تفسير سورة البقرة

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه إلكيا الهراسي . المتوفي سنة 504 هـ

قوله تعالى في شأن المنافقين وإظهارهم الإيمان مع إضمار الكفر١، وعدم الأمر بقتلهم يدل على جواز استتابة الزنديق، فإنه تعالى ما أمر بقتلهم.
١ - أي في قوله تعالى (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) سورة البقرة آية ٨..
قوله تعالى :﴿ يُخَادِعُونَ اللهً والّذيِنَ آمَنُوا ﴾ [ ٩ ] : هو مجاز في حق الله تعالى، فإن الخديعة إخفاء الشيء، ولا يخفى على الله شيء، والقوم إن لم يعرفوا الله تعالى فلا يصح أن يقصدوه بالخداع، وكذلك إن عرفوه، ولكنهم عملوا عمل المخادع. ووباله١ راجع إليهم، وكأنهم إنما يخادعون أنفسهم، أو يقال : يخادعون رسول الله. . .
١ - أي نتيجة خداعهم..
وقوله تعالى :﴿ يَستَهزىءُ بهِمْ ﴾ [ ١٥ ] : يجوز أن يكون مقابلة الكلام بمثله، كقوله :﴿ وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سيَّئَةٌ مِثلُهَا١، وكذلك ﴿ فَاعتدُوا عَلَيهِ ﴾٢ الآية، وقيل : إنه لما رجع وبال الاستهزاء عليهم فكأنه استهزأ بهم.
ولما كانت جريمتهم أضر على المسلمين، أخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار، ودل على أن العقوبات في الدنيا ليست على أقدار الجرائم، وإنما هي على قدر مصالح الدنيا٣، وجائز أن لا تشرع العقوبة في الدنيا أصلاً وإنما تشرع في الآخرة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمورا في ابتداء الإسلام بالصفح٤ عنهم، والدفع بالتي هي أحسن، وفرض القتال بعد ذلك للمصلحة، فيجوز أن يقتل من يظهر الكفر دون من يسر للمصلحة، ويجوز خلافه، ويجوز أن يرد الشرع بقتل النسوان٥ وأن يرد بخلافه، والعقل لا يمنع من ذلك.
١ - سورة الشورى، آية ٤٠..
٢ - سورة البقرة، آية ١٩٤، ونص الآية: (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين)...
٣ - الرجم للزاني المحصن، والجلد للقاذف، والقطع للسارق..
٤ - أي عن الكفار لا عن المنافقين كما يفهم من سياق كلام المؤلف..
٥ - ولكنه لم يرد إلا بالنهي إلا إذا قاتلن كما في الصحيح..
قوله تعالى :﴿ الّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشَاً ﴾ [ ٢٢ ] : إبانة للقدرة بأن جعلها على مثال الفراش، وليس ذلك لحكم الإطلاق فإنه لو حلف أن لا يبيت على فراش فبات على الأرض لم يحنث، ولو قال : لا أقعد في السراج فقعد في الشمس لم يحنث، لأن الإطلاق لا ينصرف إليه. . . وكذلك في قوله :﴿ والجِبَالَ أَوْتَاداً ﴾١. . فافهم الفرق بين العرف الشرعي واللغوي، والمذكور على وجه التقييد. .
ودل قوله تعالى :﴿ الّذي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ فِرَاشَاً ﴾ إلى قوله :﴿ فَإنْ لَم تفَعَلُوا وَلَنْ تَفعَلوا ﴾ [ ٢٤ ] على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد.
١ - سورة النبأ، آية ٧..
ودل قوله تعالى :﴿ الّذي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ فِرَاشَاً ﴾ إلى قوله :﴿ فَإنْ لَم تفَعَلُوا وَلَنْ تَفعَلوا ﴾ [ ٢٤ ] على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد.
ودل قوله تعالى :﴿ الّذي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ فِرَاشَاً ﴾ إلى قوله :﴿ فَإنْ لَم تفَعَلُوا وَلَنْ تَفعَلوا ﴾ [ ٢٤ ] على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد.
وقال :﴿ وَبَشِّرِ الّذيِنَ آمَنُوا ﴾ [ ٢٥ ] : وهو دليل على أنه أول مبلغ إليهم. . .
وقال العلماء : إذا قال أي عبد بشرني بولادة فلان فهو حر، فإن الأول من المبشرين يعتق دون الثاني، لأن البشارة حصلت بخبره دون غيره، وهو ما يحصل به الاستبشار ويأتي١ على بشرة الوجه. ولو قال : أي عبد أخبرني بولادتها عتق الثاني مثل الأول، ولذلك يقال : ظهرت تباشير الأمر لأوائِله، ولا تطلق البشارة قي الشر إِلا مجازاً. وقيل : هو عام فيما سر وغم، لأن أصله فيما يظهر أولاً في بشرة الوجه من سرور أو غم، إلا أنه كثر فيما يسر فصار الإطلاق أخص به منه بالشر. .
١ - أي ويظهر..
قوله تعالى :﴿ خَلَقَ لَكُمْ ما في الأَرْضِ جَميِعاً ﴾ [ ٢٩ ] : يدل على إباحة الأشياء في الأصل، إلا ما ورد فيه دليل الحظر، وكذلك قوله :﴿ سَخّرَ لَكُمْ ما فيِ السّمَوَاتِ وَمَا في الأرْضِ١. .
١ - سورة لقمان، آية ٢٠. وسورة الجاثية، آية ١٢..
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بهِ ﴾ [ ٤١ ] : يدل على أن الكفر وإن كان قبيحا، فالأول من السابق أشد قبحاً وأعظم لمأثمه وجرمه، لقوله :﴿ وَلْيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ١ الآية وقوله :﴿ ليَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَار الّذيِنَ يُضِلونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾٢ وقوله :﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْسَاً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الأرْضِ فَكَأنّمَا قَتَلَ النّاس جَميْعاً٣، وقال عليه السلام :" إن على ابن آدم القاتل من الإثم في كل قتيل ظلماً لأنه أول من سن القتل "، ٤ وقال :" من سن سنة حسنة " ٥ الحديث.
١ - سورة العنكبوت، آية ١٢: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة مما كانوا يفترون)..
٢ - سورة النحل، آية: ٢٥..
٣ - سورة المائدة، آية ٢٢..
٤ - رواه البخاري: ٤/١٠٦، ٩/٣-٤، ومسلم: ١١/١٦٦، نووي، والترمذي: ٧/٤٣٦، تحفة الأحوذي، وابن ماجة رقم ٢٦١٦، ومسند أحمد: ٣/٣٨٣، والنسائي كتاب التحريم، وهو هنا بالمعنى...
٥ - رواه مسلم، ج١٦ ص٢٢٦، والترمذي ج٤ ص١٤٩، وقال حسن صحيح، وأحمد ج١ ص ١٩٢، وأبو داود وابن ماجة وابن حبان وهو في الموطأ ص١٥٢ ط: الشعب..
وقوله :﴿ أَقيِمُوا الصَّلاَةَ وآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [ ٤٣ ] يجوز أن يرجع إلى صلاة معهودة متقدمة، ويجوز أن يكون مجملاً موقوفاً على بيان متأخر عند من يجوز ذلك.
﴿ وارْكَعُوا مَعْ الرَّاكِعِينَ ﴾ [ ٤٣ ] : لعله ذكره لأن صلاة أهل الكتاب لا ركوع فيها، فأراد أن يخصص الركوع ليعلم به تميز صلاتنا عن صلاتهم. .
قوله تعالى :﴿ فَبَدَّلَ الّذيِنَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ [ ٥٩ ] : يدل على أنه لا يجوز تغيير الأقوال المنصوص عليها وأنه يتعين اتباعها.
قوله تعالى :﴿ إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ [ ٦٧ ] : هو مقدم في التلاوة.
وقوله :﴿ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ﴾ [ ٦٨ ] : لا يعلم إلا بالاجتهاد، فهو دليل على جواز الاجتهاد، ودليل على اتباع الظواهر مع جواز أن يكون الباطن على خلافه. ودل عليه قوله :﴿ وَمَا كَادُوا يَفْعَلُون ﴾ [ ٧١ ].
وقوله :﴿ مُسَلَّمَةٌ ﴾ [ ٧١ ] : يعني من العيوب، وذلك لا يعلم حقيقة وإنما يعلم ظاهراً. .
وقوله :﴿ قَتَلْتُمْ نَفسْاً ﴾١ [ ٧٢ ] مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة٢، ويجوز أن يكون في النزول مقدماً وفي التلاوة مؤخراً.
ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب ترتيب تلاوتها، فكأن الله تعالى أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها، ثم وقع ما وقع من أمر القتيل، فأمروا أن يضربوه ببعضها٣. ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب ترتيب تلاوتها وإن كان مقدماً في المعنى، لأن الواو لا توجب الترتيب، كقول القائل : اذكر إذ أعطيت زيداً ألف درهم إذ بنى داري، والبناء متقدم العطية، ونظيره في قصة نوح بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله :﴿ قُلْنَا احْملْ فيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ - إلى قوله - إلاَّ قَلِيلٌ٤، فذكر إهلاك من أهلك منهم، ثم عطف عليه بقوله :﴿ وقَالَ ارْكَبوُا فيِهَا بِسْمِ الله مَجْرَاها وَمُرْسَاهَا٥، فالمعنى يجب مراعاة ترتيبه لا اللفظ، ويستدل به على جواز تأخير بيان المجمل.
وقد قيل : إنه كان عموماً وكان ما ورد بعده نسخاً، فقيل له : فهو نسخ قبل مجيء وقته، فأجابوا : بأنه قد جاء وقته وقصروا في الأداء.
وقد قيل : فهلا أنكر عليهم في أول المراجعة ؟ فأجابوا : بأن التغليظ ضرب من الكبر.
١ - ونص الآية: (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون)..
٢ - أي لأن الأمر بذبح البقرة إنما كان سببه قتل النفس كما في الجصاص..
٣ - قال الألوسي: والمشهور خلافه..
٤ - سورة هود، آية: ٤..
٥ - سورة هود، آية: ٤١..
قوله تعالى :﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمنُوا لَكُمْ. . ﴾ الآية [ ٧٥ ] : دليل على أن العالم بالحق المعاند فيه أبعد عن الرشد، لأنه علم الوعد والوعيد ولم يثنه ذلك عن عناده. .
قوله :﴿ لَنْ تَمَسنَا النّارُ إلا أَيّاماً مَعْدودَةً ﴾ [ ٨٠ ] : فيه رد على أبي حنيفة في استدلاله بقوله عليه السلام :" دعي الصلاة أيام حيضتك١ ". . في أن مدة الحيض ما يسمى أيام الحيض، وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة، لأن ما دون الثلاثة يسمى يوماً أو يومين، وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوماً، فيقال لهم : فقد قال الله تعالى في الصوم :﴿ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ ﴾٢ وعنى به جميع الشهر، وقال :﴿ لَن تَمَسّنَا النّارُ إلاَّ أَيّاماً معدودةً ﴾ وعنى به أربعين يوماً، وإذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يرد به تحديد العدد، بل يقال : أيام مشيك وسفرك وإقامتك وإن كان ثلاثين وعشرين وما شئت من العدد. ولعله٣ أراد ما كان معتادا لها، والعادة ست أو سبع٤.
١ - في حديثه صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت حبيش..
٢ - سورة البقرة، آية: ١٨٤..
٣ - أي النبي صلى الله عليه وسلم.
٤ - وهي المدة العادية للحيض..
قوله تعالى :﴿ بَلىَ مَن ْ كَسِبَ سَيِّئةً وأَحَاطَتْ بِه خَطِيئتهُ ﴾ [ ٨١ ] : فيه دليل على أن المعلق من اليمين على شرطين لا ينجز بأحدهما١ ومثله في قوله تعالى :﴿. . الّذِينَ قالُوا رَبنَا اللهُ ثم اسْتَقَامُوا٢. .
١ - حيث علق الجزاء وهو الخلود في النار بوجود الشرطين لأن الخطيئة لا تحيط إلا بالكافر...
٢ - سورة فصلت، آية ٣٠، وسورة الأحقاف، آية ١٣..
قوله تعالى :﴿ وقُولُوا للنّاسِ حُسْناً ﴾ [ ٨٣ ] : يجوز أن يكون مخصوصاً بالمسلمين، ويجوز أن يكون قد نسخه الأمر بقتال المشركين ولعنهم، ويجوز أن يكون في الدعاء إلى الله تعالى١. . .
١ - أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناهما الشامل للجهاد..
وقوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ﴾ [ ١١٤ ] :
قوله " منع " نزل في شأن المشركين حين منعوا المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام، وسعيهم في خرابه بمنعهم من عمارته بذكر الله وطاعته.
وقوله :﴿ أُولئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلاَّ خائفين ﴾ [ ١١٤ ] : يدل على أن للمسلمين إخراجهم منها إذا دخلوها، لولا ذلك ما كانوا خائفين بدخولها،
ويدل على مثل ذلك قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ للْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ الله ﴾١، وعمارتها تكون ببنائها وإصلاحها، والثاني : حضورها ولزومها. . . كما يقال : فلان يعمر مسجد فلان، أي يحضره ويلزمه. .
١ - سورة التوبة، آية: ١٧..
قوله عز وجل :﴿ وَللهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ ﴾ [ ١١٥ ] : يدل على جواز التوجه إلى الجهات في النوافل، وللمجتهد جواز التعبد بالجميع. .
وقوله :﴿ وقَالُوا اتّخَذَ اللهُ وَلَدَاً ﴾ الآية [ ١١٦ ] : يدل على امتناع اجتماع الملك والولادة، إلا جواز الشراء توسلاً إلى العتق بقوله عليه السلام :" فيشتريه فيعتقه١ ". . أي بالشراء يعتقه، كقوله عليه السلام " الناس غاديان : فبائع نفسه فموبقها، ومشتر نفسه فمعتقها " ٢، يريد أنه يعتقها بالشراء لا باستئناف عتق.
١ - روى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يجزى ولد والدا إلا أن يجده فيشتريه فيعتقه" ورواه أبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد...
٢ - والحديث في مسلم: كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها..
قوله تعالى :﴿ وإذ ابَتَلَى إبْرَاهِيِمَ ربّهُ بكَلِماتٍ فَأتَمّهُنَّ ﴾ الآية [ ١٢٤ ] : دلت على أن التنظف ونفي الأوساخ والأقذار عن الثياب والبدن مأمور به، وقد قال سليمان بن فرج أبو واصل : أتيت أبا أيوب فصافحته فرأى في أظفاري طولاً، فقال : جاء رجل إلى النبي عليه السلام يسأل عن أخبار السماء، فقال : يجيء أحدكم فيسأل عن أخبار السماء وأظفاره كأنها أظفار الطير يجتمع فيها الوسخ و النفث ؟ وقالت عائشة رضي الله عنها :
" خمس لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعهن في سفر ولا حضر : المرآة، والكحل، والمشط، و المدري، والسواك ". ١
قوله تعالى :﴿ إنِّي جَاعِلُكَ للنّاسِ إمَامَاً ﴾ [ ١٢٤ ] : الإمام : من يؤتم به في أمر الدين، كالنبي عليه السلام والخليفة والعالم.
أخبر الله تعالى إبراهيم أنه جاعله للناس إماماً، وسأل إبراهيم ربه أن يجعل من ذريته أئمة، فقال تعالى :﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمين ﴾ [ ١٢٤ ].
ودل قول الله تعالى :﴿ لاَ يَنَالُ عهْدي الظّالمين ﴾ على أن الإجابة قد وقعت له في أن من ذريته أئمة، ولكن لا إمامة لظالم حتى لا يقتدى به، ولا يجب على الناس قبول قوله في أمر الدين.
نعم : كان يجوز أن تظهر المعجزة على يد فاسق ظالم ويجب قبول قوله لوجود الدليل وإن لم يجب قبول الفاسق لعدم ظهور الصدق الذي هو دليل قبول قوله، فأما دليل المعجزة فلا يختلف بالظلم وعدمه عقلاً غير أن العصمة وجبت للأنبياء سمعاً، ويجوز عقلاً وجوب قبول قول الفاسق، ولكن دلت هذه الآية على أن عهد الله تعالى لا ينال الظالمين.
فيحتمل أن يكون ذلك النبوة، ويحتمل أن يكون ما أودعهم من أمر دينه، وأجاز قولهم فيه وأمر الناس بقبوله منهم.
ويطلق العهد على الأمر، قال الله تعالى :﴿ إنَّ اللهَ عَهِدَ إلَيْنَا٢، يعني أمرنا، وقال :﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنيِ آدَمَ٣، يعني : ألم أقدم إليكم الأمر به.
وإذا كان عهد الله هو أوامره، فقوله :﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِيِ الظّالمِين ﴾ لا يريد به أنهم غير مأمورين لأن ذلك خلاف الإجماع، فدل على أن المراد به أن يكونوا بمحل من تقبل منهم أوامر الله، ولا يؤمنون عليها.
١ - قال العراقي في تخريج الأحياء: رواه الطبراني في الأوسط، والبيهقي في سننه، والخرائطي في مكارم الأخلاق واللفظ له، وطرقه كلها ضعيفة..
٢ - سورة آل عمران، آية ١٨٣..
٣ - سورة يس، آية ٦٠..
قوله تعالى :﴿ وإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً ١للنّاسِ وأَمْناً ﴾، يحتج به في كون الحرم مأمناً، ويحتمل أن يكون معناه جميع الحرم، كقوله :﴿ وَلا َ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ٢ وقوله :﴿ فَلاَ يَْقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذا٣، إلا أن معناه أنه مأمن عن النهب والغارات، ولذلك قال النبي عليه السلام في خطبته يوم فتح مكة :" إن الله حبس عن مكة الفيل، وملك عليها رسوله والمؤمنين، وإنما أُحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة، لا يقطع شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد " ٤
نعم، قد روى أبو شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، فلا يسفكن فيها دم، وإن الله تعالى حلها لي ساعة ولم يحلها للناس٥ ".
ويحتمل أن يكون جعلها مأمناً ما جعل فيها من العلامة العظيمة على توحيد الله تعالى، واختصاصه لها بما يوجب تعظيمها ما شوهد من مر الصيد فيها، فإن سائر بقاع الحرم مشبهة لبقاع الأرض، ويجتمع فيها الكلب والظبي، فلا يهيج الكلب ولا ينفر منه الظبي، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه وعاد إلى النفور والهرب.
وقوله تعالى :﴿ واتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيِمَ مُصَلّى ﴾ [ ١٢٥ ] : يدل على ركعتي الطواف وغيرهما من الصلوات.
وقوله :﴿ أَنْ طَهّرَا بَيْتي للطّائِفِينَ والعَاكِفِينَ والُّرُّكّعِ السُجودِ ﴾ [ ١٢٥ ] : يدل من وجه على أن الطواف للغرباء أفضل، والصلاة للمقيمين والعاكفين بها أفضل، ويدل على اشتراط الطهارة للطواف، ويدل على جواز الصلاة في نفس الكعبة رداً على مالك في منع الصلاة المفروضة في الكعبة٦ دون النفل، وأمره بتطهير نفس البيت يدل على الصلاة -التي شرعت الطهارة فيها- في نفس البيت.
ودل أيضاً قوله تعالى :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسْجِدِ الحَرامِ٧ على جواز الصلاة٨، إذ الشطر الناحية، والمصلي في البيت متوجه إلى ناحية منه.
١ - مثابة أصله من ثاب يثوب إذا رجع، أي يرجعون إليه في كل عام، ولا ينصرف عنه أحد فيرى نفسه قد قضى غرضه. والآية ١٢٥ من سورة البقرة..
٢ - سورة البقرة، آية ١٩١..
٣ - سورة التوبة، آية ٢٨..
٤ - رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما في باب تحريم مكة وتحريم صيدها..
٥ - أخرجه البخاري بنحوه في الحج، ومسلم في صحيحه ج٩ ص١٢٦ نووي...
٦ - في الأحكام للجصاص "في البيت" وما هنا أوضح، وهذا الاستدلال مأخوذ من الأمر بتطهير نفس البيت، ومنه الكعبة، ولو لم يشمل ذلك تطهير داخلها للركع السجود لكان المطلوب تطهير ما حولها فقط، وهو ما أشار إليه هنا..
٧ - سورة البقرة، آية ١٩١..
٨ - أي في البيت..
قوله تعالى :﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً ﴾ [ ١٢٦ ] : يعني من القحط والغارة، لا على ما ظنه بعض الجهال أنه يمنع من سفك الدم في حق من لزمه القتل، فإن ذلك يبعد كونه مقصوداً لإبراهيم عليه السلام، حتى يقال : إنه طلب من الله أن يكون في شرعه تحريم قتل من التجأ إلى الحرم، ممن حرم الله تعالى عليه دخول الحرم والمقام فيه وأمره بالخروج ومنع من معاملته وتعزيره على ظلمه، دون أن يكون مراده منه رفع القتر١ والغارات والنهوب والقتال، خاصة إذا قيل : يجوز قطع الأيدي في السرقة، وإقامة الجلدات في الجرائم الموجبة لها، وكيف يحصل معنى الأمن مع هذا ؟
ودل سياق الآية على ذلك، فإنه تعالى قال :﴿ وارْزُقْهُمْ مِنَ الثّمَرَاتِ ﴾٢
وقال :﴿ فاجْعَلْ أَفْئِدةً مِنَ النّاسِ تَهْوى إلَيْهِمْ ﴾. ٣
ومنع الله تعالى من اصطلام٤ أهلها، ومنع من الخسف و الغرق الذي لجّو غيرها، وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار أهلها متميزين بالأمن عن غيرهم من أهل القرى.
قوله تعالى :﴿ وَلْيَطّوّفُوا بِالْبَيْتِ العَتيِقِ٥ : يوجب الطواف لجميع البيت، فمن سلك الحجر أو على شاذروان٦ الكعبة، وهي من البيت، فلم يطف جميع البيت فلا يجوز.
١ - القتر: جمع قترة وهي بيت الصائد الذي يستتر به عند تصيده، وقتر اللحم من باب ضرب وقتل، ارتفع قتاره أي دخانه إذا طبخ، والمراد المنع من الصيد وأكله فيه..
٢ - سورة إبراهيم، آية ٣٧..
٣ - سورة إبراهيم، آية ٣٧..
٤ - الاصطلام: الاستئصال، واصطدم القوم أبيدوا..
٥ - سورة الحج، آية ٢٩..
٦ - شاذروان الكعبة: البناء المحدودب الذي في جدار البيت وأسقط من أساسه ولم يرفع على استقامته..
قوله :﴿ رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّا ﴾ [ ١٢٧ ] : معناه : يقولون ربنا، كما قال تعالى :﴿ وَالمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْديِهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكَمْ ﴾١ معناه : يقولون : أخرجوا أنفسكم.
١ - سورة الأنعام، آية ٩٣..
