تفسير سورة البقرة

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة البقرة
مدنية وهي مائتان وست وثمانون آية وأربعون ركوعاً.

بسم الله الرحمن الرحيم.
﴿ الم ﴾ : أوائل مثل هذه السورة مما استأثر الله بعلمه وهو المنقول عن الخلفاء الأربعة وغيرهم أو أسماء السور أو أقسام أقسم بها لشرفها لأنها مباني كتبه المنزلة أو أنا الله أعلم.
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ : أي : هذا القرآن مصدر بمعنى المفعول ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ : لا شك أنه من عند الله لو تأمل عاقل فيه لا يشك وقيل بمعنى النهي أي : لا ترتابوا، ﴿ هُدًى ﴾ : بيان ونور ﴿ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ : الصائرين إلى الإيمان وترك الشرك أو مزيد هداية لهم.
﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ﴾ : يصدقون ﴿ بِالْغَيْبِ ﴾ : أي ما هو غائب كأمور الآخرة والقدر أو محمد عليه الصلاة والسلام من غير رؤيته، ﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ﴾، يعدلون أركان الصلاة الخمس أو يواظبون عليها، ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ : أعطيناهم يصرفون في الخير أو المراد الزكاة.
﴿ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ : هذا في مؤمني أهل الكتاب أو عام كالأول، ﴿ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ سائر الكتب، ﴿ وَبِالآخِرَةِ ﴾ الدار الآخرة ﴿ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ لا يشكون أصلا.
﴿ أُوْلَئِكَ ﴾ من هذه صفته، ﴿ عَلَى هُدًى ﴾ : أي مستقر ومستعل على بيان ونور ﴿ مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ : الفائزون بمطالبهم.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ١.
: ستروا الحق وهجروا التوحيد ﴿ سَوَاءٌ ﴾ : مصدر وصف به ﴿ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ ﴾ : تخويفك وعدمه فهو مبتدأ وسواء خبره والهمزة وأم مجردتان ٢ لمعنى الاستواء في علم المستفهم كأنه ٣ قيل في جواب أأنذرهم أم لا المستويان في علمك مستويان في عدم النفع ﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾، جملة مفسرة ومؤكدة ٤.
١ الكفر على أربعة أنحاء كفر إنكار وكفر جحود وكفر عناد وكفر نفاق، فكفر الإنكار هو أن لا يعرف الله أًصلا ولا يعترف به وكفر به، وكفر الجحود وهو أن يعرف الله بقلبه ولا يعترف بلسانه ككفر إبليس وكفر اليهود قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩]، وكفر العناد وهو أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة وحذار حسبة(*) لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
*كذا في الأصل، وقد ذكره القرطبي في التفسير ٢/٣١٦، ط. دار الفكر، بلفظ: "أو حذار مسبة"
وأما كفر النفاق فهو أن يقر باللسان ولا يعتقد بالقلب وجميع هذه الأنواع سواء في أنه من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له، ١٢ معالم.

٢ عن معني الطلب، ١٢.
٣ كأنه سأل ربه أأنذرتهم أم لا فأجابه، ١٢.
٤ مؤكدة لجملة قبلها وهي قوله "سواء عليهم" إلخ، ١٢١ منه.
﴿ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ ﴾، أي : طبع واستوثق بضرب الخاتم على قلوبهم، ﴿ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾، أي : مواضعه ١ أو أطلق مجازاً على العضو وكذا البصر ووحد السمع لأنه مصدر والمسموع ليس إلا الصوت بخلاف المعقولات والمبصرات فإنها أنواع من الجواهر والأعراض، ﴿ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ : غطاء والحاصل أنه أحدث فيهم شيئا يمرنهم على حب الكفر لا يفقهون الحق ولا يسمعون ولا يبصرون، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴾ : في الآخرة.
١ يعني بحذف المضاف، ١٢.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾ : حقيقة لأن قلوبهم لا تطابق لسانهم نزلت في المنافقين.
﴿ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ : يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ويعتقدون أنه ينفعهم ١ عند الله كنفعهم عند بعض المؤمنين كما قال تبارك وتعالى :" يوم يبعثهم الله جميعا " الآية، أو يعملون عمل المخادع أو المراد من مخادعة الله مخادعة رسوله، ﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ : دائرة الخداع راجعة إليهم في الدنيا أيضا مفتضحون ولا يحسون لغفلتهم.
١ أي: الخداع/١٢ منه.
﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ : شك ونفاق، ﴿ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً ﴾ : كلما كفروا بآية ازدادوا مرضا ونفاقا، ﴿ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ : مؤلم ﴿ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ : بسبب كذبهم ومن قرأ " يكذبون " بالتشديد فمعناه بتكذيبهم آيات الله.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ﴾ : للمنافقين ﴿ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ ﴾ : بالكفر والمعصية وإظهار أسرار المؤمنين مع الكفار ﴿ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ أي على الهدى نداري الفريقين المؤمنين والكافرين ونصطلح معه ونريد الإصلاح بينهم وبين أهل الكتاب.
﴿ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ : ردهم أبلغ رد لتعريضهم على المؤمنين في قولهم إنما نحن مصلحون.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ ﴾ : المهاجرون والأنصار أو مؤمنو أهل الكتاب، ﴿ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء ﴾ : الهمزة للإنكار واللام ١ للناس والسفه خفة رأى وهذا قول سرهم فيما بينهم فأفضحهم الله، ﴿ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾.
١ أي: لام السفهاء لام عهد، أي: الناس.
﴿ وَإِذَا لَقُواْ ١ : صادفوا ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ﴾ : خلوت بفلان وإلى فلان إذا انفردت معه وشياطينهم سادتهم أو أصحابهم ﴿ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ ﴾ : في الدين، ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ : نلعب بالمؤمنين.
١ حديث لقي ابن أبي وأصحابه أبا بكر وعمر وعليا – رضي الله عنهم – وقال لأصحابه «انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم؟! فأخذ بيد أبي بكر وقال: مرحبا بالصديق سيد بني تميم وشيخ الإسلام، ثم أخذ بيد عمر وقال: مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دينه، ثم اخذ بيد علي فقل: مرحبا بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى أصحابه فرحا مستهزئا فنزل "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون" ذكره غير واحد من المفسرين ورواه الشعبي والواحدي عن السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال الشيخ بن حجر العسقلاني هو سلسلة الكذب والكلبي متهم بالكذب والسدي الصغير كذاب وأبو صالح ضعيف وآثار الوضع ظاهرة عليه إذ سورة البقرة نزلت أوائل الهجرة وتزوج – إشارة إلى استعباد قوله: "وختنه" -. فاطمة في السنة الثانية من الهجرة /١٢.
﴿ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾ : يجازيهم جزاء استهزائهم أو يرجع وباله إليهم أو يعاملهم معاملة المستهزئ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما يُفتح لهم باب في الجنة فإذا انتهوا إليه سُدّ عنهم ورُدّوا إلى النار، ﴿ وَيَمُدُّهُمْ ﴾ : يملي لهم ويمهلهم فحذف اللام أو يزيدهم ويقويهم ﴿ فِي طُغْيَانِهِمْ ﴾ : تجاوزهم عن الحد ﴿ يَعْمَهُونَ ﴾ : يتحيرون والعمه في البصيرة والعمى في البصر.
﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ﴾ : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، ﴿ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ ﴾، أسند إليها وهو لأربابها لمشابهة التجارة الفاعل من حيث إنها سبب الريح والخسران، ﴿ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ : لطرق التجارة.
﴿ مَثَلُهُمْ ١ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾ : أي : حالهم كحال الذين أوقدوا، ﴿ فَلَمَّا أَضَاءتْ ﴾، النار ﴿ مَا حَوْلَهُ ﴾، وأمنوا ما يخافون ﴿ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ﴾، المراد من إيقادها فبقوا في ظلمة وخوف، ﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ : جمع الظلمة لكثرتها، ثم إن المنافقين بإظهار الإيمان أمنوا في الدنيا وإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف، أو المراد إيمانهم أولا ثم كفرهم ثانيا، فيكون إذهاب النور في الدنيا كما قال تعالى :( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا( ٢، وهذا منقول عن كثير من السلف.
١ ولما ذكر حقيقة وصف المنافقين عقبه بضرب المثل زيادة في الكشف والبيان لأنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء ولأن المثل تشبيه الشيء الخفي بالجلي فيتأكد الوقوف على ماهيته وقد تقرر عند علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأنا عظيما في إبراز خفية المعاني ورفع أستار محجبات الدقائق ولهذا استكثر الله تعالى ذلك في كتابه العزيز وكان رسول الله صلى الله عيه وسلم يكثر من ذلك في مخاطبته ومواعظه، قال ابن جرير: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال تعالى: (رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت( (الأحزاب: ١٩)، وقال تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً( (الجمعة: ٥).
٢ المنافقون: ٣.
﴿ صُمٌّ ﴾ : أي : هم عن قبول الحق صم، ﴿ بُكْمٌ ﴾ : عن قول الحق، ﴿ عُمْيٌ ﴾ : لا يبصرونه، فهذا فدلكة ١ التمثيل فالضمير للمنافقين أو للمستوقدين والمعنى لما أذهب نورهم أدهشتهم الظلمة بحيث اختلت حواسهم، ﴿ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ : إلى الهدى الذي باعوه.
١ أي: خلاصة التمثيل: ١٢.
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ ﴾ كأصحاب مطر أو سحاب وهو مثل آخر وأو للتساوي كجالس الحسن أو ابن سيرين، أي : أنت مخير في التمثيل بأيهما شئت، وقال بعض المفسرين : إن هذين مثلان لقومين أي : مثل بعضهم هذا ومثل بعضهم هذا فإنهم لا يخلون عن أحد هذين المثلين، ﴿ مِّنَ السَّمَاءِ ﴾ : من جميع جوانب السماء لا من أفق دون أفق وفهم هذا من السماء المعرف أو من السحاب ﴿ فِيهِ ظُلُمَاتٌ ﴾ : في الممطر أو السحاب ظلمة تكاثف المطر والغمامة والليل وهي فاعل الظرف، ﴿ وَرَعْدٌ ﴾ : ملك موكل بالسحاب فيطلق على صوته أو صوت يسمع من السحاب ﴿ وَبَرْقٌ ﴾ : نار تخرج من السحاب أو لمعان صوت الملك أو نار طارت من فيه إذا اشتد غضبه ﴿ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ ﴾ : أناملهم ﴿ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ ﴾ : شدة صوت الرعد ﴿ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ : مخافة الهلاك، ﴿ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ﴾ : لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به لا ينجيهم الخداع.
﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ ﴾ : يأخذ بسرعة ﴿ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم ﴾ : أضاء لازم أو متعد، أي : أضاء لهم ممشى ﴿ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ ﴾ وكذلك أظلم لازم أو متعد، ﴿ قَامُواْ ﴾ : وقفوا، ﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ ﴾ أن يذهب بسمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق ﴿ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾ فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه، ﴿ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، فليحذروا شبّه ١ القرآن والإيمان بالصيب وما فيه من شبه المبطلين واعتراضاتهم بالظلمات وما فيه من الوعيد والأهوال وذكر النار والحساب بالرعد فيسد أذنه مع أنه لا خلاص عنها ويدل عليه قوله تعالى :( والله محيط بالكافرين( واهتزازهم لما ظهر لهم من غنمية وراحة يطمح عليه أبصارهم بمشيهم في ضوء البرق وتحيرهم في الأمر وتوقفهم حين عروض شبهة أو بلاء ومحنة بتوقفهم إذا أظلم ثم ننبه بقوله :" ولو شاء الله لذهب " إلخ على أن السمع والبصر والتوسل إلى الفلاح وهم صرفوهما إلى الحظوظ العاجلة وسدوها عن الفوائد الحقيقية ولو شاء الله لجعلهم بالحالة التي يجعلونها فإنه قادر مطلق.
١ شبه القرآن إلخ الأولى والأمثل أ، يجعل التمثيلين من المركبة دون المفرقة فلا يتكلف لكل واحد شيء بقدر شبهه به فنقول في الأول حيرة المنافقين وشدة الأمر عليهم بما يكابده من إطفاء ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل الأليل، وفي الثاني شبه حالهم بحال من أخذته السماء بانتساج الممطر الهالك مع تكاثف ظلمة الليل والسحاب الأسود وتواتر الرعد القاصف والبرق الخاطف ووهم الصواعق الخارقة المحرقة في أثناء ذلك قلق واضطراب من خوف الهلاك متشبثين بما لا يدفع عنهم الموت كالغريق ولو قلت لا يطمئن قلبي إلا بأن يتكلف ويتكفل لكل واحد شيئا يقدر شبهه به فاستمع يمكن شبه القرآن ودين الإسلام بالصيب فإنه يحيي القلوب كالمطر يحيي الأرض بعد موتها إلى آخر ما في التفسير/١٢ وجيز.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ عام للمؤمن والكافر والمنافق ﴿ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾ : وحدوه، ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ : اخترعكم من غير سبق مثال ﴿ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾، عطف على مفعول خلق، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١، أي : اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين، أو خلقكم ومن قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى أو خلقكم لكي تتقوا.
