزَنِيُّ. وَالثَّانِي : مِثْلُهُ فِي الْأَوَّلِ، وَيَقْطَعُ الْعَصْرَ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. الثَّالِثُ : يُكَبِّرُ مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى عَصْرِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. الرَّابِعُ : يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إلَى بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ.
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يُكَبِّرُ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَقْطَعُ الْعَصْرَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :﴿ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ، وَقَدْ قَالَ هَؤُلَاءِ : يُكَبِّرُ فِي يَوْمَيْنِ ؛ فَتَرَكُوا الظَّاهِرَ لِغَيْرِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَقَالَ : إنَّهُ تَعَالَى قَالَ :﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾، فَذِكْرُ عَرَفَاتٍ دَاخِلٌ فِي ذِكْرِ الْأَيَّامِ، وَهَذَا كَانَ يَصِحُّ لَوْ قَالَ يُكَبِّرُ مِنْ الْمَغْرِبِ يَوْمَ عَرَفَةَ، لِأَنَّ وَقْتَ الْإِفَاضَةِ حِينَئِذٍ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ : يُكَبِّرُ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ الظُّهْرِ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي مُتَعَلِّقِ قَوْله تَعَالَى :﴿ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾، لَكِنْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ عِنْدَ الْحُلُولِ بِمِنًى.
وَمِنْ قَصَرَهُ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَقَدْ بَيَّنَّا مَأْخَذَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَالتَّحْقِيقِ أَنَّ التَّحْدِيدَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ظَاهِرٌ، وَأَنَّ تَعَيُّنَهَا ظَاهِرٌ أَيْضًا بِالرَّمْيِ، وَأَنَّ سَائِرَ أَهْلِ الْآفَاقِ تَبَعٌ لِلْحَاجِّ فِيهَا، وَلَوْلَا الِاقْتِدَاءُ بِالسَّلَفِ لَضَعُفَ مُتَابَعَةُ الْحَاجِّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَهْلِ الْآفَاقِ إلَّا فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
قَالَ قَوْمٌ : نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ : وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ خَرَجَ، وَقَالَ : اللَّهُ يَعْلَمُ إنِّي لَصَادِقٌ، ثُمَّ خَرَجَ وَمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ وَحُمُرٍ، فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ وَعَقَرَ الْحُمُرَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ. وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ صِفَةُ الْمُنَافِقِ، وَهُوَ أَقْوَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنْ الْحَاكِمَ لَا يَعْمَلُ عَلَى ظَاهِرِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَمَا يَبْدُو مِنْ إيمَانِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ حَتَّى يَبْحَثَ عَنْ بَاطِنِهِمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَنْ الْخَلْقِ مَنْ يُظْهِرُ قَوْلًا جَمِيلًا وَهُوَ يَنْوِي قَبِيحًا.
وَأَنَا أَقُولُ : إنَّهُ يُخَاطِبُ بِذَلِكَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ حَاكِمٍ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَلَّا يُقْبِلُ أَحَدٌ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ أَحَدٍ حَتَّى يَتَحَقَّقَ بِالتَّجْرِبَةِ حَالَهُ، وَيَخْتَبِرَ بِالْمُخَالَطَةِ أَمْرَهُ.
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَه إلَّا اللَّهُ ». وَفِي رِوَايَةٍ :«إنَّمَا أُمِرْت بِالظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ ».
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْكَفِّ عَنْهُ وَعِصْمَتِهِ، فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِالظَّاهِرِ مِنْهُ فِي حَالَتِهِ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ :«فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا ».
وَأَمَّا فِي حَدِيثِ حَقِّ ثُبُوتِ الْمَنْزِلَةِ بِإِمْضَاءِ قَوْلِهِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يُكْتَفَى بِظَاهِرِهِ حَتَّى يَقَعَ الْبَحْثُ عَنْهُ، وَيُخْتَبَر فِي تَقَلُّبَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ.
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ كَانَ إسْلَامُهُمْ سَلَامَتَهُمْ ؛ فَأَمَّا وَقَدْ عَمَّ النَّاسَ الْفَسَادُ فَلَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ : يَعْنِي ذَا جِدَالٍ إذَا كَلَّمَك وَرَاجَعَك رَأَيْت لِكَلَامِهِ طَلَاوَةً وَبَاطِنُهُ بَاطِلٌ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِدَالَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِمَا ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ سَوَاءٌ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ ».
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاَللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ.
الثَّانِي : فِيمَنْ يَقْتَحِمُ الْقِتَالَ ؛ أَرْسَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَيْشًا فَحَاصَرُوا حِصْنًا فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ عَلَيْهِ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ، فَقَالَ النَّاسُ : أَلْقَى بِيَدِهِ لِلتَّهْلُكَةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ :«كَذَبُوا ؛ أَوْ لَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ﴾.
وَحَمَلَ هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ عَلَى الصَّفِّ حَتَّى شَقَّهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ :«وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ».
الثَّالِثُ : نَزَلَتْ فِي الْهِجْرَةِ وَتَرْكِ الْمَالِ وَالدِّيَارِ لِأَجْلِهَا ؛ رُوِيَ أَنْ صُهَيْبًا أَخَذَهُ أَهْلُهُ وَهُوَ قَاصِدٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَافْتَدَى مِنْهُمْ بِمَالِهِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ آخَرُ فَافْتَدَى مِنْهُ بِبَقِيَّةِ مَالِهِ، وَغَيْرُهُ عَمِلَ عَمَلَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ.
الرَّابِعُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ قَالَهُ عُمَرُ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَاسْتَرْجَعَ، وَقَالَ : قَامَ رَجُلٌ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَقُتِلَ.
وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ دَخَلَ مِرْبَدًا لَهُ، فَأَرْسَلَ إلَى فِتْيَانٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَخِي عَنْبَسَةَ فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ، فَإِذَا كَانَتْ الْقَائِلَةُ انْصَرَفُوا. قَالَ : فَمَرُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاَللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِبَعْضِ مَنْ كَانَ إلَى جَانِبِهِ :«اقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ. فَسَمِعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا قَالَ، فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ قُلْت ؟ قَالَ : لَا شَيْءَ. قَالَ : مَاذَا قُلْت ؟ قَالَ : فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : أَرَى هَذَا أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ مِنْ أَمْرِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَيَقُولُ هَذَا : وَأَنَا أَشْرِي نَفْسِي ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَيُقَاتِلُهُ، فَاقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ. فَقَالَ عُمَرُ : لِلَّهِ تِلَادُك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا كُلُّهُ مِنْ الْأَقْوَالِ، لَا امْتِنَاعَ فِي أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْآيَةِ، دَاخِلًا فِي عُمُومِهَا، إلَّا أَنَّ مِنْهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَمِنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ؛ أَمَّا الْقَوْلُ : إنَّهَا فِي الْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَأَمَّا اقْتِحَامُ الْقِتَالِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُهُ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إذَا خَافَ مِنْهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ سَقَطَ فَرْضُهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ اقْتِحَامُ الْغَرَرِ فِيهِ وَتَعْرِيضُ النَّفْسِ لِلْإِذَايَةِ أَوِ الْهَلَكَةِ ؟ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
وَعُمُومُ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾.
فِيهَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهَا ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ كَانَتْ مَوْضُوعَةً أَوَّلًا فِي الْأَقْرَبِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ مَصْرِفَهَا فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ.
الثَّانِي : أَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ مَصَارِفَ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَهُوَ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ دَعْوَى، وَشُرُوطُهُ مَعْدُومَةٌ هُنَا ؛ وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فِي الْأَقْرَبِينَ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِمْ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ؛ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ. فَقَالَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ لِزَوْجِهَا : أَرَاك خَفِيفَ ذَاتِ الْيَدِ، فَإِنْ أَجْزَأَتْ عَنِّي فِيك صَرَفْتهَا إلَيْك. فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَتْ : أَتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ مِنِّي عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ فِي حِجْرِي ؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَك أَجْرَانِ : أَجْرُ الصَّدَقَةِ، وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ ». وَفِي رِوَايَةٍ :«زَوْجُك وَوَلَدُك أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت عَلَيْهِمْ ».
وَرَوَى النَّسَائِيّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، وَأَدْنَاك أَدْنَاك ».
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«ابْدَأْ بِنَفْسِك فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا ». وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحُنُوَّ عَلَى الْقَرَابَةِ أَبْلَغُ، وَمُرَاعَاةُ ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ أَوْقَعُ فِي الْإِخْلَاصِ.
وَتَمَامُ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْآيَة الرَّابِعَة وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾.
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّحَابَةِ وَهُمْ الْمُخَاطَبُونَ وَالْمَكْتُوبُ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ ؛ قَالَهُ عَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ.
الثَّانِي : أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، لَكِنْ يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْإِسْلَامُ ظَاهِرًا فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ ظَاهِرًا عَلَى مَوْضِعٍ ؛ كَانَ الْقِتَالُ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ، حَتَّى يَكْشِفَ اللَّهُ تَعَالَى مَا بِهِمْ ؛ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاشِعٍ قَالَ :«أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَخِي فَقُلْت : بَايِعْنِي عَلَى الْهِجْرَةِ. فَقَالَ : مَضَتْ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا. قُلْت : عَلَامَ تُبَايِعُنَا ؟ قَالَ : عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ ».
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا »، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَانَتْ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ إبَاحَةِ الْقِتَالِ وَالْإِذْنِ فِيهِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ﴾.
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نَسْخِ هَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَكَانَ عَطَاءٌ يَحْلِفُ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي بَعْدَهَا عَامَّةٌ فِي الْأَزْمِنَةِ وَهَذَا خَاصٌّ ؛ وَالْعَامُّ لَا يُنْسَخُ بِالْخَاصِّ بِاتِّفَاقٍ.
وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي النَّاسِخِ ؛ فَقَالَ الزُّهْرِيُّ : نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ﴾.
وَقَالَ غَيْرُهُ : نَسَخَتْهَا :﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾.
وَقَالَ غَيْرُهُ : نَسَخَهَا غَزْوُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَقِيفًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَإِغْزَاؤُهُ أَبَا عَامِرٍ إلَى أَوْطَاسَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ؛ وَهَذِهِ أَخْبَارٌ ضَعِيفَةٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ : نَسَخَتْهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ عَلَى الْقِتَالِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ بِمَكَّةَ، وَأَنَّهُمْ عَازِمُونَ عَلَى حَرْبِهِ، فَبَايَعَ عَلَى دَفْعِهِمْ لَا عَلَى الِابْتِدَاءِ.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ : نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾، يَعْنِي أَشْهُرَ التَّسْيِيرِ، فَلَمْ يَجْعَلْ حُرْمَةً إلَّا لِزَمَانِ التَّسْيِيرِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حِينَ أَعْظَمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِتَالَ وَالْحِمَايَةَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ. . . ﴾ - وَهِيَ الْكُفْرُ - فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ ؛ فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ تَعَيَّنَ قِتَالُكُمْ فِيهِ.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُرْتَدِّ، هَلْ يُحْبِطُ عَمَلَهُ نَفْسُ الرِّدَّةِ أَمْ لَا يَحْبَطُ إلَّا عَلَى الْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ ؟
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَحْبَطُ لَهُ عَمَلٌ إلَّا بِالْمُوَافَاةِ كَافِرًا. وَقَالَ مَالِكٌ : يَحْبَطُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ. وَيَظْهَرُ الْخِلَافُ فِي الْمُسْلِمِ إذَا حَجَّ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ، فَقَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُهُ الْحَجُّ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ حَبَطَ بِالرِّدَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ عَمَلَهُ بَاقٍ.
وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾. وَقَالُوا هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الرِّدَّةُ شَرْعًا.
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْأَمَةِ، وَبَيَانُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَرَفِ مَنْزِلَتِهِ لَوْ أَشْرَكَ لَحَبِطَ عَمَلُهُ، فَكَيْف أَنْتُمْ ؟ لَكِنَّهُ لَا يُشْرِكُ لِفَضْلِ مَرْتَبَتِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ ؛ وَذَلِكَ لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِنَّ وَإِلَّا فَلَا يُتَصَوَّرُ إتْيَانُ فَاحِشَةٍ مِنْهُنَّ، صِيَانَةً لِصَاحِبِهِنَّ الْمُكَرَّمِ الْمُعَظَّمِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، حِينَ قَرَأَ :﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ﴾ : وَاَللَّهِ مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، وَلَكِنَّهُمَا كَفَرَتَا.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا ذَكَرَ الْمُوَافَاةَ شَرْطًا هَاهُنَا، لِأَنَّهُ عَلَّقَ عَلَيْهَا الْخُلُودَ فِي النَّارِ جَزَاءً، فَمَنْ وَافَى كَافِرًا خَلَّدَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ أَشْرَكَ حَبِطَ عَمَلُهُ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى، فَهُمَا آيَتَانِ مُفِيدَتَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَحُكْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، وَمَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ لِأَمَتِهِ حَتَّى يَثْبُتَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ، وَمَا وَرَدَ فِي أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ فِيهِنَّ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ لَكَانَ هَتْكًا لِحُرْمَةِ الدِّينِ وَحُرْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِكُلِّ هَتْكٍ حُرْمَةُ عِقَابٍ، وَيُنَزَّلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَنْ عَصَى فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، أَوْ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ الْعَذَابَ يُضَاعَفُ عَلَيْهِ بِعَدَدِ مَا هَتَكَ مِنْ الْحُرُمَاتِ، وَاَللَّهُ الْوَاقِي لَا رَبَّ غَيْرُهُ.
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾.
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَقْوَالٌ :
الْأَوَّلُ : مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عُمَرَ - وَالصَّحِيحُ مُرْسَلٌ دُونَ ذِكْرِ " عَنْ "، وَقَالَ بَدَلَهَا : عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :«اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ ». فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ :«اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ »، فَنَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي النِّسَاءِ :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾، فَدُعِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ :«اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ »، فَنَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي الْمَائِدَة :﴿ إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. . . ﴾ الآية. فَدُعِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ : انْتَهَيْنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَحْقِيقِ اسْمِ الْخَمْرِ وَمَعْنَاهُ :
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخَمْرَ شَرَابٌ يُعْتَصَرُ مِنْ الْعِنَبِ خَاصَّةً، وَمَا اُعْتُصِرَ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ كَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَغَيْرِهِمَا يُقَالُ لَهُمَا نَبِيذٌ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ.
الثَّانِي : أَنَّ الْخَمْرَ كُلُّ شَرَابٍ مَلَذٌّ مُطْرِبٌ، - قَالَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ ؛ وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَحَادِيثَ لَيْسَ لَهَا خُطُمٌ وَلَا أَزْمَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا.
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ أَنَسًا قَالَ :«حُرِّمَتْ الْخَمْرُ يَوْمَ حُرِّمَتْ وَمَا بِالْمَدِينَةِ خَمْرُ الْأَعْنَابِ إلَّا قَلِيلٌ، وَعَامَّةُ خَمْرِهَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ ». خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى رِوَايَةٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ إذْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ يَوْمَئِذٍ خَمْرُ عِنَبٍ ؛ وَإِنَّمَا كَانُوا يَشْرَبُونَ خَمْرَ النَّبِيذِ، فَكَسَرُوا دِنَانَهُمْ، وَبَادَرُوا الِامْتِثَالَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خَمْرٌ.
وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ :«إنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ نَزَلَ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ : الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ ».
وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ اشْتِقَاقًا وَأُصُولًا وَقُرْآنًا وَأَخْبَارًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْمَيْسِرُ : مَا كُنَّا نَشْتَغِلُ بِهِ بَعْدَ أَنْ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَا حَرَّمَ اللَّهُ فِعْلَهُ وَجَهِلْنَاهُ حَمِدْنَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَشَكَرْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَلْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَمْ لَا ؟
قَالَ الْحَسَنُ : حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَتْ الْجَمَاعَةُ : حُرِّمَتْ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ حَرَّمَتْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ ﴾.
وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :﴿ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ ﴾. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ :﴿ قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ ﴾. فَلَمَّا تَنَاوَلَ التَّحْرِيمُ الْإِثْمَ، وَكَانَ الْإِثْمُ مِنْ صِفَاتِ الْخَمْرِ وَجَبَ تَحْرِيمُهَا.
وَهَذَا إنَّمَا كَانَ يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ لَوْ كَانَ نُزُولُ قَوْله تَعَالَى :﴿ قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ ﴾ فَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِتَحْرِيمٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : مَا هَذَا الْإِثْمُ ؟
فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِثْمَ مَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ، وَالْمَنْفَعَةُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ.
الثَّانِي : أَنَّ إثْمَهَا كَانُوا إذَا شَرِبُوا سَكِرُوا فَسَبُّوا وَجَرَحُوا وَقَتَلُوا.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا إثْمٌ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَتَمَامُهَا فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾.
فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا رِبْحُ التِّجَارَةِ. وَالثَّانِي : السُّرُورُ وَاللَّذَّةُ. وَالثَّالِثُ : قَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ : مَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةِ الْبَدَنِ ؛ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ الْقَائِمَةِ أَوْ جَلْبِ الصِّحَّةِ الْفَانِيَةِ بِمَا تَفْعَلُهُ مِنْ تَقْوِيَةِ الْمَعِدَةِ وَسَرَيَانِهَا فِي الْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ، وَتَوَصُّلِهَا إلَى الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ الرَّئِيسِيَّةِ، وَتَجْفِيفِ الرُّطُوبَةِ، وَهَضْمِ الْأَطْعِمَةِ الثِّقَالِ وَتَلْطِيفِهَا.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ هِيَ الرِّبْحُ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَهَا مِنْ الشَّامِ بِرُخْصٍ فَيَبِيعُونَهَا فِي الْحِجَازِ بِرِبْحٍ كَثِيرٍ.
وَأَمَّا اللَّذَّةُ فَهِيَ مُضِرَّةٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ ؛ لِأَنَّ مَا تَجْلِبُهُ مِنْ اللَّذَّةِ لَا يَفِي بِمَا تُذْهِبُهُ مِنْ التَّحْصِيلِ وَالْعَقْلِ، حَتَّى إنَّ الْعَبِيدَ الْأَدْنِيَاءَ وَأَهْلَ النَّقْصِ كَانُوا يَتَنَزَّهُونَ عَنْ شُرْبِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ إذْهَابِ شَرِيفِ الْعَقْلِ، وَإِعْدَامُهَا فَائِدَةُ التَّحْصِيلِ وَالتَّمْيِيزِ.
وَأَمَّا مَنْفَعَةُ إصْلَاحِ الْبَدَنِ فَقَدْ بَالَغَ فِيهَا الْأَطِبَّاءُ حَتَّى إنِّي تَكَلَّمَتْ يَوْمًا مَعَ بَعْضِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لِي : لَوْ جُمِعَ سَبْعُونَ عَقَارًا مَا وَفَى بِالْخَمْرِ فِي مَنَافِعِهَا، وَلَا قَامَ فِي إصْلَاحِ الْبَدَنِ مَقَامَهَا.
وَهَذَا مِمَّا لَا نَشْتَغِلُ بِهِ لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الَّذِينَ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ بِهِ التَّدَاوِيَ حَتَّى نَعْتَذِرَ عَنْ ذَلِكَ لَهُمْ.
الثَّانِي : أَنَّ الْبِلَادَ الَّتِي نَزَلَ أَصْلُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فِيهَا كَانَتْ بِلَادَ جُفُوفٍ وَحَرٍّ ؛ وَضَرَرُ الْخَمْرِ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهَا ؛ وَإِنَّمَا يَصْلُحُ الْخَمْرُ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ لِلْأَرْيَافِ وَالْبِطَاحِ وَالْمَوَاضِعِ الرَّطْبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مِنْ طَرِيقِ الْبَدَنِ فَفِيهَا مَضَرَّةٌ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ، وَالْبَارِي تَعَالَى قَدْ حَرَّمَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِهَا فَقَدِّرْهَا كَيْفَ شِئْت، فَإِنَّ خَالِقَهَا وَمَصْرِفَهَا قَدْ حَرَّمَهَا.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ طَارِقِ بْنِ سُوَيْد الْجُعْفِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ وَكَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا. قَالَ :«إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ. قَالَ : لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ ».
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَنْ الْخَمْرِ :«أَتُتَّخَذُ خَلًّا ؟ قَالَ : لَا ». وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ : وَكَيْف يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ مَا لَا غِنَى عَنْهُ وَلَا عِوَضَ مِنْهُ ؟ هَذَا مُنَاقِضٌ لِلْحِكْمَةِ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّا لَا نَقُولُ إنَّهُ لَا غِنَى عَنْهَا وَلَا عِوَضَ مِنْهَا ؛ بَلْ لِلْمَرِيضِ عَنْهَا أَلْفُ غِنًى، وَلِلصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ مِنْهَا عِوَضٌ مِنْ الْخَلِّ وَنَحْوِهِ.
الثَّانِي : أَنْ نَقُولَ : لَوْ كَانَتْ لَا غِنَى عَنْهَا وَلَا عِوَضَ مِنْهَا لَامْتَنَعَ تَحْرِيمُهَا، وَلَا اسْتَحَالَ أَنْ يَمْنَعَ الْبَارِي تَعَالَى الْخَلْقَ مِنْهَا لِثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ لِلْبَارِي تَعَالَى أَنْ يَمْنَعَ الْمَرَافِقَ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، وَأَنْ يُبِيحَهَا، وَقَدْ آلَمَ الْحَيَوَانَ وَأَمْرَضَ الْإِنْسَانَ.
الثَّانِي : أَنَّ التَّطَبُّبَ غَيْرُ وَاجِبٍ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ قَالَ :«يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ، وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ».
الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا صَلَاحُ بَدَنٍ لَكَانَتْ فِيهَا ضَرَاوَةٌ وَذَرِيعَةٌ إلَى فَسَادِ الْعَقْلِ، فَتَقَابَلَ الْأَمْرَانِ، فَغَلَبَ الْمَنْعُ لِمَا لَنَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا لَوْ اُسْتُهْلِكَتْ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَدْوِيَةِ ؛ هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ الطَّعَامِ أَوْ ذَلِكَ الدَّوَاءِ أَمْ لَا ؟ فَأَجَازَهُ ابْنُ شِهَابٍ، وَمَنَعَهُ غَيْرُهُ، وَتَرَدَّدَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«إنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ ».
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى ﴿ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾.
وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِثْمَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ أَكْبَرُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ قَبْلَ ا
الْآيَة التَّاسِعَة وَالْخَمْسُونَ :-على اختلاف التعداد – قوله تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ :﴿ إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا. . . ﴾ الْآيَةَ، تَحَرَّجَ النَّاسُ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ فِي الْأَمْوَالِ وَاعْتَزَلُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾ يَعْنِي قَصْدُ إصْلَاحِ أَمْوَالِهِمْ خَيْرٌ مِنْ اعْتِزَالِهِمْ فَكَانَ إذْنًا فِي ذَلِكَ مَعَ صِحَّةِ الْقَصْدِ فِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْصِدُ رِفْقَ الْيَتِيمِ لَا أَنْ يَقْصِدَ رِفْقَ نَفْسِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْبَحْثِ عَنْ الْيَتِيمِ : هُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُنْفَرِدِ مِنْ أَبِيهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ فِيهَا عَلَى الْمُنْفَرِدِ مِنْ أُمِّهِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لُغَةً، وَعَلَيْهِ وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ، وَلِأَنَّ الَّذِي فَقَدَ أَبَاهُ عَدِمَ النُّصْرَةَ، وَاَلَّذِي فَقَدَ أُمَّهُ عَدِمَ الْحَضَانَةَ، وَقَدْ تَنْصُرُ الْأُمُّ لَكِنَّ نُصْرَةَ الْأَبِ أَكْثَرُ، وَقَدْ يَحْضُنُ الْأَبُ لَكِنَّ الْأُمُّ أَرْفَقُ حَضَانَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا بَلَغَ الْيَتِيمُ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ لُغَةً، وَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ الْيُتْمِ فِي عَدَمِ الِاسْتِبْدَادِ بِالتَّصَرُّفِ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ ؛ وَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ فِي مُخَالَطَةِ الْأَيْتَامِ مَعَ قَصْدِ الْإِصْلَاحِ بِالنَّظَرِ لَهُمْ وَفِيهِمْ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ لِلْأَيْتَامِ كَمَا يُتَصَرَّفُ لِلْأَبْنَاءِ، وَفِي الْأَثَرِ :" مَا كُنْت تُؤَدِّبُ مِنْهُ وَلَدَك فَأَدِّبْ مِنْهُ يَتِيمَك " وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاضِنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ فِي الْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ، وَبِهِ أَقُولُ وَأَحْكُمُ، فَيَنْفُذُ بِنُفُوذِ فِعْلِهِ لَهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا كَفَلَ الرَّجُلُ الْيَتِيمَ وَحَازَهُ وَكَانَ فِي نَظَرِهِ، جَازَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمْهُ وَالٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ، وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ.