قوله تعالى :﴿ أَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ [ ١٢٨ ] : يقال أن أصل النسك في اللغة الغسل، يقال منه : نسك ثوبه إذا غسله، وهو في الشرع اسم للعبادة، يقال : رجل ناسك إذا كان عابداً، وقال البراء ابن عازب : خرج النبي عليه السلام يوم الأضحى فقال :" إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح " ١ وقال عز وجل :﴿ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ ﴾٢ يعني ذبح شاة.
ومناسك الحج : ما يقتضيه من الذبح و سائر أفعاله، وقال عليه السلام حين دخل مكة محرماً :" خذوا عني مناسككم ". ٣
١ - أخرجه أبو داود الطيالسي، ووهب بن جرير عن شعبة عن زبيد اليامي عن الشعبي عن البراء بن عازب. انظر شرح معاني الآثار للطحاوي ج٤ ص١٧٣ وهو في البخاري كتاب العيدين بنحوه..
٢ - سورة البقرة، آية ١٩٦..
٣ - الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، وأبو داود، والنسائي..
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلّةِ إبْرَاهِيِمَ ﴾ الآية [ ١٣٠ ] : يدل على لزوم اتباع إبراهيم في شرائعه فيما لم يثبت نسخه.
وقوله تعالى :﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ التِّي كاَنُوا عَلَيْهَا ؟ قُلْ للهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [ ١٤٢ ] : يدل على جواز النسخ لقوله :﴿ وللّهِ المَشرِقُ والمَغْرِبُ ﴾، ومعناه : أن الجهات لا تقتضي التوجه في الصلاة إليها لذواتها وإنما وجود التوجه إليها بإيجاب الله تعالى.
وقد دلت الآية أيضاً على جواز نسخ السنة بالقرآن١، لأن النبي عليه السلام كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس - وليس في القرآن ذكر ذلك - ثم نسخ، ومن يأبى ذلك يقول : قد ذكر ابن عباس أنه نسخ قوله تعالى :﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ٢، وكان التوجه إلى حيث كان من الجهات في مضمون الآية، ثم نسخ بالتوجه إلى الكعبة.
ولما نسخت القبلة إلى بيت المقدس وصل الخبر إلى أهل قباء في صلاته فاستداروا، ففهم منه أن الأمة إذا عتقت وهي في الصلاة أنها تأخذ قناعها وتبني، وهذا أصل في قبول خبر الواحد في أمر الدين، ويدل على جواز ثبوت نسخ بقاء الحكم بعد الأمر الأول بقول الواحد وأن الدليل الموجب للعلم بثبوت الحكم غير الدليل المبقي، ولذلك صح ثبوت النسخ بقول الواحد، ويمكن أن يفهم منه أن المتيمم إذا رأى الماء في خلال الفلاة يتوضأ ويبنى.
١ - راجع القرطبي..
٢ - سورة البقرة، آية ١١٥..
وقوله تعالى :﴿ وَحيثُ ما كُنتُمْ فَوَلُّوا وَجُوهَكُمْ شَطرَهُ ﴾ [ ١٤٤ ] :١ خطاب لمن كان معايناً للكعبة ولمن كان غائباً عنها، والمراد لمن كان حاضرها إصابة عينها، ومن كان غائباً عنها ولا يمكنه إصابة عينها يكلف ما لا يطيق وإنما سبيله الاجتهاد، فهو دليل على استعمال الأدلة وهو سبيل القياس في الحوادث أيضاً، ويدل على أن الأشبه من الحوادث حقيقة مطلوبة بالاجتهاد، ولذلك صح تكليف طلب القبلة بالاجتهاد لأن لها حقيقة، ولو لم يكن هناك قبلة رأساً لما صح تكليفنا طلبها.
١ - والشطر في اللغة يقال على النصف من الشيء وعلى القصد، والمراد بالمسجد الحرام البيت من التعبير عن الشيء بما يجاوره، وأراد سبحانه أن من بعد عن البيت يقصد الناحية لا عين البيت، ابن العربي في الأحكام..
قوله تعالى :﴿ وَلِكُلٍ وجهَةُ١ هُوَ مُوَلِّيها ﴾ [ ١٤٨ ] : يفيد أن لكل قوم من المسلمين وجهة من أهل سائر الآفاق إلى جهات الكعبة، وراءها وقدامها وعن يمينها أو شمالها، كأنه أفاد أنه ليس جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها.
قوله :﴿ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ﴾ [ ١٤٨ ] : يدل على أن تعجيل الطاعات أفضل من تأخيرها.
١ - والوجهة هيأة التوجه وتطلق على المكان المتوجه إليه والمراد أن لكل حالة في التوجه إلى القبلة، مكان يتوجه إليه..
قوله تعالى :﴿ لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إلاَّ الّذيِنَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾ [ ١٥٠ ] :
من الناس من يحتج به في جواز الاستثناء من غير جنسه، وقد قال قوم : هو استثناء منقطع١، ومعناه : لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبه ويضيعون موضع الحجة، وهو مثل قوله :﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاَّ اتِّبَاعَ الظّنِّ٢، معناه : لكن اتباع الظن.
وقال النابغة :
ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهُم *** بهنَّ فُلول من قِرَاعِ الكتائب ومعناه : لكن بسيوفهم فلول وليس بعيب.
وقيل : أراد بالحجة المحاجة والمجادلة، ومعناه : لئلا يكون للناس عليكم حجاج إلا الذين ظلموا منهم يحاجونكم بالباطل.
١ - كما روى ذلك ابن عطية، وذكر القرطبي "وقالت فرقة ـ إلا الذين ـ استثناء متصل"، أ هـ ج٢ ص١٦٩..
٢ - سورة النساء، آية ١٥٧..
قوله تعالى :﴿ فاذْكُرُوني أذْكُرْكُمْ ﴾ [ ١٥٢ ] : يحتمل التفكر في دلائله، ومثله قوله :﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ١.
١ - سورة الرعد، آية ٢٨..
وقوله تعالى بعده :﴿ اسْتَعِينوا بِالصّبْرِ والصّلاَةِ ﴾ [ ١٥٣ ] عقب قوله :﴿ فَاذْكُرُوني أَذْكُرْكُمْ ﴾ : يدل على أن الصبر وفعل الصلاة معونة في التمسك بأدلة العقول الدالة على وحدانيته، وهو مثل قوله :﴿ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكر ﴾١ : أخبر أن فعل الصلاة لطف في ترك الفحشاء والمنكر، ثم عقبه بقوله :﴿ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ﴾ يعني : أن ذكر الله تعالى بالقلب قي دلائله أكبر من فعل الصلاة، وأن فعل الصلاة معونة في التمسك بهذا الذكر ولطف في إدامته.
١ - سورة العنكبوت، آية ٤٥..
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقُولُوا لمَنْ يُقْتَلُ فيِ سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ ﴾ الآية [ ١٥٤ ] : قيل دليل على إحياء الله الشهداء بعد موتهم لا حياة القيامة، فإنه قال :" وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُوُنَ ".
وإذا كان الله تعالى يحييهم بعد الموت ليرزقهم، فيجوز أن يحيي الكفار ليعذبهم، وفيه دليل على عذاب القبر.
قوله تعالى :﴿ وَلْنَبْلُوَنّكُمْ بشَيءٍ مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ ونقصٍ مِنَ الأمْوَالِ والأَنْفُسِ والثّمَرَاتِ وبَشِّرِ الصّابِرِين ﴾ [ ١٥٥ ] : فقدم ذكر ما علم أنه يصيبهم ليوطنوا أنفسهم عليه، فيكون أبعد لهم من الجزع ويكونوا مستعدين له، فلا يكون كالهاجم عليهم، وفيه تعجيل ثواب الله تعالى على العزم وتوطين النفس.
وقوله تعالى :﴿ الّذِينَ إذا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا للهِ ﴾ [ ١٥٦ ] : يعني إقرارهم بالعبودية في تلك الحالة بتفويض الأمور إليه، والرضا بقضائه فيما يبتليهم به، وأنه لا يقضي إلا بالحق، كما قال تعالى :﴿ واللهُ يَقْضِي بالحَقِّ والذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ﴾١.
وقوله :﴿ وإنا إليه رَاجِعُون ﴾ : إقرار بالبعث، وأن الله تعالى يجزي الصابرين على قدر استحقاقهم.
ثم الصبر على جهات مختلفة : فما كان على فعل الله تعالى فهو بالتسليم والرضا، وما كان من فعل العدو فهو بالصبر على جهادهم، والثبات على دين الله تعالى لما يصبهم من ذلك، ونبهت الآية على فرح الصابرين وما في الصبر من تسلية عن الهم ونفي الجزع، وفيه صبر على أن الفرائض لا يثنيه عنها مصاعب الدنيا و شدائدها. . .
وفي التلفظ بقوله تعالى :﴿ إنّا للهِ وإنّا إليهِ رَاجِعُون ﴾ : غيظ الأعداء لعلمهم بجده واجتهاده، ويقتدي به غيره إذا سمعه، وربما ترقى الأمر بالصابر المفكر في الدنيا إلى أن - لا يحب - البقاء فيها وهو الزهد في الدنيا، والرضا بفعل الله تعالى عالماً بأنه صدر من عند من لا يتهم عدله ولا يصدر عن غير الحكمة فعله وأنه لا يجوز أن يفوته ما قد قدر لحوقه به، ومن علم أن لكل مصيبة ثواباً فينبغي أن لا يحزن لها.
١ - سورة غافر، آية ٢٠..
قوله تعالى :﴿ إنَّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ البَيِّنَاتِ ﴾ [ ١٥٩ ] مع أمثاله في القرآن يدل على وجوب إظهار علوم الدين وتبيينها للناس، وعم ذلك المنصوص عليه والمستَنبط لشمول اسم الهدى للجميع، وفيه دليل على وجوب قبول قول الواحد، لأنه لا يجب البيان عليه إلا وقد وجب قبول قوله. .
وقال :﴿ إلاَّ الّذيِنَ تَابُوا وأَصْلَحُوا وَبَيّنوُا ﴾ [ ١٦٠ ] : فحكم بوجوب البيان بخبرهم، فإن قيل : إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهياً عن الكتمان ومأموراً بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر بهم الخبر، قلنا : هذا غلط، لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه، ومتى جاز منهم التواطؤ على الكتمان جاز منهم التواطؤ في النقل، فلا يكون خبرهم موجباً للعلم.
ودلت الآية أيضاً على لزوم إظهار العلم وترك كتمانه ومنع أخذ الأجرة عليه، إذ لا تستحق الأجرة على ما عليه فعله كما لا يستحق الأجرة على الإسلام، وقال :﴿ إنَّ الّذيِنَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الكِتَابِ ويَشْتَرُونَ بهِ ثَمَنَاً قَليلا١ : وذلك يمنع أخذ الأجرة على الإظهار وترك الكتمان، لأن قوله :﴿ وَيَشْتَرُونَ بهِ ثَمَناً قَليلاً ﴾ مانع من أخذ البدل عليه من سائر الوجوه، إذ كان الثمن في اللغة هو البدل.
وقوله تعالى :﴿ إلاَّ الذينَ تابُوا وأَصْلَحُوا وَبَيّنُوا ﴾ [ ١٦٠ ] : يدل على أن التوبة من الكتمان إنما تكون بإظهار البيان، وأنه لا يكتفي في صحة التوبة بالندم على الكتمان فيما سلف دون البيان فيما يستقبل. .
١ - سورة البقرة، آية ١٧٤..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٩:قوله تعالى :﴿ إنَّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ البَيِّنَاتِ ﴾ [ ١٥٩ ] مع أمثاله في القرآن يدل على وجوب إظهار علوم الدين وتبيينها للناس، وعم ذلك المنصوص عليه والمستَنبط لشمول اسم الهدى للجميع، وفيه دليل على وجوب قبول قول الواحد، لأنه لا يجب البيان عليه إلا وقد وجب قبول قوله..
وقال :﴿ إلاَّ الّذيِنَ تَابُوا وأَصْلَحُوا وَبَيّنوُا ﴾ [ ١٦٠ ] : فحكم بوجوب البيان بخبرهم، فإن قيل : إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهياً عن الكتمان ومأموراً بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر بهم الخبر، قلنا : هذا غلط، لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه، ومتى جاز منهم التواطؤ على الكتمان جاز منهم التواطؤ في النقل، فلا يكون خبرهم موجباً للعلم.
ودلت الآية أيضاً على لزوم إظهار العلم وترك كتمانه ومنع أخذ الأجرة عليه، إذ لا تستحق الأجرة على ما عليه فعله كما لا يستحق الأجرة على الإسلام، وقال :﴿ إنَّ الّذيِنَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الكِتَابِ ويَشْتَرُونَ بهِ ثَمَنَاً قَليلا١ : وذلك يمنع أخذ الأجرة على الإظهار وترك الكتمان، لأن قوله :﴿ وَيَشْتَرُونَ بهِ ثَمَناً قَليلاً ﴾ مانع من أخذ البدل عليه من سائر الوجوه، إذ كان الثمن في اللغة هو البدل.
وقوله تعالى :﴿ إلاَّ الذينَ تابُوا وأَصْلَحُوا وَبَيّنُوا ﴾ [ ١٦٠ ] : يدل على أن التوبة من الكتمان إنما تكون بإظهار البيان، وأنه لا يكتفي في صحة التوبة بالندم على الكتمان فيما سلف دون البيان فيما يستقبل..
١ - سورة البقرة، آية ١٧٤..

وقوله تعالى :﴿ إن الذين َ كفَروا وماتُوا وهمْ كفارٌ أولئكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ ﴾ [ ١٦١ ] : فيه دليل على أن على المسلمين لعن من مات كافراً، وأن زوال التكليف عنه بالموت لا يسقط عنه مذمة لعن المسلمين، وكذلك إذا جن الكافر، وأنه ليس لعنتنا له بطريق الزجر عن الكفر، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره. وقد قال قوم من السلف إنه لا فائدة في لعن من مات أو جن منهم لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر، فإنه لا يتأثر به. .
والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك ويتضرر به ويتألم قلبه ويكون ذلك جزاء على كفره، كما قال تعالى :﴿ ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضَكُمْ بَعْضاً ﴾١، ويدل على صحة هذا القول أن الآية دالة على الإخبار من الله تعالى بلعنهم لا على الأمر. .
١ - سورة العنكبوت، آية ٢٥..
قوله تعالى :﴿ وإلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [ ١٦٣ ] : دل على الاتحاد في الذات والصفات واستحالة المثل والإتحاد في الوجود منفرداً بالقدم، فانتظم وصفه لنفسه بأنه واحد هذه المعاني. .
وقوله :﴿ إنَّ في خَلْقِ السّمَوَاتِ والأرْضِ ﴾ [ ١٦٤ ] : بيان توحده في أفعاله وأمر لنا بالاستدلال بها، رداً على من نفى حجج العقول. .
واعلم أن الدلالة الأصلية على الصانع إثبات حدوث الأجسام والجواهر، أما قوله تعالى على التفصيل :﴿ إنَّ في خَلقِ١ السّمَواتِ والأَرْضِ ﴾ فهو من جهة وقوف السماء على غير عمد، ودلالة ذلك من جهة السكون أو الحركة، وفيه شيء آخر، وهو أن وقوف الثقيل بلا مساك٢ يقله تتعجب منه العامة، مع أن الثقل لا معنى له إلا اعتمادات يخلقها الله تعالى، وليس يجب هُوِيُّ الجِرم وذهابه في جهة دون جهة من جهة كثرة الأجزاء وقلتها، غير أن وقوف العظيم غير هاوٍ مُتَعَجّبٌ منه عند من لا يعرف السبب فيه، ولا سبب للسكون إلا خلق الله تعالى السكون فيه، ولا يقف حجر في الهواء من غير علاقة٣، ودل ذلك على القدرة وخرق العادة : ولو جاء نبي وتحدى بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزاً. . .
وأما اختلاف الليل والنهار فلتعاقبهما، وتعاقبهما على سنن واحد يدل على أول، لاستحالة حوادث لا أول لها. . ودل اتساق هذه الأفعال وحركات الفلك على أن لها صانعاً عالماً قادراً يدبرها ويديرها.
ودلالة الفلك من جهة أن الجسم السيال كيف يحمل الثقل العظيم، وكيف صار الفُلْك على عظمه وثقل ما فيه مسخراً للرياح، وذلك يقتضي مسخِّراً يسخِّر الفلك والماء والرياح. والماء المنزل من السماء فيه دليل من جهة أن الماء شابه السيلان، فارتفاعه عجب، ثم إمساكه في السحاب غير سائل منه حتى ينقله إلى الموضع الذي يريده بالسحاب المسخرة لنقله فيه، فجعل السحاب مركباً للماء، والرياح مركباً للسحاب، حتى يسوقه من موضع إلى موضع، ليعم نفعه سائر خلقه، كما قال الله تعالى :﴿ أَوَ لَمْ يَرَوا أنّا نَسُوق المَاءَ إلى الأرْضِ الجُرُزِ٤، ثم أنزل ذلك الماء قطرة قطرة، لا تلتقي واحد مع صاحبتها في الجو مع تحويل الرياح لها، حتى تنزل كل قطرة على حيالها إلى موضعها من الأرض، فلولا أن مدبراً دبره على هذا الوجه كيف كان يجوز أن ينزل الماء من السحاب مع كثرته وهو الذي تسيل منه السيول العظام على هذا الترتيب والنظام، فلو اجتمع القطر وائتلف في الجو لقد كان يكون نزولها مثل السيول المجتمعة منها عند نزولها إلى الأرض، فيؤدي ذلك إلى هلاك الحرث والنسل.
واعلم أن من عرف حدوث العالم لأمر مرَّ، يعلم أن فعل الله تعالى في جميع ما ذكرناه لا بآلة، فلا العلاقة ماسكة، ولا الماء حامل، ولا الريح ولا السحاب مركب، ولا الرياح سابقة، فإنها جمادات لا أفعال لها، وإنما هذه عادات أجراها الله تعالى وليست موجبة، وكذلك حياة الأراضي بالمياه، وخروج أنواع النبات منها ليس بالمياه، ولعل إجراء العادة في إنشاء الخلق على النظام المعلوم تنبيه للعباد عند كل حادث من ذلك على قدرته والفكر في عظمته، وليشعرهم في كل وقت بما أغفلوه، ويحرك خواطرهم للفكر فيما أهملوه، فخلق الأرض والسماء ثابتين لا يزولان إلى الوقت المقدر، ثم أنشأ الحيوان من الناس وغيرهم من الأرض، ثم أنشأ للجميع رزقاً منها، وأقواتاً تبقى حياتهم بها. ولم يعطهم ذلك الرزق جملة فيظنون أنهم مستغنون بما أعطوا، بل جعل لهم قوتاً معلوماً في كل سنة بمقدار الكفاية لئلا يبطروا، ويكونوا مستشعرين بالافتقار إليه في كل حال. ووكل إليهم بعض الأسباب التي يتوصلون بها إلى ذلك من الحرث والزراعة، ليشعرهم أن للأعمال ثمرات من الخير والشر، فيكون ذلك باعثاً لهم إلى فعل الخير، ليجتنوا ثمرته، واجتناب الشر ليسلموا من مغبته، فيتولى من الأسباب ما لا يتأتى للخلق تحصيله. ثم جعل تلك الأسباب داعية لهم إلى الكسب والتبذل في الأعمال الشاقة لئلا يبطروا، وجعل أخلاقهم متفاوتة ليختلف بذلك صناعاتهم ويختلف درجاتهم في المهن والأعمال، وأنزل ما أنزل إلى الأرض بمقدار الحاجة، ثم لم يقتصر فيما أنزله من السماء على منافعه في وقت نزوله، حتى جعل للماء مخازن وينابيع في الأرض يجتمع فيها ذلك الماء فيخزن أولاً فأولاً على مقدار الحاجة، كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَاءً فَسَلَكهُ يَنَابِيعَ في الأَرْضِ٥، وقال :﴿ وأَنْزَلْنَا مِنَ السّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأسْكَنّاهُ في الأرْضِ وإنّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ٦. .
ولو كان اقتصر على ما ينزل من السماء من غير حبس له في الأرض إلى وقت الحاجة لكان قد سال كله، وكان في ذلك هلاك الحيوانات كلها، فجعل الأرض بمثابة بيت يأوي إليه الإنسان، والسماء بمنزلة السقف، وجعل ما يحدثه من المطر والنبات والحيوان والملابس والمطاعم، بمنزلة ما ينقله الإنسان إلى بيته لمصالحه. ثم سخر هذه الأرض لنا، وذللها للمشي عليها وسلوك طرقها، ومكننا من الانتفاع بها في بناء الدور والبيوت للسكن من المطر والحر والبرد، وتحصيناً من الأعداء، ولم يحوجنا إلى غيرها، وأي موضع أردنا منها بالانتفاع بها٧ في إنشاء الأبنية مما هو موجود فيها من الحجارة والجص والطين، ومما يخرج منها من الخشب والحطب أمكننا ذلك وسهل علينا، سوى ما أودعها من الجواهر التي عقد بها منافعها من الذهب والفضة والحديد والرصاص والنحاس وغير ذلك، كما قال تعالى :﴿ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَة أيّامٍ٨. . فهذه كلها وما يكثر تعداده، ولا يحيط به علمنا من بركات الأرض ومنافعها. .
ثم لما كانت مدة أعمارنا وسائر الحيوان لا بد أن تكون متناهية، جعلها كفاتاً لنا بعد الموت كما جعلها في الحياة، فقال :﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً٩، وقال :﴿ إنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَها ﴾١٠ الآية. .
ثم لم يقتصر فيما خلق من النبات والحيوان على الملذ دون المؤلم، ولا على الغذاء دون السم، ولا على الحلو دون المر، بل مزج ذلك كله ليشعرنا أنه غير مريد منا الركون إلى هذه الدار، لئلا تطمئن نفوسنا إليها فنشتغل بها عن الدار الآخرة التي خلقنا لها، فكان النفع في خلق الدواب المؤذية كالنفع في اللذة السارة، ليشعرنا في هذه الدار كيفية الآلام، ليتضح الوعيد بألم الآخرة، وينزجر عن القبائح، فإذا رأى حرّاً مفرطاً تذكر نار جهنم فيتعوذ بالله منها، وإذا رأى برداً مفرطاً تذكر برد الزمهرير فيتعوذ منه، واستدل بالقليل الفاني على الكثير الباقي، وانزجر عن القبائح طلباً لنعيم محض لا يشوبه كدر.
وفي قوله تعالى :﴿ وَالفُلْكِ الّتيِ تَجْرِي في البَحْرِ ﴾ [ ١٦٤ ] : دلالة على إباحة ركوب البحر تاجراً وغازياً وطالباً صنوف المآرب، وقال في موضع آخر :﴿ هُوَ الّذِي يُسَيِّرُكُمْ في البَرِّ والبَحْرِ١١، وقال :﴿ رَبكُمُ الّذِي يُزْجِي لَكُمُ الفُلْكَ فيِ البَحْرِ لتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ١٢. .
فقد انتظم١٣ التجارة وغيرها، كقوله تعالى :﴿ فإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا في الأرْضِ١٤، ﴿ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ١٥.