١ وقد قيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له: أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال بلى قال فما عملت قال شمرت واجتهدت قال فذلك التقوى/١٢ تفسير ابن كثير.
﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً ﴾ : بساطاً غير حزنة غليظة، ﴿ وَالسَّمَاء بِنَاءً ﴾ : قبة مضروبة عليكم، ﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ السحاب ﴿ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ بيان تقدم ﴿ رِزْقاً ﴾ : مرزوقاً أو من للتبعيض ورزقا مفعول له ﴿ لَّكُمْ ﴾ : صفة رزقاً على الأول ومفعول المصدر على الثاني، ﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً ١ : أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله تعالى ﴿ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ والحال أنكم من أهل العلم، أو تعلمون أن الأنداد لا تماثله بوجه.
١ قوله أنداداً والند المثل المنادد وناددت الرجل أي: خالفته خص بالمخالف المماثل في الذات والصفات كما خص المساوي للمماثل في القدر وتسميته ما يعبده المشركون من دون الله أنداداً وما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولأنها تخالفه في أفعاله لأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير فتهكم بهم وشنع عليهم بأن جعلوا لله أنداداً لمن يمتنع أن يكون له ند ولهذا قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل
أربًّا واحـداً أم ألــف رب أدين إذ تقسمـت الأمـور
تركت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الرجل البصير
١٢ بيضاوي.

﴿ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ ﴾ شك ﴿ مِّمَّا نَزَّلْنَا ﴾ : أي : القرآن، ﴿ عَلَى عَبْدِنَا ﴾ : محمد عليه الصلاة والسلام ﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ ﴾ : طائفة من القرآن معبر عنها بسورة كذا ﴿ مِّن مِّثْلِهِ ﴾ : مثل القرآن في البلاغة والإخبار عن الغيب، ﴿ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم ﴾ : واستعينوا بأعوانكم أو آلهتكم، ﴿ مِّن دُونِ اللّهِ ﴾ : أي : ادعوا من شئتم غير الله، وقيل : ادعوا من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم مثله ولا تستشهدوا بالله فإنه علامة العجز، ﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ : إنه من كلام البشر.
﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ﴾ : فيما مضى ﴿ وَلَن تَفْعَلُواْ ﴾ : بعده أبداً وهذه معجزة أخرى ﴿ فَاتَّقُواْ ﴾ : احذروا واتقوا بالإيمان ﴿ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا ﴾ : ما يوقد به النار ﴿ النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ : حجارة الكبريت فتكون أشد ١ وأنثن وأظلم وهو قول كثير ٢ من السلف وقيل حجارة الأصنام، ﴿ أُعِدَّتْ ﴾ : النار والحجارة ﴿ لِلْكَافِرِينَ ﴾.
١ فيه رد على القاضي حيث قال إنه إبطال المقصود إذ الغرض تهويل شأنها وتفاقم لهبها بحيث تتقد بما لا يتقد به غيرها والكبريت تتقد به كل نار وإن ضعفت/١٢.
٢ كابن عباس وابن مسعود وعلي بن الحسين وجعفر وغيرهم/١٢ منه.
﴿ وَبَشِّرِ ﴾ البشارة خير سار يظهر أثر السرور في البشرة ١ ﴿ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ : عملاً بلا رياء، أو كل ما حسنه الشرع ﴿ أَنَّ لَهُمْ ﴾ : بأن لهم ﴿ جَنَّاتٍ ﴾ : دار الثواب وهي سبعة ٢ ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ﴾ : تحت أشجارها وغرفها ﴿ الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا ﴾ مبتدأ من الجنات ﴿ مِن ثَمَرَةٍ ﴾ : بيان تقدم كرأيت منك أسداً ٣ } : ليس لهم خوف فوات نعمة.
ولما قالت الجهلة : الله أجل من أن يضرب الأمثال بالصيب والمستوقد وبيت العنكبوت والذباب فنزلت ٤.
١ قيل الصحيح أ، كل خبر يغير البشرة من خير أو شر بشارة لكن أكثر استعماله في الخير وقد صرح بذلك سيبويه هذا في المنهية ورجح صاحب الوجيز هذا القول/١٢.
٢ جنة الفردوس وعدن ونعيم ودار الخلد ودار السلام وجنة المأوى وعليون/١٢ منه.
٣ كأنه انتزع منه الأسد لكماله في الشجاعة/١٢ [ويسمى في البلاغة بالتجريد]] ﴿رِّزْقاً﴾: مرزوقاً ﴿قَالُواْ هَـذَا﴾: مثل ﴿الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ﴾: في الدنيا أو في الجنة، ﴿وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً﴾: في الهيئة واللون دون المقدار والطعم فأين طعم فواكه الجنة من الدنيا؟! أو يشبه بعضها بعضاً من جميع الوجوه إذ طعم فواكه الجنة متقاربة عطف على قالوا مقررة للجملة، ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾: نساء وجوار مطهرة مما يستقذر ويذم منهن كالحيض ودنس الطبع، {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الخلود المكث الطويل المتناهي أو غير المتناهي وإطلاقه على المتناهي بطريق الحقيقة أو المجاز قولان/١٢ منه.
٤ وبين أن لا دخل لحقارة المثل في الممثل وذلك من ديدن الأدباء من العرب العرباء/١٢ وجيز.
﴿ إِنَّ ١ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي ﴾ : لا يستنكف ٢ من ﴿ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً ﴾ : أن يبيّن شبها ﴿ مَّا ﴾ أي : أي مثل ﴿ بَعُوضَةً ﴾ : صغار البق عطف بيان لمثلاً ﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾ في الصغر والحقارة كجناحها ٣ أو في الكبر كالذباب، ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ﴾ المثل ﴿ الْحَقُّ ﴾ : الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ﴿ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا ﴾ : أي شيء ﴿ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ﴾ : نصب على التمييز أو الحال، ﴿ يُضِلُّ بِهِ ﴾ : بالمثل ﴿ كَثِيراً ﴾ : من الكفار، أي : إضلال كثير وضع الفعل موضع المصدر جواب ٤ ماذا، ﴿ وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ﴾ : من المؤمنين، ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ﴾ : الخارجين عن حد الإيمان.
١ ثم إنه تعالى لما دفع عنهم بالدليل ريبهم المبهم في القرآن وأردف كما هو عادة كلام الله حال المتقين بحال الشاك أخذ يفحمهم بأن لا مطعن في لبعض [كذا بالأصل] آياته الذي هو الأمثال هو ريبهم لمعين فقال: (إن الله لا يستحي( الآية/١٢م.
٢ لا يترك المثل ترك من لا يستحي [كذا الأصل] أن يمثل بأمثال البعوضة لحقارتها فإن الحياء انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم وفي الحديث (إن الله حيي كريم) الحديث/١٢ منه. [صحيح أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وانظر صحيح الجامع (١٧٥٧).
٣ كما تقول: فلان شحيح جاهل فيقول السامع: نعم وفوق ذلك قال الإمام الرازي: هو قول أكثر المحققين/١٢ منه..
٤ أي أراد الله بهذا إضلال كثير وهداية كثير/١٢ منه.
﴿ الَّذِينَ يَنقُضُونَ ﴾ : يفسدون ويتركون ﴿ عَهْدَ اللَّهِ ﴾ : هو قوله :( ألست بربكم( ١، أو عدم كتمان شيء نزل من عند الله في الكتب ﴿ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾ : توكيد العهد من الآيات في الكتب ﴿ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾ : أي : كقطع الأرحام والقرابات أو أعم كالإعراض عن موالاة المؤمنين والتفرقة بين الآيات في التصديق وهو بدل من ضمير به، ﴿ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ﴾ : بأنواع المعاصي، ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ : باشتراء الفساد والعقاب بالصلاح والثواب.
١ الأعراف: ١٧٢.
﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ﴾ : معناه التعجب أي : أخبروني على أي حال تكفرون، ﴿ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً ﴾ : تراباً أو نطفاً في أصلاب الآباء، ﴿ فَأَحْيَاكُمْ ﴾ : بخلق الحياة فيكم أو في الأرحام، ومعنى الفاء في الثاني أظهر، ﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ : في الدنيا، ﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ : عند نفخ الصور، ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ : بعد الحشر لجزاء العمل.
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم ﴾ : لأجل انتفاعكم ﴿ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ لكي تنتفعوا به وتعتبروا، جميعاً حال من ما، ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى ١ إِلَى السَّمَاء ﴾، قصد وارتفع إليه فخلق السماء بعد خلق الأرض لكن دحوها متأخر هكذا ذكره ابن عباس وفيه إشكال سنذكره في سورة ( والنازعات ) والأولى أن ثم للتراخي الرتبي لا الزماني على أن فيه أيضا ما ستقف عليه، ﴿ فَسَوَّاهُنَّ ﴾ : الضمير للسماء لأنه في معنى الجمع عدلهن مصونة عن العوج والفتور ﴿ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ٢ : بدل أو تفسير، ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏ ﴾ فإن بالعلم يصح الخلق ويحكم الفعل.
١ قال أبو العالية الريحاني: استوى إلى السماء أي: ارتفع، نقله البخاري عنه في صحيحه ورواه محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن ربيع بن أنس، وقال البغوي: قال ابن عباس وأكثر مفسري القرآن: ارتفع إلى السماء وقال الخليل بن أحمد في ثم استوى إلى السماء: ارتفع رواه أبو عمر ابن عبد البر في شرح الموطإ له كل هذا نقله الذهبي في كتاب العلو له/١٢..
٢ قد ثبت بالأحاديث الصحيحة أن ما بين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام وأنها سبع سموات وأن الأرض سبع أرضين ولم يأت في التنزيل ولا في السنة المطهرة تصريح بأن فيهن من يعقل من العوالم والأوادم وأنبيائهم والآثار عن الصحابة ومن بعدهم إن جاءت بسند صحيح لا تصلح للاحتجاج على ذلك فكيف بما لم يصح سنده أو صح ولكن لم يتابع عليه أو توبع ولكن لم يساعده نص من الله ورسوله/١٢ فتح..
﴿ وَإِذْ ﴾ : أي : واذكر إذ ﴿ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ ﴾ : مطلق الملائكة أو ملائكة ١ الأرضين وهو تعداد نعمة ثالثة عامة ٢ ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ : يعني آدم هو خليفة الله في أرضه ينفذ قضاء الله وأحكامه أو المراد من الخليفة البدل، أي : من الجن والملائكة فإنهما كانا سكان الأرض حينئذ أو المراد قوم يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن كقوله تعالى :( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض( ٣ ﴿ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ﴾ كما فعله ٤ الجن قبلهم وهو تعجب واستكشاف ٥ عما خفي عليهم من الحكمة، ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ ﴾ نبعدك ٦ عن السوء، ﴿ بِحَمْدِكَ ﴾ : متلبسين به، ﴿ وَنُقَدِّسُ ﴾ : نطهر نفوسنا عن المعاصي، ﴿ لَكَ ﴾ : لأجلك أو نقدسك عما أضاف إليك الفكرة فاللام زائدة، ﴿ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ : من المصلحة أو بأن أجعل فيهم الأنبياء والصديقين والشهداء أو أعلم أن فيكم من يعصيني وهو إبليس.
١ هذا مذهب ابن عباس وبعض آخر/١٢ منه.
٢ فإن الأولى بينت بقوله: "كنتم أمواتا"، والثانية بقوله: "خلق لكم ما في الأرض جميعا"/١٢ منه.
٣ الأنعام: ١٦٥.
٤ قاسوا حال الإنس على حال الجن، وعن كثير من السلف أنه تعالى قال للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة له ذرية يفسدون ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا/١٢ وجيز.
٥ لا اعتراض على الله/١٢.
٦ قال الحسن: نقول سبحان الله وبحمده وهو صلاة الخلق وصلاة البهائم وغيرهما سوى الآدميين وعليها يرزقون/١٢ معالم.
﴿ وَعَلَّمَ ١ آدَمَ الأَسْمَاء ﴾ : خلق في قلبه علماً ﴿ كُلَّهَا ٢ : اسم كل شيء حتى القصعة ٣ والقصيعة ٤، ﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ ﴾ : الضمير للمسميات إذ التقدير أسماء المسميات والتذكير لتغليب العقلاء ﴿ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي ﴾ : أخبروني ﴿ بِأَسْمَاء هَؤُلاء ﴾ تبكيت وتنبيه لهم على قصورهم، ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٥ : أنكم أحقاء بالخلافة أو لن يخلق الله تعالى خلقاً أعلم منكم فإن الملائكة قالوا ذلك بينهم.
