تفسير سورة البقرة

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة البقرة مدنية وهي مائتان وسبع وثمانون آية

سورة البقرة
مدنية وهي مائتان وست وثمانون آية
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)
قال الفقيه: حدّثني أبي رحمه الله قال: حدثني محمد بن حامد قال: حدّثنا علي بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن مروان، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله تعالى: الم يعني: أنا الله أعلم. ومعنى قول ابن عباس أنا الله أعلم يعني الألف: أنا، واللام: الله، والميم: أعلم، لأن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب قد كانت تذكر حرفاً وتريد به تمام الكلمة ألا ترى إلى قول القائل:
قُلْتُ لَهَا قِفِي لَنَا قَالَتْ قَاف لاَ تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الإِيجَاف
يعني بالقاف: قد وقفت.
وقال الكلبي: هذا قسم، أقسم الله تعالى بالقرآن أن هذا الكتاب الذي أنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، هو الكتاب الذي نزل من عند الله تعالى لا ريب فيه. وقال بعض أهل اللغة: إن هذا الذي قال الكلبي لا يصح، لأن جواب القسم معقود على حروف مثل: إن، وقد، ولقد، وما، واللام وهنا لم نجد حرفاً من هذه الحروف، فلا يجوز أن يكون يميناً. ولكن الجواب أن يقال: موضع القسم قوله لاَ رَيْبَ فِيهِ، فلو أن إنساناً حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه، لكان الكلام سديداً، وتكون «لا» جواباً للقسم، فثبت أن قول الكلبي صحيح سديد. فإن قيل: إيش الحكمة في القسم من الله تعالى، وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين، مصدق ومكذب فالمصدق يصدق بغير قسم، والمكذب لا يصدق مع القسم. قيل له: القرآن نزل بلغة العرب، والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه، أقسم على كلامه، فالله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده.
20
وقد قيل الم: الألف: الله تعالى، واللام: جبريل، والميم: محمد ﷺ ويكون معناه: الله الذي أنزل جبريل على محمد بهذا القرآن لاَ رَيْبَ فِيهِ.
وقال بعضهم: كل حرف هو افتتاح اسم من أسماء الله تعالى. فالألف مفتاح اسمه: الله، واللام مفتاح اسمه: اللطيف، الميم مفتاح اسمه: مجيد ويكون معناه: الله اللطيف المجيد أنزل الكتاب.
وروي عن محمد بن كعب بن علي الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة، ولا يعرف ذلك إلاَّ نبي أو ولي، ثم بين ذلك في جميع السور ليفقه الناس. وروي عن الشعبي أنه قال: إن الله تعالى سراً جعله في كتبه، وإن سره في القرآن هو الحروف المقطعة. وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود- رضي الله عنهم- أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر وعن علي رضي الله عنه: هو اسم من أسماء الله تعالى، فرقت حروفه في السور. يعني أن هاهنا قد ذكر الم وذكر: الر في موضع آخر وذكرٍ: حم في موضع آخر وذكر:
ن في موضع، فإذا جمعت يكون (الرحمن)، وكذلك سائر الحروف إذا جمع يصير اسماً من أسماء الله.
وذكر قطرب: أن المشركين كانوا لا يستمعون القرآن، كما قال الله تعالى: وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦] فأراد أن يسمعهم شيئاً لم يكونوا سمعوه، ليحملهم ذلك إلى الاستماع حتى تلزمهم الحجة. وقال بعضهم: أن المشركين كانوا يقولون: لا نفقه هذا القرآن، لأنهم قالوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: ٥] فأراد الله أن يبين لهم أن القرآن مركب على الحروف التي ركبت عليها ألسنتكم، يعني هو على لغتكم، ما لكم لا تفقهون؟ وإنما أراد بذكر الحروف تمام الحروف، كما أن الرجل يقول: علمت ولدي: أ، ب، ت، ث، وإنما يريد جميع الحروف ولم يرد به الحروف الأربعة خاصة.
وقال بعضهم: هو من شعار السور وكان اليهود أعداء الله فسروه على حروف الجمل، لأنه ذكر أن جماعة من اليهود، منهم كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب، وشعبة بن عمرو، ومالك بن الصيف دخلوا على رسول الله ﷺ وقالوا: بلغنا أنك قرأت: الم ذلِكَ الْكِتابُ فإن كنت صادقاً، فيكون بقاء أمتك إحدى وسبعين سنة، لأن الألف: واحد، واللام: ثلاثون، والميم: أربعون، فضحك رسول الله ﷺ ثم قالوا له: وهل غير هذا؟ قال: نعم. المص فقالوا: هذا أكثر لأن (ص) تسعون. فقالوا: هل غير هذا؟
قال: نعم. الر فقالوا: هذا أكثر، لأن (الراء) : مائتان، ثم ذكر المر فقالوا: خلطت علينا يا محمد لا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟ وإنما أدركوا من القرآن مقدار عقولهم، وكل
21
إنسان يدرك العلم بمقدار عقله. وكل ما ذكر في القرآن من الحروف المقطعة، فتفسيره نحو ما ذكرنا هاهنا والله أعلم بالصواب.
قوله عز وجل: ذلِكَ الْكِتابُ أي هذا الكتاب لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه مني، لم يختلقه محمد من تلقاء نفسه. وقد يوضع ذلك بمعنى هذا، كما قال القائل:
أقول له والرمح يأْطِرُ مَتْنَه تَأمَّلْ خِفَافاً أَنَّنِي أَنَا ذَلِكَا
يعني هذا. وقال بعضهم: معناه ذلك الكتاب الذي كنت وعدتك يوم الميثاق أن أوحيه إليك، وقال بعضهم: معناه ذلك الكتاب الذي وعدت في التوراة والإنجيل أن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: أراد بالكتاب اللوح المحفوظ، يعني الكتاب ثبت في اللوح المحفوظ.
وقوله: لاَ رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه من الله تعالى ولم يختلقه محمد من تلقاء نفسه. فإن قيل: كيف يجوز أن يقال: لا شك فيه؟ وقد شك فيه كثير من الناس وهم الكفار والمنافقون؟ قيل له: معناه لا شك فيه عند المؤمنين وعند العقلاء. وقيل: معناه لا شك فيه، أي لا ينبغي أن يشك فيه، لأن القرآن معجز فلا ينبغي أن يشك فيه أنه من الله تعالى.
قوله عز وجل: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي بياناً لهم من الضلالة للمتقين الذين يتقون الشرك والكبائر والفواحش. فهذا القرآن بيان لهم من الضلالة، وبيان لهم من الشبهات، وبيان الحلال من الحرام. فإن قيل: فيه بيان لجميع الناس، فكيف أضاف إلى المتقين خاصة؟ قيل له: لأن المتقين هم الذين ينتفعون بالبيان، ويعملون به فإذا كانوا هم الذين ينتفعون، صار في الحقيقة حاصل البيان لهم. روي عن أبي روق أنه قال: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي كرامة لهم. يعني إنما أضاف إليهم إجلالاً وكرامة لهم، وبيانا لفضلهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي يصدقون بالغيب. والغيب: هو ما غاب عن العين، وهو محضر في القلب. وإنما أراد به أصحاب رسول الله ﷺ ومن تابعهم إلى يوم القيامة، أنهم يصدقون بغيب القرآن أنه من الله تعالى فيحلون حلاله، ويحرمون حرامه. ويقال:
يؤمنون بالغيب يعني بالله تعالى. حدثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا الديبلي قال: حدّثنا أبو عبيد الله، قال: حدّثنا سفيان قال: حدثنا أصحابنا، عن الحارث بن قيس أنه قال لعبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- نحتسب بكم يا أصحاب محمد ما سبقتمونا به من رؤية محمد صلى الله عليه وسلم
وصحبته، فقال عبد الله بن مسعود: ونحن نحتسب لكم إيمانكم به ولم تروه، وإن أفضل الإيمان الإيمان بالغيب، ثم قرأ عبد الله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وقد قيل: (يؤمنون بالغيب) يعني يصدقون بالبعث بعد الموت.
وقوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، أي يديمون الصلاة، وقد قيل أيضاً: إِنَّ العبد يديم الصلاة وقد قيل: يحافظون على الصلوات الخمس بمواقيتها وركوعها وسجودها والتضرع بعدها. وقد قيل: إن العبد إذا صلى صلاة تُقْبَلُ منه، خلق الله تعالى منها ملكاً يقوم ويصلي لله إلى يوم القيامة، وثوابه لصاحب الصلاة فهذا معنى قوله: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ.
وقوله عز وجل: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي يتصدقون، قال الكلبي: وهو زكاة المال.
وروى أسباط، عن السدي، عن أصحابه قال: هي نفقة الرجل على أهله وهذا قبل نزول آية الزكاة. ويقال: ينفقون أي يتصدقون صدقة التطوع. ويقال: هي عليهم جميعا التطوع والفريضة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤ الى ٥]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني بالقرآن قوله: وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعني التوراة والإنجيل وسائر الكتب، ويقال: لما نزلت هذه الآية الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قالت اليهود والنصارى: نحن آمنا بالغيب فلما قال: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ قالوا: نحن نقيم الصلاة فلما قال: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قالوا: نحن ننفق ونتصدق. فلما قال: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ نفروا من ذلك.
وقوله: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي يقرُّون يوم القيامة، والجنة والنار، والبعث، والحساب، والميزان. واليقين على ثلاثة أوجه: يقين عيان، ويقين خبر، ويقين دلالة. فأما يقين العيان: إذا رأى شيئاً، زال عنه الشك في ذلك الشيء، وأما يقين الدلالة: هو أن يرى دخاناً يرتفع من موضع، يعلم باليقين أن هناك ناراً وإن لم يرها وأما يقين الخبر: فإن الرجل يعلم باليقين أن في الدنيا مدينة يقال لها بغداد، وإن لم يكن يعاينها. فهاهنا يقين خبر، ويقين دلالة، أن الآخرة حق ولكن تصير معاينة عند الرؤية.
ثم قال عز وجل: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ يعني أهل هذه الصفة الذين سبق ذكرهم على بيان من الله تعالى، أي أكرمهم الله تعالى في الدنيا حيث هداهم، وبين لهم طريقهم. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ في الآخرة، أي الناجون. يعني أن الله تعالى أكرمهم في
الدنيا بالبيان، وفي الآخرة بالنجاة. وقد قيل: الفلاح هو البقاء في النعمة. وقد قيل: الفلاح إذا بلغ الإنسان نهاية ما يأمل. ويقال: معناه قد وجدوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.
وكل ما في القرآن المفلحون، فتفسيره هكذا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (٦)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إن هاهنا للتأكيد وهو حرف من حروف القسم. والكفر في اللغة: هو الستر، يقال: ليلة كافرة إذا كانت شديدة الظلمة وإنما سمي الكافر كافراً، لأنه يستر نعم الله تعالى.
وقوله عز وجل: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ قرأ أهل الكوفة وعاصم وحمزة والكسائي أَأَنْذَرْتَهُمْ بهمزتين، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في رواية هشام بهمزة واحدة مع المد أَنْذَرْتَهُمْ وتفسير القراءتين لا يختلف. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في مشركي قريش، منهم: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل وغيرهم. وقال الكلبي: نزلت في رؤساء اليهود منهم: كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب. قال الكلبي:
وليس هو بأخي حيي. وقال بعضهم هو أخو حيي دخلوا على النبي ﷺ حيث سألوه عن الم والمص ثم خرجوا من عنده فنزل قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا بالقرآن سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ يعني خوفتهم أو لم تخوفهم لاَ يُؤْمِنُونَ أي لا يصدقون. فإن قيل: إذا علم أنهم لا يؤمنون، فما معنى دعوتهم إلى الإسلام؟ قيل له: لأن في الدعوة زيادة الحجة عليهم، كما إن الله تعالى بعث موسى إلى فرعون ليدعوه إلى الإسلام وعلم أنه لا يؤمن. وجواب آخر: أن الآية خاصة، وليست بعامة، وإنما أراد به بعض الكفار الذين ثبتوا على كفرهم، كما روي عن صفية بنت حيي بن أخطب قالت: رجع أبي وعمي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما لصاحبه: ما ترى في هذا الرجل؟ فقال: إنه نبي، فقال: ما رأيك في اتباعه؟ فقال: رأيي أن لا أتبعه، وأن أظهر له العداوة إلى الموت. فلم نزلت الآية في شأن مثل هؤلاء الذين قد ظهر لهم الحق وكانوا لا يؤمنون. فقال: أَأَنْذَرْتَهُمْ. وأصل الإنذار هو الإعلام، يعني خوفتهم بالنار، وأعلمتهم بالعذاب أو لم تعلمهم، فهو سواء ولا يصدقونه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: أي طبع الله، ومعنى الختم على قلوبهم أي، ليس أنه يذهب بعقولهم ولكنهم لا يتفكرون فيعتبرون بعلامات
نبوة محمد ﷺ فيؤمنون، وَعَلى سَمْعِهِمْ فهم لا يسمعون الحق، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ أي غطاء فلا يبصرون الهدى. واتفقت الأئمة السبعة- رحمهم الله- على القراءة برفع الهاء (غشاوة) وقرأ بعضهم بنصبها وهي قراءة شاذة. فأما من قرأ برفع الهاء، فهو على معنى الابتداء أي: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، ثم ابتدأ فقال وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وأما من قرأ بالنصب فيكون الجعل فيه مضمراً، يعني: جعل على أبصارهم غشاوة. فقد ذكر في شأن المؤمنين ثوابهم في الدنيا الهدى، وفي الآخرة الفلاح، وذكر في شأن الكفار عقوبتهم في الدنيا الختم، وفي الآخرة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني عذاباً وجيعاً، يخلص الوجع إلى قلوبهم.
قال الفقيه- رحمه الله- وفي الآية إشكال في موضعين: أحدهما في اللفظ والآخر في المعنى فأما الذي في اللفظ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ذكر جماعة القلوب ثم قال: وَعَلى سَمْعِهِمْ ذكر بلفظ الوحدان ثم قال: وَعَلى أَبْصارِهِمْ ذكر بلفظ الجمع، فجوابه: إن السمع مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع، فلهذا المعنى- والله أعلم- ذكر بلفظ الوحدان. وقد قيل: معنى وَعَلى سَمْعِهِمْ أي: موضع سمعهم، لأن السمع لا يختم وإنما يختم موضع السمع. وقد قيل: إن الإضافة إلى الجماعة تغني عن لفظ الجماعة، لأنه قال: وَعَلى سَمْعِهِمْ فقد أضاف إلى الجماعة، والشيء إذا أضيف إلى الجماعة مرة يذكر بلفظ الجماعة، ومرة يذكر بلفظ الوحدان، فلو ذكر القلوب والأبصار بلفظ الوحدان لكان سديداً في اللغة فذكر البعض بلفظ الوحدان، والبعض بلفظ الجماعة وهذه علامة الفصاحة، لأن كتاب الله تعالى أفصح الكلام.
وأما الإشكال الذي في المعنى أن يقال: إذا ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، فمنعهم عن الهدى فكيف يستحقون العقوبة؟ والجواب عن هذا: أن يقال: إنه ختم مجازاة لكفرهم. كما قال في آية أخرى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء: ١٥٥] لأن الله تعالى قد يسر عليهم سبيل الهدى، فلو جاهدوا لوفقهم، كما قال تعالى وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: ٦٩]، فلما لم يجاهدوا واختاروا الكفر عاقبهم الله تعالى في الدنيا بالختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، وفي الآخرة بالعذاب العظيم.
وروي عن مجاهد أنه قال: من أول سورة البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين. وروي عن مقاتل أنه قال: آيتان من أول السورة في نعت المؤمنين المهاجرين، وآيتان في نعت المؤمنين غير المهاجرين، وآيتان في نعت مؤمني أهل الكتاب، وآيتان في نعت الكفار، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين من قوله: وَمِنَ النَّاسِ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ: (من) للتبعيض، فإنه أراد به بعض الناس ولم يرد به جميع الناس، فكأنه قال: بعض الناس يقولون: آمنا بالله. وقد قيل: معناه: ومن الناس ناس يقولون: آمنا بالله، يعني صدقنا بالله وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وبالبعث. بعد الموت وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يعني ليسوا بمصدقين، بل هم منافقون منهم: عبد الله بن أبي ابن سلول الخزرجي، ومعتب بن قشير، وجد بن قيس، ومن تابعهم من المنافقين. وفي هذه الآية دليل على أن القول بغير تصديق القلب لا يكون إيماناً، لأن المنافقين كانوا يقولون بألسنتهم، ولم يكن لهم تصديق القلب، فنفى الله الإيمان عنهم فقال: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩)
قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وأصل الخداع في اللغة هو الستر. يقال للبيت الذي يخزن فيه المال: مخدع، والعرب تقول: انخدعت الضب في جحرها. فكان المنافقون يظهرون الإيمان ويسترون نفاقهم وكفرهم فقال: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا أي يكذبون ويخالفون الله والذين آمنوا ويقال يظنون أنهم يخادعون الله والذين آمنوا، لأنه قد بين في سياق الآية حيث قال تعالى: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. روي عن الأخفش أنه قال: اجترءوا على الله، حتى ظنوا أنهم يخادعون الله. وقال بكر بن جريج: يظهرون لا إله إلا الله، يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وأنفسهم ويقال: يظهرون غير ما في أنفسهم. وهذا موافق لما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: علامة المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب.
وقوله: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة الكسائي وَما يَخْدَعُونَ بغير ألف، وقرأ الباقون بالألف وَمَا يخادعون. وتفسير القراءتين واحد يعني:
وبال الخداع يرجع إليهم ويضر بأنفسهم.
قوله: وَما يَشْعُرُونَ. قال الكلبي: يعني وما يعلمون أن الله يطلع نبيه على كذبهم وقال بعضهم: معناه وما يشعرون أن وبال الخداع يرجع إليهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني شكاً ونفاقاً وظلمة وضعفاً، لأن المريض فيه فترة ووهن، والشاك أيضاً في أمره فترة وضعف. فعبَّر بالمرض عن الشك، لأن المنافقين فيهم ضعف ووهن، ألا ترى إلى قوله تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون: ٤].
ويقال: إن المريض تعرض للهلاك، فسمي النفاق مرضاً، لأن النفاق قد يهلك صاحبه، لأن
الخلق على مراتب ثلاث، ميت في الأحوال كلها كالكافر، وحي في الأحوال كلها كالمؤمن لقوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: ١٢٢]، ومريض كالمنافق.
ثم قال تعالى: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وهذا اللفظ يحتمل معنين: يحتمل الخبر عن الماضي، ويحتمل الدعاء فإن كان المراد به الخبر فمعناه: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً إلى مرضهم، كما قال في آية أخرى فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: ١٢٥]، لأن كل سورة نزلت يشكون فيها، فكان ذلك المرض لهم، وللمؤمنين زيادة اليقين. وإن كان المراد به الدعاء، فمعناه: فزادهم الله مرضاً على مرضهم، على وجه الذم والطرد لهم، كما قال في آية أخرى قاتَلَهُمُ اللَّهُ [التوبة: ٣٠] أو لعنهم الله، فإن قيل: كيف يجوز أن يحمل على وجه الدعاء، وإنما يحتاج إلى الدعاء عند العجز؟ قيل له: هذا تعليم من الله تعالى أَنَّهُ يجوز الدعاء على المنافقين والطرد لهم، لأنهم شر خلق الله تعالى، لأنه وعد لهم يوم القيامة الدرك الأسفل من النار.
ثم قال: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني مؤلم، أي عذاب وجيع الذي يخلص وجعه إلى قلوبهم.
قوله: بِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي مجازاة لهم بتكذيبهم.
قرأ حمزة وابن عامر فَزادَهُمُ اللَّهُ بكسر الزاي، وهي لغة بعض العرب، وقرأ عاصم وأبو عمرو بالفتح، وهي اللغة الظاهرة، وقرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي يَكْذِبُونَ بتخفيف الذال، وقرأ الباقون بالتشديد. فمن قرأ بالتخفيف فمعناه: بما كانوا يكذبون بقولهم أنهم مؤمنون، وجحدوا في السر لأنهم كفروا بالله وبمحمد ﷺ في السر. ومن قرأ بالتشديد فمعناه: بما كانوا يكذبون، يعني ينسبون محمداً إلى الكذب، ويجحدون نبوته.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ، قرأ الكسائي برفع القاف وكذلك كل ما ذكر في القرآن مثل: قيل وحيل وسيق، وقرأ حمزة وعاصم وغيرهما بكسر القاف. وأصله في اللغة قول مع الواو، فحذفت الواو للتخفيف، فجعل الكسائي الرفع مكان الواو وغيره، وقرأ بالكسر للتخفيف. والآية نزلت في شأن المنافقين وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني المنافقين لاَ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي: لا تعملوا فيها بالمعاصي وهو الفساد لأن الأرض كانت قبل أن يبعث النبي- عليه السلام- فيها الفساد، وكان يُعمل فيها بالمعاصي، فلما بعث الله النبي- عليه السلام- ارتفع الفساد وصلحت الأرض فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، كما قال في آية أخرى وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها [الأعراف: ٥٦ و ٨٥].
قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أي نعمل بالطاعة، ولا نعمل بالمعاصي. وقد قيل: معنى لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، أي لا تداهنوا بين الناس ولا تعملوا بالمداهنة، قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ يعني لا نعادي الكفار ولا المؤمنين، حتى لو كانت الغلبة للمؤمنين أو للكفار، لا يصيبنا من دائرتهم شيء.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢]
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢)
قال الله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ في الأرض وليسوا بمصلحين، لأن عداوتهم مع الفريقين، لأن كل فريق منهم يعلم أنهم ليسوا معهم. وقد قيل: معناه لا تفسدوا في الأرض بتفريق الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم، أي لا تصرفوا الناس عن دينه قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ بتفريقنا عن دينه. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ألا: كلمة تنبيه، فنبه المؤمنين وأعلمهم نفاقهم، فكأنه قال: ألا أيها المؤمنون، اعلموا أنهم هم المفسدون العاصون. ويكون تكرار كلمة هم على وجه التأكيد، والعرب إذا كررت الكلام تريد به التأكيد. قال تعالى:
وَلكِنْ لاَّ يَشْعُرُونَ أنهم مفسدون.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ. قال في رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس- رضي الله عنهما-: إن هذه الآية نزلت في شأن اليهود وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني اليهود آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ يعني عبد الله بن سلام وأصحابه، قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ يعني الجهال الخرقى. قال الله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ يعني الجهال الخرقى بتركهم الإيمان بمحمد عليه السلام، وَلكِنْ لاَّ يَعْلَمُونَ أنهم سفهاء.
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في شأن المنافقين، وهكذا قال مجاهد ومعناه: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا يعني صدِّقوا بقلوبكم، كما صدّق أصحاب محمد ﷺ ورضي عنهم قالُوا: أَنُؤْمِنُ- يعني المنافقين- أنصدِّق كما صدق الجهال. قال الله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ يعني الجهّال بتركهم التصديق في السر، ولكن لا يعلمون أنهم جهال.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤)
ثم قال تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، نزلت هذه الآية في ذكر المنافقين، منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير وغيرهم وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنهم- مرّوا بقوم من المنافقين، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: انظروا كيف أرد هؤلاء الجهال عنكم فتعلّموا مني كيف أكلمهم، فأخذ بيد أبي بكر، وقال: مرحباً بسيد بني تميم، وثاني اثنين، وصاحبه في الغار، وصفيه من أمته، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد عمر قال: مرحباً بسيد بني عدي القوي في أمر الله تعالى، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد علي فقال: مرحباً بسيد بني هاشم، ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الباذل نفسه ودمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والسابق إلى الهجرة فقال له علي: اتق الله يا عبد الله ولا تنافق، فإن المنافقين شر خليقة الله. قال: فلم تقول هكذا وإيماني كإيمانكم وتصديقي كتصديقكم. ثم افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتم ردي هؤلاء عنكم؟ فقالوا: لا نزال بخير ما عشت لنا، فنزلت الآية: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا يعني إيماننا كإيمانكم، وتصديقنا كتصديقكم.
قوله تعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قال الكلبي: يعني إلى كهنتهم وهم خمسة رهط من اليهود، ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان، منهم كعب بن الأشرف بالمدينة، وأبو بردة الأسلمي في بني سليم، وأبو السوداء بالشام، وعبد الدار من جهينة، وعوف بن مالك من بني أسد. ويقال: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ يعني إلى رؤسائهم في الضلالة. وقال أبو عبيدة:
كل عات متمرد فهو شيطان ثم قال تعالى: قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي على دينكم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بمحمد ﷺ وأصحابه- رضي الله عنهم-
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥]
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)
قال الله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي يجازيهم جزاء الاستهزاء. وذكر في رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- الاستهزاء أن يُفتح لهم وهم في جهنم، باب من الجنة فيهللون ويصيحون في النار فيهلكون والمؤمنون على الأرائك ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى الباب سدّ عليهم، وفتح لهم باب آخر في مكان آخر، والمؤمنون ينظرون إليهم ويضحكون، كما قال في آية أخرى فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين: ٣٤] الآية. وقال مقاتل: الاستهزاء ما ذكره الله تعالى في سورة الحديد يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ [الحديد: ١٣] فهذا استهزاء بهم. ثم قال تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يعني يتركهم في ضلالتهم يتحيرون ويترددون عقوبة لهم لاستهزائهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
قوله عز وجل: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى، يعني اختاروا الكفر على الإيمان. وفي الآية دليل أن الشراء قد يكون بالمعنى دون اللفظ وهو المبادلة، لأن الله تعالى سمى استبدالهم الضلالة بالهدى شراء، ولم يكن هنالك لفظ شراء.
قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فقد أضاف الريح إلى التجارة على وجه المجاز.
والعرب تقول: ربحت تجارة فلان، وخسرت تجارة فلان، وإنما يريدون به أنه ربح في تجارته، والله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب على ما يتعارفون فيما بينهم فلذلك قال: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ أي فما ربحوا في تجارتهم.
قوله تعالى: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ قال بعضهم: معناه وما هم بمهتدين في الحال، كقوله تعالى: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم: ٢٩] أي من هو في المهد صبي في الحال.
وقال بعضهم: معناه وَما كانُوا مُهْتَدِينَ من قبل لأنهم لو كانوا مهتدين من قبل، لوفقهم الله تعالى في الحال، ولكن لما لم يكونوا مهتدين من قبل، خذلهم الله تعالى مجازاة لأفعالهم الخبيثة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (١٧)
قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً، روى معاوية بن طلح، عن علي بن أبي طلحة، عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- قال: نزلت هذه الآية في شأن اليهود الذين هم حوالي المدينة، فقال: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضاءَتْ يعني كمثل من كان في المفازة في الليلة المظلمة وهو يخاف السباع، فأوقد ناراً فأمن بها من السباع، فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ طفئت ناره وبقي في الظلمة، كذلك اليهود الذين كانوا حوالي المدينة كانوا يقرون بالنبي ﷺ قبل أن يخرج، وكانوا إذا حاربوا أعداءهم من المشركين يستنصرون باسمه فيقولون بحق نبيك أن تنصرنا، فلما أخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلم وقدم المدينة، حسدوه وكذبوه وكفروا به فطفئت نارهم وبقوا في ظلمات الكفر.
وقال مقاتل: نزلت في المنافقين، يقول: مثل المنافق مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم كمثل رجل في مفازة فأوقد ناراً فأمن بها على نفسه واهله وعياله وماله، فكذلك المنافق يتكلم بلا إله إلا الله مرآة الناس، ليأمن بها على نفسه واهله وعياله وماله ويناكح مع المسلمين، وكان له نور بمنزلة المستوقد النار يمشي في ضوءها ما دامت ناره تتقد، فلما أضاءت النار أبصر ما حوله بنورها وذهب نورها فبقي في ظلمة.
قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي يذهب الله بنور الإيمان الذي يتكلم به، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ الهدى، فكذلك المنافق إذا بلغ آخر عمره بقي في ظلمة كفره. وهكذا فسّره قتادة والقتبي وغيرهما.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨]
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨)
ثم قال تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ وفي قراءة عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- «صُمّاً بُكْمّاً عُمْياً»، وإنما جعلها نصباً لوقوع الفعل عليها، يعني وتركهم صماً بكماً عمياً. وقرأ غيره: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ومعناه هم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ. وتفسير الآية أنهم يتصاممون، حيث لم يسمعوا الحق ولم يتكلموا به، ولم يبصروا العبرة والهدى، فكأنهم صم بكم عمي، ولأن الله تعالى خلق السمع والبصر واللسان لينتفعوا بهذه الأشياء، فإذا لم ينتفعوا بالسمع والبصر صار كأن السمع والبصر لم يكن لهم. كما أن الله تعالى سمى الكفرة موتى حيث قال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: ١٢٢] يعني كافراً فهديناه وإنما سماهم موتى- والله أعلم- لأنه لا منفعة لهم في حياتهم، فكأن تلك الحياة لم تكن لهم، فكذلك السمع والبصر واللسان، إذا لم ينتفعوا بها فكأنها لم تكن لهم، فكأنهم صم بكم عمى فهم لا يرجعون، يعني لا يرجعون إلى الهدى.
وقال القتبي: معنى قوله تعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ قال: الظلمة الأولى كانت ظلمة الكفر، استيقادهم النار قول: لا إله إلا الله، وإذا خلوا إلى شياطينهم فنافقوا.
وقالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: ١٤] فسلبهم نور الإيمان، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ، يعني كمطر نزل من السماء فضرب لهم الله تعالى مثلاً آخر، لأن العرب كانوا يوضحون الكلام بذكر الأمثال، فالله ضرب لهم الأمثال ليوضح عليهم الحجة، فضرب لهم مثلاً بالمستوقد النار، ثم ضرب لهم مثلا آخر بالمطر. فإن قيل كلمة أو إنما تستعمل للشك فما معنى أَوْ ها هنا، فقيل له: أو قد تكون للتخيير، فكأنه قال: إن شئتم فاضربوا لهم مثلاً بالمستوقد النار، وإن شئتم فاضربوا لهم المثل بالمطر، فأنتم مصيبون في ضرب المثل في الوجهين جميعاً. وهذا كما قال في آية أخرى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [النور: ٤٠] فكذلك هاهنا أو للتخيير لا للشك. وقد قيل: أو بمعنى الواو يعني،
وكصيب من السماء، معناه: مثلهم كرجل في مفازة في ليلة مظلمة فنزل مطر من السماء، وفي المطر ظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ والمطر: هو القرآن، لأن في المطر حياة الخلق وإصلاح الأرض، وكذلك القرآن حياة القلوب، فيه هدى للناس، وبيان من الضلالة وإصلاح، فلهذا المعنى شبه القرآن بالمطر. والظلمات: هي الشدائد والمحن التي تصيب المسلمين، والشبهات التي في القرآن، والرعد: هو الوعيد الذي ذكر للمنافقين والكفار في القرآن، والبرق: ما ظهر من علامات نبوة محمد ﷺ ودلائله.
قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ، أي يتصاممون عن سماع الحق حَذَرَ الْمَوْتِ أي لحذر الموت، إنما نصب لنزع الخافض، مثل قوله وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: ١٥٥] أي من قومه، فكذلك هاهنا حَذَرَ الْمَوْتِ، أي لحذر الموت ومعناه:
مخافة أن ينزل في القرآن شيء يظهر حالهم، كما قال في آية أخرى نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا [التوبة: ١٢٧] قال بعضهم: في الآية مضمر، ومعناها يجعلون أصابعهم في آذانهم من الرعد، ويغمضون أعينهم من الصواعق. وقال أهل اللغة:
الصاعقة صوت ينزل من السماء فيه نار، فمن قال بهذا القول لا يحتاج إلى الإضمار في الآية:
يجعلون أصابعهم في آذانهم من خوف الصاعقة وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ أي عالم بأعمالهم.
والإحاطة: هي إدراك الشيء بكماله.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠]
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
قوله تعالى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ، أي ضوء البرق، يذهب ويختلس بأبصارهم من شدة ضوء البرق فكذلك نور إيمان المنافق يكاد يغطي على الناس كفره في سره، حتى لا يعلموا كفره. وقد قيل: معناه يكاد أن يظهر عليهم نور الإسلام، فيثبتون على ذلك.
ثم قال: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، أي كلما لمع البرق في الليلة المظلمة مضوا فيه، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ، أي إذا ذهب ضوء البرق قامُوا متحيرين فكذلك المنافق، إذا تكلم بلا إله إلا الله، يمضي مع المؤمنين، ويمنع بها من السيف، فإذا مات بقي متحيراً نادما. ويقال:
معناه كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [البقرة: ٢٠] أي كلما ظهر لهم دليل نبوة محمد ﷺ وظهر لهم علاماته مالوا إليه، وإذا أظلم عليهم، أي إذا أصاب المسلمين محنة، كما أصابتهم يوم أحد، وكما أصابتهم يوم بئر معونة قاموا، أي ثبتوا على كفرهم.
وروى أسباط، عن السدي أنه قال: كان رجلان من المنافقين هربا من المدينة إلى
المشركين، فأصابهما من المطر الذي ذكر الله فيه ظلمات ورعد وبرق، كلما أصابهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما فإذا لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا شيئاً، فقاما مكانهما فجعلا يقولان: يا ليتنا لو أصبحنا فنأتي محمداً ﷺ فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه فأسلما وحسن إسلامهما، فضرب الله في شأن هذين المنافقين الخارجين مثلاً للمنافقين الذين كانوا بالمدينة، ثم قال تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ، قال بعضهم بسمعهم الظاهر الذي في الرأس وأبصارهم التي في الأعين، كما ذهب بسمع قلوبهم، وأبصار قلوبهم عقوبة لهم. قيل: معناه، وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَهُمْ صماً وعمياً في الحقيقة، كما جعلهم صماً وعمياً في الحكم. قد قيل: معناه، وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَهُمْ صماً وعمياً في الآخرة، كما جعلهم في الدنيا. وروي في إحدى الروايتين، عن ابن عباس أنه قال: هذا من المكتوم الذي لا يفسر. ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من العقوبة وغيرها.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، أي أطيعوا ربكم ويقال: وحّدوا ربكم. وهذه الآية عامة، وقد تكون كلمة يا أَيُّهَا النَّاسُ خاصة لأهل مكة وقد تكون عامة لجميع الخلق، فهاهنا يا أَيُّهَا النَّاسُ لجميع الخلق. يقول للكفار: وحدوا ربكم، ويقول للعصاة: أطيعوا ربكم، ويقول للمنافقين: أخلصوا بالتوحيد معرفة ربكم، ويقول للمطيعين: اثبتوا على طاعة ربكم.
واللفظ يحتمل هذه الوجوه كلها، وهو من جوامع الكلم. واعلم أن النداء في القرآن على ست مراتب: نداء مدح، ونداء ذم، ونداء تنبيه، ونداء إضافة، ونداء نسبة، ونداء تسمية. فأما نداء المدح فمثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ يا أَيُّهَا الرُّسُلُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. ونداء الذم مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا. ونداء التنبيه مثل قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ يا أَيُّهَا النَّاسُ. ونداء الإضافة مثل قوله تعالى: يا عِبادِيَ
. ونداء النسبة مثل قوله: يا بَنِي آدَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ ونداء التسمية مثل قوله تعالى: يا داوُدُ يا إِبْراهِيمُ فهاهنا ذكر نداء التنبيه فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ، أخبر بالنداء أنه يريد أن يأمر أمراً أو ينهى عن شيء. ثم بيّن الأمر فقال: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، يعني وحدوا وأطيعوا الَّذِي خَلَقَكُمْ، معناه: أطيعوا ربكم الذي هو خالقكم، فخلقكم ولم تكونوا شيئاً وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، يعني وخلق الذين من قبلكم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المعصية وتنجون من العقوبة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً معناه: اعبدوا ربكم الذي خلقكم وجعل لكم الأرض فراشاً، يعني مهاداً وقراراً. وقال أهل اللغة: الأرض بساط العالم. وروي عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: إنما سميت الأرض أرضاً، لأنها تأرض ما في بطنها أي تأكل ما فيها. وقال بعضهم: لأنها تتأرض بالحوافر والأقدام. وَالسَّماءَ في اللغة: ما علاك وأظلك.
يعني اذكروا رب هذه النعم واعبدوه، واعرفوا شكر هذه النعم حيث جعل لكم الأرض فراشاً، والسَّماء بِناءً أي سقفاً. قال ابن عباس- رضي الله عنهما- في رواية الكلبي: كل سماء مطبقة على الأخرى مثل القبة وسماء الدنيا ملتزقة على الأرض أطرافها ويقال: وَالسَّماءَ بِناءً أي مرتفعاً. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء، يعني المطر فَأَخْرَجَ بِهِ، يعني أنبت بالمطر مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ، يعني من ألوان الثمرات طعاماً لكم.
قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً، أي لا تقولوا له شركاء وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه خالق هذه الأشياء وغيره لا يستطيع أن يخلق شيئاً من هذه الأشياء. ويقال: كل شيء في هذه الدنيا فيه دلالة على كونه الخالق من أربعة أوجه: فوجود هذه الأشياء وكونها يدل على وجود الصانع واستقامتها تدل على توحيده، وهو استقامة الليل والنهار، والشتاء والصيف وخروج الثمرات وحدوث كل شيء في وقته، لأن المدبر لو كان اثنين لم يكن على الاستقامة، كما قال في آية أخرى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] وتجانسها يدل على أن الخالق واحد عالم حيث خلق الأشياء أجناساً مختلفة، وتمام الأشياء يدل على أن خالقها واحد قائم قادر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣)
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ قال بعضهم: هذا الخطاب لليهود وإن كنتم في ريب: أي في شك مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا محمد ﷺ من القرآن أنه ليس من الله تعالى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، أي من مثل هذا القرآن من التوراة، وقابلوها بالقرآن، فتجدوها موافقة لما في التوراة، فتعلموا به أن محمدا ﷺ لم يختلقه من تلقاء نفسه وأنه من الله تعالى: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أي استعينوا بأحباركم ورهبانكم، يعني عبّادكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تشكون فيه.
وقال بعضهم: نزلت في شأن المشركين وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ أي في شك مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا محمد ﷺ من القرآن وتقولون: إنه اختلقه من تلقاء نفسه فَأْتُوا بِسُورَةٍ أي فاختلقوا سورة من مثل هذا القرآن، لأنكم شعراء وفصحاء وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ، أي استعينوا بآلهتكم، ويقال: استعينوا بخطبائكم وشعرائكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أن محمداً يقوله من تلقاء نفسه.
وقال قتادة: معناه فأتوا بسورة فيها حق وصدق لا باطل فيها. وكان الفقيه أبو جعفر- رحمه الله- يقول: (الهاء) إشارة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فكأنه قال: فأتوا بسورة من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يكن قرأ الكتب ولا درس فأتوا بسورة من رجل لم يقرأ الكتب، كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ويقال: هذه الآيات أصل لجميع ما تكلم به المتكلمون، لأن في أول الآية إثبات الصانع ثم في الآية الأخرى إثبات نبوة محمد ﷺ فالله تعالى أمرهم بأن يأتوا بعشر سور فعجزوا عنها، ثم أمرهم بسورة من مثله، فعجزوا عنها، فنزلت هذه الآية قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ [الإسراء: ٨٨] الآية.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤]
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)
ثم قال عز وجل: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا، «لم» تستعمل للماضي «ولن» تستعمل للمستقبل، فكأنه قال: فإن لم تفعلوا، أي لم تأتوا في الماضي ولن تفعلوا، أي لن تأتوا في المستقبل، وتجحدون بغير حجة فَاتَّقُوا النَّارَ، قال قتادة: معناه، فإن لم تفعلوا، ولن تقدروا أن تفعلوا ولن تطيقوا فَاتَّقُوا النَّارَ، أي: احذروا النار الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ، يعني حطبها الناس إذا صاروا إليها، والحجارة قبل أن يصيروا إليها. ويقال معناه: إن مع كل إنسان من أهل النار حجراً معلقاً في عنقه حتى إذا طفئت النار، رسبه به الحجر إلى أسفل.
ويقال: وقودها الناس والحجارة، أي حجارة الكبريت، وإنما جعل حطبها من حجارة الكبريت لأن لها خمسة أشياء ليست لغيرها: أحدها: أنها أسرع وقوداً، والثاني: أنها أبطأ خموداً، والثالث: أنها أنتن رائحة، والرابع: أنها أشد حراً، والخامس: أنها ألصق بالبدن. قوله تعالى:
أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ أي خلقت وهيئت للكافرين وقدِّرت لهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)
ثم قال: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فقد ذكر في أول الآية إثبات الصانع وذكر حجته، ثم ذكر إثبات الكتاب والنبوة، ثم ذكر الوعيد للكفار، لمن لم يؤمن بالله، ثم ذكر الثواب للمؤمنين وهكذا في جميع القرآن في كل موضع ذكر عقوبة الكفار، ثم ذكر على أثره ثواب المؤمنين لتسكن قلوبهم إلى ذلك، وتزول عنهم الوحشة لكي يثبتوا على إيمانهم ولكي يرغبوا في ثوابه، فقال وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا، أي فرِّح قلوب الذين آمنوا، يعني صدَّقوا
بوحدانية الله تعالى، وبمحمد ﷺ وبما جاء به جبريل- عليه السلام- وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم جَنَّاتٍ وهي البساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت شجرها ومساكنها وغرفها الأنهار، يعني أنهار الخمر واللبن والماء والعسل كُلَّما رُزِقُوا مِنْها، أي أطعموا من الجنة مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً أي طعاماً.
قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ أي أطعمنا من الجنة من قبل. قال بعضهم: معناه إذا أتي بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها، ثم إذا أتُي بها في آخر النهار، قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ، يعني الذي أطعمنا في أول النهار، لأن لونه يشبه لون ذلك، فإذا أكلوا منه وجدوا لها طعماً غير طعم الأول. قال بعضهم: معناه كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ أي في الدنيا، لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا، فإذا أكلوا وجدوا طعمها غير ذلك.
ثم قال تَعَالَيْ: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً قال بعضهم: معناه، متشابهاً في المنظر مختلفاً في الطعم. وقال بعضهم: متشابهاً، يعني يشبه بعضها بعضاً في الجودة، ولا يكون فيها رديء.
حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء يعني أسماء الثمار. ثم قال تعالى:
وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أي مهذبة في الخلق ويقال: مطهرة في الخلق والخلق، فأما الخلق فإنهن لا يحضن ولا يبلنَ ولا يتمخطن ولا يأتين الخلاء. وأما الخلق، فهن لا يحسدن ولا يغرن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن. قوله تعالى: وَهُمْ فِيها خالِدُونَ أي دائمون لا يموتون ولا يخرجون منها أبدا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا وذلك أنه لما نزل قول الله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً [الحج: ٧٣] وقال في آية أخرى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت: ٤١]، قالت اليهود والمشركون: إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت فنزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، أي لا يمتنع من ضرب المثل وبيان الحق
بذكر البعوضة وبما فوقها. ويقال: لا يمنعه الحياء أن يضرب المثل ويبيّن ويصف للحق شبهاً مَّا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، يعني بالذباب والعنكبوت. وقال بعضهم: فما فوقها أي بما دونها في الصغر، وهذا من أسماء الأضداد يذكر الفوق، ويراد به دونه، كما يذكر الوراء ويراد به الأمام مثل قوله: وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الإنسان: ٢٧] أي أمامهم، فكذلك الفوق يذكر ويراد به ما دونه، أي يضرب المثل بالبعوضة وبما دونها، بعد أن يكون فيه إظهار الحق، وإرشاد إلى الهدى، فكيف يمتنع من ضرب المثل بالبعوضة، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يخلقوا بعوضة لا يقدرون عليه. ويقال: إنما ذكر المثل بالبعوضة، لأن خلقة البعوضة أعجب، لأن خلقتها خلقة الفيل. ويقال: لأن البعوضة ما دامت جائعة عاشت فإذا شبعت ماتت، فكذلك الآدمي إذا استغنى، فإنه يطغى. فضرب الله المثل للآدمي.
ثم قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا، أي صدقوا وأقروا بتوحيد الله تعالى: فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، يعني المثل بالذباب والعنكبوت، فيؤمنون به. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، يعني اليهود والمشركين فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا، أي بذكر البعوضة والذباب. قال الله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً، أي إنما ضرب المثل ليضل به كثيراً من الناس، يعني يخذلهم ولا يوفقهم وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، يعني يوفق به على معرفة ذلك المثل كثيراً من الناس وهم المؤمنون. وقال بعضهم: معنى قوله يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً، أي يسميه ضالاً، كما يقال: فسّقت فلاناً، أي سميته فاسقاً، لأن الله تعالى لا يضل به أحداً، وهذا طريق المعتزلة، وهو خلاف جميع أقاويل المفسرين، وهو غير مستعمل في اللغة أيضاً، لأنه يقال: ضلله إذا سمَّاه ضالاً ولا يقال: أضله إذا سماه ضالاً، ولكن معناه ما ذكره المفسرون أنه يخذل به كثيراً من الناس مجازاة لكفرهم.
ثم قال تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ أي وما يهلك به وأصل الضلالة الهلاك.
يقال: ضلّ الماء في اللبن إذا صار مستهلكاً. وما يهلك، وما يخذل به، يعني بالمثل إلا الفاسقين، وأصل الفسق في اللغة هو: الخروج عن الطاعة والعرب تقول: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ويقال للفأرة: فويسقة، لأنها تخرج من الحُجْر وقال الله تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: ٥٠] أي خرج عن طاعة ربه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧]
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)
ثم نعت الفاسقين فقال تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ، أي يتركون أمر الله ووصيته من بعد ميثاقه، أي من بعد تغليظه وتأكيده، وذلك أن الله تعالى أمر موسى في
التوراة بأن يأمر قومه ليقروا بمحمد ﷺ ويصدقوه إذا خرج. وكان موسى عليه السلام عاهدهم على ذلك، فلما خرج رسول الله ﷺ كذبوه ولم يصدقوه ونقضوا العهد. ويقال: إنه أراد به العهد الذي أخذه من بني آدم من ظهورهم، حيث قال تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: ١٧٢] فنقضوا ذلك العهد والميثاق. فإن قيل: كيف يجوز هذا واليهود كانوا مقرّين بالله تعالى؟ فكيف يكون نقض العهد وهم مقرون؟ قيل له: إنهم إذا لم يصدقوا بمحمد ﷺ فقد أشركوا بالله، لأنهم لم يصدقوا بأن القرآن من عند الله، ومن زعم أن القرآن قول البشر فقد أشرك بالله تعالى، وصار ناقضاً للعهد. ويقال: الميثاق الذي يعرف كل واحد ربه إذا تفكر في نفسه، فكان ذلك بمنزلة أخذ الميثاق عليه، وجميع ما في القرآن من ذكر الميثاق فهو على هذه الأوجه الثلاثة.
وقوله تعالى: وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، روى الضحاك وعطاء، عن ابن عباس أنه قال: إنهم أمروا أن يؤمنوا بجميع الأنبياء فآمنوا ببعضهم ولم يؤمنوا ببعضهم، فهذا معنى قوله: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ. ويقال: أمروا بصلة القرابات فقطعوا الأرحام فيما بينهم. ويقال: كانت بين اليهود والعرب قرابة من وجه، لأن العرب كانت من أولاد إسماعيل واليهود من أولاد إسحاق، فإذا لم يؤمنوا بالنبي ﷺ فقد قطعوا ذلك الرحم الذي كان بينهم.
وقوله تعالى: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، لأنهم يكفرون ويأمرون غيرهم بالكفر، فذلك فسادهم في الأرض أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي المغبونون في العقوبة. وقال الكلبي: ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله منزل وأهل وخدم في الجنة، فإن أطاع الله أتى ومنزله وأهله وخدمه في الجنة، وإن عصى الله ورثه الله تعالى المؤمنين، فقد غبن أي بعد عن أهله وخدمه، كما قال في آية أخرى قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: ١٥]. وقال بعضهم: هذا التفسير لا يصح لأنه لا يجوز أن يقال للكافر منزل في الجنة وخدم، إلا أن الكلبي لم يقل ذلك من ذات نفسه، وإنما رواه عن أبي صالح، عن ابن عباس- رضي الله عنهما-
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)
قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ، قال ابن عباس: هو على وجه التعجب.
وقال الفراء: هو على وجه التوبيخ والتعجب لا على وجه الاستفهام، فكأنه قال: ويحكم كيف تكفرون وتجحدون بوحدانية الله تعالى. فإن قيل: كيف يجوز التعجب من الله تعالى؟ وإنما يجوز التعجب ممن رأى شيئاً لم يكن رآه أو سمع شيئاً لم يكن سمعه فيتعجب لذلك، والله
تعالى قد علم الأشياء قبل كونها. قيل له: التعجب من الله تعالى يكون على وجه التعجيب، والتعجيب هو أن يدعو إلى التعجب فكأنه يقول: ألا تتعجبون أنهم يكفرون بالله؟! وهذا كما قال في آية أخرى وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد: ٥].
ثم قال: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، أي كنتم نطفة في أصلاب آبائكم فأحياكم في أرحام أمهاتكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقطاع آجالكم، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث يوم القيامة، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة فتثابون بأعمالكم. قال الكلبي: فلما ذكر البعث عرف اليهود فسكتوا وأنكر ذلك المشركون فقالوا: ومن يستطيع أن يحيينا بعد الموت؟ فنزل قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: ٢٩]. فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لليهود وهم لم يكفروا بالله تعالى؟ فالجواب ما سبق ذكره: أنهم لما أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أنكروا وحدانية الله تعالى لأنهم أخبروا أن القرآن قول البشر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٩]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، أي قدَّر خَلْقَهَا لأن الأشياء كلها لم تُخلق في ذلك الوقت، لأن الدواب وغيرها من الثمار التي في الأرض تخلق وقتاً بعد وقت، ولكن معناه قدَّر خلق الأشياء التي في الأرض.
وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ هذه الآية من المشكلات والناس في هذه الآية وما شاكلها على ثلاثة أوجه: قال بعضهم: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها، وهذا كما روي عن مالك بن أنس- رحمه الله- أن رجلاً سأله عن قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥]، فقال مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً فأخرجوه فطردوه، فإذا هو جهم بن صفوان. وقال بعضهم:
نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة وهذا قول المشبهة. وللتأويل في هذه الآية وجهان: أحدهما: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، أي صعد أمره إلى السماء، وهو قوله: (كُنَّ فكان)، وتأويل آخر وهو قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي أقبل إلى خلق السماء. فإن قيل:
قد قال في آية أُخرى أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) [النازعات: ٢٧، ٢٨، ٣٠] فذكر في تلك الآية أن الأرض خلقت بعد السماء، وذكر في هذه الآية أن الأرض خلقت قبل السماء. الجواب عن هذا أن يقال: خلق الأرض قبل السماء وهي ربوة حمراء في موضع الكعبة، فلما خلق السماء بسط الأرض بعد خلق السماء فذلك قوله تعالى:
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أي بسطها.
ثم قال تعالى: فَسَوَّاهُنَّ أي خلقهن سَبْعَ سَماواتٍ وهن أعظم من خلقكم وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي بخلق كل شيء عليم. ومعناه: أن الذي خلق لكم مَّا فِى الارض جميعاً وخلق السماوات قادر على أن يحييكم بعد الممات. قرأ نافع والكسائي وأبو عمرو (وهْو) بجزم الهاء. وقرأ الباقون بضم الهاء وَهُوَ في جميع القرآن، وهما لغتان ومعناهما واحد.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٠]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٣٠)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ، روي عن أبي عبيدة أنه قال: معناه وقال ربك للملائكة وإذ زيادة. وروي عن الفراء أنه قال: واذكر معناه إذ قال ربك. وقال مقاتل: معناه، وقد قال ربك للملائكة. والملائكة: جماعة الملك. وهذا اللفظ على غير القياس لأنه يقال:
ملائكة بالهمز ويقال للواحد: ملك بغير همز. وإنما قيل ذلك لأنه في الأصل كان مألك بالهمز فأسقط الهمز للتّخفيف. وأصله من: ألك يألك ألوكاً وهو الرسالة. كما قال القائل:
وَغُلاَمٌ أَرْسَلَتْهُ أُمُّه بِأَلُوكٍ، فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ.
وإنما سميت الملائكة ملائكة، لأنهم رسل الله تعالى وإنما إراد هاهنا بعض الملائكة، «وهم الملائكة الذين كانوا في الأرض. وذلك أن الله تعالى لما خلق الأرض، خلق الجان مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ، أي من لهب من نار لا دخان لها، فكثر نسله، وهم الجان بنو الجان، فعملوا في الأرض بالمعاصي وسفكوا الدماء، فبعث الله تعالى ملائكة سماء الدنيا، وأمر عليهم إبليس وكان اسمه عزازيل، حتى هزموا الجن، وأخرجوهم من الأرض إلى جزائر البحار، وسكنوا الأرض فصار الأمر عليهم في العبادة أخف، لأن كل صنف من الملائكة يكون أرفع في السماوات فيكون خوفهم أشد، وملائكة سماء الدنيا يكون أمرهم أيسر من الذين فوقهم، فلما سكنوا الأرض صار الأمر عليهم أخف مما كانوا، وسكنوا الأرض واطمأنوا إليها، وكل من اطمأن إلى الدنيا أمر بالتحول عنها. فأخبرهم الله تعالى أنه يريد أن يخلق في الأرض خليفة فذلك قوله تعالى وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ، يعني الذي هم في الأرض إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً يعني أريد أن أخلق في الأرض خليفة سواكم. فشق ذلك عليهم وكرهوا ذلك قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها، يعني أتخلق فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيها كما أفسدت الجن وَيَسْفِكُ الدِّماءَ كما سفكت الجن وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، أي نصلي لك بأمرك. ويقال معناه: نحن نسبح بحمدك ونحمدك وَنُقَدِّسُ لَكَ. قال بعضهم: نقدس أنفسنا لك، يعني نطهر أنفسنا بالعبادة عن المعصية. وقال بعضهم: نقدس لك، أي ننسك إلى الطهارة ونقدس أنفسنا لَكَ.
قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، قال مجاهد: علم من إبليس المعصية وعلم من آدم الخدمة والطاعة ولم تعلم الملائكة بذلك. وقال ابن عباس- رضي الله عنهما-: قد علم أنه سيكون من بني آدم من يسبح بحمده ويقدس له ويطيعه. ويقال: قد علم الله تعالى أنه سيكون في ولد آدم من الأنبياء والصالحين والأبرار. وذكر في الخبر أنه لما أراد الله تعالى أن يخلق آدم، بعث جبريل ليجمع التراب من وجه الأرض، فلما نزل جبريل وأراد أن يجمع التراب، قالت له الأرض: بحق الله عليك لا تفعل فإني أخشى أن يخلق من ذلك خلقاً يعصي الله تعالى فأستحي من ربي، فصعد جبريل وقال: لو أمرني ربي بالرجوع إليها لفعلت. فلما صعد جبريل بعث الله تعالى ميكائيل، فتضرعت إليه الأرض بمثل ذلك، فرجع ميكائيل، فبعث الله تعالى عزرائيل، فتضرعت إليه الأرض، فقال عزرائيل: أمر الله أولى من قولك فجمع التراب من وجه الأرض الطيب والسبخة، والأحمر والأصفر، وغير ذلك، ثم صعد إلى السماء، فقال له تعالى: أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك؟ فقال: رأيت أمرك أوجب من قولها فقال:
أنت تصلح لقبض أرواح أولاده. فصار ذلك التراب طيناً، وكان طيناً أربعين سنة، ثم صار صلصالاً كما قال في آية أخرى خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن: ١٤] فكان إبليس إذا مر عليه مع الملائكة قال: أرأيتم هذا الذي لم تروا شيئاً من الخلائق يشبهه، إن فضّل عليكم وأمرتم بطاعته ما أنتم فاعلون؟ فقالوا: نطيع أمر ربنا. فأسر إبليس في نفسه، وقال لئن فضِّل علي لا أطيعه ولئن فضلت عليه لأهلكنه. فلما سوَّاه وَنَفَخَ فِيهِ مِن روحه وعلَّمه أسماء الأشياء التي في الأرض. يعني ألهمه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣١]
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١)
فذلك قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، يعني ألهمه أسماء الدواب وغيرها، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ، هكذا مكتوب في مصحف الإمام عثمان- رضي الله عنه- وأما في مصحف ابن مسعود، وأُبي بن كعب. ففي أحدهما ثُمَّ عَرْضُهَا وفي الآخر ثم عرضهن. فأما من قرأ ثُمَّ عرضهن، يعني به جماعة الدواب ومن قرأ ثُمَّ عَرْضُهَا، يعني به جميع الأسماء. وأما من قرأ ثُمَّ عَرَضَهُمْ، يعني به جماعة الأشخاص. والأشخاص يصلح أن يكون عبارة عن المذكر والمؤنث وإن اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر على المؤنث.
قوله تعالى: فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ، أي أخبروني عن أسماء هذه الأشياء التي في الأرض إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قولكم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها. قال مقاتل: معناه
كيف تقولون فيما لم أخلق بعد أنهم يفسدون وأنتم لا تعرفون ما ترونه وتنظرون إليه؟ ويقال:
في هذه الآية دليل على أن أولى الأشياء بعد علم التوحيد ينبغي أن يعلم علم اللغة لأنه- عز وجل- أراهم فضل آدم بعلم اللغة، وقال بعضهم: إنما علمه الأسماء وما فيها من الحكمة، فظهر فضله بعلم الأسماء وما فيها من الحكمة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٢]
قالُوا سُبْحانَكَ لاَ عِلْمَ لَنا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢)
قوله تعالى: قالُوا سُبْحانَكَ لاَ عِلْمَ لَنا، نزّهوه وتابوا إليه من مقالتهم، ومعناه سبحانك تبنا إليك من مقالتنا فاغفر لنا لاَ عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا أي ألهمتنا. وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «سُبْحَانَ الله، تَنْزِيهُ الله عَنْ كُلِّ مَا لا يَلِيقُ بِهِ». وقال بعض أهل اللغة:
اشتقاقه من السباحة، لأن الذي يسبح يباعد ما بين طرفيه، فيكون فيه معنى التبعيد. وقال بعضهم: هذه لفظة جمعت بين كلمتي تعجب، لأن العرب إذا تعجبت من شيء قالت: حان، والعجم إذا تعجبت من شيء قالت: سب فجمع بينهما فصار: سبحان.
وقوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، يعني أنت العليم بما يكون في السموات والأرض، الحكيم في أمرك، إذا حكمت أن تجعل في الأرض خليفة غيرنا. ويقال: معناه الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ على وجه الحكمة التي تدرك الأشياء بحقائقها، وكان حكمه موافقاً للعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٣]
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)
قوله تعالى: قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ، يعني أخبرهم بِأَسْمائِهِمْ، يعني أسماء الدواب وما فيها من الحكمة وما يحل أكله وما لا يحل أكله. فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ يعني أخبرهم بِأَسْمائِهِمْ قال الله تعالى لهم: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يعني سر أهل السماوات وسر أهل الأرض، وما يكون فيهما. وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ، أي ما أظهرتهم من الطاعة يعني الملائكة وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، يعني ما أسر إبليس في نفسه حين قال: لئن فضل علي لا أطيعه ولئن فضلت عليه لأهلكنه. وقال بعضهم: إنهم كانوا يقولون حين أراد الله أن يخلق آدم: إنه لا يخلق أحداً أفضل منهم، فهذا الذي كانوا يكتمون. وهذا التفسير ذكر عن قتادة. وقد قيل: إنه لما خلق آدم، أشكل عليهم أن آدم أعلم أم هم؟ فسألهم عن الأسماء، فلم يعرفوها وسأل آدم عن الأسماء فأخبرهم بها، فظهر لهم أن آدم أعلم منهم. ثم أشكل عليهم أنه أفضل أم هم؟ فأمرهم- سبحانه وتعالى- بالسجود له، فظهر لهم فضله.