١ - الخلق هنا بمعنى المخلوق إذ الآيات التي تشاهد إنما هي في المخلوق الذي هو السماوات والأرض فالإضافة بيانية..
٢ - أي بلا شيء يمسك به يستطيع حمله..
٣ - بكسر العين ما يحمل به..
٤ - سورة السجدة، آية ٢٧..
٥ - سورة الزمر، آية ٢١..
٦ - سورة المؤمنون، آية ١٨..
٧ - في الجصاص: فأي موضع منها أردنا الانتفاع به في إنشاء الأبنية..
٨ - سورة فصلت، آية ١٠..
٩ - سورة المرسلات، آية ٢٥، ومعنى كفاتا، الموضع الذي يكفت فيه الشيء أي يضم ويجمع..
١٠ - سورة الكهف، آية ٧، ٨ وتمام الآية (لنبلوهم أيهم أحسن عملا، وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا)..
١١ - سورة يونس، آية ٢٢..
١٢ - سورة الإسراء، آية ٦٦..
١٣ - أي ابتغاء الفضل..
١٤ - سورة الجمعة، آية ١٠..
١٥ - سورة البقرة، آية ١٩٨ وأولها: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم)..
قوله تعالى :﴿ إنّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ ﴾ [ ١٧٣ ] : عموم في السمك والجراد وغيرهما.
وللناس كلام في جواز تخصيص عموم كلام الله تعالى بالسنة، وقد روى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالطحال والكبد ". وقد روى عمرو بن دينار عن جابر في قصة جيش الخبط١ : فإن البحر ألقى إليهم حوتاً أكلوا منه نصف شهر، فلما رجعوا إلى النبي عليه السلام فأخبروه، فقال : هل عندكم منه شيء تطعموني ؟
وبالجملة : الخبر عام وأيضاً الكتاب عام، فإذا وقع التنازع في الطافي٢، لم يصح الإستدلال بعموم الخبر على عموم الكتاب. . .
ومنهم من يستدل على تخصيص عموم آية تحريم الميتة بقوله تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعَاً لكُمْ٣، وهذا مع عمومه لا يصلح لتخصيص عموم تحريم الميتة. واستدلوا عليه بقول النبي عليه السلام أنه قال قي حديث صفوان بن سليمان الزرقي عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة ( عن أبي هريرة ) عن النبي عليه السلام أنه قال في البحر :" هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". . وسعيد بن سلمة مجهول غير معروف بالثبت، وقد خالفه في سنده يحيى ابن سعيد الأنصاري فرواه عن المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة عن أبيه عن رسول الله عليه السلام، ومثل هذا الاضطراب في السند يوجب اضطراب الحديث، وغير جائر تخصيص آية محكمة به. وقد روى زياد بن عبد الله البكائي قال : حدثنا سليمان الأعمش، قال : حدثنا أصحابنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" البحر الذكي صيده والطهور ماؤه ". . وهذا أضعف عند أهل النقل من الأول. وقد روي فيه حديث آخر، وهو ما رواه يحيى بن أيوب عن جعفر بن ربيعة وعمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة عن أبي معاوية العلوي عن مسلم إبراهيم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له في البحر :" هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". . قال أبو بكر الرازي : وهو الذي روى هذه الأخبار. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا أحمد بن حنبل قال أخبرنا أبو القاسم بن أبي الزناد قال حدثنا إسحاق بن حازم عن عبيد الله بن مقسم عن جابر عن النبي عليه السلام أنه سئل عن البحر، فقال :" هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". وأما أبو عيسى الترمذي فإنه يروي حديث سعيد بن سلمة في صحيحه، ويقول : إنه من آل ابن الأزرق، ويقول : إن المغيرة بن أبي بردة - وهو من بني الدار - أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول : سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من البحر ؟. . فقال عليه السلام :" البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". قال أبو عيسى : وفي الباب عن جابر والفراسي، ثم قال وهذا حديث حسن صحيح. . وروى الرازي عن علي أنه قال :" ما طفا من صيد البحر فلا تأكله٤ "، وروى أيضاً عن جابر وابن عباس كراهة الطافي.
وروى عن أبي بكر الصديق وأبي أيوب إباحة الطافي من السمك. .
وروى الرازي في أحكام القرآن - بإسناد له متصل عن جابر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما ألقى البحر أو جزر٥ عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه ". . وروي بإسناد آخر عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما جزر البحر عنه فكل٦، وما ألقي فكل، وما وجدته طافياً فوق الماء فلا تأكل ". وروي بإسناد آخر عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذ صدتموه ( وهو حي ) فكلوه، وما ألقى البحر ( حياً ) فمات فكلوه وما وجدتموه ميتاً طافياً فلا تأكلوه ". . وروي بإسناد آخر عن جابر :" ما وجدتموه وهو حي ( فمات ) فكلوه، وما ألقى البحر طافياً ميتاً فلا تأكلوه ". . وروي٧ عن سفيان الثوري وأيوب وحماد عن أبي الزبير موقوفاً على جابر. .
وبالجملة : هذه الأخبار لا نعرف صحتها على ما يجب، ولكن الإشكال في عموم كتاب الله تعالى، ويقابله أن عموم كتاب الله تعالى أنفقت الأمة على تطرق التخصيص إليه في غير الطافي من ميتات السمك فلم يبق وجه العموم معمولاً به، وصار الحديث المتفق على صحته واستعماله في غير الطافي معمولاً به في الطافي. .
وروى أصحابنا عن سعيد بن بشير عن أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك أن النبي عليه السلام قال :" كل مما طفا على البحر ". . وأبان بن أبي عياش ليس هو ممن يثبت ذلك بروايته، وقال شعبة : لأن أزني سبعين زنية أحب إليَّ من أن أروى عن أبان ابن أبي عياش. .
وقد أباح أبو حنيفة الميتة من الجراد٨، ومستنده قوله عليه السلام :" أحلت لنا ميتتان٩ "، وقضى بذلك على عموم الكتاب في تحريم الميتة، مع أن مالكاً يقول في الجراد أنه إذا أخذ حياً وقطع رأسه وشوي أكل، وما أخذ منه حياً فغفل عنه حتى مات لم يؤكل، إنما هو بمنزلة ما وجد ميتاً قبل أن يصاد فلا يؤكل عنده، وهو قول الزهري وربيعة. . وقال مالك : ما قتله مجوسي فلا يؤكل. . وقال الليث بن سعد : أكره الجراد ميتاً، فأما إذا أخذته وهو حي فلا بأس به.
وقال النبي عليه السلام في الجراد :" أكثر جنود الله : لا آكله و لا أحرمه " ١٠ ولم يفصل بين ما مات وبين ما قتله آخذه. . وقال عطاء عن جابر : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبنا جراداً فأكلناه. . وقال عبد الله بن أبي أوفى :" غزوت مع رسول لله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات فنأكل الجراد ولا نأكل غيره١١ ". . وكانت عائشة تأكل الجراد وتقول :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكله ". .
وهذه الأخبار مستعملة بالإجماع في تخصيص بعض ما تناوله عموم الكتاب في السمك والجراد، وذلك يدل على بطلان مذهب مالك في الجراد ومذهب أبي حنيفة في الطافي. . ولأن إسالة الدم إذا لم تعتبر فأي معنى لاشتراط الذكاة في النوعين وأي أثر للآدمي واصطياده ؟. .
ودل ظاهر تحريم الميتة والمنخنقة على تحريم الأجنة كما قاله أبو حنيفه، وخالفه فيه صاحباه مع الشافعي. . ومالك يقول : إن تم خلقه ونبت شعره أكل وإلا لم يؤكل١٢، وهو قول سعيد بن المسيب، لأنه عند تمام خلقه تحصل فيه الحياة والذكاة، وقبل ذلك لا حياة فيبقى على عموم تحريم الميتة.
وذلك ضعيف، فإنه إن لم يكن حياً فلا يكون ميتة، فالميتة ما زايلتها الحياة. .
وقد وردت أخبار في أن ذكاة الجنين ذكاة أمه، وبعد حملها على أن ذكاة الجنين مثل ذكاة الأم فإنه عند ذلك لا يكون جنيناً، وإذا تم وخرج حياً وفيه حياة مستقرة، فلا يخفى حكم الذكاة، فلا يكون في ذكره فائدة. .
وقد روى مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد أن النبي عليه السلام سئل عن الجنين يخرج ميتاً فقال :" إن شئتم فكلوه، فإن ذكاته ذكاة أمه١٣ ". وأما مالك فإنه ذهب إلى ما روى في حديث سليمان بن عمران عن ابن البراء عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في أجنة الأنعام بأن ذكاتها ذكاة أمها إذا أشعرت. وروى الزهري عن ابن كعب بن مالك قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون :( إذا أشعر الجنين فإن ذكاته ذكاة أمه ). . والشافعي يقول :" نحن نقول بهما جميعاً، إلا أن ذكر الإشعار كان تنبيهاً على مثله في الذي هو أولى بكونه جزءاً من الأم ".
واقتضى عموم تحريم الميتة المنع من دبغ جلدها، لولا الخبر المخصّص١٤ واقتضى ظاهر الآية أيضاً تحريم الانتفاع بدهن الميتة، وروى فيه محمد ابن إسحاق عن عطاء عن جابر قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتاه أصحاب الصليب الذين يجمعون الأوداك، فقالوا : يا رسول الله، إنا نجمع هذه الأوداك١٥ وهي من الميتة وغيرها، وإنما هي للأدم والسفن، فقال صلى الله عليه وسلم :" لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها " ١٦ فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرمه على الإطلاق، ودخل تحته تحريم البيع. . وذكر عن عطاء أنه قال : يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن، وهذا قول شاذ، فظن أصحاب أبي حنيفة أن تحريم الله تعالى عين الميتة منع الانتفاع بالميتة من الوجوه كلها ومنع بيعها، ويجوز بيع الأعيان النجسة غير الميتة، إذ التحريم فيها ليس مضافاً إلى العين.
قال الشافعي رحمه الله : ينبغي من قوله ﴿ حُرِمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ ﴾ تحريم لبنها، وأبو حنيفة حكم بطهارة أنفحتها وألبانها، ولم يجعل لموضع الخلقة أثراً في تنجيس ما جاوره بما حدث فيه خلقة، قال : ولذلك يؤكل اللحم بما فيه من العروق مع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير غسل ولا تطهير لها، فدل ذلك على أن موضع الخلقة لا ينجس بالمجاورة لما خلق فيه، ويلزمه على مساق هذا الحكم بطهارة ودك الميتة، فإن الموت لا يحله أصلاً، ونجاسة الخلقة لا تؤثر فيما جاورها. .
وله أن يقول : إن الودك في حكم الجزء الباقي معه، واللبن خلق خلقاً ينفصل عن الأصل فيحتلب ويستخرج منه، ولو انفصل الودك من الجملة في حياة الجملة كان نجساً بخلاف اللبن، فإذا لم ينجس اللبن في حالة الحياة إذا انفصل فإنما ينجس بالمجاورة، ونجاسة الخلقة لا تؤثر فيما جاورها، والشعر والعظم من جملة الميتة، فعموم التحريم يشملهما.
قوله تعالى :﴿ والدم ﴾ : أوجب تحريم الدم مطلقاً، وقال في موضع آخر :﴿ أوْ دَمَاًَ مَسْفُوحَاً١٧، فلعل التقييد بالسفح تنبيه على ما يمكن سفحه ليخرج منه الكبد والطحال١٨، أو لئلا تتبع العروق وما فيها من الدم في اللحم١٩. .
وقال تعالى :﴿ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ ﴾ بعد قوله :﴿ حُرِمَتْ عليكم المَيْتَةَ٢٠، وقال :﴿ إلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ﴾ - إلى قوله - ﴿ أَوْ لَحمَ خِنْزِيرِ فّإنّهُ رِجْسٌ ﴾، فخص اللحم بالذكر، ولم يقل " حرمت الخنزير " كما قال :" حرمت الميتة " لأنه معظم ما يقصد منه، وفيه مراغمة للكفار الذين يتدينون بأكل لحمه، ومثله تحريم قتل الصيد مع تحريم جميع الأفعال في الصيد، ونص على تحريم البيع إذا نودي للصلاة لأنه أعظم ما يبتغون به منافعهم، فقيل لهم : فلم لا يخص كجسم الميتة تنبيهاً على الأجزاء ؟. . فأجابوا بأنه أريد به مراغمة الكفار في تخصيص اللحم الذي هو أعظم مقاصدهم من الخنزير بالتحريم. .
قوله تعالى :﴿ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيرِ اللهِ ﴾ [ ١٧٣ ] : ولا يرى ذلك أصحابنا محرماً إلا من جهة الاعتقاد، ومقتضاه أن النصراني إذا سمى المسيح على الذبح يحل، وهو ظاهر مذهب الشافعي ومذهب عطاء ومكحول والحسن وسعيد بن المسيب، والمشرك وإن ذبح على اسم الله تعالى لا يحل، ونقل عن الشافعي خلاف ذلك في النصراني يذبح على اسم المسيح، وليس بصحيح فإن الله تعالى أباح لنا أكل ذبائحهم مع علمه بأنهم يهلون باسم المسيح، وأن النصراني إذا سمى الله عز وجل ثالث ثلاثة فإنما يريد بمطلقه المسيح، وذلك معلوم من اعتقاده وبه كفرناه، وليس كالمنافق الذي ليس يحكم بكفره ظاهراً بما يعتقده، والنصراني حكم بكفره لما يعتقده من الشرك فلا يغيره بالتسمية مع الاعتقاد القبيح٢١.
١ - الخبط بفتح المعجمة والموحدة: ورق السلم، نوع من الأشجار..
٢ - أي السمك الطافي وهو الذي يموت حتف أنفه..
٣ - سورة المائدة، آية ٩٦..
٤ - أحكام القرآن للجصاص..
٥ - جزر: نضب وبابه ضرب ونصر..
٦ - في الأحكام للجصاص عن جابر: "ما جزر عنه البحر فلا تأكل وما ألقى فكل" وما هنا أصح لموافقته الرواية السابقة فلعل الخطأ من الكاتب..
٧ - أي روي هذا الحديث كما في الجصاص..
٨ - سمى جرادا لأنه يجرد الأرض أي يلتهم ما فيها ويجتاحه..
٩ - تقدم تخريجه..
١٠ - رواه أبو داود عن سلمان، ورواه ابن عدي عن ابن عمر..
١١ - رواه البخاري بسنده عن ابن أبي أوفى، ورواه مسلم بسنده عن عبد الله بن أبي أوفى، ورواه النسائي والترمذي..
١٢ - راجع الموطأ كتاب الذبائح باب ذكاة ما في بطن الذبيحة..
١٣ - رواه جماعة من الثقات عن يحيى بن سعيد ولم يذكروا فيه أنه خرج ميتا..
١٤ - روى مالك بسنده عن عبد الله بن عباس أنه قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة كان أعطاها مولاة لميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفلا انتفعتم بجلدها؟ فقالوا: يا رسول الله، إنها ميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما حرم أكلها" ورواه البخاري في الزكاة ومسلم وشرح النووي (كتاب الحيض) وفي رواية لمسلم: إذا دبغ الإهاب فقد طهر..
١٥ - الأوداك: جمع ودك وهو دسم اللحم..
١٦ - رواه ابن ماجة..
١٧ - سورة الأنعام، آية ١٤٥: (قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم)..
١٨ - قال ابن العربي: والصحيح أنه لم يخصص وأن الكبد والطحال لحم، يشهد بذلك العيان الذي لا يعارضه بيان ولا يفتقر إلى برهان.. ويمكن أن يرد عليه بما ورد "أحلت لنا ميتتان ودمان.."..
١٩ - وفي الجصاص: روى القاسم بن محمد عن عائشة أنها سئلت عن الدم يكون في اللحم والمذبح، قالت: إنما نهى الله عنه الدم المسفوح، ولا خلاف بين الفقهاء في جواز أكل اللحم مع بقاء أجزاء الدم في العروق لأنه غير مسفوح، ألا ترى أنه متى صب عليه الماء ظهرت تلك الأجزاء فيه...
٢٠ - سورة المائدة، آية ٣..
٢١ - في نسخة المبيح..
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصَاصُ١ في القَتْلىَ ﴾ الآية [ ١٧٨ ] : ظن ظانون أن أول الكلام تام في نفسه وأن الخصوص بعده في قوله :﴿ الحرُّ بالحرِّ والعَبْدُ بِالْعَبْدِ ﴾ لا يمنع من التعلق بعموم أوله، وهذا غلط منهم، لأن الثاني ليس مستقلاً دون البناء على الأول، إذ قول القائل :" الحر بالحر والعبد بالعبد " لا يفيد حكم القصاص إلا على وجه البناء على الأول، فإن الثاني ليس الأول، وتقديره : كتب عليكم القصاص وهو الحر بالحر قصاصاً والعبد بالعبد قصاصاً، فوجب بناء الكلام عليه.
قالوا : أمكن أن يقال : كتب عليكم القصاص مطلقاً، وقوله :﴿ الحرُّ بالحرِّ ﴾ لنفي قتل غير القاتل، وهو معنى قوله عليه السلام :" إن من أعتى الناس على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة : رجل قتل غير قاتله، ورجل قتل في الحرم، ورجل أخذ بذحول الجاهلية٢ ". . والذي قالوه ممكن، إلا أن الأظهر ما قلناه من جعل القصاص على هذا الوجه، فتقديره :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ في القَتْلىَ ﴾ وكيفيته ﴿ الحُرَّ بالحُرِّ والعَبْدُ بِالْعَبْدِ ﴾ الآية. . فمن هذا صار الشافعي إلى أن الحر لا يقتل بالعبد. ونفى أبو حنيفة القصاص بين الأحرار والعبيد مطلقاً من الجانبين إلا في النفس. وأجرى ابن أبي ليلى القصاص بينهم في جميع الجراحات التي يستطاع فيها القصاص. . وقال الليث بن سعد : إذا كان العبد هو الجاني اقتص منه في الأطراف والنفس، ولا يقتص من الحر بالعبد. وقال : إذا قتل العبد الحر فلولي القتيل أن يأخذ نفس العبد القاتل فيكون له، وإذا جنى على الحر فيما دون النفس فللمجروح القصاص إن شاء. . وقال قائلون من علماء السلف : يقتل السيد بعبده، وكل ذلك من حيث التعلق بعمومات وردت في القصاص. . ، ورووا عن سَمُرة بن جندب عن النبي عليه السلام أنه قال :" من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه٣ ".
والذي ينفيه يقول : إنما جعل الله تعالى للولي السلطان في القصاص٤، وولي العبد سيده، فلا يستحق القصاص على نفسه، إذ ليس يستحق السيد القصاص على وجه الإرث انتقالاً من العبد إليه، فلا ملك للعبد، وإنما يستوفي الإمام نيابة عن المسلمين إذا كان القصاص ثابتاً للمسلمين إرثاً، ولا يمكن ذلك في حق العبد.
ولا خلاف أنه لو قتل السيد عبده بلا خطأ فلا تؤخذ قيمته منه لبيت مال المسلمين. وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن أبيه عن جده " أن رجلاً قتل عبده متعمداً فجلده النبي عليه السلام ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين ولم يَقِدْه به٥ "، ويحمل خبر سمرة على أنه كان بعد عتقه ثم قتله أو جدعه، فسماه عبداً استصحاباً للاسم السابق. . ولهم أن يقولوا : وخبركم حكاية حال، فيحمل على أنه كان كافراً، أو أباح العبد له دم نفسه. .
وقال الشّافعيّ : يجري القصاص بين الرجال والنساء في النفس وما دونها من الأطراف، وهو قول مالك وابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي، إلا أن الليث بن سعد قال : إذا جنى الرجل على امرأته عَقَلها ولم يقتص منه بها، وكأنه رأى أن النكاح ضرب من الرق فأقرن شبهه في القصاص. وقال عثمان البتي٦ : إذا قتلت امرأة رجلاً قتلت، وأخذ من مالها نصف الدية، وكذلك فيما دون النفس، وإن قتلها الرجل فعليه القود ولا يرد عليها شيء. . وعمدة من أوجب القصاص التعلق بالعمومات٧ ولا مخصص، وليس في شيء منها ضم الدية إلى القصاص. . وقال عليه السلام :" من قتل قتيلاً فوليه بخير النظرين بين أن يقتص أو يأخذ الدية٨ "، ولم يذكر التخيير.
وترك الشافعي العمومات في قتل المسلم بالكافر لأنها منقسمة، فمنها قوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ في القَتْلىَ ﴾. . ومساق ذلك يدل على الاختصاص بالمسلم، فإنه قال :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيه شَيءٌ ﴾، ولا يكون الكافر أخاً للمسلم، وقال :﴿ ذلِكَ تخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةَ ﴾. وأما قوله :﴿ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومَاً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً٩ : فلا حجة فيه، فإنا نجعل له سلطاناً وهو طلب الدية، وأما قوله :﴿ وَ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا١٠ : فإخبار عن شريعة من قبلنا لا يلزمنا ذلك إلا ببيان من شرعنا جديد، مع أن العموم ليس يسقط ببعض ما ذكروه بالكلية، إلا أنه يضعف. .
وروى البيلماني ومحمد بن المنكدر عن النبي عليه السلام أنه أفاد مسلماً بكافر، وقال :" أنا آخر من وفى بذمته١١ "، وهما مرسلان لم يلقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . وتأول من أوجب قتل المسلم بالكافر ما روي أنه عليه السلام قال :" ألا لا يقتل مؤمن بكافر " ١٢ على أنه ذكره في خطبته يوم فتح مكة، وقد كان رجل من خُزاعة قتل رجلاً من هُذَيل بذحل الجاهلية، فقال عليه السلام :" ألا إن كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده١٣ " فكان ذلك تفسيراً لقوله عليه السلام :" كل دم كان في الجاهلية تحت قدمي هاتين " لأنه مذكور في خطاب واحد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وذكر أهل المغازي أن عَقْد الذِّمة على الجزية كان بعد فتح مكة، وأنه كان قبل ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين عهود إلى مُدَد، على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه، وكان قوله يوم فتح مكة :" لا يقتل مؤمن بكافر " منصرف إلى المعاهد إذ لم يكن هناك ذمي ينصرف الكلام إليه. . ويدل عليه قوله عليه السلام :" ولا ذو عهد في عهده "، وهذا يدل على أن عهودهم كانت إلى مدة، ولذلك قال :" ولا ذو عهد في عهده "، كما قال الله تعالى :﴿ فَأتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ١٤، وقال :﴿ فَسيحُوا في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ١٥ وكان المشركون حينئذ ضربين : أحدهما : أهل الحرب، والآخر : أهل العهد، ولم يكن هناك أهل ذمة، فانصرف الكلام إلى الضربين١٦، وورود هذا الحديث في خطبة الوداع يبطل هذا التأويل جملة. . ١٧
وقال عثمان البتي : يقتل الوالد بولده، للعمومات في القصاص، وروى مثل ذلك عن مالك، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن، وتلك الأخبار منها ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لا يقتل والد بولده١٨ "، وحكم به عمر بمحضر من الصحابة واشتهر بينهم، فكان كقوله :" لا وصية لوارث " في الاشتهار. . وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الأول١٩ وروى ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يقاد الوالد بالولد ". . ومنهم الذين نفوا القول من قوله تعالى :﴿ وَوَصّيْنَا الإنْسَان بِوَالِدَيْهِ حُسْنَاً٢٠ الآية، أنه لا يقتل الوالد بمن وليه ابنه إذا قتله الأب، فإذا لم يقتل به فلا يقتل بالابن، لأن حق القصاص له في الحالتين جميعاً، وبنوا عليه أنه لا يقتل به إذا كان مشركاً. . ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه، وكان مشركاً محارباً لله ورسوله، وكان مع قريش يقاتل النبي عليه السلام يوم أحد، ولذلك لو قذفه لم يحد على هذا القول. .