١ قال في الكشاف: وما آدام إلا اسم أعجمي وأقرب أمره أن يكون على فاعل واشتقاقه من الأدمة وغيرها تعسف/١٢ فتح.
٢ قال في المظهري: وعندي أن الله علم آدم الأسماء الإلهية كلها، ثم رجح هذا بكلام طويل وهو غير راجح مع ما فيه من البعد والتكلف ولم يقل به أحد من المفسرين ويأباه ظاهر النظم وسياقه/١٢ فتح.
٣ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة/١٢ معالم.
٤ حتى مصغر الأشياء/١٢ منه.
٥ فإنكم إذا كنتم لا تعلمون أسماء ما عرضت عليكم وأنتم تشاهدونه فمن أين لكم علم بأنكم أحقاء بخلافتي؟ كذا قاله ابن عباس/١٢ وجيز.
﴿ قَالُواْ ﴾ إقرار بالعجز ﴿ سُبْحَانَكَ ﴾، صدروا الكلام به استعذاراً عن الجرأة في الاستفسار والجهل بحقيقة الحال، ﴿ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ ﴾ : الذي لا يخفى عليه خافية ﴿ الْحَكِيمُ ١ : القاضي العدل، أو المحكم لمبدعاته الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة.
١ وفي الآية من الدلالة على شرف العلم وجلالة محله وإفاقته على سائر الكمالات وإن لم يكن علماً متعلقاً بذات الله وصفاته كما لا يخفى/١٢ وجيز.
﴿ قَالَ ﴾ : لما ظهر عجزهم ﴿ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم ﴾ : أعلمهم، ﴿ بِأَسْمَآئِهِمْ ﴾، قال أنت جبريل، أنت ميكائيل حتى وصل الغراب، ﴿ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ﴾ وظهر فضل آدم عليه السلام عليهم ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ ﴾ استفهام توبيخ فإن الأدب التوقف لأن يبين، ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ١ : ما غاب فيها عن الخلق، ﴿ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ : أي : أعلم ما تظهرونه بألسنتكم وما تخفونه في أنفسكم، فلا يخفى عليّ شيء من قولكم علانية أتجعل فيها من يفسد فيها وسراً لن يخلق الله خلقاً أكرم ٢ عليه منا وما أسر إبليس من الكبر في نفسه.
١ وفي اختصاصه بعلم غيب السموات والأرض رد لما يتكلفه كثير من العباد من الإطلاع على شيء من علم الغيب كالمنجمين والكهان وأهل الرمل والسحر والشعوذة/١٢.
٢ كذا فسره السلف/١٢ وجيز.
﴿ وَإِذْ قُلْنَا ﴾ عطف على " وإذ قال " ﴿ لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ ﴾ : السجود حقيقي طاعة لله وتعظيماً لآدم وهو مشروع قبل انحناء ١ لا وضع جبهة أو السجود لله وآدم قبلة وقد ضعفهما ٢ بعض العلماء ﴿ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ صح عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه من نوع من الملائكة المسمين بالجن وصح عن الحسن رضي الله عنه أنه ليس ٣ منهم ﴿ أَبَى ﴾ : امتنع، ﴿ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ ﴾، في سابق علم الله أو صار ٤، ﴿ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾، أو كان كافراً من الجن فأسلم وعمل الملك ثم كفر.
١ ويرده قوله تعالى: ( فقعوا له ساجدين /١٢ ( منه.
٢ الإمام الرازي وأطال في تزييفهما/١٢ منه.
٣ وما في سورة الكهف من قوله تعالى: ( كان من الجن ففسق عن أمر ربه ( يؤيد ذلك /١٢ وجيز.
٤ صار كافراً لأنه استكبر واعترض على الله وأيضا أمره الله بالسجود لا في ضمن العموم فامتنع وأبى وذلك كفر/١٢ منه.
﴿ وَقُلْنَا ﴾، بعد سجود الملائكة، ﴿ يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾، دار الخلد وقيل بستانا في الأرض، ﴿ وَكُلاَ مِنْهَا ﴾، أكلا، ﴿ رَغَداً ﴾، واسعاً، ﴿ حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾، أي : مكان من الجنة، ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾، بالأكل والأصح أنها شجرة معينة لا تتعين ١ عندنا، ﴿ فَتَكُونَا ﴾، عطف على " تقربا " أو جواب النهي ﴿ مِنَ الْظَّالِمِينَ ﴾ : الذين وضعوا أمر الله تعالى غير موضعه.
١ وليس في السنة الصحيحة ما دل على تعيينها وعند كثير من السلف إنها الكرام وعند اليهود إنها الحنطة/١٢.
﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ : الضمير للشجرة، أي : حملهما على الزلة بسببها أو للجنة أي فبعدهما عن الجنة، ﴿ فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ : من النعيم والكرامة، ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ ﴾ : انزلوا على الأرض جمع الضمير لأنهما أصلا الإنس فكأنهما الجنس أو المراد هما والشيطان ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ أي : متعادين والعداوة بين ذريتهما لقوله تعالى :( قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ( ١، أو بين المؤمنين والشيطان، ﴿ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ﴾ : موضع قرار ﴿ وَمَتَاعٌ ﴾ : تمتع ﴿ إِلَى حِينٍ ﴾ : الموت وقيل القيامة.
١ طه: ١٢٣.
﴿ فَتَلَقَّى ﴾ تلقن ﴿ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ﴾ : ومن قرأ برفع كلمات ونصب آدم فمعناه بلغته وهي :" ربنا ظلمنا أنفسنا " الآية ١ أو غيرها ﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ : رجع عليه بالرحمة، ﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ ﴾ يقبل التوبة ويكثر إعانتهم عليها ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ : المبالغ في الرحمة.
١ الأعراف: ٢٣.
﴿ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً ﴾ كرر للتأكيد وليترتب عليه قوله ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم ﴾ : يا بني آدم، ﴿ مِّنِّي هُدًى ﴾ أنبياء والبيان، ﴿ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ﴾ : أقبل على الهدى وقبل ﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ حين يشتد الأمر على العصاة، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على ما فاتهم من أمور الدنيا، والشرط الثاني مع جوابه جواب للشرط الأول.
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ قسيم لم تبع، أي : كفروا بالآيات المنزلة جناناً وكذبوا لساناً، أو كفروا بالله وكذبوا بالآيات ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ١.
١ قوله تعالى: "خالدون" وما بين أ، لا خوف ولا حزن على تابع الهدى وغضب الله دائم على الكافر المكذب نادى أهل الكتاب الباقين المعاندين وعد عليهم نعمه ووعدهم بالإيفاء وأوعدهم بالمخالفة وهم من أولى الخلق باتباع الهدى/١٢ وجيز.
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ١
أي : أولاد يعقوب هيجهم بذكر أبيهم، أي : يا بني العبد المطيع لله ﴿ اذْكُرُواْ ﴾ : احفظوا ولا تنسوا، أو اشكروا، ﴿ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ : فلق البحر وجعل الأنبياء فيهم وإنجاءهم من فرعون وغيرها ولا شك أن نعمة الآباء نعمة الأبناء، ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي ﴾ في محمد عليه الصلاة والسلام أو في امتثل أمري، ﴿ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ : ارضى عنكم وأدخلكم الجنة، أو بالقبول والثواب، ﴿ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ خصوصا في نقض العهد.
١ واعلم أن كثيرا من المفسرين جاءوا بعلم متكلف وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف فجاءوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف ويتتره عنها كلام البلغاء فضلا عن كلام الرب سبحانه حتى أفردوا ذلك بالتصنيف وجعلوه المقصد الأهم من التأليف كما فعله البقاعي في تفسيره ومن تقدمه ومن تأخره وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرقا على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزل الوحي على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى أن قبضه الله عز وجل إليه وكل عاقل فضلا عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية لنزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها، بل قد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالاً وتحليل أمر كان حراماً وإثبات أمر لشخص أو أشخاص تناقض ما كان قد ثبت لهم قبله وتارة يكون الكلام مع المسلمين وتارة مع الكافرين وتارة مع من مضى وتارة مع من حضر وحيناً في عبادة وحينا في معاملة ووقتا في ترغيب ووقتاً في ترهيب وآونة في بشارة وآونة في نذارة وطوراً في أمر دنيا وتارة في أمر آخرة ومرة في تكاليف آتية ومرة في أقاصيص ماضية وإذا كانت أٍسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف، فالقرآن النازل فيها باعتبار نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب والنون والماء والنار والملاح والحادي، وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن ويفردون ذلك بالتصنيف تقرر عنده أن هذا الأمر لا بد منه وأنه لا يكون القرآن بليغاُ معجزاً إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة وتبين الأمر الموجب للارتباط فإن وجد الاختلاف بين الآيات رجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك فوجده تكلفاً محضاً وتعسفاً بيناً انقدح في قلبه ما كان عليه في عافية وسلامة هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتباً على هذا الترتيب الكائن في المصحف فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب وأيسر حظ من معرفته يعلم علماً يقينا أنه لم يكن كذلك ومن شك في هذا – وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم – رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول المطلعين على حوادث النبوة فإنه ينثلج صدره ويزول عنه الريب بالنظر في سورة من السور المتوسطة فضلا عن المطولة فإنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة وأوقات متباينة لا مطابقة بين أسبابها وما نزل فيها في الترتيب، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أول ما نزل: "اقرأ باسم ربك الذي خلق" [العلق: ١] وبعده "يا أيها المدثر" [المدثر: ١]، "يا أيها المزمل" [المزمل: ١]، وينظر أين موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف وإذا كان الأمر هكذا فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزل الله متأخرا وتأخر ما أنزل الله متقدما فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمرته وأحقر فائدته بل هو عند من يفهم ما يقول وما يقال له من تضييع الأوقات وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله ولا على من يقف عليه من الناس وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاداته وإلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحاً وأخرى هجاء وحيناً تشبيهاً وحيناً رثاءً وغير ذلك من الأنواع المتخالفة فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه ثم تكلف تكلفاً آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الحج والخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك وناسب بين الإنشاء الكائن في العزى والإنشاء الكائن في إلهنا وما يشابه ذلك لعد هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله متلاعباً بأوقاته عابثاً بعمره الذي هو رأس ماله وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان وقحطان وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربي فأنزله بلغة العرب وسلك فيه مسالكهم في الكلام وجرى فيه مجاريهم في الخطاب وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد يأتي بفنون مختلفة وطرائق متباينة فضلاً عن المقامين فضلاً عن المقامات فضلا عن جميع ما قاله ما دام حيا وكذلك شاعرهم ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي يعثر في ساحاتها كثير من المحققين وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام فإذا قال متكلف كيف ناسب هذا ما قبله قلنا لا كيف:
فدع عنك نهياً صيح في حجراته وهات حديثاً ما حديث الرواحل.

﴿ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ ﴾، أي : القرآن ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ ﴾ فإنكم تجدون محمداً مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ : أول فوج يكفر بما أنزلت من أهل الكتاب، ﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ ﴾ : لا تستبدلوا، ﴿ بِآيَاتِي ﴾ : بالإيمان بها ﴿ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ : الدنيا بحذافيرها، أو ما يصيب العلماء من السفلة فإنهم عينوا كل سنة للعلماء شيئا فخافوا إن أسلموا يفوت ذلك عنهم وتفوت الرياسة ١ أيضا، فكتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ : أي : فاخشون لا فوات الرياسة.
١ كذا فسر به الحسن البصري وسعيد بن جبير/١٢ منه.
﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ﴾، أي : لا تخلطوه، فإن علماء اليهود يزيدون في آيات الله ما يشتهون، ﴿ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ ﴾، عطف على المنهي، أو وأن تكتموا الحق فالواو للجمع، أي : لا تجمعوا ١ بينهما، ﴿ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ بأنكم تكتمون ٢ وتلبسون.
١ أي: بين تلك الخصلتين القبيحتين/١٢.
٢ والكتمان والإلباس في حال العلم بهما أقبح/١٢ منه.
﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ﴾ أي : صلاة المسلمين، ﴿ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ﴾، أي : زكواتهم والمراد طاعة الله تعالى والإخلاص، ﴿ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ أي : كونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم وهو الصلاة، عبر عن الصلاة بالركوع لأن صلاة اليهود ليس فيها ركوع.
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ﴾ : بالإيمان، ﴿ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ﴾ : تتركوها من البر كالمنسيات، نزلت في أخبار اليهود ينصحون سرا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام ولا يتبعونه ١، ﴿ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ ﴾ : تقرءون، ﴿ الْكِتَابَ ﴾ : التوراة التي فيها الوعيد على العناد ومخالفة القول العمل، ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ : قبح صنيعكم.