[سورة البقرة (٢) : آية ٣٤]

وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)
وهو قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فأصل السجود في اللغة: هو الميلان والخضوع، والعرب تقول: سجدت النخلة إذا مالت، وسجدت الناقة إذا طأطأت رأسها ومالت. وإنما كانت تلك سجدة التحية لا سجدة العبادة، وكانت السجدة تحية لآدم عليه السلام وطاعة لله- عز وجل- فَسَجَدُوا كلهم إِلَّا إِبْلِيسَ. يقال: إبليس اسم أعجمي ولذلك لا ينصرف وهو قول أبي عبيدة. وقال غيره: هو من أبلس يبلس إذا يئس من رحمة الله، وكذا قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أنه أيئسه من رجسته. وكان اسمه عزازيل ويقال: عزاييل وإنما لن ينصرف لأنه لا سمي له فلا يستثقل فاشتُقّ. وقال ابن عباس- رضي الله عنه-: إنما سمي آدم، لأنه خلقه من أديم الأرض. وروي عن قطرب أنه قال: هذا الخبر لا يصح لأن العربية لا توافقه. وقال بعض أهل اللغة: مأخوذ من الأدمة، وهو الذي يكون من لونه سمرة. إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ أي امتنع عن السجود تكبراً: معناه أن كبره منعه من السجود.
وقوله: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي وصار من الكافرين، كما قال في آية أخرى فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: ٤٣]، أي صار من المغرقين. وقال بعضهم: كان من الكافرين، أي كان في علم الله من الكافرين، يعني أنه يكفر. وبعضهم قال بظاهر الآية كان كافراً في الأصل. وهذا قول أهل الجبر. وقالوا: كل كافر أسلم ظهر أنه كان مسلماً في الأصل، وكل مسلم كفر ظهر أنه كان كافراً في الأصل، لأنه كان كافراً يوم الميثاق. ألا ترى أن الله تعالى قال في قصة بلقيس إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ [النمل: ٤٣] ولم يقل إنها كانت كافرة، وقال في قصة إبليس وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ. وقال أهل السنة والجماعة: الكافر إذا أسلم كان كافراً إلى وقت إسلامه، وإنما صار مسلماً بإسلامه إلا أنه غفر له ما قد سلف. والمسلم إذا كفر كان مسلماً إلى ذلك الوقت، إلا أنه حبط عمله.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٥]
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)
قوله تعالى: وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، روي عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: أمر الله تعالى ملائكته أن يحملوا آدم على سرير من ذهب إلى
السماء، فأدخلوه الجنة ثم خلق منه زوجه حواء، يعني من ضلعه الأيسر، وكان آدم بين النائم واليقظان. وقال ابن عباس: سميت حواء لأنها خلقت من الحي. ويقال: إنما سميت حواء لأنه كان في شفتها حوة، يعني حمرة فقال عز وجل: وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ أي حواء. يقال للمرأة: زوجة وزوج، والزوج أفصح.
وقوله عز وجل: وَكُلا مِنْها، أي من الجنة رَغَداً، أي موسعاً عليكما بلا موت ولا هنداز- بالزاي المعجمة- هكذا قال في رواية الكلبي يعني بغير تقتير. وقال أهل اللغة:
الرغد هو السعة في الرّزق من غير تقتير.
قوله تعالى: حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ، أي ولا تأكلا من هذه الشجرة.
روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما-: أنها كانت شجرة القمح. وروى السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس أنه قال: هي شجرة الكرم. وروى الشعبي عن جعدة بن هبيرة مثله.
وروي عن علي- رضي الله عنه- مثله. وروي عن قتادة أنه قال: وذكر لنا أنها شجرة التين ويقال: إنما كان النهي عن الأكل من الشجرة للمحنة، لأن الدنيا دار محنة، وقد خلقه من الأرض ليسكن فيها، فامتُحِن بذلك، كما امتُحن أولاده في الدنيا بالحلال والحرام. فذلك قوله عز وجل: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ، أي فتصيرا من الضالين بأنفسكما.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٦]
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها، قرأ حمزة (فأزالهما) بالألف، وقرأ غيره بغير ألف. وأصله في اللغة: من أزلّ يزل، ومعناه فأغراهما الشيطان واستزلَّهما. وأما من قرأ (فأزالهما) بالألف، فأصله من أزال يزيل إذا أزال الشيء عن موضعه.
قوله تعالى: فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ، أي مما كانا فيه من النعم. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: مكث آدم في الجنة كما بين الظهر والعصر، من أيام الآخرة، لأن كل يوم من أيام الآخرة كألف سنة من أيام الدنيا.
وروي عن ابن عباس أنه قال: لما رأى إبليس آدم في النعمة حسده، واحتال لإخراجه منها، فعرض نفسه على كل دابة من دواب الجنة أن يدخل في صورتها فأبت عليه، حتى أتى الحية وكانت أعظم وأحسن دابة في الجنة خلقاً وكانت لها أربعة قوائم، فلم يزل يستدرجها حتى أطاعته، فدخل ما بين لحييها وأقام في رأسها، ثم أتى باب الجنة وناداهما وقال: ما
نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، يعني أن هذه الشجرة شجرة الخلد، فمن أكل منها يبقى في الجنة أبداً.
ويقال: إن حواء قالت لآدم: تعال حتى نأكل من هذه الشجرة فقال آدم: قد نهانا ربنا عن أكل هذه الشجرة فأخذت حواء بيده حتى جاءت به إلى الشجرة، وكان يحب حواء فكره أن يخالفها لحبه إياها وكان آدم يقول لها: لا تفعلي فإني أخاف العقوبة. وكانت حواء تقول، إن رحمة الله واسعة فأخذت من ثمرها وأكلت. ثم قالت لآدم: هل أصابني شيء بأكلها؟ - وإنما لم يصبها شيء بأكلها لأنها كانت تابعة، وآدم متبوعاً فما دام المتبوع على الصلاح يتجاوز عن التابع، فإذا فسد المتبوع فسد التابع- ثم أخذت ثمرة أخرى ودفعتها إلى آدم. فلما أكل آدم لم تصل إلى جوفه حتى أخذتهما الرعدة، وسقط عنهما ما كان عليهما من الحلي والحلل وغيرهما وعريا عن الثياب، حتى بدت عوراتهما فاستحيا وهربا. قال الله تعالى: يا آدم أمني تهرب؟
قال: لا ولكن حياء من ذنبي. فأخذا من أوراق التين، وألصقا على عوراتهما. ثم أمرهما الله تعالى بأن يهبطا منها إلى الأرض، فوقع آدم بأرض الهند، وحواء بجدة. وروي عن ابن عباس أنه قال: إنما سمي الإنسان إنساناً، لأن الله عهد إليه فنسي أي ترك.
وقوله تعالى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي آدم وحواء وإبليس والحية، فبقي بين إبليس وبين أولاد آدم العداوة إلى يوم القيامة. وكذلك بين الحية وبين أولاد آدم عداوة إلى يوم القيامة. ثم قال: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ، أي موضع القرار وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ، أي الحياة والعيش إلى الموت.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٧]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)
قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، قرأ ابن كثير فَتَلَقَّى آدَمُ بنصب آدم ورفع كلمات. وقرأ غيره برفع آدم وكسر كلمات. فأما من قرأ فَتَلَقَّى آدَمُ بالرفع فمعناه أخذ وقيل من ربه. ومن قرأ ينصب آدم. يعني استقبلته كلمات من ربه. يقال: تلقيت فلاناً بمعنى استقبلته. ومعنى ذلك كله: أن الله تعالى ألهمه كلمات، فاعتذر بتلك الكلمات وتضرع إليه، فتاب الله عليه.
وروي عن مجاهد أنه قال: تلك الكلمات هي قوله عز وجل: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: ٢٣] الآية. وقال بعضهم: قال: بحق محمد أن تقبل توبتي. قال الله له: ومن أين عرفت محمداً؟ قال: رأيت في كل موضع من الجنة مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك. فتاب الله عليه. وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال:
الكلمات هي قوله سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، رب عملت سوءاً
وظلمت نفسي فتب عليّ وارحمني، إنك أنت التواب الرحيم. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني وأنت خير الغافرين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني وأنت خير الراحمين.
قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْهِ، يعني قبل الله توبته. يقال: تاب العبد إلى ربه وتاب الله على عبده، فهذا اللفظ مشترك إلا أنه إذا ذكر من العبد يقال: تاب إلى الله، وإذا ذكر من الله تعالى يقال: تاب الله على عبده، إذا رجع العبد عن ذنبه. وتاب الله على عبده، إذا قبل توبته.
قوله: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يعني المتجاوز عن الذنوب الرحيم بعباده.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٨]
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨)
قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً، يعني آدم وحواء وإبليس والحية. وفي الآية.
دليل على أن المعصية تزيل النعمة عن صاحبها، لأن آدم قد أخرج من الجنة بمعصيته. وهذا كما قال القائل:
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا فَإِنَّ المَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ
وَدَاوِمْ عَلَيْهَا بِشُكْرِ الإِله فَإِنَّ الإِلهَ شَدِيدُ النِّقَمْ
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: ١١] الآية.
وقوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، وأصله فإن ما إلا أن النون أدغمت في الميم، وإن لتأكيد الكلام، وما للصلة، ومعناه فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى يعني البيان، وهو الكتاب والرسل، خاطب به آدم وعنى به ذريته. فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ، يعني اتبع كتابي وأطاع رسلي فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلهم من العذاب، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا من أمر الدنيا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٩]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، أي جحدوا رسلي وكذبوا كتابي أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، أي دائمون.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ، يا أولاد يعقوب. وإنما سمي إسرائيل، لأن (الإسرا) بلغتهم عبد، و (الإيل) هو الله فكأنه قال: يا بني عبد الله. وقال بعضهم: إنما سمي إسرائيل لأنه أسره ملك يقال له (إيل)، وذلك أنه كان في سفر مع أولاده، وكان يسير خلف القافلة، وكان له قوة فدخل في نفسه شيء من العجب، فابتلاه الله تعالى، أن جاءه ملك على هيئة اللص وأراد أن يضرب على القافلة، فأراد يعقوب أن يضربه على الأرض فلم يقدر على ذلك، فكانا في تلك المنازعة إلى طلوع الفجر، ثم إن الملك أخذ بعرق يعقوب- أي عرق من عروقه- فمده فسقط في ذلك الموضع ثلاثة أيام. وقال بعضهم: لأنه أسره جني يقال له (إيل) وروي عن السدي:
أنه وقعت بينه وبين أخيه (عيصوا) عداوة فحلف (عيصوا) أن يقتله، فكان يعقوب يختفي بالنهار، ويخرج بالليل فسمي إسرائيل لسيره بالليل. وأصله من إسراء الليل بدليل قوله عز وجل: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: ١] والله أعلم بالصواب. ويقال: إنما سمي بيعقوب، لأنه ولد مع عيصوا، في بطن واحد فخرج على عقب عيصوا فسمي لذلك بيعقوب.
فقال الله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ وإنما أراد بهم اليهود الذين كانوا حوالي المدينة من بني قريظة والنضير وغيرهم، وكانوا من أولاد يعقوب.
وقال تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، يعني احفظوا منتي التي مننت عليكم في التيه من المن والسلوى، يعني اذكروا تلك النعم التي أنعمت عليكم واشكروا لي وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ. قال ابن عباس- رضي الله عنهما- في رواية أبي صالح: قد كان الله تعالى عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبياً أمياً، فمن تبعه وصدق به غفرت له ذنوبه، وأدخلته الجنة، وجعلت له أجرين، أجراً باتباعه ما جاء به موسى، وأجراً باتباعه ما جاء به محمد ﷺ فلما جاءهم محمد- عليه الصلاة والسلام- وعرفوه كذبوه فذكرهم الله تعالى في هذه الآية فقال: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ. قال الحسن البصري:
أَوْفُوا بِعَهْدِي، أدوا ما افترضت عليكم، أُوفِ بِعَهْدِكُمْ مما وعدت لكم. وقال الضحاك: أوفوا بطاعتي أوف لكم بالجنة. وقال الصادق: أوفوا بعهدي في دار محنتي على بساط خدمتي في حفظ حرمتي، أوف بعهدكم في دار نعمتي على بساط قربتي بسني رؤيتي.
وقال قتادة: العهد ما ذكر في سورة المائدة في قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله تعالى: وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [المائدة: ١٢]، أوف بعهدكم
وهو قوله: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [المائدة: ١٢] الآية. ويقال: أَوْفُوا بِعَهْدِي الذي قبلتم يوم الميثاق، أُوفِ بِعَهْدِكُمْ الذي قلت لكم، يعني به الجنة.
قوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، يعني: فَاخْشَوْنِ. وأصله فارهبوني بالياء لكن حذفت الياء وأقيم الكسر مقامها. ثم قال: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ، أي صدقوا بهذا القرآن الذي أنزلت على محمد ﷺ مصدقا أي موافقا لما معكم، من التوحيد. وفي بعض الشرائع أنزلت يعني التوراة والإنجيل وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ، يعني أول من يكفر بمحمد ﷺ ويقال: بِهِ يعني بالقرآن. وإنما يريد بني قريظة والنضير. فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وقد كفر به قبلهم مشركو العرب، قيل له: معناه وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ في وقت هذا الخطاب. ويقال: إن أحبار اليهود كان لهم أتباع، فلو أسلموا أسلم أتباعهم ولو كفروا كفر أتباعهم كلهم، فهذا معنى قوله وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ من قومكم. وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي بكتمان صفة محمد ﷺ عرضاً يسيراً، لأنهم كانوا عرفوا صفة محمد ﷺ وكانت لهم مأكلة ووظائف من سفلة اليهود، وكانت لهم رئاسة، فكانوا يخافون أن تذهب وظائفهم ورئاستهم فقال: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي عرض الدنيا وإنما سماه قليلاً، لأن الدنيا كلها قليل. ثم خوفهم فقال: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ في صفة محمد ﷺ فمن جحد به أدخلته النار.
قوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ يقال في اللغة: لبس يلبس لبساً إذا لبس الثياب. ومعناه لا تخلطوا الحق بالباطل، فتكتمون صفته، وذلك أنهم كانوا يخبرون عن بعض صفته، ويكتمون البعض ليصدقوا بذلك فيلبسون عليهم بذلك. وقال قتادة: وَلا تَلْبِسُوا اليهودية والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام. ويقال:
معناه ولا تؤمنوا ببعض أمره وتكفروا ببعض أمره.
ثم قال تعالى: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ، يقول: ولا تكتموا الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنكم تكتمون الحق. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، أي أقيموا الصلوات الخمس بركوعها وسجودها في مواقيتها، وَآتُوا الزَّكاةَ المفروضة وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ، أي صلوا مع المصلين، مع أصحاب محمد ﷺ في الجماعات. ويقال: صلوا مع المصلين إلى الكعبة. وقال قتادة:
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وهما فريضتان واجبتان ليس لأحد فيهما رخصة، فأدوهما إلى الله عز وجل.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٤]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤)
قوله: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ، نزلت هذه الآية في شأن اليهود الذين
كانوا حوالي المدينة، وهم بنو قريظة والنضير، وكانوا ينتظرون خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلم وكانوا يدعون الأوس والخزرج إلى الإيمان به، فلما خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلم آمن به الأوس والخزرج وكفر اليهود وجحدوا، فنزلت هذه الآية أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: كانت اليهود إذا جاءهم حليف منهم- الذي قد أسلم- وسأل عن رسول الله ﷺ في السر فتقول له: إنه نبي صادق فاتبعه، وتكتم ذلك عن السفلة مخافة أن تذهب منافعه، فنزلت هذه الآية أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ. وقال قتادة: في هذه الآية دليل على أن من أمر بخير فليكن أشد الناس تسارعاً إليه، ومن نهى عن شر فليكن أشد الناس انتهاء عنه.
ويقال: تنزلت في شأن القصاص.
قال الفقيه: أخبرنا القاضي الخليل بن أحمد قال: حدثنا ابن أبي حاتم الرازي قال:
أخبرنا الحجاج بن يوسف، عن سهل بن حماد، عن ابن غياث، عن هشام الدستوائي، عن المغيرة وهو ختن مالك بن دينار، عن مالك بن دينار عن ثمامة، عن أنس قال: لما عرج بالنبي ﷺ مرَّ على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقال: «يَا جِبْرِيلُ مَنْ هؤلاء» ؟ فقال:
هؤلاءِ أمَّتُكَ الَّذيِنَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ، وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ. ثم قال تعالى: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ، يعني أفلا تعقلون أن صفته في التوراة. ويقال: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ أن ذلك حجّة عليكم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٥]
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، أي استعينوا بالصبر على أداء الفرائض وبكثرة الصلاة على تمحيص الذنوب. ويقال: استعينوا بالصبر على نصرة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: استعينوا بالصبر والصلاة يعني بالصوم والصلاة، وإنما سمي الصوم صبراً لأن في الصوم حبس النفس عن الطعام والشراب والرفث. وقد قيل الصبر على ثلاثة أوجه: صبر على الشدة والمصيبة، وصبر على الطاعة وهو أشد من الأول وأكثر أجراً، وصبر عن المعصية وهو أشد من الأول والثاني، وأجره أكثر من الأول. وفي هذا الموضع أراد الصبر على الطاعة. قوله تعالى:
وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ، أي الاستعانة ويقال: الصلاة لكبيرة أي ثقيلة إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ، أي المتواضعين. ويقال: الذليلة قلوبهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٦]
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، أي يستيقنون أنهم يبعثون يوم القيامة بعد الموت.
وإنما سمي اليقين ظناً، لأن في الظن طرفاً من اليقين، فيعبَّر بالظن عن اليقين. وقوله: وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ يعني في الآخرة بعد البعث للحساب.

[سورة البقرة (٢) : آية ٤٧]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧)
قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ، أي على عالمي زمانهم. وقال بعضهم: من آمن من أهل الكتاب بمحمد ﷺ كانت له فضيلة على غيره وكان له أجران، أجر إيمانه بنبيه- عليه السلام- وأجر إيمانه بمحمد ﷺ وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: «ثَلاَثَةٌ يُعْطِيهُم الله الأَجْرَ مَرَّتَيْنِ، مَنِ اشْتَرَى جَارِيَةً فَأحْسَنَ تَأْدِيبَهَا فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَها، وَعَبْدٌ أَطَاعَ سَيِّدَهُ وَأَطَاعَ الله تَعَالَى، وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أدرك النبيّ صلّى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ». وقال بعضهم: معنى قوله وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ بإنزال المن والسلوى وغيره، ولم يكن ذلك لأحد من العالمين غيرهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٨]
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)
وقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً، أي واخشوا عذاب يوم لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، يعني لا تغني في ذلك اليوم نفس مؤمنة عن نفس كافرة، وذلك أنهم كانوا يقولون: نحن من أولاد إبراهيم خليل الله، ومن أولاد إسحاق والله تعالى يقبل شفاعتهما فينا، فنزلت هذه الآية:
لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، أي لا تغني نفس مؤمنة عن نفس مؤمنة ولا نفس كافرة عن نفس كافرة. وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ، أي من نفس كافرة يعني لا ينفع فيها شافع ولا ملك ولا رسول لغير أهل القبلة. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وَلاَ تقبل بالتاء، لأن الشفاعة مؤنثة وقرأ الباقون بالياء، لأن تأنيثه ليس بحقيقي، وما لم يكن تأنيثه حقيقياً جاز تذكيره، وكقوله عز وجل: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ [البقرة: ٢٧٥] ثم قال تعالى: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ، أي لا يقبل الفداء من نفس كافرة كما قال في موضع آخر فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً [آل عمران: ٩١]، ويقال: لو جاءت بعدل نفسها رجلاً مكانها لا يقبل منها. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، يقول: ولا هم يمنعون من العذاب.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٩]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، إنما خاطبهم وأراد به آباءهم، لأنهم يتبعون آباءهم فأضاف إليهم. ومعناه واذكروا إذ نجيناكم من قوم فرعون يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي
يعذبونكم بأشد العذاب وأقبح العذاب. ويقال في اللغة: سامه الخسف، إذا أولاه الهوان.
يعني يولونكم بأشد العذاب. ثم بيّن العذاب فقال تعالى: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ الصغار وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، أي ويستخدمون نساءكم. وأصله في اللغة. من الحياة، يقال:
استحيا، يستحيي إذا تركه حيّاً. وكانوا يذبحون الأولاد، ويتركون النساء أحياء للخدمة، وذلك لأن فرعون قالت له كهنته: يولد في بني إسرائيل مولود ينازعك في ملكك، فأمر بأن يذبح كل مولود يولد في بني إسرائيل وتترك البنات.
قوله تعالى: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ، أي نعمة من ربكم عظيمة، والبلاء:
يكون عبارة عن النعمة، ويكون أيضاً عبارة عن البلية والشدة وأصله من الابتلاء والاختيار يكون بهما جميعاً. فإن أراد به النعمة، فمعناه وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ، أي اتجاه الله من ذبح الأولاد واستخدام النساء نعمة لكم من ربكم عظيم وإن أراد به العذاب، فمعنى وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ أن في ذبح الأبناء واستخدام النساء بلاء لكم من ربكم عظيم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٠]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠)
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ، أي فرق الماء يميناً وشمالاً حين خرج موسى مع بني إسرائيل من مصر، فخرج فرعون وقومه في طلبهم فلما انتهوا إلى البحر ضرب موسى عصاه على البحر، فانفلق، فصار اثني عشر طريقاً يبساً، لكل سبط منهم طريق. فلما جاوز موسى البحر ودخل فيه فرعون مع قومه، غشيهم مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ، أي غشيهم الماء فغرقوا في اليم فذلك قوله تعالى: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ.
يقول: واذكرا نعمة الله عليكم إذ فلقنا بكم البحر فَأَنْجَيْناكُمْ من الغرق وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ، يعني فرعون وآله. قال بعض أهل اللغة: الآل، أتباع الرجل قريبه كان أو غيره، وأهله قريبه أتبعه أو لم يتبعه. ويقال: الآل والأهل بمعنى واحد، إلا أن الآل يستعمل لأتباع رئيس من الرؤساء يقال: آل فرعون وآل موسى، وآل هارون ولا يقال: آل زيد، وآل عمرو.
وروي عن رسول الله ﷺ أنه قيل له: من آلك؟ قال: «آلِي كُلُّ تَقِيَ إَلى يَوْمِ القِيَامَةِ».
قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، أي تنظرون إليهم حين لفظهم البحر بعد ما غرقوا، يعني آباءهم. وقال بعضهم: معناه أنكم تعلمون ذلك كأنكم تنظرون إليهم. قال الفقيه: وكان في قصة فرعون وغيره علامة نبوة محمد ﷺ لأنه لا يعرف ذلك إلاَّ بالوحي، فلما أخبرهم بذلك من غير أن يقرأ كتاباً، كان ذلك دليلاً أنه قاله بالوحي، وفيه أيضاً تهديد للكفار ليؤمنوا حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب أولئك، وفيه أيضاً تنبيه للمؤمنين وعظة لهم ليزجرهم ذلك عن المعاصي.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥١ الى ٥٣]

وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)
قوله تعالى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، قرأ أبو عمرو «وَإِذْ وَعَدْنَا مُوسَى» بغير ألف، وقرأ غيره واعَدْنا بالألف، فمن قرأ بغير ألف فمعناه ظاهر، يعني أن الله تعالى وعد موسى عليه السلام وَمَنْ قرأ بالألف فالمواعدة تجري بين اثنين، وإنما كان الوعد من الله تعالى وَمَن موسى الوفاء، ومن الله الأمر، ومن موسى الائتمار. فكأنما جرت المواعدة بين الله تعالى وبين موسى. وقد يجوز أن تكون المفاعلة من واحد، كما يقال: سافر ونافق.
ويقال: أربعين ليلة كانت ثلاثين ليلة منها من ذي القعدة وعشراً من ذي الحجة. وقال بعضهم: ثلاثين كانت من ذي الحجة وعشراً من المحرم وكانت مناجاته يوم عاشوراء. وروى الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قال: لما وعدهم موسى أربعين ليلة، عدَّت بنو إسرائيل عشرين يوماً وعشرين ليلة، وقالوا: قد تمت أربعون ولم يرجع موسى، فقد خالفنا.
وذكر أن السامري قال لهم: إنكم استعرتم من نساء آل فرعون حليهم ولم تردوه عليهم، فلعل الله تعالى لم يرد علينا موسى لهذا المعنى، فهاتوا ما عندكم من الحلي حتى نحرقه، فلعلَّ الله يرد إلينا موسى فجمعوا ذلك الحلي، وكان السامري صائغاً فاتخذ من ذلك عجلاً، وقد كان قبل ذلك رأى جبريل- عليه السلام- على فرس الحياة، فكلما وضع حافره اخضر ذلك الموضع، فرفع من تحت سنبكه قبضة من التراب، ونفخ ذلك التراب في العجل فصار ذلك عجلا جسدا له خوار. وروي عن ابن عباس أنه قال: صار عجلاً له لحم ودم وفيه حياة له خوار. وروي عن عليّ أنه قال: اتخذ عجلاً جسداً مشبكاً، من ذهب له خوار، فدخل الريح في جوفه وخرج من فيه كهيئة الخوار. فقال للقوم: هذا إلهكم وإله موسى فنسي، يعني أن موسى أخطأ الطريق. وقال بعضهم: كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة، فتمَّ ميقات رَبِّهِ أَرْبَعِينَ ليلة، لأنه قد أفطر من الصِّيام في تلك العشرة، لأنه ظهر لهم الخلاف في تلك العشرة وهذا الطريق أوضح.
قوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ، أي عبدتم العجل من بعد انطلاق موسى إلى الجبل وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ، أي كافرون بعبادتكم العجل. ويقال: وأنتم ضارون أنفسكم بعبادتكم العجل. ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أي تركناكم من بعد عبادتكم العجل، فلم نستأصلكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أي لكي تشكروا الله تعالى على العفو والنعمة.
قوله: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، أي أعطينا موسى التوراة وَالْفُرْقانَ، أي الفارق بين
الحلال والحرام. ويقال: الفرقان هو النصرة بدليل قوله تعالى: يَوْمَ الْفُرْقانِ [الأنفال: ٤١] أي يوم النصرة. ويقال: الفرقان هو المخرج من الشبهات. ويقال: هو انفلاق البحر بدليل قوله: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة: ٥٠]. وقال الفراء: في الآية مضمر، ومعناه: وآتينا موسى الكتاب يعني التوراة، وأعطينا محمداً الفرقان، فكأنه خاطبهم فقال: قد أعطيناكم علم موسى وعلم محمد ﷺ وعلم سائر الأنبياء. قوله: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، أي لكي تهتدوا من الضلالة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٤]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ، وأصله يا قومي بالياء ولكن حذف الياء وترك الكسر بدلاً عن الياء، وتكون في الإضافة إلى نفسه معنى الشفقة. يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، يعني أضررتم بأنفسكم بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ، يعني إلى خالقكم يقول: فارجعوا عن عبادة العجل إلى عبادة خالقكم، وتوبوا إليه فقالوا له: وكيف التوبة؟ قال لهم موسى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، يعني يقتل بعضكم بعضاً، يقتل من لم يعبد العجل الذين عبدوا العجل وإنما ذكر قتل الأنفس وأراد به الإخوان. وهذا كما قال في آية أخرى وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: ١١] أي لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين، يعني لا تغتابوا إخوانكم.
ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ، يعني التوبة خير لكم عند خالقكم، ومعناه قتل إخوانكم مع رضا الله خير لكم عند الله تعالى مَّنْ ترككم إلى عذاب الله.
قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، أي المتجاوز عن الذنوب الرحيم، حيث جعل القتل كفارة لذنوبكم. وروي في الخبر أن الذين عبدوا العجل جلسوا على أبواب دورهم، وأتاهم هارون والذين لم يعبدوا العجل شاهرين سيوفهم، فكان موسى- عليه السلام- يتقدم ويقول: إن هؤلاء إخوانكم قد أتوا شاهرين سيوفهم، فاتقوا الله واصبروا له، فلعن الله رجلاً قام من مجلسه أو حلّ حبوته، أو مدّ بطرفه إليهم أو اتقاهم بيد أو برجل.
فيقولون: آمين، وذكر في رواية أبي صالح: أن هارون كان يتقدم ويقول ذلك، فجعلوا يقتلونهم إلى المساء فكانت القتلى سبعين ألفاً، فكان موسى- عليه السلام- يدعو ربه لما شق من كثرة الدماء، حتى نزلت التوبة. فقيل لموسى: ارفع السيف عنهم، فإني قبلت توبتهم جميعاً، من قتل ومن لم يقتل.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦)
ثم قال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ، أي لن نصدقك حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً أي عياناً، وذلك أن موسى- عليه السلام- حين انطلق إلى طور سيناء للمناجاة، اختار موسى من قومه سبعين رجلاً، فلما انتهوا إلى الجبل أمرهم موسى بأن يمكثوا في أسفل الجبل، وصعد موسى- عليه السلام- فناجى ربه فأعطاه الله الألواح، فلما رجع إليهم قالوا له:
إنك قد رأيت الله فأرناه حتى ننظر إليه، فقال لهم: إني لم أره، وقد سألته أن أنظر إليه، فتجلى للجبل، فدك الجبل، فلم يصدقوه وقالوا: لن نصدقك حتى نرى الله جهرة. فأخذتهم الصاعقة فماتوا كلهم، فدعا موسى ربه فأحياهم الله تعالى، فذلك قوله عز وجل: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلى الصاعقة. ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، يقول أحييناكم من بعد هلاككم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ للحياة بعد الموت.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٧]
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ، إنما خاطبهم وأراد به آباءهم وهم قوم موسى- عليه السلام- حيث أمروا بأن يدخلوا مدينة الجبارين، فأبوا ذلك وقالوا لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: ٢٤]، فعاقبهم الله- عز وجل- فبقوا في التيه أربعين سنة، وكانت المفازة اثني عشر فرسخاً، وكان يؤذيهم حر الشمس فظلل عليهم الغمام، فذلك قوله تعالى:
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وهو السحاب الأبيض، يقيكم حر الشمس في التيه، وكان لهم في التيه عمود من نور مد لهم من السماء فيسير معهم من الليل مكان القمر. فأصابهم الجوع فسألوا موسى فدعا الله فأنزل عليهم المن وهو الترنجبين كان يتساقط عليهم كل غداة، فيأخذ كل إنسان منهم ما يكفيه يومه وليلته، فإن أخذ أكثر من ذلك دود ذلك الزائد وفسد وإذا كان يوم الجمعة أخذ كل إنسان منهم مقدار ما يكفيه يومين، لأنه لا يأتيهم يوم السبت، وكان ذلك مثل الشهد المعجون بالسمن فأجموا من المن، أي ملوا من أكله. فقالوا لموسى- عليه السلام-: قتلنا هذا المن بحلاوته وأحرق بطوننا، فادع لنا ربك أن يطعمنا لحماً. فدعا لهم موسى- عليه السلام- فبعث الله لهم طيراً كثيراً فذلك قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى، وهو السماني وهو طير يضرب إلى الحمرة. وقال بعضهم: كان طيراً يأتيهم مشوياً. قال عامة المفسرين إنهم كانوا يأخذونها ويذبحونها.
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ، أي قيل لهم كلوا من طيبات، وهذا من المضمرات، وفي كلام العرب يضمر الشيء إذا كان يستغنى عن إظهاره، كما قال في آية أخرى فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [آل عمران: ١٠٦]، يعني يقال لهم أكفرتم وكما قال في آية أُخرى:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ [الزمر: ٣] يعني قالوا: ما نعبدهم. ومثل هذا في القرآن كثير. وكذلك قوله هاهنا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ، أي من حلالات مَا رَزَقْناكُمْ، أي أعطيناكم من المن والسلوى ولا ترفعوا منها شيئاً، كما قال في آية أخرى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ [طه: ٨١]، أي ولا تعصوا فيه فلا ترفعوا إلى الغد، فرفعوا وجعلوا اللحم قديداً مخافة أن ينفد فرجع ذلك عنهم، ولو لم يرفعوا لدام ذلك عليهم.
قوله تعالى: وَما ظَلَمُونا، يقول وما أضرونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، أي أضروا بأنفسهم حيث رفعوا إلى الغد حتى منع ذلك عنهم. وروى خلاس، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لَوْلا بَنُو إسْرَائِيلَ لَمْ يَخْبُثِ الطَّعَامُ، وَلَمْ يَنْتنِ اللَّحْمُ، وَلَوْلاَ حَوَاءُ لَمْ تَخُنِ امْرَأةٌ زوجها».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)
ثم قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ، قال الكلبي: يعني أريحا. وقال مقاتل:
إيليا. ويقال: هذا كان بعد موت موسى- عليه السلام- وبعد مضي أربعين سنة، حيث أمر الله تعالى يوشع بن نون وكان خليفة موسى- عليهما السلام- بأن يدخل مع قومه المدينة، فقال لهم يوشع بن نون: ادخلوا الباب سجداً، يعني إذا دخلتم من باب المدينة فادخلوا ركعاً منحنين ناكسي رؤوسكم متواضعين، فيقوم ذلك منكم مقام السجود وذلك قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ، يعني أريحا أو إيليا.
فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً، موسعاً عليكم وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً، أي ركعاً منحنين وَقُولُوا حِطَّةٌ. قرأ بعضهم بالرفع وبعضهم بالنصب وهي قراءة شاذة، وإنما جعله نصباً لأنه مفعول. ومن قرأ بالرفع معناه وقولوا حطة. وروي عن قتادة أنه قال: تفسير حِطَّةٌ، يعني حطّ عنا خطايانا. وقال بعضهم: معناه لا إله إلا الله. وقال بعضهم: بسم الله.
وقال بعضهم: أمروا بأن يقولوا بهذا اللفظ ولا ندري ما معناه.
ثم قال: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ، قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام تَغْفِرْ بالتاء والضمة، لأن لفظ الخطايا مؤنث. وقرأ نافع ومن تابعه من أهل المدينة يَغْفِرُ بالياء والضمة بلفظ التذكير، لأن تأنيثه ليس بحقيقي ولأن الفعل مقدم. وقرأ الباقون بالنون وكسر الفاء على
معنى الإضافة إلى نفسه وذلك كله يرجع إلى معنى واحد، ومعناه نغفر لكم خطايا الذين عبدوا العجل. وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، أي سنزيد في إحسان من لم يعبد العجل. ويقال: نغفر خطايا من رفع المن والسلوى للغد، وسنزيد في إحسان من لم يرفع إلى الغد. ويقال: نرفع خطايا من هو عاصٍ، وسنزيد في إحسان من هو محسن. فلما دخلوا الباب خالفوا أمره. وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم «أنَّهُمْ دَخَلُوا البَابَ يَزْحَفُونَ». وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: دخلوا على أستاههم. ويقال: دخلوا منحرفين على شق وجوههم، وقالوا: «احنطا سمفانا» يعني حنطة حمراء، بلغة القبط استهزاء وتبديلاً، وإنما قال ذلك سفهاؤهم، فذلك قوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، أي غيروا ذلك القول وقالوا بخلاف ما قيل لهم.
قال الله تعالى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، أي غيروا رِجْزاً، أي عذاباً مِنَ السَّماءِ وهو موت الفجاءة. وقال أبو روق: (الرجز) الطاعون. ويقال مات منهم بالطاعون سبعون ألفاً. ويقال: نزلت بهم نار فاحترقوا. ويقال: وقع بينهم قتال فاقتتلوا فقتل بعضهم بعضاً.
بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي جزاء لفسقهم وعصيانهم. ثم رجع إلى قصة موسى حين كانوا في التيه وأصابهم العطش فاستغاثوا بموسى، فدعا موسى ربه، فأوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه الحجر، فَأخذ موسى حجراً مربعاً مثل رأس الإنسان، ووضعه في المخلاة بين يدي قومه، ضَرَبَ عَصَاهُ عَلَيْهِ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ماءً عذباً وكانت بنو إسرائيل اثني عشر سبطاً لكل سبط منهم عين على حدة. قال الفقيه: حدّثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مندوسة قال: حدّثنا أبو القاسم، أحمد بن حمزة الصفار قال: حدّثنا عيسى بن أحمد قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي قال: تاه بنو إسرائيل في اثني عشر فرسخاً أربعين عاماً على غير ماء، وجعل لهم حجراً مثل رأس الثور، فإذا نزلوا منزلاً وضعوه فضربه موسى بعصاه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٠]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)
فذلك قوله تعالى: وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً فإذا ساروا جملوه فاستمسك. وقال بعضهم: كان يخرج عيناً واحدة ثم تتفرق
على اثنتي عشرة فرقة، وتصير اثني عشر نهراً. وقال بعضهم: كان للحجر اثنا عشر ثقباً، يخرج منها اثنتا عشرة عيناً لا يختلط بعضها ببعض. قال مقاتل: كان الحجر مربَّعاً، وكان جبريل- عليه السلام- أمر موسى بحمله معه يوم جاوز البحر ببني إسرائيل، وإنما انفجرت اثنتا عشرة عيناً، لأنه أخذ من مكان فيه اثنا عشر طريقاً.
ثم قال تعالى: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ، أي قد عرف كل سبط مشربهم، أي موردهم وموضع شربهم من العيون لا يخالطهم فيها غيرهم. والحكمة في ذلك أن الأسباط كانت بينهم عصبية ومباهاة، وكل سبط منهم لا يتزوج من سبط آخر، وأراد كل سبط تكثير نفسه، فجعل لكل سبط منهم نهراً على حدة ليستقوا منها، ويسقوا دوابهم لكيلا يقع بينهم جدال ومخاصمة. وقال بعضهم: كان الحجر من الجنة. وقال بعضهم: رفعه موسى من أسفل البحر حيث مرّ فيه مع قومه. وقال بعضهم: كان حجراً من أحجار الأرض.
قوله عز وجل: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ أي قيل لهم كلوا من المن والسلوى، واشربوا من ماء العيون، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، أي لا تعملوا فيها بالمعاصي، يقال: عثا يعثو عثواً، إذا أظهر الفساد وعَثِي، وعاث- لغتان- الذئب في الغنم أي أسرع بالفساد ثم أنهم أجمعوا من المن والسلوى.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦١]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ، أي من جنس واحد فَادْعُ لَنا رَبَّكَ، أي سل لنا ربك يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، أي مما تخرج الأرض مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها.
وقوله بَقْلِها أراد به البقول كلها، وقوله وَقِثَّائِها أراد به جميع ما يخرج من الفاكهة مثل القثاء والبطيخ ونحو ذلك، وقوله: وَفُومِها، أي طعامها وهي الحبوب كلها، ويقال: هي الحنطة خاصة. وقال مجاهد: الفوم الخبز. وقال الفراء: فومي لنا يا جارية، يعني اخبزي لنا.
ويقال: الفوم هو الثوم، والعرب تبدل الفاء بالثاء لقرب مخرجهما. وفي قراءة عبد الله بن مسعود وثومها وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا.
فغضب عليهم موسى- عليه السلام- قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، يعني أتستبدلون الرديء من الطعام بالذي هو خير أي بالشريف الأعلى؟ ويقال: معناه تسألون الدنيء من الطعام وقد أعطاكم الله الشريف منه وهو المن والسلوى؟ ويقال: أتختارون الدنيء الخسيس وهو الثوم والبصل على الذي هو أعلى وأشرف وهو المن والسلوى؟ فقال الله تعالى لهم: اهْبِطُوا مِصْراً قرأ بعضهم بلا تنوين أي المصر الذي خرجتم منه، وهو مصر فرعون، ومن قرأ مصراً بالتنوين يعني: ادخلوا مصراً من الأمصار، فَإِنَّ لَكُمْ فيه مَّا سَأَلْتُمْ تزرعون وتحصدون، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ. قال الحسن وقتادة: جعلت عليهم الجزية يعني على ذريتهم. ويقال: جعل عليهم كدّ العمل، يعني أولئك القوم حتى كانوا ينقلون السرقين.
وَالْمَسْكَنَةُ يعني زي الفقراء. وقال الكلبي: يعني الرجل من اليهود وإن كان غنياً، يكون عليه زي الفقراء.
وقوله تعالى: وَباؤُ بِغَضَبٍ، يعني استوجبوا الغضب مِنَ اللَّهِ. قال بعضهم:
أصله من الرجوع، يعني رجعوا باللعنة في أثر اللعنة. ويقال: باؤوا أي احتملوا كما يقال:
بوِّئت بهذا الذنب أي احتملته. ثم قال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، أي ما أصابهم من الذلة والمسكنة- وهم اليهود- بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، يعني كذَّبوا عيسى وزكريا ويحيى ومحمداً- عليهم وعلى جميع الأنبياء أفضل الصلاة والسلام- وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أي بغير جرم منهم، وهم زكريا ويحيى. قرأ نافع النَّبِيِّينَ بالهمزة وكذلك جميع ما في القرآن إلا في سورة الأحزاب: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ، وقرأ الباقون: بغير همز. وروي عن النبي ﷺ إن رجلاً قال له: يا نبيء الله، فقال: «لست بنبيء الله ولكن نبي الله». (والنبيين) جماعة النبي. وأما من قرأ بالهمز، قال أصله من النبأ وهو الخبر لأنه أنبأ عن الله تعالى، وأما من قرأ بغير همز فأصله مهموز، ولكن قريشاً لا تهمز. وقال بعضهم: هو مأخوذ من النبأة وهو الارتفاع، لأنه شرف على جميع خلقه. وقال بعضهم: النبيء هو الطريق الواضح، سمي بذلك لأنه طريق الخلق إلى الله تعالى.
قوله: ذلِكَ بِما عَصَوْا، أي ذلك الغضب على اليهود بما عصوا أي بسبب عصيانهم أمر الله تعالى، فخذلهم الله تعالى حين كفروا، فلو أنهم لم يعصوا الله تعالى كانوا معصومين من ذلك. وَكانُوا يَعْتَدُونَ يعني بقتلهم الأنبياء وركوبهم المعاصي.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)
58
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ، قال ابن عباس في رواية أبي صالح: إن الذين آمنوا وهم قوم كانوا مؤمنين بموسى والتوراة ولم يتهودوا ولم يتنصروا.
والنصارى: الذين تركوا دين عيسى وَتسَمَّوْا بالنصرانية. واليهود الذين تركوا دين موسى وتسمَّوا باليهودية. والصابئين: هم قوم من النصارى ألين قولا منهم. مَنْ آمَنَ من هؤلاء بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي ثوابهم. قال مقاتل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، أي صدقوا بتوحيد الله، ومن آمن من الذين هادوا ومن النصارى والصابئين فلهم أجرهم عند ربهم. وقال القتبي: قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا هم قوم آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم، فكأنه قال: إن المنافقين والذين هادوا والنصارى والصابئين. ويقال: اليهود سموا يهوداً بقول موسى- عليه السلام- إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف: ١٥٦]. ويقال: اشتقاقه من الميل من هاد يهود، إذا مال عن الطريق. وأما النصارى قال بعضهم: سموا أنفسهم نصارى بقول عيسى- عليه السلام- مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: ١٥٢] ويقال: لأنهم نزلوا إلى قرية ويقال لها ناصرة، فتواثقوا على دينهم فسموا نصارى. وأما الصابي فهو من صبا يصبو إذا مال.
ويقال: من صبأ يصبأ، إذا رفع رأسه إلى السماء لأنهم يعبدون الملائكة. قرأ نافع والصَّابِئِينَ بغير همز من صبا يصبو، إذا خرج من دين إلى دين. وقرأ الباقون بالهمز من صبأ يصبأ، إذا رفع رأسه إلى السماء. واختلف العلماء في حكم الصابئين، فقال بعضهم:
حكمهم كحكم أهل الكتاب في أكل ذبائحهم ومناكحة نسائهم، وهو قول أبي حنيفة، لأنهم قوم بين النصرانية واليهودية يقرءون الزبور وقال بعضهم: هم بمنزلة المجوس لا يجوز أكل ذبائحهم ولا مناكحة نسائهم، وهو قول أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله- لأنهم يعبدون الملائكة فصار حكمهم حكم عبدة النيران.
ولم يذكر في الآية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لما ذكر الإيمان بالله تعالى فقد دخل فيه الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يكون مؤمناً بالله تعالى ما لم يؤمن بجميع ما أنزل الله تعالى على محمد وعلى جميع الأنبياء- عليهم الصلاة السلام- فكأنه قال: من آمن بالله وبما أنزل على جميع أنبيائه وصدق باليوم الآخر وَعَمِلَ صالِحاً أي أدى الفرائض، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، يعني لهم ثواب أعمالهم في الآخرة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلهم من العذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا من الدنيا. ويقال: ليس عليهم خوف النار ولا حزن الفزع الأكبر. فإن قيل: فيه ذكر من آمن بالله بلفظ الوحدان، ثم قال فلهم أجرهم ولم يقل: فله أجره، قيل له: لأنه انصرف إلى ما سبق ذكره وهو الجماعة فمرة يذكر بلفظ الوحدان لاعتبار اللفظ ومرة بلفظ الجمع لاعتبار المعنى.
59

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]

وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَآ آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ، قال ابن عباس: هما ميثاقان الميثاق الأول: حين أخرجهم من صلب آدم- عليه السلام- والميثاق الثاني: الذي أخذ في التوراة وسائر الكتب.
وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ وذلك أن موسى- عليه السلام-، لما أتاهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التغليظ والأمر والنهي، شق ذلك عليهم فأبوا أن يقبلوها. وإن الله تعالى قد منّ على هذه الأمة حيث فرض عليهم الفرائض واحداً بعد واحد، ولم يفرض عليهم جملة، فإذا استقر الواحد في قلوبهم فرض الآخر. وأما بنو إسرائيل، فقد فرض عليهم دفعة واحدة فشق ذلك عليهم ولم يقبلوا، فأمر الله تعالى الملائكة فرفعوا جبلاً من جبال فلسطين فوق رؤوسهم، وكان عسكر موسى فرسخاً في فرسخ والجبل مثل ذلك، فلما رأوا أنه لا مهرب لهم منه، قبلوا التوراة وسجدوا من المهابة والفزع، وهم يلاحظون في سجودهم الجبل، فمن ذلك يسجد بعض اليهود على أنصاف وجوههم، فذلك قوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ. والطور: اسم جبل بالسريانية: ويقال: هو جبل ذو أشجار.
ثم قال تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ، أي قيل لهم: اعملوا بما آتيناكم بجد ومواظبة واعملوا في طاعة الله وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ. قال بعضهم: اعملوا بما فيه. وقال بعضهم: اذكروا ما فيه من الثواب والعقاب، لكي يسهل عليكم القبول. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أي لكي تتقوا عقوبته في المعصية فتمتنعوا عنها. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أي أعرضتم مِن بَعْدِ ذلك الإقرار، يعني من بعد ما رفع عنكم الجبل. فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، أي منّ الله عليكم وَرَحْمَتُهُ بتأخير العذاب، لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ بالعقوبة. ويقال: فلولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال الرسل إليكم لكيلا تقيموا على الكفر، لكنتم من الخاسرين بالعقوبة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ، أي اصطادوا، ويقال:
استحلوا أخذ الحيتان يوم السبت. والسبت في اللغة هو الراحة، كما قال في آية أخرى وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً [النبأ: ٩] أي راحة. فيوم السبت كان راحة لليهود عن أشغال الدنيا. وهذه الآية على معنى التحذير والتهديد، فكأنه يقول: إنكم تعلمون ما أصاب الذين استحلوا أخذ
السمك في يوم السبت من العقوبة، فاحذروا كيلا يصيبكم مثل ما أصابهم، وذلك أن مدينة يقال لها آيلة على ساحل البحر كان يجتمع فيها السمك يوم السبت حتى يأخذ وجه الماء، وفي سائر الأيام لا يأتيهم إلا قليل. وقال بعض أهل القصص: إنما كانت الحيتان تجتمع هناك لزيارة السمكة التي كان في بطنها يونس- عليه السلام- ففي كل سبت يجتمعون لزيارتها.
وقال بعضهم: لم يكن لهذا المعنى، ولكن كانت محنة أولئك القوم، فاحتالوا وحبسوا ذلك السمك في يوم السبت وأخذوه يوم الأحد، فلما لم تصبهم العقوبة لفعلهم ذلك أمنوا، واستحلوا أخذها فمسخهم الله قردة. وقد بيّن قصتهم في سورة الأعراف في قوله تعالى:
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ [الأعراف: ١٦٣].
ثم قال تعالى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ، يعني مبعدين من رحمة الله. وأصله في اللغة من البعد. يقال: خسأ الكلب إذا بعد. ويقال: خاسِئِينَ أي صاغرين ذليلين.
قوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالًا، يعني جعلنا تلك العقوبة نكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها، يعني لما سبق منهم من الذنب وَما خَلْفَها، أي عبرة لمن بعدهم. ويقال: فجعلناها، يعني القرية، نكالاً لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى ليعتبروا بها. وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، يعني نهيا لأمة محمد ﷺ وعبرة لهم، لكي لا يستحلوا ما حرم الله عليهم. قال الفقيه: حدّثنا أبو القاسم عمر بن محمد قال: حدّثنا أبو بكر الواسطي قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال:
حدثنا كثير بن هشام، عن المسعودي، عن علقمة بن مرثد، عن المستورد بن الأحنف قال:
قيل لعبد الله بن مسعود: أرأيت القردة والخنازير، أمن نسل القرود والخنازير التي قد مسخت؟
قال عبد الله بن مسعود: إن الله تعالى لم يمسخ أمة فجعل لها نسلاً، ولكنها من نسل قرود وخنازير كانت قبل ذلك.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٧ الى ٧١]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لاَّ فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
61
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، قال ابن عباس:
وذلك أن بني إسرائيل قيل لهم في التوراة: أيما قتيل وجد بين قريتين لا يدرى قاتله، فليقس إلى أيتهما أقرب، فعمد رجلان أخوان من بني إسرائيل إلى ابن عم لهما واسمه عاميل، فقتلاه لكي يرثاه وكانت ابنة عم لهما شابة جميلة حسناء، فخشيا أن ينكحها ابن عمها عاميل، ثم حملاه إلى جانب قرية، فأصبح أهل القرية والقتيل بين أظهرهم، فأخذ أهل القرية بالقتيل وجاءوا به إلى موسى.
وروى ابن سيرين عن عبيدة السلماني أن رجلاً كان له قرابة فقتله ليرثه ثم ألقاه على باب رجل، ثم جاء يطلب بدمه، فهموا أن يقتتلوا ولبس الفريقان السلاح، فقال رجل: أتقتتلون وفيكم نبي الله؟ فجاؤوا إلى موسى- عليه الصلاة والسلام- فأخبروه بذلك، فدعا الله تعالى في ذلك أن يبيِّن لهم المخرج من ذلك، فأوحى الله تعالى إليه، فأخبرهم بذلك وقال: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتضربوه ببعضها، يعني بعض أعضاء تلك البقرة فيحيا، فيخبركم من قتله قالُوا: يا موسى، أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ قرأ عاصم في رواية حفص برفع الزاي بغير همز، وقرأ حمزة بسكون الزاي مع الهمزة، وقرأ الباقون بالهمز ورفع الزاي. ومعناه أتتخذنا سخرية، يعني أتسخر بنا يا موسى؟ فإن قيل: ألم يكن هذا القول منهم كفراً، حيث نسبوه إلى السخرية؟
قلنا: الجواب أن يقال قد ظهر عندهم علامات نبوته وعلموا أن قوله حق، ولكنهم أرادوا بهذا الكشف والبيان ولم يريدوا به الحقيقة ف قالَ لهم موسى أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، يعني أمتنع بالله. ويقال: معاذ الله أن أكون من المستهزئين.
قال ابن عباس في رواية أبي صالح: فلو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا على أنفسهم بالمسألة فشدد الله عليهم بالمنع لما قالُوا: يا موسى ادْعُ لَنا رَبَّكَ، أي سل لنا ربك أن يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ، أي يبيِّن لنا كيفية البقرة، إنها صغيرة أو كبيرة. قالَ لهم موسى: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لاَّ فارِضٌ وَلا بِكْرٌ، يعني لا كبيرة هرمة، ولا صغيرة عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ، وسطاً ونصفاً بين ذلك يعني بين الصغيرة والكبيرة. وقد قيل في المثل: «العوان لا تعلَّم الخُمْرة»، يعني أن المرأة البالغة ليست بمنزلة الصغيرة التي لا تحسن أن تختمر.
وقوله تعالى: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ولا تسألوا. فسألوا وشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم. قالُوا: يا موسى ادْعُ لَنا رَبَّكَ، أي سل لنا ربك يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها، قال لهم موسى: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها، يعني شديد الصفرة. كما يقال: أصفر فاقع إذا كان شديد الصفرة، كما يقال: أسود حالك، وأبيض يقق، وأحمر قاني، وأخضر ناصع إذا وصف بالشدة. وقال بعضهم: أراد به بقرة صفراء الظلف والقرن، أي شعرها وظلفها وقرنها
62
وكل شيء منها أصفر. ويقال: أراد به البقرة السوداء، لأن السواد الشديد يضرب إلى الصفرة، كما قال تعالى: كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات: ٣٣]، وكما قال القائل:
تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ، وَتِلْكَ رِكَابِي هُنَّ صُفْرٌ أَوْلاَدُهَا كَالزَّبِيبِ
أراد بالصفر السود. ولكن هذا خلاف أقاويل المفسرين، وكلهم اتفقوا أن المراد به صفراء اللون، إلا قولاً روي عن الحسن البصري.
قوله عز وجل: تَسُرُّ النَّاظِرِينَ، يعني تعجب من نظر إليها لحسن لونها، فشددوا على أنفسهم وقالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ، يعني إنها من العوامل أو من غيرها. إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا، أي تشاكل علينا في أسنانها وألوانها وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، يعني نهتدي للقاتل. ويقال: نهتدي إلى البقرة أي ندركها بمشيئة الله تعالى. وروي عن ابن عباس أنه قال:
لولا أنهم استثنوا لم يدركوها. وروي عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَذُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ لأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، وَلَوْلا أَنَّهُمْ قَالُوا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ مَا وَجَدُوها».
قالَ إِنَّهُ، لهم موسى: إن ربكم يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ، يقول لم يذللها العمل.
وقال أهل اللغة: الذلول في الدواب مثل الذليل في الناس، يقال: رجل ذليل، ودابة ذليلة بيِّنة الذل. تُثِيرُ الْأَرْضَ أي تقلبها للزراعة. ويقال للبقرة: المثيرة وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ، يعني لا يسقى عليها الحرث، أي لا يستسقى عليها الماء لتسقي الزرع، ومعناه أن هذه البقرة لم تكن تعمل شيئاً من هذه الأعمال. مُسَلَّمَةٌ يقال: مهذبة سليمة من العيوب. ويقال: مسلمة من الألوان. لاَّ شِيَةَ فِيها، قال بعضهم لا عيب فيها وقال بعضهم: لا وضح فيها ولا بياض ولا سواد ولا لون سوى لون الصفرة. وقال أهل اللغة: أصله من وشى الثوب، وأصله في اللغة لا وشية فيها ولكن حذفت منها الواو للخفة مثل عدة وزنة.
فلما وصف لهم موسى ذلك، قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ، يعني الآن أتممت الصفة.
ويقال: الآن جئت بالصفة التي كنا نطلب. فَذَبَحُوها، يعني البقرة وَما كادُوا يَفْعَلُونَ، أي كادوا أن لا يذبحوها. وقد قيل: إنما أرادوا أن لا يذبحوها، لأن كل واحد منهم خشي أن يظهر القاتل من قبيلته. وقال بعضهم: وما كادوا يفعلون لغلاء ثمن البقرة، لأنهم كانوا لا يدركون بقرة بتلك الصفة. وروي عن وهب بن منبه أنه قال: لم توجد تلك البقرة إلا عند فتى من بني إسرائيل، كان باراً بوالديه وكان يصلي ثلث الليل، وينام ثلث الليل، ويجلس ثلث الليل عند رأس أمه ويقول لها: إن لم تقدري على القيام فسبحي الله وهللي، وكان ورث عن أبيه بقرة فلم يجد أهل تلك القرية على تلك الصفة إلا هذه البقرة، فاشتروها بملئ مسكها دنانير. وقال بعضهم: كان رجل يبيع الجوهر، فجاءه إبليس يوماً بجراب من لؤلؤ فعرض
63
عليه، وأراد أن يبيع منه بمائة ألف، وكان ذلك يساوي مائتي ألف. فلما أراد أن يشتري، فإذا مفتاح الصندوق كان تحت رأس أبيه وهو نائم، فذهب ليوقظه ويرفع المفتاح ويدفع الثمن، ثم قال في نفسه: كيف أوقظ أبي لأجل ربح مائة ألف ولم يحتمل قلبه فرجع، فقال: إن أبي نائم. فقال له إبليس: اذهب فأيقظه فإني أبيع منك بخمسين ألفاً فذهب ليوقظه فلم يحتمل قلبه فرجع فلا زال إبليس يحط من الثمن حتى بلغ عشرة دراهم فلم يوقظ أباه وترك الشراء ذلك.
فجعل الله في ماله البركة حتى اشتروا بقرته بملء مسكها ذهبا.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)
ثم قال تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها أي تدافعتم، يعني ألقى بعضكم على بعض. يقال: ادَّارأ القوم أي تدافعوا وقال القتبي: أصله تدارأتم، فأدغمت التاء في الدال وأدخل الألف ليسلم السكون للدال، ويقال: هذا ابتداء القصة، ومعناه وإذ قتلتم نفساً فأتيتم موسى وسألتموه أن يدعو الله تعالى، فَقَالَ موسى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً إلى آخره.
وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، أي مظهر ما كنتم تكتمون من قتل عاميل. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
أي اضربوا الميت ببعض أعضاء البقرة. قال بعضهم: بفخذها الأيمن. وقال بعضهم: بلسانها. وقال بعضهم: بعجب ذنبها وهو عظم في أصل ذنبها، ويقال عليه تركيب الخلق، فأول شيء يخلق ذلك الموضع، ثم يركب عليه سائر البدن، وهو آخر الأعضاء فساداً بعد الموت. فلما ضربوا الميت جلس وأوداجه تشخب دماً، وقال: قتلني ابنا عمي. فأخذا وقتلا، ولم يعط لهما من ميراثه شيئاً. وقال عبيدة السلماني: لم يورث قاتل بعد صاحب البقرة.
ثم قال تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
، كان في ذلك دليل لأولئك القوم أن البعث كائن لا محالة، لأنهم رأوا الإحياء بعد الموت معاينة وكان في ذلك دليل لهذه الأمة ولمشركي العرب وغيرهم، لأن الله لما أخبر محمدا ﷺ بذلك، فأخبرهم فصدقوه في ذلك أهل الكتاب ولم يكونوا على دينه، فكان ذلك من أدل الدليل عليهم بالبعث. قوله تعالى:
الى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
، كان في ذلك دليل لأولئك القوم أن البعث كائن لا محالة، لأنهم رأوا الإحياء بعد الموت معاينة وكان في ذلك دليل لهذه الأمة ولمشركي العرب وغيرهم، لأن الله لما أخبر محمدا ﷺ بذلك، فأخبرهم فصدقوه في ذلك أهل الكتاب ولم يكونوا على دينه، فكان ذلك من أدل الدليل عليهم بالبعث. قوله تعالى: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ، أي عجائبه مثل إحياء الموتى وغيره. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
، أي تفهمون أن الذي يخبركم به محمد ﷺ حق.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
قوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، قال الزجاج: تأويل قست في اللغة أي غلظت ويبست، فتأويل القسوة في القلب ذهاب اللين والرحمة والخشوع. وقوله: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، قد قيل: من بعد إحياء الميت، ويحتمل بعد الآيات التي ذكرت، نحو مسخ القردة والخنازير ورفع الجبل وتفجير الأنهار من الحجر وغير ذلك. وقال بعض الحكماء: معنى قوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ، أي يبست. ويبس القلب أن ييبس عن ماءين أحدهما: ماء خشية الله والثاني: ماء شفقة الخلق.
ثم قال تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ، وكل قلب لا يكون فيه خشية الله تعالى فهو كالحجارة. أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، قال بعضهم: بل أشد قسوة مثل قوله تعالى: إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: ١٤٧] بمعنى بل يزيدون، وكقوله: كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل: ٧٧]، أي بل هو أدنى. وقال بعضهم: معناه وأشد قسوة الألف زائدة. وقال الزجاج:
أو للتخيير يعني إن شئتم شبهتم قسوتها بالحجارة أو بما هو أشد قسوة فأنتم مصيبون كقوله تعالى: كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [البقرة: ١٩] ثم قال تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ فأعذر الحجارة وعاب قلوبهم، حين لم تلن بذكر الله ولا بالموعظة فقال: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، يعني الحجر الذي منه العيون في الجبل. ويقال أراد به حجر موسى- عليه السلام- الذي كان يخرج منه العيون. وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ، أي من الحجارة ما يتصدع فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. ويقال: كل حجر يتردى من رأس الجبل إلى الأرض فهو من خشية الله. ويقال: أراد به الجبل الذي صار دكاً حين كلم الله موسى- عليه السلام-. ويقال: هو جميع الجبال، وما يزول الحجر من مكانه إلا من خشية الله تعالى. وقال بعضهم: هو على وجه المثال، يعني لو كان له عقل لهبط من خشية الله تعالى، وهو قول المعتزلة وهو خلاف أقاويل أهل التفسير.
قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، قرأ ابن كثير وابن عامر يعملون بالياء والباقون بالتاء. واختلفوا في مواضع أخرى. قرأ حمزة والكسائي في كل موضع وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بالياء. وفي كل موضع وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: ١٢٣] بالتاء. واختلفت الروايات عن غيرهما. وهذا كلام التهديد، يعني أن الله تعالى يجازيكم بما
تعملون فيحذركم بذلك. ثم ذكر التعزية للنبي ﷺ لكيلا يحزن على تكذيبهم إياه، وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا فقال تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ، قال ابن عباس: يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلم خاصة. وقال بعضهم: أراد به النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، أفتطمعون أن يصدقوكم وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ؟ فإن أراد به النبيّ صلّى الله عليه وسلم خاصة، فمعناه أفتطمع أن يصدقوك؟
وقد يذكر لفظ الجماعة ويراد به الواحد، كما قال في آية أخرى مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ [يونس: ٨٣]، وقال تعالى: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ [القصص: ٧٦]، وقال تعالى: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ [هود: ١٤]، أراد به النبي ﷺ خاصة كذلك هاهنا. ثم قال: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ، قال في رواية الكلبي: يعني السبعين الذين ساروا مع موسى- عليه السلام- إلى طور سيناء فسمعوا هناك كلام الله تعالى، فلما رجعوا قال سفهاؤهم: إن الله أمر بكذا بخلاف ما أمرهم، فذلك قوله تعالى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أي غيروه من بعد ما حفظوه وفهموه. وقال بعضهم: إنما أراد به الذين يغيرون التوراة. وقال بعضهم: يغيرون تأويله وهم يعلمون.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٦ الى ٧٨]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨)
قوله عز وجل: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا، يعني المنافقين منهم قالُوا للمؤمنين آمَنَّا، أي أقررنا بالذي أقررتم به. وهم منافقو أهل الكتاب. وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ، يعني إذا رجعوا إلى رؤسائهم، قالُوا لبعضهم: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، أي أتخبرونهم بأن ذكر محمد ﷺ في كتابكم فيكون ذلك حجة عليكم؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ أن ذلك حجة لهم عليكم؟ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ، أي ليخاصموكم عِنْدَ رَبِّكُمْ باعترافكم أن محمدا ﷺ نبي لا تتبعوه أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ أي أفليس لكم ذهن الإنسانية؟ لا ينبغي لكم هذا فيما بينكم. أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ. قال بعضهم:
ما يسرون فيما بينهم وما يعلنون مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتابَ، أي مّنْ أَهْلِ الكتاب وهم السفلة أميون لا يقرءون الكتاب، لا يحسنون قراءة الكتاب ولا كتابته. وقال الزجاج: الأمي المنسوب إلى
ما عليه جبلة الأمة، يعني هو على الخلقة التي خلق عليها لأن الإنسان في الأصل لا يعلم شيئاً ما لم يتعلَّم. إِلَّا أَمانِيَّ، قال بعضهم: إِلا التلاوة، وهذا كما قال في آية أخرى إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: ٥٢]، أي في تلاوته. يقول: إن السفلة منهم كانوا لا يعرفون من التوراة شيئاً سوى تلاوته. وقال بعضهم: إلا أماني: إلا أباطيل. وروي عن عثمان بن عفان أنه قال: منذ أسلمت ما تغنيت ولا تمنيت، أي ما تكلمت بالباطل. وروي في الخبر أن الإنسان إذا ركب دابته ولم يذكر الله تعالى، صكّه الشيطان في قفاه ويقول له: تغنَّ فإن لم يحسن الغناء، يقول له: تمنَّ أي تكلم بالباطل. وَإِنْ هُمْ، أي وما هم إِلَّا يَظُنُّونَ، لأنه قد ظهر لهم الكذب من رؤسائهم فكانوا يشكون في أحاديثهم وكانوا يظنون من غير يقين. وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إياكم والظن فإنه من أكذب الحديث».
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٩]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ، الويل: الشدة من العذاب. ويقال: الويل كلمة تستعمل عند الشدة ويقال: يا ويلاه. ويقال: الويل وادٍ في جهنم. قال: حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا محمد بن جعفر أنه قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدّثنا وكيع بن سفيان، عن زياد، عن أبي عياض قال: الويل واد في أصل جهنم يسيل فيه صديدهم. وإنما صار رفعاً بالابتداء. وقال الزجاج: ولو كان هذا في غير القرآن لجاز (فويلاً) على معنى: جعل الله ويلاً للذين يكتبون الكتاب، إلا أنه لم يقرأ. وذلك أن رؤساء اليهود محوا نعت محمد ﷺ ثم كتبوا غير نعته، ثُمَّ يَقُولُونَ للسفلة هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، أي عرضاً يسيراً من مال الدنيا. وروي عن إبراهيم النخعي أنه كره أن يكتب المصحف بالأجر، وتأول هذه الآية فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ. إلى قوله: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا وغيره من العلماء أباحه. ثم قال: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ، أي مما يصيبهم من العذاب وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ، أي مما يصيبون فجعل الويل لهم ثلاث مرات.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٠]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠)
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، روي عن الضحاك أنه قال: لم يكن أحد من الكفار أجرأ على الله تعالى من اليهود، حين قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: ٣٠] وقالوا: إن الله
فقير وقالوا أيضاً لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، أي مقدار الأيام التي عبد فيها العجل آباؤنا. وهي أربعون يوماً. وقال مجاهد: إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، أي عدد أيام الدنيا وهي سبعة أيام. وهكذا روي عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: وقال بعضهم كان مذهبهم مذهب جهم في أنهم لا يرون الخلود في النار.
قال الله تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً، قال الزجاج: معناه أعهد إليكم ألا يعذبكم إلا هذا المقدار، إن كان لكم عهد؟ فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، أي وعده. ويقال: أعقدتم عند الله عقداً؟ وهو عقد التوحيد فلن يخلف الله عهده أي وعده. وقد قيل: هل أنزل عليكم بذلك آية؟ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لاَ تَعْلَمُونَ، أي بل تقولون على الله ما لا تعلمون. وروي في الخبر أنَّهُمْ إذا مضت عليهم في النار تلك المدة، قالت لهم الخزنة: يا أعداء الله ذهب الأجل وبقي الأبد، فأيقنوا بالخلود.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)
قال الله تعالى بَلى، أي يخلد فيها مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً، يعني الشرك وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، أي مات على الشرك. وقال بعضهم: السيئة الشرك، والخطيئة الكبائر. وهو قول المعتزلة: إن أصحاب الكبائر يخلدون في النار. وقال الربيع بن خثيم: وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الذين يموتون على الشرك. قرأ نافع خطاياه وهو جمع خطيئة. والباقون خَطِيئَتُهُ وهي خطيئة واحدة والمراد به الشرك. فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي دائمون لا يخرجون منها أبداً.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، معناه والذين صدقوا بالله وبمحمد ﷺ وعملوا الصالحات أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم، يعني أدوا الفرائض وانتهوا عن المعاصي، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، أي دائمون لا يموتون ولا يخرجون.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ، أي وقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل في التوراة، يعني بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم. ويقال: الميثاق الأول حين أخرجهم من صلب آدم- عليه السلام-.
قوله: لاَ تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، قرأ حمزة والكسائي وابن كثير لا يعبدون بالياء، وقرأ الباقون بالتاء بلفظ المخاطبة فمن قرأ بالياء، معناه وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا يعبدوا إلا الله ومن قرأ بالتاء فمعناه: وإذ أخذنا ميثاق بنى إسرائيل وقلنا لهم: لا تعبدوا إلا الله، يعني أخذنا عليهم الميثاق بأن لا يعبدوا إلا الله، يعني لا توحدوا إلا الله. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً
، نصب إحساناً على معنى أحسنوا إحساناً فيكون إحساناً بدلاً من اللفظ، أي أحسنوا إلى الوالدين برا بهما وعطفاً عليهما. وفي هذه الآية بيان حرمة الوالدين، لأنه قرن حق الوالدين بعبادة نفسه.
ويقال: ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا يقبل إحداها بغير قرينتها. إحداها: قوله عز وجل:
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة: ٩٢]، والثانية: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ [لقمان: ١٤]، والثالثة: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: ٤٣ وغيرها].
وقوله تعالى: وَذِي الْقُرْبى، يعني أحسنوا إلى ذي القربى وَالْيَتامى، يعني أحسنوا إلى اليتامى وَإلى الْمَساكِينِ والإحسان إلى اليتامى والمساكين أن يحسن إليهم بالصدقة وحسن القول. وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، قرأ حمزة والكسائي بنصب الحاء والسين، وقرأ الباقون برفع الحاء وسكون السين. فمن قرأ بالنصب فمعناه: قولوا للناس حَسَناً يعني قولوا لهم قولاً صدقاً في نعت محمد ﷺ وصفته كما بيّن في كتابكم. ونظيرها في سورة طه أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً [طه: ٨٦]، أي وعداً صدقاً. ومن قرأ بالرفع، فمعناه قولوا لجميع الناس حَسَناً يعني: خالقوا الناس بالخُلُق الحسن، فكأنه يأمر بحسن المعاشرة وحسن الخلق مع الناس. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، يعني أقروا بها وأدوها في مواقيتها. وَآتُوا الزَّكاةَ، المفروضة ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ، يعني أعرضتم عن الإيمان والميثاق، إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ، وهو عبد الله بن سلام وأصحابه. وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ، أي تاركون لما أخذ عليكم من المواثيق.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
69
ثم قال عز وجل: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ، أي إقراركم لاَ تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ، أي بأن لا تسفكوا دماءكم، يعني لا يهرق بعضكم دماء بعض، وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ، أي لا يخرج بعضكم بعضاً مِنْ دِيارِكُمْ. فجملة ما أخذ عليهم من الميثاق أَلا يعبدوا إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ويقولوا للناس حسناً، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ولا يسفكوا دماءهم، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم وأن يفادوا أسراهم. فذكر المفاداة بعد هذا حيث قال تعالى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ على وجه التقديم والتأخير. ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، يعني بني قريظة والنضير، يعني أقررتم بهذا كله، وأنتم تشهدون أن هذا في التوراة، فنقضوا العهد فعيّرهم الله تعالى بذلك حيث قال تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، يعني يا هؤلاء ويقال معناه، ثم أنتم هؤلاء يا معشر اليهود تقتلون أنفسكم أي يقتل بعضكم بعضاً، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ، أي بعضكم بعضاً، لأنه كان بين الأوس والخزرج عداوة وكان بنو النضير وقريظة: إحدى القبيلتين كانت معينة للأوس، والأخرى كانت معينة للخزرج، فإذا غلبت إحداهما على الأخرى كانت تقتلهم وتخرجهم من ديارهم. وفي الآية دليل أن الإخراج من الدار ينزل منزلة القتل، لأن الله تعالى قرن الإخراج من الديار بالقتل حيث قال تعالى: تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ.
تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ، قرأ أهل الكوفة وحمزة والكسائي بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد لأن أصله تتظاهرون، فأدغم إحدى التاءين في الظاء وأقيم التشديد مقامه، معناه: تتعاونون عليهم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ، يعني بالمعصية والظلم. قال الزجاج: العدوان هو الإفراط في الظلم. وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ، قرأ عاصم والكسائي ونافع أُسارى تُفادُوهُمْ كلاهما بالألف، وقرأ حمزة أسرى تفادوهم بغير ألف فيهما، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر أُسارى تُفادُوهُمْ الأول بالألف والثاني بغير ألف. وهذا من الميثاق الذي أخذ عليهم بأن يفادوا الأسارى. وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ هذا انصرف إلى ما سبق ذكره من الإخراج، فكأنه يقول: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن ديارهم وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ، يعني ذلك الإخراج كان محرماً، ثم بيَّن الإخراج مرة أخرى لتراخي الكلام، فقال وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ.
ثم قال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، لأنهم كانوا إذا أسروا من غيرهم
70
قتلوا الأسرى ولا يفادوهم، وإن أسر منهم أحد يأخذوهم بالفداء، فهذا معنى قوله تعالى:
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ. فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، أي عقوبة مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ خِزْىٌ فِي الحياة الدنيا، وهو إخراج بني النضير إلى الشام وقتل بني قريظة، وقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم. ثم أخبر بأن الذي أصابهم في الدنيا من الخزي والعقوبة لم يكن كفارة لذنوبهم ولكنهم: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ، أي في الآخرة إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ. ويقال: الخزي في الدنيا الجزية.
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أي لا يخفى على الله تعالى من أعمالهم شيء، فيجازون بأعمالهم. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ، يعني اختاروا الدنيا على الآخرة فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، أي ليس لهم مانع يمنعهم من عذاب الله تعالى في الآخرة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٧]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، أي أعطينا موسى التوراة جملة واحدة ويقال: الألواح وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ، أي أتبعنا وأردفنا، معناه: أرسلنا رسولاً على أثر رسول. يقال:
قفوت الرجل إذا ذهبت في أثره. وَآتَيْنا أي أعطينا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ، أي الآيات والعلامات مثل: إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ. قرأ ابن كثير الْقُدُسِ بسكون الدال، وقرأ الباقون الْقُدُسِ برفع الدال ومعناهما واحد، أي إغاثة بجبريل حين أرادوا قتله فرفعه إلى السماء. وقال بعضهم: أيدناه أي قويناه وأعناه باسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى.
أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ يقول: بما لا يوافق هواكم اسْتَكْبَرْتُمْ، تعظمتم عن الإيمان. قال الزجاج: معناه أنفتم أن تكونوا له أتباعاً. لأنهم كانت لهم رئاسة وكانوا متبوعين، فلم يؤمنوا مخافة أن تذهب عنهم الرياسة. فقال تعالى: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ، مثل عيسى ابن مريم ومحمد- صلى الله عليهم وعلى جميع الأنبياء وسلم- وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ، مثل يحيى وزكريا عليهما السلام.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٨ الى ٩٠]
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠)
71
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ، قرأ ابن عباس غُلْفٌ بضم اللام وهي قراءة شاذة. والباقون بسكون اللام، أي ذو (غلْف) يعني ذو غلاف، والواحد أغلف مثل: أحمر وحمر. ومعناه:
أنهم يقولون قلوبنا في غطاء من قولك ولا نفقه حديثك. وهذا كما قال في آية أخرى وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: ٥]. وأما من قرأ غُلْفٌ فهو جماعة الغلاف على ميزان حمار وحمر. يعنون أن قلوبنا أوعية لكل علم ولا نفقه حديثك، فلو كنت نبياً لفهمنا قولك. قال الله تعالى رداً لقولهم: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي خذلهم الله وطردهم مجازاة لكفرهم. فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ، صار نصباً لأنه قدم المفعول. وقال بعضهم: معناه لا يؤمنون إلا القليل منهم، مثل عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال بعضهم: إيمانهم بالله قليلاً، لأنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. وقال بعضهم: معناه أنهم لا يؤمنون، كما قال: فلان قليل الخير يعني لا خير فيه.
ثم قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي حين جاءهم القرآن مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ، أي موافقاً للتوراة في التوحيد، وفي بعض الشرائع. ويقال: مصدق لما معهم، يعني يدعوهم إلى تصديق ما معهم، لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بالتوراة. وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، أي من قبل مجيء محمد ﷺ كانوا يستنصرون على المشركين، لأن بني قريظة والنضير قد وجدوا نعته في كتبهم فخرجوا من الشام إلى المدينة، ونزلوا بقربها ينتظرون خروجه. وكانوا إذا قاتلوا من يلونهم من المشركين- مشركي العرب- يستفتحون عليهم، أي يستنصرون ويقولون: اللهم ربنا انصرنا عليهم باسم نبيك وبكتابك الذي تنزل عليه الذي وعدتنا- وكانوا يرجون أن يكون منهم- فينصروا على عدوهم، فذلك قوله تعالى:
وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، أي باسم النبيّ صلّى الله عليه وسلم فَلَمَّا جاءَهُمْ مَّا عَرَفُوا، أي محمد ﷺ وعرفوه كَفَرُوا بِهِ وغيّروا نعته مخافة أن تزول عنهم منفعة الدنيا.
كما قال تعالى: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ، أي سخط الله وعذابه على الجاحدين محمدا ﷺ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ. قال الكلبي: بئسما باعوا به أنفسهم من الهدايا بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم. ويقال: بئسما صنعوا بأنفسهم حيث كفروا بما أنزل الله عليهم، بعد ما كانوا
72
خرجوا من الشام على أن ينصروا محمدا صلى الله عليه وسلم. ويقال: بئس ما صنعوا بأنفسهم حسداً منهم، فذلك قوله تعالى: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً، أي حسداً منهم.
ومعنى قوله: أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ، أي كفروا مما ينزل الله. مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ، أي لم يؤمنوا لأجل أن الله تعالى ينزل من فضله النبوة والكتاب على من يشاء مِنْ عِبادِهِ، من كان أهلاً لذلك وهو محمد صلى الله عليه وسلم. قرأ ابن كثير وأبو عمرو أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ بالتخفيف، وقرأ حمزة والكسائي وعصام وابن عامر بالتشديد أَنْ يُنَزِّلَ ونزل ينزل بمعنى واحد فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ أي استوجبوا اللعنة على أثر اللعنة. قال مقاتل: الغضب الأول حين كفروا بعيسى صلى الله عليه وسلم، ثم استوجبوا الغضب الآخر حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. ويقال: الغضب الأول حين عبدوا العجل، والغضب الثاني حين استحلوا السمك في يوم السبت.
قوله تعالى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ أي يهانون فيه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩١]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، أيّ صدِّقوا بالقرآن الذي أنزل على محمد ﷺ وهم يهود أهل المدينة ومن حولها. قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا في التوراة وبموسى- عليه السلام- وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ، يعني بما سواه وهو القرآن. وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ، أي القرآن هو الصدق، وهو منزل من الله تعالى موافق لما معهم، يعني أنهم إذا جحدوا بالقرآن صار جحوداً لما معهم، لأنهم جحدوا بما هو مصدق لما معهم فقالوا له: إنك لم تأتنا بمثل الذي أتانا به أنبياؤنا، ولم يكن لنا نبي إلا كان يأتينا بقربان تأكله النار.
قال الله تعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ وقد جاءوا بالقربان والبينات أي بالعلامات إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، أي إن كنتم مصدقين بالأنبياء. فهذا اللفظ للمستأنف وهو قوله فَلِمَ تَقْتُلُونَ، ولكن المراد منه الماضي وإنما خاطبهم وأراد به آباءهم. وفي الآية دليل أن من رضي بالمعصية فكأنه فاعل لها، لأنهم كانوا راضين بقتل آباءهم الأنبياء، فسماهم الله تعالى قاتلين. وفي الآية دليل أن من ادعى أنه مؤمن، ينبغي أن تكون أفعاله مصدقة لقوله، لأنهم كانوا يدعون أنهم مؤمنون بما معهم. قال الله تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ، يعني أي كتاب يجوِّز قتل نبي من الأنبياء- عليهم السلام- وأي دين وإيمان جوَّز فيه ذلك يعني قتل الأنبياء.

[سورة البقرة (٢) : آية ٩٢]

وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢)
قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ، أي بالآيات والعلامات. ويقال: بالحلال والحرام والحدود والفرائض. ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ، أي عبدتم العجل مِنْ بَعْدِهِ، يعني بعد انطلاق موسى إلى الجبل. وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ، أي كافرون بعبادتكم العجل.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَآ آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَآ آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ، أي بجد ومواظبة في طاعة الله تعالى وَاسْمَعُوا، أي قيل لهم اسمعوا، قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا. قال في رواية الكلبي: قالوا: سمعنا قولك وعصينا أمرك، ولولا مخافة الجبل ما قبلنا. ويقال:
إنهم يقولون في الظاهر: سمعنا، ويضمرون في أنفسهم: وعصينا أمرك. وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ، أي جعل حلاوة عبادة العجل في قلوبهم مجازاة لكفرهم. ويقال: حب عبادة العجل فحذف الحب، وأقيم العجل مقامه ومثل هذا يجري في كلام العرب. كما قال في آية أخرى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢]، أي أهل القرية، ثم قال تعالى: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ، أي بئس الإيمان الذي يأمركم بالكفر. وقال مقاتل: معناه إن كان حب عبادة العجل في قلوبكم يعدل حب عبادة خالقكم، فبئس ما يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ كما تزعمون.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ أي الجنة. وذلك أن
اليهود كانوا يقولون: إن الجنة لنا خاصة من دون سائر الناس. قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم: إن كان الأمر كما يقولون إن الجنة لكم خالصة خاصة. فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، أي سلوا الله الموت إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أن الجنة لكم. فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «قُولُوا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ:
اللهمّ أمتنا، فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَقُولُهَا رَجُلٌ مِنْكُمْ إلاّ غَصَّ بِرِيقِهِ»
، يعني يموت مكانه. فأبوا أن يقولوا ذلك، فنزل قوله تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني بما عملوا من المعاصي. قال الزجاج: في هذه الآية أعظم حجة وأظهر دلالة على صحة رسالته صلى الله عليه وسلم، لأنه قال لهم: فتمنوا الموت، وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبداً فلم يتمنه واحد منهم. وفي هذه الآية دليل أن «لن» لا تدل على التأبيد، لأنهم يتمنون الموت في الآخرة خلافاً لقول المعتزلة في قولهم: لن تراني ويقال: إن قوله (لن) إنما يقع على الحياة الدنيا خاصة، ولم يقع على الآخرة لأنهم يتمنون الموت في النار إذا كانوا في جهنم، ولو أنهم سألوا الموت في الدنيا ولم يموتوا، وكان في ذلك تكذيباً لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وكان في ذلك أيضاً ذهاب معجزته. فلما لم يتمنوا الموت، ثبت بذلك عندهم أنه رسول الله وظهر عندهم معجزته، وظهر أن الأمر كما قال تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، فهو عليم بهم وبغيرهم من الظالمين وإنما الفائدة هاهنا أنه عليم بمجازاتهم.
ثم قال عز وجل: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ، يعني أن اليهود أحرص الناس على البقاء. وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، يعني أحرص من الذين أشركوا. قال الكلبي: الذين أشركوا يعني المجوس. وقال مقاتل: أحرص الناس على حياة، وأحرص من الذين أشركوا يعني مشركي العرب. فإن قيل: كيف يصح تفسير الكلبي والمجوس لا يسمون مشركين؟ قيل له: المجوس مشركون في الحقيقة، لأنهم قالوا بإلهين اثنين: النور والظلمة.
قوله تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ، يعني المجوس يقولون لملوكهم في تحيتهم: عش عشرة آلاف سنة وكل ألف نيروز. وقال مقاتل: يود أحدهم- يعني اليهود- لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، ثم قال: وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ، يعني طول حياته لا يبعده ولا يمنعه من العذاب وإن عاش ألف كما تمنى. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي عالم بمجازاتهم بأعمالهم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨)
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ، وذلك أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-
قال لليهود: ما لكم لا تؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لأن جبريل هو الذي ينزل عليه بالوحي، فلو نزل عليه ميكائيل بالوحي لآمنا به، لأن ميكائيل ملك الرحمة وجبريل ملك العذاب. وهو عدونا فأطلع محمداً على سرنا، فنزلت هذه الآية. ويقال: إنهم يقولون: إن النبوة كانت فينا، فجبريل صرف النبوة عنا إلى غيرنا لعداوته معنا فنزلت هذه الآية قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ.
قال بعضهم: في الآية مضمر، ومعناه: قل من كان عدوا لجبريل ويبغضه جبريل هو الذي نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ، ينزل بالقرآن فيقرأه عليك فتحفظه في قلبك بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من التوراة. ويقال: هذا على وجه الترغيم، فكأنه يقول: قل من كان عدواً لجبريل، فإن جبريل هو الذي ينزل عليك رغماً لهم بهذا القرآن عليك، ليثبت به فؤادك. وَهُدىً وهذا القرآن هدى من الضلالة وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. أي لمن آمن به من المؤمنين مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ، معناه من كان عدوا لجبريل فإنه عدو الله وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ، يعني اليهود.
ويقال: إن عبد الله بن صوريا هو الذي قال لعمر: إن جبريل عدونا لأنه ينزل بالشدة والخوف، وميكائيل ينزل بالرخاء، فنزلت هذه الآية مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ. قرأ حمزة وعاصم والكسائي في رواية أبي بكر جَبْرَئِيلَ بفتح الجيم والراء والهمزة، وميكائيل. بالياء مع الهمزة.
وقرأ نافع جِبرِيل بكسر الجيم والراء بغير همزة ومِكَالَ بالهمزة بغير ياء. وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص بغير همزة بكسر الجيم والراء وميكال بغير همز وياء. وقرأ ابن كثير جبريل بنصب الجيم بغير همزة وميكايل بهمز مع الياء. وقرأ ابن عامر جبريل بكسر الجيم مثل قراءة نافع وميكائيل بالياء مع المد والهمز مثل حمزة وإنما لا ينصرف لأنه اسم أعجمي، فوقع ذلك في لسان العرب واختلفوا فيه لاختلاف ألفاظهم ولغاتهم. ويقال: إن جبريل وميكائيل معناه عبد الله وعبد الرحمن أي بلغتهم سوى العربية.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٩]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩)
ثم قال عز وجل: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي واضحات. ويقال: مبينات للحلال والحرام. وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ، يعني وما يجحد بالآيات إلاَّ الكَافِرُونَ والْفَاسِقُونَ واليهود ومشركو العرب.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً، وهو العهد الذي بُيِّن لهم في التوراة ويوم الميثاق نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، أي تركه ولم يعمل به فريق منهم، أي طائفة منهم. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وقد ذكرناه. وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أي محمد ﷺ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ، أي يدعوهم إلى تصديق ما معهم، نَبَذَ فَرِيقٌ، أي طرح فريق مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ ولم يؤمنوا به، كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ في كتابهم بأن محمداً رسول الله.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٢]
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ، أي ما كتبت الشياطين ويقال: ما ألقت الشياطين ويقال: ما افتعلته الشياطين عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، أي على عهد ملك سليمان. ويقال: على بمعنى في، أي في ملك سليمان. ويقال: في وقت ذهاب ملك سليمان. ويقال: هذا منسوق على الأول، فكأنّه قال: نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلو الشياطين، أي تركوا سنة أنبياء الله واتبعوا السحر. ويقال: تركوا شيئين واتبعوا شيئين: تركوا اتباع الكتب واتباع الرسل والعمل بذلك، واتبعوا ما تتلو الشياطين أي ترويه الشياطين وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ.
واختلفوا في سبب ذلك، فقال بعضهم أن سليمان- عليه السلام- أمر بأن لا يتزوج المرأة من غير بني إسرائيل، فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل يقال لها: ضبنة بنت صابورا، فعاقبه الله تعالى بأن أجلس مكانه شيطاناً وكان الناس يظنون أنه سليمان وأشكل عليهم أمره، فجاؤوا إلى آصف بن برخيا، وكان معلم سليمان بن داود في حال صغره وكان وزيره في حال كبره وملكه فقالوا له: إن قضاياه لا تشبه قضايا سليمان. فقام آصف ودخل على نساء سليمان فسألهن عن ذلك فقلن: إن كان هذا سليمان فقد هلكتم والله ما يعتزل منا حائضاً، وما يغتسل من جنابة. هكذا ذكر في رواية الكلبي.
77
وقال بعضهم: هذا خطأ لأن نساء الأنبياء معافيات معصومات عن الفواحش، فلا يجوز أن يظن بهن أن الشيطان يقربهن. وقال بعضهم: كان هذا على وجه الخيال لا على وجه الحقيقة، لأن الشيطان روحاني وليس له جسم، فلا يجوز أن تقع بينه وبين آدمي شهوة ولكن كان يريهن ذلك على وجه الخيال. فلما عرف الشيطان أن الناس علموا بحاله، كتب سحراً كثيراً وجعله تحت كرسيه وألقى خاتم سليمان في البحر وهرب. وكان سليمان- عليه السلام- خرج إلى ساحل البحر وأجَّر نفسه للملاحين كل يوم بسمكتين، فلما أعطوه أجره، باع إحداهما واشترى به الخبز وشق بطن الأخرى، فوجد الخاتم في بطنها فرجع إلى ملكه فلما توفي سليمان جاء الشيطان على صورة آدمي وقال: إن أردتم أن تعلموا علم سليمان بن داود- عليهما السلام- فانظروا تحت كرسيه. فنظروا وحفروا ذلك الموضع وأخرجوا كتباً كثيرة فوجدوا فيها السحر والكفر، فقال العلماء منهم: لا يجوز أن يكون هذا من علم سليمان، وقال السفهاء منهم: بل هذا من علم سليمان واتبعوه، فنزلت هذه الآية على النبي ﷺ وعلى جميع الأنبياء عذراً لسليمان- عليه السلام.
ثم قال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ، أي ما كان ساحراً. وفي الآية دليل أن الساحر كافر لأنه سمى السحر كفراً. وروي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى جزء بن معاوية وهو عم الأحنف بن قيس، أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. ثم قال تعالى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا، أي هم الذين كتبوا السحر. قرأ حمزة والكسائي وَلكِنَّ الشَّياطِينَ بكسر النون من غير تشديد ورفع الشياطينُ، وقرأ الباقون بتشديد النون مع النصب وبفتح النون في الشَّياطِينُ. وهذا هو الأصل في اللغة، أن كلمتي إن ولكن إذا كانا مشددين ينصب ما بعدهما، وإن لم يكونا مشددين يرفع ما بعدهما.
وقال بعضهم لنزول هذه الآية سبب آخر، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ويعلمون الناس السحر والنيرنجات، فكان سليمان يأخذ ذلك منهم ويدفنه تحت الأرض، فلما مات سليمان قالت الشياطين للناس: إن علم سليمان مدفون في موضع كذا وكذا، فحفروا ذلك الموضع وأخرجوا منه كتباً كثيرة. وقال بعضهم: معناه أن سليمان كان إذا أصبح كل يوم، رأى نباتاً بين يديه فيقول له: لأي دواء أنت؟ فيقول: إني دواء لكذا وكذا، وإن اسمي كذا كذا. فكان سليمان يكتب ذلك ويدفنه، فنبت يوماً من الأيام نبات بين يديه فقال له سليمان: ما اسمك؟ فقال: خرنوب. فقال له: لأي دواء أنت؟ فقال: إني لخراب المسجد. فعلم سليمان أنه قد جاء أجله، لأنه علم أن المسجد لا يخرب في حياته، وكان له صحيفة فيها يكتب أسماء الأدوية ويضعها في الخزانة، فكتبت الشياطين سحراً ووضعوه في ذلك الموضع، فلما مات سليمان وجدوا ذلك في كتبه فاتبعه بعض الناس فذلك قوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.
78
ثم قال: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، أي واتبعوا الذي أنزل على الملكين بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ. وقال القاضي الخليل بن أحمد قال: حدثنا الماسرجي فقال: حدثنا إسحاق قال:
حدثنا حكام بن سلم الرازي قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن قيس بن عباد، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ. قال: إن الناس بعد آدم وقعوا في الشرك، واتخذوا هذه الأصنام، وعبدوا غير الله تعالى، فجعلت الملائكة يدعون عليهم ويقولون: ربنا خلقت عبادك فأحسنت خلقهم، ورزقتهم فأحسنت رزقهم، فعصوك وعبدوا غيرك. فقال لهم الرب عز وجل: إنهم في عذر، وقيل: في عيب فجعلوا لا يعذرونهم ولا يقبلون ويدعون عليهم. فقال لهم الرب: اختاروا منكم اثنين.
فأهبطهما إلى الأرض فآمرهما وأنهاهما، فاختاروا هاروت وماروت فأهبطهما الله تعالى إلى الأرض فأمرهما ونهاهما عن الزنى وقتل النفس وشرب الخمر، فمكثا زماناً في الأرض يحكمان بالحق. وكان في ذلك الزمان امرأة فضِّلت بالحسن على سائر النساء، فأتيا عليها فخضعا لها بالقول وراوداها عن نفسها فقالت: لا حتى تصليا لهذا الصنم، أو تقتلا هذه النفس، أو تشربا هذه الخمر. فقالا: أهون الثلاثة شرب الخمر. فلما شربا الخمر سجدا للصنم وفعلا بالمرأة وقتلا النفس، فكشف الغطاء فيما بينهما وبين الملائكة، فنظروا إليهما وما يفعلان، فجعلت الملائكة يعذرون بني آدم أهل الأرض ويستغفرون لمن فيها فقيل لهاروت وماروت: اختارا إما عذاب الدنيا وإما عذاب الآخرة. فقالا: عذاب الدنيا يذهب وينقطع وعذاب الآخرة لا انقطاع له ثم اختاروا عذاب الدنيا. فهما يعذبان إلى يوم القيامة.
وروي في الخبر أن المرأة تعلمت منهما اسم الله الأعظم، فصعدت به إلى السماء فمسخها الله تعالى كوكباً. ويقال: هو الكوكب الذي يقال له الزهرة. وروي عن ابن عمر أنه كان إذا نظر إلى الزهرة لعنها ويقول: هي التي فتنت هاروت وماروت. وروي عن علي رضي الله عنه هذا. وقال بعضهم: هذا لا يصح، لأن هذا الكوكب قد كان خلقه في الأصل حين خلق النجوم، وجعل مقادير الأشياء على سبع من الكواكب، وجعل لكل كوكب سلطاناً، وجعل سلطان الزهرة الرطوبة. وقال بعضهم: إن كوكب الزهرة قد كان، ولكن الله تعالى مسخ هذه المرأة على شبه الكوكب فهي تعذب هناك. وقال بعضهم: قد صارت إلى النار، كما أن سائر الأشياء التي مسخت لم يبق منها أثر فذلك قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، يعني اليهود اتبعوا ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.
وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى، قال بعضهم: هذا الحرف أعني مَا للنفي، فكأنه يقول: ولم ينزل على الملكين السحر. وقال بعضهم: إن إبليس لعنه الله قد جاء بالسحر ووضعه عند أقدامهما، وهما معلقان بالسلة فتذهب اليهود تتعلم السحر من تلك الكتب والملكين. يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ، أي فلا تتعلم السحر، لأنه لا يجوز للملكين أن
79
يعلِّما الكفر. وقال بعضهم: ويبينان أن عمل السحر كفر، وينهيان عن التعلم ويبيِّنان كيفية السحر وهو بمنزلة رجل قال لآخر: علِّمني ما الزنى أو علمني ما السرقة فيقول: إن الزنى كذا وكذا، وهو حرام فلا تفعل وإن السرقة كذا وكذا هي حرام فلا تفعل. كذلك هاهنا الملكان يقولان: السحر كذا وكذا، وهو كفر فلا تكفر. وقرأ بعضهم وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بكسر اللام وهي قراءة شاذة، يعني كانا ملكين في بني إسرائيل فمسخهما الله تعالى. وقوله: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي اختبار وابتلاء. وأصل الفتنة الاختبار.
قوله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما أي من الملكين: مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، أي فيتعلمون منهما من السحر ما يفرقون به بين الرجل وزوجته، يؤخذ الرجل عن المرأة حتى لا يقدر على الجماع. ثم قال تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، أي بإرادة الله تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ، أي ما يضر في الدنيا ولا ينفعهم في الآخرة، يعني السحر. وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ، يعني اليهود علموا في التوراة أن من اختار السحر ما لَهُ فِى الاخرة مِن خلاق يعني نصيب. والخلاق في اللغة: هو النصيب الوافر. وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، أي باعوا به، يعني بئسما باعوا به أنفسهم. ويقال: بئس ما اختاروا لأنفسهم السحر على كتاب الله تعالى وسنن أنبيائه لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ، ولكنهم لا يعلمون. فإن قيل: ذكر في الآية الأولى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ وفي هذه الآية يقول: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فمرة يقول: يعلمون، ومرة يقول: لا يعلمون.
فالجواب أن يقال: إنهم يعلمون ولكن لا منفعة لهم في علمهم، وكل عالم لا يعمل بعلمه فليس بعالم، لأنه يتعلم العلم لكي ينتفع به، فإذا لم ينتفع به فكأنه لم يتعلم، فكذلك هاهنا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، لو كانوا يعرفون للعلم حقه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا، يعني اليهود لو صدقوا بثواب الله واتقوا السحر، لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ يعني كان ثواب الله تعالى خيراً لهم من السحر والمثوبة والثواب بمعنى واحد وهو الجزاء على العمل وكذلك الأجر لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، فهذا نداء المدح، يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. صدقوا بتوحيد الله تعالى وبمحمد، لاَ تَقُولُوا راعِنا. وذلك أن المسلمين كانوا يأتون رسول الله- عليه السلام- ويقولون: يا رسول الله راعنا، وهو بلغة العرب: أرعني سمعك. وأصله في اللغة:
راعيت الرجل إذا تأملته وتعرفت أحواله. وكان هذا اللفظ بلغة اليهود سباً بالرعونة، فلما
سمعت اليهود ذلك من المسلمين، أعجبهم ذلك وقالوا فيما بينهم: كنا نسب محمد سراً فالآن نسبه علانية، فكانوا يأتونه ويقولون له: راعنا يا محمد، ويريدون به السب.
وقال بعضهم: كان في لغتهم معناه اسمع لا سمعت، فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا راعِنا. نهى المسلمين أن لا يقولوا بهذا اللفظ، وأمرهم أن يقولوا بلفظ أحسن منه. قال الله تعالى: وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا ما تؤمرون به. ثم ذكر الوعيد للكفار فقال تعالى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ، يعني اليهود. وقرأ الحسن راعِنا بالتنوين. وقال القتبي:
من قرأ راعِنا بالتنوين جعله اسماً منه، مثاله: أن تقول: لا تقولوا حمقا.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٥]
مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)
قوله تعالى: مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ، يعني يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران. وَلَا الْمُشْرِكِينَ، يعني مشركي العرب أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ، يعني أن ينزل على رسولكم من الوحي وشرائع الإسلام لأنهم كانوا كفاراً، فيحبون أن يكون الناس كلهم كفاراً مثلهم. وهذا كما قال في آية أخرى وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً [النساء: ٨٩]. فأخبر الله تعالى أن الأمر ليس على مرادهم حيث قال وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ، أي يختار للنبوة من يشاء، من كان أهلاً لذلك ويكرم بدينه الإسلام مَن يَشَآءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، أي ذو المنّ العظيم لمن اختصه بالنبوة والإسلام. وقال مقاتل: كان قوم من الأنصار يدعون حلفاءهم ومواليهم من اليهود إلى الإسلام. فقالوا للمسلمين: إن الذين تدعوننا إليه هو خير مما نحن فيه وعليه، وددنا لو أنكم على هذا، فنزل قوله وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ أي بدينه- الإسلام- من يشاء. ونظيرهما في سورة هل أتى يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الشورى: ٨]، أي في دين الإسلام.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٦]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)
ثم قال تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها، قرأ ابن عامر مَا نَنْسَخْ برفع النون وكسر السين، وقرأ الباقون مَا نَنْسَخْ بالنصب ومعناهما واحد. وقرأ أبو عمرو وابن كثير أَوْ ننسأها بنصب النون والسين والهمزة، وقرأ الباقون أَوْ نُنْسِها برفع النون وكسر السين بغير همز. فمن قرأ نَنْسَأهَا أي نؤخرها، ومنه النسيئة في البيع وهو التأخير. ومن قرأ نُنْسِها
أي نتركها مثل قوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: ٦٧] أي تركهم في النار، وقال ابن عباس في رواية أبي صالح في قوله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ما ننسخ من آية فلا نعمل بها أَوْ نُنْسِها ندعها غير منسوخة والنسخ رفع الشيء وإقامة غيره مقامه، وفي الشرع رفع كل حكم قبل فعله أو بعده إذا كان مؤقتاً. ثم قال تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها، يعني أهون وألين منها على الناس أَوْ مِثْلِها في المنفعة.
وقال الزجاج: النسخ في اللغة، هو إبطال شيء وإقامة شيء آخر مقامه، والعرب تقول:
نسخت الشمس الظل إذا أزالته. أَوْ نُنْسِها أي نتركها، معناه أي نأمركم بتركها. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: النسخ له ثلاثة مواضع ولكل منها شواهد ودلائل، فأحدها: ما روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أي نبدلها ونوضحها، وما روي عن مجاهد أنه قال: نثبت خطها، ونبدل حكمها. فهذا هو المعروف عند الناس. الثاني:
أن ترفع الآية المنسوخة بعد نزولها ولهذا دلائل جاءت فيه، من ذلك ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه صلى ذات يوم صلاة الغداة، فترك آية، فلما فرغ من صلاته قال: «هَلْ فِيكُمْ أُبَيٌّ» ؟ قالوا:
نعم. قال: «هَلْ تَرَكْتُ مِنْ آيَة» ؟ قالوا: نعم تركت آية كذا، أنسخت أم نسيت قال: «لا، ولكن نَسِيتُ». وجاءت الآثار في نحو هذا، لأن الآية قد تنسخ بعد نزولها وترفع. والنسخ الثالث: تحويله من كتاب إلى كتاب، وهو ما نسخ من أم الكتاب، فأنزل على محمد ﷺ أَوْ نُنْسِها أي نتركها في اللوح المحفوظ.
وقال بعضهم: لا يجوز النسخ فيما يرفع كله بعد نزوله، لأن الله تعالى قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩] وقال: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[القيامة: ١٧] ولكن أكثر أهل العلم قالوا: يجوز ذلك. والنسخ يجوز في الأمر والنهي والوعد والوعيد ولا يجوز في القصص والأخبار، لأنه لو جاز ذلك يكون كذباً، والكذب في القرآن لا يجوز. ثم قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الناسخ والمنسوخ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٧]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يحكم فيهما ما يشاء بأمره ثم يأمر بغيره. قال الزجاج: الملك في اللغة: هو تمام القدرة، وأصل هذا من قولهم: ملكت العجين إذا بالغت في عجنه. ومعنى الآية إن الله يملك السموات والأرض وما فيهما، فهو أعلم لما يصلحهم فيما يتعبدهم به من ناسخ ومنسوخ ومتروك وغير متروك. وكان اليهود أعداء الله ينكرون النسخ، وكانوا يقولون حين تحولت القبلة إلى الكعبة: لو كنتم على الحق
فلم رجعتم؟ ولو كان هذا الثاني حقاً، فقد كنتم على الباطل، وكانوا لا يرون النسخ في الشرائع، لأن ذلك حال البداء والندامة. ولا يجوز ذلك على الله. ولكن الجواب أن يقال:
إن الله تعالى يدبر في أمره ما يشاء، كما أنه خلق الخلق ولم يكونوا، ثم يميتهم بعد ذلك ثم يحييهم كذلك يجوز أن يأمر بأمر ثم يأمر بغير ذلك الأمر كما أن شريعة موسى- عليه السلام- لم تكن من قبل، فأمره بذلك. والمعنى في ذلك: أنه حين أمرهم بالأمر الأول كان الصلاح في ذلك الوقت في هذا الأمر ثم إذا أمر بأمر آخر كان الصلاح في ذلك الوقت في الأمر الثاني، وهذا المعنى قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يعني هو أعلم بأمر الخلق، وبما يصلحهم في كل وقت. ثم بين الوعيد لمن لم يؤمن بالناسخ والمنسوخ فقال: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ، أي من قريب ينفعكم وَلاَ نصير، أي ولا مانع يمنعكم من عذاب الله تعالى.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٨]
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ، قال مقاتل: معناه أتريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل؟ أي كما سألت بنو إسرائيل موسى- عليه السلام- حيث قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: ١٥٣]. ويقال: إن اليهود سألوا أصحاب رسول الله ﷺ بأن يطلبوا القربان كما كان لموسى، عليه السلام. وروي عن الضحاك أنه قال: دخل جماعة من كفار قريش فيهم أبو جهل وغيره، فقالوا لرسول الله: إن كنت نبياً فاكشف عنا الغطاء، حتى نرى الله جهرة، فنزلت الآية أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ حيث قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ثم قال: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ، أي يختار الكفر على الإيمان، فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ، أي أخطأ قصد السبيل وهو طريق الهدى.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٩]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩)
قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وذلك أن المسلمين لما أصابتهم المحنة يوم أحد، قالت اليهود لعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان: قد أصابكم ما أصابكم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم، فنزلت هذه الآية وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي يريد ويتمنى كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ
الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُمْ، أي يصدونكم ويردونكم عن التوحيد مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً إلى الكفر.
ثم أخبر أن هذا القول لم يكن منهم على وجه النصيحة، ولكن ذلك القول كان حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ما في التوراة أَنَّهُ الْحَقُّ، يعني إن دين محمد ﷺ هو الحق، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا، أي: اتركوهم وأعرضوا عنهم حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، يعني الأمر بالقتال وكان ذلك قبل أن يؤمر بقتال أهل الكتاب، ثم أمرهم بعد ذلك بالقتال، وهو قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ- إلى قوله- مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [التوبة: ٢٩]. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من النصرة للمسلمين على الكفار. ويقال: هو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٠]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)
قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، أي أقروا بالصلاة وأدوها في مواقيتها بركوعها وسجودها وخشوعها، وَآتُوا الزَّكاةَ، أي وأعطوا الزكاة المفروضة وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ، أي ما تصدقتم من صدقة وعملتم من العمل الصالح، تجدوه عند الله محفوظاً يجزيكم به. ونظير هذا ما قال في آية أخرى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمران: ٣٠]، وقال في آية أخرى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: ٧]. وروي أنه مكتوب في بعض الكتب: يا بني آدم، ضع كنزك عندي لا سرق ولا حرق ولا فساد، تجده حين تكون أحوج إليه. ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، يعني عالم بأعمالكم يجازيكم بالخير خيراً وبالشر شراً.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١١ الى ١١٢]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)
وَقالُوا، يعني اليهود والنصارى وهم يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران. لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى واليهود جماعة الهائد، وإنما أراد به اليهود. وهذا من جوامع الكلم وهذا كلام على وجه الاختصار، فكأنه يقول: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة
إلا من كان يهودياً. وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً. قال الله تعالى رداً لقولهم: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ، أي ظنهم وأباطيلهم. وهذا كما يقال للذي يدعي ما لا يبرهن عليه:
إنما أنت متمن، وإنما يراد به: إنك مبطل في قولك.
ثم قال تعالى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ، أي حجتكم من التوراة أو من الإنجيل. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، أي بأن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهودياً أو نصرانياً. بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، معناه بل يدخل الجنة غيركم، من أسلم وجهه لله، أي من أخلص دينه لله وآمن بمحمد ﷺ وَهُوَ مُحْسِنٌ في عمله، فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، أي ثوابه في الجنة. وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب حين يخاف أهل النار، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ حين يحزن أهل النار. ويقال:
ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمر الدنيا. ويقال: الخوف إنما يستعمل في المستأنف، والحزن في الماضي، كما قال الله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ [الحديد: ٢٣] ويقال:
الخوف ثلاثة: خوف الأبد، وخوف العذاب على الانقطاع، وخوف الحشر والحساب. فأما خوف الأبد فيكون أمناً للمسلمين، وخوف العذاب على الانقطاع يكون أمناً للتائبين، وخوف الحشر والحساب يكون أمناً للمحسنين. والمحسنون يكونون آمنين من ذلك.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٣]
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)
قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ من أمر الدين. وروي عن ابن عباس أنه قال: صدقوا ولو حلفوا على ذلك ما حنثوا، لأن كل فريق منهم ليس على شيء. وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ، أي عندهم ما يخرجهم من ذلك الاختلاف أن لو نظروا فيه. وقال الزجاج: معناه، كلا الفريقين يتلون الكتاب وبينهم هذا الاختلاف، فدلّ ذلك على ضلالتهم. كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، أي الذين ليسوا من أهل الكتاب قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، يعني أنه يريهم من يدخل الجنة عياناً ومن يدخل النار عياناً ويبيّن لهم الصواب فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، أي في الدنيا.