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يُؤْثَرْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْخُلَفَاءِ أَنَّهُ قَدَّمَ أَحَدًا عَلَى يَتِيمٍ مَعَ وُجُودِهِمْ فِي أَزْمِنَتِهِمْ ؛ وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى كَوْنِهِمْ عِنْدَهُمْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي اللَّقِيطِ «هُوَ حُرٌّ، لَك وَلَاؤُهُ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ » يَعْنِي بِالْوَلَاءِ الْوِلَايَةَ، لَيْسَ الْمِيرَاثَ، كَمَا تَوَهَّمَهُ قَوْمٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا جَعَلْتُمْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ تَصَرُّفَهُ فِي مَالِ ابْنِهِ بِوِلَايَةِ الْكَفَالَةِ كَمَا قَدَّمْتُمْ بَيَانَهُ إنْ كَانَ بِتَقْدِيمِ وَالٍ عَلَيْهِ، فَهَلْ يُنْكِحُ نَفْسَهُ مِنْ يَتِيمَتِهِ أَوْ يَشْتَرِي مِنْ مَالِ يَتِيمَتِهِ ؟
قُلْنَا : إنَّ مَالِكًا جَعَلَ وِلَايَةَ النِّكَاحِ بِالْكَفَالَةِ وَالْحَضَانَةُ أَقْوَى مِنْهَا بِالْقَرَابَةِ، حَتَّى قَالَ فِي الْأَعْرَابِ الَّذِينَ يُسَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي أَعْوَامِ الْمَجَاعَةِ إلَى الْكَفَلَةِ : إنَّهُمْ يُنْكِحُونَهُمْ إنْكَاحَهُمْ. فَأَمَّا إنْكَاحُ الْكَافِلِ مِنْ نَفْسِهِ فَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الشِّرَاءُ مِنْهُ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَشْتَرِي فِي مَشْهُورِ الْأَقْوَالِ إذَا كَانَ نَظَرًا لَهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِصْلَاحِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَلَا فِي الْبَيْعِ ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. فَأَمَّا مَا نَزَعَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَنْعِ النِّكَاحِ فَلَهُ فِيهَا طُرُقٌ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعِهَا هُنَالِكَ ؛ وَأَمَّا الشِّرَاءُ فَطَرِيقُهُ فِيهَا ضَعِيفٌ جِدًّا إلَّا أَنْ يَدْخُلَ مَعَنَا فِي مُرَاعَاةِ الذَّرَائِعِ وَالتُّهَمِ فَيَنْقُضُ أَصْلَهُ فِي تَرْكِهَا.
فَإِنَّ قِيلَ : فَلِمَ تَرَكَ مَالِكٌ أَصْلَهُ فِي التُّهْمَةِ وَالذَّرَائِعِ، وَجَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ يَتِيمَتِهِ ؟
قُلْنَا : إنَّمَا نَقُولُ يَكُونُ ذَرِيعَةً لِمَا يُؤَدِّي مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ إلَى مَحْظُورٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي صُورَةِ الْمُخَالَطَةِ، وَوَكَّلَ الْحَاضِنِينَ فِي ذَلِكَ إلَى أَمَانَتِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ ﴾، وَكُلُّ أَمْرٍ مَخُوفٍ وَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ الْمُكَلَّفَ إلَى أَمَانَتِهِ لَا يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ يَتَذَرَّعُ إلَى مَحْظُورٍ فَيُمْنَعُ مِنْهُ، كَمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النِّسَاءَ مُؤْتَمَنَاتٍ عَلَى فُرُوجِهِنَّ، مَعَ عِظَمِ مَا يَتَرَكَّبُ عَلَى قَوْلِهِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَنْسَابِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكْذِبْنَ. وَهَذَا فَنٌّ بَدِيعٌ فَتَأْمُلُوهُ وَاِتَّخِذُوهُ دُسْتُورًا فِي الْأَحْكَامِ وَأَمِّلُوهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ بِرَحْمَتِهِ.
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ سِتِّينَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَاَللَّهُ يَدْعُو إلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ بِنِكَاحٍ عَلَى مُشْرِكَةٍ كَانَتْ كِتَابِيَّةً أَوْ غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ ؛ قَالَهُ عُمَرُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إذَا كَانَتْ أَمَةً.
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَطْءُ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ مِنْ الْمَجُوسِ وَالْعَرَبِ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾.
قَالَ الْقَاضِي : وَدَرَسَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ الْحَسَنِ الشَّاشِيُّ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، قَالَ : احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ﴾ ؛ وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَايَرَ بَيْنَ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْمُشْرِكَةِ، فَلَوْلَا أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ الْمُشْرِكَةِ جَائِزٌ لَمَا خَايَرَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمُخَايَرَةَ إنَّمَا هِيَ بَيْنَ الْجَائِزَيْنِ، لَا بَيْنَ الْجَائِزِ وَالْمُمْتَنَعِ، وَلَا بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّك لَا تَقُولُ : الْعَسَلُ أَحْلَى مِنْ الْخَلِّ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تَجُوزُ الْمُخَايَرَةُ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ لُغَةً وَقُرْآنًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾. وَلَا خَيْرَ عِنْدَ أَهْلِ النَّارِ.
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَبِي مُوسَى :«الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ ».
الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ :﴿ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ ﴾، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْعَبْدِ الْمُشْرِكِ لِلْمُؤْمِنَةِ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ لِلْمُشْرِكَةِ ؛ إذْ لَوْ دَلَّ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ عَلَى الْمُرَادِ لَدَلَّ الْآخَرُ عَلَى مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا سِيقَتَا فِي الْبَيَانِ مَسَاقًا وَاحِدًا.
الثَّالِثُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَأَمَةٌ ﴾ لَمْ يُرِدْ بِهِ الرَّقِيقَ الْمَمْلُوكَ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ : الْآدَمِيَّةُ وَالْآدَمِيَّاتُ، وَالْآدَمِيُّونَ بِأَجْمَعِهِمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَإِمَاؤُهُ ؛ قَالَهُ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيُّ رحمَهُ الله.
( التَّنْقِيحُ ) : كُلُّ كَافِرٍ بِالْحَقِيقَةِ مُشْرِكٌ ؛ وَلِذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَرِهَ نِكَاحَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة، وَقَالَ : أَيُّ شِرْكٍ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَقُولُ : عِيسَى هُوَ اللَّهُ أَوْ وَلَدُهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِنْ حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ عَامٌّ خَصَّصَتْهُ آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ وَلَمْ تَنْسَخْهُ ؛ وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعُرْفِ فَالْعُرْفُ إنَّمَا يَنْطَلِقُ فِيهِ لَفْظُ الْمُشْرِكِ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ كِتَابٌ مِنْ الْمَجُوسِ وَالْوَثَنِيِّينَ مِنْ الْعَرَبِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾. وَقَالَ :﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ ﴾. فَلَفْظُ الْكُفْرِ يَجْمَعُهُمْ، وَيَخُصُّهُمْ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ.
فَإِنْ قِيلَ : إنْ كَانَ اللَّفْظُ خَاصًّا كَمَا قُلْتُمْ فَالْعِلَّةُ تَجْمَعُهُمْ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى :﴿ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ ﴾ ؛ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْكِتَابِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ.
قُلْنَا : لَا نَمْنَعُ فِي الشَّرْعِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ عَامَّةً وَالْحُكْمُ خَاصًّا أَوْ أَزَيْدُ مِنْ الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ فِي الشَّرْعِ وَأَمَارَاتٌ، وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَاتٍ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى :﴿ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ ﴾ يَرْجِعُ إلَى الرِّجَالِ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ ﴾ لَا إلَى النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ لَوْ تَزَوَّجَتْ كَافِرًا حُكِمَ عَلَيْهَا حُكْمُ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَتَمَكَّنَ مِنْهَا وَدَعَاهَا إلَى الْكُفْرِ، وَلَا حُكْمَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ ؛ فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾ : قَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَاهُ وَإِنْ أَعْجَبَكُمْ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ عِلْمُهُ بِأَنْ " لَوْ " تَفْتَقِرُ إلَى جَوَابٍ، وَنَسِيَ أَنَّ " إنْ " أَيْضًا تَفْتَقِرُ إلَى جَزَاءٍ.
وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ : لَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ ابْتِدَاءً وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ حُسْنُهُنَّ، كَمَا تَقُولُ، لَا تُكَلِّمَ زَيْدًا وَإِنْ أَعْجَبَك مَنْطِقُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ : النِّكَاحُ بِوَلِيٍّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ ثُمَّ قَرَأَ : وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ بِضَمِّ التَّاءِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ وَدَلَالَةٌ صَحِيحَةٌ.
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾.
فِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : سَبَبُ السُّؤَالِ : وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ :«كَانَتْ الْيَهُودُ إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُشَارِبُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبُيُوتِ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ﴾.
فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤَاكِلُوهُنَّ وَيُشَارِبُوهُنَّ، وَأَنْ يَكُونُوا فِي الْبَيْتِ مَعَهُنَّ، وَأَنْ يَفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ مَا خَلَا النِّكَاحَ.
فَقَالَتْ الْيَهُودُ : مَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إلَّا خَالَفَنَا فِيهِ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، فَقَالَا :«يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَلَا نُخَالِفُ الْيَهُودَ فَنَطَأُ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا. قَالَ : فَقَامَا فَخَرَجَا عَنْهُ فَاسْتَقْبَلَتْهُمَا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا، فَعَلِمَا أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا ». وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : كَانَ غَضَبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ؛ إمَّا كَرَاهِيَةٌ مِنْ كَثْرَةِ الْأَسْئِلَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ :«ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ». وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَرِهَ الْأَطْمَاعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالرَّذَائِلِ، وَإِنْ كَانَتْ مُقْتَرِنَةً بِاللَّذَّاتِ ؛ وَالْوَطْءُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ رَذِيلَةٌ يَسْتَدْعِي عُزُوفَ النَّفْسِ وَعُلُوُّ الْهِمَّةِ الِانكِفَافَ عَنْهُ لَوْ كَانَ مُبَاحًا، كَيْفَ وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ لَاسِيَّمَا مِمَّنْ تَحَقَّقَ فِي الدِّينِ عِلْمُهُ، وَثَبَتَ فِي الْمُرُوءَةِ قَدَمُهُ كَأُسَيْدٍ وَعَبَّادٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ :«كَانُوا يَأْتُونَ النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ فِي الْمَحِيضِ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ ». وَهَذَا ضَعِيفٌ يَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَفْسِيرِ الْمَحِيضِ وَهُوَ مَفْعِلُ، مِنْ حَاضَ يَحِيضُ إذَا سَالَ حَيْضًا، تَقُولُ الْعَرَبُ : حَاضَتْ الشَّجَرَةُ وَالسُّمْرَةُ : إذَا سَالَتْ رُطُوبَتُهَا، وَحَاضَ السَّيْلُ : إذَا سَالَ قَالَ الشَّاعِرُ :
أَجَالَتْ حَصَاهُنَّ الذَّوَارِي وَحَيَّضَتْ عَلَيْهِنَّ حَيْضَاتُ السُّيُولِ الطَّوَاحِمِ
وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الدَّمِ الَّذِي يُرْخِيهِ الرَّحِمُ فَيَفِيضُ، وَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَسْمَاءٍ :
الْأَوَّلُ : حَائِضٌ. الثَّانِي : عَارِكٌ. الثَّالِثُ : فَارِكٌ. الرَّابِعُ : طَامِسٌ. الْخَامِسُ : دَارِسٌ. السَّادِسُ : كَابِرٌ. السَّابِعُ : ضَاحِكٌ. الثَّامِنُ : طَامِثٌ.
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ فَضَحِكَتْ ﴾ يَعْنِي حَاضَتْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ :
* وَيَهْجُرُهَا يَوْمًا إذَا هِيَ ضَاحِكٌ *
وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ :﴿ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ﴾ يَعْنِي حِضْنَ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ : يَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى أَطْهَارِهِنَّ وَلَا يَأْتِي النِّسَاءَ إذَا أَكْبَرْنَ إكْبَارًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْمَحِيضُ، مَفْعَلُ، مَنْ حَاضَ، فَعَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَوْنُ عِبَارَةٌ عَنْ الزَّمَانِ أَمْ عَنْ الْمَكَانِ أَمْ عَنْ الْمَصْدَرِ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ ؟
وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانِ الْحَيْضِ وَعَنْ مَكَانِهِ، وَعَنْ الْحَيْضِ نَفْسِهِ.
وَتَحْقِيقُهُ عِنْدَ مَشْيَخَةِ الصَّنْعَةِ قَالُوا : إنَّ الِاسْمَ الْمَبْنِيَّ مِنْ فَعَلَ يَفْعِلُ لِلْمَوْضِعِ مَفْعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ كَالْمَبِيتِ وَالْمَقِيلِ، وَالِاسْمُ الْمَبْنِيُّ مِنْهُ عَلَى مَفْعَلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَصْدَرِ كَالْمَضْرَبِ، تَقُولُ : إنَّ فِي أَلْفِ دِرْهَمٍ لَمَضْرَبًا، أَيْ ضَرْبًا، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾ ؛ أَيْ عَيْشًا. وَقَدْ يَأْتِي الْمَفْعِلُ - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - لِلزَّمَانِ، كَقَوْلِنَا : مَضْرِبُ النَّاقَةِ ؛ أَيْ زَمَانُ ضِرَابِهَا.
وَقَدْ يُبْنَى الْمَصْدَرُ أَيْضًا عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الْأَصْلَ مَا تَقَدَّمَ. وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ أَيْ رُجُوعُكُمْ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ ﴾، أَيْ عَنْ الْحَيْضِ.
وَإِذَا عَلِمْت هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ، فَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ كُلَّ ( ف ع ل ) لَا بُدَّ لِكُلِّ مُتَعَلِّقٍ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ مِنْ بِنَاءٍ يَخْتَصُّ بِهِ قَصْدًا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَعَانِي بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَا، وَهِيَ سَبْعَةٌ : الْفَاعِلُ، وَالْمَفْعُولُ، وَالزَّمَانُ، وَالْمَكَانُ، وَأَحْوَالُ الْفِعْلِ الثَّلَاثَةِ مِنْ مَاضٍ، وَمُسْتَقْبَلٍ، وَحَالٍ، وَيَتَدَاخَلَانِ، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ إلَى عَشَرَةٍ وَإِلَى أَكْثَرَ مِنْهَا بِحَسَبِ تَزَايُدِ الْمُتَعَلِّقَاتِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَبْنِيَةِ يَتَمَيَّزُ بِخصيصتِهِ اللَّفْظِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ تُمَيِّزُهُ بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ يَتَمَيَّزُ بِبِنَائِهِ فِي حَرَكَاتِهِ وَتَرَدُّدَاتِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَتَرَدُّدَاتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ، كَقَوْلِك : مَعَهُ، وَلَهُ، وَبِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. فَإِذَا وَضَعَ الْعَرَبِيُّ أَحَدَهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ جَازَ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعَارَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِلْمُنْصِفِ اسْتَقْصَيْنَاهُ مِنْ كِتَابِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " ؛ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَقُلْت مَعْنَى قَوْله تَعَالَى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ ﴾ زَمَانِ الْحَيْضِ صَحَّ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ مَجَازًا عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السَّبَبُ الَّذِي كَانَ السُّؤَالُ بِسَبَبِهِ، تَقْدِيرُهُ : وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْوَطْءِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ.
وَإِنْ قُلْت : إنَّ مَعْنَاهُ مَوْضِعُ الْحَيْضِ كَانَ مَجَازًا فِي مَجَازٍ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفَيْنِ تَقْدِيرُهُ :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ ﴾ أَيْ : عَنْ الْوَطْءِ فِي مَوْضِعِ الْحَيْضِ حَالَةَ الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ اسْمِ الْمَوْضِعِ يَبْقَى عَلَيْهِ وَإِنْ زَالَ الَّذِي لِأَجْلِهِ سُمِّيَ بِهِ ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ تَحْقِيقٍ فِي هَذَا الِاحْتِمَالِ، لِظُهُورِ الْمَجَازِ فِيهِ.
وَإِنْ قُلْت مَعْنَاهُ : وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْحَيْضِ، كَانَ مَجَازًا عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ وَاحِدٍ، تَقْدِيرُهُ : وَيَسْأَلُونَك عَنْ مَنْعِ الْحَيْضِ ؛ وَهَذَا كُلُّهُ مُتَصَوَّرٌ مُتَقَرِّرٌ عَلَى رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وَثَابِتِ بْنِ الدَّحْدَاح، وَحَدِيثُ أَنَسٍ مُتَقَدِّرٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا تَقْدِيرًا صَحِيحًا ؛ فَيَتَبَيَّنُ عِنْدَ التَّنْزِيلِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى بَسْطِهِ بِتَطْوِيلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي اعْتِبَارِهِ شَرْعًا الدِّمَاءُ الَّتِي تُرْخِيهَا الرَّحِمُ دَمُ عَادَةٍ، وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَدَمُ عِلَّةٍ يُعْتَبَرُ غَالِبًا عِنْدَ عُلَمَائِنَا، وَفِيهِ خِلَافٌ ؛ وَكِلَاهُمَا مَعْرُوفٌ ؛ وَالْأَرْحَامُ الَّتِي تُرْخِيهَا ثِنْتَانِ : حَامِلٌ، وَحَائِلٌ وَالْحَائِلُ تَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةٍ : مُبْتَدَأَةٌ، وَمُعْتَادَةٌ، وَمُخْتَلِطَةٌ، وَمُسْتَحَاضَةٌ، ثُمَّ تَتَفَرَّعُ بِالْأَحْوَالِ وَالزَّمَانِ إلَى ثَلَاثِينَ قِسْمًا، بَيَانُهَا فِي كتبِ الْمَسَائِلِ، وَلِكُلِّ حَالٍ مِنْهَا حُكْمٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قُلْ هُوَ أَذًى ﴾.
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَذِرٌ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ.
الثَّانِي : دَمٌ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّالِث : نَجِسٌ.
الرَّابِعُ : مَكْرُوهٌ يُتَأَذَّى بِرِيحِهِ وَضَرَرِهِ أَوْ نَجَاسَتِهِ.
وَالصَّحِيحُ هَذَا الرَّابِعُ، بِدَلِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَعُمُّهَا. الثَّانِي : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ ﴾.
وَيَصِحُّ رُجُوعُهُ إلَى الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَتَقْدِيرُهُ : يَسْأَلُونَك عَنْ مَوْضِعِ الْحَيْضِ، قُلْ : هُوَ أَذًى ؛ فَيَكُونُ رُجُوعُهُ إلَى حَقِيقَةِ الْمَحِيضِ مَجَازًا، وَيَكُونُ رُجُوعُهُ إلَى مَجَازِهِ حَقِيقَةً، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ التَّقْدِيرِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي دَمِ الْحَيْضِ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ، رَوَاهُ أَبُو ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ سِيرِينَ عَنْ مَالِكٍ، وَجْهُ الْأَوَّلِ عُمُومٌ قَوْله تَعَالَى :﴿ أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ﴾، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ دُونَ الْقَلِيلِ.
وَوَجْهُ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى :﴿ قُلْ هُوَ أَذًى ﴾ وَهَذَا يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْعُ
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ :
قَالَ جَابِرٌ :«كَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ : مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ »، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ.
الثَّانِيَةُ : قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ﴾ قَالَ :«يَأْتِيهَا مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً إذَا كَانَتْ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. الثَّالِثَةُ : رَوَى التِّرْمِذِيُّ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ :«هَلَكْت. قَالَ : وَمَا أَهْلَكَك ؟ قَالَ : حَوَّلْتُ رَحْلِي الْبَارِحَةَ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ :﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ﴾ : فَقَالَ : أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ، وَاتَّقِ الدُّبُرَ ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا ؛ فَجَوَّزَهُ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ ابْنُ شَعْبَانَ فِي كِتَابِ " جِمَاعُ النِّسْوَانِ وَأَحْكَامُ الْقُرْآنِ " وَأَسْنَدَ جَوَازَهُ إلَى زُمْرَةٍ كَرِيمَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَإِلَى مَالِكٍ مِنْ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ :«كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ، فَأَخَذْت عَلَيْهِ يَوْمًا فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ حَتَّى انْتَهَى إلَى مَكَانٍ قَالَ : أَتَدْرِي فِيمَ نَزَلَتْ ؟ قُلْت : لَا. قَالَ : أُنْزِلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ مَضَى، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِحَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ :﴿ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾. قَالَ : يَأْتِيهَا فِي. . وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ شَيْئًا.
وَيُرْوَى عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ :«وَهَلَ الْعَبْدُ فِيمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ النَّسَائِيّ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ أَنَّهُ قَالَ لِنَافِعِ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ :«قَدْ أُكْثِرُ عَلَيْك الْقَوْلَ، إنَّك تَقُولُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ إنَّهُ أَفْتَى بِأَنْ يَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ. قَالَ نَافِعٌ : لَقَدْ كَذَبُوا عَلَيَّ، وَلَكِنْ سَأُخْبِرُك كَيْف كَانَ الْأَمْرُ ؛ إنَّ ابْنَ عُمَرَ عَرَضَ الْمُصْحَفَ يَوْمًا وَأَنَا عِنْدَهُ حَتَّى بَلَغَ ﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾. قَالَ : يَا نَافِعُ، هَلْ تَعْلَمُ مَا أَمْرُ هَذِهِ الْآيَةِ ؟ قُلْت : لَا. قَالَ لَنَا : كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَجِيءُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ وَنَكَحْنَا نِسَاءَ الْأَنْصَارِ أَرَدْنَا مِنْهُنَّ مَا كُنَّا نُرِيدُ مِنْ نِسَائِنَا وَإِذَا هُنَّ قَدْ كَرِهْنَ ذَلِكَ وَأَعْظَمْنَهُ، وَكَانَتْ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ إنَّمَا يُؤْتَيْنَ عَلَى جُنُوبِهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾.
قَالَ الْقَاضِي : وَسَأَلْت الْإِمَامَ الْقَاضِيَ الطُّوسِيَّ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ : لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْفَرْجَ حَالَ الْحَيْضِ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ الْعَارِضَةِ، فَأَوْلَى أَنْ يُحَرِّمَ الدُّبُرَ بِالنَّجَاسَةِ اللَّازِمَةِ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي شَرْحِ الْعُرْضَةِ :
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَن ( ع ر ض ) فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَتَصَرَّفُ عَلَى مَعَانٍ، مَرْجِعُهَا إلَى الْمَنْعِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ اعْتَرَضَ فَقَدْ مَنَعَ، وَيُقَالُ لِمَا عَرَضَ فِي السَّمَاءِ مِنْ السَّحَابِ عَارِضٌ ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ رُؤْيَتِهَا، وَمِنْ رُؤْيَةِ الْبَدْرَيْنِ وَالْكَوَاكِبِ. وَقَدْ يُقَالُ هَذَا عُرْضَةٌ لَك ؛ أَيْ عُدَّةٌ تَبْتَذِلُهُ فِي كُلِّ مَا يَعِنُّ لَك. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ :«فهدى لِأَيَّامِ الْحُرُوبِ، وَهَذِهِ لِلْهَوَى، وَهَذِهِ عُرْضَةٌ لِارْتِحَالِنَا ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمَعْنَى، قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ :
الْأَوَّلُ : لَا تَجْعَلُوا الْحلفَ بِاَللَّهِ عِلَّةً يَعْتَلُّ بِهَا الْحَالِفُ فِي بِرٍّ أَوْ حِنْثٍ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يُعْطِيَ عَنْهَا كَفَّارَةً ». قَالَ ذَلِكَ قَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَطَاوُس.
الثَّانِي : لَا يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ خَيْرٍ بِأَنْ يَقُولَ : عَلَيَّ يَمِينٌ أَنْ لَا يَكُونَ.
الثَّالِثُ : لَا تُكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ عُرْضٍ يَعْرِضُ ؛ قَالَ تَعَالَى :﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ﴾، فَذَمَّ كَثْرَةَ الْحلف.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَنْ تَبَرُّوا ﴾.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا تَجْعَلُوا الْيَمِينَ مَانِعًا مِنْ الْبِرِّ، وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ :«لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَةً عَنْهَا ».
وَتَحْقِيقُ الْمَعْنَى أَنَّهُ إنْ حَلَفَ أَوَّلًا كَانَ الْمَعْنَى أَنْ تَبَرُّوا بِالْيَمِينِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ كَانَ الْمَعْنَى أَنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا، وَيَدْخُلُ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَيَجْتَمِعَانِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ يَأْتِي فِي سُورَةِ النُّورِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ﴾ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ».
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنْ تَبَرُّوا، أَيْ إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ عَنْ كَثْرَةِ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اللَّغْوُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَخْصُوصٌ بِكُلِّ كَلَامٍ لَا يُفِيدُ، وَقَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا لَا يَضُرُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ : وَفِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَقَوْلِهِ : لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ، وَالشَّافِعِيُّ.