١ هذا قول ابن عباس وقال غيره: معناه أتأمرون الناس بقبول أحكام التوراة وتنسون أنفسكم فتتركون ما فيها من الإيمان بمحمد عليه السلام/١٢ منه.
﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾ : لما أمروا بما هو شاق عليهم وهو ترك المال والرياسة عولجوا بالاستعانة على طلب الآخرة بحبس النفس عن المعاصي أو الصيام لما فيه من كسر الشهوات أو الصبر على أداء الفرائض والصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ﴿ وَإِنَّهَا ﴾ أي : الصلاة فإن الصبر داخل فيها، قيل : تقديره إنه لكبير وإنها لكبيرة فحذف اختصاراً ولم يقل وإنهما إشارة إلى أن كلا منهما لكبير، أو الضمير للاستعانة ﴿ لَكَبِيرَةٌ ﴾ : ثقيلة ﴿ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ المؤمنين حقا الساكنين إلى الطاعة، قال ابن جرير : الآية عامة لبني إسرائيل وغيرهم.
﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ ﴾ : يتيقنون ﴿ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ ﴾ : محشورون إليه، ﴿ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ : أمورهم راجعة إليه فيحكم بالعدل.
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ وهو كما مر جعل الأنبياء فيهم وخلاصهم من البلاء كرره تأكيداً، ﴿ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ ﴾ : بما أعطيتم من الملك والكتب والرسل ﴿ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ : عالمي زمانكم وتفضيل الآباء شرف الأبناء.
﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً ﴾ : احذروا ما فيه من العقاب ﴿ لاَّ تَجْزِي ﴾ : لا تقضي فيه ﴿ نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ﴾ : من الحقوق أو من الجزاء فنصبه على المصدر حينئذ والجملة صفة يوما، ﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ﴾ : في شأن الكفار رد عليهم حيث قالوا : آباؤنا الأنبياء شفعاء لنا، ﴿ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ١ : فداء وقيل بدل، ﴿ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾‏ ولا لهم ناصر يمنعهم من العذاب.
١ أصل العدل التسوية سمي به الفدية لأنها سويت بالمفدى/١٢ منه.
﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم ﴾ : عطف على نعمتي وتفصيل لها ﴿ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ : أتباعه ﴿ يَسُومُونَكُمْ ﴾ : يبغونكم، والجملة حال، ﴿ سُوَءَ الْعَذَابِ ﴾ : أفظعه وأشده نصب على مفعول يسومونكم ﴿ يُذَبِّحُونَ ﴾ : يقتلون بيان ليسومونكم ١ ﴿ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ ﴾ يتركون أحياء للخدمة ﴿ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم ﴾ صنيعهم، ﴿ بَلاءٌ ﴾ : محنة ﴿ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ : أو ٢ الإشارة إلى الاتجاه فالبلاء بمعنى النعمة وهو قول كثير من السلف ٣.
١ أي: الجملة بيان للجملة، ولذلك ترك العاطف/١٢ منه.
٢ عطف على قوله صنيعهم بحسب المعنى/١٢ منه.
٣ كابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم/١٢ منه.
﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا ﴾ : فصلنا بين بعضه وبعض ﴿ بِكُمُ الْبَحْرَ ﴾ : كما يفرق بين الشيئين بما يوسط بينهما أو بسببكم أو ملتبسا بكم ﴿ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ﴾ اقتصر على ذكر الآل للعلم بأن فرعون أولى بالغرق، ﴿ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ : غرقهم.
﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا ﴾ : واعدنا بمعنى وعدنا، أو الله وعد الوحي وموسى المجيء إلى الطور ﴿ مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾، يعني انظر إلى نعمتي عليهم ثم إلى كفرانهم ثم إلى عفوي عنهم، ﴿ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ﴾، إنها، ﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ بعد مضى موسى، ﴿ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴾، بشرككم.
﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا ﴾ : محونا ذنوبكم، ﴿ عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾، أي : الاتخاذ، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ لكي تشكروا عفوي.
﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ ﴾، أي : الجامع بين كونه كتاباً وفرقاناً بين الحق والباطل وقيل الفرقان انفراق البحر، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ : لكي تهتدوا بالكتاب.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾ : العابدين للعجل، ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ﴾ : معبوداً، ﴿ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ ﴾ : خالقكم، قالوا كيف نتوب ؟ قال :﴿ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾ أي : كل منكم من لقي فأصابتهم سحابة سوداء لا ينظر بعضهم بعضاً ففعلوا فغفر الله للقاتل والمقتول والقتلى سبعون ألفاً أو ليقتل البريء المجرم، ﴿ ذَلِكُمْ ﴾، أي القتل، ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ ﴾، من حيث إنه وصلة إلى الحياة الأبدية، ﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾، أي : ففعلتم فتاب عليكم، ﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ ﴾ : الذي يكثر قبول التوبة، ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ : المبالغ في الرحمة.
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ ﴾ : لن نقر، ﴿ لَكَ ﴾، أي : اذكروا نعمتي بعد الصعق، إذ سألتم ما لا يستطاع لكم، فإن موسى اختار سبعين رجلاً ليعتذروا إلى الله من الشرك، فلما سمعوا كلام الله قالوا ذلك، ﴿ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ : عياناً ونصبه على المصدر أو الحال، ﴿ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ﴾ : صيحة من السماء أو نار، ﴿ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ : ما أصابكم فلما هلكوا بكى وتضرع موسى قائلا : ماذا أقول لبني إسرائيل إذ أهلكت خيارهم ؟ فتضرع وتناشد حتى أحياهم الله تعالى وهذا قوله.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم ﴾ : أحييناكم، ﴿ مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾ : بسبب الصاعقة، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ : نعمة البعث.
وكلام بعض السلف أن طلب الرؤية حين خرجوا لأجل التوبة من عبادة العجل، وكان قبل الأمر بالقتل، وكلام بعض أخر أن هذا بعد القتل والله أعلم.
﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ١ : السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه، ﴿ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ ﴾ : الترنجين أو عسلاً ألذ من عسلنا أوخبز الرقاق، ﴿ وَالسَّلْوَى ﴾ طير هو السماني أو يشبه السماني، ﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ ﴾، أي : قلنا لهم كلوا من حلالات، ﴿ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا ﴾، يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا فحذف اختصاراً، ﴿ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ : بالكفران. ‏
١ صرح كثير من السلف أنه ليس من جنس غمامنا، بل نوع آخر ألطف وأبرد وأنور/١٢ منه.
﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ ﴾ : أمروا به بعد التيه، ﴿ هَذِهِ الْقَرْيَةَ ﴾، بيت المقدس أو أريحا، قيل هم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى، ﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً ﴾ : واسعاً منصوب على المصدر، ﴿ وَادْخُلُواْ الْبَابَ ﴾ : القرية، ﴿ سُجَّداً ﴾ : منحنين كالركع تواضعاً أو ساجدين لله شكراً، ﴿ وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾، أي : مسألتنا خطة، أي حط عنا خطايانا، أمروا بالاستغفار كما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أي مغفرة استغفروا، وقيل أقروا بالذنب، قال عكرمة : قولوا لا إله إلا الله ﴿ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ﴾ : بسجودكم ودعائكم وهو جواب الأمر، ﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ : ثوابا وإحساناً.
﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ : فقالوا حبة في شعرة، أو حنطة، وحاصله أنهم أمروا أن يدخلوا سجداً فدخلوا يزحفون على أستاههم رافعي رءوسهم، وأمروا أن يستغفروا فاستهزءوا وهذا غاية العناد والمخالفة، ولهذا قال الله تعالى ﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء ﴾ : عذاباً ١ أو طاعوناً أو برداً، ﴿ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾ : بسبب خروجهم عن طاعة الله تعالى.
١ فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفا/١٢ معالم.
﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾، أي : اذكروا ١ نعمتي في إجابتي دعاء نبيكم في شأنكم لما عطشتم في التيه، ﴿ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ﴾ : حجر خفيف مربع ٢ قيل إذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء، وعند بعض أنه لم يكن حجراً معيناً، بل يضرب أي حجر كان فينشق ﴿ فَانفَجَرَتْ ﴾، تقديره فضرب فانشقت، ﴿ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ ﴾ : كل سبط، ﴿ مَّشْرَبَهُمْ ٣ : عينهم التي يشربون منها خاصة بهم، ﴿ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ ﴾، أي : قلنا لهم ذلك، ﴿ مِن رِّزْقِ اللَّهِ ﴾، أي : ما رزقكم الله من المن والسلوى وماء العين، ﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ ﴾ : لا تعتدوا، ﴿ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ : حال إفسادكم ٤.
١ ذكرهم نعمة إجابة دعوة نبيهم في شأنهم حين عطشوا في التيه مع أنهم مذنبون والسقي والتظليل في التيه ودخول القرية بعده ولم يراع الترتيب في ذكرها قصداً إلى بيان تكثير النعم/١٢ وجيز.
٢ نقله البغوي عن ابن عباس/١٢.
٣ وضمير الجمع لمعنى كل أناس/١٢ وجيز.
٤ أي: أنتم مفسدون لكن لا تزيدوا فيه/١٢ وجيز.
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ ﴾، أي : اذكروا نعمتي في إنزال المن والسلوى طعاماً طيباً نافعاً ثم اذكروا سؤالكم استبدال الأطعمة الدنية بذلك، ﴿ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾، كانوا يأكلون المن بالسلوى فيكون واحداً أو أرادوا بالوحدة أنها لا تتبدل كما يقال طعام فلان واحد، أي لا يتغير ألوانه، ﴿ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾ : سله بدعائك لنا إياه، ﴿ يُخْرِجْ لَنَا ﴾ : يظهر لنا مجزوم بجواب فادع، ﴿ مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا ﴾ : من الخضروات ما لا ساق لها تفسير لما تنبت وقع موقع الحال، ﴿ وَقِثَّآئِهَا ﴾، هو معروف، ﴿ وَفُومِهَا ﴾، هو الحنطة أو الثوم والعرب ١ تقلب الفاء ثاء والثاء فاء، أو الخبز أو اسم لكل حب يؤكل، ﴿ وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ ﴾ : موسى، ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى ﴾ : أخس، ﴿ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ : المن والسلوى لنفعهما أو طعمهما وعدم الحاجة إلى السعي، ﴿ اهْبِطُواْ ٢ مِصْراً ﴾ : مصراً من الأمصار، أي : هذه الأشياء كثيرة في الأمصار لا حاجة إلى الدعاء أو مصر فرعون وجاز صرفه لسكون وسطه، ﴿ فَإِنَّ لَكُم ﴾ : فيها، ﴿ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٣ : كضرب القبة، ﴿ الذِّلَّةُ ﴾ : الجزية فيكون المراد يهود وقعوا في عصر نبينا عليه الصلاة والسلام أو الهوان، ﴿ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ : الفاقة أو فقر القلب ولم يزل عليهم أثر البؤس وإن كانوا ذوى مال، ﴿ وَبَآؤُوْاْ ﴾، أي : صاروا أحقاء، ﴿ بِغَضَبٍ ٤
١ نحو مغاثر ومغافر وأثافي وأثاثي وعاثور وعافور والتفسير الأول لابن عباس وأبي مالك والحسن وغيرهم، والثاني لمجاهد وسعيد بن جبير وفي قراءة ابن مسعود وثومها بالثاء والثالث لعطاء وسفيان الثوري، والرابع في البخاري قال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم/١٢ منه.
٢ قوله: "اهبطوا مصراً، إن كان الآمر موسى فكان رخصة من الله لهم في نزولهم إلى البلدة وخلاصهم من التيه وإن كان الآمر هو الله تعالى فتقديره قلنا اهبطوا جملة مستأنفة يعني دعا موسى فأجبناه/١٢ وجيز.
٣ وعند ابن عباس وكثير من السلف أن ضمير عليهم في "ضربت عليهم الذلة" لمطلق اليهود ولذلك فسروا الذلة بضرب الجزية، وفسروا آيات الله بإنكار الإنجيل والقرآن والآية التي فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم/١٢ وجيز.