[سورة البقرة (٢) : آية ١١٤]

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ، قال في رواية الكلبي معناه ومن أكفر. وقال بعضهم: هذا التفسير غير سديد، لأن الكفر كله سواء. ولكن معنى قول الكلبي ومن أكفر يعني من أشد في كفره، لأن الكفار وإن كانوا كلهم في الكفر سواء، فربما يكون بعضهم في كفره أشد شراً من غيره. قال الكلبي: نزلت هذه الآية في شأن ططوس بن أسفيانوس الرومي، حيث خرب بيت المقدس وألقى فيه الجيفة، فكان خراباً إلى زمن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وذلك قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ
، فلم يدخلها بعد عمارتها رومي إلا خائفاً ومستخفياً لو علم أنه رومي قتل. قال قتادة: هم النصارى. وقال مجاهد: هم اليهود والنصارى ويقال: من أراد أن يكون ملكاً عليهم، لا يمكنه ذلك ما لم يكن دخل مسجد بيت المقدس، فيجيء ويدخله مستخفياً.
ثم قال عز وجل: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، أي بفتح مدائنهم الثلاثة قسطنطينة وعمورية وأرمينية. وقال بعضهم: لنزول هذه الآية سبب آخر، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما خرج عام الحديبية إلى مكة، ومنعه أهل مكة فرجع، ولم يدخلها في تلك السنة، فنزلت هذه الآية:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها، أي سعى ومنع المسلمين عن الصلاة، وذكر الله فيها لأن عمارة المسجد بالصلاة، وذكر الله فيها وخرابها في ترك ذلك. أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ بعد فتح مكة، فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا إلا خائفين، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وهو فتح مكة، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لمن مات على كفره وقتل. وروى الزجاج عن بعض أهل العلم قال: نزلت في شأن جميع الكفار، لأن الكفار كانوا يقاتلون المسلمين ويمنعونهم من الصلاة، فقد منعوا المسلمين من الصلاة في جميع المساجد، لأن الأرض كلها جعلت مسجداً وطهوراً. ومعناه ومن أظلم ممن خالف ملة الإسلام؟ قال: ومعنى قوله أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ، يعني دار الإسلام ولهم في الدنيا خزي وظهور الإسلام على سائر الأديان لقوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: ٢٣ وغيرها].
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٥]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)
قوله عز وجل: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قد اختلفوا في سبب نزول هذه الآية. روي عن ابن عباس أنه قال: خرج رهط في سفر من أصحاب رسول الله ﷺ فأصابهم الضباب، فمنهم من صلى إلى المشرق، ومنهم من صلى إلى المغرب، فلما طلعت
الشمس وذهب الضباب، استبان لهم ذلك، فلما قدموا على رسول الله ﷺ سألوه عن ذلك فنزلت هذه الآية وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، يعني أينما تولوا وجوهكم في الصلاة فثم وجه الله قال بعضهم: فثم قبلة الله. ويقال يعني: فثم رضا الله.
ويقال: فثم ملك الله. وروى عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أن قوماً خرجوا إلى السفر وذكر القصة نحو هذا.
وقال بعضهم: المراد به الصلاة على الدابة. قال الفقيه: حدثنا محمد بن سعيد المروزي قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال: حدّثنا علي بن شيبة قال: حدثنا يزيد بن هارون قال:
حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال:
كان رسول الله ﷺ يصلي على راحلته التطوع، حيث ما توجهت به وهو جاءٍ من مكة، ثم قرأ ابن عمر: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. قال ابن عمر: في هذا نزلت هذه الآية.
وقال بعضهم: لنزول هذه الآية سبب آخر، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس، فَلَمَّا أمر بالتحول إلى الكعبة، قالت اليهود: مرة تصلون هكذا، ومرة تصلون هكذا، فنزلت هذه الآية: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ثم قال: إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ، أي الواسع الجواد المحسن الذي يقبل اليسير، ويعطي الجزيل عليم بصلواتكم.
ويقال: الواسع الغني عن صلاة الخلق وإنما يطلب منهم النية الخالصة ويقال: واسع يعني يوسع عليكم أمر الشرائع، ولم يضيق عليكم الأمر. ويقال: واسع، يعني واسع الفضل. وقال الزجاج: معنى قوله: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، أي اقصدوا وجه الله بنيتكم القبلة، كقوله: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: ١٤٤ و ١٥٠].
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)
قوله: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام قالُوا بغير واو. وقرأ الباقون بالواو، ومعناهما واحد إلا أن الواو للعطف وذلك أن اليهود قالوا: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال بعض المشركين: الملائكة بنات الله. قال الله تعالى: سُبْحانَهُ، نزه نفسه عن الولد. بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كلهم عبيده كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ، يعني به المؤمنين خاصة، أي مطيعين مقرين بالعبودية له موحدين مجيبين للطاعة.
وقد قيل: إن لفظ الآية عام والمراد به الخاص. قوله تعالى: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ يعني به المؤمنين خاصة. ويقال معناه: أثر صنعه وشواهد توحيده ودلائل ربوبيته في جميع ما في
السموات والأرض موجود. ويقال: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي لا يستطيع كل خلق أن يغير نفسه عن خلقته، فأخبر الله تعالى أن جميع ما في السَّموات والأرض له وهو خالق الأشياء، وهو المستغني عن الولد سبحانه وتعالى.
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أي خالقهما. والإبداع في اللغة: إنشاء شيء لم يُسْبَقْ إليه على غير مثال ولا مشورة. وإنما قيل لمن خالف السنة: مبتدع، لأنه أتى بشيء لم يسبقه إليه الصحابة ولا التابعون. ومعناه هو خالق السموات والأرض. وَإِذا قَضى أَمْراً، يعني إذا أراد أن يخلق خلقاً، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. ويقال: هذه الآية نزلت في شأن وفد نجران السيد والعاقب وغيرهما. وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت خلقاً من غير أب؟ فنزلت هذه الآية: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، كما كان آدم من غير أب وأم، كذا عيسى ابن مريم خلقه بغير أب. فإن قيل: قوله: كُنْ هذا الخطاب للموجود أو للمعدوم؟ فإن قال: للمعدوم. قيل له: كيف يصح الخطاب لشيء معدوم؟ وكيف يصح الإشارة إليه بقوله:
كُنْ؟ فإن قال: الخطاب للموجود. قيل له: كيف يأمر الشيء الكائن بالكون فالجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن الأشياء كلها كانت موجودة في علم الله تعالى قبل كونها، فكان الخطاب للموجود في علمه. وجواب آخر: أن معناه إِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يقول له: كن فيكون، يعني إذا أراد أن يخلق خلقاً يخلقه، والقول فيه على وجه المجاز. قرأ ابن عامر فَيَكُونُ بالنصب، لأن جواب الأمر بالفاء، وقرأ الباقون بالرفع على معنى الاستئناف بمعنى فهو يكون.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٨]
وَقالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ، أي لا يعلمون توحيد الله تعالى، ومعناه: وقال الجهال من الناس- وهم الكفار-: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ، أي هلا يكلمنا الله فيخبرنا بأنك رسوله، أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ، أي علامة لنبوتك. قال الله تعالى: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، أي قال اليهود لموسى- عليه السلام-: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: ١٥٣]. تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، أي في القسوة والكفر. ويقال: تشابهت كلمتهم كما تشابهت قلوبهم. قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ، يعني أمرك في التوراة أي العلامات لنبوتك إنك نبي مرسل الصفة والنعت. ويقال:
قد بينا العلامات لنبوتك. ويقال: لم يكن لنبي من الأنبياء معجزة وعلامة إلاّ وقد كان للنبي ﷺ مثلها. لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، يعني مؤمني أهل التوراة. ويقال: من كان له عقل وتمييز.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٩ الى ١٢٠]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠)
قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً، أي بالقرآن. ويقال بالحق يعني بالدعوة إلى الحق. ويقال: بالحق أي لأجل الحق. ويقال: أي بالدعوة إلى الحق. ويقال: ببيان الحق. بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ قرأ نافع وَلا تُسْئَلُ بنصب التاء وجزم اللام، والباقون بضم التاء واللام. فمن قرأ بالرفع، فمعناه أنك إذا بلغت الرسالة، فإنك قد فعلت ما عليك، ولا تُسْأَلُ عن أصحاب الجحيم فيما فعلوا، وهذا كما قال في آية أخرى:
فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد: ٤] وأما ومن قرأ بالنصب، فهو على معنى النهي، أي لا تسأل عن أصحاب الجحيم أي عما فعلوا. قال القاضي الخليل بن أحمد: أخبرنا الديلمي قال: أخبرنا أبو عبيد الله قال: حدثنا سفيان، عن موسى بن عبيدة الربذي، عن محمد بن كعب القرظي أن رسول الله ﷺ قال: «لَيْتَ شِعْرِي مَا فُعِلَ بأَبَوَيَّ». فنزلت هذه الآية إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ الآية.
قوله تعالى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى، يعني أهل المدينة ونصارى أهل نجران حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ، أي تصلي إلى قبلتهم. قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى، يعني إن قبلة الله هي الكعبة- وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ، أي صليت إلى قبلتهم بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، أي من بعد ما ظهر لك: أن القبلة هي الكعبة، مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ينفعك وَلا نَصِيرٍ، أي مانعاً يمنعك. ويقال: معناه وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ، أي حتى تدخل في دينهم، وذلك أن الكفار كانوا يطلبون الصلح، وكان يرى أنهم يسلمون، فأخبره الله تعالى أنهم لا يسلمون، ولن يرضوا عنه، حتى يتبع ملتهم فنهاه الله عن الركون إلى شيء مما يدعونه إليه. فقال تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى، يعني دين الله هو دين الإسلام. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ وهذا الخطاب للنبي ﷺ والمراد منه أمته، أي لئن اتبعت دينهم بعد ما جاءك من العلم، أي بعد ما ظهر أن دين الإسلام هو الحق مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ، أي من عذاب الله مِنْ وَلِيٍّ ينفعك وَلا نَصِيرٍ، أي مانع يمنعك منه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢١]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١)
قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، يعني مؤمني أهل الكتاب
يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألهم. قال مجاهد: يتبعونه حق اتباعه. وقال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود قال: والله إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأ حق قراءته كما أنزل الله تعالى، ولا يحرَّف عن مواضعه. ويقال: يقرءونه حق قراءته. أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، أي بمحمد ﷺ ويصدقونه. وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ، أي بمحمد ﷺ ويقال: بالقرآن، فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، وهو كعب بن الأشرف وأصحابه. ويقال: نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب، وهم اثنان وثلاثون رجلاً قدموا مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، وكانوا يتبعون القرآن حق اتباعه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٣]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)
قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ قد ذكرناها من قبل.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٤]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)
قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ، قرأ ابن عامر أبرَاهَامَ، وروي عنه أنه قرأ أَبْرَهَمَ وهي لغة بعض العرب، وقرأ غيره إِبْراهِيمَ في جميع القرآن. وهي اللغة المعروفة وهو اسم أعجمي ولهذا لا ينصرف. وروي عن ابن عباس أنه قال: أمر الله تعالى إبراهيم بعشر خصال من السنن خمس في الرأس، وخمس في الجسد، وروي عن النبي ﷺ نحو هذا. حدثنا أبي قال: حدثنا محمد بن الفضل البلخي قال: حدثنا أبو بشر محمود بن مهدي، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن الحجاج بن أرطأة، عن عطاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَشْرٌ مِمَّا عَلِمَهُنَّ وَعَمِلَ بِهِنَّ أَبُوكُمْ إبْرَاهِيمُ- عليه السلام- خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ، وَخَمْسٌ فِي الجَسَدِ فَأَمَّا الَّتِي فِي الرَّأْسِ: فَالسِّوَاكُ وَالمَضْمَضَةُ وَالاسْتِنْشَاقُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَأَمَّا الَّتِي في الجَسَدِ فَالخِتَانُ وَالاسْتِحْدَادُ وَالاسْتِنْجَاءُ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَقَصُّ الأَظْفَارِ» ويقال: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ، أي اختبره. والاختبار من الله تعالى أن يظهر حاله ليستوجب الثواب، لأن الله تعالى لا يعطي الثواب والعقاب بما يعلم ما لم يظهر منه ما يستوجب الثواب والعقاب، كما علم من إبليس الكفر، ولم يلعنه ما لم يختبره ويظهر منه ما يستوجب به اللعنة والعقوبة.
وقوله عز وجل: فَأَتَمَّهُنَّ، يعني عمل بهن. ويقال: كان إبراهيم أفضل الناس في زمانه، وكرم على الله تعالى فابتلاه الله عز وجل بخصال لم يبتل بها غيره، فكان من الابتلاء أن أمه ولدته في غار. ومن الابتلاء حيث نظر إلى الكوكب فقال: هذا ربي. وروى الحسن أنه قال: كان الابتلاء بثلاثة أشياء أولها: الابتلاء بالكوكب والشمس والقمر، والثاني: بالنار، والثالث: بأمر سارة. ويقال: كل من كان أكرم على الله كان ابتلاؤه أشد، لكي يتبين فضله ويستوجب الثواب. كما روي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بني الذهب والفضة يختبران بالنار، والمؤمن يختبر بالبلايا. فَأَتَمَّهُنَّ، أيّ عمل بهن. ويقال: فَأَتَمَّهُنَّ أي وفى بهن، فلما وفّى الأمر جعله الله تعالى إماماً للناس ليقتدوا به. وفي هذا دليل: أن الإنسان لا يبلغ درجة الأخيار إلا بالتعب وجهد النفس، فلما جعله الله تعالى إماماً، قالَ له: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً والإمام الذي يؤتم به فأعجبه ذلك، وتمنى أن يكون ذلك لذريته بعده مثل ذلك، ف قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، يعني اجعلهم أئمة يقتدى بهم. قالَ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، يعني الكافرين، يعني لا يصلح أن يكون الكافر إماماً للناس. ويقال: لا تصيب رحمتي الكافرين.
فالله تعالى أخبره أنه يكون في ذريته كفار، وأخبره أنه لا ينال عهده من كان كافراً.
قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص: لاَ يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ أي الكافرين يعني لا يصلح أن يكون الكافر إماماً للناس. ويقال: لا تصيب الرحمة الكافر. فالله تعالى أخبره أنه يكون في ذنبه وأخبره أنه لا ينال عهده من كفر وكان كافراً. قرأ حمزة وعاصم رواية حفص لاَ يَنالُ عَهْدِي بسكون الياء. وقرأ الباقون بنصب الياء عَهْدِي الظَّالِمِينَ وهما لغتان ومعناهما واحد.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٥]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)
قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً، يقول: وضعنا البيت، يعني الكعبة معاداً لهم، يعودون إليه مرة بعد مرة. وقال قتادة: مجمعاً للناس يثوبون إليه من كل جهة، وفي كل سنة فلا يقضون منها وطراً. وَأَمْناً، أي جعلناه أمناً لمن التجأ إليه، يعني من وجب عليه القصاص. ولهذا قالوا: لو أن رجلاً وجب عليه القصاص فدخل الحرم، لا يقتص منه في الحرم. وهكذا روي عن ابن عمر أنه قال: لو وجدت قاتل عمر في الحرم، ما هيجته، أي ما أزعجته ولكن يمنع منه المنافع، حتى يضطر ويخرج فيقتص منه. ويقال: آمناً لغير الممتحنين، وهي الصيود إذا دخلت الحرم أمنت. ويقال: آمناً من الجذام.
ثم قال تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى، قرأ نافع وابن عامر وَاتَّخِذُوا
بفتح الخاء على وجه الخبر، معناه: جعلنا البيت مثابة للناس فاتخذوه مصلى. وقرأ الباقون بكسر الخاء على معنى الأمر. قال: حدّثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا الديلمي قال: حدّثنا أبو عبيد الله قال: حدّثنا سفيان، عن زكريا بن زائدة، عمن حدثه، عن عمر بن الخطاب قال:
كان رسول الله ﷺ يطوف بالبيت يوم الفتح، فلما فرغ من طوافه أتى المقام فقال: «هذا مَقَامُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ»، فقال عمر: أفلا تتخذه مصلى يا رسول الله، فأنزل الله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ويقال: المسجد الحرام كله مقام إبراهيم- عليه السلام- هكذا روي عن مجاهد وعطاء.
وقوله تعالى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ، أي أمرنا إبراهيم وإسماعيل: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ، أي مسجدي من الأوثان، ويقال: من جميع النجاسات، ثم قال: لِلطَّائِفِينَ، أي طهرا المسجد من الأوثان والنجاسات، لأجل الطائفين الذين يطوفون بالبيت وهم الغرباء، وَالْعاكِفِينَ وهم أهل الحرم المقيمون بمكة من أهله وغيرهم وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، أي أهل الصلاة من كل جهة من الآفاق. قرأ نافع وعاصم في رواية حفص طَهِّرا بَيْتِيَ بنصب الياء وقرأ الباقون بسكون الياء.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٦]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً، يعني الحرم. وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ، فاستجاب الله تعالى دعاءه، فتحمل الثمار إلى مكة من كل جهة، فيوجد فيها في كل وقت من كل نوع واشترط إبراهيم في دعائه فقال: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وإنما اشترط هذا الشرط، لأنه قد سأل ربه الإمامة لذريته، فلم يستجب له في الظالمين، فخشي إبراهيم أن يكون أمر الرزق هكذا، فسأل الرزق للمؤمنين خاصة، فأخبره الله تعالى: أنه يرزق الكافر والمؤمن، وأن أمر الرزق ليس كأمر الإمامة. قالوا: لأن الأمامة فضل، والرزق عدل، فالله تعالى يعطي بفضله من يشاء من عباده من كان أهلاً لذلك، وعدله لجميع الناس لأنهم عباده، وإن كانوا كفاراً. فذلك قوله تعالى: قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا، قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام «فَأُمَّتِعَهُ» بالتخفيف من أمتعت، وقرأ الباقون بالتشديد من متَّعت، يعني سأرزقه في الدنيا يسيراً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ أي مصيره، ويقال: ملجأه إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ صاروا إليه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٩]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)
92
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، يعني يبني إبراهيم القواعد، يعني أساس البيت، أي الكعبة. والقواعد جماعة واحدها قاعدة. وَإِسْماعِيلَ، يعني إِسماعيل يعينه. قال مقاتل:
وفي الآية تقديم وتأخير، معناه وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت. ويقال: إن إبراهيم كان يبني البيت وإسماعيل يعينه، والملائكة يناولون الحجر من إسماعيل، وكانوا ينقلون الحجر من خمسة أجبل: طور سيناء وطور زيتاء والجودي ولبنان وحراء فلما فرغا من البناء، قالا رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا يعني أعمالنا. إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، أي السميع لدعائنا بنياتنا.
وفي الآية دليل: أن الإنسان إذا عمل خيراً ينبغي أن يدعو الله بالقبول، ويقال: ينبغي أن يكون خوف الإنسان على قبول العمل بعد الفراغ أشد من شغله بالعمل، لأن الله تعالى قال:
إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: ٢٧]. وروي في الخبر أن إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- لما فرغا من البناء، جثيا على الركب وتضرعا وسألا القبول، فقال جبريل لإبراهيم:
قد أجيب لك، فاسأل شيئاً آخر، فقالا: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، أي مخلصين لك، ويقال: واجعلنا مثبتين على الإسلام، ويقال: مطيعين لك، ويقال: أمتنا على الإسلام.
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، أي اجعل بعض ذريتنا من يخلص لك، ويثبت على الإسلام. ثم قال: وَأَرِنا مَناسِكَنا. أي علمنا أمور مناسكنا. وقال القتبي: الرؤية المعاينة كقوله عز وجل: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: ٦٠]، وقوله:
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ [الإنسان: ٢٠]. ويقال: تذكر الرؤية ويراد بها العلم كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء: ٣٠] وكقوله: أَرِنا مَناسِكَنا، أي عملنا. وكقوله لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ. قرأ ابن كثير ومن تابعه من أهل مكة وَأَرِنا بجزم الراء في جميع القرآن، والباقون بكسر الراء، وهما لغتان والكسر أظهر وأفصح. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح:
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ- أي مطيعين وموحدين وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، أي جماعة موحدة مطيعة لك. ويقال: أشكل عليهما موضع البيت، فبعث الله تعالى سحابة فقالت له: ابن بخيالي، فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت بخيال السحابة. ثم قال تعالى وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا أي تجاوز عنا الزلة، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ بعبادك.
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ. قال مقاتل: لأن إبراهيم علم أن في
93
ذريته من يكون كفاراً، فسأل الله تعالى أن يبعث فيهم رسولاً فقال: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ، يعني القرآن. وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ، أي القرآن وَالْحِكْمَةَ
، أي مواعظ القرآن من الحلال والحرام. ويقال: علم التفسير. وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من الكفر والشرك. ويقال: يأمرهم بالزكاة ليطهر أموالهم. قال مقاتل: استجاب الله دعاءه في سورة الجمعة. وهو قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة: ٢] وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «أَنَا دَعْوَةُ أبِي إبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى عليهما السلام». وهي قوله: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: ٦]- ثم قال تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، أي المنيع الذي لا يغلبه شيء، ويقال: العزيز الذي لا يعجزه شيء عما أراد. ويقال: العزيز بالنقمة، ينتقم ممن عصاه متى شاء، الحكيم في أمره الذي يكون عمله موافقا للعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٠]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠)
قوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ، يقول: عن سنته ودينه وهو الإسلام. ويقال لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه التقريع والتوبيخ، وَمَنْ هاهنا بمعنى (ما)، فكأنه يقول:
وما يرغب عن دين إبراهيم إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ. قال أبو عبيدة: إلا من أهلك نفسه. وقال الأخفش: معناه إلا من سفه من نفسه. هذا كما قال في آية أخرى وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ [البقرة: ٢٣٥] أي على عقدة النكاح. ويقال: إلا من جهل أمر نفسه، فلا يتفكر فيه، كما قال في آية أخرى وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١]، قال الكلبي: ومن يرغب عن دين إبراهيم الإسلام والحج والطواف، إلا من خسر نفسه.
ثم: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا، يقول: اخترناه في الدنيا للنبوة والرسالة والإسلام والخلة. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، أي في الجنة. ويقال: مع الصالحين في الجنة وهو أفضل الصالحين ما خلا محمدا صلى الله عليه وسلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣١ الى ١٣٢]
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ، قال ابن عباس: يعني أخلص. ويقال: معناه قُلْ لا إله إِلا الله.
ويقال: معناه استقم على ما أنت عليه. ويقال: حين خرج من السرب، نظر إلى الكوكب
والقمر والشمس، فابتلي بذلك فألهمه الله تعالى الإخلاص، فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: ٧٩] الآية. فهذا معنى قوله أَسْلِمْ أي أخلص دينك لله ف قالَ إبراهيم عليه السلام: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، أي أخلصت ديني لرب العالمين.
ويقال: فوّض أمرك إلى الله فقال فوضت أمري إلى الله.
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ، أي بشهادة أن لا إله إلا الله. قرأ نافع وابن عامر وَأَوْصَى وقرأ الباقون وَوَصَّى وهو أبلغ من أوصى، لأنه لا يكون إلا لمرات كثيرة.
وقوله بِها، يرجع إلى الملة، والملة هي السنة والمذهب. ويقال: إنه جمع بنيه عند موته، لأنه خشي عليهم كيد إبليس فجمعهم وأوصاهم بأن يثبتوا على الإسلام. قال مقاتل: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ الأربعة: إسماعيل وإسحاق ومدين ومداين، ثم أوصى بها يعقوب بنيه، وهم اثني عشر ابناً، وذلك حين دخل مصر فرآهم يعبدون الأصنام، فأوصى بنيه بأن يثبتوا على الإسلام وكانوا اثنا عشر ابناً: روبيل وشمعون ويهوذا ولاوي ونفتال وريالون ويشجر ودان واشترفياحان وحان ويوسف وبنيامين.
قال الله تعالى: يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ، أي اختار لكم دين الإسلام فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، يعني اثبتوا على الإسلام وكونوا بحال لو أدرككم الموت يدرككم على الإسلام، وأنتم مخلصون بالتوحيد. فقالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست تعلم أن يعقوب عليه السلام يوم مات أوصى بنيه بدين اليهودية؟.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٣]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)
فأنزل الله تعالى أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ، يقول: أكنتم حضوراً إِذْ حين حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ معناه إنكم تدعون ذلك، كأنكم كنتم حضوراً في ذلك الوقت، يعني أنكم تقولون ما لا علم لكم بذلك، والله تعالى يخبر ويبين أن وصيته كانت بخلاف ما قالت اليهود وإنما لم ينصرف شُهَداءَ لمكان ألف التأنيث في آخره، وإذا دخلت ألف التأنيث أو هاء التأنيث في آخر الكلام فإنه لا ينصرف.
ثم قال تعالى: إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي، أي من تعبدون بعد موتي؟ قالُوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ. روي عن الحسن البصري أنه قرأ قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ. وقرأ غيره قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ. وإسماعيل
كان عم يعقوب، ولكن العم بمنزلة الأب بدليل ما روي عن النبي ﷺ أنه قال: «عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ». ثم قال: إِلهاً واحِداً، أي نعبد إلهاً واحداً. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مخلصون له بالتوحيد.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٤]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ أي جماعة قد مضت. لَها مَا كَسَبَتْ، أي جزاء ما عملت من خير أو شر. وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون:
نحن على دينهم، فقال لهم: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لا تقدرون عليهم فيشهدوا لكم، فلهم ما عملوا وإنما لكم ما تعملون، وإنما ينظر اليوم إلى أعمالكم، ولا ينفعكم من أعمالهم شيء.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٥]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)
قوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا، وذلك أن يهود المدينة ونصارى أهل نجران اختصموا، فقال كل فريق: ديننا أصوب، ونبينا أفضل. فسألوا عن ذلك رسول الله ﷺ فقالوا أينا أفضل؟ فقال لهم: «كُلُّكُمْ عَلَى البَاطِلِ». فأعرضوا عنه فنزلت هذه الآية: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى يعني اليهود قالوا: كونوا على دين اليهود والنصارى قالوا: كونوا على دين النصرانية تهتدوا من الضلالة.
قال الله تعالى لمحمد ﷺ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وإنما نصب الملة على معنى: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً. ويقال: معناه واتبعوا ملة إبراهيم. وقال مقاتل: بل الدين ملة إبراهيم حنيفا، أي مخلصاً. وقال القتبي: حنيفاً أي مستقيماً. ويقال للأعرج حنيف نظراً إلى السلامة، كما يقال للديغ: سليم، وللجبانة مفازة، وإن كانت مهلكة.
وقال الزجاج: أصل الحنف إذا كان أصابع الرجل مقبلاً بعضها إلى بعض إقبالاً لا تنصرف عن ذلك أبداً، فكذلك كان إبراهيم عليه السلام مقبلاً على دين الإسلام، مائلاً عن الأديان كلها وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ولكن كان على دين الإسلام. فقال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: كيف نقول حتى لا نكذب أحداً من الأنبياء؟.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٦ الى ١٣٧]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)
فعلمهم الله عز وجل بقوله: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ، أي صدقنا بأنه واحد لا شريك له.
وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا، يقول: صدقنا بما أنزل إلينا، أي بما أنزل على نبينا من القرآن وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ، يقول صدقنا بما أنزل على إبراهيم من الصحف. وَما أنزل إلى إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب، كان له اثنا عشر ابناً، فصار أولاد كل واحد منهم سبطاً، والسبط بلغتهم بمنزلة القبيلة للعرب. وإنما أنزل على أنبيائهم وكانوا يعملون به، فأضاف إليهم، كما أنه أنزل على محمد ﷺ فأضاف إلى أمته فقال: وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا فكذلك الأسباط أنزل على أنبيائهم فأضاف إليهم، لأنهم كانوا يعملون به. ثم قال تعالى: وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى، يعني التوراة والإنجيل. وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، يعني وما أنزل على الأنبياء من الله تعالى وقد آمنا بجميع الأنبياء وبجميع الكتب لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، أي من رسله كما فرقت اليهود والنصارى، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، أي مخلصون له بالتوحيد.
ثم قال تعالى للمؤمنين فَإِنْ آمَنُوا، يعني اليهود والنصارى بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ، يعني به يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فَقَدِ اهْتَدَوْا من الضلالة. وَإِنْ تَوَلَّوْا، أي: أعرضوا عن الإيمان بمحمد ﷺ وبجميع الأنبياء- عليهم السلام- فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ، يقول إنهم في خلاف من الدين. ويقال: في ضلال. والشقاق في اللغة: له ثلاثة معان، أحدها: العداوة مثل قوله تعالى: لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي [هود: ٨٩]، والثاني: الخلاف مثل قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما [النساء: ٣٥]، والثالث: الضلالة مثل قوله: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [الحج: ٥٣]، فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ، أي يدفع الله عنكم مؤنتهم. وقال الزجاج: هذا ضمان من الله تعالى النصر لنبيه، أنه سيكفيه إياهم بإظهاره على كل دين سواه، كقوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: ٢١] يعني أن عاقبة الأمر كانت لهم. قال مقاتل: يعني قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير. وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بقولهم للمؤمنين حيث قالوا: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، العليم بعقوبتهم. ثم فضل دين محمد ﷺ على كل دين فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٨]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨)
صِبْغَةَ اللَّهِ، أي: اتبعوا دين الله والزموه، لا دين اليهود والنصارى. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً، أي دين أحسن من دين الله تعالى، وهو دين الإسلام. وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ، أي موحدون مقرون، وذلك أن النصارى إذا ولد لأحدهم ولد غمروه في اليوم السابع في ماء لهم،
ليطهروه بذلك ويقولون: هذا طهور مكان الختان، وهم صنف من النصارى يقال لهم:
المعمودية.
قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ، أي مطيعون، ولنا الختان طهور، طهَّر الله به إبراهيم- عليه السلام- وروى سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: ختن إبراهيم- عليه السلام- نفسه بالقدوم وهو ابن مائة وعشرين سنة. والقدوم موضع بالشام. ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة. وقال القتبي: هذا من الاستعارة حيث سمى الختان صبغة، لأنهم كانوا يصبغون أولادهم في ماء. قال الله تعالى: صبغة الله لا صبغة النصارى، يعني اتبعوا دين الله والزموا دين الله.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٩]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)
ثم قال الله تعالى: قُلْ يا محمد ليهود أهل المدينة والنصارى أهل نجران:
أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ، يعني أتخاصموننا في دين الله، ونحن نوحد الله. وقال الزجاج: نزلت هذه الآية في اليهود والذين كانوا يظاهرون المشركين، فقال: أنتم تقولون: أنكم توحدون الله ونحن نوحد الله تعالى، فلم تظاهرون علينا من لا يوحد الله تعالى؟ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا، أي ثواب أعمالنا وَلَكُمْ ثواب أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ، أي مقرُّون له بالوحدانية مخلصون له بالعبادة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٠]
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠)
أَمْ تَقُولُونَ، قرأ الكسائي وعاصم وحمزة في رواية حفص أَمْ تَقُولُونَ بالتاء على معنى المخاطبة، وقرأ الباقون: بالياء «أمْ يَقُولُونَ» على معنى المغايبة. إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى، يعني إن تعلقتم أيضاً بدين الأنبياء فنحن على دينهم، وقد آمنا بجميع الأنبياء، فإن ادعيتم أن الأنبياء كانوا على دين اليهودية أو النصرانيّة وإسحاق ويعقوب والاسباط كانوا هوداً أو نصارى، قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ. فالله تعالى أخبر أنهم كانوا على دين الإسلام، وقد بيَّن ذلك في كتبهم حيث قال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً
عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ
، لأن الله تعالى قد أخذ عليهم الميثاق بأن يبيِّنوه فكتموه. قال الله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أي لا يخفى على الله من عملهم شيء فيجازيهم بذلك. ويقال: هذا القول وعيد للظالم وتعزية للمظلوم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤١]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
ثم قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ، وقد ذكرنا تفسيرها.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٢]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)
قوله: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ، يعني الجهال وهم اليهود والمنافقون. ويقال: هم أهل مكة: مَا وَلَّاهُمْ؟ أي يقولوا: ما الذي صرفهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها؟ يعني التي صلوا إليها من قبل وذلك أن الأنصار قبل قدوم النبيّ صلّى الله عليه وسلم بسنتين كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فَلَمَّا قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلم المدينة، صلى إلى بيت المقدس ثمانية عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ثم أمر بالتحويل إلى مكة. فقال أهل مكة: رجع محمد إلى قبلتنا، فعن قريب يرجع إلى ديننا فأنزل الله تعالى قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، يقول: إن الصلاة إلى بيت المقدس والصلاة إلى الكعبة لله إذا كان بأمر الله.
يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، أي يرشد من يشاء إلى قبلة الكعبة إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي ديناً يرضاه. روي عن أبي العالية الرياحي أنه قال: رأيت مسجد صالح النبيّ صلّى الله عليه وسلم وقبلته إلى الكعبة.
قال: وكان موسى- عليه السلام- يصلي من الصخرة إلى الكعبة، وهي قبلة الأنبياء كلهم، صلوات الله عليهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٣]
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً والوسط هو العدل، كما قال تعالى في آية أخرى: قالَ أَوْسَطُهُمْ [القلم: ٢٨]، أي أخيرهم وأعدلهم. والعرب تقول: فلان من أوسط قومه، أي خيارهم وأعدلهم، ومنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هو أوسط قريش حسباً. أي جعلناكم عدلاً للخلائق. لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، يعني للنبيين. وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً بالتصديق لكم وذلك أن الله تعالى إذا جمع الخلق يوم القيامة فيسأل الأنبياء- عليهم السلام- عن تبليغ الرسالة كقوله تعالى: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب: ٨] فيقولون: قد بلغنا الرسالة، فتنكر أممهم تبليغ رسالته، فتشهد لهم أمة محمد ﷺ بتبليغ الرسالة فتطعن الأمم في شهادتهم، فيزكيهم النبي ﷺ فذلك معنى قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمعنى قوله وَكَذلِكَ أي وكما هديناكم للإسلام والقبلة الكعبة فكذلك جعلناكم أمة عدلاً لتكونوا شهداء على الناس.
وللآية تأويل آخر: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أي عدلاً، لتكونوا شهداء على الناس. يقول: إنكم حجة على جميع من خلقنا ورسول الله ﷺ حجة عليكم. والشهادة في اللغة: هي البيان، فلهذا يسمى الشاهد بيِّنة، لأنه بيَّن حق المدعي، يعني أنكم تبيِّنون لمن بعدكم، والنبي ﷺ يبين لكم.
قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها، أي ما أمرناك بالصلاة إلى القبلة الأولى، ويقال: ما حولنا القبلة التى كنت عليها، إِلَّا لِنَعْلَمَ. يقول: إلا لنختبر ونبيِّن مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ، يطيع الرسول في تحويل القبلة، مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ، أي يرجع إلى دينه بعد تحويل الله القبلة. وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً، أي وقد كانت لثقيلة وهو صرف القبلة. إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، أي حفظ الله قلوبهم على الإسلام وأكرمهم باتباع محمد ﷺ في تحويل القبلة، وهم أصحاب محمد ﷺ قالوا: يا رسول الله فإخواننا الذين ماتوا ما صنع الله بصلاتهم التي صلوا إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، يعني لم يبطل إيمانكم وإنما تحولت قبلتكم. ويقال: يعني صلاتهم إلى بيت المقدس، التي صلوا إليها وماتوا عليها لأن اليهود قالوا: قد بطل إيمانكم حين تركتم القبلة، فنزل وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ يعني يبطل إيمانكم.
قال الضحاك: يعني لم يبطل تصديقكم بالقبلتين. ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ، يعني بالمؤمنين رحيم حين قبلها منهم ولم يضيع إيمانهم. قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: لَرَؤُفٌ بالهمزة على وزن رعف، وقرأ الباقون: رؤف على وزن فعول في جميع القرآن، وهما لغتان ومعناهما واحد.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٤ الى ١٤٥]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)
قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ، أي رفع بصرك إلى السماء وذلك أن النبي ﷺ قال لجبريل: «وَدِدْتُ لَوْ أنَّ الله تَعَالى صَرَفَنِي عَنْ قِبْلَةِ اليَهُودِ إلَى غَيْرِهَا» وإنما أراد الكعبة لأنها قبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء- عليهم السلام- وذلك لأنها كانت أدعى للعرب إلى الإسلام فقال له جبريل: إنما أنا عبد مثلك لا أملك شيئاً فاسأل ربك، فجعل النبي ﷺ يديم النظر إلى السماء فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ، أي رفع بصرك إلى السماء. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ، أي فلنحولنك ولنوجهنك في الصلاة قِبْلَةً تَرْضاها، يعني تهواها أي تميل نفسك إليها. فأمره الله تعالى بالتوجه فقال: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، يعني نحوه وتلقاءه وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي إلى الكعبة.
ثم قال: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، يعني أن القبلة إلى الكعبة هي الحق وهي قبلة إبراهيم عليه السلام. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ، يعني جحودهم القبلة إلى الكعبة فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بعلامة على تصديق مقالتك وهم اليهود والنصارى، فنزل قوله تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وهم اليهود والنصارى بِكُلِّ آيَةٍ، أي بكل علامة مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ، أي ما صلوا إلى قبلتك. وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ، أي بمصل إلى قبلتهم، وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ- يقال: معناه كيف ترجو أن يتبعوك ويصلوا إلى قبلتك وهم لا يتبعون بعضهم بعضاً.
ثم قال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ هذا الخطاب للنبي ﷺ والمراد منه أمته، يعني: لئن صليت إلى قبلتهم أو اتبعت مذهبهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، أي البيان أن دين الإسلام هو الحق والكعبة هي القبلة. إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ، أي الضارين بنفسك.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٦ الى ١٤٧]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ، وهم مؤمنو أهل الكتاب يَعْرِفُونَهُ يعني محمداً ﷺ بنعته
وصفته كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ بين الغلمان. قال عبد الله بن سلام: والله إني لأنا كنت أشد معرفة برسول الله ﷺ مني بابني، فقال له عمر- رضي الله عنه-: وكيف ذلك يا ابن سلام؟
فقال: لأني أشهد أنه رسول الله حقاً وصدقاً ويقيناً، وأنا لا أشهد بذلك على ابني لأني لا أدري ما أحدثت النساء بعدي فقال له: والله يا ابن سلام لقد صدقت أو أصبت.
ثم قال تعالى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ، يعني طائفة من اليهود لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ في كتابهم، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنه نبي مرسل. قال مقاتل: أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لم تطوفون بالبيت المبني بالحجارة؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الطَّوَافَ بِالبَيْتِ حَقٌّ وَإِنَّهُ هُوَ القِبْلَةُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ» فجحدوا ذلك فنزل قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ، يعني التوراة يعرفون أن البيت قبلة كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ذلك في أمر القبلة. ثم قال تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
يا محمد، أن الكعبة قبلة إبراهيم. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، أي من الشاكين. إنهم يعرفون أنها قبلة إبراهيم، عليه الصلاة والسلام.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٨]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨)
لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
، أي قبلة. والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد. أي لكل ذي ملة قبلةوَ مُوَلِّيها
، أي مستقبلها. وقيل: لكل دين وملة قبلة هو مولها. قرأ ابن عامر: «وَهُوَ مُوَلاَّهَا» والباقون بالكسر أي هو بنفسه موليها يعني الله مولاها وقال مقاتل: لكل أهل ملة قبلة هم مستقبلوها يريدون بها وجه الله تعالى. اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
، أي قال لهذا الأمة: استبقوا بالطاعات. وهذا كما قال في آية أخرى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: ٤٨]، أي جعلنا لكل قوم شريعة وسبيلاً، فإذا أخذوا بالسنة والمنهاج رضي عنهم. فأمر الله تعالى أهل هذه الشرائع أن يستبقوا الخيرات في الأعمال الصالحة، فقال تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا في الأرض أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
، يعني يقبض أرواحكم ويجمعكم يوم القيامة.
وقال مجاهد لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
أمر كل قوم بأن يحولوا وجوههم إلى الكعبة.
ويقال: ولكل أمة قبلكم قبلة أمرتهم بأن يستقبلوها فاستبقوا الخيرات، يقول: بادروا الأمم بالطاعات. ثم قال تعالى: يْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ
، يعني يقبض أرواحكم ويجمعكم يوم القيامة. نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
، أي هو قادر على جمعكم يوم القيامة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٠]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)
ثم قال عز وجل: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ بالصلاة شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي نحوه وتلقاءه. وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، يعني التوجه إلى الكعبة بالصلاة هُوَ الحق مِن رَّبّكَ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أي يجازيكم بأعمالكم، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ، أي لكي لا يكون لليهود عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، لأنهم يعلمون أن الكعبة هي القبلة فلا حجة لهم عليكم، إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، أي إلا من ظلم باحتجاجه فيما وضح له كما يقول الرجل لصاحبه:
مالك على الحجة إلا أن تظلمني. وقال بعضهم: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا، يعني ولا الذين ظلموا لا حجة لهم عليكم. وذكر عن أبي عبيدة أنه قال: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي ولا الذين ظلموا فهذا موضع واو العطف، فكأنه قال: ليس للناس عليكم حجة ولا الذين ظلموا منهم، أي لا حجة لهم عليكم.
فَلا تَخْشَوْهُمْ، أي بانصرافكم إلى الكعبة، وَاخْشَوْنِي في تركها. قرأ نافع في رواية ورش: لِئَلَّا بغير همز. والباقون: لِئَلَّا بالهمز لأن أصله (لأن لا)، وإنما أسقط نافع الهمزة للتخفيف. ثم قال تعالى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بتحويل القبلة وبإرسال الرسول، وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تهتدوا من الضلالة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥١]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)
قوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ، يعني محمدا ﷺ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا أي القرآن وقوله: مِنْكُمْ أي من العرب. ويقال: آدمي مثلكم لأنه لو كان من الملائكة لا يستطيعون النظر إليه، فأرسل آدمياً مثلكم يتلو عليكم القرآن وَيُزَكِّيكُمْ. قال الكلبي:
ويصلحكم بالزكاة. وقال مقاتل: يطهركم من الشرك والكفر. وقال الزجاج: خاطب به العرب أنه بعث رسولاً منكم، وأنتم كنتم أهل الجاهلية لا تعلمون الكتاب والحكمة، فكما أنعمت عليكم بالرسالة فاذكروني بالتوحيد. ويقال قوله: كما وصل بما قبله ومعناه: ولأتم نعمتي
عليكم كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم. ويقال: وصل بما بعده، ومعناه: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ. وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فاعرفوا هذه النعمة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٢]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)
فَاذْكُرُونِي بالتوحيد أَذْكُرْكُمْ يقول: اذكروني بالطاعة أذكركم بالمغفرة، فحق على الله أن يذكر من ذكره، فمن ذكره في طاعته، ذكره الله تعالى بخير ومن ذكر الله من أهل المعصية في معصية ذكره الله باللعنة وسوء الدار. ويقال: اذكروني في الرخاء، أذكركم عند البلاء. ويقال: اذكروني في الضيق أذكركم بالمخرج. ويقال: اذكروني في الخلاء، أذكركم في الملأ. ويقال: اذكروني في ملأ من الناس، أذكركم في ملأ من الملائكة. قال الفقيه: حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا محمد بن الفضيل الضبي، عن الحصين، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
ما اجتمع قوم يذكرون الله تعالى، إلا ذكرهم الله في ملأ أعز منهم وأكرم، وما تفرق قوم من مجلس لا يذكرون الله في مجلسهم، إلا كانت حسرة عليهم يوم القيامة. ويقال: اذكروني بالشكر، أذكركم بالزيادة. ويقال: اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة ويقال: اذكروني في الدنيا بالإخلاص أذكركم في الآخرة بالخلاص.
ثم قال تعالى: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ يعني اشكروا نعمتي التي أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا، ولا تجحدوا هذه النعمة. ويقال: النعمة في الحقيقة هي العلم وما سوى ذلك، فهو تحويل من راحة إلى راحة وليس الطّعام بنعمة، لأن الطعام إذا أكله الإنسان فبعد ساعة يطلب منه الفرج، والثوب الحسن ربما يمل منه إذا كان يؤذيه الحر أو البرد والعلم لا يمل منه صاحبه، بل ربما يطلب له الزيادة. فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة التي بعث رسولاً ليعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٣ الى ١٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤)
ثم قال عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، يعني صدّقوا بتوحيد الله تعالى. وهذا نداء المدح، وقد ذكرنا قبل هذا أن النداء على ست مراتب. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إذا سمعت الله يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَارْعَ له بسمعك فإنه أمر تؤمر به أو نهي تنهى عنه.
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ على أداء الفرائض وبالصلاة خاصة. قال الزجاج: استعينوا بالصبر على ما أنتم عليه وإن أصابكم مكروه. وقال مجاهد: استعينوا بالصبر أي بالصوم والصلاة. وقال الضحاك: استعينوا بالصبر على صوم شهر رمضان وعلى الصلوات الخمس.
ويقال: الصبر هو الصبر بعينه. ذكر في هذه الآية الطاعة الظاهرة والطاعة الباطنة، فأمر بالصبر والصلاة، لأنه ليس شيء من الطاعة الظاهرة أشد من الصلاة على البدن، لأنه يجتمع فيها أنواع الطاعات: الخضوع والإقبال والسكون والتسبيح والقراءة فإذا تيسر عليه الصلاة تيسر عليه ما سوى ذلك. وليس شيء من الطاعات الباطنة أشد من الصبر على البدن، فأمر الله بالصبر والصلاة لأنه حسن. ثم قال: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، فالله تعالى مع كل أحد، ولكن خصّ الصابرين لكي يعلموا أن الله سبحانه وتعالى يفرج عنهم.
قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ.
قال الضحاك: هم النفر الذين قتلوا عند بئر معونة. وقال الكلبي: هم الذين قتلوا ببدر إذ قتل من المسلمين يومئذٍ أربعة عشر رجلاً ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين وكان الناس يقولون: مات فلان ومات فلان، فأنزل الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ لأنهم في الحكم كالأحياء، لأنه يجري ثوابهم إلى يوم القيامة، ولأنهم يسرحون في الجنة حيث شاؤوا. كما قال في آية أخرى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ [آل عمران: ١٦٩] وَلكِنْ لاَّ تَشْعُرُونَ [البقرة: ١٥٤].
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٥ الى ١٥٧]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ، يعني المؤمنين بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. يقول: لنختبرنكم بخوف العدو، وهو الخوف الذي أصابهم يوم الخندق، حتى بلغت القلوب الحناجر والجوع وهو القحط الذي أصابهم، فكان يمضي على أحدهم أياماً لا يجد طعاماً. وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ، يعني ذهاب أموالهم، ويقال موت الماشية. وَالْأَنْفُسِ، يعني الموت والقتل والأمراض.
وَالثَّمَراتِ نقصان الثمرات، فلا تخرج الثمرات كما كانت تخرج أو تصيبها الآفة. ويقال:
موت الثمرات هو موت الولد وهو ثمرة القلب. ثم قال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، يعني الذين يصبرون على هذه المصائب والشدائد التي ذكرنا.
ثم وصفهم فقال تعالى: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ صبروا ولم يجزعوا، وقالُوا إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ
، يعني يقولون: نحن عبيد الله وفي ملكه إن عشنا فعليه أرزاقنا، وإن متنا فإليه مردنا وإليه راجعون بعد الموت، ونحن راضون بحكمه. أُولئِكَ، يعني أهل هذه الصفة عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ. والصلاة من الله تعالى على ثلاثة أشياء: توفيق الطاعة والعصمة عن المعصية ومغفرة الذنوب جميعاً، فبالصلاة الواحدة تتكون لهم هذه الأشياء الثلاثة، فقد وعد لهم الصلوات الكثيرة، ومقدار ذلك لا يعلمه إلا الله.
ثم قال: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ، أي الموفقون للاسترجاع. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: لم يكن الاسترجاع إلا لهذه الأمة، ألا ترى أن يعقوب- عليه السلام- قال: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يوسف: ٨٤] فلو كان له الاسترجاع، لقال ذلك وروي عن عثمان بن عطاء، عن أبيه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ذَكَرَ مُصِيبَةً أَوْ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ فَاسْتَرْجَعَ، جَدَّدَ الله ثَوَابَهُ كَيَوْمِ أُصِيبَ بِهَا». وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَلْيَتَذَكَّرْ مُصِيبَتَهُ فِيَّ، فَإِنَّهَا مِنْ أعْظَمِ المَصَائِبِ». وروي هذان الحديثان، عن علي بن أبي طالب، عن رسول الله ﷺ أيضاً. وروي عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه قال: نعم العدلان ونعم العلاوة فالعدلان قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، والعلاوة قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٨]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)
قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، قال أهل اللغة: الصفا الحجارة الصلبة التي لا تنبت بها شيء. والواحدة: صفاة. يقال: حصى وحصاة. والمروة: الحجارة اللينة.
والشعائر: علامة متعبداته. واحدها شعيرة. يعني أن الطواف بالصفا والمروة من أمور المناسك، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما. روي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ: فَلاَ جناح عليه أن لا يَطَّوَّفَ بِهِمَا. وروي عن ابن عباس، وأنس بن مالك أنهما كانا يقرآن كذلك. ومعنى ذلك، أن من حج البيت أو اعتمر فترك السعي، لا يفسد حجه ولا عمرته، ولكن يجب عليه جبر النقصان وهو إراقة الدم، وفي مصحف الإمام فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما بحذف كلمة (لا). وذلك أن أهل الجاهلية كان لهم صنمان على الصفا والمروة: أحدهما يقال له (اساف) والآخر (نائلة)، وكان المشركون يطوفون بين الصفا والمروة ويستلمون الصنمين. فلما قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعمرة القضاء، كان الأنصار لا يسعون فيما بين الصفا والمروة ويقولون: السعي فيما بينهما من أمر المشركين فنزلت هذه الآية. ويقال: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما فتح مكة، طاف بالبيت والمسلمون معه، فلما سعى بين الصفا والمروة، رفع المسلمون
أزرهم، وشمروا قمصهم كيلا يصيب ثيابهم ذينك الصنمين، فنزل قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ يعني من أمور المناسك. فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما، يعني لو أصاب ثيابه من ذلك لا يضره ولا إثم عليه فخرج عمر فتناول المعول وكسر الصنمين.
قال الفقيه: حدّثنا الفقيه أبو جعفر قال: حدّثنا علي بن أحمد قال: حدثنا محمد بن الفضل، عن يعلى بن منبه، عن صالح بن حيان، عن أبي بريدة، عن أبيه قال: دخل جبريل- عليه السلام- المسجد، فبصر بالنبي ﷺ نائماً في ظل الكعبة فأيقظه فقام وهو ينفض رأسه ولحيته من التراب، فانطلق به نحو باب بني شيبة فلقيهما ميكائيل. فقال جبريل لميكائيل: ما يمنعك أن تصافح النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أجد من يده ريح نحاس. فقال جبريل للنبي ﷺ أفعلت ذلك؟ وكان النبي ﷺ نسي ذلك ثم ذكر فقال: «صَدَقَ أَخِي، مَرَرْتُ أوَلَ أَمْسٍ عَلَى إِساف وَنَائِلَةَ فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى أَحَدِهِما وَقُلْتُ: إنَّ قَوْماً رَضُوا بِكُمَا آلِهَةً مَعَ الله هُمْ قَوْمُ سُوءٍ».
قال صالح: قلت لأبي بريدة: وما أساف ونائلة؟ قال: كانا إنسانين من قريش يطوفان بالكعبة، فوجدا فيها خلوة فراود أحدهما صاحبه، فمسخهما الله تعالى نحاساً، فجاءت بهما قريش وقالوا: لولا أن الله رضي بأن نعبد هذين الإنسانين ما مسخهما نحاساً. وأساف كان رجلاً ونائلة كانت امرأة. قال الزجاج: الجناح في اللغة: أخذ من جنح إذا مال وعدل عن المقصد. وأصل ذلك من جناح الطير.
قوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً. قرأ حمزة والكسائي يَطَوَّعْ بالياء وجزم العين، لأن الأصل يتطوع فأدغمت التاء في الطاء وشددت. وقرأ الباقون تَطَوَّعَ على معنى الماضي والمراد به الاستقبال، يعني إذا زاد في الطواف حول البيت على ما هو واجب عليه، فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ يقبل منهم، عَلِيمٌ بنياتهم وبما نووا وقال القتبي: يطوف أصله يتطوف فأدغمت التاء في الطاء. ويقال: الجناح: الإثم. ويقال إن الله شاكر عليم يقبل اليسير ويعطي الجزيل ويقال:
إن الله شاكر بقبول أعمالكم عليم بالثواب. ويقال: الطواف للغرباء أفضل من الصلاة، لأنهم يقدرون على الصلاة إذا رجعوا إلى منازلهم، ولا يمكنهم الطواف إلا في ذلك الوقت، فالله تعالى قد حثّ على الطواف بقوله: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٩ الى ١٦٠]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مآ أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مآ أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ نزلت في شأن رؤساء اليهود، منهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وابن صوريا، يقول: يكتمون ما أنزلنا في التوراة من البينات:
الحلال والحرام وآية الرجم. وَالْهُدى، يعني أمر محمد ﷺ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ، أي في التوراة. ويقال: في القرآن أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، أي يخذلهم الله ويلعنهم اللاعنون قال ابن عباس: وذلك أن الكافر إذا وضع في قبره، سئل من ربك وما دينك؟ فيقول: لا أدري. فيقال له: ما دريت فهكذا كنت في الدنيا، ثم يضربه ضربة يصيح منها صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، فلا يسمع صوته شيء إلا يلعنه. فذلك قوله تعالى: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ وروي عن ابن مسعود أنه قال: إذا تلاعن اثنان، فإن كان أحدهما مستحقاً للعنة رجعت اللعنة إليه، وإن لم يكن يستحق أحدهما اللعنة ارتفعت اللعنة إلى السماء، فلم تجد هناك موضعاً فتنحدر فترجع إلى الذي تكلم بها إن كان أهلاً لذلك وَإِنَّ لم يكن أهلاً لذلك رجعت إلى الكفار، وفي بعض الروايات إلى اليهود. فذلك قوله تعالى:
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ.
ثم استثنى التائبين من اللعنة، فقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِن الكفر واليهودية وَأَصْلَحُوا أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم. ويقال: معناه وأصلحوا لمن أفسد من السفلة، وبينوا صفته في كتبهم. قوله: فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ، أي أتجاوز عنهم. وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ المتجاوز لمن تاب ورجع فتقبل توبته.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦١ الى ١٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ، أي ثبتوا على كفرهم حتى ماتوا على ذلك.
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. قال الكلبي: يعني لعنة المؤمنين خاصة.
وقال بعضهم: يلعنهم لعنة جميع الناس، لأن من يخالف دينهم يلعنهم في الدنيا، وأهل دينهم يلعنونهم في الآخرة، كما قال في آية أخرى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت: ٢٥] ثم قال: خالِدِينَ فِيها، أي في اللعنة. ولعنته: عذاب النار أي ما توجبه اللعنة. لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ، يعني لا يهون عليهم طرفة عين. وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ، يعني لا يؤجلون.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٣]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، قال مقاتل: يعني ربكم رب واحد. وقال الضحاك: كان لمشركي
العرب ثلاثمائة وستون صنماً يعبدونها من دون الله تعالى، فدعاهم الله إلى التوحيد والإخلاص لعبادته فقال: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. ويقال: نزلت هذه الآية في صنف من المجوس يقال لهم: المانوية فكان رئيسهم يقال له: ماني، فقال لهم أرى الأشياء زوجين وضدين، مثل الليل والنهار والنور والظلمة والحر والبرد والخير والشر والسرور والحزن والذي يصلح للشيء لا يصلح لضده، فمن كان خالق النور والخيرات لا يكون خالق الشر والظلمات فهما اثنان:
أحدهما يخلق الشر والآخر يخلق الخير، فنزلت هذه الآية وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، أي خالقكم خالق واحد هو خالق الأشياء كلها.
وقوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، قال بعض الناس: هذا الكلام نصفه كفر، وهو قوله: لاَ إله، ونصفه إيمان وهو قوله: إِلَّا هُوَ. ولكن هذا الكلام ليس بسديد، لأن الله تعالى أمر رسوله بأن يأمرهم حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فلا يجوز أن يأمرهم بالكفر.
وقال بعضهم: النصف الأول منسوخ والنصف الثاني ناسخ. وهذا أيضاً لا يصح، لأن المنسوخ هو الذي كان مباحاً قبل النسخ والكفر لم يكن مباحاً أبداً. وأحسن ما قيل فيه: إن قوله: لا إِلهَ نفي معبود الكفار، وقوله: إِلَّا هُوَ إثبات معبود المؤمنين. أو نقول: لا إِلهَ نفي الألوهية عمن لا يستحق الألوهية، وقوله إِلَّا هُوَ إثبات الألوهية لمن يستحق الألوهية.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٤]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
لما نزلت هذه الآية، أنكر المشركون توحيد الله تعالى، وطلبوا منه دليلاً على إثبات وحدانيته فنزلت هذه الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يعني في خلق السموات والأرض دليل على وحدانية الله في أنه خلقها بغير عمد ترونها وزينها بمصابيح، والأرض بسطها أيضاً وجعل لها أوتاداً وهي الجبال وفجر فيها الأنهار وجعل فيها البحار. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، يعني في مجيء الليل وذهاب النهار، ومجيء النهار وذهاب الليل. ويقال:
اختلافهما في الكون. ويقال: نقصان الليل وتمام النهار، ونقصان النهار وتمام الليل. وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ. يعني السفن. ويقال للسفينة الواحدة: الفلك ولجماعة السفن: الفلك.
يعني السفن التي تسير في البحر، فتقبل مرة وتدبر مرة بريح واحدة فتسير في البحر بِما يَنْفَعُ النَّاسَ من الكسب والتجارة وغير ذلك.
وقوله: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ، يعني المطر الذي ينزل من السماء، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي اخضرت الأرض بعد يبسها وَبَثَّ فِيها، يقول: خلق في الأرض مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ قرأ حمزة والكسائي: الريح بغير ألف والباقون:
الرِّياحِ بالألف. واختار أبو عبيدة في قراءته: أن كلّ ما في القرآن من ذكر العذاب الريح بغير ألف، وكل ما في القرآن من ذكر الرحمة: الرياح بالألف، واحتج بما روى أنس- رضي الله عنه- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه كان إذا هاجت الريح قال: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رياحا ولا تجعلها ريحا».
ومعنى قوله تعالى وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي هبوب الريح مرة جنوباً ومرة شمالاً ومرة صباً ومرة دبوراً.
قوله تعالى: وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ، أي المذلل والمطوع، بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، أي في هذه الأشياء التي ذكر في هذه الآية، آيات لوحدانيته لمن كان له عقل وتمييز. ويقال: هذه الآية تجمع أصول التوحيد، وقد بيّن فيها دلائل وحدانيته، لأن الأمر لو كان بتدبير اثنين مختلفين في التدبير، لفسد الأمر باختلافهما. كما قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢].
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً، يعني بعض الناس وصفوا لله شركاء وأعدالاً وهي الأوثان. يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، قال بعضهم: معناه يحبون الأوثان كحبهم لله تعالى، لأنهم كانوا يقرون بالله تعالى. وقال بعضهم: معناه، يحبون الأوثان كحب المؤمنين لله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، لأن الكفار يعبدون أوثانهم في حال الرخاء، فإذا أصابتهم شدة تركوا عبادتها والمؤمنون يعبدون الله تعالى في حال الرخاء والشدة، فهذا معنى قوله تعالى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. فإن قيل: إذا كان المؤمنون أشد حباً لله فما معنى قوله:
يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ؟ قيل له: يحتمل أن بعض المؤمنين حبهم مثل حبهم وبعضهم أشد حباً، وفي أول الآية ذكر بعض المؤمنين، وفي آخر الآية ذكر المؤمنين الذين هم أشد حباً لله.
والحب لله أن يطيعوه في أمره وينتهوا عن نهيه، فكل من كان أطوع لله فهو أشد حباً له. كما قال القائل:
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صادقا لأطعته إن المحب لِمَنْ يُحْبُّ مُطِيعُ
ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا يا محمد. إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ، يعني حين يرون العذاب. أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً، وفي الآية مضمر ومعناه: يا محمد لو رأيت الذين ظلموا في العذاب، لرأيت أمراً عظيماً كما تقول: لو رأيت فلاناً تحت السياط فيستغني عن الجواب، لأن معناه مفهوم. فكذلك هاهنا لم يذكر الجواب، لأن المعنى معلوم. قرأ نافع وابن عامر: وَلَوْ تَرَى بالتاء على معنى المخاطب للنبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ الباقون: بالياء ومعناه ولو يرى عبدة الأوثان اليوم ما يرون يوم القيامة، أن الأوثان لا تنفعهم شيئاً وأن القوة لله جميعاً، تركوا عبادتها. وقرأ ابن عامر إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ بضم الياء على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون بنصب الياء على معنى الخبر عنهم. وقرأ الحسن وقتادة: أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً على معنى الابتداء، وقرأ العامة أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ بالنصب على معنى البناء، يعني بأن القوة لله جميعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ، يعني للرؤساء والاتباع من أهل الأوثان.
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا، يعني القادة مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وهم السفلة وَرَأَوُا الْعَذابَ، يقال حين يروا العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ، أي العهود والحلف التي كانت بينهم في الدنيا. وقال القتبي: الأسباب يعني الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا. وقال بعضهم وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ، أي الخلة والمواصلة، كما قال في آية أخرى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: ٦٧] ويقال: الأرحام والمودة التي كانوا يتواصلون بها فيما بينهم.
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، أي السفلة: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً، أي رجعة إلى الدنيا وذلك أن الرؤساء لما تبرؤوا منهم ولا ينفعونهم شيئاً، ندمت السفلة على اتباعهم في الدنيا ويقولون في أنفسهم: لو أن لنا كَرَّةً أي رجعة إلى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ، أي من القادة كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا القادة. قال الله تعالى: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ لأنهم يرون أعمالهم غير مقبولة، لأنها كانت لغير وجه الله تعالى فيكون ذلك حسرة عليهم. وقوله تعالى:
وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ، يعني التابع والمتبوع والعابد والمعبود.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٨ الى ١٦٩]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩)
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً، وذلك أن قوماً من العرب مثل بني عامر وبني مدلج وخزاعة وغيرهم، حرموا على أنفسهم أشياء مما أحل الله من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة وغير ذلك، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً من الحرث والأنعام، وحلالاً نصب على الحال. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، يعني طاعات الشيطان. وقال مقاتل: يعني تزيين الشيطان. ويقال: وساوس الشيطان. وقال القتبي: الخطوات جمع الخطوة. وقال الزجاج: خطواته أي طرقه، ومعناه: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، أي ظاهر العداوة.
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ، يعني بالإثم والقبيح من العمل. ويقال: السوء الذي يجب به الحبس والحساب، والفحشاء: التي يستوجب بها العقوبة في النار. ويقال: السوء الذي يجب به التعزير في الدنيا، والفحشاء التي يجب بها الحد. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، يعني أن الشيطان يأمركم بأن تكذبوا على الله، لأنهم كانوا يقولون هذه الأشياء حرم الله علينا.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، أي اعملوا بما أنزل الله في القرآن من تحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم الله. قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا، يعني ما وجدنا عليه آباءنا. قال الله تعالى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ، معناه أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهالاً فيتابعوهم بغير حجة؟ فكأنه نهاهم عن التقليد وأمرهم بالتمسك بالحجة. وهذه الواو مفتوحة وهي واو: أَوَلَو لأنها واو العطف أدخلت عليها ألف التوبيخ وهي ألف الاستفهام.
قرأ أبو عمرو ومن تابعه من أهل البصرة: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ [البقرة: ١٦٧] بكسر الهاء والميم، وكذلك في كل موضع تكون الهاء والميم بعدهما ألف ولام. مثل قوله تعالى:
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة: ٦١] وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ [الحجر: ٣]. وكان عاصم وابن عامر ونافع يقرءون بكسر الهاء وضم الميم. وكان حمزة والكسائي يقرآن: بضم الهاء والميم. وكان ابن كثير يقرأ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ بضم الميم، وكذلك إِنَّما يَأْمُرُكُمْ وكذلك كل ميم نحو هذا مثل: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: ٧]، عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ [البقرة: ٧]. وكان نافع في رواية ورش عنه يقرأ: سكون الميم، إلا أن يستقبله ألف أصلية فيضم الميم مثل قوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ [البقرة: ٦ ويس: ١٠] إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ [الكهف: ٢١]، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً [نوح: ١٤]. وكان حمزة والكسائي يقرءون بسكون الميم، إلا أن يستقبله ألف ولام مثل قوله: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة: ٦١].
وأما قوله: خُطُواتِ الشَّيْطانِ [البقرة: ١٦٨ وغيرها] كان نافع وأبو عمرو وحمزة وعصام في رواية أبي بكر يقرءون خُطُواتِ بجزم الطاء. وقرأ الكسائي وابن كثير وعاصم في رواية حفص: خُطُواتِ بضم الطاء وهما لغتان ومعناهما واحد.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧١]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١)
ثم قال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً. فهذا مثل ضربه الله تعالى لأهل الكفر، إنهم مثل البهائم لا يعقلون شيئاً سوى ما يسمعون من النداء.
وفي الآية إضمار ومعناه: مثلك يا محمد مع الكفار، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً. وهذا قول الزجاج. وقال القتبي: قال الفراء: ومثل واعظ الذين كفروا فحذف ذكر الواعظ. كما قال تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢]. وقال القتبي أيضاً: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا، يعني ومثلنا في وعظهم، فحذف اختصاراً إذ كان في الكلام ما يدل عليه، كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ، يعني الراعي إذا صاح في الغنم لا يسمع إلا دعاءً ونداءً فحسب، ولا تفهم قولاً ولا تحسن جواباً، فكذلك الكافر لا يعقل المواعظ. صُمٌّ عن الخبر فهم لا يسمعون بُكْمٌ، أي خرس لا يتكلمون بالحق عُمْيٌ لا يبصرون الهدى. ويقال: كأنّهم صم، لأنهم يتصاممون عن سماع الحق. فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ الهدى.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ، يعني من الحلال من الحرث والأنعام. وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، يعني إن كنتم تريدون بترك أكله رضاء الله تعالى فكلوه، فإن رضي الله تعالى أن تحلوا حلاله وتحرموا حرامه. ويقال: إن محرم ما أحل الله مثل محل ما حرم الله. ويقال: في هذه الآية بيان فضل هذه الأمة، لأنه تعالى خاطبهم بما خاطب به أنبياءه- عليهم الصلاة والسلام- لأنه قال لأنبيائه: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: ٥١]، وقال لهذه الأمة كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وقال في أول الآية: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [البقرة: ١٦٨]. فلما أمر الله تعالى بأكل هذه الأشياء التي كانوا يحرمونها على أنفسهم. قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن لم يكن هذه الأشياء محرمة فالمحرمات ما هي؟ فبيّن الله
113
تعالى المحرمات، فقال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ. والميتة سوى السمك والجراد، والدم يعني الدم المسفوح أي الجاري. كما قال في آية أخرى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام: ١٤٥]، يعني حرم عليكم، ولحم الخنزير فذكر اللحم خاصة والمراد به اللحم والشحم وجميع أجزائه. وهذا شيء قد أجمع المسلمون على تحريمه فقد ذكر الميتة وإنما انصرف إلى بعض منها وأحل البعض منها وهو السمك والجراد وذكر الدم وإنما المراد به بعض الدم، لأنه لم يدخل فيه الكبد والطحال وذكر لحم الخنزير فانصرف النهي إلى اللحم وغيره. وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، يعني ما ذبح بغير اسم الله تعالى. والإهلال في اللغة: هو رفع الصوت. وكان أهل الجاهلية إذا ذبحوا، رفعوا الصوت بذكر آلهتهم فحرم الله تعالى على المؤمنين أكل ما ذبح لغير اسم الله تعالى. وفي الآية دليل: أنه إذا ترك التسمية عمداً لا يؤكل، لأنه قد ذبح بغير اسم الله تعالى.
ثم إن الله تعالى علم أن بعض الناس يبتلون بأكل الميتة عند الضرورة، فرخص لهم في ذلك بقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ. قرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو: فَمَنِ اضْطُرَّ بكسر النون وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان ومعناهما واحد. يقول: فمن أجهد إلى شيء مما حرم الله إلى أكل الميتة غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، يعني غير مفارق الجماعة ولا عاد على المسلمين بالسيف فمن خرج لقطع الطريق، أو خرج على إمام المسلمين فلا رخصة له عند بعضهم.
وقال بعضهم: من خرج في معصية فلا رخصة له. وقال بعضهم: كل من اضطر إلى أكل الميتة رخص له أن يأكل سواء أخرج للمعصية أو غيرها. وهذا قول أصحابنا. ومعنى قوله:
غَيْرَ باغٍ، أي غير طالب للحرام ولا راض بأكله. وَلا عادٍ، يعني لا يعود إلى أكله بعد أكل مقدار ما يسد به الرمق.
وروي عن ابن عباس نحو هذا. قال: حدّثنا محمد بن سعيد الترمذي قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال: حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال: من أكل شيئاً من هذه الأشياء وهو مضطر، فلا حرج عليه ومن أكله وهو غير مضطر، فقد بغى واعتدى.
ثم اختلفوا في حد الاضطرار الذي يحل له أكل الميتة. قال بعضهم: إذا كان بحال يخاف على نفسه التلف وهو قول الشافعي. وروي عن ابن المبارك أنه قال: إذا كان بحال لو دخل السوق لا ينظر إلى شيء سوى الخبز. وقال بعضهم: إذا كان بحال يضعفه عن أداء الفرائض.
وقد اختلفوا أيضاً في أكله: قال بعضهم: أكله حرام إلا أنه لا إثم عليه، ألا ترى أنه قال
114
في سياق الآية: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وقال بعضهم: هو حلال ولا يسعه تركه، لأنه قال في آية أخرى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام: ١١٩]، فلما استثني منه ثبت أنه حلال. وروي عن مسروق أنه قال: من اضطر إلى ميتة فلم يأكل حتى مات، دخل النار.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٤ الى ١٧٦]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ، نزلت في رؤساء اليهود كانوا يرجون أن يكون النبي- عليه السلام- منهم، فلما كان من غيرهم خشوا بأن تذهب منافعهم من السفلة، فعمدوا إلى صفة النبي ﷺ فغيّروها. ويقال: غيروا تأويلها فنزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ، يعني في التوراة بكتمان صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلم وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، يعني يختارون به عرضاً يسيراً من منافع الدنيا. أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، يعني يأكلون الحرام. وإنما سمي الحرام ناراً، لأنه يستوجب به النار، كما قال في آية أخرى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: ١٠].
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أي لا يكلمهم بكلام الخير، لأنه يكلمهم بكلام العذاب حيث قال تعالى: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: ١٠٨]، وَلا يُزَكِّيهِمْ، أي ولا يطهرهم من الأعمال الخبيثة السيئة. وقال الزجاج: ولا يزكيهم أي لا يثني عليهم خيراً، ومن لا يثني عليه فهو معذب وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، أي وجيع يعني الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، وكذلك كل من كان عنده علم فاحتاج الناس إلى ذلك فكتمه، فهو من أهل هذه الآية. وهذا كما روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «مَنْ كَتَمَ عِلْماً، أَلْجَمَهُ الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ».
ثم قال: أُولئِكَ الَّذِينَ، يعني رؤساء اليهود الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى، يعني اختاروا الكفر على الإيمان وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ، يعني اختاروا النار على الجنة فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، يقول: فما الذي أجرأهم على فعل أهل النار؟ ويقال: معناه فما أبقاهم
في النار؟ كما يقال: فما أصبر فلاناً على الحبس: أي أبقاه؟ ذلِكَ، أي ذلك العذاب بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، أي القرآن بِالْحَقِّ، أي بالعدل. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ، أي في القرآن لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ، أي في ضلالة بيِّنة. ويقال: معناه أن الله تعالى أنزل القرآن على محمد ﷺ بالعدل، فتركوا اتباعه وخالفوه فاستوجبوا بذلك العذاب. ويقال:
لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ، أي في خلاف بعيد من الحق. وذكر عن قتادة أنه قال: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، أي فما أجرأهم على العمل الذي يقرب إلى النار. وروي عن مجاهد أنه قال: ما أعلمهم بعمل أهل النار. ويريد ما أدومهم على عمل أهل النار. وقال أبو عبيدة: ما الذي صيرهم ودعاهم إلى النار؟
ثم قال:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٧]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ. قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص: لَيْسَ الْبِرَّ بنصب الراء على معنى خبر ليس. وقرأ الباقون: بالرفع على معنى اسم ليس. من قرأ بالرفع فهو الظاهر في العربية، لأن ليس يرفع الاسم الذي بعده بمنزلة كان وأما من قرأ بالنصب، فإنه يجعل الاسم ما بعده ويجعل (البر) خبره. وتفسير الآية قال مقاتل: في قوله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ، أي ليس البر أن تحولوا وجوهكم في الصلاة قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا تعملوا غير ذلك، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، يعني صدق بالله بأنه واحد لا شريك له. قرأ نافع وابن عامر وَلكِنَّ الْبِرَّ بكسر النون وضم الراء... وقرأ الباقون: وَلكِنَّ الْبِرَّ بنصب النون مشددة وبنصب الراء. ويقال: معناه ليس البر كله في الصلاة ولكن البر ما ذكر في هذه الآية من العبادات. ثم اختلفوا في معنى قوله: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. قال بعضهم: معناه ولكن ذو البر من آمن بالله. وقال بعضهم: معناه ولكن البر بر من آمن بالله وكلا المعنيين ذكرها الزجاج في كتابه. وقال بعضهم ليس البار من يولي وجهه إلى المشرق والمغرب، ولكن البار من آمن بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ.
116
ثم ذكر في هذه الآية خمسة أشياء من الإيمان، فمن لم يقر بواحدة منها فقد كفر.
أحدها: الإيمان بالله تعالى أنه واحد لا شريك له والتصديق باليوم الآخر وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال وأنه كائن، وأن أهل الثواب يصلون إلى الثواب وأهل العقاب يصلون إلى العقاب والتصديق بالكتاب أنه منزل من الله تعالى القرآن وسائر الكتب: التوراة والإنجيل والزبور، ويقر بالملائكة أنهم عبيده ويقر بالنبيين أنهم رسله وأنبياؤه فهذه الخمس من الإيمان فمن جحد واحدة منها فقد كفر. ثم ذكر الفضائل فقال تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ، يعني يعطي المال على شهوته وجوعه وهو شحيح يخشى الفقر، ويأمل العيش. ويقال: على حبه الإعطاء بطيبة من نفسه، يعطي ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ، يعني الضيف النازل وَالسَّائِلِينَ الذين يسألون الناس وَفِي الرِّقابِ، يعني المكاتبين. وقد قيل: (ابن السبيل) هو المنقطع من ماله.
ثم ذكر الفرائض فقال تعالى: وَأَقامَ الصَّلاةَ المكتوبة، وَآتَى الزَّكاةَ المفروضة.
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا فيما عاهدوا فيما بينهم وبين الله تعالى وفيما بينهم وبين الناس. وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ. أي بالبأساء وهي شدة الفقر البأس قال القتبي: يعني الفقر وهو من البؤس والضراء المرض والزمانة. وَحِينَ الْبَأْسِ، يعني يصبرون عند الحرب. وقال القتبي: البأس: الشدة ومنه يقال: لا بأس عليك يعني لا شدة عليك، فلهذا سمي الحرب البأس، لأن فيه شدة. ثم قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا يعني صدقوا في إيمانهم، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ عن نقض العهد.
فإن قيل: أيش معنى قوله: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وموضعه موضع رفع ولم يقل: والصابرون؟ قيل له: قد قال بعض من تعسف في كلامه: إن هذا غلط الكاتب حين كتبوا مصحف الإمام والدليل على ذلك ما روي عن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- أنه نظر في المصحف وقال: أرى فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها وهكذا قال في سورة النساء:
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء: ١٦٢] وفي سورة المائدة وَالصَّابِئُونَ. لكن الجواب عند أهل العلم أن يقال: إنما صار نصباً للمدح والكلام يصير نصباً للمدح أو للذم. ألا ترى إلى قول القائل:
نَحْنُ بَنِي ضَبَّةَ أَصْحَابُ الجَمَلِ وإنما جعله نصباً للمدح. وروي عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن رجلا سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلم عن البر فنزلت هذه الآية: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ الآية. وقال الضحاك أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا يعني صدقت نياتهم فاستقامت قلوبهم بأعمالهم. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، يعني المطيعون لله تعالى. ثم قال تعالى:
117