الثَّانِي : مَا يَحْلِفُ فِيهِ عَلَى الظَّنِّ، فَيَكُونُ بِخِلَافِهِ، قَالَهُ مَالِكٌ. الثَّالِثُ : يَمِينُ الْغَضَبِ. الرَّابِعُ : يَمِينُ الْمَعْصِيَةِ. الْخَامِسُ : دُعَاءُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ : إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَيَلْحَقُ بِي كَذَا وَنَحْوُهُ. وَالسَّادِسُ : الْيَمِينُ الْمُكَفِّرُ. السَّابِعُ : يَمِينُ النَّاسِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَنْقِيحِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ :
اعْلَمُوا أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ السَّبْعَةِ الْأَقْوَالِ لَا تَخْلُو مِنْ قِسْمَيْ اللَّغْوِ اللَّذَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِهَا مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِبَعْضِهَا، وَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ وَأَخْبَارٌ وَآثَارٌ لَوْ تَتَبَّعْنَاهَا لَخَرَجْنَا عَنْ مَقْصُودِ الِاخْتِصَارِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ الْإِكْثَارِ، وَاَلَّذِي يَقْطَعُ بِهِ اللَّبِيبُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرِ الْآيَةِ : لَا يُؤَاخِذُكُم اللَّهُ بِمَا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ عَلَيْكُمْ، إذْ قَدْ قَصَدَ هُوَ الْإِضْرَارَ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْقَصْدِ، وَهُوَ كَسْبُ الْقَلْبِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّغْوَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَخَرَجَ مِنْ اللَّفْظِ يَمِينُ الْغَضَبِ وَيَمِينُ الْمَعْصِيَةِ، وَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ كَسَبَهُ الْقَلْبُ، فَهُوَ الْمُؤَاخَذُ بِهِ، وَقِسْمٌ لَا يَكْسِبُهُ الْقَلْبُ، فَهُوَ الَّذِي لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَخَرَجَ مِنْ قِسْمِ الْكَسْبِ يَمِينُ الْحَالِفِ نَاسِيًا، فَأَمَّا الْحَانِثُ نَاسِيًا فَهُوَ بَابٌ آخَرَ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، كَمَا خَرَجَ مِنْ قِسْمِ الْكَسْبِ أَيْضًا الْيَمِينُ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ، فَخَرَجَ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَمْ يَقْصِدْهُ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ طَوِيلٌ بَيَانُهُ فِي الْمَسَائِلِ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
وَهِيَ آيَةٌ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ جِدًّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ كَبِيرٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَدَقَّتْ مَدَارِكُهَا حَسْبَمَا تَرَوْنَهَا مِنْ جُمْلَتِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ :«كَانَ إيلَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَوَفَّتْ لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ » ؛ فَمَنْ آلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ حُكْمِيٍّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْإِيلَاءُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ الْحَلِفُ، وَالْفَيْءُ هُوَ الرُّجُوعُ، وَالْعَزْمُ هُوَ تَجْرِيدُ الْقَلْبِ عَنْ الْخَوَاطِرِ الْمُتَعَارِضَةِ فِيهِ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : نَظْمُ الْآيَةِ : لِلَّذِينَ يَعْتَزِلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ بِالْأَلِيَّةِ، فَكَانَ مِنْ عَظِيمِ الْفَصَاحَةِ أَنْ اُخْتُصِرَ، وَحُمِّلَ آلَى مَعْنَى اعْتَزَلَ النِّسَاءَ بِالْأَلِيَّةِ حَتَّى سَاغَ لُغَةَ أَنْ يَتَّصِلَ آلَى بِقَوْلِك مِنْ، وَنَظْمُهُ فِي الْإِطْلَاقِ أَنْ يَتَّصِلَ بِآلَى قَوْلُك عَلَى، تَقُولُ الْعَرَبُ : اعْتَزَلْت مِنْ كَذَا وَعَنْ كَذَا، وَآلَيْت وَحَلَفَتْ عَلَى كَذَا، وَكَذَلِكَ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ تَحْمِلَ مَعَانِيَ الْأَفْعَالِ عَلَى الْأَفْعَالِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِارْتِبَاطِ وَالِاتِّصَالِ، وَجَهِلَتْ النَّحْوِيَّةُ هَذَا فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ : إنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يُبْدَلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَيَحْمِلُ بَعْضُهَا مَعَانِيَ الْبَعْضِ، فَخَفِيَ عَلَيْهِمْ وَضْعُ فِعْلٍ مَكَانَ فِعْلٍ، وَهُوَ أَوْسَعُ وَأَقْيَسُ، وَلَجُّوا بِجَهْلِهِمْ إلَى الْحُرُوفِ الَّتِي يَضِيقُ فِيهَا نِطَاقُ الْكَلَامِ وَالِاحْتِمَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِيمَا يَقَعُ بِهِ الْإِيلَاءُ :
قَالَ قَوْمٌ : لَا يَقَعُ الْإِيلَاءُ إلَّا بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ، وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.
الثَّانِي : أَنَّ الْإِيلَاءَ يَقَعُ بِكُلِّ يَمِينٍ عَقَدَ الْحَالِفُ بِهَا قَوْلَهُ، وَذَلِكَ بِالْتِزَامِ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بَنَوْهُ عَلَى الْحَدِيثِ :«مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ » وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا جَاءَ لِبَيَانِ الْأَوْلَى، لَا لِإِسْقَاطِ سِوَاهُ مِنْ الْأَيْمَانِ ؛ بَلْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ نَصِّ كَلَامِنَا مَا يُوجِبُ أَنَّهَا كُلَّهَا أَيْمَانٌ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ :«مَنْ كَانَ حَالِفًا ». ثُمَّ إذَا كَانَ حَالِفًا وَجَبَ أَنْ تَنْعَقِدَ يَمِينُهُ.
وَأَمَّا أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي، وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَيَقُولُونَ : كُلُّ يَمِينٍ أَلْزَمَهَا نَفْسَهُ مِمَّا لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ لَازِمَةً لَهُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ، فَهُوَ بِهَا مُولٍ ؛ لِأَنَّهُ حَالِفٌ، وَذَلِكَ لَازِمٌ صَحِيحٌ شَرِيعَةً وَلُغَةً.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِيمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِيلَاءُ وَذَلِكَ هُوَ تَرْكُ الْوَطْءِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالِ الرِّضَا أَوْ الْغَضَبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ وَالشَّعْبِيُّ : لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ الْغَضَبِ ؛ وَالْقُرْآنُ عَامٌّ فِي كُلِّ حَالٍ، فَتَخْصِيصُهُ دُونَ دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ.
وَهَذَا الْخِلَافُ انْبَنَى عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ مَفْهُومَ الْآيَةِ قَصْدُ الْمُضَارَّةِ بِالزَّوْجَةِ وَإِسْقَاطُ حَقِّهَا مِنْ الْوَطْءِ، فَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْوَطْءِ قَصْدًا لِلْإِضْرَارِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ : مَرَضٍ أَوْ رَضَاعٍ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُولِي، وَتَرْفَعُهُ إلَى الْحَاكِمِ إنْ شَاءَتْ، وَيُضْرَبُ لَهُ الْأَجَلُ مِنْ يَوْمِ رَفْعِهِ، لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِيلَاءِ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْإِيلَاءَ لَمْ يَرِدْ لَعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ لِمَعْنَاهُ ؛ وَهُوَ الْمُضَارَّةُ وَتَرْكُ الْوَطْءِ، حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ : لَوْ حَلَفَ أَلَّا يَقْرَبَهَا لِأَجَلِ الرَّضَاعِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، لِأَنَّهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ لَا إضْرَارَ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إذَا حَلَفَ عَلَى مَنْعِ الْكَلَامِ أَوْ الْإِنْفَاقِ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُولٍ ؛ لِوُجُودِ الْمَعْنَى السَّابِقِ بَيَانُهُ مِنْ الْمُضَارَّةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ أَلَّا يَطَأهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يَكُونُ مُولِيًا. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ : لَيْسَ بِمُولٍ. وَهَذَا الْخِلَافُ يَنُبْنِي عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ فَائِدَةِ الِاسْتِثْنَاءِ ؛ فَرَأَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَحِلُّ الْيَمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ مِنْ الْكَفَّارَةِ، وَرَأَى ابْنُ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ يَحِلُّهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ عَازِمٍ عَلَى الْفِعْلِ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ قَالَ مَالِكٌ : إنَّهُ إذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ :«إنْ شَاءَ اللَّهُ » مَعْنَى قَوْلِهِ :﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ وَمَوْرِدُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا ثُنْيَا لَهُ، لِأَنَّ الْحَالَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ وَقَصَدَ بِهَذَا الْقَوْلِ حَلَّ الْيَمِينِ فَإِنَّهَا تَنْحَلُّ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ :
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَ الْأَكْثَرُ : الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ فُسْحَةٌ لِلزَّوْجِ، لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهَا وَلَا كَلَامَ مَعَهُ لَأَجَلِهَا ؛ فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، وَيُوَقَّتُ لَهُ الْأَمَدُ، وَتُعْتَبَرُ حَالُهُ عِنْدَ انْقِضَائِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ : يَمِينُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مُوجِبٌ الْحُكْمَ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا لِمَنْ آلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ تَقْدِيرَاتٍ :
الْأَوَّلُ : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ؛ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
الثَّانِي : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرِ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
الثَّالِثُ : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
فَالثَّالِثُ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَالْأَوَّلُ مُرَادٌ قَطْعًا، وَالثَّانِي مُحْتَمِلٌ لِلْمُرَادِ احْتِمَالًا بَعِيدًا ؛ وَالْأَصْلُ عَدَمِ الْحُكْمِ فِيهِ ؛ فَلَا يُقْضَى بِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَقُول : حَلَفْت عَلَى مُدَّةٍ هِيَ لِي، فَلَا كَلَامَ مَعِي، وَلَيْسَ عَنْ هَذَا جَوَابٌ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِنْ فَاءُوا ﴾.
وَالْمَعْنَى : إنْ رَجَعُوا، وَالرُّجُوعُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مَرْجُوعٍ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ تَقَدَّمَ مِنْهُ يَمِينٌ وَاعْتِقَادٌ ؛ فَأَمَّا الْيَمِينُ فَيَكُونُ الرُّجُوعُ عَنْهَا بِالْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهَا تَحِلُّهَا، وَأَمَّا الِاعْتِقَادُ فَيَكُونُ الرُّجُوعُ عَنْهُ بِالْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ مُسْتَتِرٌ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِمَا يُكْشَفُ عَنْهُ مِنْ فِعْلٍ يَتَبَيَّنُ بِهِ ؛ كَحِلِّ الْيَمِينِ بِالْكَفَّارَةِ أَوْ إتْيَانِ مَا امْتَنَعَ مِنْهُ ؛ فَأَمَّا مُجَرَّدُ قَوْلِهِ : رَجَعْت فَلَا يُعَدُّ فَيْئًا ؛ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا التَّحْقِيقُ فَلَا مَعْنَى بَعْدَهُ لِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ وَأَبِي قِلَابَةَ : إنَّ الْفَيْءَ قَوْلُهُ رَجَعْت. أَمَّا أَنَّهُ تَبْقَى هُنَا نُكْتَةٌ وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ فَيَقُولُ : وَاَللَّهِ لَقَدْ رَجَعْت فَهَلْ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ الَّتِي قَبْلَهَا أَمْ لَا ؟
قُلْنَا : لَا يَكُونُ فَيْئًا، لِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ تُوجِبُ كَفَّارَةً أُخْرَى فِي الذِّمَّةِ، وَتَجْتَمِعُ مَعَ الْيَمِينِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُرْفَعُ الشَّيْءُ إلَّا بِمَا يُضَادُّهُ. وَهَذَا تَحْقِيقٌ بَالِغٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إذَا كَانَ ذَا عُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ مَغِيبٍ فَقَوْلُهُ : رَجَعْت فَيْءٌ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ.
وَقَالَ مَالِكٌ : يُقَالُ لَهُ كَفِّرْ أَوْ أَوْقِعْ مَا حَلَفْت عَلَيْهِ ؛ فَإِنْ فَعَلَ، وَإِلَّا طَلُقَتْ عَلَيْهِ.
وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ قَوْلُهُ : رَجَعْت، ثُمَّ إذَا أَمْكَنَهُ الْوَطْءُ، فَلَمْ يَطَأْ طُلِّقَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَفَّرَ ثُمَّ أَمْكَنَهُ الْوَطْءُ لِزَوَالِ الْعُذْرِ لَمْ تَطْلُقْ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُسْتَأْنَفُ لَهُ الْمُدَّةُ إذَا انْقَضَتْ، وَهُوَ مَغِيبٌ أَوْ مَرِيضٌ ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ.
قُلْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ : لَا تُسْتَأْنَفُ لَهُ مُدَّةٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعُذْرَ لَا يَمْنَعُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ؛ فَإِنْ كَانَ فِعْلًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِالْخُرُوجِ فَيَفْعَلُهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ " الْمَسَائِلِ " مُسْتَوْفَاةَ الْحُجَجِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا تَرَكَ الْوَطْءَ مُضَارًّا بِغَيْرِ يَمِينٍ فَلَا تَظْهَرُ فَيْئَتُهُ عِنْدَنَا إلَّا بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ اعْتِقَادَ ا
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.
هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَشْكَلِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْأَحْكَامِ، تَرَدَّدَ فِيهَا عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ، وَاخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَبَيَّنَ طَرِيقَهَا وَأَوْضَحَ تَحْقِيقَهَا، وَلَكِنَّهُ وَكَّلَ دَرْكَ الْبَيَانِ إلَى اجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ لِيَظْهَرَ فَضْلُ الْمَعْرِفَةِ فِي الدَّرَجَاتِ الْمَوْعُودِ بِالرَّفْعِ فِيهَا ؛ وَقَدْ أَطَالَ الْخَلْقُ فِيهَا النَّفْسَ، فَمَا اسْتَضَاءُوا بِقَبَسٍ، وَلَا حَلُّوا عُقْدَةَ الْجَلْسِ ؛ وَالضَّابِطُ لِأَطْرَافِهَا يَنْحَصِرُ فِي إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : يَنْظِمُهَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ :
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : كَلِمَةُ الْقُرْءِ كَلِمَةٌ مُحْتَمِلَةٌ لِلطُّهْرِ وَالْحَيْضِ احْتِمَالًا وَاحِدًا، وَبِهِ تَشَاغَلَ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنْ فُقَهَاءٍ وَلُغَوِيِّينَ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ؛ وَأُوصِيكُمْ أَلَّا تَشْتَغِلُوا الْآنَ بِذَلِكَ لِوُجُوهٍ ؛ أَقْرَبُهَا أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ الْوَقْتُ، يَكْفِيك هَذَا فَيْصَلًا بَيْنَ الْمُتَشَعِّبِينَ وَحَسْمًا لِدَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ ؛ فَإِذَا أَرَحْت نَفْسَك مِنْ هَذَا وَقُلْت : الْمَعْنَى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ، صَارَتْ الْآيَةُ مُفَسَّرَةً فِي الْعَدَدِ مُحْتَمِلَةٌ فِي الْمَعْدُودِ، فَوَجَبَ طَلَبُ بَيَانِ الْمَعْدُودِ مِنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ اخْتَلَفْنَا فِيهَا ؛ وَلَنَا أَدِلَّةٌ وَلَهُمْ أَدِلَّةٌ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي تَلْخِيصِ الطَّرِيقَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ، وَخَلَصْنَا بِالسَّبْكِ مِنْهَا فِي تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ مَا يُغْنِي عَنْ جَمْعِهِ اللَّبِيبَ ؛ وَأَقْرَبُهَا الْآنَ إلَى الْغَرَضِ أَنْ تُعْرِضَ عَنْ الْمَعَانِي لِأَنَّهَا بِحَارٌ تَتَقَامَسُ أَمْوَاجُهَا، وَتُقْبِلُ عَلَى الْأَخْبَارِ، فَإِنَّهَا أَوَّلٌ وَأَوْلَى، وَلَهُمْ خَبَرٌ وَلَنَا خَبَرٌ.
فَأَمَّا خَبَرُهُمْ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ :«لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ ». وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْحُرَّةِ فِي اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْأَمَةِ بِعَيْنِهِ ؛ فَنَصَّ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ الْحَيْضُ، وَبِهِ يَقَعُ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْوَاحِدِ فِي الْأَمَةِ، فَكَذَلِكَ فَلْيَكُنْ بِالثَّلَاثَةِ فِي الْحُرَّةِ.
وَأَمَّا خَبَرُنَا فَالصَّحِيحُ الثَّابِتُ فِي كُلِّ أَمْرٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ وَتَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْعِدَّةِ طُهْرٌ فَمَجْمُوعُهَا أَطْهَارٌ.
وَالتَّنْقِيحُ وَالتَّرْجِيحُ : خَبَرُنَا أَوْلَى مِنْ خَبَرِهِمْ ؛ لِأَنَّ خَبَرَنَا ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي أَنَّ الطُّهْرَ قَبْلَ الْعِدَّةِ وَاحِدُ أَعْدَادِهَا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إشْكَالُ خَبَرِهِمْ فَيَرْفَعُهُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَالِكَ أَيْضًا هُوَ الطُّهْرُ، لَكِنَّ الطُّهْرَ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِالْحَيْضِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّهَا تَحِلُّ بِالدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ.
الْفَصْلُ الثَّانِي : مِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ زَاحَمَ عَلَى الْآيَةِ بِعَدَدٍ، وَاسْتَنَدَ فِيهَا إلَى رُكْنٍ، وَتَعَلَّقَ مِنْهَا بِسَبَبٍ مَتِينٍ ؛ قَالُوا : يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْقُرْءَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ جَمِيعًا، وَالْمُرَادُ أَحَدُهُمَا، فَيَجِبُ إذَا قَعَدَتْ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا هَذَا الِاسْمُ أَنْ يَصِحَّ لَهَا قَضَاءُ التَّرَبُّصِ.
الثَّانِي : أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِأَوَائِلِ الْأَسْمَاءِ - كَمَا قُلْنَا فِي الشَّفَقَيْنِ وَاللَّمْسَيْنِ وَالْأَبَوَيْنِ : إنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّفَقِ الْأَوَّلِ، وَالْوُضُوءُ يَجِبُ بِاللَّمْسِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْوَطْءِ، وَإِنَّ الْحَجْبَ يَكُونُ لِلْأَبِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَهُوَ الْجَدُّ ؛ وَهُمْ مُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ أَجْمَعه فِي مَوْضِعِهِ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ :﴿ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ فَذَكَرَهُ وَأَثْبَتَ الْهَاءَ فِي الْعَدَدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الطُّهْرَ الْمُذَكَّرَ، وَلَوْ أَرَادَ الْحَيْضَةَ الْمُؤَنَّثَةَ لَأَسْقَطَ الْهَاءَ، وَقَالَ : ثَلَاثَ قُرُوءٍ ؛ فَإِنَّ الْهَاءَ تَثْبُتُ فِي عَدَدِ الْمُذَكَّرِ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ وَتَسْقُطُ فِي عَدَدِ الْمُؤَنَّثِ.
الرَّابِعُ : أَنَّ مُطَلَّقَ الْأَمْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عَلَى رَأَيْنَا فِي أَنَّ الْقُرْءَ الطُّهْرُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُطَلِّقُ فِي الطُّهْرِ لَا فِي الْحَيْضِ، فَلَوْ طَلَّقَ فِي الطُّهْرِ وَلَمْ تَعْتَدَّ إلَّا بِالْحَيْضِ الْآتِي بَعْدَهُ لَكَانَ ذَلِكَ تَرَاخِيًا عَنْ الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ ؛ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ وَإِنْ كَانَتْ قَوِيَّةً فَإِنَّهَا تَفْتَحُ مِنْ الْأَسْئِلَةِ أَبْوَابًا رُبَّمَا عَسُرَ إغْلَاقُهَا، فَأَوْلَى لَكُمْ التَّمَسُّكُ بِمَا تَقَدَّمَ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ : قَالُوا : إذَا جَعَلْتُمْ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارَ فَقَدْ تَرَكْتُمْ نَصَّ الْآيَةِ فِي جَعْلِهَا ثَلَاثَةً، لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ قَبْل الْحَيْضِ بِلَيْلَةٍ لَكَانَ عِنْدَكُمْ قُرْءًا مُعْتَدًّا بِهِ وَلَيْسَ بِعَدَدٍ.
قُلْنَا لَهُ : أَمَا إذَا بَلَغْنَا لِهَذَا الْمُنْتَهَى فَالْمَسْأَلَةُ لَنَا، وَمَأْخَذُ الْقَوْلِ فِي الْمَسْأَلَةِ سَهْلٌ ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى الْكُلِّ فِي إطْلَاقِ الْعَدَدِ وَغَيْرِهِ لُغَةً مَشْهُورَةً عِنْدَ الْعَرَبِ، وَقُرْآنًا : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ وَهِيَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَبَعْضُ ذِي الْحِجَّةِ، فَالْمُخَالِفُ إنْ رَاعَى ظَاهِرَ الْعَدَدِ فَمُرَاعَاةُ ظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُطَلَّقَةٍ، لَكِنَّ الْقُرْآنَ خَصَّ مِنْهَا الْآيِسَةَ وَالصَّغِيرَةَ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ بِالْأَشْهُرِ، وَخَصَّ مِنْهَا الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ، بها ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ﴾.
وَعُرِضَتْ هَاهُنَا مَسْأَلَةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ الْأَمَةُ، فَإِنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَتَانِ، خَرَجَتْ بِالْإِجْمَاعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ : خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ بَلْ هُوَ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ ؛ فَإِنْ وُجِدَتْ مُطَلَّقَةٌ لَا تَتَرَبَّصُ فَلَيْسَ مِنْ الشَّرْعِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافَ مَخْبَرَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ بَيَانًا شَافِيًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : الْحَيْضُ. الثَّانِي : الْحَمْلُ. الثَّالِثُ : مَجْمُوعُهُمَا. وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا أَمِينَةً عَلَى رَحِمِهَا، فَقَوْلُهَا فِيهِ مَقْبُولٌ ؛ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ إلَّا بِخَبَرِهَا، وَقَدْ شَكَّ فِي ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ لِقُصُورِ فَهْمِهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى قَوْلِهَا فِي دَعْوَى الشَّغْلِ لِلرَّحِمِ أَوْ الْبَرَاءَةِ، مَا لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهَا، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إذَا حِضْت أَوْ حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ؛ فَقَالَتْ : حِضْت أَوْ حَمَلْت، هَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ فَمَنْ قَالَ مِنْ عُلَمَائِنَا بِوُقُوفِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ : هَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَالْعِدَّةُ لَا خِلَافَ فِيهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾.
هَذَا وَعِيدٌ عَظِيمٌ شَدِيدٌ لِتَأْكِيدِ تَحْرِيمِ الْكِتْمَانِ وَإِيجَابِ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الرَّحِمِ بِحَقِيقَةِ مَا فِيهِ، وَخَرَجَ مَخْرَجَ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ » فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ.
وَفَائِدَةُ تَأ
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ﴾.
فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِهَا :
ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ لِلطَّلَاقِ عَدَدٌ، وَكَانَتْ عِنْدَهُمْ الْعِدَّةُ مَعْلُومَةً مُقَدَّرَةً، فَرَوَى عُرْوَةُ قَالَ :«كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَغَضِبَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ : لَا أَقْرَبُك وَلَا تَحِلِّينَ مِنِّي. قَالَتْ لَهُ : كَيْفَ ؟ قَالَ : أُطَلِّقُك حَتَّى إذَا جَاءَ أَجَلُك رَاجَعْتُك، فَشَكَتْ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾ ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي مَقْصُودِ الْآيَةِ : قَالَ الْبُخَارِيُّ : بَابُ جَوَازِ الثَّلَاثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا التَّعْدِيدَ إنَّمَا هُوَ فُسْحَةٌ لَهُمْ، فَمَنْ ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ لَزِمَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ بَعْضُهُمْ : جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِبَيَانِ عَدَدِ الطَّلَاقِ. وَقِيلَ : جَاءَتْ لِبَيَانِ سُنَّةِ الطَّلَاقِ. وَالْقَوْلَانِ صَحِيحَانِ ؛ فَإِنَّ بَيَانَ الْعَدَدِ بَيَانُ السُّنَّةِ فِي الرَّدِّ، وَبَيَانَ سُنَّةِ الْوُقُوعِ بَيَانُ الْعَدَدِ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِعْلًا مُهْمَلًا كَسَائِرِ أَفْعَالِهَا، فَشَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَدَهُ، وَبَيَّنَ حَدَّهُ، وَأَوْضَحَ فِي كِتَابِهِ حُكْمَهُ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ تَمَامَهُ وَشَرْحَهُ، فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : طَلَاقُ السُّنَّةِ مَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَمَانِيَةُ شُرُوطٍ، بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ : أَحَدُهَا : تَفْرِيقُ الْإِيقَاعِ وَمَنْعُ الِاجْتِمَاعِ، تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ طَلْقَتَيْنِ مُتَفَرِّقَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا إنْ كَانَتَا مُجْتَمَعَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ مَرَّتَيْنِ.
وَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثَةِ مُبَاحٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى :﴿ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ﴾.
وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمُ سِيَاقُهُ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَفْرِيقُ الْإِيقَاعِ. وَالثَّانِي : كَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْرَاكِ بِالِارْتِجَاعِ، وَهِيَ أَيْضًا تَفْسِيرُ الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ لِقَوْلِهِ : فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عُرِّفَ فِيهَا الطَّلَاقُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ ؛ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ التَّعْرِيفِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ الْمَشْرُوعُ مَرَّتَانِ، فَمَا جَاءَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ ؛ يُرْوَى عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَالرَّافِضَةِ قَالُوا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا بُعِثَ لِبَيَانِ الشَّرْعِ، فَمَا جَاءَ عَلَى غَيْرِهِ فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ.
الثَّانِي : مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ الَّذِي فِيهِ الرَّجْعَةُ مَرَّتَانِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ تُطَلِّقُ وَتَرُدُّ أَبَدًا، فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرَّدَّ إنَّمَا يَكُونُ فِي طَلْقَتَيْنِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾.
الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ الْمَسْنُونُ مَرَّتَانِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ.
الرَّابِعُ : مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ الْجَائِزُ مَرَّتَانِ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ الْمَشْرُوعُ فَصَحِيحٌ ؛ لَكِنَّ الشَّرْعَ يَتَضَمَّنُ الْفَرْضَ وَالسُّنَّةَ وَالْجَائِزَ وَالْحَرَامَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى بِكَوْنِهِ مَشْرُوعًا أَحَدُ أَقْسَامِ الْمَشْرُوعِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ الْمَسْنُونُ ؛ وَقَدْ كُنَّا نَقُولُ بِأَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، لَوْلَا تَظَاهُرُ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مِنْ الْأُمَّةِ بِأَنَّ مَنْ طَلَّقَ طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ، وَلَا احْتِفَالَ بِالْحَجَّاجِ وَإِخْوَانِهِ مِنْ الرَّافِضَةِ، فَالْحَقُّ كَائِنٌ قَبْلَهُمْ. فَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ حَرَامٌ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ هَاهُنَا ؛ فَإِنَّهُ مُتَّفِقٌ مَعَنَا عَلَى لُزُومِهِ إذَا وَقَعَ. وَقَدْ حَقَقْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ :( مَرَّةٌ ) ؛ وَهِيَ عِبَارَةٌ فِي اللُّغَةِ عَنْ الْفَعْلَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْأَصْلِ، لَكِنْ غَلَبَ عَلَيْهَا الِاسْتِعْمَالُ فَصَارَتْ ظَرْفًا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ ".
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾.
قِيلَ : الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ الرَّجْعَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ، وَالتَّسْرِيحُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ. وَقِيلَ : التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانِ الْإِمْسَاكُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَكِلَاهُمَا مُمْكِنٌ مُرَادٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ يَعْنِي : إذَا قَارَبْنَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ فَرَاجِعُوهُنَّ أَوْ فَارِقُوهُنَّ.
وَقَدْ يَكُونُ الْفِرَاقُ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ الَّذِي قَالَهُ حِينَئِذٍ. وَقَدْ يَكُونُ إذَا رَاجَعَهَا وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ بِالسُّكُوتِ عَنْ الرَّجْعَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ؛ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَنَاقُضٌ.
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : إنَّ التَّسْرِيحَ بِإِحْسَانٍ هِيَ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ هِيَ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ » وَلَمْ يَصِحَّ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ ثَلَاثٌ فِي كُلِّ زَوْجَيْنِ، إلَّا أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إنْ كَانَا مَمْلُوكَيْنِ فَذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَخْصُوصٌ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ طَلَاقَ الرَّقِيقِ طَلْقَتَانِ ؛ فَالْأُولَى فِي حَقِّهِ مَرَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : يُعْتَبَرُ عَدَدُهُ بِرِقِّ الزَّوْجِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْتَبَرُ عَدَدُهُ بِرِقِّ الزَّوْجَةِ.
وَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ ». وَالتَّقْدِيرُ : الطَّلَاقُ مُعْتَبَرٌ بِالرِّجَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ مَوْجُودٌ بِالرِّجَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُشَاهَدٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيَانِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«طَلَاقُ الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ ».
قُلْنَا : يَرْوِيه مُظَاهِرُ بْنُ أَسْلَمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ فِيهِ اعْتِبَارَ الْعِدَّةِ وَالطَّلَاقِ بِالنِّسَاءِ جَمِيعًا، وَلَا يَقُولُ السَّلَفُ بِهَذَا ؛ فَقَدْ رَوَى النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَمْلُوكٍ كَانَتْ تَحْتَهُ مَمْلُوكَةٌ فَطَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ أُعْتِقَا :«أَيَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ، قَضَى بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ». وَلِأَنَّ كُلَّ مِلْكٍ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِحَالٍ الْمَالِكِ لَا بِحَالِ الْمَمْلُوكِ. وَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ السَّرَاحَ مِنْ صَرِيحِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ، وَلَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ كَمَا بَيَّنَّا، وَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ :﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا ﴾ بَيَانًا لِحُكْمِ الْحُرَّةِ الْوَاقِعِ عَلَيْهَا، وَهُوَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ - كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَفْسِيرِنَا وَتَفْسِيرِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الثَّانِي.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ﴾ :
ظَنَّ جَهَلَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْفَاءَ هُنَا لِلتَّعْقِيبِ، وَفَسَّرَ أَنَّ الَّذِي يَعْقُبُ الطَّلَاقَ مِنْ الْإِمْسَاكِ الرَّجْعَةُ ؛ وَهَذَا جَهْلٌ بِالْمَعْنَى وَاللِّسَانِ :
أَمَّا جَهْلُ الْمَعْنَى فَلَيْسَتْ الرَّجْعَةُ عُقَيْبَ الطَّلْقَتَيْنِ، وَإِنَّمَا هِيَ عُقَيْبَ
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾.
وَفِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ ﴾.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : تَحِلُّ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لِلْأَوَّلِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ مِنْ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا الثَّانِي ؛ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى :﴿ فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾ وَالنِّكَاحُ الْعَقْدُ.
قَالَ : وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ لَهُ : بَلْ هُوَ الْوَطْءُ، وَلَفْظُ النِّكَاحِ قَدْ وَرَدَ بِهِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى جَمِيعًا، فَمَا بَالُهُ خَصَّصَهُ هَاهُنَا بِالْعَقْدِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْإِنْزَالَ وَأَنْتُمْ لَا تَشْتَرِطُونَهُ.
إنَّمَا شَرَطَ ذَوْقَ الْعُسَيْلَةِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، هَذَا لُبَابُ كَلَامِ عُلَمَائِنَا.
قَالَ الْقَاضِي : مَا مَرَّ بِي فِي الْفِقْهِ مَسْأَلَةٌ أَعْسَرُ مِنْهَا ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحُكْمَ هَلْ يَتَعَلَّقُ بِأَوَائِلِ الْأَسْمَاءِ أَوْ بِأَوَاخِرِهَا ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَفِي بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ.
فَإِنَّا قُلْنَا : إنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِأَوَائِلِ الْأَسْمَاءِ لَزَمَنَا مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَإِنَّ قُلْنَا : إنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِأَوَاخِرِ الْأَسْمَاءِ لَزِمَنَا أَن نَشْتَرِطَ الْإِنْزَالُ مَعَ مَغِيبِ الْحَشَفَةِ فِي الْإِحْلَالِ، لِأَنَّهُ آخِرُ ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ، وَلِأَجَلِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ عَنْ الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا ؛ فَصَارَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي هَذَا الْحَدِّ مِنْ الْإِشْكَالِ، وَأَصْحَابُنَا يُهْمِلُونَ ذَلِكَ وَيَمْحُونَ الْقَوْلَ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَقَقْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾.
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَيْهَا، وَلَنَا لَوْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَرَى هَذَا مَعَ قَوْلِهِ : إنَّ النِّكَاحَ الْعَقْدُ لَجَازَ لَهُ ؛ وَأَمَّا نَحْنُ وَأَنْتُمْ الَّذِينَ نَرَى أَنَّ النِّكَاحَ هَاهُنَا هُوَ الْوَطْءُ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال لَكُمْ مَعَنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ.
فَإِنْ قِيلَ : الْقُرْآنُ اقْتَضَى تَحْرِيمَهَا إلَى الْعَقْدِ، وَالسُّنَّةُ لَمْ تُبَدِّلْ لَفْظَ النِّكَاحِ وَلَا نَقَلَتْهُ عَنْ الْعَقْدِ إلَى الْوَطْءِ، إنَّمَا زَادَتْ شَرْطًا آخَرَ وَهُوَ الْوَطْءُ.
قُلْنَا : إذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ مَعْنَيَيْنِ فَأَثْبَتَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا فَلَا يُقَالُ إنَّ الْقُرْآنَ اقْتَضَى أَحَدَهُمَا وَزَادَتْ السُّنَّةُ الثَّانِيَ ؛ إنَّمَا يُقَالُ : إنَّ السُّنَّةَ أَثْبَتَتْ الْمُرَادَ مِنْهُمَا، وَالْعُدُولُ عَنْ هَذَا جَهْلٌ بِالدَّلِيلِ أَوْ مُرَاغَمَةٌ وَعِنَادٌ فِي التَّأْوِيلِ.
الآية التاسعة والستون : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ﴾.
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ بَلَغْنَ ﴾ : مَعْنَاهُ قَارَبْنَ الْبُلُوغَ ؛ لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ أَجَلَهُ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَانْقَطَعَتْ رَجْعَتُهُ ؛ فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ جُعِلَ لَفْظُ بَلَغَ بِمَعْنَى قَارَبَ، كَمَا يُقَالُ : إذَا بَلَغْت مَكَّةَ فَاغْتَسِلْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ : هُوَ الرَّجْعَةُ مَعَ الْمَعْرُوفِ مُحَافَظَةً عَلَى حُدُودِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْقِيَامِ بِحُقُوقِ النِّكَاحِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ : يَعْنِي طَلِّقُوهُنَّ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ : هَذَا مِنْ أَلْفَاظِ التَّصْرِيحِ فِي الطَّلَاقِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ : طَلَاقٌ، وَسَرَاحٌ، وَفِرَاقٌ. وَفَائِدَتُهَا عِنْدَهُ أَنَّهَا لَا تُفْتَقَرُ إلَى النِّيَّةِ ؛ بَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِذَكَرِهَا مُجَرَّدَةً عَنْ النِّيَّةِ. وَعِنْدَنَا أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ الَّذِي لَا يُفْتَقَرُ إلَى النِّيَّةِ نَيَّفَ عَلَى عَشَرَةِ أَلْفَاظٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِيُبَيِّنَ بِهَا عَدَدَ الصَّرِيحِ ؛ وَإِنَّمَا دَخَلَتْ لِبَيَانِ أَحْكَامٍ عُلِّقَتْ عَلَى الطَّلَاقِ، فَلَا تُسْتَفَادُ مِنْهُ، مَا لَمْ يَذْكُرْ لِأَجَلِهِ وَلَا فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ هَاهُنَا :﴿ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ ﴾ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ :﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ أَيْ أَرْجِعُوهُنَّ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمَعْنَى ﴿ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ ﴾ ؛ أَيْ اُتْرُكُوا الِارْتِجَاعَ، فَسَتُسَرَّحُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ إحْدَاثَ طَلَاقٍ بِحَالٍ، وَقَدْ يَكُونُ الطَّلَاقُ الَّذِي كَانَتْ عَنْهُ الْعِدَّةُ مَكَانَهُ، فَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ سَرِّحُوهُنَّ ﴾ مَعْنًى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : حُكْمُ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ أَنَّ لِلزَّوْجِ إذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُنْفِقُ عَلَى الزَّوْجَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ؛ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْمَعْرُوفِ، فَيُطَلِّقُهَا عَلَيْهِ الْحَاكِمُ مِنْ أَجْلِ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ لَهَا فِي بَقَائِهَا عِنْدَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَتِهَا.
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ هَذَا الْعَاجِزُ عَنْ النَّفَقَةِ لَا يُمْسِكُ بِالْمَعْرُوفِ، فَكَيْفَ تُكَلِّفُونَهُ أَنْتُمْ غَيْرَ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْإِنْفَاقُ، وَلَا يَجُوزُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ ؟
قُلْنَا : إذَا لَمْ يُطِقْ الْإِنْفَاقَ بِالْمَعْرُوفِ أَطَاقَ الْإِحْسَانَ بِالطَّلَاقِ، وَإِلَّا فَالْإِمْسَاكُ مَعَ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ ضِرَارُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِلْبُخَارِيِّ :«تَقُولُ لَك زَوْجُك : أَنْفِقْ عَلَيَّ وَإِلَّا طَلِّقْنِي. وَيَقُولُ لَك عَبْدُك : أَنْفِقْ عَلَيَّ وَإِلَّا بِعْنِي. وَيَقُولُ لَك ابْنُك : أَنْفِقْ عَلَيَّ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ».
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِقَصْدِ الرَّغْبَةِ، فَإِنْ قَصَدَ أَنْ يَمْنَعَهَا النِّكَاحَ وَيَقْطَعَ بِهَا فِي أَمَلِهَا مِنْ غَيْرِ رَغْبَةِ اعْتِدَاءٍ عَلَيْهَا فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، فَلَوْ عَرَفْنَا ذَلِكَ نَقَضْنَا رَجْعَتَهُ، وَإِذَا لَمْ نَعْرِفْ نَفَذَتْ، وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ﴾.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَعْنَاهُ لَا تَأْخُذُوا أَحْكَامَ اللَّهِ فِي طَرِيقِ الْهُزْءِ، فَإِنَّهَا جَدٌّ كُلُّهَا، فَمَنْ هَزَأَ بِهَا لَزِمَتْهُ.
وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا بِطَرِيقِ الْقَصْدِ إلَى اتِّخَاذِهَا هُزُوًا ؛ فَأَمَّا لُزُومُهَا عِنْدَ اتِّخَاذِهَا هُزُوًا فَلَيْسَتْ مِنْ قُوَّةِ اللَّفْظِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
وَمِنْ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ :«أَنْتِ طَالِقٌ مِائَةً. فَقَالَ : يَكْفِيك مِنْهَا ثَلَاثٌ، وَالسَّبْعَةُ وَالتِّسْعُونَ اتَّخَذْت بِهَا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ». فَمِن اتِّخَاذِهَا هُزُوًا عَلَى هَذَا مُخَالَفَةُ حُدُودِهَا فَيُعَاقَبُ بِإِلْزَامِهَا، وَعَلَى هَذَا يَتَرَكَّبُ طَلَاقُ الْهَازِلِ ؛ وَلَسْت أَعْلَمُ خِلَافًا فِي الْمَذْهَبِ فِي لُزُومِهِ ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي نِكَاحِ الْهَازِلِ ؛ فَقَالَ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ : لَا يَلْزَمُ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَرِّجَ عَلَى هَذَا طَلَاقَ الْهَازِلِ فَهُوَ ضَعِيفُ النَّظَرِ ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ نِكَاحِ الْهَازِلِ يُوجِبُ إلْزَامَ طَلَاقِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْلِيبَ التَّحْرِيمِ فِي الْبُضْعِ عَلَى التَّحْلِيلِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِيهِ إذَا عَارَضَتْهُ.
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ سَبْعِين : َ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾، وَالْبُلُوغُ هَاهُنَا حَقِيقَةٌ لَا مَجَازَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ قَارَبْنَ الْبُلُوغَ كَمَا فِي الْآيَةِ قَبْلِهَا لَمَا خَرَجَتْ بِهِ الزَّوْجَةُ عَنْ حُكْمِ الزَّوْجِ فِي الرَّجْعَةِ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى :﴿ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبُلُوغَ قَدْ وَقَعَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الرَّجْعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ الْعَضْلُ يَتَصَرَّفُ عَلَى وُجُوهٍ مَرْجِعُهَا إلَى الْمَنْعِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا ؛ فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى أَوْلِيَاءَ الْمَرْأَةِ مِنْ مَنْعِهَا عَنْ نِكَاحِ مَنْ تَرْضَاهُ. وَهَذَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا حَقَّ لَهَا فِي مُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقُّ الْوَلِيِّ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ مَنْعِهَا.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ كَانَتْ لَهُ أُخْتٌ فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا، فَأَبَى مَعقِلٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ لَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَا كَلَامَ لِمَعقِلٍ فِي ذَلِكَ.
وَفِي الْآيَةِ أَسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ يَقْطَعُهَا هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ.
فَإِنْ قِيلَ : السَّبَبُ الَّذِي رَوَيْتُمْ يُبْطِلُ نَظْمَ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ إذَا كَانَ هُوَ الْمُنْكِح فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُ : لَا تَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ نَفْسِك، وَهَذَا مُحَالٌ.
قُلْنَا : لَيْسَ كَمَا ذَكَرْتُمْ، لِلْمَرْأَةِ حَقُّ الطَّلَبِ لِلنِّكَاحِ، وَلِلْوَلِيِّ حَقُّ الْمُبَاشَرَةِ لِلْعِقْدِ ؛ فَإِذَا أَرَادَتْ مَنْ يُرْضَى حَالُهُ، وَأَبَى الْوَلِيُّ مِنْ الْعَقْدِ فَقَدْ مَنَعَهَا مُرَادَهَا، وَهَذَا بَيِّنٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : يَعْنِي إذَا كَانَ لَهَا كُفُؤًا، لِأَنَّ الصَّدَاقَ فِي الثَّيِّبِ الْمَالِكَةِ أَمْرَ نَفْسِهَا لَا حَقَّ لِلْوَلِيِّ فِيهِ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي ثَيِّبٍ مَالِكَةٍ أَمْرَ نَفْسِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ هُوَ الْكَفَاءَةُ، وَفِيهَا حَقٌّ عَظِيمٌ لِلْأَوْلِيَاءِ، لَمَا فِي تَرْكِهَا مِنْ إدْخَالِ الْعَارِ عَلَيْهِمْ ؛ وَذَلِكَ إجْمَاعٌ مِنْ الْأُمَّةِ.
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالسَّبْعُونَ : قَوْله تَعَالَى ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾.
هَذِهِ الْآيَةُ عُضْلَةٌ وَلَا يُتَخَلَّصُ مِنْهَا إلَّا بِجُرَيْعَةِ الذَّقَنِ مَعَ الْغَصَصِ بِهَا بُرْهَةً مِنْ الدَّهْرِ ؛ وَفِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَقَلُّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى :﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾، فَإِذَا أَسْقَطَتْ حَوْلَيْنِ مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا بَقِيَتْ مِنْهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ؛ وَهِيَ مُدَّةُ الْحَمْلِ ؛ وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِنْبَاطِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي فَائِدَةِ هَذَا التَّقْدِيرِ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَعْنَاهُ إذَا وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ حَوْلَيْنِ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ وَاحِدًا وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَهَكَذَا تَتَدَاخَلُ مُدَّةُ الْحَمْلِ وَمُدَّةُ الرَّضَاعِ، وَيَأْخُذُ الْوَاحِدُ مِنْ الْآخَرِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إذَا اخْتَلَفَ الْأَبَوَانِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ فَالْفَصْلُ فِي فِصَالِهِ مِنْ الْحَاكِمِ حَوْلَانِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ، وَأَكْثَرُهُ مَحْدُودٌ بِحَوْلَيْنِ مَعَ التَّرَاضِي بِنَصِّ الْقُرْآنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا زَادَتْ الْمَرْأَةُ فِي رَضَاعِهَا عَلَى مُدَّةِ الْحَوْلَيْنِ ؛ وَقَعَ الرَّضَاعُ مَوْقِعَهُ إلَى أَنْ يَسْتَقِلَّ الْوَلَدُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : لَوْ زَادَتْ لَحْظَةً مَا اُعْتُبِرَ ذَلِكَ فِي حُكْمٍ، وَلَوْ كَانَ هَذَا حَدًّا مُؤَقَّتًا لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَا تُعْتَبَرُ إنْ وُجِدَتْ لَمَا أَوْقَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْإِرَادَةِ كَسَائِرِ الْأَعْدَادِ الْمُؤَقَّتَةِ فِي الشَّرِيعَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُرِيدُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَقَالَ زُفَرُ : ثَلَاثَ سِنِينَ ؛ وَهَذَا كُلُّهُ تَحَكُّمٌ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا قَرُبَ مِنْ أَمَدِ الْفِطَامِ عُرْفًا لَحِقَ بِهِ وَمَا بَعُدَ مِنْهُ خَرَجَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ ؛ وَفِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ تَتِمَّةُ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ لِعَجْزِهِ وَضَعْفِهِ ؛ فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَى يَدَيْ أَبِيهِ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ ؛ وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْأُمَّ لِأَنَّ الْغِذَاءَ يَصِلُ إلَيْهِ بِوَسَاطَتِهَا فِي الرَّضَاعَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ ﴾ لِأَنَّ الْغِذَاءَ لَا يَصِلُ إلَى الْحَمْلِ إلَّا بِوَسَاطَتِهِنَّ فِي الرَّضَاعَةِ ؛ وَهَذَا بَابٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَاجِبٌ مِثْلُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾.
يَعْنِي عَلَى قَدْرِ حَالِ الْأَبِ مِنْ السَّعَةِ وَالضِّيقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ :﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ﴾. وَمِنْ هَذِهِ النُّكْتَةِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا جَوَازَ إجَارَةِ الظِّئْرِ بِالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَنْكَرَهُ صَاحِبَاهُ، لِأَنَّهَا إجَارَةٌ مَجْهُولَةٌ فَلَمْ تَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ بِهِ عَلَى عَمَلِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانٌ، وَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَصْلٌ فِي الِارْتِضَاعِ، وَفِي كُلِّ عَمَلٍ، وَحُمِلَ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلُ. وَلَوْلَا أَنَّهُ مَعْرُوفٌ مَا أَدْخَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَعْرُوفِ.
فَإِنْ قِيلَ : الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ أَنَّهُ قُدِّرَ بِحَالِ الْأَبِ مِنْ عُسْرٍ وَيُسْرٍ، وَلَوْ كَانَ عَلَى رَسْمِ الْأُجْرَةِ لَمْ يَخْتَلِفْ كَبَدَلِ سَائِرِ الْأَعْوَاضِ.
قُلْنَا : قَدَّرُوهُ بِالْمَعْرُوفِ أَصْلًا فِي الْإِجَارَاتِ، وَنَوْعُهُ بِالْيَسَارِ وَالْإِقْتَارِ رِفْقًا ؛ فَانْتَظَمَ الْحُكْمَانِ، وَاطَّرَدَتْ الْحِكْمَتَانِ. وَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ تَرَى تَمَامَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ﴾.
اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ هُوَ حَقٌّ لَهَا أَمْ هُوَ حَقٌّ عَلَيْهَا ؟
وَاللَّفْظُ مُحْتَمَلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ التَّصْرِيحَ بِقَوْلِهِ ( عَلَيْهَا ) لَقَالَ : وَعَلَى الْوَالِدَاتِ إرْضَاعُ أَوْلَادِهِنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ ﴾، لَكِنَّ هُوَ عَلَيْهَا فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ، وَهُوَ عَلَيْهَا إنْ لَمْ يَقْبَلْ غَيْرُهَا، وَهُوَ عَلَيْهَا إذَا عُدِمَ الْأَبُ لِاخْتِصَاصِهَا بِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«تَقُولُ لَك الْمَرْأَةُ : أَنْفِقْ عَلَيَّ وَإِلَّا طَلِّقْنِي، وَيَقُولُ لَك الْعَبْدُ : أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي، وَيَقُولُ لَك ابْنُك : أَنْفِقْ عَلَيَّ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ».
وَلِمَالِكٍ فِي الشَّرِيفَةِ رَأْيٌ خَصَّصَ بِهِ الْآيَةَ فَقَالَ : إنَّهَا لَا تُرْضِعُ إذَا كَانَتْ شَرِيفَةً. وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُصْلِحَةِ الَّتِي مَهَّدْنَاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْحَضَانَةُ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ لِلْأُمِّ وَالنُّصْرَةُ لِلْأَبِ، لِأَنَّ الْحَضَانَةَ مَعَ الرَّضَاعِ، وَمَسَائِلُ الْبَابِ تَأْتِي فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ﴾.