٤ قوله "بغضب" الغضب صفة الله تعالى بلا كيف، وأما قول النافين لصفاته: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فليس بصحيح في حقنا بل الغضب قد يكون لدفع المنافي قبل وجوده فر يكون هناك انتقام أصلا وأيضا فغليان دم القلب يقارنه الغضب ليس أن مجرد الغضب هو غليان دم القلب كما أن الحياء يقارن حمرة الوجه والوجل يقارن صفرة الوجه لا أنه هو هذا ؛ لأن النفس إذا قام بها دفع المؤذى فإن استشعرت القدرة فاض الدم إلى خارج فكان منه الغضب وإن استشعرت العجز غار الدم إلى داخل فاصفر الوجه كما يصيب الحزين وأيضا فلو قدر أن هذا هو حقيقة غضبنا لم يلزم أن يكون غضب الله مثل غضبنا كما أن حقيقة ذات الله ليست مثل ذواتنا فليس هو مماثلا لا لأندادنا ولا لأرواحنا وصفاته كذاته ونحن نعلم بالاضطرار أنا إذا قدرنا موجودين أحدهما عنده قوة يدفع بها الفساد والآخر لا فرق عنده بين الصلاح والفساد كان الذي عنده تلك القوة أكمل ولهذا يذم من لا غيرة له على الفواحش كالديوث ويذم من لا حمية له يدفع بها الظلم عن المظلومين ويمدح الذي له غيرة يدفع بها الفواحش وحمية يدفع بها الظلم ويعلم أن هذا أكمل من ذلك ولهذا وصف النبي - صلى الله عليه وسلم – الرب بالأكملية في ذلك فقال في الحديث الصحيح: (لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن [أخرجه البخاري في "النكاح"، (٥٢٢٠)، وفي غير موضع من صحيحه]، وقال: (تعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني [أخرجه البخاري في "التوحيد"، (٧٤١٦)، وفي موضع آخر، ومسلم في "اللعان"، (٣/٧٢٤)، ط الشعب]، وقول القائل: إن هذه انفعالات نفسانية فيقال: كل ما سوى الله مخلوق منفعل ونحن وذواتنا منفعلة، فكونها انفعالات فينا لغيرنا نعجز عن دفعها لا يوجب أن يكون الله منفعلاً لها عاجزاً عن دفعها فإن كل ما يجري في الوجود فإنه بمشيئته وقدرته لا يكون إلا ما يشاء ولا يشاء إلا ما يكون له الملك وله الحمد انتهى ما قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني/١٢] مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ}، أي: ما سبق من ضرب الذلة والبوء بالغضب، ﴿بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾: الكتب المنزلة كالإنجيل والقرآن وآية الرجم والتي فيها نعت محمد – صلى الله عليه وسلم – في التوراة، ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ﴾: شعيباً وزكريا ويحيى عليهم الصلاة والسلام وغيرهم، ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾، عندهم فإنهم غير معتقدين جواز قتلهم، ﴿ذَلِكَ﴾: الكفر والقتل، ﴿بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾، أي: جرهم العصيان والتمادي في تجاوز أمر الله تعالى إلى ذلك فإن صغار الذنوب تؤدى إلى الكبار، وقيل تكرير للفظ "ذلك" الأول إشارة إلى أن الهوان والمسكنة كما أن سببهما الكفر والقتل سببهما المعاصي واعتداء حدود الله.
*****
٦٢
{إِنَّ [وذكر هذه الآية بعد ذكر الذلة والبوء عليهم لبيان امتنان النعمة عليهم فإنها في أثناء تعديد النعم كأنه قال انظروا إلى ما ارتكبوا من كبائر الذنوب التي استوجبت عليهم العقوبات المؤبدات ومع هذا إن آمنوا وندموا ورجعوا وتابوا فلهم في الدنيا والآخرة ما للمؤمنين الذين لم يعملوا سوءاً قط وما ذلك إلا على العنايات/١٢..

﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، أي : قبل البعث مثل " حبيب النجار " وبحيرا الراهب " وغيرهما أو المؤمنين من الأمم الماضية أو المؤمنين من هذه الأمة أو المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم، ﴿ وَالَّذِينَ هَادُواْ ﴾ : دخلوا في دين اليهودية، ﴿ وَالنَّصَارَى ﴾ : أهل دين عيسى، ﴿ وَالصَّابِئِينَ ﴾ : الخارجين من دين إلى دين قوم بين المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين، أو فرقة من أهل الكتاب أو عباد الملائكة أو قوم يوحدون الله ولا يتبعون نبيّا، ﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾، أي : من آمن إيمانا معتدّاً به فدخل فيه من استقر على دينه قبل النسخ كاليهود قبل بعثة عيسى والنصارى قبل والصابئون من آمن بدين محمد عليه الصلاة والسلام، ﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ : بوعده، ﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ : في الآخرة حين الفزع الأكبر، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ : على تفويت الثواب، ومن مبتدأ " فلهم أجرهم " خبره والجملة خبر إن، أو بدل بعض من اسم إن وخبرها، فلهم أجرهم.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ﴾ : باتباع أحكام التوراة ذكرهم ما أخذ عليهم من العهود، ﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ﴾، لما نزل التوراة أبوا قبولها لما فيها من التكاليف فأمر جبريل بقلع جبل الطور فظلله فوقهم حتى ١ كان قبل الأمر بالقتال/١٢ ] قبلوا، ﴿ خُذُواْ ﴾ أي : قلنا له خذوا، ﴿ مَا آتَيْنَاكُم ﴾ : من الكتاب واعملوا به، ﴿ بِقُوَّةٍ ﴾ : بجد وطاعة، ﴿ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ ﴾ : اقرءوا ولا تنسوه، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ : لكي تتقوا عن المعاصي.
١ قبول اختيار غير إكراه أو كان يكفي في دينهم مثل هذا الإيمان هذا ما في الوجيز، وفي الفتح: كل عاقل يعلم أنه لا سبب من أسباب الإكراه أقوى من هذا أو أشد منه فنحن نقول أكرههم الله على الإيمان فآمنوا مكرهين ورفع عنهم العذاب بهذا الإيمان وهو نظير ما ثبت في شرعنا من رفع السيف عمن تكلم بكلمة الإسلام والسيف مصلت قد هزه حامله على رأسه قال القفال: إنه ليس إجباراً على الإسلام، لأن الجبر ما سلب الاختيار بل كان إكراهاً وهو جائر وأما قوله تعالى: ( لا إكراه ( [البقرة: ٢٥٦.
﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ : أعرضتم عن الوفاء بعد أخذ الميثاق، ﴿ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾ : بتوبته عليكم أو بتأخير العذاب، ﴿ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ : المغبونين الهالكين.
﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ﴾، حال، ﴿ الَّذِينَ اعْتَدَواْ ﴾ : جاوزوا عن الحد، ﴿ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ ١، أمرناهم بالعبادة وترك صيد البحر فيه فخالفوا، ﴿ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾، أي : نودوا يا أهل القرية كونوا قردة أو معناه بتكويننا إياهم، وليس ثم قول والمسخ صوري ومعنوي والخسء الصغار والطرد.
١ ذكر أن الله أمر موسى بصوم الجمعة كما أمر سائر الأنبياء به فذكر ذلك لقومه وأمرهم بالتشرع به فتعدلوا إلى يوم السبت فأوحى إليه أن دعهم وما اختاروا فأمرهم بترك العمل للعبادة فيه وحرم عليهم صيد البحر فكانت تأتي الحيتان يوم السبت لا غير وتخرج خراطيمها من الماء فائتمروا بأمر الله زماناً ثم احتال أحد منهم بحيلة تبقي الحيتان في سيف البحر يوم السبت ويأتي يوم الأحد ويأخذها فتعلم القوم منه هذا اعتداؤهم/١٢ وجيز.
﴿ فَجَعَلْنَاهَا ﴾ : المسخة أو القردة أو القرية، ﴿ نَكَالاً ﴾ : عبرة، ﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ﴾ : لمعاصريهم أو لما بحضرتها من القرى أو لأهل ١ تلك القرية أو لأجل ما تقدم من ذنوبهم وهو قول كثير من السلف، ﴿ وَمَا خَلْفَهَا ﴾، من بعدهم أو ما تباعد عنها أو ما حواليها أو لما تأخر من الذنوب ٢، ﴿ وَمَوْعِظَةً ﴾ : وزجراً، ﴿ لِّلْمُتَّقِينَ ٣ : الذين من بعدهم إلى يوم القيامة.
١ فإن بعضهم لم يمسخوا وبقوا على الإنسانية كما سيجيء في الأعراف/١٢ منه.
٢ كل من هذه الأوجه مقابل لكل من الوجوه المذكورة في قوله "لما بين يديها" على الترتيب فلا تفعل/١٢ منه.
٣ من عذاب الله وانتقامه وقوله "ولقد علمتم الذين اعتدوا" إلخ مذكر لهم حال جمع مذنبين غضب الله عليهم ليتحقق لهم الإنعام والعناية لأنهم استحقوا أيضاً/١٢.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى ﴾، أي : اذكروا نعمتي في خرق العادة لكم، ﴿ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ١، وذلك أنه وجد قتيل فيهم وكانوا يطالبون بدمه فأمرهم الله بذبح بقرة وأن يضربوه ببعضها ليحيى ويخبر بقاتله، ﴿ قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾، أي : مهزوءاً بنا أو نفس الهزؤ للمبالغة، ﴿ قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾، فإن الهزؤ في مثل ذلك جهل، بل يوهم أن يكون كفراً لأنه أخبر من الله.
١ البقرة الأنثى وقد تقع على الذكر/١٢ منه.
﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾ : ما صفتها شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، ﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ ﴾ : لا هرمة كبيرة، ﴿ وَلاَ بِكْرٌ ﴾، لا صغيرة لم يلحقها الفحل، ﴿ عَوَانٌ ﴾ : وسط، ﴿ بَيْنَ ذَلِكَ ﴾ المذكور من الفارض والبكر، ﴿ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ ﴾، أي تؤمرونه بمعنى تؤمرون به.
﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا ﴾، الفقوع خالص الصفرة وأشد ما يكون منها أو صافية اللون تكاد تبيض وفي إسناده إلى اللون وهو صفة صفراء فضل تأكيد كأنه قال صفراء شديد الصفرة صفرتها، ﴿ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ : تعجبهم.
﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ﴾ : أسائمة أم عاملة، ﴿ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ﴾ : لكثرة البقر الموصوف بالوصف المذكور، ﴿ وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ : إلى وصفها أو إليها إذا بينتها لنا.
﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ ﴾ : غير مذللة للعمل صفة بقرة، ﴿ تُثِيرُ الأَرْضَ ﴾ : تقلبها للزراعة صفة ذلول، ﴿ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ ﴾، لا مزيدة ١ للتأكيد ﴿ مُسَلَّمَةٌ ﴾، عن العيب أو أخلص لونها قيل سلمها أهلها من العمل، ﴿ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ﴾، لونها واحد لا سواد فيها ولا بياض، ﴿ قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾، بحقيقة وصف البقرة لنا، ﴿ فَذَبَحُوهَا ﴾، أي : حصلوها فذبحوها، ﴿ وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾، لتطويلهم وكثرة مراجعتهم كذا حاصل كلام ابن عباس رضي الله عنهما أو لغلائها فإنهما اشتروها بثمن كثير وصح عن عكرمة : ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير أو الخوف الفضيحة في ظهور القاتل.
١ قال أبو حيان: إذا كان الوصف منفياً بـ "لا" لزم تكرار "لا" نحو "لا بارد ولا كريم" [الواقعة: ٤٤]، ولا يجوز بغير تكرار إلا في صورة الشعر فما قيل إن لا مزيدة للتأكيد ليس بشيء/١٢ منه.
﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ ١ نَفْساً ﴾، هذا أول القصة وإنما قدم البعض لاستقلاله بنوع آخر من مساوئهم وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك مسارعة الامتثال، ﴿ فَادَّارَأْتُمْ ﴾ : اختلفتم واختصمتم، ﴿ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ : مظهر لا محالة أمر القاتل، وإعمال مخرج لأنه حكاية مستقبل.
١ قال أبو حيان صاحب البحر: الظاهر أن ترتيب وجودهما ونزولهما على حسب تلاوتهما فالله أمرهم أولا بذبح البقرة وهم لا يعلمون سره، ثم وقع القتيل بعده فأظهر لهم ما كان أخفاه عنهم من الحكمة بقوله: "فاضربوه ببعضها" ولا شيء يضطرنا إلى اعتقاد تقدم وتأخر والقصص المذكورة في بعض التواريخ لا اعتداد بها/١٢ منه وجيز..
﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ ﴾، أي : القتيل عطف على فادرأتم، ﴿ بِبَعْضِهَا ﴾، أي البقرة ١ وفيه خلاف أنه كان بعضاً معيناً أو لا وإن كان معيناً فأي عضو منها، ﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى ﴾، يدل على محذوف هو فضربوه فحيى، ﴿ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾ : دلائل كمال قدرته، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ : لكي تعلموا أن من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس.
١ عن الحسن وفي رواية عن ابن عباس أيضا أنهم طلبوا البقرة أربعين سنة فوجدوها عند رجل وجعلوا يعطونه بها فيأبى حتى أعطوه ملأ مسكها دنانير فذبحوها وضربوه ببعض منها فقام وقال قتلني فلان فمات بلا مهلة/١٢ منه.