أما إذا اشترك رجلان أو رجال في قتل رجل ظلماً فلا شك أن وعيد القتل يلزمهم، ولا يمكن إخراجهم من كونهم قاتلين، فيجعل الكل كشخص واحد. وإذا قدر ذلك تعظيماً للقتل، فإذا قتل أحدهما عمداً والآخر خطأ فالمخطىء في حكم آخذ جميع النفس، فيثبت لجميعها حكم الخطأ، وانتفى منها حكم العمد، إذ لا يجوز ثبوت حكم الخطأ للجميع، وثبوت حكم العمد للجميع، وإذا ثبت حكم العمد للجميع وجب القود فيه.
ولا خلاف أنه لا يجمع بين دية كاملة وقود، فوجب لذلك أنه متى وجب للنفس المتلفة على وجه الشركة شيء من الدية أن لا يجب معه قود على أحد، فإن وجوب القود يوجب ثبوت حكم العمد في الجميع، وثبوت حكم العمد في الجميع ينفي وجوب الأَرْش٢١ لشيء منها. . وبنى أبو حنيفة عليه أنه لو كان أحدهما أباً فلا قصاص على الأجنبيّ، فإن المحل متى كان واحداً وخرج فعل الأب عن كونه موجباً٢٢ لأنه لم يصادف المحل، صار أيضاً الفعل الذي لا يوجب لجميع المحل.
وخروج الروح به شبهة في المحل، ومتى حصل في المحل شبهة امتنع ثبوت الحكم في هذا المحل بفعل الثاني لاتحاد المحل، وكل٢٣ ذلك لحصول مثل الخطأ للنفس المتلفة، ولا جائز أن يكون خطأ عمداً موجباً للمال والقود في حالة واحدة٢٤، فكل واحد من القاتلين في حكم المتلف لجميعها، فوجب بذلك قسط من الدية على من لم يجب عليه القود، فيصير حينئذ محكوماً للجميع بحكم الخطأ، ولا جائز مع ذلك أن يحكم لها بحكم العمد. وبنوا عليه أنه لو اشترك رجلان في سرقة مال ابن أحدهما، فلا قطع على واحد منهما. . فإن قيل : فقياس الوعيد وظاهر القرآن يوجب مؤاخذة العامد بجنايته وأن لا يؤثر خطأ صاحبه في حقه، قيل : ولكنه لما وجب بفعله قسط من الدية على العاقلة، والدية وجبت في مقابلة المحل لخفة في جريمته صارت حرمة المحل الواحد واهية بالإضافة إلى الخاطئ، وانتفى عنه حكم العمد المحض، فيورث ذلك في حكم الآخر شبهة لاتحاد المحل المجني عليه واستحالة تبعضه، فصار الجميع في حكم ما لا قود فيه.
ولما كان الواجب على الشريك الذي لا قود عليه قسطه من الدية دون جميعها، ثبت أن الجميع قد صار في حكم الخطأ، لولا ذلك لوجب جميع الدية، ألا ترى أنهم لو كانوا من أهل القود لأقدنا منهم جميعاً ؟ فلما وجب على المشارك الذي لا قود عليه قسطه قسط من الدية قسط، ودل ذلك على٢٥ سقوط القود وأن النفس قد صارت في حكم الخطأ، فلذلك توزعت الدية عليهم قوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلْيكُمْ القِصَاصُ في القَتْلى ﴾، وقال تعالى :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النّفْسََ بِالنّفْس ﴾٢٦ وقال تعالى :﴿ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومَاً ﴾٢٧ الآية. . . وذلك يدل لأحد قولي الشافعي على الآخر، وهو أنه يتعين القود في العمد، لأنه تعالى قال :﴿ النّفْسُ بالنّفْسِ ﴾ وحيث يتخير فالواجب أحد أمرين، فلا يجوز أن يقال إن القصاص واجب بالقول٢٨ المطلق، بل الواجب أحد الأمرين. . مثاله أنه إذا قيل لنا : ما الواجب بالحنث في اليمين ؟ فلا يجوز أن نقول إنه العتق أو الكسوة أو الإطعام، بل نقول : أحد هذه الخلال الثلاثة لا بعينه، فإذا لم يكن المال واجباً بالقتل وجب القود على الخصوم.
وروي عن ابن عباس أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قتل في رمياء أو عمياء تكون بينهم بحجر أو بسوط أو بعصا فعقله عقل خطأ، ومن قتل عمداً فقود يده، ومن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين٢٩ ". ولو كان الواجب أحدهما لما اقتصر على ذكر القود دونهما، لأنه غير جائز أن يكون له أحد أمرين فيقتصر النبي عليه السلام بالبيان على أحدهما دون الآخر. . وعلى القول الآخر يحتج بقوله :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾. . الآية، وهذا يحتمل معاني :
أحدها : أن العفو ما سهل، قال الله تعالى :﴿ خُذِ العَفْوَ ﴾٣٠
١ - القصاص هو أن يفعل به مثل ما فعل به من قولك اقتص أثر فلان إذا فعل مثل فعله، ومعنى كتب عليكم فرض عليكم، وتمام الآية: (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم)..
٢ - الذحول جمع ذحل وهو الثأر روى أبو يعلى: أن من أشد الناس عتوا رجل قتل غير قاتله، وروى الإمام أحمد الحديث كما هنا بلفظ: أن أعدى الناس على الله، وروى أهل السنن بعضه (سيرة ابن كثير ج٣ ص٥٨٠)، راجع: مجمع بحار الأنوار ج٢/٢٢٧..
٣ - رواه ابن ماجة رقم ٢٦٦٣ وضعفه أبو بكر بن العربي في الأحكام، ورد ذلك القرطبي فقال: هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح أخرجه النسائي وأبو داود..
٤ - حيث قال: "ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا" سورة الإسراء، آية ٣٣..
٥ - رواه ابن ماجة ولفظه: قتل رجل عبده عمدا متعمدا، فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين..
٦ - هو عثمان بن مسلم البتي البصري الفقيه، وثقه أحمد وغيره، روى له الأربعة..
٧ - مثل: "كتب عليكم القصاص في القتلى" وغيرها...
٨ - رواه البخاري، كتاب الديات، باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، وأبو داود، ورواه ابن ماجة رقم ٢٦٢٤..
٩ - سورة الإسراء، آية ٣٢..
١٠ - سورة المائدة، آية ٤٥..
١١ - أخرجه الدارقطني من طريق عمار بن مطر عن إبراهيم بن أبي يحيى عن ربيعة عن ابن البيلماني عن ابن عمر، راجع فتح الباري ج١٥، ص٢٨٧ وقوله: وروى البيلماني كذا في الأصل والصحيح ابن البيلماني..
١٢ - البخاري بنحوه (باب كتابة العلم)، وباب لا يقتل المسلم بالكافر من كتاب الديات، ورواه أحمد والترمذي وابن ماجة رقم ٢٦٦٠ ولفظه: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد بعهده، وأبو داود باب أيقاد المسلم بالكافر؟.
١٣ - رواه أبو داود وابن ماجة وله طرق حسنة..
١٤ - سورة التوبة، آية ٤..
١٥ - سورة التوبة، آية ٢..
١٦ - قال ابن السمعاني: وأما حملهم الحديث على المستأمن فلا يصح لأن العبرة بعموم اللفظ ـ أي في قوله: "ولا يقتل مؤمن بكافر" ـ حتى يقوم دليل على التخصيص، فتح الباري، ج١، ص٢٨٦..
١٧ - لأنه قرر حكما عاما بعد انتهاء مدة العهد، ولم يكن مرتبطا بظروف خاصة كما كان القول عند فتح مكة..
١٨ - قال ابن العربي حديث باطل، وهو في سنن ابن ماجة رقم ٢٦٦١، ٢٦٦٢. وقال الجصاص: هذا خبر مستفيض مشهور، وقد حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة من غير خلاف من واحد منهم عليه. ورواه أحمد والنسائي كما في زاد المعاد..
١٩ - في الجصاص: عن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يقاد الأب بابنه..
٢٠ - سورة العنكبوت، آية ٨..
٢١ - الأرش: دية الجراحات..
٢٢ - أي للقود..
٢٣ - لعلها: وكان..
٢٤ - إذ نفس المقتول واحدة لا تتبعض، ولا يجوز أن يكون بعضها متلفا وبعضها حيا، لأن ذلك يوجب أن يكون الإنسان حيا ميتا في حال واحدة..
٢٥ - عند الجصاص: قسطه من الدية دل ذلك على..
٢٦ - سورة المائدة، آية ٤٥..
٢٧ - سورة الإسراء، آية ٣٣..
٢٨ - لعلها بالقتل..
٢٩ - رواه ابن ماجة بنحوه رقم ٢٦٣٥، وأبو داود بنحوه باب القصاص من النفس..
٣٠ - سورة الأعراف، آية ١٩٩ وأصل العفو في اللغة البذل..
وقال :﴿ وَلَكُمْ في القَصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ [ ١٧٩ ] وذلك تنبيه على الحكمة في شرع القصاص، وإبانة الغرض منه، وخص أولي الألباب مع وجود المعنى في غيرهم لأنهم المنتفعون به، كما قال :﴿ إنّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ مَنْ يَخْشَاهَا١. وقال :﴿ نَذِيِرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيد٢، فأبان أنه منذر الجميع ولكنه خص في موضع " من يخشاها " لأنهم المنتفعون بإنذاره، وقال :﴿ هُدَىً للمُتّقِين ﴾ مع قوله في موضع آخر ﴿ هُدَىً للنّاسِ ﴾ لأن المتقين هم الذين ينتفعون به. . وقال في قصة مريم :﴿ قَالَتْ إنِّي أَعُوذُ بِالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيّاً٣، لأن المتقي هو الذي يعيذ من استعاذ بالله تعالى. .
وقوله :﴿ والجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾٤ يدل على مراعاة المماثلة في الجراح، على ما قاله الشافعي رحمه الله، وأن يفعل بالقاتل مثل ما فعله، فإن لم يمت وجب قتله، فإن القتل لا بد منه قصاصاً لأخذ النفس بالنفس فجمعنا بين قوله تعالى :﴿ والجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ وبين قوله :﴿ النّفْسُ بِالنّفْسِ ﴾ وهذا أولى من طرح أحدهما. .
١ - سورة النازعات، آية ٤٥..
٢ - سورة سبأ، آية ٤٦..
٣ - سورة مريم، آية ١٨..
٤ - سورة المائدة، آية ٤٥..
قوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ. . ﴾ الآية [ ١٨٠ ] : فقوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ﴾ يدل على وجوب الوصية١، وقوله ﴿ بالمعروف ﴾ أي بالعدل الذي لا شطط فيه ولا تقصير، كقوله تعالى :﴿ وَعَلَىَ المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمعروفِ ﴾٢ ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ٣، وقوله ﴿ حَقّاً عَلىَ المُتّقِينَ ﴾ يؤكد الوجوب. . .
ووردت أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب الوصية، فمنها ما رواه نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما حق امريء مسلم له مال يوصي فيه، يمر عليه ليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة٤ "، ثم اختلف الناس في وجوبها أولاً : فمنهم من قال : كان ذلك ندباً، والصحيح أن ذلك كان واجباً.
وقال ابن عباس في قوله :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ ﴾ الآية، إنه منسوخ بقوله :﴿ للرِّجَالِ نَصِيْبٌ ﴾٥ الآية، ورووا بطرق أنه صلى الله عليه وسلم قال :" لا وصية لوارث ". فإن قيل : كيف جوزتم نسخ القرآن بأخبار الآحاد ؟. . فأجابوا : بأن ذلك لا يمتنع من طريق النظر في الأصول، فإن بقاء الحكم مظنون، فيجوز أن ينسخ بمثله، وشرح ذلك في الأصول. وقد قيل : إن الإجماع انعقد على تلقي هذا الخبر بالقبول، ومثل ذلك يجوز أن ينسخ به الكتاب.
وليس في إيجاب الميراث للورثة ما ينافي جواز الوصية لهم، لإمكان أن يجتمع الحقان للورثة بالطريقين، وإنما ينسخ الشيء ما ينافيه، والله تعالى لما جعل الميراث بعد الوصية فمن الذي يمنع من أن يعطي الوارث قسطه من الوصية، ثم يعطى الميراث بعدها ؟.
وقال الشافعي في كتاب الرسالة : يحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصية، ويحتمل أن تكون ثابتة معها، ثم قال : فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق مجاهد - وهو منقطع - أنه قال :" لا وصية لوارث٦ "، استدللنا بما روي عنه عليه السلام في ذلك أن المواريث ناسخة للوصايا بالوالدين والأقربين مع الخبر المنقطع.
أما قول الشافعي : يحتمل أن تكون المواريث ناسخة، فوجه الاحتمال أن الوصية إنما كانت واجبة لتعطي كل ذي حق حقه، من ماله بعد موته، فكان إثبات الحق للوارث في ماله لمكان القرابة، ثم كان يميل الموصي بقلبه إلى بعض الورثة ويقصر في حق بعض الورثة، فعلم الله تعالى ذلك منهم، فأعطى كل ذي حق حقه، ولهذا قال النبي عليه السلام :" إن الله لم يكل قسمة مواريثكم إلى ملك مقرب " الحديث. . إلى أن قال :" ألا لا وصية لوارث "، فكان الميراث قائماً مقام الوصية فلم يجز الجمع بينهما. . والذي ذكره الشافعي رحمه الله من أن ناسخه الخبر يعترض عليه من وجهين :
أحدهما : أنه منقطع وهو لا يقبل المراسيل. الثاني أنه لو كان متصلاً كان نسخ القرآن بالسنة وعنده أن ذلك غير جائز.
ثم قال الشافعي : قوله عليه السلام :" ألا لا وصية لوارث " لا ينفي الوصية أصلاً للأقربين الذي لا يرثون ودل لفظ الكتاب عليهم ولم يرد ما يوجب نسخه. وقال الشافعي : حكم النبي عليه السلام في ستة مملوكين أعتقهم رجل ولا مال له غيرهم، فجزّأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين وأرق أربعة، والذي أعتقهم رجل من العرب، والعرب إنما تملك من لا قرابة بينهم وبينه من العجم، فأجاز لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية، فالوصية لو كانت تبطل لغير قرابته بطلت للعبيد المعتقين لأنهم ليسوا بقرابة للميت وبطلت الوصية للوالدين. .
ويعترض على هذا بأنه يجوز أن يكون أمه أعجمية فيكونوا أقرباء من قبل أمه عجماً فيكون العتق وصية لأقربائه، ولأن فيه نسخ القرآن بالسنة.
والذي يقال في ذلك : أن قوله ﴿ والأقربين ﴾ ليس نصاً في حق غير الوارث بل يجوز أن يكون قد عنى بالأقربين الوارثين منهم، فغاية ما في ذلك تخصيص العموم لا النسخ، فيقال : اللفظ احتمل الوارث ونسخ، ويحتمل أن يقال : إن الناسخ له مطلق قوله :﴿ من بعد وصية ﴾، ولم يعرف الوصية حتى ينصرف إلى المتقدم المذكور مثل قوله :﴿ وَالّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ﴾ إلى قوله :﴿ فإذْ لَمْ يَأْتُوا بالشهداء ﴾ معرفاً. .
واستدل محمد بن الحسن على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين بهذه الآية، ولا خفاء لما فيه من الضعف. .
١ - الوصية كما قال ابن العربي: هي القول المبين لما يستأنف عمله والقيام به وهي ها هنا مخصوصة بما بعد الموت، وكذلك في الإطلاق والعرف، والخير المال، والمعروف الذي لا وكس فيه ولا شطط..
٢ - سورة البقرة، آية ٢٣٣..
٣ - سورة النساء، آية ١٩..
٤ - رواه مالك وأحمد والستة عن ابن عمر..
٥ - سورة النساء، آية ٧-٣٢..
٦ - أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه، وجنح الشافعي في الأم إلى أن هذا المتن متواتر (فتح الباري، ج٦، ص ٣٠١)..
قوله تعالى :﴿ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ ﴾ [ ١٨١ ] : يدل على أن الفرض يسقط عن الموصي بنفس الوصية وأن إثم التبديل لا يلحقه، ويدل أيضاً على أن من كان عليه دين وأوصى بقضائه أنه قد سلم من تبعته في الآخرة وإن ترك المعاصي، والوارث قضاءه لا تلحقه تبعته.
قوله تعالى :﴿ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أَوْ إثْمَاً فأصْلَحَ بَيْنَهُمْ ﴾ [ ١٨٢ ] :
يحتمل أن يكون معناه : أن يعلم من الموصي جنفاً أو غيظاً على بعض الورثة، وأن ذلك ربما يحمله عن زي١ الميراث عن الوارث، فعلى من خاف ذلك منه أن يرده إلى العدم ويخوفه عاقبة الجور، ويدخل بين الموصى له والورثة على وجه الإصلاح لئلا يقطع عنه الميراث بوصيته، أو يرجع عن وصية كانت منه إلى غير أهلها قاصداً قطع الميراث. وهذا وإن كان فيه أجر عظيم ولكنه قد يظن الظان امتناع جواز ذلك، ولذلك قال :﴿ فلا إثم َعَلَيْهِ ﴾، وقد وعد بالثواب على مثله وغيره، فقال :﴿ لا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ﴾ إلى قوله :﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرَاً عَظِيماً٢. .
الضمير في قوله ﴿ بينهم ﴾ يجوز أن يكون يرجع إلى الموصى له والورثة إذا تنازعوا، ويجوز أن يرجع إلى الموصي والورثة، فأفاد بهذه الآية أن على الوصي والحاكم والوارث وكل من وقف على جور في الوصية من جهة الخطأ والعمد ردها إلى العدل، ودل على أن قوله :﴿ بعد ما سمعه ﴾ خاص في الوصية العادلة دون الجائرة، وفيها الدلالة على جواز اجتهاد الرأي والعمل على غالب الظن، لأن الخوف من الميل يكون في غالب ظن الخائف، وفيها رخصة في الدخول بينهم على وجه الإصلاح مع ما فيه من زيادة أو نقصان عن الحق بعد أن يكون ذلك بتراضيهم. .
١ - المراد بحمله على منع الميراث وزوى قبض وضم زيا..
٢ - سورة النساء، آية ١١٤..
فرض الصيام في قوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ١ كَمَا كُتِبَ عَلىَ الّذيِنَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [ ١٨٣ ]، وقوله :﴿ كَمَا كُتِبَ عَلىَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ يحتمل ثلاثة معان كلها منقولة عن أهل التفسير :
قال الحسن والشعبي وقتادة : كتب على الذين من قبلنا وهم النصارى شهر رمضان أو مقداره من عدد الأيام، وإنما حولوه وزادوا فيه. وقال ابن عباس : كان الصوم من العتمة، ولا يحل بعد النوم أن يأكل ويشرب وينكح، ثم نسخ فكان ذلك صوماً بالليل، لا تشبهاً بالصائمين ولا عقوبة على أكل حرام، بل كان عبادة. . . وقال آخرون : معناه أنه كتب علينا صيام أيام، ولا دلالة فيه على مساواته في المقدار، بل جائز فيه الزيادة والنقصان. . وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال : أحيل الصيام ثلاثة أحوال، قدم أولاً رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فجعل يصوم كل شهر ثلاثة أيام وصيام عاشوراء، ثم إن الله تعالى فرض الصيام فقال :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ ﴾، وذكر نحو قول ابن عباس الذي ذكرناه وقدمناه. وليس في قوله :﴿ كَمَا كُتِبَ عَلىَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ دلالة على المراد في العدد في الأيام أو صفة الصوم أو في الوقت فكان اللفظ مجملاً. .
١ - الصيام في اللغة الإمساك، وفي الشرع: اسم للكف عن الأكل والشرب وما في معناه وعن الجماع في نهار الصوم مع نية القربة..
وقوله تعالى :﴿ فَمَنْ كَاَنَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ ﴾ [ ١٨٤ ] يقتضي تعليق جواز الإفطار على اسم المرض والسفر، إلا أن المريض الذي لا يضره الصوم مخصوص إجماعاً، ولا يعرف له مأخذ أقوى من الإجماع.
وأطلق السفر ولم يذكر له حداً، والمسافة القريبة لا تسمى سفراً في العرف، فلا جرم اختلف العلماء في تحديده، فحده أبو حنيفة بثلاثة أيام، والشافعي بستة عشر فرسخاً، ولكل مأخذ. .
قوله تعالى :﴿ وَعَلىَ الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ﴾ [ ١٨٤ ] : قال الشافعي : ظاهره أن الذين يطيقونه إذا لم يصوموا أطعموا، ونسخ ذلك في غير الحامل والمرضع، وهي في حقهما ظاهرة، ومنه قال علي رضي الله عنه في المريض والمسافر، إنه يفطر ويطعم كل يوم مسكيناً صاعاً، ثم قال : وذلك قوله :﴿ وَعَلىَ الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ﴾. وكانت عائشة تقرأ :" وعلى الذين يطوقونه فدية " وذلك في الشيخ الهرم١.
والذي قاله علي - رضي الله عنه - فيه نظر، فإن قوله :﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ ﴾ يتبع٢ دلالة قوله بعد ذلك :﴿ وَعَلىَ الّذِينَ يُطِيقُونَهُ ﴾ على المسافر والمريض، لأن ما عطف على الشيء غايره لا٣ محالة، وليس يظهر أيضاً حمله على الشيخ الكبير، فإنه ليس مطيقاً بل كان مطيقاً ثم عجز، فعلى هذا قال مالك وربيعة في حق الشيخ الكبير : لا أرى عليه إطعاماً فإن فعل فحسن، ولم يروا الفدية قائمة مقام الصوم الذي هو عبادة بدنية، ولا أن تكليف الصوم لاقاه، وهم يقولون : الذي نسخ كان ترك الصوم إلى الإطعام لا قضاء الصوم مع الإطعام، وقد سمى الله تعالى ذلك فدية، والفدية ما يقوم مقام ما يفدى عنه، فالجمع بين الفدية والقضاء لا وجه له، وكان الواجب في الأصل أحد سببين من فدية أو صيام لا على وجه الجمع، فكيف يجوز الاستدلال به على إيجاب الجمع بينهما على الحامل أو المرضع. .