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٨ الى ١٧٩]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى، يعني فرض عليكم وأوجب عليكم القصاص. فإن قيل: الفرض على من يكون؟ على الولي أو على غيره؟ قيل له: الفرض على القاضي إذا اختصموا إليه، بأن يقتضي على القاتل بالقصاص إذا طلب الولي، لأن الله تعالى قد خاطب جميع المؤمنين بالقصاص ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعاً أن يجتمعوا على القصاص فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص، فخاطب الولي بالقصاص وخاطب غيره بأن يعين الولي على ذلك. وهو قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ، أي فرض عليكم إذا كان في القتل عمداً.
الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى. قال بعضهم: كان في أول الشريعة أن الحر يقتل بالحر والعبد بالعبد، ولا يقتل الحر بالعبد ولا العبد بالحر، ولا الذكر بالأنثى ثم نسخ بقوله تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: ٤٥]. وقال بعضهم هي غير منسوخة، لأنه قد ذكر هذه الآية: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ولم يذكر في هذه الآية: أن العبد لو قتل حراً ما حكمه، فبيّن في آية أخرى وهو قوله: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية، فكان بينهم قتلى وجراحات وكان لأحدهما طول على الأخرى فقالوا: لنقتلن بالعبد منا الحر منكم، وبالمرأة الرجل منكم، وبالرجل منا الرجلين منكم فلما جاء الإسلام طلب بعضهم من بعض ذلك، فنزلت هذه الآية: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى.
ثم قال تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ، أي ترك ولي المقتول من أخيه: أي القاتل ولم يقتله وأخذ الدية. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ، يعني يطلب الدية بالرفق ولا يعسر عليه، وأمر بالمطلوب بأن يؤدي الدية إلى الطالب لقوله: وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ. وقال القتبي فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ قال: قبول الدية في العمد والعفو عن الدم. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ، أي مطالبة جميلة وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ لا يبخسه ولا يمطله، معناه ولا يدفعه إذا عفا أحد ولي القصاص صار نصيب الآخر ملأ فيتبعه بالمعروف، والقاتل يؤدي إليه نصيبه بإحسان.
ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ، لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو وليس لهم قود ولا دية، فجعل الله تعالى القصاص والدية والعفو تخفيفاً لهذه الأمة، فمن شاء قتل، ومن شاء أخذ الدية، ومن شاء عفا. وقال بعض الناس: إن الولي إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل، وهو قول الشافعي، وقال أصحابنا: ليس له أن يأخذ الدية إلا برضا القاتل. وليس في هذه الآية دليل، أن له أن يأخذ الدية بكره منه، وفيها دليل أن له أن يقبل الدية وإذا رضي القاتل وَاصْطَلَحَا على ذلك.
ثم قال تعالى: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ، يعني أن يقتل بعد ما يأخذ الدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أي وجع. وقال قتادة: يقتل ولا يتقبل منه الدية إذا اعتدى، واحتج بما روي عن النبي ﷺ أنه قال: «لا أَعْفِي عَنْ أحَدٍ قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ». ولكن معناه عندنا: أنه إذا طلب الولي القتل، فأما إذا عفا عنه الثاني وتركه جاز عفوه، لأنه قتل بغير حق فصار حكمه حكم القاتل الأول، لأنه لو عفي عنه لجاز ذلك فكذلك الثاني. ثم قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ بقاء، لأن الناس يعتبرون بالقصاص فيمتنعون عن القتل. وهذا كما قال القائل:
أَبْلِغْ أَبَا مَاِلكٍ عَنِّي مُغَلْغَلَة وَفِي العِقَابِ حَيَاةٌ بَيْنَ أَقْوَام
وهذا معنى قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ، يعني يا ذوي العقول. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ القتل مخافة القصاص.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٠ الى ١٨٢]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ، أي فرض عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً، أي مالاً.
الخير في القرآن على وجوه، أحدها: المال كقوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وقوله: مآ أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ [البقرة: ٢١٥]، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ [البقرة: ٢٧٢] أي المال. والثاني: الإيمان كقوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً [الأنفال: ٢٣] أي إيماناً، وكقوله تعالى: وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً [هود: ٣١]. والثالث الخير: الفضل كقوله تعالى: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون: ١٠٩ و ١١٨]. والرابع: العافية كقوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ [الأنعام: ١٧] وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ [يونس: ١٠٧]. والخامس: الأجر كقوله: لَكُمْ فِيها خَيْرٌ [الحج: ٣٦] أي أجر.
وقال بعضهم: الوصية واجبة على كل مسلم، لأن الله تعالى قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ، أي فرض عليكم الوصية. وروي عن ابن عمر، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «مَا حَقُّ امرئ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَةً وَعِنْدَهُ مَالٌ يُوَصِي بِهِ، إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَه» وقال بعضهم: هي مباحة وليست بواجبة. وقد روي عن الشعبي أنه قال: الوصية ليست بواجبة فمن شاء أوصى ومن شاء لم يوص. وقال إبراهيم النخعي: مات رسول الله ﷺ ولم يوص، وقد أوصى أبو بكر- رضي الله عنه- فإن أوصى فحسن، وإن لم يوص فليس عليه شيء. وقال بعضهم: إن كان عليه حج أو كفارة أي شيء من الكفارات فالوصية واجبة، وإن لم يكن عليه شيء من الواجبات فهو بالخيار إن شاء أوصى وإن شاء لم يوص. وبهذا القول نأخذ.
ثم بيّن مواضع الوصية فقال تعالى: الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ. قال مجاهد: كان الميراث للولد والوصية للوالدين والأقربين، فصارت الوصية للوالدين منسوخة.
وروى جويبر، عن الضحاك أنه قال: نسخت الوصية للوالدين والأقربين ممن يرث، وثبتت الوصية لمن لا يرث من القرابة. ويقال: في الآية تقديم وتأخير، معناه كتب عليكم الوصية للوالدين والأقربين إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت وكانوا يوصون للأجنبيين ولم يوصوا للقرابة شيئاً، فأمرهم الله تعالى بالوصية للوالدين والأقربين. ثم نسخت الوصية للوالدين بآية الميراث في قوله: بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، أي واجباً عليهم.
وقوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ، أي غيّره بعد ما سمع الوصية فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ، أي وزره على الذين يبدلونه ويغيرونه لا على الموصي، لأن الموصي قد فعل ما عليه. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بالوصية عَلِيمٌ بثوابها وبجزاء من غيّر الوصية. فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً، أي علم من الموصي الجنف وهو الميل عن الحق فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، إذا غيّر وصيَّته فردها إلى الحق، لأن تبديله كان للإصلاح ولم يكن للجور. وقال الكلبي: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً، أي علم من الميت الخطأ في الوصية، أَوْ إِثْماً، يعني تعمداً للجور في وصيته فزاد على الثلث فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، أي رد ما زاد على الثلث فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. هكذا قال مقاتل: وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: الإضرار في الوصية من الكبائر.
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر: «فَمَنْ خَافَ مِنْ موَصّ» بنصب الواو وتشديد الصاد، وقرأ الباقون: بسكون الواو وتخفيف الصاد فمن قرأ بالنصب والتشديد، فهو من وصّى يوصي ومن قرأ بالتخفيف، فهو من أوصى يوصي. وهما لغتان ومعناهما واحد ف إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، معناه غفور لمن جنف رحيم لمن أصلح.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٣ الى ١٨٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
120
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ، يعني فرض عليكم صيام رمضان، كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أي فرض على الذين من قبلكم من أهل الملل كلها. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الأكل والشرب والجماع بعد صلاة العشاء الآخرة وبعد النوم. ويقال:
كما كتب في الذين من قبلكم في الفرض. ويقال: كما كتب على الذين من قبلكم في العدد أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، أي معلومات وإنما صارت الأيام نصباً لنزع الخافض، ومعناه في أيام معدودات. وقال مقاتل: كل شيء في القرآن معدودة أو معدودات فهو دون الأربعين، وما زاد على ذلك لا يقال معدودة.
ثم قال تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً، فلم يقدر على الصوم أَوْ عَلى سَفَرٍ، فلم يصم. فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، أي فعليه أن يقضيها بعد مضي الشهر مثل عدد الأيام التي فاتته.
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ، أي يطيقون الصوم فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، أي يدفع لكل مسكين
121
مقدار نصف صاع من حنطة ويفطر ذلك اليوم. فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً، أي تصدق على مسكينين مكان كل يوم أفطره، فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ من أن يطعم مسكيناً واحداً. والصيام خير له من الإفطار وهو قوله: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ من أن تفطروا وتطعموا. قال الكلبي:
كان هذا في أول الإسلام ثم نسخت هذه الآية بالآية التي بعدها، وهكذا قال القتبي، وهكذا روي، عن سلمة بن الأكوع أنه قال: لما نزلت هذه الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، كان من أراد أن يفطر ويفدي فعل، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وهو قوله:
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. وقال الشعبي: لما نزلت هذه الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، كان الأغنياء يطعمون ويفطرون ويفتدون ولا يصومون، فصار الصوم على الفقراء، فنسختها هذه الآية فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، فوجب الصوم على الغني والفقير، وقال بعضهم: ليست بمنسوخة، وإنما نزلت في الشيخ الكبير. وروي عن عائشة أنها كانت تقرأ: «وَعَلَى الَّذِينَ يَطُوقُونَهُ»، يعني يكلفونه فلا يطيقونه. وروي عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال: ليست بمنسوخة وإنما هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة اللذين لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان كل يوم مسكيناً. قرأ نافع وابن عامر «فِدْيَةُ طَعَامِ مِسْكِينٍ» بضم الهاء وكسر الميم بالألف على الإضافة. وقرأ الباقون بتنوين الهاء فِدْيَةٌ طَعامُ بضم الميم مّسْكِينٌ بغير ألف.
قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ، قرأ عاصم في رواية حفص: شَهْرُ بفتح الراء والباقون: بالضم. وإنما صار رفعاً لمعنيين: أحدهما أنه مفعول ما لم يسم فاعله، يقول: كتب عليكم شهر رمضان ومعنى آخر: أنه خبر مبتدأ يعني هذا شهر رمضان. ومن قرأ بالنصب احتمل أنه صار نصباً لوقوع الفعل عليه، أي صوموا شهر رمضان ويقال: صار نصباً لنزع الخافض، أي: في شهر رمضان. ويحتمل: عليكم شهر رمضان. كقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: ١٣٨] يعني الزموا.
قوله: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، قرأ ابن كثير الْقُرْآنُ بالتخفيف وقرأ الباقون: بالهمز.
وقال ابن عباس في معنى قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، يعني أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في السماء الدنيا، ثم أنزل به جبريل على رسول الله ﷺ نجوماً نجوماً، أي الآية والآيتين في أوقات مختلفة أنزل عليه في إحدى وعشرين سنة. وقال مقاتل: أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ كل عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، نزل إلى السفرة من اللوح المحفوظ في عشرين سنة.
حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا فارس بن مردويه قال: حدثنا محمد بن الفضيل العابد قال: حدثنا الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة قال:
122
أنزلت التوراة في ثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان، والإنجيل في ثمانية عشرة ليلة، والقرآن في أربعة وعشرين ليلة. قال الفقيه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم القطان قال: حدثنا محمد بن صالح الترمذي قال: حدثنا سويد بن نصر قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن ابن جريح قال: قال ابن عباس في قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قال: أنزل القرآن جملة واحدة على جبريل في ليلة القدر. قال ابن جريج: كان ينزل من القرآن في ليلة القدر كل شيء ينزل في تلك السنة. فينزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في السماء الدنيا، ولا ينزل جبريل من ذلك على محمد ﷺ إلا كلما أمر به تعالى.
قوله عز وجل: هُدىً لِلنَّاسِ أي القرآن هدى للناس من الضلالة وبياناً لهم. وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى، يعني بيان الحلال والحرام وَالْفُرْقانِ، أي المخرج من الشبهات فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، أي من كان منكم شاهداً ولم يكن مريضاً ولا مسافراً فليصم الشهر.
وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فأفطر، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يقضيه بعد ذلك. روي عن عبد الله بن عمر: أنه كان يكره قضاء رمضان متفرقاً. وعن علي بن أبي طالب مثله. وقال معاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجراح وجماعة من الصحابة: أحصِ العدد وصم كيف شئت.
واختلفوا في حدّ المريض الذي يجوز له الإفطار. قال بعضهم: إذا كان بحال يخاف على نفسه التلف. وقال بعضهم: إذا استحق اسم المريض جاز له أن يفطر. وقال بعضهم: إذا كان بحال يخاف أن يزيد الصوم في مرضه جاز له أن يفطر. وهو قول أصحابنا.
ثم قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ في الإفطار في حال المرض والسفر، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ بالصوم في المرض والسفر. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، قال الكلبي: يعني لتتموا عدة ما أفطرتم من الصوم في السفر أو في المرض. وقال الضحاك: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، يعني إذا غمّ عليكم هلال شوال فأكملوا الشهر ثلاثين يوماً. قرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو في رواية هارون: «وَلِتُكَمِّلُوا» بنصب الكاف وتشديد الميم، وقرأ الباقون بالتخفيف وسكون الكاف وهما لغتان يقال: كملت الشيء وأكملته مثل وصَّيت وأوصيت ثم قال: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ، أي لتعظموا الله على مَا هداكم لشرائعه وسننه وأمر دينه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أي لتشكروا الله تعالى على هذه النعمة حيث رخص لكم الفطر في المرض والسفر. وقال مقاتل: لعلكم تشكرون في هذه النعم أن هداكم لأمر دينه.
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي وذلك أنه لما نزلت هذه الآية: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠]، قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله في أي وقت ندعو الله حتى يستجاب دعاؤنا؟ فنزلت هذه الآية: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ، يعني أجيبكم في أي وقت تدعونني. وقال بعضهم: سأله بعض أصحابه فقالوا: يا رسول الله،
123
أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ.
وقال مقاتل: إن عمر واقع امرأته بعد ما صلى العشاء، فندم على ذلك وبكى إلى رسول الله ﷺ فأخبره بذلك ورجع من عنده مغتماً، وكان ذلك قبل الرخصة، فنزلت هذه الآية: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ.
قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم في إحدى الروايتين: «دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي» بالياء والباقون كلهم بحذف الياء. وأصله بالياء إلا أن الكسر يقوم مقام الياء. ويقال فإني قريب في الإجابة، أجيب دعوة الداعي إذا دعاني، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي بالطاعة، وَلْيُؤْمِنُوا بِي وليصدقوا بوعدي. قال ابن عباس في رواية الكلبي: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي الاستجابة أن تقولوا بعد صلاتكم: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
وَلْيُؤْمِنُوا بِي والإيمان أن تقول: آمنت بالله وكفرت بالطاغوت، وأن وعدك حق وأن لقاءك حق، وأشهد أنك أحد فرد صمد، لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفواً أحد، وأشهد أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأنك باعث من في القبور. وروي عن ابن عباس أنه قال: ما تَرَكْتُ هذه الكلمات دبر كل صلاة منذ نزلت هذه الآية. وروي عن الكلبي أنه قال: ما تركتها منذ أربعين سنة. ويقال: معناه أجيبوا لي بالطاعة إذا دعاكم رسول الله- وَلْيُؤْمِنُوا بِي، أي ليصدقوا بتوحيدي. لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ، أي يهتدون من الضلالة.
قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ، يعني الجماع. وروى بكر، عن عبد الله المزني، عن ابن عباس أنه قال: الغشيان واللمس والإفضاء والمباشرة والرفث هو الجماع، ولكن الله حيي كريم يكني بما شاء. وسبب نزول هذه الآية أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- واقع امرأته بعد صلاة العشاء في شهر رمضان بعد النوم، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا كُنْتَ جَدِيراً بذلك». فرجع مغتماً فنزلت هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ، أي رخص لكم الجماع مع نسائكم. هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ، أي هن سكن لكم وأنتم سكن لهن. ويقال: هن ستر لكم من النار وأنتم ستر لهن من النار. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ، أي تظلمون أنفسكم.
قال القتبي: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه. وقد سمى الله تعالى هذا الفعل خيانة، لأن الإنسان قد اؤتمن على دينه فإذا فعل بخلاف ما أمر الله به ولم يؤد الأمانة فيه، فقد خانه بمعصيته. فَتابَ عَلَيْكُمْ، أي فتجاوز عنكم وَعَفا عَنْكُمْ ولم يعاقبكم بما فعلتم.
فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ، أي جامعوهن وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يعني اطلبوا ما قضى الله لكم من الولد الصالح. وقال الزجاج: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، أي اتبعوا القرآن فيما أبيح
124
لكم فيه وأمرتم به. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، نزلت في شأن صرمة بن قيس عمل في النخيل بالنهار، فلما رجع منزله غلب عليه النوم قبل أن يأكل شيئاً، فأصبح صائماً فأجهده الصوم، فرآه رسول الله ﷺ في آخر النهار فقال له: «مَا لَكَ يَا ابْنَ قَيْسٍ أَمْسَيْتَ طَليحاً؟» فقال: ظللت أمس في النخيل نهاري كله أجر بالجرين، حتى أمسيت فأتيت أهلي، فأرادت أن تطعمني شيئاً سخناً فأبطأت علي فنمت فأيقظوني وقد حرم علي الطعام والشراب، فلم آكل فأصبحت صائماً فأمسيت وقد أجهدني الصوم. فنزلت هذه الآية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ، وهذا أمر أباحه الله وليس بأمر حتم. كقوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: ٢] وكقوله: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: ١٠]. فلفظه لفظ الأمر والمراد به الإباحة. وقد أباح الله الأكل والشرب والجماع إلى وقت طلوع الفجر بقوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، أي يستبين لكم بياض النهار من سواد الليل.
ويقال: في الابتداء لما نزل قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، كان بعضهم يأخذ خيطين أحدهما أبيض والآخر أسود يجعل ينظر إليهما ويأكل ويشرب، حتى يتبين له الأسود من الأبيض. وذكر عن عدي بن حاتم الطائي أنه قال:
أخذت خيطين، فجعلت أنظر إليهما، فلم يتبين الأسود من الأبيض ما لم يسفر الفجر فأتيت رسول الله ﷺ فأخبرته، فتبسم وقال: «إِنّكَ لَعَرِيضُ القَفَا إِنَّما هُوَ سَوادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ»، فنزل قوله: مِنَ الْفَجْرِ فارتفع الاشتباه. ثم قال تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أي إلى أول الليل وهو غروب الشمس.
وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ، يقول: ولا تجامعوهن وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ، يقول: ولا تجامعوهن وأنتم معتكفون فيها، وذلك أنه لما رخص لهم الجماع في ليلة الصيام، فكان الرجل إذا كان معتكفاً فإذا بدا له، خرج بالليل إلى أهله فتغشاها ثم يغسل ويرجع إلى المسجد، فنزلت هذه الآية: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ، أي لا تجامعوهن ليلاً ولا نهاراً وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ قال الكلبي: يعني المباشرة في الاعتكاف معصية الله فَلا تَقْرَبُوها في الاعتكاف. وقال الزجاج: الحد في اللغة هو المنع، فكل من منع فهو حداد.
ولهذا سمي حد الدار حداً، لأنه يمنع الغير عن دخولها. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ، يعني النهي عن الجماع لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الجماع حتى يفرغوا من الاعتكاف. ويقال تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، أي جميع ما ذكر الله تعالى من أول الآية إلى آخرها في أمر الصيام وغيره، ونبين لهم الآيات لعلهم يتقون، فينتهون عما نهاهم ويتبعون ما أمرهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٨]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)
قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ، أي بالظلم وشهادة الزور. وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ، يقول تلجؤوا بالخصومة إلى الحكام. وقال الزجاج: تعملون بما يوجبه ظاهر الحكم، وتتركون ما علمتم أنه الحق. لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً، يعني طائفة مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ، أي باليمين الكاذبة وشهادة الزور. ويقال: بالإثم أي بالجور. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه جور. ويقال: إنكم تعلمون أنكم تأخذون بالباطل.
وهذه الآية نزلت في شأن امرئ القيس بن عباس الكندي وعيدان بن أشوع الحضرمي، اختصما إلى رسول الله ﷺ فادعى أحدهما على صاحبه شيئاً، فأراد الآخر أن يحلف بالكذب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ وَأَرَى أَنَّهُ مِنْ حَقِّهِ، وَأَنَّهُ لا يَرَى أَنَّهُ مِنْ حَقِّهِ فَإِنَّما أَقْضِي لَهُ بِقِطْعَةٍ مِنَ النَّارِ».
فنزلت هذه الآية فيهما، وصارت عامة لجميع الناس. وروى سعيد بن المسيب عن رسول الله ﷺ أنه قال: «شَاهِدُ الزُّورِ إِذَا شَهِدَ لا يَرْفَعُ قَدَمِيْهِ مِنْ مَكانِهِمَا، حَتَّى يَلْعَنُهُ الله مِنْ فَوْقِ عرشه».
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ. الأهلة: جمع هلال واشتقاقه من قولهم: استهل الصبي إذا صاح وأهلّ بالحج: أي رفع صوته بالتلبية. وكذلك الهلال يسمى هلالاً، لأنه يهل الناس بذكره أي يرفعون الصوت عند رؤيته وإنما سمي الشهر شهراً لشهرته. وقال الضحاك في معنى الآية: إن المسلمين سألوا رسول الله ﷺ عن خرص النخيل والتصرف في زيادة الشهر ونقصانه، فنزلت هذه الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ.
قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، أي التصرف في حال زيادته ونقصانه سواء. قال ابن عباس في رواية أبي صالح: نزلت هذه الآية في شأن معاذ بن جبل، وثعلبة بن عنمة الأنصاري، لأنهما قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو فيطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم ينقص؟! فنزلت هذه الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ أي هي: علامات للناس في حل ديونهم وصومهم وفطرهم وعدة نسائهم ووقت الحج.
ثم قال تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى قال
الضحاك: وذلك أن الكفار كانوا لا يدخلون البيت في أشهر الحج من بابه، وكانوا يدخلونه من أعلاه، فنزلت هذه الآية. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: وذلك أن الناس كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام، إذا أحرم رجل منهم قبل الحج، فإن كان من أهل المدن يعني من أهل البيوت، ثقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج، أو يضع سلماً فيصعد منه وينحدر عليه وإن كان من أهل الوبر يعني من أهل الخيام، يدخل من خلف الخيمة إلا من الحمس.
وإنما سموا الحمس، لأنهم يحمسون في دينهم، أي شددوا على أنفسهم، فحرموا أشياء أحلها الله لهم، وحللوا أشياء كانت حراماً على غيرهم وهو الدخول من الباب. فنزلت هذه الآية:
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها، يعني ليس التقوى بأن تأتوا البيوت من خلفها إذا أحرمتم. وَلكِنَّ الْبِرَّ، يعني التقوى مَنِ اتَّقى، أي أطاع الله واتبع أمره. ويقال: ولكن ذو البر من اتقى الشرك والمعاصي.
ثم قال تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها، يعني ادخلوها محلين ومحرمين. وَاتَّقُوا اللَّهَ ولا تقتلوا الصيد في إحرامكم وهذا قول الكلبي. وقال مقاتل: واتقوا الله ولا تعصوه.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، أي تنجون من العقوبة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٠ الى ١٩٤]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا، وذلك أن رسول الله ﷺ خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة، فنزل بالحديبية بقرب مكة، والحديبية: اسم بئر فسمي ذلك الموضع باسم تلك البئر، فصده المشركون عن البيت، فأقام بالحديبية شهراً، فصالحه المشركون على أن يرجع من عامه كما جاء، على أن تخلى له مكة في العام المقبل ثلاثة أيام، وصالحوه على أن لا يكون بينهم قتال إلى عشر سنين، فرجع إلى المدينة وخرج في العام الثاني للقضاء، فخاف أصحاب رسول الله ﷺ أن يقاتلهم المشركون وكرهوا القتال في
127
الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أي في طاعة الله الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، يعني في الحرم أو في الشهر الحرام، وَلا تَعْتَدُوا بأن تنقضوا العهد وتبدؤوهم بالقتال في الشهر الحرام أو في الحرم. إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، يعني من يبدأ بالظلم.
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، أي حيث وجدتموهم في الحل والحرم، والشهر الحرام.
فأمرهم الله تعالى بقتل المشركين الذين ينقضون العهد وقوله: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ من مكة وَالْفِتْنَةُ، أي الشرك بالله أَشَدُّ، أي أعظم عند الله مِنَ الْقَتْلِ في الشهر الحرام. وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، أي في الحرم، حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، أي يبدؤوكم بالقتال. فَإِنْ قاتَلُوكُمْ، أي بدءوكم بالقتال فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ، أي هكذا جزاؤهم القتل في الحرم وغيره. قرأ حمزة والكسائي: وَلا تُقاتِلُوهُمْ بغير ألف حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ وقرأ الباقون في هذه المواضع الثلاثة: بالألف. فمن قرأ بالألف فهو من المقاتلة ومن قرأ بغير ألف فمعناه لا تقتلوهم حتى يقتلوا منكم. فَإِنِ انْتَهَوْا عن قتالكم، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي إذا أسلموا. وهذا كقوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: ٣٨]. وَقاتِلُوهُمْ، يعني أهل مكة حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ، يعني الشرك بالله، وَيَكُونَ الدِّينُ كله لِلَّهِ، يعني الإسلام. فَإِنِ انْتَهَوْا عن قتالكم وتركوا الشرك فَلا عُدْوانَ، يقول لا سبيل ولا حجة عليهم في القتل، إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ الذين بدءوكم بالقتال. وقال القتبي: أصل العدوان الظلم، يعني لا جزاء للظلم إلا على الظالمين.
فسار رسول الله ﷺ وأصحابه حتى دخلوا مكة، وطافوا بالبيت، ونحروا الهدي، وأقاموا بمكة ثلاثة أيام ثم انصرفوا فنزلت هذه الآية: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ، يعني الشهر الحرام الذي دخلت فيه الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم عنه العام الأول وهو ذو القعدة وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ أي ما اقتصصت لكم في ذي القعدة كما صدوكم. ويقال: إذا قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ، يعني قتالكم يكون لِقتالهم قصاصاً، فكما تركوا الحرمة فأنتم تتركون أيضاً ذلك.
ويقال: إن سبب نزول هذه الآية أن المشركين سألوا المسلمين فقالوا: في أي شهر يحرم عليكم القتال؟ وأرادوا أن يقفوا على ذلك، حتى يقاتلوهم في الشهر الذي حرم القتال على المؤمنين، فنزل قوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، أي في وقت قاتلكم المشركون حل لكم قتالهم. ثم قال تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ، أي قاتلكم في الشهر الحرام فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ، أي قاتلوهم فيه وإنما سمي الثاني اعتداء، لأنه مجازاة الاعتداء فسمي بمثل اسمه. وهذا كقوله عز وجل: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ
128
[النحل: ١٢٦] ثم صارت هذه الآية حكماً في جميع الجنايات. إن من جنى على إنسان أو في ماله، فله أن يجازيه بمثل ذلك بظاهر هذه الآية: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ. ثم قال وَاتَّقُوا اللَّهَ عن الاعتداء قبل أن يعتدوا عليكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، يعني يعين من اتقى الاعتداء.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٥]
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أي في طاعة الله. قال ابن عباس: وذلك أن رسول الله ﷺ لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد، قام إليه ناس من الأعراب حاضري المدينة فقالوا: بماذا نجهز؟ فو الله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد. فنزل قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يعني تصدقوا يا أهل الميسرة فِى سَبِيلِ الله أي في طاعة الله. وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا وهكذا قال مقاتل. ومعنى قول ابن عباس ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا، أي لا تمسكوا عن النفقة والعون للضعفاء، فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلب عليكم العدو فتهلكوا. ومعنى آخر: ولا تمسكوا، فيرث منكم غيركم فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم. معنى آخر: ولا تمسكوا، فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة.
ويقال: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، يعني لا تنفقوا من حرام، فيرد عليكم فتهلكوا. وقال الزجاج: التهلكة: معناه الهلاك. يقال: هلك يهلك هلاكاً وتهلكة. معناه إن لم تنفقوا عصيتم الله فهلكتم. وروي عن البراء بن عازب، أن رجلاً سأله عن التهلكة فقال: أهو الرجل إذا التقى الجمعان، فحمل فيقاتل حتى يقتل؟ قال: لا ولكن الرجل يذنب ثم لا يتوب.
وقال قتادة قيل لأبي هريرة: ألم تر سعد بن هشام لما التقى الصفان حمل فقاتل حتى قتل، ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال أبو هريرة: كلا والله ولكنه تأويل آية من كتاب الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: ٢٠٧] وقال أبو عبيدة السلماني: التهلكة أن يذنب الرجل فيقنط من رحمة الله فيهلك.
وروي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه وكثرنا قلنا فيما بيننا: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أقمنا فيها وأصلحنا منها ما ضاع فأنزل الله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فكانت التهلكة في الإقامة التي أردنا أن نقيم في أموالنا ونصلحها، فأمرنا بالغزو. ثم قال تعالى: وَأَحْسِنُوا، أي أحسنوا النفقة من الصدقة. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ في النفقة ويقال: وأحسنوا في النفقة، أي أخلصوا النية في النفقة. ويقال: أحسنوا الظن بالله تعالى فيما أنفقتم، إنه يخلف عليكم في الدنيا ويثيبكم في الآخرة.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٦ الى ٢٠٢]