﴿ ثُمَّ قَسَتْ ﴾ : غلظت حتى لم تعتبر بالآيات، ﴿ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ : جميع الآيات التي تقدم ذكرها أو إحياء القتيل وثم للاستبعاد، ﴿ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ ﴾ : في صلابتها، ﴿ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ : منها كالحديد وأو للتخيير أي : من عرف حالها صدر عنه التشبيه بالحجارة، أو القول بأنها أشد أو شبهها بهذا أو ذاك أو بمعنى بل أو قلب بعضهم كالحجارة وبعضهم أشد يعني قلوبهم لا تخرج من أحد المثلين عطف على كالحجارة من غير حذف أي : قلوبهم أشد قسوة من الحجارة أو على حذف مضاف هو مثل أي مثل شيء أشد، ﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ ﴾، تعليل للأشدية، ﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء ﴾، أي : ولم يكن جارياً، ﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ ﴾ : من رأس الجبل، ﴿ مِنْ خَشْيَةِ ١ اللّهِ ( ( * )أي : التفجر ) ﴾ وهل لمسلم أن ينكر قدرة الله تعالى في خلق الخشية والتسبيح في الجمادات ؟ نعم لمن يتبع الفلسفة أن يتحمل التمحل في أمثال ذلك والله تعالى بمحض فضله قد عصمنا منه، قال بعض السلف الأول ( ( * )أي : التفجر ) كثرة البكاء والثاني ( ( ** )أي الانشقاق ) قلته والثالث بكاء القلب من غير دمع، ﴿ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾، وعيد على ذلك.
١ فإن قيل: الحجر جماد لا يفهم فكيف يخشى؟ قيل: الله يفهمه ويلهمه فيخشى بإلهامه ومذهب أهل السنة والجماعة أن لله تعالى علما في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء لا يقف عليه غير الله فلها صلاة وتسبيح وخشية، قال جل ذكره: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" (الإسراء: ٤٤)، وقال: "والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه" (النور: ٤١)، وقال: " ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر" الآية (الحج: ١٨).
﴿ أَفَتَطْمَعُونَ ﴾، أيها المؤمنون، ﴿ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ ١، تحدث اليهود الإيمان لأجل دعوتكم، ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ ﴾ : طائفة من أسلافهم، ﴿ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ﴾، هم السبعون ٢ الذين اختارهم موسى عليه السلام وبعدا ما رجعوا حرفوا كلام الله تعالى، أو المراد علماؤهم يحرفون التوراة، ﴿ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ﴾ : يغيرونه، ﴿ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ﴾ : فهموه، ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ٣ أنهم مفترون وإذا كان هذا حال علمائهم فما طمعكم بسفلتهم وجهالهم.
١ قال القفال: يحتمل أن يكون المعنى كيف يؤمن هؤلاء وهم إنما يأخذون دينهم ويتعلمون من قوم يحرفون عناداً ويعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه والمقلدون يقبلون ذلك منهم فلا يلتفتون إلى الحق/١٢ منه.
٢ هذا قول ابن عباس وابن إسحاق/١٢ منه.
٣ أي: يعلمون ما في التحريف من العقاب/١٢ منه.
﴿ وَإِذَا لَقُواْ ﴾، أي ١ : منافقوا اليهود، ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا ﴾ : بأنكم على الحق ورسولكم مبشر في التوراة، ﴿ وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ ﴾، عاتب من لم ينافق على من نافق بقوله ﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ : في التوراة من صفة النبي عليه الصلاة والسلام،
﴿ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ ٢ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ : لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الدنيا والآخرة فيقولوا : كفرتم بما علمتم صدقه، ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾، أي : أليس لكم عقل وهو من كلام رؤسائهم أو كلام الله تعالى، أي : لا تعقلون حالهم وأن لا مطمع في إيمانهم، قال مجاهد : قال النبي عليه السلام ليهود قريظة : يا إخوة القردة والخنازير، فقالوا من أخبر بهذا محمداً ما خرج هذا إلا منا أفتحدثونهم بما أنزل الله عليكم من العذاب ليروا الكرامة لأنفسهم عليكم عند الله ٣ والأول قول أكثر السلف ٤ ويمكن أن يكون هذا القول تخويف رؤسائهم جهلتهم ليردعوا عن إظهار ما في التوراة مع المؤمنين لا أنه من صميم القلب أو اعتقادهم أنهم مؤاخذون بما تكلموا به لا بما اعتقدوا وأسروا في أنفسهم ولهذا قال الله تعالى.
١ قيل جاز أن يكون وذا لقوا جملة حالية معطوفة على "وقد كان فريق منهم"، أي: كيف تطمعون في إيمانهم وقد وقع من أسلافهم كيت وكيت وهم في أنفسهم منافقون /١٢ منه.
٢ قيل معناه ليحتجوا عليكم بما أنزل الله في كتابه جعلوا محاجتهم بكتاب الله محاجة عنده، كما يقال عند الله كذا ويراد أنه في كتابه وأمره/١٢ منه.
٣ (*) أخرجه عبد ربه حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد مرسلا، كما في الدر المنثور للسيوطي، ١/١٥٧.
٤ خلائق لا يحصى كابن عباس وربيع بن أنس وقتادة وأبي العالية وغيره/١٢ منه.
﴿ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ ﴾، من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾، منه فالحجة عليهم ثابتة حدثوا به أو ما حدثوا وما يسرون من الكفر وما يظهرون من الإيمان.
﴿ وَمِنْهُمْ ﴾ : من اليهود، ﴿ أُمِّيُّونَ ﴾، من لا يكتب ولا يقرأ، ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ ﴾، أي : لكن يعلمون الأكاذيب التي سمعوا من كبرائهم أو غير عارفين بالكتاب إلا أنهم يقرؤون قراءة عارية عن معرفة المعنى وعلى هذا الاستثناء متصل وهذا ١ لا ينافي كونهم أميين فإنهم مع كونهم لا يمكن لهم أن يقرؤوا من الكتاب شيئا يحفظون الكتاب أو يتمنون على الله تعالى كقولهم :﴿ لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾ ٢، و﴿ لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ﴾ الآية ٣، ﴿ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾، قوم ليس لهم إلا ٤ ظن لا علم لهم أو يكذبون.
١ إشارة إلى رد ما قال القاضي من أن هذا لا يناسب وصفهم بأنهم أميون/١٢ منه.
٢ آل عمران: ٢٤.
٣ البقرة: ١١١.
٤ وعلى هذا الاستثناء كالأول منقطع/١٢ منه.
﴿ فَوَيْلٌ ﴾ : هلاك أو واد في جهنم ١ ﴿ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ﴾، هم أحبارهم حرفوا كتاب الله زادوا فيه ونقصوا، ﴿ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، ليستبدلوا به رئاستهم وما يصل إليهم من سفلتهم، ﴿ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ من الكذب، ﴿ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ : من السفلة أو مما يكسبون من المعاصي والأولى أن يكون ما مصدرية ٢ في مما كتبت ومما يكسبون.
١ روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه واد في جهنم وعلى ذلك كثير من السلف/١٢ منه (أخرجه أحمد، ٣/٧٥ ؛ والترمذي، ٣١٦٤ ؛ والحاكم، ٤/٥٩٦ وغيرهم بسند ضعيف عن أبي سعيد مرفوعا: "ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره". وانظر الجامع ٦١٦١).
٢ لأن يكون الويل والهلاك لهم من أفعالهم التي باشروها ولو جعلناها موصولة لكان الويل لهم من غير أفعالهم فتأمل/١٢ منه.
﴿ وَقَالُواْ ﴾، أي : اليهود، ﴿ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ : قليلة سبعة أيام بكل ألف سنة من الدنيا يوماً أو أربعين يوماً لأن عبادة العجل كانت أربعين يوماً، ﴿ قُلْ ﴾ : يا محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ أَتَّخَذْتُمْ ﴾، همزة الاستفهام دخلت على ألف الوصل، ﴿ عِندَ اللّهِ عَهْداً ﴾، ميثاقاً بذلك، ﴿ فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ ﴾، أي : إن اتخذتم عهداً فهو لا يخلف الميثاق، ﴿ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، أم معادلة للاستفهام، أي : أي الأمرين كائن أو منقطعة بمعنى بل.
﴿ بَلَى ﴾، إثبات لما نفوه من خلود النار، ﴿ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ١، أي : شركاً أو كبيرة، ﴿ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ٢، أي صار كالشيء المحاط لا يخلو عنها شيء من جوانبه وهذا شأن الكافر، ﴿ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
١ فسر ابن عباس وأبو وائل وأبو العالية وأبو هريرة ومجاهد وعكرمة وقتادة والحسن والربيع بن أنس السيئة بالشرك والسدي والأعمش والربيع بن خيثم بالكبيرة/١٢ منه.
٢ قال مجاهد هي الذنوب تحيط بالقلب كلما عمل ذنبا ارتفعت حتى يغشى القلب وهي الرين، قال الكلبي أو بقته ذنوبه دليله قوله تعالى: "إلا أن يحاط بكم" [يوسف: ٦٦]، أي تهلكوا ١/١٢ معالم، وتحقيق ذلك أ، من أذنب ذنباً ولم يقلع عنه استجره إلى معاودة مثله والإنهماك فيه وارتكاب ما هو أكبر منه حتى تستولي عليه الذنوب وتأخذ بمجامع قلبه فيصير بطبعه مائلا إلى المعاصي مستحسناً إياها معتقداً ألا لذة سواها مبغضاً لمن يمنعه منها مكذباً لمن ينصحه كما قال الله تعالى: "ثم كان عاقبة الذين أٍساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله" [الروم: ١٠]/١٢ بيضاوي.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾، ذكرهم بما أمرهم في التوراة، ﴿ لاَ تَعْبُدُونَ ﴾، وهو ١ نفي بمعنى النهي مقدر بالقول أو تقديره أن لا تعبدوا، فلما حذف " أن صار الفعل مرفوعاً فيكون ٢ بدلاً من الميثاق أو معمولاً له بحذف الجار ٣، ﴿ إِلاَّ ٤ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾، تقديره تحسنون أو وأحسنوا بهما إحساناً، ﴿ وَذِي الْقُرْبَى ﴾ : القرابة، ﴿ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ﴾ : من لا يجد ما ينفق على نفسه وأهله، ﴿ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾ : قولاً ٥ حسناً وسماه حسناً للمبالغة دخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ﴾ : بطريق فرض عليكم في ملتكم، ﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أعرضتم عن الميثاق وهو التفات ٦ سواء كان خطاباً مع الموجودين ومن قبلهم بالتغليب أولا، ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ ﴾ من ثبت على اليهودية قبل نسخها أو من أسلم، ﴿ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ ﴾ : قوم عادتكم الإعراض.
١ خبر بمعنى النهي وهو أبلغ من صريح النهي لما فيه من الاعتناء بشأن المنهي عنه وتأكد طلب امتثاله حتى كأنه امتثل وأخبر عنه وعبادة الله إثبات توحيده وتصديق رسله والعمل بما أنزل الله في كتبه/١٢ فتح.
٢ أي: أن لا تعبدوا/١٢منه.
٣ أي: بأن لا/١٢ منه.
٤ فيه التفات، إذ الظاهر إلا إيانا /١٢ منه.
٥ والظاهر أن هذا القول الذي أمرهم الله به لا يختص بنوع معين، بل كل ما صدق عليه أنه حسن شرعاً كان من جملة ما يصدق عليه هذا الأمر/١٢ فتح.
٦ لقوله ميثاق بني إسرائيل/١٢.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ﴾ : في التوراة، ﴿ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ ﴾ : بأن لا يقتل بضعكم بعضاً، ﴿ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ﴾ : ولا يخرجه من منزله، ﴿ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ ١، اعترفتم بلزوم الميثاق، ﴿ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ : على أنفسكم بذلك أو أنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم.
١ هذا كما تقول: فلان مقر على نفسه بكذا شاهد عليها /١٢ منه.
﴿ ثُمَّ ﴾، للاستبعاد، ﴿ أَنتُمْ ١ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ ﴾، الجملة حال والعامل معنى الإشارة أو بيان لهذه الجملة، ﴿ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم ﴾، تتعاونون والجملة حال، ﴿ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ بالمعصية والظلم، ﴿ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى ﴾ : يطلبون الفداء، ﴿ تُفَادُوهُمْ ﴾، فديتموهم، كانت قريظة حلفاء الأوس ٢ والنظير حلفاء الخزرج ٣ فإذا اقتتلا عاون كل فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها وإذا أسر أحد من الفريقين جمعوا ٤ له حتى يفدوه فنزلت، ﴿ وَهُوَ ٥، أي : الشأن، ﴿ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ﴾، فاتصل بقوله وتخرجون فريقا ٦ وما بينهما اعتراض أو هو مبهم وإخراجهم تفسيره، ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ ﴾، أي الفداء، ﴿ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾، أي : القتل والمظاهرة والإخراج ٧، ﴿ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ ﴾ : عذاب وهوان، ﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ : خزي قريظة كان القتل والسبي ولبني نضير الجلاء وضرب الجزية على غيرهم، ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ﴾، أي : أشد أنواعه، ﴿ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾، تأكيد للوعيد.