نعم قال ابن عباس في الحامل والمرضع عليهما الفدية ولا قضاء عليهما، فله حجة في ظاهر القرآن في اقتصاره على إيجاب الفدية دون القضاء، فكانت الآية دالة في الأصل على التخيير بين الفدية والصوم، فلا يجوز أن يتناول الحامل والمرضع لأنهما غير مخيرين، لأنهما إما أن يخافا فعليهما الإفطار بلا تخيير، أو لا يخافا فعليهما الصيام بلا تخيير، ولا يجوز أن تتناول الآية فريقين : تقتضي بظاهرها إيجاب الفدية ويكون المراد في أحد الفريقين التخيير بين الإطعام والصيام، وفي الفريق الآخر إما الصيام على وجه الإيجاب بلا تخيير أو الفدية بلا تخيير، وقد تناولهما لفظ الآية من وجه واحد، فثبت بذلك أن الآية لم تتناول الحامل أو المرضع.
١ - فالمراد الذين كانوا يطيقونه ثم كبروا فعجزوا عن الصوم فعليهم الإطعام..
٢ - لعلها يمنع..
٣ - فغير جائز ـ كما قال الجصاص ـ أن يكون هؤلاء (الذين يطيقونه) هم المرضى والمسافرون إذ تقدم ذكر حكمهما وبيان فرضهما بالاسم الخاص لهما فغير جائز أن يعطف عليهما بكناية عنهما مع تقديمه ذكرهما منصوصا معينا..
قوله :﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ ﴾ [ ١٨٥ ] : يحتمل معاني، منها : من كان شاهداً لمعنى مقيماً غير مسافر، كما يقال الشاهد والغائب، فمقتضاه أن لا يجب على المسافر، لكنه لما قال :﴿ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ ﴾ [ ١٨٥ ] بين حكم المرضى والمسافرين في الإيجاب،
ويحتمل أن يكون قوله ﴿ شهد. . الشهر ﴾ أي علمه، وذلك يدل على أن من أفاق من الجنون بعد مضي شهر رمضان فلا قضاء عليه، خلافاً لمالك فإنه قال فيمن بلغ وهو مجنون فمكث سنين ثم أفاق، فإنه يقضي صيام تلك السنين ولا تقضى الصلاة، ومالك يحمل قوله :﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ على شهوده بالإقامة وترك السفر دون ما ذكره غيره من شهوده بالتكليف، ويصعب عليه الفرق بين الصغر والجنون فإنهما ينافيان التكليف وليس اسم المرض متناولاً له. .
وأبو حنيفة يقول : قوله تعالى :﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ لا يمكن أن يراد به شهود جميع الشهر لأنه لا يكون شاهداً لجميع الشهر إلا بعد مضيه كله، ويستحيل أن يكون مضيه شرطاً للزوم صومه كله، لأن الماضي من الوقت يستحيل فعل الصوم فيه، فعلم أنه لم يرد شهود جميعه، فتقدير الكلام عنده : فمن شهد منكم بعض الشهر فليصم ما لم يشهده منه، وهذا بعيداً جداً. . ومالك يقول : شهد أي أدرك، كما يقال : شهد زمان النبي عليه السلام أي أدرك، والمجنون قد أدرك ذلك الزمان فلزمه الصوم لزوماً في الذمة. .
قوله تعالى :﴿ فليصمه ﴾ : والصوم في اللغة : الإمساك المطلق، غير مختص بالإمساك عن الأكل والشرب دون غيرهما، بل كل إمساك فهو مسمى في لغة صوماً، غير أن الله تعالى أحل الأكل والشرب والجماع إلى أن يصبح، ثم أمر بإتمام الصوم إلى الليل، ففحوى الكلام تحريم أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل، ولهذا ساغ الاختلاف فيه واختلف فيه علماء السلف، وأما الحيض والاستقاء فلمنافاتهما للصوم، فلا يعلل١ أصلاً، فقاس قوم الجنابة على الحيض، وقاس قوم الحجامة على الاستقاء، لأنهما استخراج الفضلة من البدن. . وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائماً٢.
قوله تعالى :﴿ فَعدّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَر ﴾ يدل على جواز القضاء متتابعاً ومتفرقاً، فإنه ذكر الأيام منكرة، فإذا فرق فقد أتى بما اقتضاه الأمر، وفهمنا أن تتابع صوم رمضان للشهر لا لنفس الصوم، ولذلك لم يكن إفساد يوم منه مانعاً صوم الباقي، وقد قال الله تعالى :﴿ فَعِدّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَر ﴾ فدل على جواز التأخير من غير أن يتحدد بوقت، وهو كالأمر المطلق الذي لا يتقيد بوقت، ويجوز مفرقاً ومجموعاً. . والشافعي رأى تقييد القضاء بالسنة قبل دخول رمضان آخر وقال : إذا دخل رمضان آخر فدى عن كل يوم بمد، ورواه عن ابن عباس وابن عمر.
فأما ما روي عن ابن عباس أن رجلاً جاء إليه فقال : مرضت رمضانين، فقال ابن عباس : استمر بك المرض أو صححت فيما بينهما ؟. . قال : بل صححت، قال : صم رمضانين واطعم ستين مسكيناً. . وعن ابن عمر : أنه سئل عمن فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر ؟. . قال : يصوم الذي أدركه ويطعم عن الأول كل يوم مداً من تمر ولا قضاء عليه، وهذا يشبه مذهبه في الحامل والمرضع أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما، وأقوال الصحابة على خلاف القياس قد يحتج بها. .
فقيل لهم فالقضاء بعد الصوم الآخر مأخوذ من قوله تعالى :﴿ فَعِدةٌ منْ أيّامٍ أُخَر ﴾، واللفظ قد تناول الأوقات فلا يجوز أن يكون قد أوجب القضاء على قوم والفدية على قوم آخرين، بل يقتضي أن يكون الحكم في الكل واحداً، وغاية قول الصحابي على خلاف القياس، أن يتوهم فيه توقيف، مع احتمال كون احتجاجه بالتوقيف فاسداً وغلطاً، فظهور هذا من كتاب الله تعالى أولى بالاعتبار والإتباع.
وذكر داود الأصفهاني٣ أن قضاء رمضان يجب على الفور، وأنه إذا لم يصم اليوم الثاني من شوال أثم لأنه لو مات عصى، وبنى عليه أنه لو وجب عليه عتق رقبة، فوجد رقبة تباع بثمن، فليس له أن يتعداها ويشتري غيرها، لأن الفرض عليه أن يعتق أول رقبة يجدها فلا يجزيه غيرها، ولو كان عنده رقبة فلا يجوز أن يشتري غيرها، ولو مات الذي عنده فلا يبطل العتق كما يبطل فيمن نذر أن يعتق رقبة بعينها فماتت يبطل نذره، وذلك يفسد قوله. .
وقد قال بعض الأصوليين : إذا مات بعد مضي اليوم الثاني من شوال لا يعصى على شرط العزم.
وقال الرازي أبو بكر إنه لا يعصى إلى السنة القابلة، فإن آخر الوقت معلوم، فبنى عليه أنه لو مات في خلال السنة لا يعصى، فقدر القضاء بالسنة، وذلك خلاف قول الجماعة، وجعله كوقت الصلاة لما كان التأخير موسعاً عليه إلى آخره، لم يكن مفرطاً بتأخيره إلى أن مات قبل مضي الوقت، فكذلك قضاء رمضان.
وأجمعوا على وجوب الفدية إذا مات قبل مضي السنة لا لكونه عاصياً، كما تجب على الشيخ الكبير، وتجب الفدية أيضاً على من فاته صوم رمضان ومات في أول يوم من شوال. . .
قوله تعالى :﴿ فَعدّةٌ مِن أيامٍ أُخَر ﴾ : استدل به قوم على أن المسافر لا صوم عليه، لأن قوله :﴿ فَعدَةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر ﴾ يدل على أن الصوم للمسافر في الأيام الأخر، ولم يقدروا الإضمار مثل قول أكثر العلماء : فأفطر فعدة من أيام أخر، وهذا مذهب يروى عن أبي هريرة وقال به داود إلا أنه صح أن رسول الله صام في السفر. وعن عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أصوم في السفر ؟. . فقال :" إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر٤ ". . وروى أبو سعيد الخدري وابن عباس وأنس وجابر وأبو الدرداء وسلمة ابن المحبق صيام النبي عليه السلام في السفر، ومن خالف في هذا يدفع بظاهر قوله تعالى :﴿ فَعِدةٌ مِنْ أيامٍ أُخَر ﴾ من غير فصل بين المفطر وبين الصائم. .
ورووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ليس من البر الصوم في السفر٥ ". . ورووا عن الزهري عن أبي سلمة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الصائم في السفر كالمفطر في الحضر٦ ". وبحديث أنس عن النبي عليه السلام :" إن الله تعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم، وعن الحامل والمرضع٧ ". .
ومن يخالف هؤلاء يقول : روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يظلل عليه والزحام عليه، فقال :" ليس من البر الصيام في السفر " فجائز أن يكون كل من روى ذلك، فإنما حكى ما ذكره النبي عليه السلام في تلك الحال، وساق بعضهم ذكر السبب وحذفه بعضهم.
وذكر أبو سعيد الخدري، أنهم صاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في رمضان، ثم إنه قال لهم :" إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فافطروا "، فكانت عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو سعيد الخدري : لقد رأيتني مع النبي عليه السلام أصوم قبل ذلك وبعده٨، فيجوز أن يكون الخبر ورد على سبب، وهو حال لزوم القتال مع العلم بالعجز عنه مع فعل الصوم. ولأن قوله :" وأن تصوموا خير لكم " معطوف على كل من تقدم وبينهم المسافر والمريض. .
ثم إنه إذا صام أهل بلد تسعة وعشرين يوماً للرؤية، وفي البلد رجل مريض لم يصم، فإنه يقضي تسعة وعشرين يوماً. وقال قوم منهم الحسن بن صالح : إنه يقضي شهراً بشهر من غير مراعاة عدد الأيام، وهذا بعيد لقوله تعالى :﴿ فَعدةٌ مِنْ أيامٍ أُخَر ﴾ ولم يقل فشهر من أيام أخر.
وقوله :﴿ فعدة ﴾ يقتضي استيفاء عدد ما أفطر فيه، ولا شك في أنه لو أفطر بعض رمضان، وجب قضاء ما أفطر بعدده، كذلك يجب أن يكون حكم إفطار جميعه في اعتبار العدد. . .
وأجمع أصحاب أبي حنيفة على أنه إذا صام أهل بلدة ثلاثين للرؤية وأهل بلدة أخرى تسعة وعشرين، أن على الذين صاموا تسعة وعشرين قضاء يوم، وأصحاب الشافعي رحمه الله لا يرون ذلك، إذ كانت المطالع في البلدتين يجوز أن تختلف. وحجة أصحاب أبي حنيفة قوله تعالى :﴿ ولتُكْمِلوا العِدَّةَ ﴾ وثبت برؤية أهل بلد أن العدة ثلاثون فوجب على هؤلاء إكمالها، ومخالفهم يحتج بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال :" صوموا لرؤيته. . " الحديث، وذلك يوجب اعتبار عادة كل قوم في بلدهم. .
وروى الشافعي بإسناده عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال : فقدمت الشام، فقضيت حاجتها، فاستهل رمضان وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت : ليلة الجمعة، فقال : أنت رأيته ؟. . فقلت : نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصومه حتى يكمل الثلاثين أو نراه، فقلت : أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟. قال : لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم٩، فقيل على هذا : قوله " هكذا أمرنا " يحتمل أن يكون تأول فيه قول النبي عليه السلام :" صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته ".
١ - لعلها لا تعلل، وذلك لأن الصوم مما يدخل إلى الجوف لا مما يخرج من منافذ الجسم، ولعل العلة ما يترتب على كل منهما من الضعف الذي يشق معه الصوم..
٢ - البخاري باب الحجامة للصائم وهو عند ابن ماجة رقم ١٦٨٢..
٣ - هو الحافظ الفقيه المجتهد أبو سليمان داود بن علي الأصفهاني فقيه أهل الظاهر، ولد سنة ٢٠٠ وتوفي سنة ٢٧٠، قال الخطيب: كان إماما ورعا ناسكا زاهدا، وفي كتبه حديث كثير لكن الرواية عنه عزيزة جدا، وقال الذهبي: كان بصيرا بالحديث صحيحه وسقيمه (تذكرة الحفاظ)..
٤ - رواه البخاري ومالك في الموطأ ورواه مسلم بنحوه..
٥ - رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر، وابن ماجة عن ابن عمر، وعده السيوطي في المتواتر..
٦ - أخرجه ابن ماجة مرفوعا بسند ضعيف، والطبري بسند فيه ضعيف، وأخرجه النسائي وابن المنذر مرفوعا عن أبي سلمة عن أبيه، وفيه انقطاع..
٧ - رواه أحمد والأربعة..
٨ - رواه مسلم بنحوه..
٩ - رواه مسلم وغيره في الصوم..
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المساجد ﴾ [ ١٨٧ ] :
ظاهر ذلك يقتضي تحريم المباشرة مطلقاً لشهوة وغير شهوة، والمباشرة أن تتصل بشرته ببشرتها، إلا أن عائشة كانت ترجل شعر رسول الله وهو١ معتكف، فكانت لا محالة تمس بدن الرسول عليه السلام بيدها، ودل ذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة. .
وزعم قوم أن الآية لا تدل على المباشرة بالشهوة أيضاً، بعد أن اتفق الناس على أن الجماع مراد به، لأن الكناية بها عن الجماع مجاز، وإذا حمل اللفظ على المجاز فلا يحمل بعينه هو على الحقيقة. وهذا ليس بصحيح، فإن لفظ المباشرة عموم في الجماع لا بطريق المجاز بل من حيث أن الجماع مباشرة، إذ المباشرة هي الإفضاء ببشرته إلى بشرة صاحبه، فإذا كانت حقيقة المباشرة - لا من حيث المجاز - إلصاق البشرة بالبشرة فهي عامة في الجماع وغيرها، فدلالتها على الجماع من حيث الحقيقة لا من حيث المجاز. .
قوله :﴿ وَلاَ تُباشِروهُنَّ وأَنْتُم عَاكِفُونَ في المَساجِدِ ﴾ يقتضي أن يكون الحظر مختصاً بالمسجد، حتى لو جامع عند الخروج لا يبطل اعتكافه.
ويحتمل أن يقال : قوله :﴿ وأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المَسَاجِد ﴾ معناه : لا تباشروهن حال ما يقال لكم إنكم عاكفون في المساجد، والرجل وإن خرج من المسجد لقضاء الحاجة فهو عاكف. واعتكافه باق. وأمكن أن يقال : لا يقال له عاكف في المسجد بل يقال : لم يبطل تتابع اعتكافه، فأما أن يكون عاكفاً في المسجد لفظاً وإطلاقاً وهو خارج منه فلا.
ولما كان الرجل باعتبار قعوده في المسجد لا يقال له عاكف إذا كان يخرج ويرجع على ما جرت به العادة، وإنما يقال عاكف للمواظب، فيقتضي ذلك زوال اسم العاكف عنه إذا كان يتردد في حاجاته ويخرج لأشغاله إلا ما لا بد له منه.
قوله تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ ﴾الآية [ ١٨٧ ] : الرفث يقع على الجماع ويقع على الكلام الفاحش، والمراد به الجماع ها هنا لأنه الذي يمكن أن يقال فيه :﴿ أٌحِلَّ لَكُمْ لَيْْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلى نِسَائِكُمْ ﴾، ولا خلاف فيه.
وقوله :﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ ﴾ يعني كاللباس لكم في إباحة المباشرة وملابسة كل واحد منهما لصاحبه، ويحتمل أن يراد باللباس الستر، لأن اللباس هو ما يستره، وقد سمى الله تعالى الليل لباساً لأنه يستر كل شيء يشتمل عليه بظلامه، فالمراد بالآية أن كل واحد منهما يستر صاحبه عن التخطي إلى ما يهتكه، ويكون كل واحد منهما متعففاً بالآخر مستتراً به.
قوله تعالى :﴿ عَلِمَ اللهُ أَنّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أنفُسَكم ﴾. أي يساتر بعضكم بعضاً في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم، كقوله تعالى :﴿ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ ﴾٢ يعني : يقتل بعضكم بعضاً، ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها، وكان خائناً لنفسه من حيث كان ضرره عائداً إليه، ويحتمل أن يريد به أنه يعمل عمل المساتر له، فهو يعامل نفسه بعمل الخائن لها، والخيانة انتقاص الحق على وجه المساترة.
وقوله ﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ يحتمل معنيين : أحدهما : قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم، والآخر التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة، كقوله تعالى :﴿ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ٣. ﴿ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾ : يعني خفف عنكم.
وذكر عقيب قتل الخطأ :﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ ﴾٤ يعني تخفيفاً، لأن قاتل الخطأ لم يفعل شيئاً يلزمه التوبة منه، وقال الله تعالى :﴿ لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلىَ النّبِيِّ والمُهَاجِرِيِنَ والأنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَةِ٥، وإن لم يكن من النبي عليه السلام ما يوجب التوبة منه. .
وقوله :﴿ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾ يحتمل العفو عن المذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل كقول النبي عليه السلام :" أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله٦ " يعني تسهيله وتوسعته. .
قوله :﴿ حَتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ ﴾ [ ١٨٧ ] : كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه خيطاً أبيضا وخيطاً أسودا، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا، قال : فذكر سهل بن سعد الساعدي - وهو راوي الحديث - أنهم كانوا على ذلك حتى نزل قوله تعالى :﴿ مِنَ الفَجْرِ ﴾، فعلموا أنه إنما عنى بذلك الليل والنهار، ولا يجوز أن لا يكون في قوله ﴿ الخَيْطُ الأبْيَضُ ﴾ بيان للحكم مع الحاجة، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز أصلاً. . ويجوز أن يكون التجوز بالخيط الأبيض عن الفجر سائغاً في لغة قريش دون غيرها من اللغات، فأشكل على قوم آخرين، حتى تبين لهم بقوله من الفجر، ولا يجب أن يكون البيان بلغة يشترك في معرفتها جميع الناس قبل أن يتبين لهم بلغة من كان بياناً في لغتهم. . ويجوز أن يكون قد قال :﴿ من الفجر ﴾ أولا، لكن قوله ﴿ من الفجر ﴾ يحتمل أن يكون تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، على معنى أنه يتبين الخيطان من أجل الفجر، ويحتمل أن يكون المستبان في نفسه هو الفجر. .
فإن قيل : كيف يشبه الليل بالخيط الأسود وهو يشتمل على جميع العالم، وقد علمنا أن الصبح إنما شبه بخيط مستطيل أو معترض في الأفق، أما الليل فليس بينه وبين الخيط مشاكلة ؟. . الجواب : أن الخيط الأسود هو السواد الذي في المواضع٧ قبل ظهور الخيط الأبيض فيه، وهو في ذلك الموضع مساو للخيط الأبيض الذي يظهر بعده، فلأجل ذلك سمي الخيط الأسود، وإذا أباح الله الأكل والشرب إلى أن يتبين فيدل ذلك على جواز الأكل قبل التبين حالة الشك، ويدل على أنه لا نظر إلى الشك إذا أمكن درك اليقين، وأنه يجوز استصحاب حكم الليل في حق الشاك، وفيه الدلالة على أن الجنابة لا تنافي صحة الصوم، لما فيه من إباحة الجماع من أول الليل إلى آخره، مع العلم بأن المجامع من الليل إذا صادف فراغه من الجماع طلوع الفجر أنه يصبح جنباً، ثم حكم مع ذلك بصحة صيامه بقوله :﴿ ثُمَّ أَتِموا الصِّيامَ إلى اللّيْلِ ﴾_ والذي يخالف هذا يقول. . إنما أبيح الأكل إلى الفجر لا الجماع، فإنه لم يقل :" وباشروهن إلى أن يتبين " _
وفيه دليل على أن البياض بعد تبين الفجر من النهار، بخلاف البياض بعد غروب الشمس.
وظن قوم أنه إذا أبيح له الفطر إلى أول الفجر، فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع، فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الأكل، فلا قضاء عليه، كذلك قاله مجاهد وجابر بن زيد، ولا خلاف في وجوب القضاء، إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان، إذا أكل ثم بان أنه من رمضان، والذي نحن فيه مثله، وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه. .
١ - أخرجه مالك والبخاري ومسلم..
٢ - سورة البقرة، آية ٨٥..
٣ - سورة المزمل، آية ٢٠..
٤ - سورة النساء، آية ٩٢..
٥ - سورة التوبة، آية ١١٧..
٦ - تقدم تخريجه، وليس بثابت..
٧ - لعلها الموضع..
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وتُدْلُوا بهَا إلىَ الحُكّامِ ﴾ [ ١٨٨ ] فيه دلالة على أن حكم الحاكم لا يغير بواطن الأحكام، ولأن الحاكم يحكم بالظاهر وهو مصيب في عمله، لا أنه مصيب ما عند الله تعالى حقيقة.
قوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسِ والْحَجِّ ﴾١ [ ١٨٩ ] : سماه على وحدته أهلة إذ الأهلة ليست اسماً للقمر، وإنما سمي الهلال هلالاً في أول ما يرى، وما قرب منه لظهوره في ذلك بعد خفائه، ومنه الإهلال بالحج وهو إظهار التلبية، واستهلال الصبي ظهور حياته بصوت أو حركة، ويقولون تهلل وجهه إذا ظهر فيه البشر والسرور، وليس هناك صوت مرفوع حتى يقال : الإهلال رفع الصوت وإن إهلال الهلال من ذلك لرفع الصوت عند رؤيته، قال تأبط شراً :
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل
وأمكن أن يقال متهلل لصوت الرعد فإن البرق لا يخلو منه، واستدل به أصحاب أبي حنيفة على جواز الإحرام بالحج في سائر السنة، ومعلوم أنه لم يرد به أفعال الحج فحملوه على الإحرام به. . فقيل لهم : فقد قال :﴿ الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ٢ فأجابوا بأنه لا بد في الكلام من ضمير ولا بيان فيه دونه، فإن الحج فعل الحاج، وفعل الحاج لا يكون أشهراً، فلا بد أن يكون المراد به أفعال الحج ومعناه أفعال الحج في أشهر معلومات، فقيد تخصيص أفعال الحج بالأشهر المعلومات، وهو كذلك، فإنه لو أحرم بالحج قبل أشهر الحج وطاف له وسعى قبل أشهر الحج، فسعيه ذلك لا يجزيه، وعليه أن يعيده لأن أفعال الحج لا تجزئ قبل أشهر الحج، فعلى هذا معنى قوله :﴿ الحَج أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ أي أن أفعاله في أشهر معلومات.