الْمَعْنَى لَا تَأْبَى الْأُمُّ أَنْ تُرْضِعَهُ إضْرَارًا بِأَبِيهِ، وَلَا يَحِلُّ لِلْأَبِ أَنْ يَمْنَعَ الْأُمَّ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَ الطَّلَاقِ ؛ لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ جَاءَ عِنْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ، فَكَانَ بَيَانًا لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ. الثَّانِي : أَنَّ النِّكَاحَ إذَا كَانَ بَاقِيًا ثَابِتًا فَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ لِأَجَلِهِ، وَلَا تُسْتَوْجَبُ الْأُمُّ زِيَادَةٌ عَلَيْهَا لِأَجَلِ رَضَاعِهِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إذَا أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يُرْضِعَ الِابْنَ غَيْرُ الْأُمّ وَهِيَ فِي الْعِصْمَةِ لِتَتَفَرَّغَ لَهُ جَازَ ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَخْتَصَّ بِهِ إذَا كَانَ يَقْبَلُ غَيْرَهَا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْأَبِ ؛ بَلْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ غِيَالِ الِابْنِ، فَاجْتِمَاعُ الْفَائِدَتَيْنِ يُوجِبُ عَلَى الْأُمِّ إسْلَامَ الْوَلَدِ إلَى غَيْرِهَا، وَلِمَا فِي الْآيَةِ مِنَ الِاحْتِمَالِ فِي أَنَّهُ حَقٌّ لَهَا أَوْ عَلَيْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ﴾ :
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ، وَهَذَا كَلَامُ تَشْمَئِزُّ مِنْهُ قُلُوبُ الْغَافِلِينَ، وَتَحَارُ فِيهِ أَلْبَابُ الشَّادِينَ، وَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : لَوْ ثَبَتَتْ مَا نَسَخَهَا إلَّا مَا كَانَ فِي مَرْتَبَتِهَا، وَلَكِنَّ وَجْهَهُ أَنَّ عُلَمَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ كَانُوا يُسَمُّونَ التَّخْصِيصَ نَسْخًا ؛ لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِبَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ وَمُسَامَحَةٌ، وَجَرَى ذَلِكَ فِي أَلْسِنَتِهِمْ حَتَّى أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَهَذَا يَظْهَرُ عِنْدَ مَنِ ارْتَاضَ بِكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَثِيرًا.
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ﴾ إشَارَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ رَدَّهُ إلَى جَمِيعِهِ مِنْ إيجَابِ النَّفَقَةِ وَتَحْرِيمِ الْإِضْرَارِ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَمِنَ السَّلَفِ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ، وَيُسْنَدُ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَوْجَبُوا عَلَى قَرَابَةِ الْمَوْلُودِ الَّذِينَ يَرِثُونَهُ نَفَقَتَهُ إذَا عَدِمَ أَبُوهُ فِي تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ لَا مَعْنَى لَهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءَ : إنَّ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ﴾ لَا يَرْجِعُ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ ؛ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى تَحْرِيمِ الْإِضْرَارِ. الْمَعْنَى : وَعَلَى الْوَارِثِ مِنْ تَحْرِيمِ الْإِضْرَارِ بِالْأُمِّ مَا عَلَى الْأَبِ.
وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ ؛ فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يُرْجِعُ الْعَطْفَ فِيهِ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ ؛ وَهُوَ يَدَّعِي عَلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَلَا يُوجَدُ لَهُ نَظِيرٌ
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالسَّبْعُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾.
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي نَسْخِهَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ ﴾ وَكَانَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حَوْلًا، كَمَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ؛ قَالَهُ الْأَكْثَرُ.
الثَّانِي : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ ﴾، تَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ.
وَالْأَصَحُّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّل كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي الْقِسَمِ الثَّانِي مِنْ " النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ " عَلَى وَجْهِ نُكْتَتُهُ عَلَى مَا رَوَى الْأَئِمَّةُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :«قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ ﴾ نَسَخَتْهَا
الْآيَةُ الْأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبْهَا ؟ قَالَ : يَا ابْنَ أَخِي ؛ لَا أُغَيِّرَ مِنْهُ شَيْئًا عَنْ مَكَانِهِ »، وَقَدْ قَالَ الْأَئِمَّةُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ حِينَ قُتِلَ زَوْجُهَا :«اُمْكُثِي فِي بَيْتِك حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ».
فَتَقَرَّرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا كَانَتْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا وَبَيْنَ أَنْ تَبْقَى بِآيَةِ الْإِخْرَاجِ، ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْآيَةِ الَّتِي فِيهَا التَّرَبُّصُ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ لِلْفُرَيْعَةِ بِالْمُكْثِ فِي بَيْتِهَا ؛ فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِلسُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ أَيْضًا مَعْنَى الْخَبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ. الْمَعْنَى :﴿ وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ يَعْنِي شَرْعًا ؛ فَمَا وُجِدَ مِنْ مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَمْ تَتَرَبَّصْ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ، فَجَرَى الْخَبَرُ عَلَى لَفْظِهِ، وَثَبَتَ كَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى صِدْقِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّرَبُّصِ بِالْقُرْءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : التَّرَبُّصُ : هُوَ الِانْتِظَارُ، وَمُتَعَلَّقُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : النِّكَاحُ، وَالطِّيبُ وَالتَّنَظُّفُ، وَالتَّصَرُّفُ وَالْخُرُوجُ.
أَمَّا النِّكَاحُ، فَإِذَا وَضَعَتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِلَحْظَةٍ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا قَدْ حَلَّتْ. الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَحِلُّ إلَّا بِانْقِضَاءِ الْأَشْهُرِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ : أَنَّهَا لَا تَحِلُّ إلَّا بَعْدَ الطُّهْرِ مِنْ النِّفَاسِ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالْأَوْزَاعِيِّ.
وَقَدْ كَانَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ظَاهِرًا لَوْلَا حَدِيثُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ أَنَّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ حَلَلْت، فَانْكِحِي مَنْ شِئْت » صَحَّتْ رِوَايَةُ الْأَئِمَّةِ لَهُ.
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَمَا صَحَّ رَأْيُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي آخِرِ الْأَجَلَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ إذَا وُضِعَ فَقَدْ سَقَطَ الْأَجَلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾، وَسَقَطَ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لِأَجَلِهِ الْأَجَلُ، وَهُوَ مَخَافَةُ شَغْلِ الرَّحِمِ ؛ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الْأَشْهُرِ ؟ وَإِذَا تَمَّتِ الْأَشْهُرُ وَبَقِيَ الْحَمْلُ فَلَيْسَ يَقُولُ أَحَدٌ : إنَّهَا تَحِلُّ ؛ وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ حَدِيثَ سُبَيْعَةَ جَلَاءٌ لِكُلِّ غُمَّةٍ، وَعَلَا عَلَى كُلِّ رَأْيٍ وَهِمَّةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ فَيَرُدُّهُ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الطَّهَارَةَ.
فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ الْمُطَلَّقَاتُ ؛ لِأَنَّهُ فِيهِنَّ وَرَدَ، وَعَلَى ذِكْرِهِنَّ انْعَطَفَ.
قُلْنَا : عَطْفُهُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ لَا يُسْقِطُ عُمُومَهُ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ مِنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَأَنَّهَا قَدْ وُجِدَتْ قَطْعًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَدْ يَزْدَحِمُ عَلَى الرَّحِمِ وَطْآنِ فَتَكُونُ الْعِدَّةُ فِيهِمَا أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ فِي مَسَائِلَ : مِنْهَا الْمَنْعِيُّ لَهَا يَقْدَمُ ثُمَّ يَمُوتُ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الثَّانِي ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدِمَ وَهِيَ حَامِلٌ فَطَلَّقَهَا الْأَوَّلُ فَلَا يُبْرِئُهَا الْوَضْعُ، وَلْتَأْتَنِفْ ثَلَاثَ حِيَضٍ بَعْدَهُ، وَهُوَ أَمْرٌ بَيِّنٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : أَمَّا الطِّيبُ وَالزِّينَةُ : فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ لَهَا احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ عُمَيْسٍ حِينَ مَاتَ جَعْفَرٌ :«أَمْسِكِي ثَلَاثًا، ثُمَّ افْعَلِي مَا بَدَا لَك ». وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ. رَوَى الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ : إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا أَفَتُكْحِلُهُمَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : لَا، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ :«إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ ». قَالَتْ زَيْنَبُ : وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا لَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَدَخَلَتْ حِفْشًا فَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ، حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّ مَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ وَغَيْرِهِ.
وَلَوْ صَحَّ حَدِيثُ أَسْمَاءَ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ التَّسَلُّبَ هُوَ لِبَاسُ الْحُزْنِ، وَهُوَ مَعْنًى غَيْرُ الْإِحْدَادِ.
وَأَمَّا الْخُرُوجُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : خُرُوجُ انْتِقَالٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ إلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ آيَةَ الْإِخْرَاجِ لَمْ تُنْسَخْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ.
الثَّانِي : خُرُوجُ الْعِبَادَةِ، كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ : يَحْجُجْنَ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ عَلَيْهِنَّ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ : لَا يَحْجُجْنَ ؛ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرُدُّ الْمُعْتَدَّاتِ مِنَ الْبَيْدَاءِ يَمْنَعُهُنَّ الْحَجَّ ؛ فَرَأْيُ عُمَرَ فِي الْخُلَفَاءِ وَرَأْيُ مَالِكٍ فِي الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ عُمُومَ فَرْضِ التَّرَبُّصِ فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى عُمُومِ زَمَانِ فَرْضِ الْحَجِّ، لَاسِيَّمَا إنْ قُلْنَا إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي. وَإِنْ قُلْنَا عَلَى الْفَوْرِ فَحَقُّ التَّرَبُّصِ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعِدَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ لِلْآدَمِيِّ فِي صِيَانَةِ مَائِهِ وَتَحْرِيرِ نَسَبِهِ ؛ وَحَقُّ الْحَجِّ خَاصٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ.
الثَّالِثُ : خُرُوجُهَا بِالنَّهَارِ لِلتَّصَرُّفِ وَرُجُوعُهَا بِاللَّيْلِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ، وَيَكُونُ خُرُوجُهَا فِي السَّحَرِ وَرُجُوعُهَا عِنْدَ النَّوْمِ، فَرَاعُوا الْمَبِيتَ الَّذِي هُوَ عُمْدَةُ السُّكْنَى وَمَقْصُودُهُ، وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ حَقِيقَةُ الْمَأْوَى.
فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَمْ يَرَ أَحَدٌ مَبِيتَ لَيْلَةٍ أَوْ ثَلَاثٍ سُكْنَى لِلْبَائِتِ حَيْثُ بَاتَ، وَلَا خُرُوجًا عَنِ السُّكْنَى، فَمَا بَالُهُمْ فِي الْعِدَّةِ قَالُوا : خُرُوجُ لَيْلَهٍ خُرُوجٌ ؟
قُلْنَا : الْمَعْنَى فِيهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ حَقَّ الْخُرُوجِ مُتَعَلَّقُ الْمَبِيتِ فَاحْتِيطَ لَهُ * وَالْحَيُّ يَحْمِي شَوْلَهُ مَعْقُولًا * فَلَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُتَزَوِّجَةٍ، مَدْخُولٍ بِهَا أَوْ غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ، أَمَةٍ أَوْ حُرَّةٍ، حَامِلٍ أَوْ غَيْرِ حَامِلٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهِيَ خَاصَّةٌ فِي الْمُدَّةِ ؛ فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَتَعْتَدُّ نِصْفَ عِدَّةِ الْحُرَّةِ إجْمَاعًا، وَإِلَّا مَا يُحْكَى عَنِ الْأَصَمِّ فَإِنَّهُ سَوَّى فِيهِ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِجْمَاعُ، لَكِنْ لِصَمَمِهِ لَمْ يَسْمَعْ بِه
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالسَّبْعُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾.
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى النِّكَاحَ فِي الْعِدَّةِ، وَأَوْجَبَ التَّرَبُّصَ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَقَدْ عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْخَلْقَ لَا يَسْتَطِيعُونَ الصَّبْرَ عَنْ ذِكْرِ النِّكَاحِ وَالتَّكَلُّمِ فِيهِ، فَأَذِنَ فِي التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ مَعَ جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَأَذِنَ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ بِالتَّعْرِيضِ مَعَ الْعَاقِدِ لَهُ، وَهُوَ الْمَرْأَةُ أَوْ الْوَلِيُّ ؛ وَهُوَ فِي الْمَرْأَةِ آكَدُ.
وَالتَّعْرِيضُ هُوَ الْقَوْلُ الْمُفْهِمُ لِمَقْصُودِ الشَّيْءِ، وَلَيْسَ بِنَصٍّ فِيهِ. وَالتَّصْرِيحُ هُوَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ وَالْإِفْصَاحُ بِذِكْرِهِ، مَأْخُوذٌ مِنْ عَرْضِ الشَّيْءِ وَهُوَ نَاحِيَتُهُ، كَأَنَّهُ يَحُومُ عَلَى النِّكَاحِ وَلَا يُسِفَّ عَلَيْهِ وَيَمْشِي حَوْلَهُ وَلَا يَنْزِلُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِ التَّعْرِيضِ :
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ فِيهِ كَثِيرٌ، جِمَاعُهُ عِنْدِي يَرْجِعُ إلَى قِسْمَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنْ يَذْكُرَهَا لِلْوَلِيِّ ؛ يَقُولُ لَا تَسْبِقْنِي بِهَا.
الثَّانِي : أَنْ يُشِيرَ بِذَلِكَ إلَيْهَا دُونَ وَاسِطَةٍ. فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا بِنَفْسِهِ فَفِيهِ سَبْعَةُ أَلْفَاظٍ : الْأَوَّلُ : أَنْ يَقُولَ لَهَا : إنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ.
الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ لَهَا : لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِك ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ لَهَا : إنَّك لَجَمِيلَةٌ، وَإِنَّ حَاجَتِي فِي النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إلَيْك خَيْرًا.
لرَّابِعُ : أَنْ يَقُولَ لَهَا : إنَّك لَنَافِقَةٌ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
الْخَامِسُ : إنَّ لِي حَاجَةً، وَأَبْشِرِي فَإِنَّك نَافِقَةٌ، وَتَقُولُ هِيَ : قَدْ أَسْمَعُ مَا تَقُولُ ؛ وَلَا تَزِيدُ شَيْئًا ؛ قَالَهُ عَطَاءٌ.
السَّادِسُ : أَنْ يُهْدِيَ لَهَا. قَالَ إبْرَاهِيمُ : إذَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ مِثْلَهُ فِي : السَّابِعُ : وَلَا يَأْخُذُ مِيثَاقَهَا.
قَالَتْ سُكَيْنَةُ بِنْتُ حَنْظَلَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ : دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَنَا فِي عِدَّتِي فَقَالَ : يَا بِنْتَ حَنْظَلَةَ، قَدْ عَلِمْت قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَقَّ جَدِّي عَلِيٍّ. فَقُلْت : غَفَرَ اللَّهُ لَك أَبَا جَعْفَرٍ، تَخْطُبنِي فِي عِدَّتِي وَأَنْتَ يُؤْخَذُ عَنْك ؟
فَقَالَ : أَوَقَدْ فَعَلْت ! إنَّمَا أَخْبَرْتُك بِقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْضِعِي. وَقَدْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَكَانَتْ عِنْدَ ابْنِ عَمِّهَا أَبِي سَلَمَةَ فَتُوُفِّيَ عَنْهَا، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ لَهَا مَنْزِلَتَهُ مِنْ اللَّهِ، وَهُوَ مُتَحَامِلٌ عَلَى يَدِهِ حَتَّى أَثَّرَ الْحَصِيرُ فِي يَدِهِ مِنْ شِدَّةِ تَحَامُلِهِ، فَمَا كَانَتْ تِلْكَ خِطْبَةً.
فَانْتُحِلَ مِنْ هَذَا فَصْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَذْكُرَهَا لِنَفْسِهَا. الثَّانِي : أَنْ يَذْكُرَهَا لِوَلِيِّهَا أَوْ يَفْعَلَ فِعْلًا يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ كَأَنْ يَهْدِيَ لَهَا.
وَاَلَّذِي مَالَ إلَيْهِ مَالِكٌ أَنْ يَقُولَ : إنِّي بِك لَمُعْجَبٌ، وَلَك مُحِبٌّ، وَفِيك رَاغِبٌ. وَهَذَا عِنْدِي أَقْوَى التَّعْرِيضِ، وَأَقْرَبُ إلَى التَّصْرِيحِ.
وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنْ يَقُولَ لَهَا : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَائِقٌ إلَيْك خَيْرًا، وَأَبْشِرِي وَأَنْتِ نَافِقَةٌ. فَإِنْ قَالَ لَهَا أَكْثَرَ فَهُوَ إلَى التَّصْرِيحِ أَقْرَبُ.
أَلَا تَرَى إلَى مَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، وَإِلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا إذَا ذَكَرَهَا لِأَجْنَبِيٍّ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا حَرَجَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فِي أَنْ يَقُولَ : إنَّ فُلَانًا يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجُك إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ.
وَهَذَا التَّعْرِيضُ وَنَحْوُهُ مِنْ الذَّرَائِعِ الْمُبَاحَةِ ؛ إذْ لَيْسَ كُلُّ ذَرِيعَةٍ مَحْظُورًا، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْحَظْرِ الذَّرِيعَةُ فِي بَابِ الرِّبَا، لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ وَكُلُّ ذَرِيعَةٍ رِيبَةٌ ؛ وَذَلِكَ لِعَظِيمِ حُرْمَةِ الرِّبَا وَشِدَّةِ الْوَعِيدِ فِيهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَرَجَ فِي التَّعْرِيضِ فِي النِّكَاحِ قَالَ عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ التَّعْرِيضَ فِي النِّكَاحِ مَقَامَ التَّصْرِيحِ ؛ فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ. وَهَذَا سَاقِطٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي التَّصْرِيحِ فِي النِّكَاحِ بِالْخُطْبَةِ، وَأَذِنَ فِي التَّعْرِيضِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ النِّكَاحُ ؛ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِهِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَذْفُ، وَالْأَعْرَاضُ يَجِبُ صِيَانَتُهَا كَمَا تَجِبُ صِيَانَةُ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ حَدَّ الْمُعَرِّضِ، لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ الْفَسَقَةُ إلَى أَخْذِ الْأَعْرَاضِ بِالتَّعْرِيضِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ بِالتَّصْرِيحِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ ﴾ يَعْنِي : سَتَرْتُمْ وَأَخْفَيْتُمْ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ ذِكْرِهِنَّ، وَالْعَزِيمَةِ عَلَى نِكَاحِهِنَّ ؛ فَرَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَرَجَ فِي ذَلِكَ ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ تَفَضُّلًا مِنْهُ حِينَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِنَّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ :﴿ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا ﴾.
الْمَعْنَى قَدْ مُنِعْتُمْ التَّصْرِيحَ بِالنِّكَاحِ وَعَقْدِهِ، وَأُذِنَ لَكُمْ فِي التَّعْرِيضِ ؛ فَإِيَّاكُمْ أَنْ يَقَعَ بَيْنَكُمْ مُوَاعَدَةٌ فِي النِّكَاحِ، حِينَ مُنِعْتُمْ الْعَقْدَ فِيهِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السِّرِّ الْمُرَادِ هَاهُنَا عَلَى ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الزِّنَا. الثَّانِي : الْجِمَاعُ. الثَّالِثُ : التَّصْرِيحُ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ الزِّنَا ؛ لِقَوْلِ الْأَعْشَى :
فَلَا تَقْرَبَنَّ جَارَةً إنَّ سِرَّهَا عَلَيْك حَرَامٌ فَانْكِحْنَ أَوْ تَأَبَّدَا
وَالسِّرُّ فِي اللُّغَةِ يَتَصَرَّفُ عَلَى مَعَانٍ :
أَحَدُهَا : مَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي سِرِّهِ وَأَخْفَى مِنْهُ مَا أَضْمَرَ.
الثَّانِي : سِرُّ الْوَادِي ؛ أَيْ شَطُّهُ.
الثَّالِثُ : سِرُّ الشَّيْءِ : خِيَارُهُ.
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الزِّنَا.
الْخَامِسُ : أَنَّهُ الْجِمَاعُ.
السَّادِسُ : أَنَّهُ فَرْجُ الْمَرْأَةِ.
السَّابِعُ : سَرَرَ الشَّهْرُ : مَا اُسْتُسِرَّ الْهِلَالُ فِيهِ مِنْ لَيَالِيِهِ.
وَهَذِهِ الْإِطْلَاقَاتُ يَدْخُلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَيَرْجِعُ الْمَعْنَى إلَى الْخَفَاءِ، فَيَعُمُّ بِهِ تَارَةً وَيَخُصُّ أُخْرَى، وَتَرَى سِرَّ الشَّيْءِ خِيَارَهُ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّهُ يُخْفَى وَيُضَنُّ بِهِ، وَتَرَى أَنَّ سِرَّ الْوَادِيَ شَطَّهُ ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُهُ ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الْوَادِي إنَّمَا يَكُونُ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ لَا فِيهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ السُّرِّيَّةُ لِأَنَّهَا تُتَّخَذُ لِلْوَطْءِ، إذْ الْخَدَمُ يُتَّخَذُونَ لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَطْءِ، فَسُمِّيَتْ الْمُتَّخَذَةُ لِلْوَطْءِ سَرِيَّةً مِنْ السُّرُورِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ فَرْجُ الْمَرْأَةِ سِرًّا لِأَنَّهُ مَوْضِعُهُ.
فَالْمَعْنَى هَاهُنَا : لَا تُوَاعِدُوهُنَّ نِكَاحًا وَلَا وَطْئًا، فَهُوَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الْعِدَّةِ، لِأَنَّهُ حُرِّمَ عَلَيْهِنَّ النِّكَاحُ فِي الْعِدَّةِ إلَى وَقْتٍ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِنَّ ضَرْبُ الْوَعْدِ فِيهِ ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا حُرِّمَ الْوَعْدُ فِي الْعِدَّةِ بِالنِّكَاحِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ الْوَعْدِ فِي التَّقَابُضِ فِي الصَّرْفِ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ إلَى وَقْتٍ يَجُوزُ فِيهِ التَّقَابُضُ. وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ اسْتَنْظَرَك إلَى أَنْ يَلِجَ بَيْتَهُ فَلَا تُنْظِرْهُ ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ، فَإِنَّ الرِّبَا مِثْلُ الْفَرْجِ فِي التَّحْرِيمِ، وَهَذَا بَيِّنٌ عِنْد التَّأَمُّلِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ وَهُوَ التَّعْرِيضُ الْجَائِزُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾.
فَهَذِهِ عَامَّةٌ لِلْبَيَانِ أَيْ لَا تُوَاعِدُوا نِكَاحًا، وَلَا تَعْقِدُوهُ، حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : لَوْ وَاعَدَ فِي الْعِدَّةِ وَنَكَحَ بَعْدَهَا اسْتَحَبَّ لَهُ مَالِكٌ الْفِرَاقُ بِطَلْقَةٍ تَوَرُّعًا، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ خِطْبَتَهَا، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ أَشْهَبُ الْفِرَاقُ ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إذَا نَكَحَ فِي الْعِدَّةِ وَبَنَى فَسَخَ وَلَمْ يَنْكِحْهَا أَبَدًا قَالَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّعْبِيُّ، وَبِهِ قَضَى عُمَرُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَلَّ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فَحُرِمَهُ، ك
الآية الرابعة والسبعون : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ :
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَقْدِيرِهَا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَعْنَاهَا لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ الْمَفْرُوضَ لَهُنَّ الصَّدَاقُ مِنْ قَبْلِ الدُّخُولِ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَغَيْرَ الْمَفْرُوضِ لَهُنَّ قَبْلَ الْفَرْضِ ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَاخْتَارَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَعْنَاهَا إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، وَتَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ.
الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَرَضْتُمْ أَوْ لَمْ تَفْرِضُوا.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَرْجِعُ إلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ. الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تُقَدَّرُ بِهِ الْآيَةُ، وَتَبْقَى أَوْ عَلَى بَابِهَا، وَتَكُونُ بِمَعْنَى التَّفْصِيلِ وَالتَّقْسِيمِ وَالْبَيَانِ، وَلَا تَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْوَاوِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ﴾ فَإِنَّهَا لِلتَّفْصِيلِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ : إنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ بِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْمَفْرُوضَ لَهُنَّ، فَقَالَ تَعَالَى :﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾ فَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ لِبَيَانِ طَلَاقِ الْمَفْرُوضِ لَهُنَّ قَبْلَ الْمَسِيسِ لَمَا كَرَّرَهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " ذَلِكَ.
وَلَا فَرْقَ فِي قَانُونِ الْعَرَبِيَّةِ بَيْنَ تَقْدِيرِ حَذْفٍ، أَوْ تَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ تَتَمَيَّزُ بِذَلِكَ، وَالْأَحْكَامُ تَتَفَصَّلُ، فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ الَّتِي لَمْ تُمَسَّ، وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ :
الْأَوَّلُ : مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِّ وَبَعْدَ الْفَرْضِ.