١ قيل هؤلاء بمعنى الذين والجملة بعده صلته والموصول مع صلته خبر أنتم/١٢ منه] هَـؤُلاء}، أي: أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقضون فهو مبتدأ وخبر قيل أنتم يا هؤلاء، {تَقْتُلُونَ [قيل معناه لا تقتلوا أنفسكم لشدة تصيبكم بسكين أو خنق أو بارتكاب ما يوجب ذلك كالارتداد والزنا بعد الإحصان وقتل النفس بغير حق ونحو ذلك ولا تسيئوا جوار من جواركم فيضطروا إلى الخروج من دياركم أو لا تفسدوا فتكونوا سبباً لإخراجكم أنفسكم/١٢ منه.
٢ من المشركين/١٢ منه.
٣ من المشركين/١٢.
٤ أي مجموع الفريقين/١٢ منه.
٥ أي: لفظ هو إما ضمير الشأن أو مبهم مفسر بلفظ إخراجهم وقيل ضمير يرجع إلى مصدر يخرجون ولفظ إخراجهم بيان/ ١٢ منه.
٦ من اليهود/١٢ منه.
٧ عن السدي: أخذ الله عليهم أربعة عهود: ترك القتال والإخراج والمظاهرة وفداء أسرائهم فأعرضوا إلا عن الفداء/١٢ منه.
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ ﴾ : آثروها على الآخرة، ﴿ فَلاَ يُخَفَّفُ ﴾، لا يهون ولا ينقص، ﴿ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ : يمنعون من عذاب الله.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾ : التوراة، ﴿ وَقَفَّيْنَا مِن ١ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ﴾ : أرسلنا على أثره الرسل، ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ﴾، ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى وبعض أحكامه مخالف للتوراة والبينات إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير وإبراء الأسقام وإخباره بالغيب، ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾، أي : جبريل فإنه كان قرينه يسير معه حيث سار، أو الاسم الذي به يحيى الموتى، أو الإنجيل أو الروح الذي نفخ فيه،
﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ ﴾ وسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به " وهو ولقد آتينا " توبيخاً لهم على تعقيبهم ذاك بهذا، ﴿ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى ﴾ : ما لا تحب، ﴿ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ﴾ : عن اتباعه، ﴿ فَفَرِيقاً ٢ كَذَّبْتُمْ ﴾ : كعيسى ومحمد عليهما السلام، ﴿ وَفَرِيقاً ٣ تَقْتُلُونَ ﴾، كزكريا ويحيى جاء بلفظ المضارع لحكاية الحال الماضية ولمراعاة الفواصل.
١ من التقفية وهو الإتباع والإرداف مأخوذ من القفا وكان الرسل من بعد موسى إلى زمن عيسى متواترة يظهر بعضهم في أثر بعض والشريعة واحدة وهو أنبياء بني إسرائيل المبعوثون من بعدهم كالشموئيل بن بابل وإلياس ومنشائل واليسع ويونس وزكريا ويحيى وشعياء وحزقيل وداود وسليمان وأرمياه وهو الخضر وعيسى ابن مريم وكلهم يحكمون بشريعة موسى إلا عيسى فإنه جاءهم بشريعة جديدة وغير بعض أحكام التوراة/١٢ فتح.
٢ الفاء للسببية أو للتفضيل/١٢ منه.
٣ جاء بلفظ المضارع لحكاية صنيعتهم الماضية واستحضارها لأنهم أرادوا قتل محمد صلى الله عليه وسلم لكن عصمه الله فإنهم سحروه وسموه بالشاة، فقال صلى الله عليه وسلم عند موته: "لا زالت أكلة خيبر تعارني فهذا أوان قطعت أبهري"/١٢ وجيز.
﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ : أوعية للعلم لا يحتاج إلى علم آخر، أو عليها غشاوة، أو لا نفقه ما تقول كما في قوله تعالى :" وقالوا قلوبنا في أكنة " ١، ﴿ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ ﴾ أي : ليس الأمر كما زعموا أن قلوبهم أوعية للعلم بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها بكفرهم أو قلوبهم لم تأب قبول الحق لخلل فيها بل لأن الله طبع عليها بالكفر، ﴿ فَقَلِيلاً ٢ مَّا يُؤْمِنُونَ ﴾، أي : يؤمن منهم القليل فقليلاً حال، أو إيماناً قليلاً وهو إيمانهم ببعض الكتاب، أو لا يؤمنون أصلاً لا كثيراً ولا قليلاً.
١ فصلت: ٥.
٢ قال الواقدي: معناه لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً، قال الكسائي: يقول العرب دورنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل، أي: لا تنبت شيئا/١٢ فتح.
﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ ﴾، أي : القرآن، ﴿ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ : التوراة وجوابه محذوف دل عليه جواب لما الثانية، أو لما ١ الثانية تكرار للأول فإن ما عرفوا والكتاب واحد والفاء للإشعار بأن مجيئه كان عقيب استفتاحهم به، ﴿ وَكَانُواْ ﴾ : اليهود والواو للحال، ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ : قبل نزوله، ﴿ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ : يستنصرون على المشركين يقولون اللهم انصرنا بنبي آخر الزمان المنعوث في التوراة، ﴿ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ ﴾ : من الحق، ﴿ كَفَرُواْ بِه ﴾ : بغيا وحسدا، ِ ﴿ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾
١ أي: قوله فلما جاءهم ما عرفوا/١٢ منه.
﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ ﴾، ما نكرة مميزة لفاعل بئس المستتر فيه والفعل صفته، أي : بئس ما باعوا فإنهم باعوا ثوابها بالكفر، ﴿ أَن يَكْفُرُواْ ﴾، هو المخصوص بالذم، ﴿ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً ﴾، أي : أن يفكروا حسداً، ﴿ أَن ﴾، أي : لأن، ﴿ يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ : النبوة والكتاب، ﴿ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾، فإن كفرهم للحسد على أن النبوة في غيرهم، ﴿ فَبَآؤُواْ ﴾ : رجعوا ١، ﴿ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ٢، لكفرهم بمحمد عليه الصلاة والسلام، أو القرآن بعد كفرهم بعيسى وتضييعهم التوراة والإنجيل، أو عبادتهم العجل وقوله بغضب ظرف لغو وعلى غضب صفة له، ﴿ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾، فإن عذابهم للإهانة وعذاب العاصي للطهير.
١ وصاروا أحقاء/١٢ منه.
٢ وقد قدمنا بيان الغضب في صفحة سابقة أنه صفة وصف الله تعالى نفسه بها وليس غضبه كغضبنا كما أن ذاته ليست مثل ذواتنا فليس هو مماثلا لأبداننا ولا لأرواحنا وصفاته كذاته وما قيل إن الغضب من الانفعالات النفسانية فيقال: نحن وذواتنا منفعلة فكونها انفعالات فينا لا يجب أن يكون الله منفعلاً بها بها كما أن نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين فصفاته كذلك ليست كصفات المخلوقين ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه وليس المنسوب كالمنسوب والمنسوب إليه كالمنسوب إليه كما قال صلى الله عليه وسلم: "ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر" فشبه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي وهذا يتبين بقاعدة وهي أن كثيرا من الناس يتوهم في بعض الصفات وكثير منها كلها أو أكثرها أنها تماثل صفات المخلوقين ثم يريد نفي ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة أنواع من المحاذير أحدها كونه مثل ما فهمه من النصوص لصفات المخلوقين وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل. الثاني أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله فبقيت النصوص وظنه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله حيث خالف الذي يفهم من كلامهما من إثبات صفات الله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى، الثالث أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير دليل فيكون معطلا عما يستحقه الرب تبارك وتعالى، الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الأموات والجمادات وصفات المدومات فيكون قد عطل صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثل بالمنقوصات والمعدومات وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً هكذا قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام في القاعدة التدمرية/١٢..
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ﴾ : اليهود، ﴿ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ﴾ : القرآن، ﴿ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا ﴾ : التوراة، ﴿ وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ﴾ : بما سواه أو بما بعده، ﴿ وَهُوَ ﴾، أي : ما وراءه، ﴿ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ ﴾، فإن القرآن مصدق للتوراة، ﴿ قُلْ ﴾ : يا محمد إن كنتم صادقين في دعوى الإيمان بالتوراة، ﴿ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾، وفعل آبائهم فعلهم مع أنهم رضوا به.
ثم يعد عليهم قبائحهم بقوله :﴿ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ : اليد والعصا وغيرهما، ﴿ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ﴾، إلها، ﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ : بعد مجيئه رسولاً أو ذهابه إلى الطور، ﴿ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ : قوم عادتكم الظلم.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ﴾ : قلنا لكم، ﴿ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم ﴾ : ما أمرتم به في التوراة، ﴿ بِقُوَّةٍ ﴾ : بجد، ﴿ وَاسْمَعُواْ ﴾ : أطيعوا، ﴿ قَالُواْ سَمِعْنَا ﴾ : قولك أو بالآذان، ﴿ وَعَصَيْنَا ﴾ : أمرك ١ أو بالقلوب وليس هذا بألسنتكم لكن لما سمعوا وتلقوه بالمعصية نسب إلى القول اتساعاً، ﴿ وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ﴾، أي : أشربوا في قلوبهم حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم وفي كلام السلف : لما أحرق العجل برد بالمبرد ثم نسف في الماء فمن شرب وفي قلبه حب العجل اصفر لونه، ﴿ بِكُفْرِهِمْ ﴾، فإنهم مجسمة فأعجبوا العجل، ﴿ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ٢ : بالتوراة كما زعمتم فبئس ما أمركم به إيمانكم بها والمخصوص بالذم محذوف أي : هذا الأمر وحاصله لو كنتم مؤمنين ما عبدتم العجل يعني آباءهم، وأنتم لو كنتم مؤمنين ما كذبتم محمداً صلى الله عليه وسلم. ‏
١ بمعنى اعترفوا بقبوله لكن لم يفعلوا/١٢ وجيز.
٢ كما زعمتم بالتوراة وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم وكذا إضافة الإيمان إليهم وقوله: "إن كنتم مؤمنين" قدح في صحة دعواهم فإن الإيمان إنما يأمر بعبادة الله وحده لا بشركة العباد لما هو في غاية البلادة الاستهزاء وأما إضافة الإيمان فدلت على أن مثل هذا لا يليق أن يسمى إيماناً إلا بالإضافة إليكم وحاصل الكلام إن كنتم أنتم وآباؤكم الأقدمون مؤمنين لما عبدتم العجل وكذبتم القرآن/١٢ وجيز.
﴿ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ ﴾، أي : في علم الله وحكمه، ﴿ خَالِصَةً ﴾، أي : خاصة بكم كما تقولون :" لن يدخل الجنة إلا من كان هودا " الآية ١، منصوب على الحال، ﴿ مِّن دُونِ النَّاسِ ﴾، أي : الباقين، ﴿ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾، أي : ادعوا بالموت على الكاذب من الفريقين، والمراد منه المباهلة كما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف أو معناه فسلوا الموت لأن من أيقن أن مأواه الجنة حن إليها سيما إذا علم أنها لا يشاركه ٢ فيها غيره.
١ البقرة: ١١١.
٢ وأما المؤمنون فلا يدعون أنهم أحباء الله وأنهم من الفائزين يقيناً، بل يرجون من فضل الله وكذا العشرة المبشرة فحال خوفهم يحال بينهم وبين البشارة لاحتمال أن البشارة مقيدة بقيد ويخافون من سوء العاقبة كما يدل على ذلك تتبع أحوالهم/١٢ وجيز.
﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ﴾ : للعلم بكذبهم، ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ : كتحريف التوراة وإضافته إلى اليد ؛ لأن أكثر الجنايات باليد فأضيف إليها الأعمال وإن لم يكن لليد فيها مدخل، ﴿ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ﴾ : تهديد.
﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾، أي : على نوع من الحياة وهو طول العمر لعلمهم بسوء عاقبتهم، ﴿ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾، عطف في المعني على الناس، أي أحرص من الناس ومن الذين أشركوا، أو عطف على أحرص بتقدير وأحرص من الذين وهو عطف الخاص على العام أو اليهود أحرص منهم مع أن المشركين لا يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم إليها شديد، وزيادة حرص اليهود لعلمهم بأنهم صائرون إلى النار بخلاف المشركين، قيل : تقديره : ومن الذين أشركوا ناس يود أحدهم فمن الذين أشركوا خبر مبتدأ محذوف صفته " يود أحدهم "، فإن من اليهود من قال : عزير ابن الله فيكون مشركاً، ﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ ﴾، أي : اليهود جملة مستأنفة، ﴿ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ١، لو للتمني، ﴿ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ ﴾ : بمعيده، ﴿ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ﴾، وضمير هو لمصدر يعمر، وأن يعمر بدله، أو لأحدهم وأن يعمر فاعل بمزحزحه، ﴿ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾.