وهذا غلط، فإنه إذا قال :" أشهر معلومات " فيجب أن يقع في الأشهر، فيكون الأشهر المعلومات ظرفاً، ويكون الفعل واقعاً في جميعه كالإحرام يقع في الأشهر ويبقى في الأشهر، فيقال هو في الأشهر محرم. ولا يجوز أن يكون الفعل الذي هو السعي يقع في الأشهر، وإنما يقع في ساعة من يوم، ولا يجوز أن يكون المراد به بقاء الإحرام كما قالوه، فإنهم قالوا : إذا أحرم بالحج في أشهر الحج أو في غيرها، فإذا فاته الوقوف بعرفة فاته الإحرام، فقول الله تعالى :﴿ الحجُّ أشهْرٌ ﴾ يعني : دوام الحج وبقاؤه أشهر، وهذا باطل، فإن الذي ذكروه من بقاء الإحرام ليس يتحدد له أشهر معلومات، فإنه لو أحرم من وقت الفوات دام الإحرام والحج إلى مثل ذلك الوقت من العام القابل، والحج لا يتعين له أشهر بل أشهره جميع السنة، وإنما يفوت في وقت خاص ولا يبقى أكثر من سنة قط. فإذا بطلت تأويلاتهم، بقي تأويل الآية التي تعلقوا بها، ووجه ذلك أن قوله :﴿ قُلْ هيَ مَواقِيتُ للنّاسِ والحَجِّ ﴾ معناه :" قل هي مواقيت للناس في الحج " فيحصل في الأهلة المعنيان من غير تفصيل، فلا دلالة في الآية على أن الأهلة يجب أن تكون مواقيت للحج. .
نعم الأهلة كلها مواقيت للناس لا مفهوماً من هذا اللفظ، فإن المفهوم من هذا اللفظ بيان فائدة الأهلة، والفائدة حصلت بما قلناه من غير تفصيل، ويدل عليه أن مراد الله تعالى من ذلك بيان الحاجة إلى الأهلة، ببيان منافعها في كونها مواقيت للناس، فإنما يقال ذلك فيما يعتاده الناس ويتعارفونه، وما اعتاد الناس قط الإحرام في غير أشهر الحج ولا ندبوا إليه، ولذلك سمي بعض الشهور أشهر الحج، وغير المعتاد لا يحصل به الامتياز في كونه ميقاتاً، وما يعد ميقاتاً أصلاً، كما تعد الشهور كلها بأسرها مواقيت للأعمال والآجال، فهذا يدل على صحة هذا التأويل وبطلان تأويلات من يخالف هذا القول. . .
قوله :﴿ وَلَيْسَ البِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ﴾ [ ١٨٩ ] : هو تنبيه من الله تعالى على أن يأتوا البر من وجهه، وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به، فذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلاً يشير به إلى أن تأتي الأمور من مأتاها الذي ندبنا الله تعالى إليه، وفيه بيان أن ما لم يشرعه الله تعالى قربةً، ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب، ومثله تحريم الوصال الذي يتقرب به ولا تقرب فيه. والرهبانية التي يتقرب بها ولا تقرب فيها. .
قوله :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلّةِ٣ قُلْ هيَ مَوَاقِيتُ للنّاسِ والحَجِّ ﴾ [ ١٨٩ ] : فاستدل بعض الحنفية على كون جميع شهور السنة مواقيت للحج كما كانت بأسرها مواقيت للناس، ولزمهم من هذا أن يكون الحج المطلق عبارة عن الإحرام فقط دون سائر الأفعال، مع أن الإحرام عندهم ليس من الحج بل هو شرط الحج، والذي هو الحج من طواف القدوم في غير أشهر الحج وسعي لم يجز إجماعاً، فإذا علم ذلك فحمل اللفظ على بعض الشهور أولى من حمل الحج المطلق على الإحرام الذي ليس من الحج، وإنما هو طريق إليه وشرط له، ولأن الله تعالى لم يرد جعل الأهلة ميقاتاً للحج باعتبار كونها أهلة، فإن الإحرام ليس يتعين له أول الشهرولا المواقيت أيضاً وإنما الأهلة عبارة عن جملة الشهر، فإن السائل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أجمع عليه أهل التفسير وقال : يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو مستدقاً ثم ينمو حتى يتكامل ثم ينقص، وكان السؤال من معاذ بن جبل رضي الله عنه عن زيادة القمر ونقصانه، فأخبر الله تعالى أن الحكمة في زيادته ونقصانه زوال الالتباس عن أوقات الناس في حجهم وحل ديونهم وعدد نسائهم ومدد حواملهم وأجرة أجرائهم وغير ذلك.
ولا شك أن الوقت في الوقوف متعلق بالهلال، فالهلال ميقات له لأنه به يعرف وكذلك الطواف، فلا يتضمن ما قلناه إطلاق اسم الحج على شرط الحج دون نفس الحج.
فإن قال فعلى قولكم أيضاً قد قال تعالى :﴿ الحج أشْهُرٌ مَعلوماتٌ ﴾ والأفعال كالوقوف وسائر الأفعال إنما تقع في غير الأهلة بل في وسط الشهر لا في الأشهر، فليس في شوال من أفعال الحج شيء، فقد أخرجتم الحج عن أن يكون اسمه متناولاً لشيء من الأفعال سوى الإحرام، قلنا في جواب ذلك : إن الإحرام ركن الحج عندنا، فقوله :﴿ الحجُّ أشْهرٌ ﴾ يعني عقد الحج وإنشاؤه في أشهر معلومات. . قالوا : احتمل أن يكون المراد به غالب أحوال الناس، وكأنه قال تعالى :﴿ الحجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ في تعارف الناس، فمن فرض في هذه الأشهر الحج فلا يخلن بحقه وليرفض الفسوق والرفث والجدال كما قال الله تعالى في صوم رمضان :﴿ أياماً مَعْدودات ﴾، والمقصود به تهوين الأمر عليهم دعاء إلى فعله لا سيما، وليس في قوله :﴿ الحجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ صفة الأمر، فيجوز أن يكون إخباراً عن متعارف أحوال الناس في إيقاع الإحرام بالحج في هذه الأشهر، وهذا لأنا لا ننكر احتمال اللفظ له، إلا أن الظاهر ما قلناه.
ومما سألوه أن من فروض الحج ما يفعل بعد أشهر الحج ويكون مفعولاً في وقته وهو طواف الزيارة، ولم يجز شيئاً من فروض الصلاة يفعل بعد خروجها وقتها إلا على وجه القضاء، فلم يجز أن يكون ركن العبادة باقياً في غير وقتها، فبقي إحرامه كاملاً بعد أشهر الحج وهو يوم النحر قبل رمي الجمار، حتى قال الشافعي :" إن جامع يوم النحر قبل رمي الجمار فسد حجه "، فدل على كونه وقتاً للإحرام بالعبادة، وليس بقاء العبادة في هذا الوقت على نحو بقاء العصر بعد غروب الشمس والصبح بعد طلوع الشمس، فإن ذلك وقت العذر والضرورة لا وقته الأصلي، ولذلك لا يجوز تأخير صلاة العصر إلى وقت يعلم وقوعها بعد غروب الشمس، وها هنا يوم النحر وقت أصلي لأفعال الحج، فليكن وقتاً لعقد الإحرام. .
والجواب عنه أنه وقت لأعمال حج لا يتصور بقاء الإحرام به، فإن الطواف في هذا اليوم إنما يكون لحج يقدم الإحرام به قبل يوم النحر، وذلك الحج بالاتفاق لا يتصور بقاؤه في هذا الوقت، والذي ينعقد من الإحرام في هذا الوقت لا يتصور أن يكون هذا الوقت وقتاً لأعماله، فكيف يجوز الاستدلال به ؟ بل يقال إن فواته يدل على أن الوقت الذي لا يبقي فيه الإحرام لا يجوز أن يكون وقتاً لابتداء مثله، وهذا أقرب في الاستدلال.
١ - فائدة ذكر الحج مع دخوله في عموم اللفظ الأول أن العرب كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور، فأبطل الله تعالى قولهم وفعلهم وجعله مقرونا بالرؤية..
٢ - سورة البقرة، آية ١٩٧..
٣ - الأهلة جمع هلال، سمي بذلك لارتفاع الأصوات بالذكر عند رؤيته لأن الإهلال رفع الصوت، والهلال في الحقيقة واحد، وجمعه باعتبار أوقاته واختلافه في ذاته، قال جمهور اللغويين: ويقال له هلال لليلتين وقيل لثلاث ثم يكون قمرا..
قال الله عز وجل :﴿ وَقَاتِلُوا في سَبيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلونكم ﴾ [ ١٩٠ ] الآية. .
ولا خلاف بين العلماء في أن القتال كان محظوراً قبل الهجرة بقوله :﴿ ادْفَعْ بالّتي هيَ أَحْسَنُ١ إلى قوله :﴿ ذُو حَظٍ عَظِيم ﴾ وقوله :﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ٢ وقوله :﴿ وجَادِلْهُمْ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ٣، ﴿ وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ٤ الآية. . ، ﴿ وَإذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمَاً٥. وروى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن ابن عوف وأصحاباً له كانت أموالهم بمكة، فقالوا : يا رسول الله، كنا في عز ومنعة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلاء، فقال :" إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم " فلما حوله إلى المدينة انكفوا، فأنزل الله تعالى :﴿ ألَمْ تًَرَ إلىَ الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أيْدِيَكُمُ وأقيموا الصَّلاَةَ ﴾ الآية٦. .
وعن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ لَسْتُ عَلَيْهِمْ بمُسَيْطِرْ ﴾٧ وقوله :﴿ وَمَا أنْتَ عَلَيْهِمْ بجَبّارٍ٨، وقوله :﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ٩، وقوله :﴿ قُلْ للذّينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا للّذِيِنَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللهِ ﴾١٠ قال : نسخ هذا كله قوله تعالى :﴿ فَاقْتُلوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ١١، وقوله :﴿ قَاتِلُو الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِر ﴾١٢. . الآية. .
واختلف السلف في أول آية نزلت في القتال، فروي عن الربيع ابن أنس وغيره أن قوله تعالى :﴿ وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ أول آية نزلت في القتال، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : أول آية نزلت في القتال قوله تعالى :﴿ أُذِنَ للّذِينَ يُقَاتِلُونَ بِأنّهُمْ ظُلِمُوا ﴾ الآية١٣. . وقال آخرون : قوله تعالى :﴿ وقاتِلُوا في سبيلِ اللهِ ﴾ أول آية نزلت في إباحة قتال من قاتلهم، والثانية نزلت في الإذن بالقتال عامة لمن قاتلهم، ومن لم يقاتلهم من المشركين١٤، فقال الربيع بن أنس : أول آية نزلت في الإذن بالقتال في المدينة قوله تعالى :﴿ وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾، فكان النبي عليه السلام بعد ذلك يقاتل من قاتله من المشركين ويكف عمن كف عنه إلى أن أمر بقتال الجميع، وهو مثل قوله تعالى :﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ١٥. .
ويحتمل أن يقال إن قوله :﴿ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ لم يرد به حقيقة القتال، فإن جواز دفع المقاتل عن نفسه ما كان محرماً قط، حتى يقال إنه أذن فيه بعد التحريم، وإنما المراد به الذين يقاتلونكم ديناً ويرون ذلك جائزاً اعتقاداً، ولم يرد به حقيقة القتال. وقال آخرون : نزلت هذه الآية في صلح الحديبية، فإنه صلى الله عليه وسلم لما انصرف من صلح الحديبية إلى المدينة حين صده المشركون عن البيت، صالحهم على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام، فلما كان في العام القابل تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش وأن يصدوهم عن البيت ويقاتلونهم، وكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله تعالى :﴿ وَقَاتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ١٦ يعني قريشاً الذين صالحوهم، ﴿ وَلاَ تَعْتَدُوا ﴾ فنبذوا في الحرم بالقتال، ودل عليه ظاهر ما بعده قوله :﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أخْرَجُوكُمْ وَالْفِتَنَةُ أشَدُّ مِنَ القَتْلِ ﴾١٧ يعني أن شركهم بالله عز وجل أعظم من قتلكم إياهم في الحرم، والذي كان منهم من تعذيب من أسلم وظفروا به ليفتنوهم عن الدين، أعظم من قتالكم إياهم في الشهر الحرام.
وقال :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ١٨ : معناه : حتى لا يكون الشرك الذي هو باعث على الفتنة ويكون الدين كله لله، ولذلك لم يقبل العلماء الجزية من وثنيي العرب، فإن الله تعالى قال في حقهم :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلّه للهِ١٩، فأمر الله تعالى بقتالهم حتى لا يكون الشرك ويكون الدين كله لله٢٠.
وروي عن أبي بكر أنه أمر بقتال الشماسنة لأنهم يشهدون القتال ويرون ذلك رأياً، وأن الرهبان من رأيهم أن لا يقاتلوا، فأمر أبو بكر أن لا يقتلوا، ثم قال : قد قال الله سبحانه :﴿ وَقَاتِلُوا في سَبيلِ اللهِ الّذِينَ يُقَاتلُونَكُمْ٢١. . وحمل ذلك أبو بكر رضي الله عنه على المقاتلة ديناً واعتقاداً، فالآية على هذا ثابتة الحكم لا نسخ فيها.
وعلى قول الربيع بن أنس، أن النبي عليه السلام والمسلمين كانوا مأمورين - بعد نزول الآية - بقتال من قاتل دون من كف عنهم سواء كان ممن يتدين بالقتال أو لا يتدين٢٢ وليس بصحيح.
وروي عن عمر بن عبد العزيز في قوله :﴿ الذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ قال : ذلك في النساء والذرية، فعلى هذا لا نسخ في الآية، ويحتمل أن يقال : إن قوله تعالى :﴿ وَاْقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ٢٣ : عام في الرجال والنساء والصبيان، وهم يقتلون إذا كانت المصلحة في قتلهم، على ما عرف من مذهب الشافعي رحمه الله فيه.
وإذا كانت المرأة مقاتلة بالمال والرأي والتدبير، وكانت ذات عز في قومها فيجب قتلها، وإذا كانت المصلحة في استرقاقها فنفع الاسترقاق إذا أوفى على قتلها فلا يجوز قتلها. .
قوله تعالى :﴿ والفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ ﴾ : يعني كفرهم وتعذيبهم للمؤمنين في البلد الحرام والشهر الحرام أعظم مأثماً من القتل في الشهر الحرام٢٤، وأنه إذا كان يتوقع منهم مثل ذلك وجب قتلهم في البلد الحرام وفي الشهر الحرام، وكذلك معنى قوله :﴿ وَقَاتِلوهم حَتىّ لاَ تَكُونَ فِتنَةٌ وَيَكُونَ الدِينُ للهِ ﴾ فعلل القتال والقتل بهذا المعنى، وهذا يستوي فيه الحرم وغيره والشهر الحرام وغيره.
وكذلك قاله الربيع بن أنس فإنه قال : قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ ﴾ منسوخ بقوله تعالى :﴿ وَقَاتِلُوهُم حَتّى لاَ تَكُون فِتْنَةٌ ﴾،
وقال قتادة : هو منسوخ بقوله :﴿ اقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم ﴾، وقد نزل قوله تعالى :﴿ اقتُلوا المُشْركينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾٢٥ في سورة براءة ( التوبة ) بعد سورة البقرة، والذي كان من خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وقوله فيها :" إن الله تعالى حرم مكة " الحديث٢٦ نسخه ما بعده، وسورة براءة فإنها نزلت بعد ذلك بمدة٢٧.
وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع : الفتنة في قوله :﴿ وقاتِلوهم حَتّى لاَ تكون فِتْنَةٌ ﴾ : الشرك بالله، وقيل : إنما سمي الكفر فتنة لأنه يؤدي إلى الهلاك كما تؤدي إليه الفتنة. .
١ - سورة فصلت، آية ٣٤..
٢ - سورة المائدة، آية ١٣..
٣ - سورة النحل، آية ١٢٥..
٤ - سورة العنكبوت، آية ٤٦..
٥ - سورة الفرقان، آية ٦٣..
٦ - سورة النساء، آية ٧٧ أما سبب النزول هذا فرواه ابن أبي حاتم والنسائي والحاكم..
٧ - سورة الغاشية، آية ٢٢..
٨ - سورة ق، آية ٤٥..
٩ - سورة المائدة، آية ١٣..
١٠ - سورة الجاثية، آية ١٤..
١١ - سورة التوبة، آية ٥..
١٢ - سورة التوبة، آية ٢٩..
١٣ - سورة الحج، آية ٣٩..
١٤ - في الجصاص: وقد اختلف في معنى قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) فقال الربيع.. الخ..
١٥ - سورة البقرة، آية ١٩٤..
١٦ - كما ذكر القرطبي ج٢ ص٣٢٦، زاد المسير ج١ ص١٩٧، الدر المنشور ج١ ص٢٠١، الفخر الرازي ج٥ ص١٤٠، مجمع البيان ج٢ ص٢٨٤..
١٧ - سورة البقرة، آية ١٩١..
١٨ - سورة البقرة، آية ١٩٣..
١٩ - سورة الأنفال، آية ٣٩..
٢٠ - أخرج البخاري في صحيحه في كتاب التفسير، سورة البقرة..
٢١ - سورة البقرة، آية١٩٠..
٢٢ - الأولى أم لا يتدين..
٢٣ - سورة النساء، آية ٨٦..
٢٤ - انظر تفسير القاسمي ج٣ ص٤٧٥، والفخر الرازي ج٥ ص١٤٢..
٢٥ - سورة التوبة، آية ٥..
٢٦ - الحديث رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما ولفظه: عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: "يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ولم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ثم عادت حراما إلى يوم القيامة"..
٢٧ - انظر الشيخ الصابوني تفسير آيات الأحكام ج١ ص٢٣١..
قوله تعالى :﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ١ وأخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أخْرَجُوكُمْ ﴾ [ ١٩١ ] : صفة مشركي قريش، فلم يدخل أهل الكتاب في هذا الحكم، فلا جرم لا تقبل الجزية من المشركين لقوله تعالى :﴿ وقاتِلُوهُمْ حَتّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة ﴾ - يعني كفر- ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ ﴾.
فمد القتال في حقهم إلى غاية وجود الإسلام، وفي حق أهل الكتاب إلى غاية وجود الجزية في قوله :﴿ حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ ﴾٢ لأنهم إذا أعطوا الجزية حصلت منفعة المسلمين، إلا في حق من لا يقنع منه بالجزية لعظم جريمته.
وبنى الشافعي رحمه الله على ذلك جواز قتل النساء المرتدات لعظم جرائمهن وكبر ذنوبهن، وأن ذلك لا يندفع بالاسترقاق ومنفعته كما لا يندفع بالجزية، وليس إذا عدم القتال منهن فلا مصلحة في قتلهن بل في قتلهن مصالح منها : منعهن عن إمداد الرجال بالأموال وبالحث على القتال بإنشاد الأشعار المحركة لطباعهم، فإنه إذا حدث الحرب بالعرب أبرزن النساء باعثات على الحرب متناشدات بالأشعار، وذلك من أعظم الفتن، وترى الواحد منهم يقتل نفسه ويرد الأمان قائلاً : بأن نساء الحي لا يتحدثن عني بالجزع في القتال وطلب الأمان، ففي قتلهن على هذا الوجه مصالح عظيمة، وهل يقاتل أكثر الناس إلا ذباً عن النساء ؟ غير أنهن إذا حصلن في السبي فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن، وبعد فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.
وليس يتوقع من القتال إلا أذية المسلمين، وذلك يحصل للمسلمين بما يصدر منهن وإن لم يباشرن القتال، ولم تكن فتنة فني بها خلق في الأكثر إلا كان سببه أمور النساء، والذي كان من شؤم البسوس٣ ورعيف حولاً وغيرهما مما نتج الحروب العظيمة وهيج الفتن الهائلة مشهور معروف. .
١ - ثقف الرجل: إذا ظفر به قال تعالى: "فإما تثقفنهم في الحرب" ورجل ثقيف إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور. انظر القاموس المحيط مادة: ثقف ولسان العرب، ومختار الصحاح..
٢ - سورة التوبة، آية ٢٩..
٣ - هي البسوس بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة قتلت ناقة لها فتسببت في حرب طويلة بين تغلب وبكر استمرت أربعين سنة..
قوله تعالى :﴿ الشّهْرُ الحَرَامُ بِالْشّهْرِ الحَرَامِ ﴾ الآية [ ١٩٤ ]١ : روي عن الحسن أن مشركي العرب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام ؟. . قال : نعم، فأراد المشركون أن يغيّروه في الشهر الحرام فيقاتلوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية٢. . يعني إذا استحلوا منكم فاستحلوا منهم مثله. وروي عن ابن عباس والربيع بن أنس والضحاك، أن قريشاً لما ردت رسول الله عام الحديبية - محرماً في ذي القعدة - عن البلد الحرام فأعاده الله إليه في مثل ذلك الوقت فقضى عمرته، وأقصه لما حيل بينه وبينه في يوم الحديبية٣، فيكون على هذا التقدير إخباراً بما أقصه الله تعالى من الشهر الحرام، الذي صده المشركون فيه عن البيت بشهر مثله في العام القابل، ويتضمن مع ذلك أمراً بالقتال. فإن قيل : إنه إذا حمل اللفظ على حقيقة الجزاء انتفى كونه أمراً، فيقال : يجوز أن يكون الإخبار حاصلاً في تعويض الله تعالى نبيه من فوات العمرة في الشهر الحرام الذي صده فيه المشركون عن البيت بشهر مثله في العام القابل، وكانت حرمة الشهر الذي أبدل كحرمة الشهر الذي فات، فلذلك قال :﴿ والحُرُمَاتُ٤ قِصَاصٌ ﴾ ثم عقب ذلك بقوله :﴿ فَمَنْ اعْتَدىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ [ ١٩٤ ]، فأبان أنهم إذا قاتلوهم في الشهر الحرام فعليهم أن يقاتلوهم فيه، وإن لم يجز الابتداء. .
ويحتمل أن يكون الابتداء جزاء على ما كان من سابق فعلهم في مثل ذلك الوقت، ولا يكون قوله ﴿ فمن اعتدى ﴾ لاستثناء وحكم، بل يكون معناه : فمن اعتدى في الماضي بهتك حرماتكم في الشهر الحرام في البلد الحرام فاعتدوا عليه الآن بمثل ما اعتدى عليكم في الماضي، فيكون ذلك إباحة للقتال مطلقاً في كل موضع وفي كل وقت، ويحتج بذلك في مراعاة المماثلة في القصاص على ما يقوله الشافعي رحمه الله. .
١ - قال الزجاج: "أعلم الله المسلمين أنه ليس لهم أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء، بل على سبيل القصاص" ا هـ..
٢ - انظر تفسير القرطبي ج٢ ص٣٥٤، زاد المسير لابن الجوزي ج١ ص٢٠١. يغتروه: يأتوه على حين غرة..
٣ - انظر تفسير الطبري ج٢ ص١٩٦، والقرطبي ج٢ ص٣٥٤، ومعنى وأقصه: مكنه من القصاص..
٤ - الحرمات جمع حرمة، وهي: ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك. والقصاص: المساواة بأن يعامل غيره بمثل ما يعامله به في هذا المجال..