الثَّانِي : مُطَلَّقَةٌ بَعْدَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ.
الثَّالِثُ : مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَبَعْدَ الْفَرْضِ.
الرَّابِعُ : مُطَلَّقَةٌ بَعْدَ الْمَسِّ، وَقَبْلَ الْفَرْضِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُتْعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ دَائِرَةٍ مَعَ الْأَرْبَعَةِ الْأَقْسَامِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْحُكْمِ إلَّا قِسْمَيْنِ : مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِّ وَقَبْلَ الْفَرْضِ، وَمُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِّ وَبَعْدَ الْفَرْضِ ؛ فَجَعَلَ لِلْأُولَى الْمُتْعَةَ، وَجَعَلَ لِلثَّانِيَةِ نِصْفَ الصَّدَاقِ، وَآلَتْ الْحَالُ إلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبَيِّنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وُجُوبَهَا إلَّا لِمُطَلَّقَةٍ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ. وَأَمَّا مَنْ طَلُقَتْ وَقَدْ فُرِضَ لَهَا فَلَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ نِصْفُ الْفَرْضِ، وَلَهَا بَعْدَ الْمَسِيسِ جَمِيعُ الْفَرْضِ أَوْ مَهْرُ مِثْلِهَا.
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَابَلَ الْمَسِيسَ بِالْمَهْرِ الْوَاجِبِ وَنِصْفَهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، لِمَا لَحِقَ الزَّوْجَةَ مِنْ رَحْضِ الْعَقْدِ، وَوَصْمِ الْحِلِّ الْحَاصِلِ لِلزَّوْجِ بِالْعَقْدِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ أَلْزَمَهُ اللَّهُ الْمُتْعَةَ كُفُؤًا لِهَذَا الْمَعْنَى ؛ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَآهَا وَاجِبَةً لِظَاهِرِ الْأَمْرِ بِهَا، وَلِلْمَعْنَى الَّذِي أَبْرَزْنَاهُ من الْحِكْمَةِ فِيهَا. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُقَدِّرْهَا، وَإِنَّمَا وَكَّلَهَا إلَى اجْتِهَادِ الْمُقَدِّرِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَكَّلَ التَّقْدِيرَ فِي النَّفَقَةِ إلَى الِاجْتِهَادِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ، فَقَالَ :«عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ».
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِيهَا :﴿ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَطْلَقَهَا عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ؛ فَتَعْلِيقُهَا بِالْإِحْسَانِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَبِالتَّقَوِّي وَهُوَ مَعْنًى خَفِيٌّ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا اسْتِحْبَابٌ، يُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي الْعَفْوِ عَنِ الصَّدَاقِ :﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ فَأَضَافَهُ إلَى التَّقْوَى وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ لِلتَّقْوَى أَقْسَامًا بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْفُقَرَاءِ ؛ وَمِنْهَا وَاجِبٌ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ؛ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ تَعَالَى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ فَذَكَرَهَا لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ ؟ قُلْنَا : عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَتَاعَ هُوَ كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَمَنْ كَانَ لَهَا مَهْرٌ فَمَتَاعُهَا مَهْرُهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَهْرٌ فَمَتَاعُهَا مَا تَقَدَّمَ.
الثَّانِي : أَنَّ إحْدَى الْآيَتَيْنِ حَقِيقَةٌ دُونَ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّبْعُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾.
فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذَا الْقِسْمُ هُوَ أَحَدُ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَبَعْدَ الْفَرْضِ، فَلَهَا نِصْفُ الْمَفْرُوضِ وَاجِبًا، كَمَا أَنَّ لِلْمُتَقَدِّمَةِ الْمُتْعَةَ مُسْتَحَبَّةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الْمَسِيسِ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَإِنْ خَلَا بِهَا، وَلَا تَضُرُّ الْخَلْوَةُ بِالْمَهْرِ، إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَسِيسٌ فِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ ؛ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ : الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَا وَقَبَّلَ وَلَمَسَ قُلْتُمْ لَا يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ.
قُلْنَا : الْمَسِيسُ هَاهُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْوَطْءِ بِإِجْمَاعٍ ؛ لِأَنَّ عِنْدَكُمْ أَنَّهُ لَوْ خَلَا وَلَمْ يَلْمِسْ وَلَا قَبَّلَ يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا مَسٌّ وَلَا وَطْءٌ ؛ وَهَذَا خِلَافُ الْآيَةِ وَمُرَاغَمَةُ الظَّاهِرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَمَّا قَسَّمَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الْمُطَلَّقَةِ إلَى قِسْمَيْنِ ؛ مُطَلَّقَةٌ سُمِّيَ لَهَا فَرْضٌ، وَمُطَلَّقَةٌ لَمْ يُسَمَّ لَهَا فَرْضٌ دَلَّ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ التَّفْوِيضِ جَائِزٌ، وَهُوَ كُلُّ نِكَاحٍ عُقِدَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الصَّدَاقِ ؛ وَلَا خِلَافَ فِيهِ ؛ وَيُفْرَضُ بَعْدَ ذَلِكَ الصَّدَاقُ. فَإِنْ فُرِضَ الْتَحَقَ بِالْعَقْدِ وَجَازَ، وَإِنْ لَمْ يُفْرَضْ لَهَا وَكَانَ الطَّلَاقُ لَمْ يَجِبْ صَدَاقٌ إجْمَاعًا، وَإِنْ فُرِضَ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَقَبْلَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾ وَخِلَافُ الْقِيَاسِ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ الْفَرْضَ بَعْدَ الْعَقْدِ يَلْحَقُ بِالْعَقْدِ ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّفَ بِالطَّلَاقِ أَصْلُهُ الْفَرْضُ الْمُقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنْ وَقَعَ الْمَوْتُ قَبْلَ الْفَرْضِ فَقَالَ مَالِكٌ : لَهَا الْمِيرَاثُ دُونَ الصَّدَاقِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالُوا : يَجِبُ لَهَا الصَّدَاقُ وَالْمِيرَاثُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ النَّسَائِيّ، وَأَبُو دَاوُد «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وَقَدْ مَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ لَهَا بِالْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ وَالْعِدَّةِ »، وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ رَاوِيَهُ مَجْهُولٌ ؛ وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ فِرَاقٌ فِي نِكَاحٍ قَبْلَ الْفَرْضِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ صَدَاقٌ أَصْلُهُ الطَّلَاقُ، وَقَدْ خَرَّجَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ أَبُو عِيسَى، وَقَالَ : حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾.
الْوَاجِبُ لَهُنَّ من الصَّدَاقِ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُنَّ فِي إسْقَاطِهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ ؛ إذْ جَعَلَهُ خَالِصَ حَقِّهِنَّ يَتَصَرَّفْنَ بِالْإِمْضَاءِ وَالْإِسْقَاطِ كَيْفَ شِئْنَ إذَا مَلَكْنَ أَمْرَ أَنْفُسِهِنَّ فِي الْأَمْوَالِ وَرَشَدْنَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ :﴿ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾.
وَهِيَ مُعْضِلَةٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا : فَقِيلَ : هُوَ الزَّوْجُ ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ وَشُرَيْحٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَمُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْوَلِيُّ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَرَبِيعَةُ، وَعَلْقَمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَشُرَيْحٌ الْكِنْدِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الزَّوْجُ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، لُبَابُهَا ثَلَاثَةٌ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الصَّدَاقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرًا مُجْمَلًا من الزَّوْجَيْنِ، فَحُمِلَ عَلَى الْمُفَسَّرِ فِي غَيْرِهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ﴾ فَأَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِلزَّوْجِ فِي قَبُولِ الصَّدَاقِ إذَا طَابَتْ نَفْسُ الْمَرْأَةِ بِتَرْكِهِ.
وَقَالَ أَيْضًا :﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ إلى آخرها. فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى الزَّوْجَ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّا أَتَى الْمَرْأَةَ إنْ أَرَادَ طَلَاقَهَا.
الثَّانِي : قَوْله تَعَالَى :﴿ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ ﴾.
يَعْنِي النِّسَاءَ، أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ : يَعْنِي الزَّوْجَ، مَعْنَاهُ يَبْذُلُ جَمِيعَ الصَّدَاقِ، يُقَالُ : عَفَا بِمَعْنَى بَذَلَ، كَمَا يُقَالُ : عَفَا بِمَعْنَى أَسْقَطَ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ وَحِكْمَتُهُ : أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَسْقَطَتْ مَا وَجَبَ لَهَا مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ تَقُولُ هِيَ : لَمْ يَنَلْ مِنِّي شَيْئًا وَلَا أَدْرَكَ مَا بَذَلَ فِيهِ هَذَا الْمَالَ بِإِسْقَاطِهِ، وَقَدْ وَجَبَ إبْقَاءً لِلْمُرُوءَةِ وَاتِّقَاءً فِي الدِّيَانَةِ. وَيَقُولُ الزَّوْجُ : أَنَا أَتْرُكُ الْمَالَ لَهَا لِأَنِّي قَدْ نِلْتُ الْحِلَّ وَابْتَذَلْتُهَا بِالطَّلَاقِ فَتَرْكُهُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَأَخْلَصُ من اللَّائِمَةِ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ :﴿ وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾.
وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي هِبَةِ مَالٍ لِآخَرَ فَضْلٌ ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا يَهَبُهُ الْمُفْضِلُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ حَقٌّ فِي الصَّدَاقِ.
واحْتَجَّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْوَلِيُّ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ؛ نُخْبَتُهَا أَرْبَعَةٌ :
الْأَوَّلُ : قَالُوا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ الْوَلِيُّ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ طَلَّقَ ؛ فَلَيْسَ بِيَدِهِ عُقْدَةٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾ وَهَذَا يَسْتَمِرُّ مَعَ الشَّافِعِيِّ دُونَ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي لَا يَرَى عُقْدَةَ النِّكَاحِ لِلْوَلِيِّ.
الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْأَزْوَاجَ لَقَالَ : إلَّا أَنْ تَعْفُوا أَوْ تَعْفُونَ، فَلَمَّا عَدَلَ مِنْ مُخَاطَبَةِ الْحَاضِرِ الْمَبْدُوءِ بِهِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ إلَى لَفْظِ الْغَائِبِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُهُ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ :﴿ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ ﴾ يَعْنِي يُسْقِطْنَ. وقَوْله تَعَالَى :﴿ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِسْقَاطُ فِيهِ إلَّا من الْوَلِيِّ ؛ فَيَكُونُ مَعْنَى اللَّفْظِ الثَّانِي هُوَ مَعْنَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ أَنْظَمُ لِلْكَلَامِ.
الرَّابِعُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ :﴿ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ ﴾ يَعْنِي يُسْقِطْنَ، أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ يَعْنِي يُسْقِطُ ؛ فَيَرْجِعُ الْقَوْلُ إلَى النِّصْفِ الْوَاجِبِ بِالطَّلَاقِ الَّذِي تُسْقِطُهُ الْمَرْأَةُ، فَأَمَّا النِّصْفُ الَّذِي لَمْ يَجِبْ فَلَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فِي الْمُخْتَارِ :
وَاَلَّذِي تَحَقَّقَ عِنْدِي بَعْدَ الْبَحْثِ وَالسَّبْرِ أَنَّ الْأَظْهَرَ هُوَ الْوَلِيُّ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ :﴿ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ﴾ إلَى قَوْله تَعَالَى :﴿ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾ فَذَكَرَ الْأَزْوَاجَ وَخَاطَبَهُمْ بِهَذَا الْخِطَابِ، ثُمَّ قَالَ :﴿ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ ﴾ فَذَكَرَ النِّسْوَانَ ﴿ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ فَهَذَا ثَالِثٌ ؛ فَلَا يُرَدُّ إلَى الزَّوْجِ الْمُتَقَدِّمِ إلَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ وُجُودٌ، وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ الْوَلِيُّ، فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ هَذَا إسْقَاطُ التَّقْدِيرِ بِجَعْلِ الثَّلَاثِ اثْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :﴿ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّ الزَّوْجَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ لِنَفْسِهِ، وَالْوَلِيُّ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ لِوَلِيَّتِهِ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الَّذِي يُبَاشِرُ الْعَقْدَ الْوَلِيُّ ؛ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أُصُولُ الْعَفْوِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا قَبْلُ، وَشَرَحْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
فَقَدْ ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْوَلِيَّ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، فَهُوَ الْمُرَادُ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَتَرَاضَيَانِ فَلَا يَنْعَقِدُ لَهُمَا أَمْرٌ إلَّا بِالْوَلِيِّ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُقُودِ، فَإِنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَسْتَقِلَّانِ بِعَقْدِهِمَا.
الثَّ
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالسَّبْعُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾.
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى ﴿ حَافِظُوا ﴾.
الْمُحَافَظَةُ : هِيَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالْمُوَاظَبَةُ، وَذَلِكَ بِالتَّمَادِي عَلَى فِعْلِهَا، وَالِاحْتِرَاسُ مِنْ تَضْيِيعِهَا، أَوْ تَضْيِيعِ بَعْضِهَا.
وَحِفْظُ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ مُرَاعَاةُ أَجْزَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمِنْهُ كِتَابُ عُمَرَ : مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، فَيَجِبُ أَوَّلًا حِفْظُهَا ثُمَّ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا، بِذَلِكَ يَتِمُّ الدِّينُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَا شَكَّ فِي انْتِظَامِ قَوْله تَعَالَى " الصَّلَوَاتِ " لِلصَّلَاةِ الْوُسْطَى لَكِنَّهُ خَصَّصَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِهَا فِي جِنْسِهَا وَمِقْدَارِهَا فِي أَخَوَاتِهَا. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِ الْمَلَكَيْنِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴾ تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِ الزِّيَادَةِ فِي مِقْدَارِهِمَا بَيْنَ الْفَاكِهَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي مَعْنَى تَسْمِيَتِهَا وُسْطَى :
وَفِي ذَلِكَ احْتِمَالَاتٌ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا وُسْطَى مِنَ الْوَسَطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ وَالْخِيَارُ وَالْفَضْلُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ وقَوْله تَعَالَى :﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ﴾ يَعْنِي : الْأَفْضَلَ فِي الْآيَتَيْنِ.
الثَّانِي : أَنَّهَا وَسَطٌ فِي الْعَدَدِ ؛ لِأَنَّهَا خَمْسُ صَلَوَاتٍ تَكْتَنِفُهَا اثْنَتَانِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. الثَّالِثُ : أَنَّهَا وَسَطٌ مِنَ الْوَقْتِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ مَالِكٌ : الصُّبْحُ هِيَ الْوُسْطَى ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي النَّهَارِ، وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فِي اللَّيْلِ، وَالصُّبْحُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَهِيَ أَقَلُّ الصَّلَوَاتِ قَدْرًا.
وَالظُّهْرُ وَالْعَصْرُ تُجْمَعَانِ، وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ تُجْمَعَانِ، وَلَا تُجْمَعُ الصُّبْحُ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَهِيَ كَثِيرًا مَا تَفُوتُ النَّاسَ وَيَنَامُونَ عَنْهَا، وَقَالَ نَحْوَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي تَوَسُّطِ الْوَقْتِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا الْوُسْطَى ؛ لِأَنَّهَا تُصَلَّى فِي سَوَادٍ مِنَ اللَّيْلِ وَبَيَاضٍ مِنَ النَّهَارِ، وَكَثِيرًا مَا تَفُوتُ النَّاسَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا : وَقَدْ قُنِتَ فِي الصُّبْحِ : هَذِهِ هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي تَحْقِيقِهَا : يَبْعُدُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ تُسَمَّى وُسْطَى بِعَدَدٍ أَوْ وَقْتٍ وَمَا الْعَدَدُ وَالزَّمَانُ مِنَ الْحَظِّ فِي الْوَسَطِ وَالتَّخْصِيصِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ اللَّبِيبُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُبْدِئَ فِي ذَلِكَ وَيُعِيدَ، إلَّا أَنَّهُ تَكَلُّفٌ، وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ﴾ مَعْنَاهُ لِفَضْلِهِنَّ، وَخُصُّوا الْفُضْلَى مِنْهُنَّ بِزِيَادَةِ مُحَافَظَةٍ أَيْ الزَّائِدَةَ الْفَضْلِ، وَتَعْيِينُهَا مُتَعَذَّرٌ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا الظُّهْرُ ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ.
الثَّانِي : أَنَّهَا الْعَصْرُ قَالهَ عَلِيٌّ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ.
الثَّالِثُ : الْمَغْرِبُ ؛ قَالَهُ الْبَرَاءُ.
الرَّابِعُ : أَنَّهَا الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ.
الْخَامِسُ : أَنَّهَا الصُّبْحُ ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ عَلِيٍّ.
السَّادِسُ : أَنَّهَا الْجُمُعَةُ.
السَّابِعُ : أَنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ.
وَكُلُّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُسْتَنِدٌ إلَى مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِالدَّلِيلِ :
أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا الظُّهْرُ، فَلِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ فُرِضَتْ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا الْعَصْرُ، فَتَعَلَّقَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :«شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا ».
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا الْمَغْرِبُ ؛ فَلِأَنَّهَا وِتْرٌ بَيْنَ أَشْفَاعٍ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : الْعِشَاءُ ؛ فَلِأَنَّهَا وُسْطَى صَلَاةِ اللَّيْلِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا الصُّبْحُ ؛ فَلِأَنَّهَا فِي وَقْتٍ مُتَوَسِّطٍ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ غَيْرُهُمَا : هِيَ مَشْهُودَةٌ، وَالْعَصْرُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا فَتَزِيدُ الصُّبْحُ عَلَيْهَا بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ. وَالثَّانِي : أَنَّ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَائِشَةَ :«حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ». وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى غَيْرُ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَيُعَارِضُ حَدِيثَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهَا كَانَتْ وُسْطَى بَيْنَ مَا فَاتَ وَبَقِيَ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : الْجُمُعَةُ : فَلِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِشُرُوطٍ زَائِدَةٍ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شَرَفِهَا وَفَضْلِهَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، فَلِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ خَبَّأَهَا فِي الصَّلَوَاتِ كَمَا خَبَّأَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ، وَخَبَّأَ السَّاعَةَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَخَبَّأَ الْكَبَائِرَ فِي السَّيِّئَاتِ ؛ لِيُحَافِظَ الْخَلْقُ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَيَقُومُوا جَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَيَلْزَمُوا الذِّكْرَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ كُلِّهِ، وَيَجْتَنِبُوا جَمِيعَ الْكَبَائِرِ وَالسَّيِّئَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ ؛ وَهِيَ الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ : إنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّ الْوَسَطَ إنَّمَا يُعَدُّ فِي عَدَدٍ وِتْرٍ ؛ لِيَكُونَ الْوَسَطُ شَفْعًا يُحِيطُ بِهِ مِنْ جَانِبَيْهِ ؛ وَإِذَا عُدَّتْ الصَّلَوَاتُ الْوَاجِبَاتُ سِتًّا لَمْ تَكُنْ الْوَاحِدَةُ وَسَطًا ؛ لِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ جِهَةٍ، وَبَيْنَ ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ مِنْ أُخْرَى، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَسَطَ مُعْتَبَرٌ بِالْعَدَدِ أَوْ بِالْوَقْتِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِهِ دَلِيلٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾.
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْقُنُوتَ يَرِدُ عَلَى مَعَانٍ، أُمَّهَاتُهَا أَرْبَعٌ :
الْأَوَّلُ : الطَّاعَةُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي : الْقِيَامُ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَرَأَ :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا ﴾.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ ».
الثَّالِثُ : إنَّهُ السُّكُوتُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَفِي الصَّحِيحِ قَالَ زَيْدٌ :" كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ :﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ.
الرَّابِعُ : أَنَّ الْقُنُوتَ الْخُشُوعُ.
وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مُرَادًا ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافُرَ فِيهِ إلَّا الْقِيَامُ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ : وَقُومُوا لِلَّهِ قَائِمِينَ، إلَّا عَلَى تَكَلُّفٍ. وَقَدْ صَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ الصُّبْحَ وَقَنَتَ فِيهَا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ : هَذِهِ هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى، وَقَرَأَ الْآيَةَ إلَى قَوْله تَعَالَى :﴿ قَانِتِينَ ﴾.
وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ؛ لِأَنَّهَا نَصٌّ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مُحْتَمَلٍ سِوَاهَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُنُوتِ هَاهُنَا السُّكُوتُ، فَإِذَا تَكَلَّمَ الْمُصَلِّي فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَكَلَّمَهَا سَاهِيًا أَوْ عَامِدًا، فَإِنْ تَكَلَّمَ سَاهِيًا لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الصَّلَاةِ وَلَا زَالَ عَنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّ السَّهْوَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ ؛ وَهَذَا قَوِيٌّ جِدًّا.
وَقَدْ عَارَضَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْفِطْرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الصَّوْمِ إذَا وَقَعَ سَهْوًا أَبْطَلَهُ، فَيُنْتَقَضُ هَذَا الْأَصْلُ. فَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْفِطْرَ ضِدُّ الصَّوْمِ، وَإِذَا وُجِدَ ضِدُّ الْعِبَادَةِ أَبْطَلَهَا، كَانَ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا كَالْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ مَحْظُورٌ غَيْرُ مُضَادٍّ، فَكَانَ ذَلِكَ مُعَلَّقًا بِالْقَصْدِ، وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " تَلْخِيصِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ". وَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا، فَإِنْ كَانَ عَابِثًا أَبْطَلَ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ لِإِصْلَاحِهَا كَتَنْبِيهِ الْإِمَامِ جَازَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ الْمَشْهُورُ الصَّحِيحُ :«تَكَلَّمُوا فِيهِ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ فَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُمْ ». وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ فَفِيهِ الشِّفَاءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالسَّبْعُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ﴾.
أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ، وَحَضَرٍ وَسَفَرٍ، وَقُدْرَةٍ وَعَجْزٍ، وَخَوْفٍ وَأَمْنٍ، لَا تَسْقُطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِحَالٍ، وَلَا يَتَطَرَّقُ إلَى فَرْضِيَّتِهَا اخْتِلَالٌ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ ».
وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ فِي حَالِ الْخَوْفِ :«فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ صَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا ».
وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفَ مِرَارًا مُتَعَدِّدَةً بِصِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَفْعَلَ الصَّلَاةَ كَيْفَمَا أَمْكَنَ، وَلَا تَسْقُطُ بِحَالٍ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَّفِقْ فِعْلُهَا إلَّا بِالْإِشَارَةِ بِالْعَيْنِ لَلَزِمَ فِعْلُهَا ؛ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَرَكَةِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى تَمَيَّزَتْ عَنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ، وَيُتَرَخَّصُ فِيهَا بِالرُّخَصِ الضَّعِيفَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عُظْمَى : إنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ الْإِيمَانَ الَّذِي لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ. وَقَالُوا فِيهَا : إحْدَى دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا بِبَدَنٍ وَلَا مَالٍ، يُقْتَلُ تَارِكُهَا، وَأَصْلُهُ الشَّهَادَتَانِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ الْقِتَالَ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ الرَّدَّ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ.
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالسَّبْعُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمَّا سُلِّطَ عَلَيْهِمْ رِجْزُ الطَّاعُونِ، وَمَاتَ مِنْهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ، خَرَجُوا هَارِبِينَ مِنَ الْمَوْتِ، فَأَمَاتَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مُدَّةً، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ آيَةً، وَمِيتَةُ الْعُقُوبَةِ بَعْدَهَا حَيَاةٌ، وَمِيتَةُ الْأَجَلِ لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا.
الثَّانِي : رُوِيَ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ فَتَرَكُوهُ وَخَرَجُوا فَارِّينَ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْأَصَحُّ وَالْأَشْهَرُ أَنَّ خُرُوجَهُمْ إنَّمَا كَانَ فِرَارًا مِنَ الطَّاعُونِ، وَهَذَا حُكْمٌ بَاقٍ فِي مِلَّتِنَا لَمْ يَتَغَيَّرْ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :«إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ ».
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ : أَمَّا الدُّخُولُ فَفِيهِ الْخِلَافُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا فِيهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْبَلَاءِ ؛ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ صِيَانَةَ النَّفْسِ عَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ مَخُوفٍ وَاجِبٌ.
الثَّانِي : إنَّمَا نَهَى عَنْ دُخُولِهِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عَنْ مُهِمَّاتِ دِينِهِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْكَرْبِ وَالْخَوْفِ، بِمَا يُرَى مِنْ عُمُومِ الْآلَامِ وَشُمُولِ الْأَسْقَامِ.
الثَّالِثُ : مَا يُخَافُ مِنَ السَّخَطِ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِهِ، وَذَهَابِ الصَّبْرِ عَلَى مَا يَنْزِلُ مِنَ الْقَضَاءِ. الرَّابِعُ : مَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الِاعْتِقَادِ، كَأَنْ يَقُولَ : لَوْلَا دُخُولِي فِي هَذَا الْبَلَدِ لَمَا نَزَلَ بِي مَكْرُوهٌ.