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)
قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ، قرأ الشعبي: وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ بالضم على معنى الابتداء، وقرأ العامة وَالْعُمْرَةَ بالنصب على معنى البناء. قال ابن عباس: تمام العمرة إلى البيت، وتمام الحج إلى آخر الحج. وقال مقاتل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ من المواقيت، ولا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم. ومعنى قول مقاتل: أنهم كانوا يشركون فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. فقال: وأتموهما ولا تخلطوا بهما شيئاً آخر. ثم خوَّفهم فقال:
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، فيما تعديتم.
130
ثم قال عز وجل: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ، أي حبستم عن البيت بعد ما أحرمتم. وقال القتبي:
الإحصار هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين الحج من مرض أو كسر أو عدو. وقال الفراء:
الإحصار ما ابتلي به الرجل في إحرامه من المرض أو العدو وغيره. وقال بعضهم: لا يكون الإحصار إلا من العدو. وقال بعضهم: يكون من العدو وغيره، وبه قال علماؤنا رحمهم الله.
ثم قال: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، أي ابعثوا إلى البيت ما استيسر من الهدي، والله تعالى رخص لمن عجز عن الوصول إلى البيت بالعدو أن يبعث الهدي، فينزع عنه بمكة، ويحل الرجل من إحرامه إذا ذبح هديه، ويرجع إلى أهله، ثم يقضي حجه وعمرته بعد ذلك.
ثم قال تَعَالَيْ: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، يعني المحصر إذا بعث بالهدي، لا يجوز له أن يحل من إحرامه ما لم يذبح هديه. يقول: لا يحلق رأسه، حتى يكون اليوم الذي واعده فيه، ويعلم أن هديه قد ذبح. ثم صار هذا أصلاً لجميع الحجاج من كان قارناً أو متمتعاً، لا يجوز له أن يحلق رأسه إلا بعد أن يذبح هديه وإن لم يكن محصراً.
ثم قال تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ، يعني إذا حلق رأسه على وجه الإضمار مثل قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: ١٨٤] يعني إذا كان أفطر. وروي عن كعب بن عجرة أنه قال: فيَّ نزلت هذه الآية. وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم مر بي والقمل يتناثر على وجهي، فقال: «أيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» فقلت: نعم. فأمر بي بأن أحلق رأسي فقال: «احْلِقْ رَأْسَكَ، وَأَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِين، لِكُلِّ مسكين نصف صاع من حِنْطَةٍ، أَوْ صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَنْسِكْ نَسِيكَةً» يعني اذبح شاة، فنزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، أي شاة يذبحها حتى يبلغ الهدي محله. ويروى عن عبد الرحمن الأعرج أنه قرأها: بتشديد الياء.
وواحدها هدية. وقرأ الباقون: بالتخفيف يقال للواحدة: هدي وهدية.
ثم قال: فَإِذا أَمِنْتُمْ وهذا على سبيل الاختصار والإضمار. ومعناه فإذا أمنتم من العدو، فاقضوا ما وجب عليكم من الحج والعمرة. ويقال: إذا أمنتم من العدو وبرأتم من المرض، فحجوا واعتمروا. فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، يعني فعليه ما تيسر من الهدي وللمتمتع أن يحج ويعتمر في سفرة واحدة من أشهر الحج.
والمحرمون أربعة: مفرد بالحج ومفرد بالعمرة والمتمتع والقارن، فأما المفرد بالحج أن يحج ويعتمر والمفرد بالعمرة أن يعتمر ولا يحج، وأما المتمتع أن يعتمر في أشهر الحج ويمكث بمكة حتى يحج بعد ما فرغ من عمرته، وأما القارن فهو الذي يحرم بالحج والعمرة جميعاً.
فمن كان مفرداً بالحج أو بالعمرة، فلا يجب عليه الهدي ومن كان متمتعاً أو قارناً، فعليه الهدي. وقال عبد الله بن عمر أنه قال: الهدي: الجزور. وقال ابن عباس: أقله شاة وبه قال علماؤنا.
131
ثم قال فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدي فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ. قال ابن عباس: آخرها يوم عرفة. وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ. قال بعضهم: إذا رجعتم إلى أهليكم. وقال بعضهم: إذا رجعتم من منى. وقال بعضهم: إذا رجعتم إلى الأمر الأول، يعني إذا فرغتم من أمر الحج وبهذا القول نقول. ثم قال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، في البدل يعني العشرة الكاملة كلها بدل من الهدي، يعني ذلِكَ الفداء لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، أي ذلك الفداء لمن لم يكن منزله في الحرم. وقال قتادة ومقاتل: ذلك يعني التمتع لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام يعني الحرم. وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم به ونهاكم عنه. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ إن خالفتم.
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ، أي وقت الحج أشهر معلومات وهو: شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ قال القتبي: الفرض وجوب الشيء، يقال: فرضت عليك كذا، أي أوجبته. قال الله تعالى: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، أي ما ألزمتم أنفسكم، وقال: قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ [الأحزاب: ٥٠]، وقال تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ، أي فمن أحرم في هذه الأشهر بالحج، فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «فَلاَ رِفْثٌ وَلاَ فُسُوقٌ» بالرفع مع التنوين، والباقون بالنصب بغير تنوين. واتفقوا في قوله: وَلا جِدالَ بالنصب غير أبي جعفر المدني فإنه قرأ بالرفع.
وهذا يقال له: لا التبرية فكل موضع يدخل فيه لا التبرية، فصاحبه بالخيار إن شاء نصبه بغير تنوين، وإن شاء ضمه بالتنوين مثل قوله: وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [البقرة: ٢٥٤].
وتفسير الرفث هو الجماع كقوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [البقرة: ١٨٧] وقال بعضهم: الرفث: التعرض بذكر النساء، والفسوق: هو السباب، والجدال:
أن تماري صاحبك حتى تغيظه. أي من كان محرماً لا يجامع في إحرامه ولا يسب ولا يماري.
ويقال: الفسوق الذبح للأصنام. كقوله تعالى: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام: ١٤٥]، والجدال هو أن قريشاً كانت تقف بالمزدلفة وكانوا يجادلون كل فريق يقولون: نحن أصوب سبيلاً. وروي عن مجاهد أنه قال: قد استقر الحج في ذي الحجة، فلا جدال فيه وذلك أن المشركين كانوا يحجون عامين في ذي القعدة وعامين في ذي الحجة، فلما فتح رسول الله ﷺ مكة، بعث أبا بكر ليحج بالناس فوافق ذلك آخر عام ذي القعدة فلما حج رسول الله ﷺ حجة الوداع، وافق ذلك أول عام في ذي الحجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن الزمان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السموات وَالأَرْضَ». يعني رجع أمر الحج إلى ذي الحجة كما كان، فنزل: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ.
ثم قال: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ، يعني من ترك الفسوق والمرأة والجدال. يَعْلَمْهُ
132
اللَّهُ
، أي يقبله الله فيجازيكم به. وَتَزَوَّدُوا في سفركم للحج والعمرة ما تكفون به وجوهكم عن المسألة. فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى. قال مقاتل وذلك أن أناساً من أهل اليمن كانوا يخرجون بغير زاد، ويصيبون من أهل الطريق ظلماً، فنزلت في شأنهم وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى. وقال بعضهم: تزودوا لسفر الدنيا بالطعام، وتزودوا لسفر الآخرة بالتقوى فإن خير الزاد التقوى. ويقال خير الزاد التقوى، هو التوكل على الله وأن لا يؤذي أحدٌ لأجل الزاد والطعام. ثم قال: وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ، يعني اطيعوني يا ذوي الألباب أي العقول فيما أمرتكم به.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وذلك أنهم كانوا إذا حجوا، كفوا عن التجارة وطلب المعيشة في الحج، فلم يشتروا ولم يبيعوا حتى تمضي أيام حجهم، فجعل الله تعالى لهم رخصة في ذلك فقال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، أي لا مأثم عليكم أن تطلبوا رزقاً من ربكم من التجارة في أيام الحج. وقال مقاتل: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن سوق عكاظ وسوق منى وذي المجاز في الجاهلية كنا نقوم في التجارة قبل الحج وبعد الحج، فهل يصلح لنا البيع والشراء في أيام حجنا؟ فنزلت هذه الآية. ومعنى آخر: ما روي عن عبد الله بن عمر: أن رجلاً سأله فقال: إني رجل أكري الإبل إلى مكة أفيجزيني عن حجي؟ فقال: أولست تلبي، وتقف بعرفات وترمي الجمار؟ فقال: بلى فقال:
سأل رجل رسول الله ﷺ عن مثل ما سألتني، فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ. وروي عن ابن عباس نحوه.
ثم قال تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ، يقول إذا رجعتم من عرفات بعد غروب الشمس فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ، يعني بالمزدلفة. وقال عطاء: إنما سميت عرفات، لأن جبريل كان يعلَّم إبراهيم- عليه السلام- أمور المناسك فكان يقول له: عرفت؟
فيقول: عرفت. فسميت عرفات. وقال ابن عباس: إنما سميت منى، لأن جبريل قال لآدم- عليهما السلام-: تمنَّ. قال: أتمنى الجنة. فسميت منى. قال: وإنما سمي الجمع جمعاً، لأنه اجتمع فيه آدم وحواء والجمع أيضاً: هو المزدلفة وهو المشعر الحرام.
ثم قال: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ، يقول: اشكروا الله كما هداكم لدين الإسلام وَإِنْ كُنْتُمْ، أي وقد كنتم مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ عن الهدى، وكانت قريش لا تخرج من الحرم إلى عرفات، وكان الناس يقفن خارج الحرم من كان من أهل اليمن وغيرهم بعرفات، ويفيضون منها فأمر الله تعالى قريشاً أن يقفوا من حيث وقف الناس، ويفيضوا من حيث أفاض الناس فقال تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ تعالى لذنوبكم في الموقف. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ متجاوز عن ذنوبكم. فأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يخرج بالناس جميعاً
133
إلى عرفات فيقف بها. وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تَعَالَى يُبَاهِي مَلائِكَتَهُ بِأَهْلِ عَرَفَات وَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلى عبادي جاءوا مِنْ كُلِّ فَجَ عَمِيقٍ شُعْثاً غُبْراً. اشْهَدُوا، أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ».
ثم قال تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ، أي فرغتم من أمر حجكم فَاذْكُرُوا اللَّهَ باللسان كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ في ذلك الموقف أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً يقول: أو أكثر ذكراً، وذلك أن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم، وقفوا بين المسجد الذي بمنى وبين الجبل، ثم ذكر كل واحد منهم أباه بما كان يعلم منه من الخير ثم يتفرقون، قال الله تعالى: فَاذْكُرُونِي بالخير كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ بالخير، فإن ذلك الخير مني. وقال عطاء بن أبي رباح: قوله: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ هو كقول الصبي: أبه أبه، يعني أن الصبي إذا كان أول ما يتكلم فإن أكثر قوله: أب أب. ويقال فاذكروا الله كذكركم آباءكم لأبيكم آدم، لأنه لا أب له، بل أشد ذكراً، لأني خلقته من غير أب ولا أم وخلقتكم من الآباء والأمهات.
ثم قال تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا، وهم المشركون كانوا يقولون إذا وقفوا: اللهم ارزقنا إبلاً وبقراً وغنماً وعبيداً وإماءً وأموالاً، ولم يكونوا يسألون لأنفسهم التوبة ولا المغفرة، فأنزل الله تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا. وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ، أي من نصيب. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً قال ابن عباس: يعني الشهادة والمغفرة والغنيمة وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، أي الجنة. وقال القتبي:
الحسنة النعمة كقوله: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التوبة: ٥٠]، أي نعمة. وقال الحسن البصري: آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، أي العلم والعبادة وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، أي الجنة قال الإمام: حسنة الدنيا، ثوابك، وقوت من الحلال يكفيك، وزوجة صالحة ترضيك، وعلم إلى الحق يهديك، وعمل صالح ينجيك. وأما حسنة الآخرة فإرضاء الخصومات، وعفو السيئات، وقبول الطاعات والنجاة من الدركات، والفوز بالدرجات وَقِنا عَذابَ النَّارِ، أي ادفع عنا عذاب النار.
أُولئِكَ، يعني المؤمنين الذين يدعون بهذا الدعاء لَهُمْ نَصِيبٌ، أي حظ مِمَّا كَسَبُوا من حجهم. ويقال: لهم ثواب مما عملوا. وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً كان على عهد رسول الله ﷺ قال: اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة، فعجِّله لي في الدنيا فأضني الرجل في مرضه حتى نحل جسمه، فأخبر بذلك رسول الله ﷺ فأتاه فأخبره بأنه كان يدعو بكذا وكذا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ بِعُقُوبَةِ الله تَعَالَى ولكن قل:
رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ. فدعا بها الرجل فبرأ.
ثم قال: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ قال الكلبي: إذا حاسب فحسابه سريع. ويقال: والله سريع الحفظ. وقال الضحاك: يعني لا يخالطه العباد فِي الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ولا يشغله ذلك.
134
ويقال: يحاسب كل إنسان فيظن كل واحد منهم أنه يحاسبه خاصة. وقوله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٣]
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ، أي معروفات وهي أيام التشريق. وقال القتبي: أيام التشريق. والمعلومات أيام العشر. وقال يحيى بن سعيد: سألت عطاء عن الأيام المعدودات وعن المعلومات، قال: الأيام المعدودة: أيام النحر، والمعلومات: أيام العشر. وقال بعضهم الأيام المعدودات أيام التشريق بدليل ما سبق في سياق الآية: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، والمعلومات: أيام النحر بدليل قوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة: ٢٠٣] فذكر النحر في تلك الأيام. وقال الضحاك: معنى قوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ، أي معروفات وهي أيام التشريق، أي كبروا دبر كل صلاة من يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق ويقال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ، يعني التكبير عند رمي الجمار.
قوله: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ، أي رجع إلى أهله، بعد ما رمى في يومين وترك الرمي في اليوم الثالث فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في تعجيله، وَمَنْ تَأَخَّرَ إلى آخر النفر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في تأخيره. لِمَنِ اتَّقى، يعني قتل الصيد في الإحرام وفي الحرم. وقال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود قال: إنما جعلت المغفرة لمن اتقى في حجه. ويقال: لمن اتقى بعد انصرافه من حجه عن جميع المعاصي وإنما حذرهم الله تعالى، لأنهم إذا رجعوا من حجهم، يجترءون على الله تعالى بالمعاصي، فحذرهم عن ذلك فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، فيجازيكم بأعمالكم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٤ الى ٢٠٦]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ، يعني كلامه وحديثه، وهو أخنس بن شريق، كان حلو الكلام، حلو المنظر، فاجر السريرة. وروى أسباط عن السدي قال: أقبل أخنس بن شريق إلى رسول الله ﷺ بالمدينة فقال: إنما جئت أريد الإسلام وقال: الله يعلم أني صادق، فأعجب
النبيّ صلّى الله عليه وسلم بقوله ثم خرج من عنده، فمر بزرع للمسلمين فأحرقه، ومر بحمار للمسلمين فعقره، فنزلت هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، أي يعجبك كلامه وحديثه. وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ من الضمير أنه يحبه وهو يريد الإسلام وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ، أي شديد الخصومة. قال القتبي: أي أشدهم خصومة. يقال: رجل ألد بين اللّد واللدد، وقوم لد. كما قال في آية أخرى: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مريم: ٩٧].
ثم قال: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ، يقول: إذا فارقك رجع عنك، سعى في الأرض، أي مضى في الأرض بالمعاصي. لِيُفْسِدَ فِيها، أي يعصي الله في الأرض وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، أي يحرق الكدس ويعقر الدواب. وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسادَ، أي لا يرضى بعمل المعاصي.
وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ في صنعك، أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ، أي الحمية بِالْإِثْمِ، يعني الحمية في الإثم، يعني تكبراً. يقول الله تعالى: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ، أي ولبئس الفراش ولبئس القرار. فهذه الآية نزلت في شأن أخنس بن شريق، ولكنها صارت عامة لجميع الناس فمن عمل مثل عمله، استوجب تلك العقوبة. وقال بعض الحكماء، إن من يقتل حماراً ويحرق كدساً، استوجب الملامة ولحقه الشين إلى يوم القيامة فالذي يسعى بقتل مسلم كيف يكون حاله؟ وذكر أن يهودياً كانت له حاجة إلى هارون الرشيد، فاختلف إلى بابه سنة، فلم تنقض حاجته فوقف يوماً على الباب، فلما خرج هارون الرشيد سعى ووقف بين يديه وقال: اتق الله يا أمير المؤمنين. فنزل هارون عن دابته وخرّ ساجداً لله تعالى، فلما رفع رأسه أمر به، فقضيت حاجته. فلما رجع قيل: يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك بقول يهودي؟ قال: لا ولكن تذكرت قول الله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ إلى آخره. وقال قتادة: ذكر لنا أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «إِذَا دُعِيْتُمْ إلى الله فَأَجِيبُوا، وإِذَا سُئِلْتُم بالله فَأَعْطُوا فإِنَّ المُؤْمِنِينَ كانوا كذلك».
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧)
ثم قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في شأن صهيب بن سنان الرومي، مولى عبد الله بن جدعان، وفي نفر من أصحاب رسول الله ﷺ منهم ياسر أبو عمار بن ياسر، وسمية أم عمار، وخباب بن الأرت وغيرهم أخذهم المشركون فعذبوهم. فأما صهيب فإنه كان شيخاً كبيراً وله مال ومتاع، فقال لأهل مكة: إني شيخ كبير، وإني لا أضركم إن كنت معكم أو مع عدوكم، فأنا أعطيكم مالي ومتاعي وذروني وديني، أشتريه منكم بمالي. ففعلوا ذلك، فأعطاهم ماله إلا مقدار راحلته، وتوجه إلى
المدينة، فلما دخل المدينة لقيه أبو بكر فقال له: ربح البيع يا صهيب. فقال له: وبيعك فلا يخسر. فقال: وما ذلك يا أبا بكر فأخبره بما نزل فيه ففرح بذلك صهيب. وقتل ياسر أبو عمار وأم عمار سمية، فنزلت هذه الآية في شأن صهيب وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ، أي يشري نفسه ودينه. وهذا من أسماء الأضداد، يقال: شرى واشترى وباع وابتاع.
ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ، أي طلب يشتري نفسه ودينه رضاء الله. وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ، أي رحيم بهم. ثم صارت هذه الآية عامة لجميع الناس من بذل ماله ليصون به نفسه ودينه، فهو من أهل هذه الآية.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٨ الى ٢٠٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً. قرأ نافع وابن كثير والكسائي: السّلم بنصب السين وقرأ الباقون: بالكسر. والسّلم بالكسر هو الإسلام والسَّلم بالنصب هو المسالمة والصلح. ويقال: السَّلم والسَّلم في اللغة: هو الصلح. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية فيمن أسلم من أهل الكتاب، كانوا يتقون السبت، ويحرمون أكل لحوم الجمال فنزلت:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، أي في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، يعني طاعات الشيطان.
قال مقاتل: استأذن عبد الله بن سلام وأصحابه بأن يقرءوا التوراة في الصلاة وأن يعملوا ببعض ما في التوراة فنزل قوله: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، فإن اتباع السنة الأولى- بعد ما بعث محمد صلى الله عليه وسلم- من خطوات الشيطان. وقال بعضهم: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، أي اثبتوا على شرائع محمد ﷺ ولا تخرجوا منها.
وقوله: كَافَّةً أي عبارة عن الجميع، فيجوز أن يكون معناه: ادخلوا جميعاً ويجوز أن يكون معناه: ادخلوا في جميع شرائعه ولا تتبعوا خطوات الشيطان، أي لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم إليها الشيطان. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، أي ظاهر العداوة فَإِنْ زَلَلْتُمْ، أي ملتم عن شرائع محمد صلى الله عليه وسلم. مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ، يعني محمدا ﷺ وشرائعه، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عزيز بالنعمة حكيم في أمره، وقال مقاتل أي حكيم حكم عليهم بالعذاب الشديد.

[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٠]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠)
هَلْ يَنْظُرُونَ هل في القرآن على سبعة أوجه في موضع يراد بها (قد)، كقوله: هَلْ أَتاكَ [الغاشية: ١] أي قد أتاك. ومرة يراد بها (الاستفهام)، كقوله هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: ٤٤] ومرة يراد بها (السؤال)، كقوله: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الأعراف: ٤٤].
ومرة يراد بها (التفهيم)، كقوله: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ [الصف: ١٠] ومرة يراد بها (التوبيخ)، كقوله: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ [الشعراء: ٢٢١]. ومرة يراد بها (الأمر)، كقوله:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: ٩١]، أي انتهوا، ومرة يراد بها (الجحد)، كقوله في هذا الموضع:
هَلْ يَنْظُرُونَ. إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، أي ما ينظرون. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح:
هذا من المكتوم الذي لا يفسر... وروى عبد الرزاق، عن سفيان الثوري قال: قال ابن عباس: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير يعلمه العلماء، وتفسير تعرفه العرب، وتفسير لا يقدر أحد عليه لجهالته، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل، ومن ادعى علمه فهو كاذب. وهذا موافق لقوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: ٧] وكذلك هذه الآية سكت بعضهم عن تأويلها وقالوا: لا يعلم تأويلها إلا الله. وبعضهم تأولها فقال: هذا وعيد للكفار، فقال:
هَلْ يَنْظُرُونَ، أي ما ينتظرون ولا يؤمنون إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ يعني أمر الله تعالى، كما قال في موضع آخر: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: ٢]، يعني أمر الله. وقال بعضهم:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، يعني بما وعد لهم مِنْ العذاب. فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ.
يعني في غمام فيه ظلمة. وقيل في ظلل يعني بظلل. وقال: على غمام فيه ظلمة.
وَالْمَلائِكَةُ قرأ أبو جعفر بكسر الهاء، يعني فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام وفي الملائكة. قال قتادة: وهي قراءة شاذة والقراءة المعروفة بالضم يعني تأتيهم الملائكة. وقال قتادة وَالْمَلائِكَةُ، يعني تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم. ويقال: يوم القيامة. وَقُضِيَ الْأَمْرُ، أي فرغ مما يوعدون، يعني دخول أهل الجنة الجنة ودخول أهل النار النار. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، يعني عواقب الأمور. قرأ حمزة والكسائي وابن عامر تُرْجَعُ بنصب التّاء ويكون الفعل للأمور. وقرأ الباقون: بضم التاء على فعل ما لم يسم فاعله.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١١]
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١)
قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ. قال مقاتل: معناه سل علماء بني إسرائيل كما أعطيناهم. مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ حين فرق لهم البحر وأغرق عدوهم وأنزل عليهم المن والسلوى. ويقال: كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ، يعني نعت محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ، أي يغيّر نعمة الله تعالى. مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، يعني يقول إذا لم يشكر نعمة الله، تزول عنهم النعم ويستوجبوا العقوبة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٢]
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)
قوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا، قال الكلبي: نزلت في شأن رؤساء قريش، زين لهم ما بسط لهم في الدنيا من الخير. وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا في أمر المعيشة، لأنهم كانوا فقراء.
وَالَّذِينَ اتَّقَوْا، أي أطاعوا الله وهم فقراء المؤمنين. فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أي فوق المشركين في الجنة والحجة في الدنيا. وقد اختلفوا في قوله: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا. قال بعضهم: يعني زينها لهم إبليس، لأن الله تعالى قد زهد فيها وأعلم أنها متاع الغرور، ولكن الشيطان زيَّن لهم الأشياء، كما قال في آية أخرى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل: ٢٤] وقال في آية أخرى: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [النمل: ٤]، فكان ذلك مجازاة لكفرهم. وقال بعضهم:
معناه أن الله تعالى زين لهم، لأنه خلق فيهم الأشياء العجيبة، فنظر إليها الذين كفروا فاغتروا بها.
وروي، عن ابن عباس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يَقُولُ الله تعالى لملائكته: لَوْلا أَنْ يَحْزَنَ عَبْدِي المُؤْمِنُ، لَعَصَبْتُ الكَافِرَ بِعِصَابَةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَلَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الدُّنْيَا صَبّاً». ومصداق ذلك في القرآن وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [الزخرف: ٣٣] الآية. وقال عليه الصلاة والسلام: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ما سَقَى الكافِرَ مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ».
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، أي يرزق من يشاء رزقاً كثيراً لا يعرف حسابه. ويقال: أي يرزقه ولا يطلب منه حسابه بما يرزقه. ويقال: بغير حساب أي ليس له أحد يحاسبه منه بما يرزقه ويقال: بغير حساب أي بغير احتساب. كما قال في آية أخرى وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق: ٣]. وكل ما في القرآن: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، فهو على هذه الوجوه الأربعة.

[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٣]

كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)
قوله: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً. قال الزجاج: الأمة على وجوه منها القرن من الناس، كما يقال: مضت أمم أي قرون، والأمة: الرجل الذي لا نظير له. ومنه قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: ١٢٠] والأمة: الدين وهو الذي قال هاهنا: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، أي على دين واحد وعلى ملة واحدة. وقال بعضهم: كان الناس كلهم على دين الإسلام، جميع من كان مع نوح في السفينة ثم تفرقوا. فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ. وقال بعضهم:
كان الناس كلهم كفاراً في عهد نوح وعهد إبراهيم- عليهما السلام- فبعث الله للناس النبيين إبراهيم وإسماعيل، ولوطاً وموسى ومن بعدهم مُبَشِّرِينَ بالجنة لمن أطاع الله، وَمُنْذِرِينَ بالنار لمن عصى الله وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، يقول: بالعدل لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ، أي يقضي بينهم فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من أمور الدين. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ، أي في الدين. إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ، يعني أعطوا الكتاب. مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ، أي البيان من الله. بَغْياً بَيْنَهُمْ، يعني اختلفوا فيه حسداً بينهم. فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، أي هداهم ووفقهم حتى أبصروا الحق من الباطل بِإِذْنِهِ بتوفيقه ويقال: برحمته.
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، يعني الإسلام. وقال بعضهم: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه أي بعصمته وَاللَّهُ يَهْدِي أي يوفق مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مستقيم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٤]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ يقول: ظننتم أَن تَدْخُلُواْ الجنة. وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ من أتباع الرسل من قبلكم، أي لم يأتكم صفة الذين مضوا من قبلكم، يعني لم يصبكم مثل الذي أصاب من قبلكم. ويقال: لم تبتلوا بمثل الذي ابتلي مِن قَبْلِكُم. مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ. البأساء: الشدة والبؤس، والضراء: الأمراض والبلاء. وَزُلْزِلُوا، أي
حركوا وأجهدوا، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قال مقاتل: يعني شعيب النبيّ صلّى الله عليه وسلم وهو اليسع. وقال الكلبي: هذا في كل رسول بعث إلى أمته، واجتهد في ذلك حتى قال:
مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ قال الله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
روي عن الضحاك أنه قال: يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. ومعنى ذلك أظننتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا كما ابتلي الذين مِن قَبْلِكُم، مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضراء وزلزلوا فيصيبكم مثل ذلك، حتى يقول: محمد صلى الله عليه وسلم: مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، يعني فتح الله تعالى قريب، أي فتح الله تعالى إلى مكة عاجلٌ. وإنما ظهر لهم ذلك في يوم الأحزاب، فأصابهم خوف شديد وكانوا كما قال الله تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: ١٠]، فصدق الله وعده وأرسل عليهم ريحاً وجنوداً، وهزم الكفار. فذلك قوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ قرأ نافع: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ بالرفع على معنى المستأنف. وقرأ الباقون:
بالنصب على معنى الماضي.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٥]
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ وذلك أن النبي ﷺ لما حثهم على الصدقة، قال عمرو بن الجموح: يا رسول الله، كم ننفق وعلى من ننفق؟ فنزلت هذه الآية: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ، أي ماذا يتصدقون من أموالهم؟ قُلْ مآ أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ، أي من مال فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، يعني أنفقوا على الوالدين والقرابة وعلى جميع المساكين. فهذا جواب لقولهم: على من ننفق؟ ونزل في جواب قولهم: ماذا ننفق؟ قوله تعالى: قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: ٢١٩]، أي الفضل من المال ثم نسخ ذلك بآية الزكاة. وقال بعضهم: آية الزكاة نسخت كل صدقة كانت قبلها. وقال بعضهم: هذه الآية ليست بمنسوخة وإنما فيها بر الوالدين وصلة الأرحام. ثم قال تعالى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ، أي يجازيكم به.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٦ الى ٢١٧]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧)
141
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، أي فرض عليكم القتال. وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، أي شاق عليكم.
وذلك أن الله تعالى، لما أمرهم بالجهاد، كرهوا الخروج. وإنما كانت كراهيتهم له، لأنه كان في الخروج عليهم مشقة، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى: ثم قال: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، يعني الجهاد. وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لأن فيه فتحاً وغنيمة وشهادة وفيه إظهار الإسلام.
وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وهو الجلوس عن الجهاد، لأنه يسلط عليكم عدوكم.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أن الجهاد خير لكم. وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ أن ذلك خير، حين أحببتم القعود عن الجهاد. ويقال: والله يعلم ما كان فيه صلاحكم وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ. ذلك قوله تعالى.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ. وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش مع تسعة رهط، في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين إلى عير لقريش، فلقوا العير. وكان ذلك في آخر الشهر، فأمر عبد الله بن جحش بعض أصحابه، فحلق رأسه. فلما رآهم المشركون آمنوا وظنوا أنه دخل رجب، فقاتلهم المسلمون وأخذوا أموالهم، فعيَّرهم المشركون بذلك، فنزلت هذه الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ. قال الزجاج: معناه يسألونك عن القتال في الشهر الحرام. وقال القتبي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام هل يجوز؟ فأبدل قتالاً من الشهر الحرام. قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، أي عظيم عند الله. ثم قال: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، يقول منع الناس عن الكعبة أن يطاف بها. وَكُفْرٌ بِهِ، أي بالله تعالى ويقال: وَكُفْرٌ بِهِ أي بالحج.
قوله: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وإنما صار خفضاً، لأنه عطف على سبيل الله، كأنه قال:
وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام وكفر بالله تعالى. وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ. أي من المسجد أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، أي أعظم عقوبة عند الله من القتال في الشهر الحرام. وَالْفِتْنَةُ، يعني الشرك أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، أعظم عقوبة من القتل في الشهر الحرام.
ثم قال: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ الإسلام إلى دينهم الكفر. إِنِ اسْتَطاعُوا، يعني إن قدروا على ذلك ولكنهم لا يقدرون عليه. ثم هدد المسلمين ليثبتوا على دينهم الإسلام، فقال تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الإسلام. فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ بالله
142
تعالى فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ، أي بطلت حسناتهم. فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، يعني لا يكون لأعمالهم التي عملوا ثواب، كما قال في آية أخرى: فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: ٢٣]، وقال تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف: ١٠٥]. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، أي دائمون.
قال الفقيه: حدّثنا أبو إبراهيم محمد بن سعيد قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال:
حدثنا إبراهيم بن داود قال: حدثنا المقدمي، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: حدثنا الحضرمي، عن أبي السوار، عن جندب بن عبد الله: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعث رهطاً وبعث عبد الله بن جحش وكتب له كتاباً، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا وقال:
«لَا تُكْرِه أَحَداً مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى المَسِيرِ». فلما بلغ المكان، قرأ الكتاب فاسترجع ثم قال:
السمع والطاعة لله ولرسوله، فرجع رجلان ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب فقال المشركون: قتلهم محمد في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ.... فقال المشركون: إن لم يكن عليهم وزر فليس لهم أجر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)
فنزل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا من مكة وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أي في طاعة الله بقتل ابن الحضرمي. أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ، أي ينالون جنة الله. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بقتالهم في الشهر الحرام، ثم نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام وصار مباحا بقوله تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: ١٣٦] فنهاهم الله عن ظلم أنفسهم بالسيئات والخطايا، وأمرهم بالقتال عاماً. وروى أبو يوسف عن الكلبي أن القتال في الشهر الحرام لا يجوز. وقال أبو جعفر الطحاوي: لا نعلم أن أهل العلم اختلفوا أن قتال المشركين في الشهر الحرام غير جائز. وروي عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن قتال الكفار في الشهر الحرام، فقال: لا بأس به، وكذلك قال سليمان بن يسار وغيره.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٩ الى ٢٢٠]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
143
ثم قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. قال بعض المفسرين: إن الله لم يدع شيئاً من الكرامة والبر، إلا وقد أعطى هذه الأمة. ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب لهم الشرائع دفعة واحدة، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة فكذلك في تحريم الخمر، كانوا مولعين على شربها، فنزلت هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، أي عن شرب الخمر والميسر هو القمار. قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ في تجارتهم. وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما. فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها. ثم نزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: ٤٣]، فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يمنعنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة، حتى نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: ٩٠] الآية. فصارت حراماً عليهم حتى كان بعضهم يقول: ما حرم علينا شيء أشد من الخمر. وقيل: إثم كبير في أخذها ومنافع في تركها.
وروي أن الأعشى توجه إلى المدينة ليسلم، فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له:
أين تذهب؟ فأخبرهم أنه يريد محمدا صلى الله عليه وسلم. فقالوا: لا تصل إليه فإنه يأمرك بالصلاة. فقال: إن خدمة الرب واجبة. فقالوا له: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء. فقال: إن اصطناع المعروف واجب. فقيل له إنه ينهى عن الزنى. فقال: إن الزنى فحش قبيح في العقل وقد صرت شيخاً، فلا أحتاج إليه. فقيل له: إنه ينهى عن شرب الخمر. قال: أما هذا فإني لا أصبر عنه فرجع.
وقال: أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه، فلم يبلغ إلى منزله، حتى سقط عن البعير فانكسر عنقه فمات. وقال بعضهم: في هذه الآية ما يدل على تحريمه، لأنه سماها إثماً، وقد حرم الإثم في آية أُخرى وهي قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ [الأعراف: ٣٣]. وقال بعضهم: أراد بالإثم، الخمر بدليل قول الشاعر:
شَرِبْتُ الإِثْمَ حَتَّى ضل عقلي كذاك الإثم يَذْهَبُ بِالعُقُولِ
وروي عن جعفر الطيار أنه كان لا يشرب الخمر في الجاهلية، وكان يقول: الناس يطلبون زيادة العقل، فأنا لا أنقص عقلي. وأما الميسر، فكانوا يشترون جزوراً ويضربون سهامهم، فمن خرج سهمه أولاً، يأخذ نصيبه من اللحم ولا يكون عليه من الثمن شيء، ومن بقي سهمه آخراً، فكان عليه ثمن الجزور كله وليس له من اللحم شيئاً. وقال عطاء ومجاهد:
144
الميسر القمار كله، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب. قرأ حمزة والكسائي: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ بالثاء من الكثرة، والباقون (بالياء) كبير أي ذنب عظم.
قوله: وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ، أي ماذا يتصدقون؟ قُلِ الْعَفْوَ، أي الفضل من المال، يريد أن يعطي ما فضل من قوته وقوت عياله، ثم نسخ بآية الزكاة. وقرأ أبو عمرو:
«قُلِ العَفْوُ» بالرفع، يعني الإنفاق وهو الزكاة. وقرأ الباقون: بالنصب، يعني أنفقوا الفضل.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، يعني أمره ونهيه كما يبين لكم أمر الصدقة. لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، يعني في الدنيا أنها لا تبقى ولا تدوم، ولا يدوم إلا العمل الصالح وفي الآخرة أنها تدوم وتبقى ولا تزول. وقال بعضهم: معناه كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا، لعلكم تتفكرون في الآخرة.
قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى، يقول: عن مخالطة اليتامى وذلك أنه لما نزلت هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: ١٠]، تركوا مخالطتهم فشق عليهم ذلك. وكان عند الرجل منهم يتيم، فجعل له بيتاً على حدة وطعاماً على حدة، ولا يخالطه بشيء من ماله. فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، قد أنزل الله آية في أموال اليتامى، ما قد أنزل من الشدة فعزلناهم على حدة. أفيصلح لنا أن نخالطهم؟ فنزلت هذه الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى، أي عن مخالطة اليتامى. قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ. يقول: أي لمالهم خير من ترك مخالطتهم. وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ، أي تشاركوهم في النفقة والخدمة والدابة، فَإِخْوانُكُمْ في الدين. ويقال: الامتناع منه خير وإن تخالطوهم فهم إخوانكم. وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ لمال اليتيم مِنَ الْمُصْلِحِ بماله، يعني لا بأس بالخلطة، وإذا قصدت به الإصلاح ولم تقصد به الإضرار به.
ثم قال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. قال القتبي: ولو شاء الله، لضيق عليكم ولشدد عليكم، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم. وقال الزجاج: لَأَعْنَتَكُمْ، معناه لأهلككم. وأصل العنت في اللغة من قول العرب: عنت البعير، إذا انكسرت رجله وحقيقته ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم. وقال الكلبي وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ في مخالطتهم فجعلها حراماً. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وقد ذكرناها.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢١]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)
قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ. نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وكان يأتي مكة ويخرج منها أناساً من المسلمين كانوا بها سراً من أهل مكة فلما قدم مكة، جاءته امرأة يقال لها عناق، كانت بينهما خلة في الجاهلية، فقالت له: هل لك أن تخلو بي؟ فقال لها: يا عناق إن الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك، وقد حرمت علينا. ولكني أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتزوجك إن شئت. فلما رجع إلى رسول الله ﷺ سأله عن ذلك، فنزلت هذه الآية: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ، يقول: نكاح أمة مؤمنة خَيْرٌ مِنْ نكاح حرة مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ، أي أعجبكم نكاحها.
وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ، يقول: لا تنكحوا نساءكم المشركين، حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ تزويج مُشْرِكٍ حر. وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، يعني إلى عمل أهل النار. وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ، يعني إلى التوحيد والتوبة بِإِذْنِهِ، أي بأمره ويقال: يدعوكم إلى مخالطة المؤمنين، لأن ذلك أوصل إلى الجنة والمغفرة بإذنه، أي بعلمه الذي يعلم أنه أوصل لكم إليها وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ، أي أمره ونهيه في أمر التزويج. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، ينتهون عن المعاصي والنكاح الحرام. ويقال: إن رجلا من الأنصار أعتق جارية له، فأراد رجل من قريش أن يتزوجها فعيّروه بذلك، فنزلت هذه الآية وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٢ الى ٢٢٣]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
ثم قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ. قال ابن عباس: نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له: عمرو بن الدحداح، سأل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ أنقربهن أم لا؟ فنزل قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ يقول عن النساء إذا حضن. ويقال: ويسألونك عن مجامعة النساء في المحيض. قُلْ هُوَ أَذىً، يعني الدم هو قذر نجس. فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ، أي لا تجامعوهن في حال الحيض. وَلا تَقْرَبُوهُنَّ، يعني لا تجامعوهن وهن حيض، حَتَّى يَطْهُرْنَ. قرأ حمزة وعاصم والكسائي في رواية أبي بكر: حَتَّى يَطْهُرْنَ بتشديد الطاء والهاء والنصب، والباقون بالتخفيف أي
146
يغتسلن وأصله يتطهرون، فأدغمت التاء في الطاء فصار يَطْهُرْنَ. فمن قرأ يَطْهُرْنَ أي يغتسلن، ومن قرأ يَطْهُرْنَ أي حتى يطهرن من الحيض.
قال الفقيه الزاهد نعمل بالقراءتين جميعاً فإن كانت المرأة أيام حيضها أقل من عشرة أيام فلا يجوز أن يقربها ما لم تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة وإن كانت أيام حيضها عشرة، فإذا انقطع عنها الدم وتمت العشرة، جاز له أن يقربها بغير غسل. ثم قال تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ، يعني أي اغتسلن من الحيض، فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، أي جامعوهن من حيث رخص لكم الله في موضع الجماع.
ويقال: لما نزلت هذه الآية فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ، اعتزلوا النساء في أيام الحيض وأخرجوهن من البيوت فقدم أناس من الأعراب وقالوا: يا رسول الله البرد شديد وقد اعتزلنا النساء، وليس كلنا يجد سعة لذلك فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا أَمَرَكُمْ أَنْ تَعْتَزِلُوا النِّسَاءَ عَنْ مُجَامَعَتِهِنَّ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ أَنْ تُخْرِجُوهُنَّ مِنَ البُيُوتِ كَمَا تَفْعَلُ الأعَاجِمُ».
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، يعني التوابين من الشرك والذنوب. وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، أي من الجنابة والأحداث. ويقال: ويحب المتطهرين من إتيانهن في المحيض، في أدبارهن يتنزهون عن ذلك. ويقال: ويحب التّوابين من الذنوب والمتطهرين الذين لم يذنبوا. فإن قيل: كيف قدَّم بالذكر الذي تاب من الذنوب على الذي لم يذنب؟ قيل له: إنما قدمهم لكيلا يقنط التائب من الرحمة، ولا يعجب المتطهر بنفسه كما ذكر في آية أخرى:
فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: ٣٢].
ثم قال عز وجل: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ. يقول: مزرعة لكم للولد، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ.
والحرث في اللغة هو الزرع، فسمى النساء حرثاً على وجه الكناية، أي هن للولد كالأرض للزراعة. قوله: أَنَّى شِئْتُمْ، أي كيف شئتم إن شئتم مستقبلين، وإن شئتم مستدبرين، إذا كان في صمام واحد. وذلك أن اليهود كانوا يقولون: لا يجوز إتيان النساء إلا مستلقياً، وكانوا يقولون: إذا أتاها من خلفها، يكون الولد أحول، فنزل قوله تعالى فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لا يَنْظُرُ الله عَزَّ وَجَلَّ إلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلاً أوِ امْرَأةً فِي دبرها». وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبرِهَا».
ثم قال تعالى: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ من الولد الصالح. ويقال قدموا لأنفسكم من العمل الصالح. ويقال: سموا الله أي قولوا بسم الله الرحمن الرحيم عند ذلك. ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ، أي اخشوا الله ولا تقربوهن في حال الحيض ولا في أدبارهن. وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ، أي تصيرون إليه يوم القيامة، فيجزيكم بأعمالكم. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الذين يحافظون على حدود الله ويصدقون بوعده.
147

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٤ الى ٢٢٦]

وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦)
ثم قال عز وجل: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ، أي علة. وأصل العرضة في اللغة: هو الاعتراض، فكأنه يعترض باليمين في كل وقت، فيكون كناية عن العلة. وقيل:
العرضة أن يحلف الرجل في كل شيء، فمُنِعوا من ذلك. أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا، يعني لكي تبروا وتتقوا، لأنهم إذا أكثروا اليمين لم يبروا. وبهذا أمر أهل الإيمان. وقال الفراء: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً. الحلف بالله متعرضاً، أي مانعاً لكم دون البر. والمعترض بين الشيئين: المانع.
وقال القتبي: لا تجعلوا الله بالحلف مانعاً لكم أن تبروا وتتقوا، ولكن إذا حلفتم على أن لا تصلوا رحماً، ولا تتصدقوا، ولا تصلحوا، أو على شبه ذلك من أبواب البر، فكفِّروا اليمين.
وقال الكلبي: هذه الآية نزلت في عبد الله بن رواحة الأنصاري. حين حلف أن لا يدخل على ختنه بشير بن النعمان ولا يكلمه، فجعل يقول: قد حلفت بالله أن لا أفعل، ولا يحل لي أن لا أبر في يميني. فنزل قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ.
يقول: علة لأيمانكم أَنْ تَبَرُّوا، يعني تصلوا قرابتكم، وتتقوا اليمين في المعصية، وترجعوا إلى ما هو خير لكم منها وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ، أي بين إخوانكم. وروي عن عكرمة، عن عبد الله بن عباس أنه كان يقول: لا تحلفوا أن لا تبرُّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فمن حلف على شيء منه، فعلى الذي حلف عليه أن يفعل ويكفِّر عن يمينه. وقال الزجاج: معنى الآية بأنهم كانوا يقبلون في البر بأنهم قد حلفوا، فأعلم الله تعالى أن الإثم إنما هو في الإقامة في ترك البر، واليمين إذا كفَّرت، فالذنب فيها مغفور.
ثم قال: لاَّ يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ أي بالإثم في الحلف إذا كفرتم، وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ بعزمكم على أن لا تبروا ولا تتقوا. قال ابن عباس: لاَّ يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ، وهو أن يحلف الرجل بالله في شيء يرى أنه فيه صادق، ويرى أنه كذلك، وليس كذلك، فيكذب فيها. وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ يعني هو أن يحلف على شيء ويعلم أنه فيها كاذب. ويقال: لا يؤاخذكم الله باللغو في اليمين، إذا حلفتم وكفرتم، إذا كان الحنث خيراً ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، أي أثمتم بغير كفارة.
وَاللَّهُ غَفُورٌ لمن حنث وكفر بيمينه. حَلِيمٌ حيث رخص لكم في ذلك ولم
يعاقبكم. لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ، يعني الذين يحلفون أن لا يجامعوا نساءهم، تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، يعني لهم أجل أربعة أشهر بعد اليمين، فَإِنْ فاؤُ، يعني إن رجعوا عن اليمين وجامعوا نساءهم من قبل أن تمضي أربعة أشهر بعد اليمين، وكفَّروا عن أيمانهم ولا تبين المرأة عن الزوج فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٧ الى ٢٣٢]
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١)
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)
قوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ، يعني أوجبوا الطلاق بترك الجماع، حتى مضت أربعة أشهر وقعت عليها تطليقة بمضي أربعة أشهر. وقال بعضهم: لا يقع الطلاق، ولكن يؤمر
149
الزوج بعد مضي أربعة أشهر أن يجامعها أو يطلقها. وقال بعضهم يقع الطلاق بمضي أربعة.
أشهر وهو قول علمائنا. وروي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود أنهما قالا:
عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر، وذلك قوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ، أي أوجبوا الطلاق بترك الجماع فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لمقالتهم بكلمة الإيلاء عَلِيمٌ بهم.
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ، يعني وجب عليهن العدة ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، أي ثلاث حيض. وقال بعضهم: ثلاثة أطهار. وقال أكثر أهل العلم: المراد به الحيض. وأصل القرء:
الوقت. وظاهر الآية عام في إيجاب العدة على جميع المطلقات، ولكن المراد به الخصوص، لأنه لم يدخل في الآية خمس من المطلقات: الأمة والصغيرة والآيسة والحامل وغير المدخولة. ثم قال: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ، يعني الحمل والحيض، لا يحل لها أن تقول: إني حامل وليست بحامل أو إني حائض وليست بحائض إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، يقول إن كن يصدقن بالله واليوم الاخر.
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً، يعني للنساء على الأزواج من الحقوق مثل ما للرجال على النساء، يعني في حال التربص إذا كان الطلاق رجعياً. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، يقول بما عرف شرعاً، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، أي فضيلة في النفقة والمهر. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فيما حكم من الرجعة في الطلاق الذي يملك فيه الرجعة.
ثم بيّن الطلاق الذي يملك فيه الرجعة، فقال تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ، يعني يقول:
الطلاق الذي يملك فيه الرجعة تطليقتان. فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ، يعني إذا راجعها، يمسكها بمعروف، ينفق عليها، ويكسوها، ولا يؤذيها، ويحسن معاشرتها أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ، يعني يؤدي حقها، ويخلي سبيلها. ويقال: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ، يعني يطلقها التطليقة الثالثة ويعطي مهرها. ويقال: يتركها حتى تنقضي عدتها. ويقال يؤتي حقها ويخلي سبيلها ويقال: أو تسرح بإحسان. قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا طلق تطليقة أو تطليقتين، كان الزوج أحق بها وإذا طلقها الثالثة، كانت المرأة أحق بنفسها واحتج بقول الأعشى وكانت امرأته من بني مروان، فأخذه بنو مروان حتى يطلق امرأته، فلما طلقها واحدة قالوا له: عد فطلقها الثانية، فلما طلقها الثانية قالوا له: عد فطلقها الثالثة، فعرف أنها بانت منه ولا تحل له، فقال عند ذلك:
150
ثم قال تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً. نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول، وزوجها ثابت بن قيس وكانت تبغضه، فأتت رسول الله ﷺ فقالت: لا أنا ولا ثابت فقال لها: «أَتُرَدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» فقالت: نعم وزيادة. فقال: «أَمَّا الزِّيَادَة، فلا». فدعا رسول الله ﷺ زوجها وخلعها من زوجها، فذلك قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً من المهر إِلَّا أَنْ يَخافا، يعني: يعلما أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، أي أمر الله فيما أمر ونهى. قرأ حمزة يَخافا بضم الياء على فعل ما لم يسم فاعله، والباقون: بالنصب. وقرأ ابن مسعود: إِلا أَنْ يخافوا.
ثم قال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، يقول: إن علمتم أن لا يكون بينهما صلاح في المقام، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ، أي لا حرج على الزوج أن يأخذ ممَّا افتدت به المرأة، إن كان النشوز من قبل المرأة. فأما إذا كان النشوز من قبل الزوج، فلا يحل له أن يأخذ، بدليل ما قاله في آية أخرى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النساء: ٢٠].
ثم قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، أي أحكامه وفرائضه فَلا تَعْتَدُوها، أي لا تجاوزوها. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ، أي يتجاوز أحكام الله وفرائضه بترك ما أمر الله تعالى أو بعمل ما نهاه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يقول: الضارون الشاقون بأنفسهم. ويقال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، يعني الطلاق مرتان، فلا تجاوزوهما إلى الثالثة. وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله بالتطليقة الثالثة، فأولئك هم الظالمون فَإِنْ طَلَّقَها الثالثة، فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الثالثة، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، أي تتزوج بزوج آخر ويدخل بها وإنما عرف الدخول بالسنة. وهو ما روي عن ابن عباس أن رفاعة القرظي طلق امرأته ثلاثاً، وكانت تدعى تميمة بنت وهب، فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير، فأتت النبيّ صلّى الله عليه وسلم وقالت: إن رفاعة طلقني فبتَّ طلاقي، فتزوجني عبد الرحمن، ولم يكن عنده إلا كهدبة الثوب فقال لها: «أَتُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟» فقالت: نعم. قال: «لَيْسَ ذلك مَا لَمْ تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ وَيَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ». فذلك قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، يعني إذا طلقها الثالثة.
قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها، يعني واحدة أو اثنتين فَلا جُناحَ عَلَيْهِما، يعني المرأة والزوج أَنْ يَتَراجَعا. ويقال: فإن طلقها الزوج الثاني بعد ما دخل عليها، فلا جناح عليهما- يعني المرأة والزوج الأول- أن يتراجعا، يعني أن يتزوجها مرة أخرى. إِنْ ظَنَّا، يعني إن علما أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، أي فرائض الله يقول إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني. قوله: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، أي فرائض الله وأمره ونهيه وأحكامه، يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. ويقال: إنما قال: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، لأن الجاهل إذا بيّن له، فإنه لا يحفظ ولا يتعاهد والعالم يحفظ ويتعاهد. فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال.
151
ثم وقوله: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، أي مضى عليهن ثلاث حيض قبل أن يغتسلن، وقبل أن يخرجن من العدة فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، يعني يراجعها ويمسكها بالإحسان. قوله: أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أو لا يراجعها ويتركها حتى تخرج من العدة.
وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً والضرار في ذلك أن يدعها حتى إذا حاضت ثلاث حيض، وأرادت أن تغتسل، راجعها ثم طلقها يريد بذلك أن يطول عليها عدتها. فنهى الله عن ذلك فقال تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً. لِتَعْتَدُوا، أي لتظلموهن. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الإضرار، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، يقول: أضر بنفسه بمعصيته في الإضرار. وقال الزجاج: فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، يعني عرَّض نفسه للعذاب، لأن إتيان ما نهى الله عنه، تعرض لعذاب الله، لأن أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه.
ثم قال: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً، يعني القرآن لعباً. ويقال إنهم كانوا يطلقون ولا يعدون ذلك طلاقاً، ويجعلونه لعباً، فنزل: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً. قرأ عاصم في رواية حفص: هُزُواً بغير همز، وكذلك قوله: كُفُواً أَحَدٌ [الصمد: ٤] والباقون: بالهمز.
وهما لغتان، ومعناهما واحد. ثم قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، يقول: احفظوا نعمة الله عليكم بالإسلام. وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ، يقول: احفظوا ما ينزل الله عليكم في القرآن من المواعظ وَالْحِكْمَةِ يعني الفقه في القرآن يَعِظُكُمْ بِهِ، يقول:
ينهاكم عن الضرار.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في الضرار، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ من أعمالكم فيجازيكم به. وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، يقول: انقضت عدتهن فَلا تَعْضُلُوهُنَّ، يقول:
لا تحبسوهن ولا تمنعوهن أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ بمهر ونكاح جديد وذلك أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي الدحداح، فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها له وقال لها: وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه. فنزلت هذه الآية: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ، أي يؤمر به. مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أي يصدق بالله واليوم الآخر ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ، يعني خير لكم ويقال: أصلح لكم، وَأَطْهَرُ من الريبة.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ من حب كل واحد منهما لصاحبه وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ذلك. ويقال: ذلكم أطهر لقلوبكم من العداوة، لأن المرأة تأتي الحاكم فيزوجها، فتدخل في قلوبهم العداوة والبغضاء. وقال الضحاك: والله يعلم أن الخير في الوفاء والعدل، وأنتم لا تعلمون ما عليكم بالتفريق من العقوبة ومن العذاب. وقال مقاتل: فدعا رسول الله ﷺ معقلاً، وقال: «إِنْ كُنْتَ
152
مُؤْمِنَاً فَلَا تَمْنَعْ أُخْتَكَ عَنْ أَبِي الدَّحْدَاحِ»، فقال: آمنت بالله وزوجتها منه وفي هذه الآية دليل أن الولي إذا منع المرأة عن النكاح، كان للحاكم أن يزوجها.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٣]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لاَ تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣)
قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ، يعني سنتين كاملتين، لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ، يعني أن يكمل الرضاعة. فإن قيل: لما ذكر الحولين، فما الحاجة إلى الكاملين؟ قيل له: هذا للتأكيد، لأن بعض الحولين يسمى حولين، كما قال في آية أخرى:
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة: ١٩٧]، وإنما هي شهران وعشرة أيام. فهاهنا لما ذكر الحولين الكاملين، علم أنه أراد الحولين بغير نقصان.
ثم قال تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ، أي على الأب أجر الرضاع ونفقة الأم وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، أي على قدر طاقته. لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها، يعني لا يجب على الأب من النفقة والكسوة إلا مقدار طاقته. لاَ تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها يقول: لا ينزع الولد من الأم لكونها أحق بولدها من غيرها. قرأ ابن كثير وأبو عمرو: ولا تضارّ بضم الراء على معنى الخبر تبعاً لقوله: لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها، ولفظه لفظ الخبر والمراد به النهي، وقرأ الباقون: بالنصب على صريح النهي. وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ، يعني الأب لا يضار بالولد، فتطرح الأم الولد إليه بعد ما عرفت أنه لا يقبل ثدي غيرها، فلا يجوز لها أن تفعل ذلك.
ويقال: وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ يعني إذا كان الأب يجد ظئراً أرخص من الأم والأم أبت أن ترضع إلا بأجر كثير، فإن الأب لا يجبر على ذلك، وله أن يدفع إلى ظئر أخرى.
قال تعالى: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ، يعني إذا مات الأب وله وارث سوى الأب، فعلى وارث الصبي مثل ما على الأب. ويقال: على وارث الأب لا يضارها ولا تضاره. ويقال مثل ذلك، يعني الكسوة الرزق في رضاع الصبي ونفقته. فَإِنْ أَرادا فِصالًا، أي فطاماً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ، يعني الأب والأم دون الحولين. ويقال: بعد الحولين. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما إن لم يرضعاه سنتين، أي لا حرج عَلَيْهِمَا. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ،
يعني أن تأخذوا ظئراً لأولادكم، إذا أرادت الأم النكاح فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما أتيتم بالمعروف، يعني لا إثم عليكم إذا أعطيتم الظئر ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ، ما أعطيتم بما تعرفونه. ويقال: أعطيتم ما شرطتم لهن.
ثم خوفهما في الإضرار، فقال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ، يعني الأبوين فلا يضار واحد منهما لصاحبه. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ من الإضرار فيجازيكم به. قرأ ابن كثير:
«مَا أَتَيْتُمْ» بغير مد، يعني ما جئتم وفعلتم وقرأ الباقون بالمد، يعني ما أعطيتم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٤]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ، أي يموتون وَيَذَرُونَ أَزْواجاً، أي يتركون نساء من بعدهم. يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ، يعني ينتظرن بأنفسهن أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، لا يتزوجن ولا يتزين ولا يخرجن من بيوتهن ولا يتزين. فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، يعني انقضت عدتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ، أي فلا إثم عليكم فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من الزينة والكحل والخضاب. وذلك أن المرأة إذا انقضت عدتها، فكان أولياؤها يمنعونها من الزينة، فأباح الله تعالى لهن الزينة بعد العدة.
ويقال: فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بِالْمَعْرُوفِ، يعني إذا تزوجن بزوج آخر، إذا كان الزوج كفواً لها، فلا يمنع من نكاحها. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ من الزينة والمنع من نكاحها وغير ذلك. وهذه الآية عامة، يستوي فيها المدخولة وغير المدخولة.
ويستوي فيها الصغيرة والكبيرة في وجوب العدة من الزينة والمنع وغير ذلك.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٥]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لاَّ تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ. فقد أباح للخاطب أن يتعرض للنكاح، ونهاه عن الخطبة والعقد فقال: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ يقول: لا بأس
بأن يأتي الرجل المرأة المتوفى عنها زوجها، فيعرض لها ويقول: إنك لتعجبيني وإنك لموافقة لي، فأرجو أن يكون بيننا اجتماع، ونحو ذلك من الكلام. فهذا هو التعريض من خطبة النسآء أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ، يعني أضمرتم في أنفسكم. قال الزجاج: كل شيء سترته فقد أكننته وكننته فهو مكنون، فلذلك أباح الله تعالى التعريض.
ثم قال: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ، يعني خافوا الله في العدة من تزويجهن. وَلكِنْ لاَّ تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا، يعني نكاحاً ويقال: جماعاً. وقال القتبي: سمي الجماع سراً، لأنه يكون في السر فيكنى عنه. إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً، يعني عدة حسنة، نحو إنك لجميلة وإني فيك لراغب.
وقوله تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ، يقول: ولا تحققوا عقدة النكاح، يعني لا تتزوجوهن في العدة. حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ، يعني حتى تنقضي عدتها. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ، يعني ما فى قلوبكم من الوفاء وغيره. فَاحْذَرُوهُ، يعني أن تخالفوه فيما أوجب عليكم. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ، أي غفور ذو تجاوز، حليم حيث لم يعجل عليكم بالعقوبة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣٦ الى ٢٣٧]
لاَّ جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)
لاَّ جُناحَ عَلَيْكُمْ، أي لا حرج عليكم إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ قرأ حمزة والكسائي تَمَاسُّوهُنَّ بالألف من المفاعلة، وهو فعل بين اثنين وقرأ الباقون بغير ألف، لأن الفعل للرجال خاصة. وقال بعضهم: المس هو الجماع خاصة، فما لم يجامعها لا يجب عليه تمام المهر. وقال بعضهم: إذا جامعها أو خلا بها، وجب عليه جميع الصداق إذا كان سمى لها مهراً وإن لم يكن سمى لها مهراً، فلها مهر مثلها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها المتعة. فذلك قوله تعالى: لاَ جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، يعني إذا تزوج الرجل امرأة ثم لم يعجبه المقام معها، فلا بأس بأن يطلقها قبل أن يمسها.
قوله: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، يعني لا حرج عليكم أن تتزوجوا النساء ولم تسموا لهن مهراً وَمَتِّعُوهُنَّ، يعني إذا طلقها قبل أن يدخل بها، فعلى الزوج أن يمتعها عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ. قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص: «قَدَرَهُ» بنصب الدال، وقرأ الباقون بالجزم ومعناهما واحد.
قوله: وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ قال ابن عباس في رواية الكلبي: أدنى ما يكون من المتعة ثلاثة أثواب درع وخمار وملحفة وهكذا قال في رواية الضحاك حَقًّا، أي واجباً عَلَى الْمُحْسِنِينَ أن يمنعوا النساء على قدر طاقتهم.
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، يعني من قبل أن تجامعوهن وقبل أن تخلوا بهن، هكذا قال في رواية الضحاك، وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، يعني على الزوج نصف ما فرض لها من المهر. إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ، يعني إلا أن تترك المرأة فلا تأخذ شيئاً، أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ، يعني الزوج يكمل لها جميع الصداق. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، يقول: أن تعفو بعضكم بعضاً كان أقرب إلى البر، فأيهما ترك لصاحبه فقد أخذ بالفضل. ويقال: إن الله تعالى ندب إلى الإنسانية، فأمر كل واحد منهما بالعفو، ثم قال تعالى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ، يعني لا تتركوا الفضل والإنسانية فيما بينكم في إتمام المهر أو في الترك. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم بذلك.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣٨ الى ٢٣٩]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى قال ابن عباس: أي حافظوا على الصلوات المكتوبات الخمس في مواقيتها بوضوئها وركوعها وسجودها وَالصَّلاةِ الْوُسْطى، يعني الصلاة الوسطى خاصة حافظوا عليها. ويقال: هي صلاة العصر. ويقال هي صلاة الصبح ويقال: هي صلاة الظهر.
حدثنا القاسم بن محمد بن روزبه قال: حدّثنا عيسى بن خشنام قال: حدثنا سويد بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن داود بن الحصين أنه بلغه، عن رجل، عن زيد بن ثابت أنه بلغه، عن علي وابن عباس أنهما كانا يقولان: صلاة الوسطى صلاة الصبح.
قال مالك: وذلك رأي. أخبرني القاسم بن محمد قال: حدّثنا عيسى بن خنشام قال:
حدثنا سويد بن سعيد بن مالك بن أنس، عن داود بن الحصين، عن رجل، عن زيد بن ثابت أنه قال: صلاة الوسطى: صلاة الظهر.
156
وبهذا الإسناد، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن الحكم، عن أبي يونس مولى عائشة- رضي الله عنها- أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى:
صلاة العصر.
قال الفقيه: حدّثنا أبو إبراهيم الترمذي، عن أبي إسحاق، عن أبي جعفر الطحاوي قال:
حدّثنا علي بن معبد قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم عن أبي إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي، عن عمرو بن رافع، مولى عمر وكان يكتب المصاحف أنه قال: اكتتبتني حفصة ابنة عمر مصحفاً وقالت: إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها، حتى تأتيني فأمليها عليك كما حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغتها أتيتها بالورقة فقالت: اكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر. ويقال: هي قراءة عبد الله بن مسعود.
وروي عن أبي هريرة وابن عمر أنهما قالا: صلاة الوسطى العصر وروي عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن عليّ أنه قال: كنت ظننت أنها صلاة الفجر، حتى سمعت رسول الله ﷺ يقول يوم الخندق وقد شغلوه عن صلاة العصر، قال: «مَلأَ الله بُطُونَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً، شَغَلُونا عَنِ الصَّلاةِ الوُسْطَى، صَلاةِ العَصْرِ». وإنما كان فائدة التخصيص بصلاة العصر، لأن ذلك وقت الشغل ويخاف فوتها ما لا يخاف لسائر الصلوات. وقد أكد بالذكر قال:
وَالصَّلاةِ الْوُسْطى خاصة. ومن طريق المعقول يدل أيضاً على أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر، لأن قبلها صلاتي النهار وبعدها صلاتي الليل.
ثم قال تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ، أي قوموا لله طائعين في الصلاة مطيعين. ويقال:
صلوا لله قائمين، فكأنه أمر بطول القيام في الصلاة. كما قال في آية أخرى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ [آل عمران: ٤٣]. وروي عن رسول الله ﷺ أنه سئل عن أفضل الصلاة فقال: «التِي يُطِيلُ القُنُوتَ فِيهَا»، يعني القيام. ويقال: قانتين، يعني ساكتين، كما روي عن زيد بن أرقم أنه قال:
كنا نتكلم في الصلاة، حتى نزلت هذه الآية: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. وقال الزجاج: المشهور في اللغة الدعاء في القيام، وحقيقة القانت القائم بأمر الله تعالى.
ثم قال: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً، يعني إذا خفتم العدو فصلوا قياماً، فإن لم تستطيعوا فصلوا ركباناً على الدواب، حيث ما توجهت بكم بالإيماء. وهذا موافق لما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه ذكر صلاة الخوف، ثم قال في آخره «فَإنْ كانَ الخَوْفُ أَشَدَّ مِنْ ذِّلِكَ، صَلُّوا عَلَى أَقْدَامِكُمْ أَوْ رُكْبَاناً مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا». فَإِذا أَمِنْتُمْ، يعني العدو والخوف، فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ، يعني صلوا كما علمكم أربعاً أو اثنتين. وعلمكم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، يعني علمكم الصلاة ولم تكونوا تعلمون من قبل.
157

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٠ الى ٢٤٢]

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)
ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً، أي يموتون ويتركون نساءهم من بعدهم وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ، أي يوصون لنسائهم. قرأ ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم «وَصِيَّةٌ» بالضم، يعني عليهم وصية وقرأ الباقون: بالنصب، يعني يوصون وصية لأزواجهم. مَتاعاً، أي نفقة وكسوة إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ، يقول: لا يخرجن من بيوت أزواجهن. وهذا في أول الشريعة كانت العدة حولاً وهكذا كان في الجاهلية. ألا ترى إلى قول لبيد:
أَيَا جَارتِي بِينِي فإِنَّكِ طَالِقَه كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَه
وبَيِنِي فَإِنَّ البَيْنَ خَيْرٌ مِنَ العَصَا وَأَنْ لاَ تَزَالُ فَوْقَ رَأْسِكِ بَارِقَه
وَذُوقِي قَنَى الحَيِّ إنِّي ذَائِق قَنَاة أُنَاسٍ مِثْلَ ما أنت ذائقة
وَهُمُ رَبِيعٌ لِلمُجَاوِرِ فِيهِم وَالمُرْمِلاتِ إِذَا تَطَاوَلَ عَامُهَا
ثم نسخ ما زاد على الأربعة أشهر وعشراً، ونسخت الوصية للأزواج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ». ويقال: نسخ بآية الميراث. ثم قال تعالى: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ، يعني من الزينة يحتمل أنه أراد به الخروج بعد مضي السنة، ويحتمل الخروج في السنة إذا خرجت بعذر في أمر لا بدلها منه. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وقد ذكرناها.
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ. والمطلقات أربع: مطلقة يسمى لها مهراً، ومطلقة لم يسم لها مهراً، ومطلقة دخل بها، ومطلقة لم يدخل بها، فالمتعة لا تكون واجبة إلا لمطلقة واحدة وهي التي لم يسم لها مهراً وطلقها قبل الدخول. كما ذكر في الآية التي سبق ذكرها وفي سائر المطلقات المتعة مستحبة وليست بواجبة. حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، أي واجباً على المتقين، وذلك فيما بينه وبين الله تعالى، فلا يجب عليه إلا في المطلقة التي ذكرنا. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ، يعني أمره ونهيه، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما أمرتم به. ويقال: آياته يعني دلائله. ويقال: آيات القرآن.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (٢٤٣)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ، يقول: ألم تخبر: وهذا على سبيل التعجب، كما يقال: ألا ترى إلى ما صنع فلان؟! ويقال: ألم تر، يعني ألم تعلم؟ ويقال: ألم ينته إليك خبرهم؟ يعني الآن نخبرك عنهم. قال ابن عباس: وذلك أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر الناس بالخروج إلى الغزو فخرجوا، فبلغهم أن في ذلك الموضع طاعوناً، فامتنعوا عن الخروج إلى هناك، ونزلوا في موضعهم، فهلكوا كلهم فبلغ خبرهم إلى بني إسرائيل، فخرجوا ليدفنوهم، فعجزوا عن ذلك لكثرتهم، فحظروا عليهم الحظائر. ثم أحياهم الله بعد ثمانية أيام، وبقيت منهم بقايا من البحر ومعهم النتن إلى اليوم وقال بعضهم: بلغهم أن هناك للعدو شوكة وقسوة، فامتنعوا عن الخروج إليهم فأهلكهم الله تعالى.
وقال بعضهم: إن أرضاً وقع بها الوباء فخرج الناس منها هاربين، فنزلوا منزلاً فماتوا كلهم فمر بهم نبي يقال له حزقيل- عليه السلام- فقال: الحمد لله القادر الذي يحيي هذه النفوس البالية ليعبدوه. فدعا لهم فأحياهم الله تعالى فذلك قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ. قال ابن عباس في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك: ثمانية آلاف، ويقال: سبعون ألفاً، ويقال: ثمانية عشر ألفاً. وقال بعضهم: هم ألوف كما قال الله تعالى، ولا يعرف كم عددهم إلا الله. حَذَرَ الْمَوْتِ، أي خرجوا من ديارهم مخافة الموت.
فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا، أي أماتهم الله ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، يعني على أولئك الكفار حين أحياهم. يقال: هو ذو منَ على جميع الناس. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ رب هذه النعمة، يعني الكفار. ويقال: على الذي أحياهم.
وفي هذه الآية: دلالة نبوة محمد ﷺ حيث أخبر عمن قبله ولم يكن قرأ الكتب، فظهر ذلك عند اليهود والنصارى وعرفوا أنه حق. وفي هذه الآية إبطال قول من يقول: إن الإحياء بعد الموت لا يجوز، وينكر عذاب القبر لأن الله تعالى يخبر أنه قد أماتهم ثم أحياهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٤]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤)
قوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قال ابن عباس في رواية أبي صالح: لما أحياهم الله قال لهم: قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ويقال: هذا أمر بالجهاد لأمة محمد ﷺ قال لهم: قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، أي سميع لمقالتهم، عليم بالأرض التي وقع فيها الوباء.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٥]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)
قوله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً. نزلت في شأن أبي الدحداح، قال: يا رسول الله، إن لي حديقتين لو تصدقت بواحدة منهما، أيكون لي مثلها في الجنة؟ قال «نَعَمْ». قال: وأم الدحداح معي؟ يعني امرأته. قال: «نَعَمْ». قال: والدحداح معي؟ يعني ابنه.
فقال: «نَعَمْ». قال: أشهدك أني قد جعلت حديقتي لله تعالى. ثم جاء إلى الحديقة، فقام على الباب وتحرج الدخول فيها، بعد ما جعلها لله تعالى ونادى: يا أم الدحداح اخرجي، فإني جعلت حديقتي لله تعالى، فخرجت وتحولت إلى حديقة أخرى، وقالت له: هنيئاً لك بما فعلت أو كما فعلت، فنزل قوله تعالى: فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً يعني ألفي ألف ضعف.
قال الفقيه: حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال: حدّثنا فارس بن مردويه قال: حدثنا محمد بن الفضيل قال: حدثنا المعلى بن منصور قال: حدثنا جعفر قال: حدّثنا علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي قال: بلغني عن أبي هريرة حديث أنه قال: إن الله تعالى يكتب للعبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فحججت ذلك العام لألقى أبا هريرة، فأكلمه في هذا الحديث فلقيته فأخبرته فقال: ليس كذا قلت، ولم يحفظ الذي حدثك عني. وإنما قلت: ألفي ألف حسنة. ثم قال أبو هريرة: أو لستم تجدون في كتاب الله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً. فقوله: كَثِيرَةً أكثر من ألف ألف ومن ألفي ألف.
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يَقْبِضُ، أي يقتر الرزق على من يشاء وَيَبْصُطُ، أي يوسع على من يشاء من عباده. ويقال: يقبض الصدقات ويخلفها الثواب في الدنيا والآخرة. وقال بعضهم يسلب قوماً ما أنعم عليهم ويوسع على آخرين. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة قرأ حمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو: فَيُضاعِفَهُ بالألف وبضم الفاء، وقرأ عاصم فَيُضاعِفَهُ بالألف وبنصب الفاء، وقرأ ابن كثير فَيُضْعِفُهُ بغير ألف وبضم الفاء، وقرأ ابن عامر:
فَيُضْعِفُهُ بغير ألف وبنصب الفاء. فأما من قرأ: فَيُضاعِفَهُ بالألف والضم، يضعفه فهما لغتان بمعنى واحد. يقال: ضاعفت الشيء وضعفته. ومن قرأ بضم الفاء عطفه على قوله:
يُقْرِضُ اللَّهَ. ومن نصبه فعلى جواب الاستفهام. وقرأ نافع يَبْصُطُ بالصاد، وقرأ الباقون:
بالسين وهو أظهر عند أهل اللغة. وفي كل موضع يكون الصاد قريباً من الطاء، جاز أن يقرأ بالسين وبالصاد مثل المصيطرون ومثل: الصراط، لأنه يشتد فرق الصاد عند ذلك فيجوز القراءة بالسين.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٦ الى ٢٥٢]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لاَ طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)
160
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى، يعني الرؤساء والقادة. وقال بعضهم: اشتقاق الملأ في اللغة من الملأ وهم الجماعة التي تملأ باديتهم. وقال بعضهم: الناظر إذا نظر إليهم، امتلأ عينه هيبة منهم وذلك أن كفار بني إسرائيل قهروا
161
مؤمنيهم فقتلوهم، وسبوهم، وأخرجوهم من ديارهم. وكان رئيسهم جالوت، فلما اضطر المسلمون في ذلك جاءوا إلى نبي لهم يقال له: أشمويل بن هلقانا- عليه السلام- بلغة العبرانية وبالعربية إسماعيل بن هلقان، إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ، يعني أشمويل: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً، يعني ادع لنا الله تعالى أن يجعل لنا ملكاً، يعني رجلاً ينتظم به أمرنا. نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
ف قالَ لهم أشمويل: هَلْ عَسَيْتُمْ. قرأ نافع: هَلْ عَسَيْتُمْ بكسر السين، وقرأ الباقون: بالنصب، وهي اللغة المعروفة. والأول لغة لبعض العرب هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا، يعني إذا بعث الله لكم ملكاً وفرض عليكم القتال، لعلكم لا تقاتلون وتجبنون عن القتال. قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يقول: كيف لا نقاتل في سبيل الله وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا، يعني أخذوا ديارنا وسبوا أبنائنا.
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ، أي فرض عليهم القتال. تَوَلَّوْا وتركوا القتال ولم يثبتوا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، يعني إن الله تعالى يعلم جزاء من تولى عن القتال.
ثم بيّن لهم القصة بقوله: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً، يعني قال: أجابكم ربكم إلى ما سألتم من بعث ملك تقاتلون في سبيل الله معه، وقد جعل لكم طالوت ملكاً وكان طالوت فيهم حقير الشأن، وكانت النبوة في بني لاوي بن يعقوب، والملك في سبط يهوذا. ولم يكن طالوت من أهل بيت النبوة ولا من أهل بيت الملك.
ويقال: كان رجلاً يبيع الخمر، ويقال: كان بقاراً، ويقال: كان دباغاً، ولكنه كان عالماً فرفعه الله بعلمه. قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا، يعني المسلمون قالوا لنبيهم: من أين يكون له الملك عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ؟ لأن منا الملوك. وَلَمْ يُؤْتَ طالوت سَعَةً مِنَ الْمالِ ينفق علينا. والملك يحتاج إلى مال ينفق على جنوده وأعوانه.
قالَ لهم نبيهم- عليه السلام-: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ، يعني اختاره عليكم وَزادَهُ بَسْطَةً، أي فضيلة فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وكان رجلاً جسيماً وكان عالماً. ويقال:
كان عالماً بأمر الحرب. وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. والواسع في اللغة: هو الغني. ويقال: واسع بعطية الملك، عالم لمن يعطيه. ويقال: واسع يعني باسط الرزق، عليم بمن يصلح له الملك. فظنوا أنه يقول لهم من ذات نفسه. وقالوا له: إن كان الله تعالى أمرك بذلك، فأتنا بآية قال الله تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ وذلك أن الكفار كانوا أخذوا التابوت، وكان التابوت للمسلمين، فإذا خرجوا للغزو والتابوت معهم كانوا يرجون الظفر. فأخذ الكفار التابوت ووضعوه في مزبلة- أي في مخرأة لهم- فابتلاهم الله
162
تعالى بالباسور. ويقال إن أصل الباسور من ذلك الوقت، وأصل الجذام من وقت أيوب- عليه السلام- وتغير الطعام من قبل بني إسرائيل. فجعل الله تعالى آية ملك طالوت رد التابوت إليهم، فذلك قوله تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ يعني علامة ملكة أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ. فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ. قال الكلبي: سكينة أي: طمأنينة، إذا كان التابوت في مكان اطمأنت قلوبهم بالظفر. وقال مقاتل: السكينة كانت دابة ورأسها كرأس الهرة ولها جناحان، فإذا صوَّتت، عرفوا أن النصر لهم. ويقال: كانت جوهراً أحمر يسمع منه الصوت. ويقال:
كانت ريحاً تهب فيها لها صوت يعرفون أن النصرة لهم عند الصوت.
قوله تعالى: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ، يعني الرضاض من الألواح، وقفيز من منّ في طست من ذهب، وعصا موسى، وعمامة هارون قال الكلبي: وكان التابوت من عود الشمشار الذي يتخذ منه الأمشاط، فلما ابتلاهم الله تعالى بالباسور، عرفوا أن ذلك من التابوت، فقالوا: لعل إله بني إسرائيل الذي فينا، يعنون التابوت، هو الذي يفعل بنا هذا الفعل، فأخرجوا بقرتين من المدينة وتركوا أولادها في المدينة، وربطوا التابوت على عجلة ثم ربطوا العجلة بالبقرتين، ثم وجهوهما نحو بني إسرائيل فضربت الملائكة جنوبهما، وساقوهما حتى هجموا بهما على أرض بني إسرائيل، فأصبحوا والتابوت بين أظهرهم. وذلك قوله تعالى: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ، يعني الملائكة ساقوا العجلة. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ، يعني إن في رد التابوت علامة لملك طالوت إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، أي مصدقين بأن ملكه من الله تعالى فعرفوا وأطاعوه.
قوله تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ، يعني فتجهز طالوت وخرج بالجنود وهم سبعون ألفاً، فصاروا في حر شديد، فأصابهم عطش شديد، فسألوا طالوت الماء. ف قالَ لهم طالوت: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ وهو بين الأردن وفلسطين وإنما كان الابتلاء ليظهر عند طالوت من كان مخلصاً في نيته من غيره وأراد أن يميز عنهم من لا يريد القتال، لأن من لا يريد القتال إذا خالط العسكر، يدخل الضعف والوهن في العسكر، لأنه إذا انهزم وهرب ضعف الباقون. ويقال: إن أشمويل هو الذي أخبر طالوت بالوحي، حتى أخبر طالوت قومه حيث قال: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، يعني ليس معي على عدوي، إذا شرب بغير غرفة. وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي، يعني لم يشرب منه يعني غرفة. فَإِنَّهُ مِنِّي، أي معي على عدوي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: غُرْفَةً بنصب الغين، وقرأ الباقون برفع الغين. فمن قرأ بالنصب، يكون مصدر غرفة، أي مرة واحدة باليد. ومن قرأ بالضم، هو ملء الكف وهو اسم الماء مثل: الخَطوة والخُطوة. قال بعض المفسرين: الغَرفة بكف واحدة والغُرفة بالكفين. وقال بعضهم: كلاهما لغتان ومعناهما واحد.
163
فلما خرجوا من المفازة وقد أصابهم العطش، وقفوا في النهر، فَشَرِبُوا مِنْهُ بغير غرفة إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً. وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال لأصحابه يوم بدر: «أَنْتُمْ عَلَى عَدَدِ المُرْسَلِينَ وَعَدَدِ قَوْمِ طَالوتَ ثَلاثمائةٍ وثلاثة عشر»، فأمر من شرب بغير غرفة أن يرجعوا. ويقال: قد ظهر على شفاههم علامة، عرف بها من شرب من الذي لم يشرب، فردهم وأمسك المخلصين منهم.
فَلَمَّا جاوَزَهُ، يعني جاوز النهر. هُوَ، يعني طالوت وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ودنوا إلى عسكر جالوت، وكان معه مائة ألف فارس كلهم شاكون في السلاح. قالُوا، أي المؤمنون:
لاَ طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ، لما رأوا من كثرتهم. قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ، يعني أيقنوا بالموت لما رأوا من كثرة العدو فأيقنوا بهلاك أنفسهم. ويقال: أيقنوا بالبعث بعد الموت وهو قوله: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ، وهم أهل العلم منهم: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ، يعني كم من جند قليل، غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً عدتهم بِإِذْنِ اللَّهِ، أي بنصر الله وأمره، إذا خلصت نيتهم، وطابت أنفسهم بالموت في طاعة الله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصرة على عدوهم أي معينهم.
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ، يقول: خرجوا واصطفوا لجالوت. دعوا الله تعالى، قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً، أي أصبب علينا صبراً، معناه ارزقنا الصبر على القتال، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا عند القتال وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
قال وكان داود- عليه السلام- راعياً، وكان له سبعة أخوة مع طالوت فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم- وكان اسمه إيشا- أرسل إليهم ابنه داود ينظر إليهم ما أمرهم ويأتيه بخبرهم فلما خرج، مرَّ على حجر فقال له الحجر: خذني فإني حجر إبراهيم قتل بي عدوه، فأخذه وجعله في مخلاته ثم مرَّ بآخر فقال له: خذني فإني حجر موسى الذي قتل بي كذا كذا، ثم مرَّ بثالث فقال له: خذني فأنا الذي أقتل جالوت، فأخذه وجعله في مخلاته فأتاهم وهم بالصفوف وقد برز جالوت وقال: من يبارزني؟ فلم يخرج إليه أحد. ثم قال: يا بني إسرائيل لو كنتم على حق، لخرج إلي بعضكم. فقال داود لإخوته: أما فيكم أحد يخرج إلى هذا الأقلف؟
فقالوا له: اسكت. فذهب داود إلى ناحية من الصف ليس فيها أحد من إخوته، فمر طالوت به وهو يحرض الناس، فقال له داود: وما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ قال طالوت: أنكحه ابنتي واجعل له نصف ملكي. قال داود: فأنا أخرج إليه. فأعطاه طالوت درعه وسيفه، فلما خرج في الدرع جرها، لأن طالوت كان أطول الناس، فرجع داود إلى طالوت وقال: إني لم أتعود القتال في الدرع، فرد الدرع إليه. فقال له طالوت: فهل جربت نفسك؟ قال: نعم وقع ذئب في غنمي فضربته بالسيف فقطعته نصفين. فقال له طالوت: إن الذئب ضعيف، فهل
164
جربت نفسك في غير هذا؟ قال: نعم دخل أسد في غنمي فضربته، ثم أخذت بلحييه فشققتها، فقال له: هذا أشد، ثم قال لَّهُ مَا اسمك؟ قال: داود بن إيشا. فعرفه. فرأى أنه أجلد إخوته، فأخذ قذافته وخرج. فلما رآه جالوت قال: خرجت إليّ لتقتلني بالقذافة كما تقتل الكلاب؟
فقال له داود: وهل أنت إلا مثل الكلاب؟ قال الكلبي: وكان على رأس جالوت بيضة ثلاثمائة رطل، فقال له جالوت: إما أن ترميني وإما أن أرميك. فقال له داود: بل أنا أرميك. ثم أخذ واحداً من الأحجار الثلاثة فرماه، فوقع في صدره ونفذ من صدره فقتل خلفه خلقاً كثيراً. وقال بعضهم: صارت الأحجار كلها واحداً فلما رماها تفرقت في عسكره فقتلت خلقاً كثيراً. وقال بعضهم: رمى واحداً بعد واحد، فقتل جالوت وخلقاً كثيراً وهزمهم الله بإذنه، فذلك قوله عز وجل: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ.
ثم إن طالوت زوج داود ابنته وأراد أن يدفع إليه نصف ملكه، فقال له وزراؤه: إن دفعت إليه نصف ملكك، فيصير منازعاً لك في ملكك، ويفسد عليك الملك. فامتنع من ذلك وأراد قتل داود- عليه السلام- وكان في ذلك ما شاء الله حتى دفع إليه النصف، ثم خرج طالوت إلى بعض المغازي فقتل هناك، فتحول الملك كله إلى داود. ولم يجتمع بنو إسرائيل كلهم على ملك واحد إلا على داود. فذلك قوله عز وجل: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، يعني ملك اثني عشر سبطاً وَالْحِكْمَةَ، يعني النبوة، وأنزل عليه الزبور أربعمائة وعشرين سورة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ، أي علم داود من صنع الدروع وكلام الطيور وتسبيح الجبال معه وكلام الدواب.
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، أي يدفع البلاء عن المؤمنين بالنبيين- عليهم السلام- ويدفع بالمؤمنين عن الكفار، لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، أي هلك أهلها. ويقال: ولولا دفع الله جالوت بطالوت، لهلكت بنو إسرائيل كلهم. ويقال: ولولا دفع الله البلايا بسبب المطيعين، لهلك الناس كما جاء في الأثر: لولا رجال خشع وصبيان رضع وبهائم رتع، لصببت عليكم العذاب صباً. وروي عن الحسن أنه قال: لولا الصالحون لهلك الطالحون.
ويقال: لولا ما أمر الله المؤمنين بحرب الكفار، لفسدت الأرض بغلبة الكفار. ويقال لولا ما ينتفع بعض الناس ببعض، لأن في كل أرض بلدة يتولد فيها شيء لا يوجد ذلك في سائر البلدان، فينتفع بها أهل سائر البلدان وينتفع بعضهم ببعض، فيكون في ذلك صلاح أهل الأرض.
قرأ نافع هاهنا وَلَوْلاَ دِفَاع الله وفي الحج: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بغير ألف في كلا الموضعين، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ بغير ألف، إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ [الحج: ٣٨] بالألف. وتفسير القراءتين واحد وهما لغتان معروفتان.
ثم قال تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ، أي ذو منّ عليهم بالدفع عنهم.
165
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ وهو ما قصّ عليه من أخبار الأمم. نَتْلُوها عَلَيْكَ، أي ننزلها بقراءة جبريل عليك بِالْحَقِّ، أي بالصدق. وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، يعني إنك لمن جملة المرسلين الذين ذكرناهم. وقال الزجاج تلك آيات الله، أي هذه الآيات التي أنبئت، أي العلامات التي تدل على توحيده وتثبت رسالته، إذ كان يعجز عن إتيان مثلها المخلوقون وإنك من هؤلاء المرسلين، لأنك قد أتيتهم بالعلامات.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٣]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (٢٥٣)
تِلْكَ الرُّسُلُ، الذين أنزلنا عليك خبرهم في القرآن، فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الدنيا. ويقال: التفضيل يكون على ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون دلالة نبوته أكثر. والثاني: أن تكون أمته أكثر. والثالث: أن يكون بنفسه أفضل. ثم بيّن تفضيلهم فقال: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، مثل موسى- عليه السلام- وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ، يعني إدريس- عليه السلام- كما قال تعالى: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم: ٥٧]. وقال الزجاج: جاء في التفسير أنه أراد محمدا صلى الله عليه وسلم، لأنه أرسله إلى الناس كافة. وليس شيء من الآيات التي أعطاها الله الأنبياء- عليهم السلام- إلا والذي أعطى محمدا ﷺ أكثر، لأنه قد كلمته الشجرة، وأطعم من كف من التمر خلقاً كثيراً، وأمرَّ يده على شاة أم معبد فدرت لبناً كثيراً بعد الجفاف، ومنها انشقاق القمر فذلك قوله: وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الزخرف: ٣٢]، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ، يعني العجائب والدلائل وهو: أن يحيي الموتى بإذنه، ويبرئ الأكمه والأبرص وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، يعني أعناه بجبريل حين أرادوا قتله.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ التي أتاهم بها موسى وعيسى- عليهما السلام- وقال الزجاج: يحتمل وجهين: ولو شاء الله ما أمر بالقتال بعد وضوح الحجة ويحتمل ولو شاء الله اضطرهم إلى أن يكونوا مؤمنين، كما قال تعالى:
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام: ٣٥] ولكن اختلفوا في الدين فصاروا فريقين فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بالكتاب والرسل. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وجعلهم على أمر واحد. وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، أي يعصم من يشاء من الاختلاف، ويخذل من يشاء فلا مرد لأمره، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٤]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ، أي تصدقوا. قال بعضهم: أراد به الزكاة المفروضة. وقال بعضهم: صدقة التطوع. ثم بيّن لهم أن الدنيا فانية وأنه في الآخرة لا ينفعهم شيء إلا ما قدموه. قال تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ، يقول: لا فداء فيه وَلا خُلَّةٌ يعني الصدقة وهذا كما قال في آية أخرى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: ٦٧]. وَلا شَفاعَةٌ للكافرين كما يكون في الدنيا.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ بالنصب وكذلك في سورة إبراهيم: «لاَ بَيْعَ فِيهِ وَلاَ خِلاَلَ» وقرأ الباقون بالضم مع التنوين. ثم قال تعالى عز وجل:
وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أنفسهم. والظلم في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه. وكان المشركون يقولون: الأصنام شركاؤه وهم شفعاؤنا عند الله فوحد الله نفسه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٥]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)
فقال عز وجل: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ يقول: لا خالق ولا رازق ولا معبود إلا هو. ويقال: الإثبات إذا كان بعد النفي، فإنه يكون أبلغ في الإثبات، فلهذا قال: اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ فبدأ بالنفي ثم استثنى الإثبات، فيكون ذلك أبلغ في الإثبات. الْحَيُّ الْقَيُّومُ، يقول: الحي الذي لا يموت، ويقال: الحي الذي لا بدئ له، يعني لا ابتداء له الْقَيُّومُ، يعني القائم على كل نفس بما كسبت، ويقال: القائم بتدبير أمر الخلق في إنشائهم ورزقهم ومعنى القائم: هو الدائم.
لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ روي عن علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- أنه قال:
السنة والنوم، كلاهما واحد، ولكنه أول ما يدخل في الرأس يقال له: سنة ويكون بين النائم واليقظان، فإذا وصل إلى القلب صار نوماً. ويقال: معناه: أنه ليس بغافل عن أمور الخلق، فيكون النوم على وجه الكناية. وقال بعضهم هو على ظاهره أنه مستغن عن النوم.
167
وروي في بعض الأخبار أن موسى بن عمران- عليه السلام- حين رفع إلى السماء، سأل بعض الملائكة أينام ربنا؟ وقال بعضهم: خطر ذلك بقلبه، ولم يتكلم به فأمره الله تعالى أن يأخذ زجاجتين، وأمره بأن يحفظهما، ثم ألقى عليه النوم فلم يملك نفسه حتى نام، فانكسرت الزجاجتان في يده فقال له: يا موسى لو كان لي نوم، لهلكت السموات والأرض أسرع من كسر الزجاجتين في يدك فذلك قوله تعالى: لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ.
لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. كلهم عبيده وإماؤه وهو مستغن عن الشريك، ويقال: معناه أن كل ما فى السموات والارض يدل على وحدانيته. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ، يقول: من ذا الذي يجترئ أن يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ دون أمره، رداً لقولهم حيث قالوا: هم شفعاؤنا عند الله. وفي الآية دليل على إثبات الشفاعة لأنه قال: إِلَّا بِإِذْنِهِ ففيه دليل على أن الشفاعة قد تكون بإذنه للأنبياء والصالحين.
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، يعني الله لا إله إلا هو الحي القيوم، هو الذي يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدنيا، يعني يعلم أن الأصنام لا يدعون الألوهية. وَما خَلْفَهُمْ، يعني يعلم أنه لا شفاعة لهم. وقال مقاتل: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، يعني ما كان قبل خلق الملائكة وَما خَلْفَهُمْ، أي ما يكون بعد خلقهم. وقال الزجاج: يعني يعلم الغيب الذي تقدمهم والغيب الذي يأتي من بعدهم. وقال الكلبي: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الآخرة وَمَا خَلْفَهُمْ من أمر الدنيا.
ثم قال: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ، يعني الملائكة لا يعلمون الغيب، لأن بعض الناس يعبدون الملائكة ويرجون شفاعتهم. فأخبر أنهم لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يعلمون مما تقدمهم ولا مما بعدهم، إلا بما أنبأهم الله تعالى. ويقال: لا يدركون جميع علمه. والإحاطة في اللغة: إدراك الشيء بكماله إِلَّا بِما شاءَ فيعلمهم.
ثم أخبر عن عظمته فقال تعالى: إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، أي ملأ كرسيه السموات والأرض.
وروي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: السموات السبع والأرضون السبع تحت جنب الكرسي كحلقة بأرض فلاة. وهكذا قال الكلبي ومقاتل: وقال بعضهم: الكرسي هو المكان الذي خلق الله فيه السَّموات والأرض. وقال بعضهم: الكرسي والعرش واحد، ولكنه مرة ذكر بلفظ العرش ومرة ذكر بلفظ الكرسي. وقال بعضهم: الكرسي غير العرش.
قال الفقيه: حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال: حدّثنا فارس بن مردويه قال: حدثنا محمد بن الفضيل قال: حدّثنا أبو مطيع، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة- وهو
168
عاصم بن أبي النجود- عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود قال: بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين العرش مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء والله فوق العرش- أي بالعلو والقدرة- يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ.
وقال الزجاج: قال ابن عباس: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، يعني علمه وقال قوم: كرسيه، قدرته التي يمسك بها السموات والأرض وهذا قريب من قول ابن عباس. ثم أخبر عن قدرته فقال: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما، يقول: ولا يثقله حفظهما أي حفظ السموات والأرض.
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، أي الرفيع تعالى فوق خلقه، العظيم يعني أعلى وأعظم من أن يتخذ شريكا. ويقال: يحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة أوجه: وجه إنسان ووجه ثور ووجه أسد ووجه نسر أقدامهم في الصخرة التي تحت الأرضين هكذا قال الكلبي ومقاتل. ويقال: يدعو بالوجه الذي كوجه الإنسان لبني آدم، ويسأل الله تعالى لهم الرزق والرحمة والمغفرة وبالوجه الذي كوجه الثور يدعو للأنعام والرزق وبالوجه الذي كوجه الأسد يدعو للوحوش وبالوجه الذي كوجه النسر يدعو للطيور.
وروي عن محمد بن الحنفية أنه قال: لما نزلت آية الكرسي، خرّ كل صنم في دار الدنيا، وخرّ كل ملك في الدنيا على وجهه، وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وهربت الشياطين فضرب بعضهم بعضا، فاجتمعوا إلى إبليس وأخبروه بذلك، فأمرهم أن يبحثوا عن ذلك، فجاؤوا إلى المدينة، فبلغهم أن آية الكرسي قد نزلت. وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ آية الكرسي خلف كلّ صلاة، أعطاه الله تعالى صلاة الشّاكرين وصلاة المطيعين وصلاة الصّابرين، ولا يمنعهم دخول الجنّة إلّا الموت».
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٦]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)
قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، يعني لا تكرهوا في الدين أحداً، بعد فتح مكة وبعد إسلام العرب. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، أي قد تبين الهدى من الضلالة. ويقال: قد تبين الإسلام من الكفر، فمن أسلم وإلا وضعت عليه الجزية ولا يكره على الإسلام.
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ، يعني بالشيطان ويقال: الصنم. ويقال: هو كعب بن الأشرف، وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، يقول: بالثقة يعني بالإسلام. ويقال:
فقد تمسك بلا إله إلا الله. لَا انْفِصامَ لَها، يعني لا انقطاع لها ولا زوال لها ولا هلاك لها.
ويقال: قد استمسك بالدين الذي لا انقطاع له من الجنة. وَاللَّهُ سَمِيعٌ بقولهم، عَلِيمٌ بهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٧]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، أي حافظهم ومعينهم وناصرهم. يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، يعني من الكفر إلى الإيمان. واللفظ لفظ المستقبل والمراد به الماضي، يعني أخرجهم. ويقال: ثبتهم على الاستقامة كما أخرجهم من الظلمات. ويقال: يخرجهم من الظلمات، أي من ظلمة الدنيا ومن ظلمة القبر ومن ظلمة الصراط إلى الجنة.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ، يعني اليهود أولياؤهم كعب بن الأشرف وأصحابه. ويقال: المشركون أولياؤهم الشياطين. يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ، يعني يدعونهم إلى الكفر، كما قال في آية أخرى: أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ [إبراهيم: ٥]، يعني ادع قومك. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، يعني أهل النار هُمْ فِيهَا خالدون أي دائمون.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ، يقول: ألم تخبر بقصة الذي خاصم إبراهيم في توحيد ربه. أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، وهو النمرود بن كنعان، وهو أول من ملك الدنيا كلها.
وكانوا خرجوا إلى عيد لهم، فدخل إبراهيم- عليه السلام- على أصنامهم فكسرها، فلما رجعوا، قال لهم: أتعبدون ما تنحتون؟ فقالوا له: من تعبد أنت؟ قال: أعبد ربي الذي يحيي ويميت. وقال بعضهم: كان النمرود يحتكر الطعام، وكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترون منه، وإذا دخلوا عليه سجدوا له، فدخل عليه إبراهيم ولم يسجد له، فقال له النمرود: ما لك لم تسجد؟ فقال: أنا لا أسجد إلا لربي. فقال النمرود: من ربك؟ فقال له إبراهيم: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ له النمرود: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قال إبراهيم كيف تحيي وتميت؟
فجاءه برجلين فقتل أحدهما وخلى سبيل الآخر، ثم قال: قد أمت أحدهما وأحييت الآخر.
قالَ له إِبْراهِيمَ: إنك أحييت الحي ولم تحيي الميت وإن ربي يحيي الميت.
فخشي إبراهيم أن يلبس النمرود على قومه، فيظنون أنه أحيا الميت كما وصف لهم النمرود، فجاءه بحجة أظهر من ذلك حيث قال: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فإن قيل: لِمَ لَمْ يثبت إبراهيم على الحجة الأولى؟ وانتقل إلى حجة أخرى والانتقال في المناظرة من حجة إلى حجة غير محمود. قيل له: الانتقال على ضربين: انتقال محمود إذا كان بعد الإلزام، وانتقال مذموم إذا كان قبل الإلزام. وإبراهيم- عليه السلام- انتقل بعد الإلزام، لأنه قد تبين له فساد قوله، حيث قال له: إنك قد أحييت الحي ولم تحيي الميت. وجواب آخر: إن قصد إبراهيم- عليه السلام- لم يكن للمناظرة، وإنما كان قصده إظهار الحجة، فترك مناظرته في الإحياء والإماتة على ترك الإطالة، وأخذ بالاحتجاج بالحجة المسكنة، ولأن الكافر هو الذي ترك حدّ النظر، حيث لم يسأل عما قال له إبراهيم، ولكنه اشتغل بالجواب عن ذات نفسه، حيث قال: أنا أحيي وأميت.
وقوله تعالى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، أي انقطع وسكت متحيراً. يقال: بهت الرجل إذا تحير. وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، أي لا يرشدهم إلى الحجة والبيان. وروي في الخبر أن الله عز وجل قال: وعزتي وجلالي لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ، حَتَّى آتي بالشمس من المغرب، ليعلم أني أنا القادر على ذلك ثم أمر النمرود بإبراهيم فألقي في النار، وهكذا عادة الجبابرة أنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة، اشتغلوا بالعقوبة فأنجاه الله من النار وسنذكر قصة ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٩]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)
ثم قال عز وجل: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ قال بعضهم: معناه إحيائي ليس كإحياء النمرود، ولكن إحيائي كإحياء عزير- عليه السلام- أحييته بعد مائة عام. وقال بعضهم هو معطوف على ما سبق من قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [البقرة: ٢٤٣] وإِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة: ٢٥٨] أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ. قال مقاتل: والذي
171
مرَّ على قرية هو عزير بن شرخيا، وكان من علماء بني إسرائيل، فمرَّ بدير هرقل بين واسط والمدائن على حمار فمرَّ بها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها. وقال الضحاك بن مزاحم: هو عزير النبي- عليه السلام- مرَّ ببيت المقدس، وقد خربها بخت نصر، وقتل منهم سبعين ألفاً، وأسر منهم سبعين ألفاً، أي من بني إسرائيل فمرَّ عزير فقال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها.
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: إن بخت نصر غزا بني إسرائيل، فسبى منهم ناساً كثيرةً، فجاء بهم وفيهم عزير بن شرخيا وكان من علماء بني إسرائيل، فجاء بهم إلى بابل.
فخرج ذات يوم لحاجة له إلى دير هرقل على شاطئ دجلة، فنزل تحت ظل شجرة وهو على حمار له، فربط حماره تحت ظل شجرة، ثم طاف بالقرية فلم ير بها ساكناً وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها، يقول: ساقطة على سقوفها، وذلك أن السقف يقع قبل الحيطان ثم الحيطان على السقف، فَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا. قال بعض أهل اللغة: الخاوية، الخالية. وقال بعضهم:
بقيت حيطانها لا سقوف عليها. وقال الزجاج: عروشها هي الخيام وهي بيوت الأعراب.
فتناول من الفاكهة والتين والعنب، ثم رجع إلى حماره فجلس يأكل من تلك الفاكهة، ثم عصر من العنب فشربه، ثم جعل فضل التين والعنب في سلة، وفضل العصير في الزق ثم نظر إلى القرى فتعجب من كثرة ثمرها وفناء أهلها ف قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فلم يشك في البعث، ولكن أحب أن يريه الله كيف يحيي الموتى. فلما تكلم عزير بذلك، نام في ذلك الموضع.
فَأَماتَهُ اللَّهُ في منامه مِائَةَ عامٍ، وأمات حماره، ثُمَّ بَعَثَهُ الله تعالى في آخر النهار، ومنعه الله تعالى- في حال موته- عن أبصار الناس والسباع والطير. فلما بعثه الله تعالى، سمع صوتاً قالَ له: كَمْ لَبِثْتَ، أي كم مكثت في نومك يا عزير؟ قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً ثم نظر إلى الشمس، وقد بقي منها شيء لم تغرب فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. قالَ له: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ، يعني كنت ميتاً مائة عام، ثم أخبره ليعتبر. فقال: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ، يعني الفاكهة وَشَرابِكَ، يعني العصير. لَمْ يَتَسَنَّهْ، يعني لم يتغير، كقوله:
مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد: ١٥]، أي غير متغير. ويقال: لم يتسنّه، كأنه لم تأت عليه السنون.
قرأ حمزة وابن عامر وأبو عمرو: كَمْ لَبِثْتَ بإدغام الثاء والتاء. وقرأ الباقون بإظهارها. وقرأ الكسائي: لم يتسنّ بغير هاء عند الوصل وأثبتت عند القطع. وقرأ حمزة:
بحذف الهاء عند الوصل والقطع جميعاً. وقرأ الباقون بإثبات الهاء عند الوصل والقطع. وقرأ نافع: أَنَا أُحْيِي بمد الألف، وكذلك في جميع القرآن نحو هذا، إلا في قوله: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ [الأعراف: ١٨٨] وقرأ الباقون بغير مد ومعنى القراءتين في هذا كله واحد.
172
ثم نظر عزير- عليه السلام- إلى حماره وقد بلي فنودي: انظر إلى حمارك، فإذا هو عظم أبيض يلوح، وقد تفرقت أوصاله. ثم سمع صوتاً قال: أيتها العظام البالية، إني جاعل فيكن روحاً فاجتمعن، فسعى بعضها إلى بعض حتى استقر كل شيء في موضعه، ثم بسط عليه الجلد ونفخ فيه الروح، فإذا هو قائم ينهق. فخرَّ عزير ساجداً لله تعالى وقال عند ذلك: أعلم إن الله على كل شىء قدير فذلك قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ، أي عبرة للناس، لأن أولاده قد صاروا شيوخاً وقد كان شاباً. وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بالزاي، وقرأ الباقون بالراء. فمن قرأ بالراء، فمعناه كيف نحييها. ونظيرها أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ [الأنبياء: ٢١]، أي يبعثون الموتى. ومن قرأ بالزاي: أي كيف يضم بعضها إلى بعض. النشز: ما ارتفع من الأرض.
وهذا كما جاء في الأثر: الرضاع ما أنبت اللحم، وأنشز العظم. وقال أهل اللغة: أصل النشز الحركة يقال: نشز الشيء إذا تحرك، ونشزت المرأة عن زوجها والمراد هاهنا تضمنها.
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ، قرأ حمزة والكسائي: أَعْلَمُ بالجزم على مضي الأمر، وقرأ الباقون: قالَ أَعْلَمُ على معنى الخبر عن نفسه ومعناه علمت بالمعاينة ما كنت أعلمه قبل ذلك غيباً. أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الإحياء وغيره. وقال بعضهم: أن عزيراً لما أحياه الله تعالى قال في نفسه: كم لبثت؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم. فلما رجع إلى منزله ولقيه أقرباؤه وحسبوا غيبته، فقالوا له: بل لبثت مائة عام وهذا قول من قال: إن هذا لم يكن عزيراً النبي- عليه السلام- بل رجل آخر سوى عزير النبي- عليه السلام-.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٠]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى، وذلك أن النمرود لما قال له: أنا أحيي وأميت. ووصف لهم ذلك، فسألوا إبراهيم فقالوا له: كيف يحيي ربك الموتى؟ فأراد إبراهيم أن يرى ذلك بالمعاينة، حتى يخبرهم بما يرى من المعاينة، فسأل ربه فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى.
وقال مقاتل: مرَّ إِبراهيم فرأى جيفة على ساحل البحر، يأكل منها دواب البحر والطيور، وبعضها يصير مستهلك في الأرض، فوقع في قلبه أن الذي تفرق في البحر وفي بطون الطير، كيف يجمعها الله تعالى، فأراد أن يعاين ذلك فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى.
ف قالَ له ربه: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ يعني أو لم تصدق بأني أحيي الموتى؟ قالَ بَلى قد صدقت وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، أي ليسكن قلبي. ويقال: إنما قال له: أو لم تؤمن؟ لكي يظهر إقراره، لكي لا يظن أحد بعده أنه لم يكن مقراً بذلك في ذلك الوقت، فظهر إقراره بقوله: بلى. وقال سعيد بن جبير: ليسكن قلبي أنك اتخذتني خليلاً.
قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ، فأخذ ديكا وحمامة وطاوسا وغراباً وفي بعض الروايات أخذ طاوسا وثلاثة من الطيور مختلفة ألوانها وأسماؤها وريشها. فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، أي فقطعهن وقال السدي: يعني فدقهن، وقال الأخفش: يعني اضممهن إليك. وذكر مقاتل بإسناده عن الأعمش قال: فيه تقديم وتأخير، فخذ إليك أربعة من الطيور فقطعهن واخلط بعضهن ببعض، ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، ثُمَّ فرقهن في أربعة أجبل. ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً. ففعل ذلك ودعاهن، فسعين على أرجلهن.
ويقال: إنه لما وضعهن على الجبال، هبت الرياح الأربعة التي تقوم يوم القيامة فواحدة من قبل المشرق، والأخرى من قبل المغرب، وواحدة من قبل اليمين، والأخرى من قبل الشمال فرفعت الأعضاء المتفرقة عن مواضعها وحملتها إلى المواضع الأخرى، حتى اجتمع أعضاء كل طير في موضعها: فجعل إبراهيم ينظر ويتعجب حيث ينضم بعضها إلى بعض. فقال عند ذلك قوله: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ في ملكه، حَكِيمٌ حكم بالبعث ولم أسأله لريب كان في قلبي، ولكن سألته ليسكن قلبي في الخلة. قرأ ابن كثير أرْني بجزم الراء، وقرأ الباقون بالكسر وقرأ حمزة فصرهن بكسر الصاد، والباقون بالضم. فمن قرأ بالكسر يعني قطعهن، ومن قرأ بالضم يعني فضمهن إليك ويقال هما لغتان ومعناهما وتفسيرهما واحد.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦١ الى ٢٦٢]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما حثّ الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم فضة وقال: يا رسول الله، كانت لي ثمانية آلاف درهم، فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم
وأربعة آلاف أقرضتها لربي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لك فيما أَمْسَكْتَ وَفِيْمَا أَعْطَيْتَ». وقال عثمان بن عفان: يا رسول الله، علي جهاز من لا جهاز له، فنزلت هذه الآية مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وفي الآية مضمر، ومعناه مثل النفقة التي تنفق فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ. وطريق آخر مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم، كمثل زارع زرع في الأرض حبة ف أَنْبَتَتْ الحبة سَبْعَ سَنابِلَ، أي أخرجت سَبْعَ سَنَابِلَ. فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، فيكون جملتها سبعمائة. فشبه المتصدق بالزارع، وشبه الصدقة بالبذر، فيعطيه الله بكل صدقة سبعمائة حسنة.
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ، أي يزيد على سبع مائة لمن يشاء، فيكون مثل المتصدق كمثل الزارع إذا كان الزارع حاذقاً في عمله، ويكون البذر جيداً، وتكون الأرض عامرة، يكون الزرع مخصباً طيباً فكذلك المتصدق، إذا كان صالحاً، والمال طيباً ويوضع في موضعه، فيصير الثواب أكثر.
وَاللَّهُ واسِعٌ، أي واسع الفضل لتلك الأضعاف، عَلِيمٌ بما ينفقون وبما نووا فيها.
قرأ ابن كثير وابن عامر: والله يضعّف بتشديد العين وحذف الألف، وقرأ الباقون يُضاعِفُ بالألف ومعناهما واحد. فالذي قرأ يضعّف من التضعيف، والذي قرأ يُضاعِفُ من المضاعفة.
ثم قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أي يتصدقون بأموالهم ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً، أي لا يمنون عليهم بما تصدقوا عليهم ولا يؤذونهم ولا يعيرونهم بذلك، ومعنى الأذى والتعيير هو أن يقع بينه وبين الفقير خصومة، فيقول له: إني أعطيتك كذا وكذا. وقال بعضهم: المنَّ يشبَّه بالنفاق، والأذى يشبّه بالرياء. ثم تكلم الناس في ذلك، فقال بعضهم: إذا فعل ذلك، لا أجر له في صدقته وعليه وزرٌ فيما منَّ على الفقير به.
وقال بعضهم: ذهب أجره فلا أجر له ولا وزر عليه. وقال بعضهم له أجر الصدقة ولكن ذهبت مضاعفته وعليه الوزر بالمنِّ.
ثم قال تعالى: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، أي ثوابه في الآخرة. وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلهم من العذاب. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا من أمر الدنيا. ويقال: الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان، حين اشترى بئر رومة، ثم جعلها سبيلاً على المسلمين.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٣]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي دعاء الرجل لأخيه بظهر الغيب. وَمَغْفِرَةٌ أي يعفو ويتجاوز عمن ظلمه خير من صدقة يعطيها، ثم يمن على من تصدق عليه. ويقال: قول معروف للفقير، يعني
إذا أتاه سائل سأله، ولم يكن عنده شيء يعطيه، فيدعو له بالجنة والمغفرة. خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يعطيها له، ويَتْبَعُها أَذىً. ويقال: وعد المعطي خير من صدقة يتبعها أذى. ويقال: وعد الكريم خير من نقد اللئيم. ويقال: دعاء الفقير إذا دعا لصاحب الصدقة، ومغفرة الله خير من الصدقة التي يتبعها أذى. ويقال: قول معروف أن يتجاوز عمن أساء إليه، ويحسن له القول خير له من صدقة يتبعها أذى ويقال: الأمر بالمعروف، والصبر على ما أصابه، والتجاوز عن الذي أضرّ به، خير من صدقة يتبعها أذى. ثم قال: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ أي غني عما عندكم من الصدقة حليم، حيث لم يعجل العقوبة على من يمن بالصدقة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى فالله تعالى أمر عباده برأفته أن لا يمنوا بصدقاتهم، لكي لا يذهب أجرهم، ثم ضرب لذلك مثلاً فقال تعالى: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
يعني المشرك إذا تصدق، فأبطل الشرك صدقته، كما أبطل المن والأذى صدقة المؤمن، ثم ضرب لهما مثلاً جميعاً لصدقة المؤمن الذي يمن وبصدقة المشرك. فقال تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ.
قال القتبي: الصفوان الحجر الذي لا ينبت عليه شيء، يعني كمثل حجر صلب عليه تراب. فَأَصابَهُ وابِلٌ يعني المطر الشديد فَتَرَكَهُ صَلْداً يعني المطر ترك الصفا نقياً أجرد أملس ليس عليه شيء من تراب فكذلك نفقة صاحب الرياء، ونفقة المشرك لم يبق لهما ثواب.
ثم قال تعالى: لاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا والله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين. أي لا يجدون للصدقة ثواباً في الآخرة، وهذا كما قال في آية أخرى: ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ [إبراهيم: ١٨]. وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ يعني لا يرشدهم إلى الإسلام والإخلاص، ولا يوفقهم الله بل يخذلهم مجازاة لكفرهم، ثم ضرب مثلاً لنفقة المؤمن الذي يريد بنفقته وجه الله تعالى، ولا يمن بها فقال عز وجل:

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٥]

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ يعني يتصدقون طلب رضاء الله تعالى بصدقاتهم وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني وتصديقاً من قلوبهم، يعني يصدقون الله تعالى بالثواب في الآخرة، والخلف في الدنيا. ويقال: وتثبيتا من أنفسهم، يعني وتحقيقاً من قلوبهم يقصدون بها وجه الله. كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ يعني بستاناً في مكان مستو مرتفع. أَصابَها وابِلٌ يعني البستان أصابه المطر الشديد فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: أكلها بجزم الكاف، ونصب اللام. وقرأ الباقون بالضم أكلها، وتفسير القراءتين واحد، وقرأ عاصم وأبو عمرو بربوة بنصب الراء، وقرأ الباقون بالضم، وقرأ ابن سيرين بكسر الراء، وفيه ثلاث لغات: رَبْوَة وَرِبْوَةَ وَرَبْوة. وتفسير القراءات واحد.
وفي الآية تقديم وتأخير، ومعناه كمثل جنة بربوة أصابها وابل فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ فأتت أكلها ضعفين، يعني البستان إذا أصابه المطر أو الطل، والطل البطيء من المطر، وهو مثل الندى، فأتت أكلها ضعفين، يعني اخضرت أوراق البستان، وأخرجت ثمرها ضعفين، فكذلك الذي يتصدق به لوجه الله تعالى يكون له الثواب ضعفين، يعني للواحد عشرة إلى سبعمائة إلى ما لا نهاية له وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ثم ضرب مثلاً آخر، لعمل الكافر والمنافق فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٦]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ يقول: مثل الكافر كمثل شيخ كبير، له بستان، وله أولاد صغار ضعفاء عجزة، لا حيلة لهم، ومعيشته ومعيشة ذريته من بستانه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ يعني ريحاً بها نار، أي فأتته السموم الحارة، فأحرقت بستانه، ولم يكن له قوة أن يغرس مثل بستانه، ولم يكن عند ذريته خير يعينونه، فيبقى متحيراً، فكذلك الكافر إذا
لقي ربه أحوج ما كان، فلا يجد خيراً، ولا يدفع عن نفسه، ولا يكون له معين، ولا يعود إلى الدنيا، كما لا يعود الشيخ الكبير شاباً، وكان أحوج إليه قوله تعالى كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في أمثاله فتعتبرون.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ يقول: من حلالات مَّا كَسَبْتُمْ في الآية أمر بالصدقة من الحلال، وفيها دليل: أن من تصدق من الحرام لا يقبل، لأن الواجب عليه أن يردها إلى موضعها.
ويقال: أنفقوا من طيبات، يعني من مال اللذيذ، والشهي عندكم مما كسبتم. يقول: مما جمعتم من الذهب والفضة قوله تعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي من الثمار والحبوب. وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ أي لا تعمدوا إلى رديء المال فتصدقوا منه، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما حثّ الناس على الصدقة، فجعل الناس يأتون بالصدقة، ويجمعون في المسجد، فجاء رجل بعذق من تمر عامته حَشَفٌ فنزلت هذه الآية: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ، يعني لا تعمدوا إلى الخشف فتتصدقوا منه وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ بل الطيب إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ يعني إلا أن يهضم أحدكم، فيأخذ دون حقه مخافة أن يذهب جميع حقه، فيأخذ ذلك للضرورة مخافة موت حقه، والله تعالى غني عن ذلك، فلا يقبل إلا الطيب، ويقال: إلا أن تغمضوا، يعني إلا أن يضطر أحدكم، فمسته الحاجة فرضي بذلك. قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أي غني عما عندكم من الصدقات، حميد في أفعاله.
ويقال: حميد بمعنى محمود ويقال: حميد من أهل أن يحمد ويقال: حميد يقبل القليل، ويعطي الجزيل.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٨]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ يقول الشيطان يأمركم بشيئين، والله تعالى يأمركم بشيئين: أما الشيطان، فإنه يأمركم بالفقر، ويقول: لا تنفقوا ولا تتصدقوا، فإنكم تحتاجون إلى ذلك.
وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ قال الكلبي: يعني يمنع الزكاة. ويقال: جميع الفواحش مثل الزنى وقول الزور وغير ذلك وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ لذنوبكم يعني المغفرة من الله. وَفَضْلًا يعني خلفاً في الدنيا وَاللَّهُ واسِعٌ الفضل عَلِيمٌ بما تنفقون. ويقال: عليم بمواضع الصدقات.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٩]
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ قال ابن عباس: يعني النبوة. وقال الكلبي: يعني الفقه. وقال مقاتل: يعني علم القرآن. ويقال: الإصابة في القول. ويقال: المعرفة بمكائد الشيطان ووساوسه. وقال مجاهد: الإصابة في القوم والفهم والفقه. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً يقول من يعط علم القرآن، فقد أعطي خَيْرًا كَثِيرًا. وَما يَذَّكَّرُ أي ما يتفكر. ويقال:
ما يتعظ بما في القرآن إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ يعني ذوو العقول. ويقال: إن من أعطي الحكمة والقرآن، فقد أعطي أفضل مما أعطي من جميع كتب الأولين من الصحف وغيرها، لأنه تعالى قال لأولئك وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، وسمي لهذا خيراً كثيراً، لأن هذا جوامع الكلم.
وقال بعض الحكماء: من أعطي العلم والقرآن، ينبغي أن يعرف نفسه، ولا يتواضع لأصحاب الدنيا لأجل دنياهم، لأن ما أعطي أفضل مما أعطوا أصحاب الدنيا، لأن الله تعالى سمى الدنيا متاعاً قليلاً. وقال: قل متاع الدنيا قليل، وسمى العلم خيراً كثيراً.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٠ الى ٢٧١]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)
لقوله وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ يقول ما تصدقتم من صدقة. أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فوفيتم بنذوركم فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ أي يحصيه ويقبله منكم، وهذا وعد من الله تعالى، فكأنه يقول: إنه لا ينسى بل يعطي ثوابكم. وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يعني ليس للمشركين من مانع في الآخرة يمنعهم من العذاب إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ وذلك أن الله تعالى لما حثهم على الصدقة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزل قوله: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ، يعني إن تعلنوا الصدقات المفروضة. فَنِعِمَّا هِيَ قرأ حمزة والكسائي وابن عامر، فنعما هي بنصب النون وكسر العين، وقرأ عاصم في رواية حفص ونافع في رواية
ورش، وابن كثير بكسر النون وكسر العين، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر، فنعما بكسر النون وجزم العين، وكل ذلك جائز وفيه ثلاث لغات نِعِم نَعِم ونِعْم، وما زيدت فيها للصلة.
وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص، ويكفر بالياء وضم الراء. وقرأ حمزة ونافع والكسائي ونكفر بالنون وجزم الراء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ونكفر بالنون وضم الراء، فمن قرأ بالجزم، فهو جزاء الصدقة، ومن قرأ بالضم فهي على المستقبل، يعني إن تعلنوا الصدقات فحسن وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من صدقة العلانية.
فأما صدقة التطوع فقد اتفقوا أن الصدقة في السر أفضل، وأما الزكاة المفروضة قال بعضهم: السر أفضل، لأنه أبعد من الرياء وقال بعضهم: العلانية أفضل، لأن الزكاة من شعائر الدين، فكل ما كان أظهر، كان أفضل كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين، ولأن في ذلك زيادة رغبة لغيره في أداء الزكاة ثم قال تعالى: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعني فيما تصدقتم في السر والعلانية يتقبل منكم، ويكون في ذلك كفارة سيئاتكم، ويعطي ثوابكم في الآخرة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٢ الى ٢٧٤]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما قدم مكة لعمرة القضاء، وخرجت معه أسماء بنت أبي بكر، فجاءتها أمها قتيلة، وجدها أبو قحافة، فسألا منها حاجة فقالت: لا أعطيكما شيئاً حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنكما لستما على ديني، فاستأمرت
180
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، أي يوفق من يشاء لدينه. فإن قيل قد قال في آية أخرى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: ٥٢] وقال هاهنا: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي يوفق.
قيل ما يشاء إنما أراد به هناك الدعوة. وهاهنا أراد به الهدى خاصة، وهو التوفيق إلى الهدى.
ثم قال تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ يعني ما تنفقوا من مال، فثوابه لأنفسكم إذا تصدقتم على الكفار، أو على المسلمين.
وروي عن عمر بن الخطاب أنه رأى رجلاً من أهل الذمة، يسأل على أبواب المسلمين فقال: ما أنصفناك أخذنا منك الجزية ما دمت شابا، ثم ضيعناك بعد ما كبرت وضعفت، فأمر بأن يجري عليه قوته من بيت المال.
ثم قال تعالى: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ يعني لا تنفقوا إلا ابتغاء ثواب الله وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يوف ثوابه إليكم. وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم وصدقاتكم، فيكون ما الأولى بمعنى الشرط، وما الثانية للجحود وما الثالثة للخير.
ثم بيّن موضع الصدقة فقال تعالى: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني النفقة والصدقة للفقراء الذين حبسوا أنفسهم في طاعة الله، وهم أصحاب الصفة كانوا نحواً من أربعمائة رجل، جعلوا أنفسهم للطاعة، وتركوا الكسب والتجارة. قوله: لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي لا يستطيعون الخروج إلى السفر في التجارة. قوله: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ قرأ حمزة وعاصم وابن عامر: يحسبهم بنصب السين في جميع القرآن، وقرأ الباقون: بالكسر وتفسير القراءتين واحد، يعني يظن الجاهل بأمرهم وشأنهم أنهم أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ لأنهم يظهرون أنفسهم للناس باللباس وغيره، كأنهم أغنياء ويتعففون عن المسألة. قوله تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ أي بصفرة الوجوه من قيام الليل وصوم النهار لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً يعني إلحاحاً قال ابن عباس رضي الله عنه: لا يسألون الناس إلحاحاً ولا غير إلحاح، ويقال: أصله من اللحاف، لأن السائل إذا كان ملحاً، فكأنه يلصق بالمسؤول فيصير كاللحاف يلتصق، وجعل ذلك كناية عنه. ثم قال تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ يعني عليم بما أنفقتم ويقال هذا على معنى التحريض، فكأنه يقول عليكم بالفقراء الذين أحصروا في سبيل الله. وقال بعضهم:
هذا على معنى التعجب، فكأنه يقول عجباً للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله ويقال: إنه رد إلى أول الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا ثم قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ قال مقاتل والكلبي: نزلت هذه الآية في شأن علي بن أبي طالب،
181
كانت له أربعة دراهم لم يملك غيرها، فلما نزل التحريض على الصدقة تصدق بدرهم بالليل، وبدرهم بالنهار، وبدرهم في السر، وبدرهم في العلانية، فنزلت هذه الآية الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ. سِرًّا وَعَلانِيَةً يعني خفية وظاهراً.
ويقال: هذا حثّ لجميع الناس على الصدقة يتصدقون في الأحوال كلها وفي الأوقات كلها فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٥ الى ٢٨١]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا يعني يأكلون الربا استحلالاً لاَ يَقُومُونَ يوم القيامة من قبورهم إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ أي يتخبطه الشيطان مِنَ الْمَسِّ أي من الجنون.
ويقال: أنهم يبعثون يوم القيامة، وقد انتفخت بطونهم كالحباب، وكلما قاموا سقطوا، والناس يمشون عليهم، فيكون ذلك علامة آكل الربا ويقال يكون بمنزلة المجنون ذلِكَ بِأَنَّهُمْ يعني الذي نزل بهم لأنهم قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا معناه استحلوا الرِّبا، وكان الرجل إذا حل أجل ماله طالبه فيقول له المطلوب: زدني في الأجل، وأزيدك في مالك فيفعلان ذلك.
فإذا قيل لهما: إن هذا رباً قالا: الزيادة في أول البيع، وعند حلول الأجل سواء.
182
ويقال: إنهم استحلوا الربا وقالوا: الربا والبيع في الحل سواء، فالله تعالى أبطل قولهم فقال تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ ولم يقل جاءته، لأن التأنيث ليس بحقيقي، ويجوز أن يذكر ويؤنث، لأنه انصرف إلى المعنى، يعني فمن جاءه نهي مِنْ رَبِّهِ في القرآن في بيان تحريم الربا فَانْتَهى عن أكل الربا فَلَهُ مَا سَلَفَ يعني ليس عليه إثم فيما مضى قبل النهي، لأن الحجة لم تقم عليهم، ولم يعلموا بحرمته، وأما اليوم فمن تاب عن الربا، فلا بدَّ له من أن يرد الفضل، ولا يكون له ما سلف، لأن حرمة الربا ظاهرة بين المسلمين، لأن كتاب الله تعالى فيهم.
ثم قال عز وجل: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ في المستأنف إن شاء عصمه، وإن شاء لم يعصمه وَمَنْ عادَ إلى استحلال الرِّبا فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ قال ابن مسعود آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهداه ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: «سَيَأْتِي عَلَى الَّناسِ زَمَانٌ لا يبقى أحد إلا أَكَلَ الرِّبا، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلِ الرِّبا أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ». وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «الرِّبا بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَاباً، أدْنَاها كَإِتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ»، يعني كالزاني بأمه.
ثم قال تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي يبطله، ويذهب ببركته وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ يقول:
يقبلها ويضاعفها. ويقال: إن مال آكل الربا لا يخلو من أحد أوجه ثلاثة، إما أن يذهب عنه أم عن ولده، أو ينفقه فيما لا يصلح وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ يعني جاحد بتحريم الرِّبا أَثِيمٍ يعني عاص بأكله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني الطاعات فيما بينهم وبين ربهم وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني الصلوات الخمس وَآتَوُا الزَّكاةَ يعني أعطوا الزَّكاة المفروضة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وقد ذكرناه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي أطيعوا الله ولا تعصوه فيما نهاكم من أمر الرِّبا وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مصدقين بتحريمه. وقال أهل اللغة: إن الحقيقة على ثلاثة أوجه: إن بمعنى ما، كقوله: إِنِ الْكافِرُونَ إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: ٢٩]. وإن بمعنى لقد، كقوله إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا [الإسراء: ١٠٨]. وتَاللَّهِ إِنْ كُنَّا، قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات: ٥٦]، إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ [يونس: ٢٩]، وإن بمعنى إذ كقوله: وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: ١٣٩]، وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة: ٢٧٨] نزلت هذه الآية في نفر من بني ثقيف، وفي بني المغيرة من قريش، وكانت ثقيف يربون لبني المغيرة في الجاهلية، وكانوا أربعة أخوة منهم مسعود وعبد ياليل وأخواهما يربون لبني المغيرة، فلما ظهر النبيّ صلّى الله عليه وسلم على أهل مكة، وضع الرِّبا كله، وكان أهل الطائف قد صالحوا على أن لهم رباهم على الناس يأخذونه، وما كان عليهم من رباً للناس، فهو موضوع عنهم لا يؤخذ
183
منهم، وقد كان رسول الله ﷺ كتب لهم كتاباً، وكتب في أسفله إنَّ لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم، فلما حلّ الأجل طلب ثقيف رباهم، فاختصموا إلى أمير مكة، وهو عتاب بن أسيد، فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولا تستحلوا الرِّبا وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني مصدقين بتحريم الرِّبا. ثم خوفهم فقال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي لم تقروا بتحريم الربا ولم تتركوه فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر فآذِنوا بمد الألف وكسر الذال، وقرأ أبو عمرو وورش عن نافع، فأْذَنُوا بترك الهمزة ونصب الذال، وقرأ الباقون بجزم الألف ونصب الذال، فمن قرأ فَأْذَنُوا بالجزم معناه: فاعلموا بِحَرْبٍ مِّنَ الله، يعني بإهلاك من الله. ويقال معناه:
فاعلموا بأنكم كفار بالله وَرَسُولِهِ ومن قرأ فآذنوا بالمد يقول: اعلموا بعضكم بعضاً بحرب، أي بإهلاك من الله تعالى ورسوله. فقالوا: ما لنا بحرب من الله ورسوله طاقة فما توبتنا؟؟
فقال تعالى: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ التي أسلفتم. وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «كُلُّ رِباً كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رباً وُضِعَ رِبَا العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وكُلُّ دَمٍ كانَ في الجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ دَمٍ وُضِعَ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الحارث بن عبد المطلب». ثم قال: لاَ تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ يعني الطالب لا يظلم بطلب الزيادة، ويرضى برأس المال، ولا يظلم المطلوب، فينتقص عن رأس المال، وذلك أنهم طلبوا رؤوس أموالهم من بني المغيرة، فشكوا العسرة يعني بني المغيرة وقالوا: ليس لنا شيء، وطلبوا الأجل إلى وقت إدراك ثمارهم، فنزل قوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ يعني إن كان المطلوب ذو شدة فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ يقول:
أجله أن يتيسر عليه بإدراك ثماره وَأَنْ تَصَدَّقُوا يقول: لو تصدقتم ولا تأخذونه فهو خَيْرٌ لَكُمْ ويقال: لئن تصدقتم بالتأخير فهو خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن الصدقة خير لكم.
قرأ نافع إلى ميسرة بضم السين. وقرأ الباقون والنصب، وهما لغتان ومعناهما واحد.
وقرأ عطاء فناظرة بالألف. وقرأ العامة بغير ألف، ومعناها واحد. وقرأ عاصم وأن تصدقوا بتخفيف الصاد. وقرأ الباقون بالتشديد، لأن التاء أدغم في الصاد، وأصله تتصدقوا. ثم قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ يقول اجتنبوا عذاب يوم ترجعون فِيهِ إِلَى اللَّهِ يعني في يوم القيامة ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ من خير أو شر وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
يقول: وهم لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً.
وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال آخر آية نزلت من القرآن وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ قرأ أبو عمرو تُرْجَعُونَ بنصب التاء وكسر الجيم وقرأ الباقون بالضم ونصب الجيم قوله تعالى:
184

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٨٢ الى ٢٨٣]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ روي عن ابن عباس أنه قال: الآية نزلت في السلم. ويقال كل دين إلى أجل سلماً كان أو غيره. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى أجل معلوم.
وفي الآية دليل أن المداينة لا تجوز إلا بأجل معلوم فَاكْتُبُوهُ يعني الدين والأجل.
ويقال: أمر بالكتابة، ولكن المراد به الكتابة والإشهاد، لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة.
ويقال: أمر بالكتابة لكي لا ينسى. ويقال: من أدان ديناً، ولم يكتب، فإذا نسي ودعى الله تعالى بأن يظهره يقول الله تعالى: أمرتك بالكتابة فعصيت أمري، وإذا دعى بالنجاة من الزوجة يقول الله تعالى جعلت الطلاق بيدك إن شئت طلقها، وإن شئت فأمسكها.
ثم قال تعالى: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ يعني يكتب الكاتب عن البائع والمشتري يعدل بينهما في كتابته، ولا يزاد على المطلوب على حقه، ولا ينقص من حق الطالب.
185
ويقال: إن هذا أمر للكاتب بالكتابة، وكانت المكاتبة واجبة في ذلك الوقت على الكاتب، لأن الكتبة كانوا قليلاً ثم نسخ بقوله: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة: ٢٨٢] وقال بعضهم: الكتابة لم تكن واجبة، ولكن الأمر على معنى الاستحباب ثم قال: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ يقول ولا يمتنع الكاتب عن الكتابة أَن يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ يعني يكتب شكراً لما أنعم الله عليه حيث علمه الكتابة، واحتاج غيره إليه، فكما أكرمه الله تعالى بالكتابة وفضله بذلك، فيعرف شكره، ولا يمتنع عن الكتابة لمن طلب منه. ثم قال: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ يعني المطلوب هو الذي يملي على الكاتب حتى يكتب الكتابة، لأن قول المطلوب حجة على نفسه، فإذا أملى على الكاتب يكون ذلك إقراراً منه بوجوب الحق عليه.
ثم خوف المطلوب لكيلا ينقص شيئاً من حق الطالب. فقال تعالى: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ يعني المطلوب وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً يقول: لا ينقص مِنَ الحق شَيْئاً، يعني المطلوب.
ويقال: يعني الكاتب، ولا يبخس في الكتابة شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ يعني إذا كان المطلوب سَفِيهاً أي جاهلاً بالإملاء، ويقال أحمق أَوْ ضَعِيفاً يعني صبيّاً عاجزاً عن الإملاء. ويقال: أخرس أو مجنون أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ يعني لا يحسن أَنْ يُمِلَّ هُوَ على الكاتب فيرجع الإملاء على الطالب فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ يعني: ولي الحق أي الطالب هكذا قال في رواية الكلبي. وقال في رواية الضحاك. يعني ولي المدين يعني إذا كان للصبي وصي أو ولي يرجع الإملاء عليه فليملل وليه بِالْعَدْلِ أي بالحق.
ثم أمر بالإشهاد فقال تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا على حقكم شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ يعني من أهل دينكم من الأحرار البالغين فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ فليكن رجلاً وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ يعني من العدول أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما يعني إذا نسيت إحدى المرأتين.
فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى يعني: إذا حفظت إحداهما الشهادة فتذكر صاحبتها ويقال: إذا امتنعت إحداهما عن أداء الشهادة، فتعظها الأُخرى حتى تشهد. قرأ حمزة إن تضل بكسر الألف ونصب التاء وجزم اللام، وإنما كسر الألف على معنى الابتداء والشرط، وجزم اللام لحرف الشرط، فَتُذْكِرُ بضم الراء. وقرأ الباقون بنصب الألف، ومعناه لأن تضل. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو، فتذكر بالتخفيف. وقرأ الباقون بنصب الذال وتشديد الكاف، وهما لغتان أذكرته وذكرته.
ثم قال: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا يعني: الشاهد إذا دعي إلى الحاكم ليشهد، فلا يمتنع عن أداء الشهادة والإباء عن الشهادة حرام، لأن الله تعالى نهى عن الإباء عن الشهادة.
ويقال: إباء الشهادة على ثلاثة أوجه: أحدهما أن يمتنع عن أدائه. والثاني أن يشهد ويقصر في أدائه، لكيلا تقبل شهادته. والثالث بأن لا يصون نفسه عن المعاصي، فيصير منهما لا تقبل
186
شهادته، فكأنه وهو الذي أبطل حق المدعي، وخانه حيث عصى الله تعالى حتى ردت شهادته بمعصيته. ثم قال تعالى وَلا تَسْئَمُوا يقول ولا تملوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً يعني قليل الحق أو كثيره إِلى أَجَلِهِ لأن الكتابة أحصى للأجل وأحفظ للمال ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ أي أعدل وَأَقْوَمُ وأصوب لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى يقول: أحرى وأجدر أَلَّا تَرْتابُوا يعني: لا تشكوا في شيء من حقوقكم.
ثم استثنى الله تعالى إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً قرأ عاصم تجارة حاضرة بالنصب وقرأ الباقون بالرفع، فمن قرأ بالنصب جعله خبر تكون، والاسم مضمر معناه إلا أن تكون المداينة تجارة حاضرة. ومن قرأ بالرفع جعله اسمه يعني إذا كان البيع بالنقد تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ يعني تداولونها أيديكم، ولم يكن المال مؤجلاً فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج أَلَّا تَكْتُبُوها يعني التجارة. ثم قال وَأَشْهِدُوا على حقكم إِذا تَبايَعْتُمْ على كل حال، نقداً كان أو مؤجلاً، وهذا أمر استحباب، ولو ترك الإشهاد جاز البيع. ثم قال تعالى وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ يقال لا يعمد أحدكم إلى الكاتب والشاهد، فيدعوهما إلى الكتابة والشهادة، ولهما حاجة مهمة، فيمنعهما عن حاجتهما، وليتركهما حتى يفرغا من حاجتهما، أو يطلب غيرهما وَإِنْ تَفْعَلُوا يقول: إن تضاروا الكاتب والشاهد فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ يقول معصية منكم وترك الأدب قوله:
وَاتَّقُوا اللَّهَ في الضرر ويقال: واتقوا الله ولا تعصوه فيما أمركم من أمر الكتابة والإشهاد وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ في أمر الكتابة، ويقال: ويؤدبكم الله وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من أعمالكم عَلِيمٌ.
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أي كنتم مسافرين وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً يعني لم تجدوا من يكتب الكتاب وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ، ولم تجدوا كاتباً، يعني الكاتب والصحيفة فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ قرأ ابن كثير وأبو عمرو فرهن، والباقون فرهان، فمن قرأ فرهان، فهو جمع الرهن، ومن قرأ فرهن فهو جمع الرهان، وهو جمع الجمع. ويقال: كلاهما واحد، وهو جمع الرهن، يعني إذا كنتم في السفر، ولم تجدوا من يكتب، ولم تجدوا الصحيفة والدواة، فاقبضوا الرهن. وفي الآية دليل أن الرهن لا يصح إلا بالقبض لأنه جعل الرهن بالقبض.
ثم قال تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً يعني إذا كَانَ الذى عَلَيْهِ الحق أميناً عند الطلب، ولم يطلب منه الرهن، ورضي بدينه بغير رهن قوله: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ يعني أن المطلوب يقضي دينه حيث ائتمنه الطالب، ولم يرتهن منه وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يمنع حقه، ثم رجع إلى الشهود فقال: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ عند الحاكم يقول: من كانت عنده شهادة، فليؤدها على وجهها ولا يكتمها وَمَنْ يَكْتُمْها يعني الشهادة فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ يعني فاجر قلبه.
قوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ من كتمان الشهادة وإقامتها، فهذا وعيد للشاهد على كتمان شهادته لكيلا يكتمها.
187
قرأ حمزة وعاصم فليؤد الذي اؤتمن، بضم الألف، والباقون يقرءون بسكون الألف وكلاهما واحد.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٤]
لِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
لِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الخلق كلهم عبيده وإماؤه، وهو خالقهم ورازقهم، وحكمه نافذ فيهم، معناه لا تعبدوا أحداً سواه، لأنه هو الذي خلق المسيح والملائكة والأصنام، ويقال: لله ما فى السموات وما في الارض، يعني في كل شيء دلالة ربوبيته ووحدانيته، ثم قال: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يعني إن تظهروا ما في قلوبكم أو تضمروه يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أي يجازيكم به الله. وقال بعضهم: يعني في كتمان الشهادة أن تعلنوا الشهادة أو تخفوها يحاسبكم به الله، أي يجازيكم به الله.
وقال الكلبي: وإن تعلنوا ما في أنفسكم من المعصية أو تسروها، ولا تظهروها يجازيكم. قال: لما نزلت هذه الآية شقّ على المسلمين، وقالوا: يا رسول الله إنا لنحدث أنفسنا بالأمر المعصية، ثم لا نعملها، أو نعملها فهو سواء، فشق ذلك على المؤمنين مشقة شديدة، فلما علم الله مشقة ذلك على المؤمنين، أنزل على نبيه ما هو أهون عليه منه فقال:
لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦].
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا الدبيلي، قال حدّثنا أبو عبيد الله عن سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي».
قال سفيان: بلغني أن الأنبياء كانوا يأتون قومهم بهذه الآية وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فيقولون: لا نطيق هذا، ولا نحتمله، فأعقبهم الله المؤاخذة، فلما عرض على هذه الأمة قبلوا، فأعقبهم الله تعالى أن وضعها عنهم، فأنزل الله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦] الآية.
ثم قال عز وجل: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أي لمن تاب عن الذنوب وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أي من أقام على ذلك، وأصر عليه. ويقال: فيغفر لمن يشاء الذنب العظيم، لمن انتزع عنه، ويعذب من يشاء بالذنب الصغير إذا أصر عليه. ويقال: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. قرأ عاصم وابن عامر، فيغفر بضم الراء على معنى الابتداء وقرأ الباقون بالجزم على جواب الشرط، وكذلك في قوله: وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ثم قال: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٨٥ الى ٢٨٦]

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ روي عن الحسن وعن مجاهد: أن هذه الآية نزلت في قصة المعراج، وهكذا روي في بعض الروايات عن عبد الله بن عباس.
وقال بعضهم جميع القرآن نزل به جبريل على محمد ﷺ إلا هذه الآية، فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلم سمعها ليلة المعراج. وقال بعضهم: لم يكن ذلك في قصة المعراج، لأن ليلة المعراج كانت بمكة، وهذه السورة كلها مدنية، فأما من قال: إنها كانت في ليلة المعراج. قال: لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغ فوق السموات في مكان مرتفع، ومعه جبريل حتى جاوز سدرة المنتهى. فقال له جبريل: إني لم أجاوز هذا الموضع، ولم يؤمر أحد بالمجاوزة عن هذا الموضع غيرك، فجاوز النبيّ صلّى الله عليه وسلم حتى بلغ الموضع الذي شاء الله، فأشار إليه جبريل بأن يسلم على ربه. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «التَّحِيَّاتُ لله وَالصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ». فقال الله تعالى: السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، فأراد النبي ﷺ أن يكون لأمته حظ في السلام فقال: «السَّلامُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ». فقال جبريل: وأهل السموات كلهم، أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قال الله تعالى على معنى الشكر آمن الرسول، أي: صدق النبي ﷺ بما أنزل إليه من ربه، فأراد النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يشارك أمته في الفضيلة فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ يعني: يقولون آمنا بجميع الرسل، ولا نكفر بواحد منهم، ولا نفرق بينهم، كما فرقت اليهود والنصارى.
فقال له ربه عز وجل: كيف قبولهم للآي التي أنزلتها؟ وهي قوله: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ [البقرة: ٢٨٤]، فقال: رسول الله: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا أي أطعنا مغفرتك يا ربنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي: المرجع قال الله تعالى عند ذلك: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي طاقتها.
189
ويقال: إلا دون طاقتها ويقال لا يكلف الصلاة قائماً لمن لا يقدر عليها لَها مَا كَسَبَتْ من الخير وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ من الشر فقال له جبريل عند ذلك: سل تعط فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«ربنا لا تؤاخذنآ إن نَّسِينَا» يعني: إن جهلنا أَوْ أَخْطَأْنا يعني: إن تعمدنا، ويقال إن عملنا بالنسيان، أو أخطأنا يعني عملنا بالخطأ، فقال له جبريل: قد أعطيت ذلك قد رفع عن أمتك الخطأ والنسيان شيئاً آخر، فقال عند ذلك: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً يعني ثقلاً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا وهو أنه حرم عليهم الطيبات بظلمهم، وكانوا إذا أذنبوا بالليل، وجدوه مكتوباً على بابهم، وكانت الصلوات عليهم خمسين، فخففت عن هذه الأمة، وحطّ عنهم بعد ما فرض عليهم إلى خمس صلوات ثم قال: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ يقول: لا تكلفنا من العمل ما لا نطيق، فتعذبنا. ويقال: ما يشق ذلك علينا، لأنه لو أمر بخمسين صلاة، لكانوا يطيقون ذلك، ولكنه يشقّ عليهم، ولا يطيقون الإدامة على ذلك وَاعْفُ عَنَّا من ذلك كله وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أي: تجاوز عنا ويقال: واعف عنا من المسخ، واغفر لنا من الخسف، وارحمنا من القذف، لأن الأمم الماضية بعضهم أصابهم المسخ، وبعضهم أصابهم الخسف، وبعضهم القذف ثم قال: أَنْتَ مَوْلانا أي: أنت ولينا وحافظنا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فاستجيب دعاؤه.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ». ويقال: إن الغزاة إذا خرجوا من بلادهم بالنية الخالصة، وضربوا الطبل، وقع الرعب والهيبة في قلوب الكفار مسيرة شهر، علموا بخروجهم أو لم يعلموا، ثم إن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما رجع، أوحى الله تعالى إليه هذه الآيات، ليعلم أمته بذلك. ولهذه الآية تفسير آخر قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى فرض الصلاة والزكاة في هذه السورة، وبيّن أحكام الحج، وحكم الحيض، والطلاق والإيلاء، وأقاصيص الأنبياء، وبيّن حكم الربا والدين، ثم ذكر تعظيمه بقوله تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [لقمان: ٢٦] الآية.
ثم ذكر تصديق جميع ذلك حيث قال: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، أي صدق الرسل بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها، وكذلك المؤمنون. كلهم صدقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله.
قرأ حمزة والكسائي وكتابه على معنى الوحدان. وقرأ الباقون وكتبه على معنى الجمع.
ثم قال: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، فأخبر عن المؤمنين بأنهم يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله.
قرأ الحضرمي لا يفرق بالياء، ومعنا كل آمن بالله، وكل لا يفرق.
وقرأ ابن مسعود لا يفرقون بين أحد من رسله. وَقالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، أي قبلنا ما سمعنا، لأن من سمع ولم يقبل قيل له: أصم، لأنه لم ينتفع بسماعه.
190
وقرأ أبو عمرو من رسله، برفع السين، وكذلك في جميع القرآن غير هذه الحروف الأربعة، مثل رسلنا ورسلهم يقرأ بالسكون، وقرأ الباقون برفع السين في جميع القرآن. ومعنى قوله: غُفْرانَكَ رَبَّنا، أي اغفر غفرانك، وهو من أسماء المصادر كالكفران والشكران وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. يعني نحن مقرون بالبعث.
ثم قال: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها يعني: طاقتها قال الفقيه: حدّثنا أبو الحسين قال: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا محمد بن عبد الله قال: حدّثنا مروان عن عطاء بن عجلان عن زرارة بن أبي أوفى عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تَجَاوَزَ عَنْ هذه الأُمَّةِ ما حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها، أَوْ هَمَّتْ بِهِ مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ، أَوْ تَتَكَلَّمْ بِهِ» ثم قال لَها مَا كَسَبَتْ، وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ، رَبَّنا لاَ تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا، أي لا تؤاخذ أحداً بذنوب غيره، كما قال في آية أخرى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ١٦٤] وقوله: إن نسينا أي إن تركنا أو أخطأنا، يعني إن كسبنا خطيئة، فأخبر الله تعالى بهذا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وعن المؤمنين، وجعله في كتابه ليكون دعاء النبي ﷺ لهم دعوة يدعون بها من بعده، لأن هذا الدعاء قد استجيب له، فينبغي أن يحفظ، ويدعى به كثيراً.
قال الفقيه: حدثنا القاضي الخليل قال: حدثنا السراج قال: حدثنا أحمد بن سعيد الرازي قال: حدثنا سهل بن بكار قال: حدثنا أبو عوانة عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاثِ خِصَالٍ: جُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِداً، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُوراً، وَجُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ المَلاَئِكَةِ، وَأُوتِيتُ هذه الآياتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ قَبْلِي، ولا تُعْطَى أَحَداً بَعْدِي».
وروى أبو أمامة الباهلي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «تَعَلَّمُوا البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فإنَّهُمَا تَجِيئَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ كَالغَمَامَتَيْنِ- أوْ كَالغَيَايَتَيْنِ، أوْ كَفِرْقَتَيْنِ- مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، وَيُحَاجَّانَ عَنْ صَاحِبِهِمَا». ثم قال: «تَعَلَّمُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلا يَسْتَطِيعُهَا البَطَلَةُ»، يعني السَّحَرَةَ.
وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه نزل عليه ملك فقال له: إن الله يبشرك بنورين، لم يعطهما نبياً قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لا يقرأ بحرف منهما إلا أعطيته نوراً. وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لَوْ بَلَغَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ ثلاثمائةِ آيةٍ، لَتَكَلَّمَتْ» يعني: لصارت بحال تتكلم، لأنه لا يبقى شيء، إلا اجتمع فيها من كثرة ما فيها من العجائب. والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد.
191
Icon