قوله تعالى :﴿ وأنْفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَةِ ﴾١ الآية ١٩٥ : روى يزيد بن حبيب عن أسلم بن أبي عمران أنه قال : غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس : مه مه، لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب : سبحان الله، أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، لما نصر الله تعالى نبيه وأظهر دينه، قلنا هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى :﴿ وَأنْفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ ﴾، والإلقاء بالأيدي إلى التهلكة : أن نقيم في أموالنا فنصلحها وندع الجهاد. . قال الراوي : فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية، فأخبر أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية نزلت في ذلك. . وروى مثله عن ابن عباس والحسن وحذيفة وقتادة ومجاهد والضحاك. وروي عن البراء بن عازب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو اليأس من الرحمة بارتكاب المعاصي. وقيل : هو الإسراف في الإنفاق حتى لا يجد ما ينفق فيتلف.
وقيل : هو أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو. وقال محمد بن الحسن في السير الكبير : لو حمل رجل واحد على ألف من المشركين وهو وحده، لم يكن به بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين، فإن كان قصده تجزئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل ما صنعه فلا يبعد جوازه لأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه، وإن كان قصده إرهاب العدو ليعلم العدو صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفع للمسلمين فيتلف نفسه لإعزاز الدين وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله :﴿ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنينَ أنْفُسَهُمْ ﴾ الآية٢. . إلى غيرها من آيات مدح الله بها من يذل نفسه لله عز وجل.
وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعاً في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل، كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى :﴿ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنْكَرِ واصْبِرْ عَلىَ مَا أَصَابَكَ إن ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ٣. . وقد روي عكرمة عن ابن عباس عن النبي عليه السلام أنه قال :" أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله " ٤. . وروي أبو سعيد الخدري عن النبي عليه السلام أنه قال :" أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ". . وروى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال :" شر ما في رجل شحّ هالع وجبن خالع ".
١ - قال أبو عبيدة: التهلكة والهلاك والهلك واحد، مصدر هلك، وفي لسان العرب: التهلكة: الهلاك، وقيل: كل شيء تصير عاقبته إلى الهلاك..
٢ - الآية ١١١ من سورة التوبة..
٣ - الآية ١٧ من سورة لقمان..
٤ - رواه الحاكم وصححه، وقال الذهبي: فيه حفيد الصفار لا يدري من هو، ورواه الطبراني بأسانيد فيها ضعف..
وقوله تعالى :﴿ وَأَتِمُّوا الحَج والعُمْرَةَ لله ِ ﴾ [ ١٩٦ ] : فالمنقول عن عمر وعلي وسعيد بن جبير وطاووس أن الإتمام فيهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. . وقال مجاهد : إتمامهما بلوغ آخرهما بعد الدخول فيهما، وذلك أشبه بالظاهر، ودل عليه ما بعده فإنه قال :﴿ فإنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾، والإحصار إنما يمنع الإتمام بعد الشروع، ويوجب ما استيسر من الهدى عند ذلك قد وجب الإتمام إجماعاً، ويظهر أن مأخذ وجوبه هذه الآية، ولا فصل فيه بين الحج الأول والثاني والعمرة الأولى والثانية.
قوله تعالى :﴿ فإنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾١ الآية : ذكر بعض أهل اللغة أنه لا يقال في العدو " أحصرتم " وإنما يقال حصرتم٢، وهو كقوله حبسه إذا جعله في الحبس، وأحبسه أي عرضه للحبس، وقتله إذا أوقع به القتل، وأقتله إذا عرضه للقتل، وقبره إذا جعله في القبر، وأقبره عرضه للدفن في القبر، كذلك حصره حبسه وأوقع به الحصر، وأحصره عرضه للحصر.
فإذا كان كذلك، فالعدو إذا كان بعيداً منه على الطريق، فهذا هو التعريض للحصر، وهو متعرض به لأن ينحصر، وليس بمحصور في الحال ولا محبوساً، ولكنه معرض لذلك، فتقدير الآية : فإن عرضتم للحبس والمنع، وإن لم يلحقكم في الحال حصر ولا منع، وذلك إنما يكون بالعدو، أما المريض فقد احتبس عليه المضي في الحال، فليس هو معرضاً بل هو محصور في الحال، وقد حصره المرض ولذلك قال ابن عباس٣ ذهب الحصر الآن.
وكذلك نزلت هذه الآية في شأن الحديبية، وما كان من حصر إلا العدو ولا يجوز أن لا يذكر سبب النزول ويذكر غيره، مما يدل على العدو بطريق الاستنباط والدلالة. .
وقال تعالى بعد قوله :﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ ﴾، ﴿ وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ فَمَنْ كَانَ منكم مَرِيضاً ﴾، فلو كان المرض مذكوراً في أول الآية، وكان يحل بذلك الدم المذبوح في محله، لم يكن يحتاج إلى فدية.
ولا يجوز أن يكون المرض ها هنا هوام الرأس فإنه ذكر ذلك بعد المرض فقال :﴿ مَرِيضَاً أَوْ بِهِ أَذَىً مِنْ رَأْسِهِ ﴾.
ولهم أن يقولوا : لعله أباح ذلك قبل أن يبلغ الهدى محله، إذا حلق للأذى والمرض، أو عنى به مرضاً لا يمنعه من الوصول إلى البيت، وإلا فأي معنى لذكر المرض عند ذكر الإحلال، وحكمه عند عدم الإحلام يثبت ؟
ويحتمل على موجب مذهب أبي حنيفة أن قوله : فمن كان منكم مريضاً، عائداً إلى أول الخطاب، كما عاد إليه حكم الإحصار وهو قوله :﴿ وأتموا الحج والعمرة ﴾ ثم عطف عليه قوله :﴿ فََإنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ أي صددتم عن الإتمام، ثم عقب بقوله ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذَىً مِنْ رَأْسِهِ ﴾. يعني أيها المحرمون بالحج والعمرة، ليكون على هذا الرأي مثبتاً حكم المريض، إذا صد عن الإتمام أن الذي يجب عليه ما استيسر من الهدي، وأنه إن لم يكن المريض ممنوعاً من الإتمام فحكمه كذلك، ليكون قد بين حكم المرض دون الإحصار، والمرض عند الإحصار. . فقيل لهم : فقد قال :﴿ فَإذَا أمنتُم ﴾ وذلك إنما يطلق على العدو لأن الأمن نقيض الخوف، ويقال في نقيض المرض الشفاء. . نعم قد يقال : أمن المرض وزال الخوف منه، ولكن لا يطلق اسم الأمن عليه غالباً. .
وحكي عن ابن الزبير، أنه لا يتحلل بالعدو والمرض إلا بأن يلقى البيت ويطوف٤. . وقال ابن سيرين : الإحصار يكون من الحج دون العمرة، وذهب إلى أن العمرة غير مؤقتة وأنه لا يخشى الفوات. . والمذهبان مختلفان لنص الخبر عام الحديبية، فإنه عليه السلام تحلل من عمرته وكان محرماً بها. .
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ محِلّهُ ﴾ الآية [ ١٩٦ ] : زعموا أن مطلق المحل هو الحرم، لقوله عز وجل :﴿ ثُمَّ مَحِلُّها إلىَ البَيْتِ العَتِيقِ٥، وقال في موضع آخر :﴿ هَدْياً بالِغَ الكَعْبَةِ ﴾٦ فجعل بلوغ الكعبة من صفات الهدي، كما يجعل التتابع من صفات الصوم ولا خفاء بوجه الجواب عن هذا٧. . فقيل لهم : فقد قال الله تعالى :﴿ والهَدْيَ مَعْكُوفَاًً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ٨، فأجابوا بأن ذلك هو الدليل على أن المحل هو الحرم. .
فقيل لهم : هو كذلك في غير المحصر وهو الأصل، فالإحصار عذر نادر، ودل قوله تعالى :﴿ مَعْكُوفَاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ ﴾ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحلل بذبح وقع في الحل. . فأجابوا بأن النبي عليه السلام ذبح في الحرم، ولكن لما حصل أدنى منع جاز أن يقال : إنهم منعوا لمنعهم الهدي بدياً قبل الصلح، كما وصف المشركين بصد المسلمين عن المسجد الحرام وإن كانوا أطلقوا بعد ذلك، وقال سبحانه :﴿ يا أَبَانَا مُنِعَ مِنّا الكَيْلُ٩ وإنما منعوه في وقت وأطلقوه في وقت آخر.
وقد جوز مالك والشافعي وأبو حنيفة ذبح هدي الإحصار في الحج متى شاء، وأبو يوسف ومحمد والثوري لا يرون الذبح قبل يوم النحر، فكأنهم يقيسون الزمان على المكان، ويستدلون بقوله تعالى :﴿ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ ﴾، والمحل يقع على الوقت والمكان جميعاً فكان عموماً، ولا شك أن الله تعالى ذكر العمرة أيضاً، ووردت الآية في صلح الحديبية، وهدي العمرة لا يتأقت بزمان بالاتفاق. .
ولهم أن يقولوا : في الآية ذكر الحج والعمرة، وذكر محل الهدي فهو عموم إلا ما خصه دليل الإجماع، ونقول من طريق النظر : إن الاختصاص بمكان التحلل يدل على الاختصاص بزمان التحلل، وزمان التحلل هو يوم النحر، وهذا على أصل أبي حنيفة لازم، أما الشافعي فإنه يعتبر معنى الحاجة في جواز ترك الزمان والمكان جميعاً نظراً إلى معنى الرخصة، ولما قال تعالى :﴿ ولاَ تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ ﴾ ظهر منه أنه إذا بلغ الهدي محله جاز الحلق، وليس فيه دليل على وجوبه، بل يجوز أن يكون استباحة المحظور الذي كان، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد، وأبو يوسف يوجبه في رواية.
والذي لا يوجب الحلق يقول : إنه لما سقط عنه سائر المناسك التي لم يتعذر فعلها، مثل الوقوف بالمزدلفة ورمي الجمار، ولم يمكنه الوصول إلى البيت ولا الوقوف بعرفة، فلا يلزمه الوقوف بالمزدلفة ولا رمي الجمار مع إمكانهما، لأنهما مرتبان على مناسك تتقدمهما، كذلك الحلق مرتب على أفعال أخر لم يكن فعله قبلها نسكاً.
وحجة أبي يوسف أنه صلى الله عليه وسلم : أمر بالحلق وترحم على المحلقين ثلاثا، ويجاب عنه بأنه أمر وأعاد القول، لأنه أراد أن يتحللوا ويرجعوا وما كانوا يفعلون، لأنهم كانوا ينتظرون نزول القضاء بأمر يمكنهم به الوصول إلى العمرة، ثم إن النبي صلّى الله عليه وسلم بدأ فنحر هديه وحلق رأسه، فلما رأوه كذلك حلق بعضهم وقصر بعضهم، فدعا للمحلقين ثلاثاً لمبالغتهم في متابعة رسول الله، ومسارعتهم إلى أمره. . ولما قيل له : يا رسول الله، دعوت للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة ؟ قال : لأنهم لم يشكوا، يعني أنهم لم يشكوا في أن الحلق أفضل من التقصير، واستحقوا الثواب للمتابعة. .
قوله :﴿ فإذَا أَمِنْتُمْ١٠ فَمَنْ تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إلىَ الحَجِّ ﴾. الآية [ ١٩٦ ] : ذكر ذلك بعدما ذكر شأن المحصر، فقال ابن عباس وابن مسعود : على المحصر بعد زوال الإحصار حجة وعمرة، فإن جمع بينهما في أشهر الحج فهو متمتع وعليه دم، وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه، وهو قول علقمة والحسن وإبراهيم والقاسم وسالم ومحمد بن سيرين ومذهب أبي حنيفة وأصحابه. وإنما يوجب عليه أبو حنيفة حجة وعمرة إذا حل بالدم ولم يحج من عامه ذلك، ولو أنه حل من إحرامه قبل يوم النحر ثم زال الإحصار فأحرم بالحج ثم حج من عامه لم يكن عليه عمرة، لأنه رأى أن هذه العمرة إنما هي العمرة التي تلزم بالفوات، لأنه من فاته الحج فعليه التحلل لعمل العمرة، فلما حصل حجه فائتاً كان عليه عمرة للفوات.
والدم الذي عليه في الإحصار إنما هو لتعجل إحلاله لا لقيام الدم مقام الأعمال التي تلزم بالفوات إذ الدم لا يقوم مقام تلك الأعمال١١، ويدل على ذلك : أن الدم لو قام مقام الأعمال ما جاز الدم قبل الفوات، كما لا يجوز فعل العمرة التي لا تلزم بالفوات قبل الفوات لعدم وقتها وسببها، ودم الإحصار يجوز ذبحه والإحلال به قبل الفوات وهو يوم النحر. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومحمد١٢، وإن خالف فيه أبو يوسف١٣ في رواية : فرأى أن الدم بالإحلال لا على أنه قائم مقام أعمال العمرة، فدل أن الدم يتعلق بتعجيل الإحلال. وهذا من أبي حنيفة دليل دال على أنه يجعل أعمال من فاته الحج أعمال العمرة وهذا بعيد، فإنه لم ينو إلا الحج وما لزمه غيره، غير أنه إذا فاته من أعمال الحج ما يتأقت وهو الوقوف وجب أن يأتي منها بما لا يتأقت، فالمؤدى أعمال الحج لا غير، إلا أنه رخص في المحصر أن يتحللولا يأتي بأفعال الحج، لا أن عليه مع الحج عمرة حتى يقضي الحج ويتداركه مع العمرة، ولو أمكن تدارك الوقوف دون غيره لفعل ولكنه غير ممكن، فلا بيان لقوله في إيجاب العمرة مع الحج، وإذا لم يحل المحصر حتى فاته الحج، ووصل إلى البيت فعليه أن يتحلل بعمل عمرة. . وقال مالك : يجوز له أن يبقى محرماً حتى يحج في السنة الآتية، وقال : وإن شاء تحلل لعمل عمرة، ولا يجوز ذلك لفائت الحج لتقصيره، وكأنه يقول : جاز له التحلل نظراً له، فإذا اختار الضرر فله ذلك، وهذا بعيد، فإنه لو جاز له استبقاء الإحرام لما جاز التحلل كما لا يجوز له التحلل في السنة الأولى حين أمكن فعل الحج به، ولقوله وجه على كل حال. . ولا يوجب الشافعي ومالك على المحصر في حجة التطوع قضاء من قابل. . وأبو حنيفة يحتج بأن آية الإحصار نزلت في عام الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم معتمر، وكان قد اعتمر من قبل الهجرة مراراً، وقضى العمرة في القابل، وسميت عمرة القضاء١٤. .
وعندنا يجوز أن يقضي وإنما الكلام في الوجوب. .
ولما قال تعالى في المحصر :﴿ وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَديُ مَحِلّهُ ﴾، قال أبو حنيفة : إذا لم يجد المحصر هدياً لا يحل حتى يجد هدياً ويذبح عنه. . وقال الشافعي في قول : يحل ويذبح إذا قدر. . وقيل : إن لم يقدر على دم أجزأه وعليه الطعام أو الصيام إن لم يجد١٥ ولم يقدر، وقاسه على دم المتمتع. . واحتج محمد بن الحسن بأن هدي المتمتع منصوص عليه وهدي المحصر كذلك، فلا يقاس المنصوصات بعضها على بعض. . وذكر غيره أن الكفارات بالقياس لا يجوز إثباته، ووجه الجواب عنه بين.
قوله تعالى :﴿ ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ ﴾ إلى قوله :﴿ فَفِدية ٌمِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسكٍ ﴾١٦ وقوله تعالى :﴿ أَوْ بهِ أَذَىً مِنْ رَأْسِهِ ﴾ يفيد أنه لو كان به قروح في رأسه أو جراح فاحتاج إلى سده وتغطيته، كان حكمه في الفدية حكم الحلق، وكذلك سائر الأمراض التي تصيبه، واحتاج معها إلى لبس الثياب جاز له أن يستبيح ذلك ويفتدى، لأن الله تعالى لم يخصص شيئاً من ذلك، فهو عموم في الكل.
فعلى هذا إن قال قائل :﴿ أوْ بهِ أذىً مِنْ رَأْسِهِ ﴾ معناه : فحلق، ففدية قبل الحلق١٧ وهو غير
١ - في لسان العرب "الإحصار" أن يحصر الحاج عن بلوغ المناسك بمرض أو نحوه. وهو في اللغة المنع والحبس، يقال حصره عن السفر، وأحصره عنه إذا حبسه ومنعه..
٢ - يقول الفراء: العرب تقول للذي يمنعه خوف أو مرض من الوصول إلى تمام حجته أو عمرته: قد أحصر، وفي الحبس إذا حبسه سلطان أو قاهر مانع: قد حصر. وقال الأزهري وأبو عبيدة "حصر الرجل في الحبس، وأحصر في السفر من مرض أو انقطاع به"..
٣ - روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لا حصر إلا حصر العدو، فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء (تفسير ابن كثير).
٤ - قال الجصاص: ولا نعلم لهما ـ أي الزبير وعروة بن الزبير ـ موافقا من فقهاء الأمصار..
٥ - سورة الحج، آية ٣٣ ومعنى محلها أي مكان حل نحرها..
٦ - سورة المائدة، الآية ٩٥..
٧ - ووجه الجواب أن المراد ببلوغ الهدي محله، ذبحه حيث يحل ذبحه في المحل، حلا كان أو حرما..
٨ - سورة الفتح، الآية ٢٥، ومعنى معكوفا محبوسا وممنوعا..
٩ - سورة يوسف، آية ٦٣..
١٠ - أي كنتم آمنين من أول الأمر، أو صرتم بعد الإحصار آمنين..
١١ - في أحكام القرآن للجصاص العمرة بدل الأعمال في الموضعين..
١٢ - راجع كتاب الأم للشافعي ج٢ باب الحج، والهداية كتاب الحج، والاختيار أيضا..
١٣ - صاحب أبي حنيفة رضي الله عنه..
١٤ - وقال الشافعي: "إنما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش لا على أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة". اهـ..
١٥ - أي لم يجد الطعام..
١٦ - النسك: جمع نسيكة وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى، وأصل النسك العبادة، ومنه قوله تعالى: (وأرنا مناسكنا)، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص٧٨، تفسير آيات الأحكام للصابوني ج١ ص١٣٩..
١٧ - في الجصاص قيل: الحلق غير مذكور..
قوله :﴿ الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ [ ١٩٧ ] : اختلف الناس في أشهر الحج ما هي ؟. . فقال ابن عباس وابن عمر : إنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة١. . وعن ابن مسعود : أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة٢. . وعن ابن عباس وابن عمر في رواية أخرى مثله، وكذلك روي عن طاوس ومجاهد. . وقال قائلون : يجوز أن لا يكون ذلك اختلافاً في حقيقته، وأن يكون مراد من قال : وذو الحجة أنه بعضه، لأن الحج لا محالة إنما هو في بعض هذه الأشهر لا في جميعها، لأنه لا خلاف أنه ليس يبقى بعد أيام منى شيء من مناسك الحج، فأريد بعض الشيء بذكر جميعه، كما قال صلى الله عليه وسلم في أيام منى ثلاثة، وإنما هي يومان وبعض الثالث، ويقال : حججت عام كذا وإنما حج في بعضه، ولقيت فلاناً في سنة كذا وإنما كان لقاؤه في بعضها، وكلمته يوم الجمعة وإنما المراد به البعض. . هذا في فعل لا يستغرق كل الوقت. . ويحتمل وجهاً آخر : وهو أن الجاهلية كانوا ينسئون الشهور، فيجعلون صفر المحرم، ويستحلون المحرم على حسب ما يتفق لهم من الأمور التي يريدون بها القتال، فأبطل الله تعالى النسيء، وأقر وقت الحج على ما كان عليه ابتداؤه يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، فقال الله تعالى :﴿ الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ : يعني بها هذه الأشهر التي ثبت وقت الحج فيها دون ما كان عليه أهل الجاهلية من تبديل الشهور وتقديم الحج وتأخيره، وقد كان الحج عندهم معلقاً بأشهر الحج التي هي الأشهر الحرم الثلاثة التي يأمنون فيها صادرين وواردين، فذكر الله تعالى هذه الأشهر، وأخبر باستقرار أمر الحج فيها، وحظر عليهم تغييرها وتبديلها إلى غيرها. . ويحتمل أيضاً أن الله تعالى لما قدم ذكر التمتع إلى الحج، ورخص فيه وأبطل به ما كانت العرب تعتقده من حظر العمرة في هذه الأشهر، قال الله تعالى :﴿ الحجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾، فأفاد بذلك أن الأشهر التي يصح فيها التمتع بالعمرة إلى الحج ويثبت حكمه فيها هي هذه الأشهر، وأن من اعتمر في غيرها ثم حج لم يكن متمتعاً ولم يكن له حكم التمتع.
قوله تعالى :﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيِهِنَّ٣ الحَجَّ ﴾ [ ١٩٧ ] : أي أوجبه على نفسه فيه،
وظن بعض الناس أنه لا بد من شيء يصح القصد إليه ويصح فرضه، يعني إيجابه، وهو التلبية، وهو مذهب أبي حنيفة. والشافعي يقول : أوجب فيه على نفسه فعل الحج، وهو منقسم إلى كف النفس عن المحظورات، كالصوم، وإلى أفعال تباشرها٤. .
قوله :﴿ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ﴾٥ الآية [ ١٩٧ ] : قال ابن عمر : الرفث الجماع، وعن ابن عباس مثل ذلك، وروي عنه أنه التعريض بالنساء.
والأصل في الرفث الإفحاش في القول، وبالفرج الجماع، وباليد الغمز للجماع، هذا أصل اللغة.
فدلت الآية على النهي عن الرفث في هذه الوجوه كلها، ومن أجله حرم العلماء ما دون الجماع في الإحرام، وأوجبوا في القبلة الدم.
وأما الفسوق فالسباب٦ والجدال والمراء، وقيل : هو أن تجادل صاحبك حتى تغضبه، والفسوق المعاصي، فدلت الآية على تحريم أشياء لأجل الإحرام، وعلى تأكيد التحريم في أشياء محرمة في غير الإحرام، تعظيماً للإحرام، ومثله قوله :" إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن جهل عليه فليقل إني امرؤ صائم٧ ". .
قوله تعالى :﴿ وَتَزَوَّدُوا ﴾٨ : في هذا المقام يعني التزود للحج حتى لا يتكلوا على الناس وسؤالهم.
١ - وإلى هذا القول ذهب (مالك والشافعي وأحمد) انظر الجصاص والقرطبي وروائع البيان والفخر الرازي..
٢ - وإلى هذا القول ذهب أيضا (عطاء)، ومجاهد، وابن عمر في رواية. والإمام مالك في رواية أيضا..
٣ - أصل الفرض في اللغة الجزم والقطع، ومنه فرضة القوس والنهر..
٤ - أي النفس..
٥ - الرفث: الفحش بالكلام، وكل ما يتعلق بذكر الجماع ودواعيه، والفسوق الخروج عن طاعة الله سبحانه، يقول تعالى عن إبليس "ففسق عن أمر ربه". والجدال الخصام، والمراء، والمماراة، والأصل في تحريم هذه قوله تعالى (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج). وقوله صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) أخرجه البخاري عن أبي هريرة..