وَأَمَّا الْخُرُوجُ فَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْمَرْضَى مُهْمَلِينَ مَعَ مَا يَنْتَظِمُ بِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالسَّبْعُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.
قَالَ قَوْمٌ مِنْ عُلَمَائِنَا : هَذِهِ الْآيَةُ مُجْمَلَةٌ وَهُوَ خَطَأٌ ؛ بَلْ هِيَ عَامَّةٌ. قَالَ مَالِكٌ : سُبُلُ اللَّهِ كَثِيرَةٌ.
قَالَ الْقَاضِي : مَا مِنْ سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا يُقَاتَلُ عَلَيْهَا وَفِيهَا، وَأَوَّلُهَا وَأَعْظَمُهَا دِينُ الْإِسْلَامِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ :﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾ وَزَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَامًا فَقَالَ :«مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ».
وَبَعْدَ هَذَا فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ إلَّا يَجُوزُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ وَعَنْهُ، فَقَدْ صَحَّ الْعُمُومُ وَظَهَرَ تَأْكِيدُ التَّخْصِيصِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَمَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ ؟ قُلْنَا : هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ».
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ ثَمَانِينَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاَللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْقَرْضُ فِي اللُّغَةِ : الْقَطْعُ، وَالْمَعْنَى مَنْ يَقْطَعُ اللَّهَ جُزْءًا مِنْ مَالِهِ فَيُضَاعَفُ لَهُ ثَوَابُهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، إلَّا أَنَّهُ فِي الشَّرْعِ مَخْصُوصٌ بِالسَّلَفِ عَلَى عَادَةِ الشَّرْعِ فِي أَنْ يَجْرِيَ عَلَى أُسْلُوبِ اللُّغَةِ فِي تَخْصِيصِ الِاسْمِ بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ، كَمَا أَنَّ الْقِرَاضَ مَخْصُوصٌ بِالْمُضَارَبَةِ ؛ كَأَنَّ هَذَا سَلَفُ مَالِهِ، وَهَذَا سَلَفُ عَمَلِهِ فَصَارَا مُتَسَالِفَيْنِ، فَسُمِّيَ قِرَاضًا، وَقِيلَ مُتَقَارِضَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَعْرِضِ النَّدْبِ وَالتَّحْضِيضِ عَلَى إنْفَاقِ الْمَالِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْفُقَرَاءِ الْمُحْتَاجِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنُصْرَةِ الدِّينِ، وَكَنَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنِ الْفَقِيرِ بِنَفْسِهِ الْعَلِيَّةِ الْمُنَزَّهَةِ عَنِ الْحَاجَاتِ تَرْغِيبًا فِي الصَّدَقَةِ، كَمَا كَنَّى عَنِ الْمَرِيضِ وَالْجَائِعِ وَالْعَاطِشِ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي، يَقُولُ : وَكَيْفَ تَمْرَضُ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ : مَرِضَ عَبْدِي فُلَانٌ وَلَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ، وَيَقُولُ : جَاعَ عَبْدِي فُلَانٌ وَلَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ، وَيَقُولُ : عَطِشَ عَبْدِي فُلَانٌ وَلَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ ».
وَهَذَا كُلُّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّشْرِيفِ لِمَنْ كَنَّى عَنْهُ تَرْغِيبًا لِمَنْ خُوطِبَ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ قَوْمٌ : الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَهَا :﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ فَهَذَا الْجِهَادُ بِالْبَدَنِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ :﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾ فَهَذَا الْجِهَادُ بِالْمَالِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا ».
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مَا قَالَهُ الْحَسَنُ مِنْ أَنَّهُ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ كُلِّهَا وَلَا يَرُدُّ عُمُومَهُ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ ذِكْرِ الْجِهَادِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : انْقَسَمَ الْخَلْقُ بِحُكْمِ الْخَالِقِ وَحِكْمَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ حِينَ سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ أَقْسَامًا وَتَفَرَّقُوا فِرَقًا ثَلَاثَةً :
الْفِرْقَةُ الْأُولَى : الرَّذْلَى ؛ قَالُوا : إنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ إلَيْنَا، وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ؛ وَهَذِهِ جَهَالَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ :﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا ﴾ ؛ وَالْعَجَبُ مِنْ مُعَانَدَتِهِمْ مَعَ خِذْلَانِهِمْ ؛ وَفِي التَّوْرَاةِ نَظِيرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ.
الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ : لَمَّا سَمِعَتْ هَذَا الْقَوْلَ آثَرَتْ الشُّحَّ وَالْبُخْلَ، وَقَدَّمَتْ الرَّغْبَةَ فِي الْمَالِ ؛ فَمَا أَنْفَقَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا فَكَّتْ أَسِيرًا، وَلَا أَغَاثَتْ أَحَدًا، تَكَاسُلًا عَنِ الطَّاعَةِ وَرُكُونًا إلَى هَذِهِ الدَّارِ.
الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ : لَمَّا سَمِعَتْ بَادَرَتْ إلَى امْتِثَالِهِ، وَآثَرَ الْمُجِيبُ مِنْهُمْ بِسُرْعَةٍ بِمَالِهِ، أَوَّلُهُمْ أَبُو الدَّحْدَاحِ لَمَّا سَمِعَ هَذَا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؛ أَلَا أَرَى رَبَّنَا يَسْتَقْرِضُ مِمَّا أَعْطَانَا لِأَنْفُسِنَا، وَلِي أَرْضَانِ : أَرْضٌ بِالْعَالِيَةِ وَأَرْضٌ بِالسَّافِلَةِ، وَقَدْ جَعَلْت خَيْرَهُمَا صَدَقَةً. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :﴿ كَمْ عَذْقٍ مُذَلَّلٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ ﴾. فَانْظُرُوا إلَى حُسْنِ فَهْمِهِ فِي قَوْلِهِ : يَسْتَقْرِضُ مِمَّا أَعْطَانَا لِأَنْفُسِنَا، وَجُودِهِ بِخَيْرِ مَالِهِ وَأَفْضَلِهِ ؛ فَطُوبَى لَهُ، طُوبَى لَهُ، ثُمَّ طُوبَى لَهُ، ثُمَّ طُوبَى لَهُ !
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : الْقَرْضُ يَكُونُ مِنَ الْمَالِ وَيَكُونُ مِنَ الْعِرْضِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْهُورِ الْآثَارِ :«أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ، كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي قَدْ تَصَدَّقْت بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِك ».
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَقْرِضْ مِنْ عِرْضِك لِيَوْمِ فَقْرِك يَعْنِي مَنْ سَبَّك فَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ حَقًّا، وَلَا تُقِمْ عَلَيْهِ حَدًّا، حَتَّى تَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُوَفَّرَ الْأَجْرِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِالْعِرْضِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا فَاسِدٌ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ :«إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ». وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الثَّلَاثَ تَجْرِي مَجْرًى وَاحِدًا فِي كَوْنِهَا بِاحْتِرَامِهَا حَقًّا لِلْآدَمِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ.
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّمَانُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : إنَّ الْمَاءَ طَعَامٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ ﴾ وَإِذَا كَانَ طَعَامًا كَانَ قُوتًا لِبَقَائِهِ وَاقْتِيَاتِ الْبَدَنِ بِهِ ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ الرِّبَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ ؛ وَلِمَ لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا وَهُوَ أَجَلُّ الْأَقْوَاتِ، وَإِنَّمَا هَانَ لِعُمُومِ وُجُودِهِ، وَإِنَّمَا عَمَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وُجُودَهُ بِفَضْلِهِ ؛ لِعَظِيمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَمِنْ شَرَفِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ أَنَّهُ مُهَيَّأٌ مَخْلُوقٌ عَلَى صِفَةٍ لَا صَنْعَةَ لِأَحَدٍ فِيهَا لَا أَوَّلًا وَلَا آخِرًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَنْ قَالَ : إنْ شَرِبَ عَبْدِي مِنَ الْفُرَاتِ فَهُوَ حُرٌّ ؛ فَلَا يُعْتَقُ إلَّا أَنْ يَكْرَعَ فِيهِ ؛ فَإِنْ شَرِبَ بِيَدِهِ أَوْ اغْتَرَفَ بِإِنَاءٍ مِنْهُ لَمْ يُعْتَقْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ الْكَرْعِ فِي النَّهْرِ وَبَيْنَ الشُّرْبِ بِالْيَدِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ فَإِذَا أَجْرَيْنَا الْأَيْمَانَ عَلَى الْأَلْفَاظِ، وَقُلْنَا بِهِ مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ هَيْئَةٍ وَصِفَةٍ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مِنْ غَرْفٍ بِالْيَدِ أَوْ كَرْعٍ بِالْفَمِ انْطِلَاقًا وَاحِدًا، فَإِذَا وُجِدَ الشُّرْبُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لُغَةً وَحَقِيقَةً حَنِثَ فَاعِلُهُ.
وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَا لَزِمَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِعْيَارًا لِعَزَائِمِهِمْ وَإِظْهَارَ صَبْرِهِمْ فِي اللِّقَاءِ ؛ فَكَانَ مَنْ كَسَرَ شَهْوَتَهُ عَنِ الْمَاءِ، وَغَلَبَ نَفْسَهُ عَلَى الْإِمْعَانِ فِيهِ إلَّا غَرْفَةً وَاحِدَةً يُطْفِئُ بِهَا سَوْرَتَهُ، وَيُسْكِنُ غَلِيلَهُ، مَوْثُوقًا بِهِ فِي الثَّبَاتِ عِنْدَ اللِّقَاءِ فِي الْحَرْبِ وَكَسْرِ النَّفْسِ عَنِ الْفِرَارِ عَنِ الْقِتَالِ، وَبِالْعَكْسِ مَنْ كَرَعَ فِي النَّهْرِ وَاسْتَوْفَى الشُّرْبَ مِنْهُ.
وَهَذَا مَنْزَعٌ مَعْلُومٌ لَيْسَ مِنَ الْيَمِينِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدَرٍ.
الآية الثانية والثمانون قَوْله تَعَالَى :﴿ لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قِيلَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ.
الثَّانِي : أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُقَرُّونَ عَلَى الْجِزْيَةِ ؛ وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَنْ رَأَى قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْ جِنْسٍ تُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ ؛ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ إذَا لَمْ يَعِشْ لَهَا وَلَدٌ تَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إنْ عَاشَ أَنْ تُهَوِّدَهُ تَرْجُو بِهِ طُولَ عُمُرِهِ، فَلَمَّا أَجْلَى اللَّهُ تَعَالَى بَنِي النَّضِيرِ قَالُوا : كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَبْنَائِنَا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ :﴿ لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :( لَا إكْرَاهَ ) : عُمُومٌ فِي نَفْيِ إكْرَاهِ الْبَاطِلِ ؛ فَأَمَّا الْإِكْرَاهُ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ مِنَ الدِّينِ ؛ وَهَلْ يُقْتَلُ الْكَافِرُ إلَّا عَلَى الدِّينِ ؛ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ». وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾.
وَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ عَلَى ضَعْفِ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ جَازَ الْإِكْرَاهُ بِالدِّينِ عَلَى الْحَقِّ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُكْرَهِ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ مَا أَظْهَرَ.
الْجَوَابُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو الْخَلْقَ إلَيْهِ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ السَّبِيلَ، وَيُبَصِّرُهُمْ الدَّلِيلَ، وَيَحْتَمِلُ الْإِذَايَةَ وَالْهَوَانَ فِي طَرِيقِ الدَّعْوَةِ وَالتَّبْيِينِ، حَتَّى قَامَتْ حُجَّةُ اللَّهِ، وَاصْطَفَى اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ، وَشَرَحَ صُدُورَهُمْ لِقَبُولِ الْحَقِّ ؛ فَالْتَفَّتْ كَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ، وَائْتَلَفَتْ قُلُوبُ أَهْلِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ نَقَلَهُ مِنْ حَالِ الْإِذَايَةِ إلَى الْعِصْمَةِ، وَعَنْ الْهَوَانِ إلَى الْعِزَّةِ، وَجَعَلَ لَهُ أَنْصَارًا بِالْقُوَّةِ، وَأَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ بِالسَّيْفِ ؛ إذْ مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَكَانَ مِنَ الْإِنْذَارِ مَا حَصَلَ بِهِ الْإِعْذَارُ.
جَوَابٌ ثَانٍ : وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ أَوَّلًا كُرْهًا، فَإِذَا ظَهَرَ الدِّينُ وَحَصَلَ فِي جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَمَّتْ الدَّعْوَةُ فِي الْعَالَمِينَ حَصَلَتْ لَهُمْ بِمُثَافَنَتِهِمْ وَإِقَامَةِ الطَّاعَةِ مَعَهُمْ النِّيَّةُ ؛ فَقَوِيَ اعْتِقَادُهُ، وَصَحَّ فِي الدِّينِ وِدَادُهُ، إنْ سَبَقَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَوْفِيقٌ، وَإِلَّا أَخَذْنَا بِظَاهِرِهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمًا، وَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْرِيعٌ كَثِيرٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ " الْإِكْرَاهُ مِنَ الْمَسَائِلِ "، وَسَتَأْتِي مِنْهَا مَسْأَلَةُ إكْرَاهِ الطَّلَاقِ وَالْكُفْرِ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّمَانُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾.
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِي بِالْقِنْوِ مِنَ الْحَشَفِ فَيُعَلِّقُهُ فِي الْمَسْجِدِ يَأْكُلُ مِنْهُ الْفُقَرَاءُ، فَنَزَلَتْ :﴿ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ بِالنَّفَقَةِ : وَفِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا صَدَقَةُ الْفَرْضِ ؛ قَالَهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
الثَّانِي : أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ صَدَقَةٍ ؛ فَمَنْ قَالَ : إنَّهَا فِي الْفَرْضِ تَعَلَّقَ بِأَنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَبِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الرَّدِيءِ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْفَرْضِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ فِي التَّطَوُّعِ.
الثَّانِي : أَنَّ لَفْظَ ( أَفْعِلْ ) صَالِحٌ لِلنَّدْبِ صَلَاحِيَّتُهُ لِلْفَرْضِ، وَالرَّدِيءُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي النَّفْلِ، كَمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْفَرْضِ، إلَّا أَنَّهُ فِي التَّطَوُّعِ نَدْبٌ فِي " ( أَفْعِلْ ) مَكْرُوهٌ فِي " لَا تَفْعَلْ " وَفِي الْفَرْضِ وَاجِبٌ فِي ( أَفْعِلْ ) حَرَامٌ فِي " لَا تَفْعَلْ ".
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ﴾.
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى :﴿ بِآخِذِيهِ إلَّا أَنْ تُغْمِضُوا ﴾ لَفْظٌ يَخْتَصُّ بِالدُّيُونِ الَّتِي لَا يُتَسَامَحُ فِي اقْتِضَاءِ الرَّدِيءِ فِيهَا عَنِ الْجَيِّدِ، وَلَا فِي أَخْذِ الْمَعِيبِ عَنِ السَّلِيمِ، إلَّا بِإِغْمَاضٍ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ نَازِلَةً فِي الْفَرْضِ لَمَا قَالَ :﴿ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ﴾ لِأَنَّ الرَّدِيءَ وَالْمَعِيبَ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ فِي الْفَرْضِ بِحَالٍ، لَا مَعَ تَقْدِيرِ الْإِغْمَاضِ وَلَا مَعَ عَدَمِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِإِغْمَاضٍ فِي النَّفْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ﴾.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْله تَعَالَى :﴿ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ يَعْنِي : التِّجَارَةَ ﴿ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ﴾ يَعْنِي النَّبَاتَ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ الِاكْتِسَابَ عَلَى قِسْمَيْنِ : مِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ وَهُوَ النَّبَاتَاتُ كُلُّهَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنَ الْمُحَاوَلَةِ عَلَى الْأَرْضِ كَالتِّجَارَةِ وَالنِّتَاجِ وَالْمُغَاوَرَةِ فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ، وَالِاصْطِيَادِ ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَغْنِيَاءَ مِنْ عِبَادِهِ بِأَنْ يُؤْتُوا الْفُقَرَاءَ مِمَّا آتَاهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ نَبَاتٍ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ نِصَابٍ وَلَا تَخْصِيصٍ بِقُوتٍ، وَعَضَّدُوهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ نِصْفُ الْعُشْرِ ».
وَهَذَا لَا مُتَعَلِّقَ فِيهِ مِنَ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا جَاءَتْ لِبَيَانِ مَحَلِّ الزَّكَاةِ لَا لِبَيَانِ نِصَابِهَا، أَوْ مِقْدَارِهَا، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّصَابَ بِقَوْلِهِ :«لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ ».
وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَتَقَصَّيْنَا الْقَوْلَ عَلَى الْحَدِيثِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ ؛ وَهِيَ مَعْرِفَةُ مَعْنَى الْخَبِيثِ، فَإِنَّ جَمَاعَةً قَالُوا : إنَّ الْخَبِيثَ هُوَ الْحَرَامُ، وَزَلَّ فِيهِ صَاحِبُ الْعَيْنِ فَقَالَ : الْخَبِيثُ كُلُّ شَيْءٍ فَاسِدٍ، وَأَخَذَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ تَسْمِيَةِ الرَّجِيعِ خَبِيثًا.
وَقَالَ يَعْقُوبُ : الْخَبِيثُ : الْحَرَامُ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِلُّغَةِ بِالشَّرْعِ، وَهُوَ جَهْلٌ عَظِيمٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخَبِيثَ يَنْطَلِقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :﴿ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ ﴾. الثَّانِي : مَا تُنْكِرُهُ النَّفْسُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّمَانُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا صَدَقَةُ الْفَرْضِ. الثَّانِي : أَنَّهَا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ : جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى صَدَقَةَ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفْضُلُ صَدَقَةَ الْعَلَانِيَةِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَجَعَلَ صَدَقَةَ الْعَلَانِيَةِ فِي الْفَرْضِ تَفْضُلُ صَدَقَةَ السِّرِّ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمَّا صَدَقَةُ الْفَرْضِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ إظْهَارَهَا أَفْضَلُ، كَصَلَاةِ الْفَرْضِ وَسَائِرِ فَرَائِضِ الشَّرِيعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ يُحْرِزُ بِهَا إسْلَامَهُ، وَيَعْصِمُ مَالَهُ.
وَلَيْسَ فِي تَفْضِيلِ صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ عَلَى السِّرِّ وَلَا فِي تَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ الْإِجْمَاعُ الثَّابِتُ.
فَأَمَّا صَدَقَةُ النَّفْلِ فَالْقُرْآنُ صَرَّحَ بِأَنَّهَا فِي السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْجَهْرِ ؛ بَيْدَ أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا : إنَّ هَذَا عَلَى الْغَالِبِ مَخْرَجُهُ.
وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْحَالَ فِي الصَّدَقَةِ تَخْتَلِفُ بِحَالِ الْمُعْطِي لَهَا، وَالْمُعْطَى إيَّاهَا، وَالنَّاسِ الشَّاهِدِينَ لَهَا.
أَمَّا الْمُعْطِي فَلَهُ فَائِدَةُ إظْهَارِ السُّنَّةِ وَثَوَابِ الْقُدْرَةِ، وَآفَتُهَا الرِّيَاءُ وَالْمَنُّ وَالْأَذَى.
وَأَمَّا الْمُعْطَى إيَّاهَا فَإِنَّ السِّرَّ أَسْلَمُ لَهُ مِنْ احْتِقَارِ النَّاسِ لَهُ أَوْ نِسْبَتِهِ إلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا مَعَ الْغِنَى عَنْهَا وَتَرَكَ التَّعَفُّفَ.
وَأَمَّا حَالُ النَّاسِ فَالسِّرُّ عَنْهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ لَهُمْ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا طَعَنُوا عَلَى الْمُعْطِي لَهَا بِالرِّيَاءِ، وَعَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ ؛ وَلَهُمْ فِيهَا تَحْرِيكُ الْقُلُوبِ إلَى الصَّدَقَةِ، لَكِنَّ هَذَا الْيَوْمَ قَلِيلٌ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّمَانُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَيْسَ عَلَيْك هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«لَا تَصَدَّقُوا إلَّا عَلَى أَهْلِ دِينِكُم »، فَنَزَلَتْ :﴿ لَيْسَ عَلَيْك هُدَاهُمْ ﴾.
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانُوا لَا يَرْضَخُونَ لِقَرَابَاتِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَوَّلَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ. الثَّانِي : أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ :«يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ أُمَّيْ قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً وَهِيَ مُشْرِكَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : صِلِي أُمَّك » ؛ فَإِنَّمَا شَكُّوا فِي جَوَازِ الْمُوَالَاةِ لَهُمْ وَالصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَأَذِنَ لَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : لَا تُصْرَفُ إلَيْهِمْ صَدَقَةُ الْفَرْضِ ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ ».
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُصْرَفُ إلَيْهِمْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ ؛ لِحَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي الرُّهْبَانَ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ ؛ وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ.
وَدَلِيلُنَا أَنَّهَا صَدَقَةُ طُهْرٍ وَاجِبَةٌ، فَلَا تُصْرَفُ إلَى الْكَافِرِ كَصَدَقَةِ الْمَاشِيَةِ وَالْعَيْنِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«أَغْنُوهُمْ عَنْ سُؤَالِ هَذَا الْيَوْمِ يَعْنِي يَوْمَ الْفِطْرِ ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا كَانَ مُسْلِمًا عَاصِيًا فَلَا خِلَافَ أَنَّ صَدَقَةَ الْفَرْضِ تُصْرَفُ إلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ يَتْرُكُ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَلَا تُصْرَفُ إلَيْهِ الصَّدَقَةُ حَتَّى يَتُوبَ، وَسَائِرُ الْمَعَاصِي تُصْرَفُ الصَّدَقَةُ إلَى مُرْتَكِبِهَا لِدُخُولِهِمْ فِي اسْمِ الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :«أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَدَفَعَهَا، فَقِيلَ تَصَّدَّقُ عَلَى سَارِقٍ ؟ فَقَالَ : عَلَى سَارِقٍ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى : لَعَلَّهُ يَسْتَعِفُّ عَنْ سَرِقَتِهِ. . . » الْحَدِيثَ.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّمَانُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾.
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا ﴾ سَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْفَقْرِ فِي آيَةِ الصَّدَقَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَنْ هُمْ ؟
قِيلَ : هُمْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَيُحْكَى عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تُعْطَى لِكَافِرٍ، وَمَعْنَاهُ صَدَقَةُ الْفَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ ﴾ قِيلَ : هُوَ الْخُشُوعُ. وَقِيلَ : الْخَصَاصَةُ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْخُشُوعَ قَدْ يَكُونُ عَلَى الْغِنَى قَالَ تَعَالَى :﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ فَعَمَّ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ :﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا ﴾ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :«لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَإِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يَفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ ».
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : الْوَاجِبُ عَلَى مُعْطِي الصَّدَقَةِ كَانَ إمَامًا أَوْ مَالِكًا أَنْ يُرَاعِيَ أَحْوَالَ النَّاسِ، فَمَنْ عَلِمَ فِيهِ صَبْرًا عَلَى الْخَصَاصَةِ وَتَحَلِّيًا بِالْقَنَاعَةِ آثَرَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الصَّبْرَ، فَرُبَّمَا وَقَعَ فِي التَّسَخُّطِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ :«إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ ».
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ :﴿ إلْحَافًا ﴾.
مَعْنَاهُ الشُّمُولُ بِالْمَسْأَلَةِ إمَّا لِلنَّاسِ، وَإِمَّا فِي الْأَمْوَالِ ؛ فَيَسْأَلُ مِنَ النَّاسِ جَمَاعَةً، وَيَسْأَلُ مِنَ الْمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَبِنَاءُ " لُحِفَ " لِلشُّمُولِ، وَمِنْهُ اللِّحَافُ ؛ وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي يَشْتَمِلُ بِهِ، وَنَحْوُهُ الْإِلْحَاحُ ؛ يُقَالُ : أَلْحَفَ فِي الْمَسْأَلَةِ إذَا شَمِلَ رِجَالًا أَوْ مَالًا، وَأَلَحَّ فِيهَا إذَا كَرَّرَهَا.
وَرَوَى الْمُفَسِّرُونَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْحَلِيمَ الْحَيِيَّ الْغَنِيَّ النَّفْسِ الْمُتَعَفِّفَ، وَيُبْغِضُ الْغَنِيَّ الْفَاحِشَ الْبَذِيَّ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ ».
وَلَمْ يَصِحَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ، وَلَا عُرِفَ لَهُ سَنَدٌ، لَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَوَاَللَّهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجُ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا كَارِهٌ فَيُبَارِكُ اللَّهُ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ ».
وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ الْأَسَدِيِّ أَنَّهُ قَالَ :«نَزَلْت أَنَا وَأَهْلِي بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَقَالَ لِي أَهْلِي : اذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلْهُ لَنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ، وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مِنْ حَاجَتِهِمْ فَذَهَبْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْت عِنْدَهُ رَجُلًا يَسْأَلُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا أَجِدُ مَا أُعْطِيك. فَوَلَّى الرَّجُلُ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ، وَهُوَ يَقُولُ : لَعَمْرُك إنَّك لَتُعْطِي مَنْ شِئْت، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ لَيَغْضَبُ عَلَيَّ أَلَّا أَجِدَ مَا أُعْطِيهِ، مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافًا. فَقَالَ الْأَسَدِيُّ : لَلَقْحَةٌ لَنَا خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ ».
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ فَهُوَ مُلْحِفٌ ».
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُلْحِفَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ الرَّجُلَ بَعْدَمَا رَدَّهُ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ عَنِ السُّؤَالِ، إلَّا أَنْ يَسْأَلَ زَائِدًا عَلَى مَا عِنْدَهُ، وَيُغْنِيهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ ؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ.
وَسَمِعْت بِجَامِعِ الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ رَجُلًا يَقُولُ : هَذَا أَخُوكُمْ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ مَعَكُمْ، وَلَيْسَ لَهُ ثِيَابٌ يُقِيمُ بِهَا سُنَّةَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى رَأَيْت عَلَيْهِ ثِيَابًا جُدُدًا، فَقِيلَ لِي : كَسَاهُ إيَّاهَا فُلَانٌ لِأَخْذِ الثَّنَاءِ بِهَا.
وَيُكَرِّرُ الْمَسْأَلَةَ إذَا رَدَّهُ الْمَسْئُولُ وَالسَّائِلُ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا سَأَلَهُ إيَّاهُ أَوْ جَاهِلٌ بِحَالِهِ، فَيُعِيدُ عَلَيْهِ السُّؤَالَ إعْذَارًا أَوْ إنْذَارًا ثَلَاثًا لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَالْأَفْضَلُ تَرْكُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّمَانُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ﴾.
هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَفِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : ذَكَرَ مَنْ فَسَّرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الرِّبَا قَالَتْ ثَقِيفٌ : وَكَيْف نَنْتَهِي عَنِ الرِّبَا، وَهُوَ مِثْلُ الْبَيْعِ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا قَوْله تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ﴾ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِجَابَةٍ فِي الْبَيْعِ وَقَبْضِهِ بِالْيَدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَفْعَلُهُ الْمُرْبِي قَصْدًا لِمَا يَأْكُلُهُ، فَعَبَّرَ بِالْأَكْلِ عَنْهُ، وَهُوَ مَجَازٌ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ عَنِ الشَّيْءِ بِفَائِدَتِهِ وَثَمَرَتِهِ، وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْمَجَازِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الرِّبَا فِي اللُّغَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ، وَلَا بُدَّ فِي الزِّيَادَةِ مِنْ مَزِيدٍ عَلَيْهِ تَظْهَرُ الزِّيَادَةُ بِهِ ؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ رِبًا، أَوْ مُجْمَلَةٌ لَا بَيَانَ لَهَا إلَّا مِنْ غَيْرِهَا ؟
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَامَّةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ وَيَرْبُونَ، وَكَانَ الرِّبَا عِنْدَهُمْ مَعْرُوفًا، يُبَايِعُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ إلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ قَالَ : أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي ؟ يَعْنِي أَمْ تَزِيدُنِي عَلَى مَالِي عَلَيْك وَأَصْبِرُ أَجَلًا آخَرَ. فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الرِّبَا، وَهُوَ الزِّيَادَةُ ؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ كَمَا قُلْنَا لَا تَظْهَرُ الزِّيَادَةُ إلَّا عَلَى مَزِيدٍ عَلَيْهِ، وَمَتَى قَابَلَ الشَّيْءُ غَيْرَ جِنْسِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ لَمْ تَظْهَرْ الزِّيَادَةُ، وَإِذَا قَابَلَ جِنْسَهُ لَمْ تَظْهَرْ الزِّيَادَةُ أَيْضًا إلَّا بِإِظْهَارِ الشَّرْعِ، وَلِأَجْلِ هَذَا صَارَتْ الْآيَةُ مُشْكِلَةً عَلَى الْأَكْثَرِ، مَعْلُومَةً لِمَنْ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالنُّورِ الْأَظْهَرِ.
وَقَدْ فَاوَضْت فِيهَا عُلَمَاءَ، وَبَاحَثْت رُفَعَاءَ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ أَعْطَى مَا عِنْدَهُ حَتَّى انْتَظَمَ فِيهَا سِلْكُ الْمَعْرِفَةِ بِدُرَرِهِ وَجَوْهَرَتِهِ الْعُلْيَا.
إنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ فَلَمْ يَفْهَمْ مَقَاطِعَ الشَّرِيعَةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَوْمٍ هُوَ مِنْهُمْ بِلُغَتِهِمْ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كِتَابَهُ تَيْسِيرًا مِنْهُ بِلِسَانِهِ وَلِسَانِهِمْ ؛ وَقَدْ كَانَتْ التِّجَارَةُ وَالْبَيْعُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَعَانِي الْمَعْلُومَةِ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مُبَيِّنًا لَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ فِيهِمَا وَيَعْقِدُونَهُمَا عَلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾.
وَالْبَاطِلُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، هُوَ الَّذِي لَا يُفِيدُ وَقَعَ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ تَنَاوُلِ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي صُورَةِ الْعِوَضِ.
وَالتِّجَارَةُ هِيَ مُقَابَلَةُ الْأَمْوَالِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَهُوَ الْبَيْعُ ؛ وَأَنْوَاعُهُ فِي مُتَعَلِّقَاتِهِ بِالْمَالِ كَالْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَى الْمَالِ كَالْمَنَافِعِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : عَيْنٌ بِعَيْنٍ، وَهُوَ بَيْعُ النَّقْدِ ؛ أَوْ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ وَهُوَ السَّلَمُ، أَوْ حَالٌّ وَهُوَ يَكُونُ فِي التَّمْرِ أَوْ عَلَى رَسْمِ الِاسْتِصْنَاعِ، أَوْ بَيْعُ عَيْنٍ بِمَنْفَعَةٍ وَهُوَ الْإِجَارَةُ.
وَالرِّبَا فِي اللُّغَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَةِ كُلُّ زِيَادَةٍ لَمْ يُقَابِلْهَا عِوَضٌ ؛ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِحَرَامٍ لِعَيْنِهَا، بِدَلِيلِ جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهِهِ، وَلَوْ كَانَتْ حَرَامًا مَا صَحَّ أَنْ يُقَابِلَهَا عِوَضٌ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهَا عَقْدٌ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا.
وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْعِوَضُ عَلَى صِحَّةِ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ، وَحَرَّمَ مِنْهُ مَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْبَاطِلِ.
وَقَدْ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَتَزِيدُ زِيَادَةً لَمْ يُقَابِلْهَا عِوَضٌ، وَكَانَتْ تَقُولُ : إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا أَيْ : إنَّمَا الزِّيَادَةُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ آخِرًا مِثْلُ أَصْلِ الثَّمَنِ فِي أَوَّلِ الْعَقْدِ ؛ فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ، وَحَرَّمَ مَا اعْتَقَدُوهُ حَلَالًا عَلَيْهِمْ، وَأُوضِحَ أَنَّ الْأَجَلَ إذَا حَلَّ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي أُنْظِرَ إلَى الْمَيْسَرَةِ تَخْفِيفًا، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَظْهَرُ بَعْدَ تَقْدِيرِ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ، وَذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : تَوَلَّى الشَّرْعُ تَقْدِيرَ الْعِوَضِ فِيهِ، وَهُوَ الْأَمْوَالُ الرِّبَوِيَّةُ، فَلَا تَحِلُّ الزِّيَادَةُ فِيهِ. وَأَمَّا الَّذِي وَكَّلَهُ إلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَالزِّيَادَةُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ مَالِيَّةِ الْعِوَضَيْنِ عِنْدَ التَّقَابُلِ عَلَى قِسْمَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَهُوَ حَلَالٌ بِإِجْمَاعٍ. وَمِنْهُ مَا يَخْرُجُ عَنِ الْعَادَةِ ؛ وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهِ، فَأَمْضَاهُ الْمُتَقَدِّمُونَ وَعَدُّوهُ مِنْ فَنِّ التِّجَارَةِ، وَرَدَّهُ الْمُتَأَخِّرُونَ بِبَغْدَادَ وَنُظَرَائِهَا وَحَدُّوا الْمَرْدُودَ بِالثُّلُثِ.
وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ عَنْ عِلْمِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَإِنَّهُ حَلَالٌ مَاضٍ ؛ لِأَنَّهُمَا يَفْتَقِرَانِ إلَى ذَلِكَ فِي الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى :﴿ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ وَإِنْ وَقَعَ عَنْ جَهْلٍ مِنْ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الْآخَرَ بِالْخِيَارِ.
وَفِي مِثْلِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إذَا بَايَعْت فَقُلْ : لَا خِلَابَةَ ». زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ :«وَلَك الْخِيَارُ ثَلَاثًا »، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ فَهَذَا أَصْلُ عِلْمِ هَذَا الْبَابِ.
فَإِنْ قِيلَ : أَنْكَرْتُمْ الْإِجْمَالَ فِي الْآيَةِ، وَمَا أَوْرَدْتُمُوهُ مِنْ الْبَيَانِ وَالشُّرُوطِ هُوَ بَيَانُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ مُبَيَّنًا، وَلَا يُوجَدُ عَنْهَا مِنَ الْقَوْلِ ظَاهِرًا.
قُلْنَا : هَذَا سُؤَالُ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلِ، وَلَا أَلْقَى إلَيْهِ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وَقَدْ تَوَضَّحَ فِي مَسَائِلِ الْكَلَامِ أَنَّ جَمِيعَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ أَوْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ جَاءَ فِيهِ بِلِسَانِهِمْ، فَقَدْ أَطْلَقَ لَهُمْ حِلَّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ بَيْعٍ وَتِجَارَةٍ وَيَعْلَمُونَهُ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الرِّبَا وَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَيَعْلَمُونَهُ وَيَتَسَامَحُونَ فِيهِ ؛ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْحَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلْقِيَ إلَيْهِمْ زِيَادَةً فِيمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ عَقْدٍ أَوْ عِوَضٍ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ جَائِزًا، فَأَلْقَى إلَيْهِمْ وُجُوهَ الرِّبَا الْمُحَرَّمَةِ فِي كُلِّ مُقْتَاتٍ، وَثَمَنُ الْأَشْيَاءِ مَعَ الْجِنْسِ مُتَفَاضِلًا، وَأَلْحَقَ بِهِ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ، وَالْبَيْعَ وَالسَّلَفَ، وَبَيَّنَ وُجُوهَ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فِي بَيْعِ الْغَرَرِ كُلِّهِ أَوْ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ شَرْعًا فِيمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مُتَقَوِّمًا كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَبَيْعِ الْغِشِّ، وَلَمْ يَبْقَ فِي الشَّرِيعَةِ بَعْدَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَيَانٌ يُفْتَقَرُ إلَيْهِ فِي الْبَابِ، وَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُمَا عَلَى الْجَوَازِ ؛ إلَّا أَنَّهُ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَا لَا يَصِحُّ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ مَعْنًى نَهَى عَنْهَا ».
الْأَوَّلُ وَالثَّانِي : ثَمَنُ الْأَشْيَاءِ جِنْسًا بِجِنْسٍ، وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ وَالسَّادِسُ وَالسَّابِعُ : بَيْعُ الْمُقْتَاتِ أَوْ ثَمَنُ الْأَشْيَاءِ جِنْسًا بِجِنْسٍ مُتَفَاضِلًا، أَوْ جِنْسًا بِغَيْرِ جِنْسِهِ نَسِيئَةً، أَوْ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، أَوْ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ، أَوْ بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ ؛ وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي بَيْعِ الرِّبَا، وَهُوَ مِمَّا تَوَلَّى الشَّرْعُ تَقْدِيرَ الْعِوَضِ فِيهِ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ. الثَّامِنُ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ. التَّاسِعُ بَيْعُ الْغَرَرِ، وَرَدُّ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَالْحَصَاةِ، وَبَيْعُ الثُّنْيَا، وَبَيْعُ الْعُرْبَانِ وَمَا لَيْسَ عِنْدَك، وَالْمَضَامِينِ، وَالْمَلَاقِيحِ، وَحَبَلُ حَبَلَةٍ. وَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ وَجْهٍ بَيْعُ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَبَيْعُ السُّنْبُلِ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَالْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَهُوَ مِمَّا قَبْلَهُ، وَبَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَالْمُحَاصَرَةِ، وَبَيْعُ مَا لَمْ يَقْبِضْ، وَرِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَبَيْ
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّمَانُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الرِّبَا عِنْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ قَبْلَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِهَا :
فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا رِبَا الدَّيْنِ خَاصَّةً، وَفِيهِ يَكُونُ الْإِنْظَارُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٌ الْقَاضِي وَالنَّخَعِيُّ.
الثَّانِي : أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ دَيْنٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ.
الثَّالِثُ : قَالَ مُتَأَخِّرُو عُلَمَائِنَا : هُوَ نَصٌّ فِي دَيْنِ الرِّبَا، وَغَيْرُهُ مِنَ الدُّيُونِ مَقِيسٌ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي التَّنْقِيحِ :
أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ فِي دَيْنِ الرِّبَا فَضَعِيفٌ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُهَا خَاصًّا، فَإِنَّ آخِرَهَا عَامٌّ، وَخُصُوصُ أَوَّلِهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ آخِرِهَا، لَاسِيَّمَا إذَا كَانَ الْعَامُّ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ.
وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ نَصٌّ فِي الرِّبَا، وَغَيْرُهُ مَقِيسٌ عَلَيْهِ فَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ قَدْ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الدُّيُونِ :﴿ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ﴾ قُلْنَا : سَنَتَكَلَّمُ عَلَى الْآيَةِ فِي مَوْضِعهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ : وَبِمَ تُعْلَمُ الْعُسْرَةُ ؟
قُلْنَا : بِأَنْ لَا نَجِدَ لَهُ مَالًا ؛ فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ : خَبَّأَ مَالًا. قُلْنَا لِلْمَطْلُوبِ : أَثْبِتْ عَدَمَك ظَاهِرًا وَيَحْلِفُ بَاطِنًا، وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : مَا الْمَيْسَرَةُ الَّتِي يُؤَدَّى بِهَا الدَّيْنُ ؟
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. تَحْرِيرُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا : أَنَّهُ يُتْرَكُ لَهُ مَا يَعِيشُ بِهِ الْأَيَّامَ وَكِسْوَةُ لِبَاسِهِ وَرُقَادِهِ، وَلَا تُبَاعُ ثِيَابُ جُمُعَتِهِ، وَيُبَاعُ خَاتَمُهُ، وَتَفْصِيلُ الْفُرُوعِ فِي الْمَسَائِلِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الصَّدَقَةُ عَلَى الْمُعْسِرِ قُرْبَةٌ ؛ وَذَلِكَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنِ إنْظَارِهِ إلَى الْمَيْسَرَةِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى حُذَيْفَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«تَلَقَّتْ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، قَالُوا : عَمِلْت مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا ؟ قَالَ : كُنْت آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُوسِرَ وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : تَجَاوَزُوا عَنْهُ ».
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ : كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ :«مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ » ؛ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ.
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّمَانُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
هِيَ آيَةٌ عُظْمَى فِي الْأَحْكَامِ، مُبَيِّنَةٌ جُمَلًا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهِيَ أَصْلٌ فِي مَسَائِلِ الْبُيُوعِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْفُرُوعِ، جِمَاعُهَا عَلَى اخْتِصَارٍ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْغَرَضِ دُونَ الْإِكْثَارِ فِي اثِّنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي حَقِيقَةِ الدَّيْنِ :
هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مُعَامَلَةٍ كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِيهَا نَقْدًا وَالْآخَرُ فِي الذِّمَّةِ نَسِيئَةً، فَإِنَّ الْعَيْنَ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا كَانَ حَاضِرًا، وَالدَّيْنُ مَا كَانَ غَائِبًا قَالَ الشَّاعِرُ :
وَعَدَتْنَا بِدِرْهَمَيْنَا طِلَاءً وَشِوَاءً مُعَجَّلًا غَيْرَ دَيْنِ
وَالْمُدَايَنَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَرْضَاهُ وَالْآخَرُ يَلْتَزِمُهُ، وَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ :﴿ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : عُمُومُ قَوْله تَعَالَى :﴿ إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْمَهْرُ إلَى أَجَلٍ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَيَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ ؛ وَهَذَا وَهْمٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ إنَّمَا هِيَ عَلَى النِّكَاحِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْمَهْرِ وَعَلَى الدَّمِ الْمُفْضِي إلَى الصُّلْحِ، وَالْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ، وَالْمَالُ فِي الدَّمِ بَيْعٌ ؛ وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ حُكْمِ حَالِ دَيْنٍ مُجَرَّدٍ وَمَالٍ مُفْرَدٍ ؛ فَعَلَيْهِ يُحْمَلُ عُمُومُ الشَّهَادَةِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَاكْتُبُوهُ ﴾.
يُرِيدُ يَكُونُ صَكًّا لِيَسْتَذْكِرَ بِهِ عِنْدَ أَجَلِهِ ؛ لِمَا يُتَوَقَّعُ مِنَ الْغَفْلَةِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُعَامَلَةِ وَبَيْنَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَالنِّسْيَانُ مُوَكَّلٌ بِالْإِنْسَانِ، وَالشَّيْطَانُ رُبَّمَا حَمَلَ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَالْعَوَارِضُ مِنْ مَوْتٍ وَغَيْرِهِ تَطْرَأُ ؛ فَشُرِعَ الْكِتَابُ وَالْإِشْهَادُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :«أَوَّلُ مَنْ جَحَدَ آدَم قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَهُ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ فَعَرَضَهُمْ عَلَيْهِ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ، فَقَالَ : أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا ابْنُك دَاوُد. قَالَ : كَمْ عُمُرُهُ ؟ قَالَ : سِتُّونَ سَنَةً. قَالَ : رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ. قَالَ : لَا إلَّا أَنْ تَزِيدَهُ أَنْتَ مِنْ عُمُرِك فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ مِنْ عُمُرِهِ، فَكَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ رُوحَهُ قَالَ : بَقِيَ مِنْ أَجَلِي أَرْبَعُونَ سَنَةً. فَقِيلَ لَهُ : إنَّك قَدْ جَعَلْتهَا لِابْنِك دَاوُد. قَالَ : فَجَحَدَ آدَم. قَالَ : فَأُخْرِجَ إلَيْهِ الْكِتَابُ، فَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، وَأَتَمَّ لِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ وَلِآدَمَ عُمُرَهُ أَلْفَ سَنَةٍ ».
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ فَاكْتُبُوهُ ﴾ إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ إلَى أَنَّهُ يَكْتُبُهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ الْمُبَيَّنَةِ لَهُ الْمُعْرِبَةِ عَنْهُ الْمُعَرِّفَةِ لِلْحَاكِمِ بِمَا يَحْكُمُ عِنْدَ ارْتِفَاعِهِمَا إلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾.
فِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّاسَ لَمَّا كَانُوا يَتَعَامَلُونَ حَتَّى لَا يَشِذَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنِ الْمُعَامَلَةِ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُ وَمَنْ لَا يَكْتُبُ، أَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ.
الثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ يُتَّهَمُ فِي الْكِتَابَةِ لِلَّذِي عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَاتِبًا يَكْتُبُ بِالْعَدْلِ، لَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ وَلَا فِي قَلَمِهِ هَوَادَةٌ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ ؛ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ.
الثَّانِي : أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكَاتِبِ فِي حَالِ فَرَاغِهِ ؛ قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ نَدْبٌ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ.
الرَّابِعُ : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ ؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَمْرُ إرْشَادٍ ؛ فَلَا يَكْتُبُ حَتَّى يَأْخُذَ حَقَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا أَمْلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ؛ لِأَنَّهُ الْمُقِرُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ لَهُ، فَلَوْ قَالَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ : لِي كَذَا وَكَذَا لَمْ يَنْفَعْ حَتَّى يُقِرَّ لَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، وَإِلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ »، عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ﴾ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا نَحْوٌ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ﴾ لَمَّا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُنَّ فِي الَّذِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ أَرْحَامُهُنَّ، وَقَوْلُ الشَّاهِدِ أَيْضًا فِيمَا وَعَاهُ قَلْبُهُ مِنْ عِلْمِ مَا عِنْدَهُ مِمَّا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّنَازُعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا ﴾ :
أَمَّا السَّفِيهُ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الْجَاهِلُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّانِي : أَنَّهُ الصَّبِيُّ. الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. الرَّابِعُ : الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ الْمُفْسِدُ لِدَيْنِهِ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ.
وَأَمَّا الضَّعِيفُ فَقِيلَ : هُوَ الْأَحْمَقُ، وَقِيلَ : هُوَ الْأَخْرَسُ أَوْ الْغَبِيُّ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْغَبِيُّ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي : أَنَّهُ الْمَمْنُوعُ بِحُبْسَةٍ أَوْ عِيٍّ. الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْمَجْنُونُ.
وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ طَوِيلٌ نُخْبَتُهُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقَّ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ : مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ يُمِلُّ، وَثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ لَا يُمِلُّونَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ صِنْفًا وَاحِدًا أَوْ صِنْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ تَعْدِيدَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ كَأَنَّهُ يَخْلُو عَنِ الْفَائِدَةِ، وَيَكُونُ مِنْ فَنِّ الْمُثَبَّجِ مِنَ الْقَوْلِ الرَّكِيكِ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَا يَنْبَغِي هَذَا فِي كَلَامٍ حَكِيمٍ، فَكَيْفَ فِي كَلَامِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ.
فَتَعَيَّنَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مَعْنًى لَيْسَ لِصَاحِبِهِ حَتَّى تَتِمَّ الْبَلَاغَةُ، وَتَكْمُلَ الْفَائِدَةُ، وَيَرْتَفِعَ التَّدَاخُلُ الْمُوجِبُ لِلتَّقْصِيرِ ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ السَّفِيهُ وَالضَّعِيفُ وَاَلَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ، قَرِيبًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ فِي الْمَعْنَى ؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ السَّفِيهَ عَلَى ضَعِيفِ الْعَقْلِ تَارَةً وَعَلَى ضَعِيفِ الْبَدَنِ أُخْرَى، وَأَنْشَدُوا :
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ أَعَالِيهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ
أَيْ اسْتَضْعَفَتْهَا وَاسْتَلَانَتْهَا فَحَرَّكَتْهَا.
وَكَذَلِكَ يُطْلَقُ الضَّعِيفُ عَلَى ضَعِيفِ الْعَقْلِ، وَعَلَى ضَعِيفِ الْبَدَنِ.
وَقَدْ قَالُوا : الضُّعْفُ بِضَمِّ الضَّادِ فِي الْبَدَنِ، وَفَتْحِهَا فِي الرَّأْيِ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ، وَكُلُّ ضَعِيفٍ لَا يَسْتَطِيعُ مَا يَسْتَطِيعُهُ الْقَوِيُّ ؛ فَثَبَتَ التَّدَاخُلُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْأ
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ تِسْعِينَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا ﴾.
هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ شَرِيعَةِ الْمُسْلِمِينَ شَرَّفَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْأُمَمِ بِهَا، فَلَمْ يُحَمِّلْنَا إصْرًا وَلَا كَلَّفَنَا فِي مَشَقَّةٍ أَمْرًا، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا أَصَابَ الْبَوْلُ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ بِالْمِقْرَاضِ، فَخَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إلَى وَظَائِفِ عَلَى الْأُمَمِ حَمَلُوهَا، وَرَفَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾.
ذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَنَّ الْقَوَدَ وَاجِبٌ عَلَى شَرِيكِ الْأَبِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى شَرِيكِ الْخَاطِئِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ اكْتَسَبَ الْقَتْلَ ؛ وَقَالُوا : إنَّ اشْتِرَاكَ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ مَعَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ شُبْهَةٌ فِي دَرْءِ مَا يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾.
تَعَلَّقَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاقِعَ خَطَأً أَوْ نِسْيَانًا لَغْوٌ فِي الْأَحْكَامِ، كَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَغْوًا فِي الْآثَامِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُمْ بِقَوْلِهِ :«رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ».
وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ، وَالْآيَةُ إنَّمَا جَاءَتْ لِرَفْعِ الْإِثْمِ الثَّابِتِ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ فَأَمَّا أَحْكَامُ الْعِبَادِ وَحُقُوقُ النَّاسِ فَثَابِتَةٌ حَسَبَ مَا يُبَيَّنُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
Icon