٦ - وقد ورد في الحديث الصحيح: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)..
٧ - أخرجه ابن ماجة في سننه، ج١ ص٥٤١ رقم ١٦٩١، ورواه البخاري ومسلم وغيرهما وهو في الموطأ بنحوه..
٨ - الزاد: ما يتزود به الإنسان من طعام وشراب لسفره، والمراد به التزود للآخرة بالأعمال الصالحة وصدق من قال:
قوله في مساق ذكر الحج :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ١ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [ ١٩٨ ] : يدل على جواز التجارة في الحج، حتى لا يتوهم متوهم أن ذلك لا يجوز حتى لا يصرفه عن إكمال الحج، كما لا يجوز٢ الاصطياد.
قوله تعالى :﴿ فَإذَا أَفَضْتُمْ٣ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ ﴾ [ ١٩٨ ] : فيه دليل على أن الوقوف بعرفة من مناسك الحج. .
١ - الجناح الحرج والإثم..
٢ - انظر البخاري، كتاب الحج باب التجارة أيام الموسم..
٣ - قال الراغب: فاض الماء إذا سال منصبا، والفيض: الماء الكثير، ويقال غيض من فيض، أي قليل من كثير، وقوله تعالى: (أفضتم من عرفات) أي دفعتم منها بكثرة تشبيها بفيض الماء ا هـ.
وقال الزمخشري: (أفضتم دفعتم بكثرة، وهو من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة) ا هـ.
وعرفات: اسم علم للموقف الذي يقف فيه الحجاج، سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها.
انظر الألوسي والقرطبي ومفردات الراغب، وتفسير الكشاف ج١ ص١٨٥.
والمشعر الحرام: هو جبل المزدلفة وسمى مشعرا لأنه معلم العبادة. ووصف بالحرام لحرمته. الفخر الرازي. ومفردات الراغب.
ونقل الفخر عن الواحدي في (البسيط): أن المشعر الحرام هو المزدلفة، سماها الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به، والدعاء عنده، ثم قال: لأن الفاء في قوله: (فاذكروا الله... الخ) تدل على أن الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات، وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة ا هـ..

وقوله :﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ ﴾ [ ١٩٩ ] : قيل : معناه أنه خطاب للحمس وهم قريش، فإنهم كانوا يقفون بالمزدلفة ويقف سائر الناس بعرفات، فلما جاء الإسلام أمرت قريش بأن تفيض من حيث أفاض الناس ويقفوا منهم١. . وقال الضحاك : إنه أراد به الوقوف بالمزدلفة، وأن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام، وسماه الناس كما سماه أمة، لأنه بوحدته٢ أمة كالناس، وأكثر الناس على القول الأول، إلا أن قول الضحاك أقوى من حيث دلالة النظم، فإن الله تعالى قال :﴿ فإذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ﴾، فذكر الإفاضة من عرفات، ثم أردف ذلك بقوله :﴿ ثُمَّ أفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ ﴾، وثم تقتضي الترتيب لا محالة، فعلمنا أن هذه الإفاضة هي بعد الإفاضة من عرفات وليس بعدها إفاضة إلا من المزدلفة وهي المشعر الحرام، فكان حمله على هذا أولى منه على الإفاضة من عرفة، لأن الإفاضة من عرفة قد تقدم ذكرها فلا وجه لإعادتها، ويبعد أن يقول :﴿ فَإذَا أَفَضْتُم مِنْ عَرَفَاتٍ، فَاذْكُرُوا اللهَ ﴾ بعد الإفاضة من المشعر الحرام، ثم أفيضوا من عرفات.
وغاية ما قيل في القول الآخر :﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ ﴾ : عائد إلى الكلام الأول، وهو الخطاب بذكر الحج ومناسكه، ثم قال : أيها المأمورون بالحج من قريش - بعدما تقدم ذكرنا له - أفيضوا من حيث أفاض الناس، فيكون ذلك راجعاً إلى صلة خطاب المأمورين، وهو كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ تَمَامَاً عَلىَ الّذِي أَحْسَنَ٣، والمعنى : ثم بعد ما ذكرنا لكم، أخبركم أنا أتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن.
ويعترض عليه، أن ذكر الإفاضة إذا تقدم وعقب بعده بنسك آخر يقتضي الإفاضة، فلا يحسن أن يذكر بكلمة ثم ما يرجع على الإفاضة من الذي تقدم دون أن يرجع إلى ما يليه.
وقد قيل : إن ثم بمعنى الواو، ولا يبعد أن يقول :﴿ فَإذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَر الحَرَامِ ﴾، ﴿ ثُمَّ أفيضوا مِنْ حَيْثُ أفاضَ النّاسُ ﴾، مثل قوله تعالى :﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الّذيِنَ آمَنُوا٤. . . ﴾ ومعناه : كان من الذين آمنوا، ﴿ ثُمَّ اللهُ شهيدٌ ﴾٥ ومعناه " والله شهيد ". . فقيل لهم : قد ذكر الإفاضة من عرفات، فأي معنى لذكر الإفاضة ثانياً ؟ فأجابوا : بأن فائدته أن يعلم أنه ليس خطاباً لمن كان يقف بها من قبل دون من لم يكن يرى الوقوف بها، فيكون التاركون للوقوف على ملة إبراهيم في الوقوف بالمزدلفة دون عرفات، فأبطل ظن٦ الظان لذلك بقوله :﴿ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ ﴾. .
أما كون الوقوف ركناً لا يصح الحج بدونه، فإنما علم بالإجماع وفيه إخبار أيضاً، فمنه ما رواه عبد الرحمن بن يعمر الديلمي قال : سئل النبي عليه السلام : كيف الحج ؟ قال :" يوم عرفة، من جاء عرفة ليلة جمع قبل الفجر فقد تم حجه ". . وروى الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي، أن النبي عليه السلام قال بالمزدلفة :" من صلى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف ووقف بعرفة ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى تفثه٧ ".
وليس وجوب الوقوف والاعتداد به مخصوصاً بالليل أو النهار، فالوقوف نهاراً غير مفروض وإنما هو مسنون، وقد دل ما رويناه من الخبر ومطلق قوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا ﴾ على عدم اختصاصه بليل أو نهار، ولا يعرف لمذهب مالك وجه إلا أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون منها، إذا صارت الشمس على رؤوس الجبال، كأنها عمائم الرجال في وجوههم، وإنما كانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس، فخالفهم النبي عليه السلام ودفع من عرفات بعد الغروب، ومن المزدلفة قبل طلوع الشمس، فرأى أن خاصية الشريعة في مراغمة الكفار في عاداتهم، والمراغمة إنما تحصل بالوقوف ليلاً. . والذي قالوه، لا يقتضي أن يكون فرضاً بل يجوز أن يكون ندباً، فإثبات الوجوب على هذا المعنى لا وجه له.
وقوله تعالى :﴿ فَإذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُروا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ ﴾ : ولم يختلف العلماء في أن المشعر الحرام هو المزدلفة، ويسمى جمعاً أيضاً، والذكر الثاني في قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾، هذا الذكر المفعول عند المزدلفة غداة جمع، فيكون الذكر الأول غير الثاني، والصلاة تسمى ذكراً لقوله تعالى :﴿ أقِمِ الصَّلاةََ َ لِذِكْرِي٨. . فيجوز أن يفهم منه تأخير صلاة المغرب إلى أن تجمع مع العشاء بالمزدلفة، وتواترت الأخبار في جمع النبي عليه السلام بين المغرب والعشاء بالمزدلفة.
واختلف فيمن صلى المغرب قبل أن يأتي المزدلفة، فالشافعي وأبو يوسف يجوزان، وأبو حنيفة ومحمد لا يجوزان.
فأما الوقوف بالمزدلفة فليس بركن عند أكثر العلماء، وقال الأصم وابن علية : إنه ركن.
وقوله عليه السلام : الحج عرفة، ومن وقف بعرفة قبل أن يطلع الفجر فقد تم حجه بإدراك عرفة، ولم يشترط معه الوقوف بجمع.
نعم قد قال الله تعالى :﴿ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ ﴾، والذكر بالإجماع ليس بواجب، ولعل المراد بالذكر الصلاة وهي الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة.
١ - انظر البخاري كتاب التفسير باب (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)..
٢ - كذا في الأصل ولعلها وحده، قال مجاهد في تفسير قوله تعالى: "إن إبراهيم كان أمة" أنه كان مؤمنا وحده، والناس كلهم كفار فلهذا المعنى كان أمة وحده (حاشية الجمل)..
٣ - سورة الأنعام، آية ١٥٤..
٤ - سورة البلد، آية ١٧..
٥ - سورة يونس من الآية ٤٦..
٦ - لعلها: ظن..
٧ - أخرجه الترمذي في سننه ج٣، ص٢٢٩..
٨ -سورة طه، آية ١٤ وتمامها: (أنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري)..
قوله تعالى :﴿ فَإذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أوْ أشَدَّ ذِكْراً ﴾ [ ٢٠٠ ] : قضاء المناسك أداؤها على التمام مثل قوله تعالى :﴿ فَإذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامَاً وَقُعُوداً١، وقال صلى الله عليه وسلم :" فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا " ٢ يعني : فافعلوا على تمام.
وقوله تعالى :﴿ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ ﴾ : فيه معنيان محتملان : أحدهما : الأذكار المفعولة في خلال المناسك كقوله :﴿ إذَا طَلّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ٣، وهو مأمور به قبل الطلاق على مجرى قولهم : إذا حججت فطف بالبيت، وإذا صليت فتوضأ، وإذا أحرمت فاغتسل.
قوله تعالى :﴿ فَإذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُروا اللهَ ﴾ : يجوز أن يريد به الأذكار المسنونة بعرفات والمزدلفة وعند الرمي والطواف، وقد قيل فيه : إن أهل الجاهلية كانوا يقفون عند قضاء المناسك ذاكرين مآثرهم ومفاخرهم، فأبدلهم الله تعالى ذلك بذكره والثناء عليه٤، وقال صلى الله عليه وسلم :" إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها للآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ثم تلا :﴿ يَا أَيُّهَا النّاسُ إنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ﴾ إلى قوله ﴿ عَليِمٌ خَبِيرْ٥ ".
١ - سورة النساء، آية ١٠٣..
٢ - أخرجه البخاري ومسلم وأحمد في مسنده ولفظه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركت فصلوا وما فاتكم فأتموا..
٣ - سورة الطلاق، آية ١..
٤ - هكذا روى عن ابن عباس وأنس بن مالك وجماعة كما في تفسير ابن كثير..
٥ - سورة الحجرات، آية ١٣..
قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرُوا اللهَ في أَيّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجّلَ في يَوْمَيْنِ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [ ٢٠٣ ]، وقال في موضع آخر :﴿ وَيَذْكُرُوا اسم اللهِ في أَيّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلىَ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ١ : فرأى الشافعي : أن " المعلومات " : العشر الأول من ذي الحجة وآخرها يوم النحر. . وروي عن علي رضي الله عنه أن " المعلومات " يوم النحر ويومان بعده في أيهما شئت. . وروى الطحاوي عن أبي يوسف أنه قال في جواب مسألة أبي العباس الطوسي عن الأيام المعلومات : إنها أيام النحر، وقال : روي ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما وإليه أذهب، لأنه قال تعالى :﴿ عَلىَ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ﴾. . وحكى الكرخي عن محمد أن الأيام المعلومات أيام النحر الثلاث : يوم الأضحى ويومان بعده. . وعن أبي حنيفة : المعلومات : العشر، ولم يختلف قول أبي حنيفة في ذلك كما لم يختلف قول الشافعي.
واحتجاج من احتج على أن المعلومات أيام النحر بقوله تعالى :﴿ عَلىَ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمةِ الأنْعَامِ ﴾ لا يصح، لأن في العشر يوم النحر وفيه الذبح، فعلى قول أبي يوسف ومحمد، لا فرق بين المعلومات والمعدودات لأن المعدودات المذكورة في القرآن أيام التشريق فلا خلاف، ولا يشك أحد في أن المعدودات لا تتناول أيام العشر، فإن الله تعالى يقول :﴿ فَمَنْ تَعَجّلَ في يَوْمَين فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ ﴾ وليس في العشر حكم يتعلق بيومين دون الثالث. .
وروي عن ابن عباس أن المعلومات العشر، والمعدودات أيام التشريق، وهو قول الجمهور، وليس في الأدلة ما يقتضي افتراقهما.
ودلالة المعدودات على أيام التشريق بينة من جهة ما بعدها، فأما دلالة المعلومات على العشر فليست ظاهرة من جنب الآية.
ولم يختلف أهل العلم أن أيام منى ثلاثة بعد يوم النحر، وأن للحاج أن يتعجل في اليوم الثاني منها إذا رمى الجمار وينفر، وأن له أن يتأخر إلى اليوم الثالث حتى يرمي الجمار فيه ثم ينفر.
قوله تعالى :﴿ وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ٢ قَوْلُهُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [ ٢٠٤ ]، مع قوله :﴿ إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ٣ : تنبيه على الاحتياط فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا، واستبراء أحوال القضاة والشهود. .
١ - سورة الحج، آية ٢٨..
٢ - أي يعظم في نفسك حلاوة حديثه وفصاحته في أمر الحياة الدنيا التي هي مبلغ علمه..
٣ - سورة المنافقون، آية ١..
قوله :﴿ يَسْألُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِديْنِ١ وَالأَقْرَبِينَ ﴾ [ ٢١٥ ] : يبعد حمله على الواجب الثابت في الحال، فإنه لا يجب الإنفاق على اليتامى والمساكين والذي يجب لهم الزكاة، وذلك لا ينصرف إلى الوالدين والأقربين، إلا أنه يحمل على صدقة التطوع. . ويجوز أن يريد به الصدقة المتطوع بها. . ويجوز أن يريد به إبانة مصارف المال التي يستحق بها الثواب. . وقد قيل : قد انتسخت بآية الزكاة. . هذا على تقدير كون المراد بالآية الزكاة، فإنها تجب لليتامى والمساكين٢. . ويبعد أن يقال : إن المراد في البعض التطوع وفي البعض الفرض، واللفظ واحد. . .
١ - السؤال واقع عن مقدار ما ينفق، والجواب صدر عن القليل والكثير في قوله: (من خير) مع بيان من تصرف إليه النفقة (جصاص)..
٢ - فإن الزكاة ـ كما قال ابن العربي ـ كانت موضوعة أولا في الأقربين ثم بين الله مصرفها في الأصناف الثمانية..
قوله تعالى :﴿ كُتِبَ١ عَلَيْكُمُ القِتَالُ ﴾ [ ٢١٦ ] : وذلك إما أن يكون مجملاً موقوفاً على بيان يرد ما بعده من البيان لامتناع قتال الناس كلهم، وإما أن يكون مبنياً على معهود متقدم، ولا يعقل دون هذين.
١ - كتب: فرض القتال: أي قتال المتعرضين لقتالكم، أي الجهاد فيهم بما بيدهم أو يقهرهم ويخذلهم ويضعف قوتهم "كره" مكروه تكرهه نفوسكم لما فيه من المشقة. وقال ابن قتيبة: الكسرة بالفتح معناه الإكراه والقهر وبالضم معناه المشقة. ويقول الفراء: "الكره بالضم ما أكرهت نفسك عليه، وبالفتح: ما أكرهك غيرك عليه"..
قوله :﴿ يَسْألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فيهِ ﴾ الآية [ ٢١٧ ] : وقال عطاء : لم ينسخ ذلك وكان يحلف عليه. . وقال آخرون : هي منسوخة بقوله تعالى :﴿ قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ﴾١.
ولا شك أن عموم ذلك يرفع خصوص ما قبله عند الشافعي، وإن خالفه بعض الأصوليين في انتساخ القيد بالمطلق بعده، ورأوا نسخ٢ القتال في البلد الحرام، بعموم قوله تعالى :﴿ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ٣، وهذا أيضاً من قبيل الأول. . نعم صح ورود العمومين بعد المقيدين.
وذكر الحسن وغيره أن الكفار سألوا النبي عليه السلام عن ذلك على جهة التعنيت للمسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام، وقال آخرون : إن المسلمين سألوا عن ذلك ليعلموا كيف الحكم فيه، وقيل : إنها نزلت على سبب، وهو قتل واقد بن عبد الله الحضرمي مشركاً، فقال المشركون : قد استحل محمد القتال في الشهر الحرام، ورأى المشركون مناقضة قولهم بإقامتهم على الكفر، مع استعظامهم القتل في الأشهر الحرام، مع أن الكفر أعظم الإجرام. فإن وردت الآية العامة على هذا السبب فلا شك في النسخ، فإن اللفظ العام في موضع السبب نص.
وفيه أيضاً شيء آخر وهو : أن الله تعالى نبه على العلة فقال : إنهم استعظموا القتل في الشهر الحرام، فالذي كان منهم أعظم، وإنما سقطت حرمتهم في الشهر الحرام لعظم جرائمهم، وهو الكفر بالله في الشهر الحرام.
١ - سورة التوبة، آية ٢٩..
٢ - أي نسخ تحريم القتال فلعل هنا سقطا وتحريم مكة ثابت بالأحاديث الصحيحة..
٣ - سورة التوبة، آية..
قوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ١ وَالمَيْسِرِ ﴾ الآية [ ٢١٩ ]. . .
فأما تحريم الخمر فيمكن أن يوجد من هذا، لأن قوله عز وجل :﴿ وإثْمُهُمَا٢ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ : يدل على المفسدة في شربها وأن ما فيها من المنفعة لا يقاوم بالمفسدة. ويمكن أن يقال لا، بل في شرب الخمر مفسدة عظيمة لإفضاء قليل الشرب إلى كثيره، وذلك يحتمل أيضاً وليس بنص.
وأما الميسر فهو في اللغة من التجزئة، وكل ما جزأته فقد يسرته، ويقال للجازيء ياسر لأنه يجزر الجزور، والميسر : الجزور نفسه إذا جزئ، وكانوا ينحرون جزوراً ويجعلونه أقساماً يتقامرون عليها بالقداح على عادتهم في ذلك، فكل من خرج له قدح نظراً إلى ما عليه من التسمية، فيحكمون له بما يقتضيه من أسماء القداح، فسمي على هذا سائر ضروب القمار ميسراً. وقال ابن عباس :" الميسر : القمار "، وقال عطاء :" حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز ".
وكانت المخاطرة في أول الإسلام مباحة حتى خاطرَ أبو بكر المشركين، حتى نزلت ﴿ ألَمْ، غُلِبَتِ الرُّومُ ﴾٣ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم :" زد في المخاطرة وامدد في الأجَل٤ "، ثم حظر ذلك ونسخ بتحريم القمار وحرم القمار مطلقاً، إلا ما رخص فيه من الرهان في السبق في الدواب والإبل والنصال٥، واستثنى ذلك لأن فيه رياضة للخيل وتدريباً لها على الركض وفيها قوة واستظهار على العدو، وقال تعالى :﴿ وَأَعِدُّو لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخيل ﴾٦ يقتضي جواز السبق بها لما فيه من القوة على العدو، وكذلك الرمي.
وظاهر تحريم الميسر - وهو القمار- يمنع مخاطرة يتوهم فيها إخفاق البعض وإنجاح البعض، وهو معنى القمار بعينه٧، وظاهره يمنع القرعة في العبيد يعتقهم المريض ثم يموت، لما فيه من القمار في إنجاح البعض وإخفاق البعض، لولا ما فيه من الخبر الصحيح الذي خص هذا العموم لأجله. .
١ - قال الزجاج: الخمر في اللغة ما ستر على العقل يقال: دخل فلان في خمار الناس أي في الكثير الذي يستتر فيهم وحقيقة الخمر ما أسكر من كل شيء، روى الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل مسكر خمر، وكل مسكر حرم ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها، لم يشربها في الآخرة).
ويقول ابن الأنباري: سميت خمراً لأنها تخامر العقل، أي تخالطه، يقال: خامره الداء إذا خالطه.
والميسر: القمار، قال الأزهري: الميسر الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه. وفي الصحاح: يسر القوم الجزور إذا اقتسموا أعضاءها..

٢ - الإثم الذنب وجمعه آثام، وفوائد الخمر الراجحة ما تحققه من كسب لمن يتجر فيها، وإن أضرت بالشاربين..
٣ - سورة الروم، آية ١-٢..
٤ - رواه ابن جرير وأصله عند الترمذي وحسنه والنسائي، ورواه ابن أبي حاتم عن البراء (راجع تفسير ابن كثير)..
٥ - قال صلى الله عليه وسلم: "لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل" أي لا تجوز المسابقة إلا بالإبل والخيل والسهام ونحوها.. رواه أحمد والأربعة عن أبي هريرة...
٦ - سورة الأنفال، أية ٦٠..
٧ - عن ابن سيرين "كل شيء فيه خطر فهو من الميسر" انظر الكشاف للزمخشري..
قوله تعالى :﴿ وَيَسْألُونَكَ عَنِ الَيَتَامَى قُلْ إصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وإنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ ﴾ [ ٢٢٠ ] : واليتيم : هو المنفرد عن أحد أبويه، فقد يكون يتيماً من جهة الأم مع بقاء أبيه، وقد يكون يتيماً من جهة الأب مع بقاء الأم، والإطلاق أظهر في اليتم من قبل الأب.
وظواهر القرآن في أحكام اليتامى محمولة على الفاقدين لآبائهم وهم صغار، ولا يحمل ذلك على البالغ إلا على وجه المجاز عند قرب العهد بالبلوغ. واليتيم في الأصل اسم للمنفرد، ولذلك سميت المرأة المنفردة عن الزوج يتيمة سواء كانت صغيرة أو كبيرة، قال الشاعر :
تزود من التقوى فإنك راحل وبادر فإن الموت لا شك حاصل
فخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا..
إن القبور تنكح الأيامى النسوة الأرامل اليتامى
وتسمى الرابية يتيمة لانفرادها عما حواليها من الأرض، ويقولون : الدرة اليتيمة لأنها كانت مفردة لا نظير لها.
قال ابن عباس : لما نزل قوله تعالى :﴿ إنَّ الّذيِنَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمَاً إنّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارَاً ﴾، كره المسلمون أن يضموا اليتامى إليهم وتحرجوا أن يخالطوهم في شيء، فنزل قوله تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وإنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ ﴾. . ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَعْنَتَكُمْ ﴾ أي أخرجكم وضيق عليكم ولكن وسع ويسر، فقال :﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾، وقال عليه السلام :" ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة " ١، وتوفرت الأخبار في دفع مال اليتيم مضاربة والتجارة به.
وقد جوزت الآية ضروباً من الأحكام : أحدها : قوله تعالى :﴿ قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾، فيه الدلالة على جواز خلط ماله بماله وجواز التصرف فيه بالبيع والشراء إذا وافق الصلاح، وجواز دفعه إلى غيره مضاربة، وفيه دلالة على جواز الاجت