١ وإنما خص الألف بالذكر لأن العرب تذكر ذلك عند إرادة المبالغة ولأنها نهاية العقود ولأنها تحية المجوس فيما بينهم يقولون: (زى هز إرسال)أي: عش ألف سنة أو ألف نيروز أو ألف مهرجان فهذه تحيتهم وهذا كناية عن الكثرة/١٢ فتح.
﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ ١ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ ﴾ أي : القرآن، ﴿ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ : بأمره وجواب الشرط محذوف، أي : من كان عدوه فلا إنصاف له، فإنه نزله أو تقديره فهو عدو لي، فليعلم أنه نزله، أو فليمت غيظا، ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ : لما قبله من الكتب نزلت جوابا لليهود إذ زعموا أن جبريل عدو لهم ولولا أنه ولي محمد عليه الصلاة والسلام لآمنوا، ﴿ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ٢، ورد عليهم حيث قالوا : إن جبريل ينزل بالحرب والشدة، فقال الله : إنه ينزل بهما على الكافرين وبهدى وبشرى للمؤمنين.
١ لما قيل اليهود آمنوا بما أنزل الله اعتذروا بوجوه: أنا آمنا بكتابنا وكفينا، والثاني: أن جبريل ولي محمد وهو الذي ينزل عليه وهو عدو لهم ولولا ذلك لآمنوا أجاب عن الأول بما مر وهذا جواب عن الوجه الثاني/١٢ وجيز.
٢ فإذا آمنتم كان هو صديقا لكم/١٢ وجيز.
﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴾، فيه تنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء فمن عادى أحدهم فقد عادى الجميع ووضع الظاهر أي : للكافرين موضع المضمر للدلالة على أن عداوة الله لهم لكفرهم وعداوتهم كفر وقيل الواو هاهنا بمعنى أو.
﴿ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا ١ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾، نزلت في ابن صوريا حين قال : يا محمد ما أنزل إليك آية بينة فنتبعك [ ( * ) أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، كما في الدر المنثور للسيوطي ( ١/١٨ ) ]، ﴿ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ ﴾، المتجاوزون عن الحد.
١ هذا جواب للثالث من أعذارهم من الإيمان فإنهم قالوا ما أنزل إليك يا محمد من آية بينة فنتبعك !/١٢ وجيز.
﴿ أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً ﴾، عطف على محذوف والهمزة للإنكار، أي : أكفروا بالآيات، وكلما عاهدوا نزلت حين ذكرهم نبينا عليه الصلاة والسلام ما أخذ عليهم من الميثاق في شأنه قالوا : والله ما عهد إلينا ولا أخذ ميثاق في شأنك. ﴿ نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ﴾ : نقضه وطرحه، ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾، رد لما يتوهم أن الفريق هم الأقلون، فإنهم بين ناقض عهد أو جاحد معاند، والمؤمنون أقلون.
﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾، كعيسى ومحمد عليهما السلام، ﴿ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ ﴾، أي : التوراة، فإنهم جحدوا ما فيها من صفة محمد عليه الصلاة والسلام، ﴿ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ﴾، كشيء يرمى وراء الظهر غير ملتفت إليه، ﴿ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ : ما فيها مع أنهم عالمون.
﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ ﴾، عطف على نبذ، أي : تركوا كتاب الله واتبعوا كتب السحر التي تقرأها الشياطين وتحدثها، ﴿ عَلَى ﴾ : عهد، ﴿ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾، أي : في زمانه وتعديته بعلى لتضمين الكذب فإن الشياطين كتبوا السحر ودفنوه تحت كرسيه ثم لما مات سليمان أو نزع منه ملكه استخرجوه، وقالوا : تسلطه في الأرض لهذا السحر، فتعلموه، وبعضهم نفوا نبوته وقالوا : ما هو إلا ساحر فبرأه الله مما قالوا فقال :﴿ وَمَا كَفَرَ ﴾ : عبر عن السحر بالكفر لتغليظه، ﴿ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾، إشارة إلى ما كتبوا من السحر، ﴿ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ﴾، عطف على السحر أو على ما تتلوا، أي : يعلمونهم ما ألهما، ﴿ بِبَابِلَ ١، ظرف أو حال، وهو اسم موضع من الكوفة، ﴿ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾، عطف بيان للملكين وعند بعض من السلف أن ما نافية، فيكون عطفا على ما كفر، أي : ما كفر سليمان ولا أنزل على الملكين، أي : جبريل وميكائيل، فإن سحرة اليهود زعموا أن السحر أنزل على لسانهما ٢ إلي سليمان فردهم الله وعلى هذا، فقوله :" ببابل " متعلق بيعلمون وهاروت وماروت اسمان لرجلين صالحين ابتلاهما الله تعالى بالسحر ٣ وقعا بدل بعض ٤ من الشياطين، ﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ ﴾، أي : الملكان، أو الرجلان، ﴿ مِنْ أَحَدٍ ﴾، أي : أحداً، ﴿ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ﴾ : ابتلاء واختبار، ﴿ فَلاَ تَكْفُرْ ﴾ : بتعلمه ٥ وذلك لأن تعلمه للعمل ٦ كفر أو تعلم هذا النوع كفر لما فيه من الكفر فهذه نصحية منهما له، ﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ﴾، ضمير الجمع لما دل عليه من أحد، ﴿ مَا يُفَرِّقُونَ ﴾ : من السحر، ﴿ بِهِ ﴾ : بسببه، ﴿ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم ﴾، أي : السحرة، ﴿ بِضَآرِّينَ بِهِ ﴾ : السحر، ﴿ مِنْ أَحَدٍ ﴾ : أحداً، ﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ : إرادته، ﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ﴾، أي : نفعاً يوازي ضره، ومجمل قصتهما أن الملائكة طعنوا أهل الأرض فسادهم، فقال الله تعالى لهم : لو كنتم على طبعهم لكنتم مثلهم، فقالوا : نحن لا نعصي إلهنا، فاختار الله تعالى من بينهم ملكين من أعبدهم وركب فيهما الشهوة وأرسلهما إلى الأرض فعصيا فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختار عذاب الدنيا، فالآن هما معذبان إلى يوم القيامة ٧ والله يمتحن ٨ عباده بهما، ﴿ وَلَقَدْ عَلِمُواْ ﴾ : اليهود، ﴿ لَمَنِ اشْتَرَاهُ ﴾ : استبدل السحر بكتاب الله تعالى واللام لام الابتداء علقت علموا عن العمل، ﴿ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ : من نصيب، ﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ ﴾، أي : باعوا، ﴿ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ : حقيقة ٩ ما فعلوا.
١ البابل اسم موضع من الكوفة سميت بذلك لتبلبل ألسنة الخلائق بها/١٢ وجيز وفتح.
٢ أي: على لسان جبريل وميكائيل/١٢ منه.
٣ (*) روي في هاروت وماروت قصص عجيبة وأخبار غريبة لا خطم لها ولا أزمة جمعها كلها العلامة محمد بن أبو شهبة في كتابه الماتع "الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير"، (ص: ١٥٩-١٦٦) مبينا زيفها، حتى نقل عن ابن الجوزي والعراقي وعياض وابن كثير وغيرهم أنهم قالوا بوضعها.
٤ في قوله "ولكن الشياطين" كفروا ذكر هذا بن جرير أن السحر من عمل الشياطين وأنها تعلم الناس ذلك ببابل وأن الذي يعلمونهم ذلك رجلان أحدهما هاروت والآخر ماروت فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس وردا عليهم انتهى.
وقال القرطبي: وهذا أولى ما حملت الآية وأصح ما قيل فيها ثم قال: إن قيل كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل؟ ثم أجاب بأن الاثنين قد يطلق عليهم الجمع وإنما خصا بالذكر دون غيرهما لتمردهما ويؤيد هذا أنه قرأ ابن عباس والضحاك والحسن الملكين بكسر اللام، قال ابن جرير –رضي الله تعالى عنه-: وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء وأنهما نزلا إلى الأرض فكان من أمرهما ما كان، وقال ابن كثير في تفسيره: وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية وغيرهم وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وظاهر سياق القرآن إجمال القصتين من غير بسط ولا إطناب فيهما فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى والله أعلم انتهى. وأطال في رد هذه القصة صاحب الخازن وصاحب المظهري وأبو السعود القاضي والرازي والسعد والتفتازاني وغيرهم واستبعدوها، لكن قال الشيخ الزكريا الأنصاري: الحق ما أفاده شيخنا حافظ الشهاب بن حجر أن لها طرقاً تفيد العلم بصحتها، فقد رواها مرفوعة الإمام أحمد وابن حبان والبيهقي وغيرهم موقوفة على علي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم [في الأصل: وغيرها] بأسانيد صحيحة والبيضاوي لما استبعد هذا المنقول ولم يطلع عليه قال: إنه محكي عن اليهود ولعله من رموز الأولين ذكره الخطيب، وقد أطنب الشيخ ابن حجر المكي في جواب الرازي واستبعاده لهذه القصة في كتاب الزواجر بما لا مزيد عليه هذا خلاصة ما في الفتح/١٢.

٥ فيه أ، تعلم السحر كفر وظاهره عدم الفرق بين المعتقد وغير المعتقد وبين من تعلمه ليكون ساحراً ومن تعلمه ليقدر على دفعه وبه قال أحمد، أخرج البزار بإسناد صحيح والحاكم وصححه عن ابن مسعود: «من أتى ساحراً أو كاهنا وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» وأخرجه البزار عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تطير أو تطير له أو سحر أو سحر له أو تكهن أو تكهن له ومن عقد عقدة ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد/١٢.
٦ عند أبي حنيفة ومالك وأحمد استعمال السحر كفر فقالا أي: مالك وأحمد يقتل بمجرد الاستعمال وعند الشافعي استعماله من الكبائر إذا لم يعتقد جوازه أو لم يكن في سحره ما يوجب الكفر/١٢ منه.
٧ (*) أشرنا قريبا إلى بطلان كل ما ورد في هذا الروايات، وانظر الضعيفة للشيخ الألباني.
٨ في مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث طويل حاصله ما ذكرناه، وأيضا في صحيح ابن حبان فقيل: رجاله ثقات، وقد ثبت أيضاً عن علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وغيرهم من الصحابة والتابعين/١٢ منه.
٩ وعلى ما فسرنا لا منافاة بين قوله: "ولقد علموا" حيث أثبت لهم العلم وبين قوله: "لو كانوا يعلمون" حيث لزم نفي العلم عنهم فلا تغفل/١٢ منه.
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ ﴾ : بمحمد عليه الصلاة والسلام، ﴿ واتَّقَوْا ﴾، نبذ كتاب الله تعالى واتباع كتب الشياطين، ﴿ لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ ﴾، أي : لشيء ١ من الثواب خير لهم، أو جواب لو محذوف وهو لأثيبوا ٢ ولمثوبة إلخ. . استئناف واختيار الجملة الاسمية في جواب لو للدلالة على ثبوت المثوبة واستقرارها، كما في سلام ٣ عليك وأصله لأثيبوا مثوبة خيراً مما شروا به أنفسهم، ﴿ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾، أي : من أهل العلم أو يعلمون أن الثواب خير.
١ هذا يعلم من تنوين مثوبة/١٢ منه.
٢ قال صاحب البحر: المختار أن يكون جواب لو محذوفاً كما قال الأخفش ومختار الزمخشري غير مختار لأنه لم يعهد في لسان العرب وقوع الجملة الاسمية جواباً لِلَوْ، ولا يثبت القواعد الكلية بالمحتمل فتفطن/١٢ منه.
٣ فحذف الفعل وجعل الباقي جملة اسمية للدلالة على ثبوت المثوبة وحذف المفضل عليه/١٢ منه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا ﴾، نهى الله تعالى المؤمنين عن أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم راعنا، أي : أرعنا سمعك، أي : اسمع منا وفي لمية المنع خلاف والمشهور أن لهذا اللفظ معنى قبيحا بلغة اليهود وهم لما سمعوا هذا اللفظ من المسلمين يأتونه ويقولون راعنا ويضحون سرا،
﴿ وَقُولُواْ انظُرْنَا ﴾، أي : إلينا، ﴿ وَاسْمَعُواْ ﴾، ترك هذه اللفظة ١ سماع قبول لا كاليهود قبل : إنه عليه السلام إذا تكلم معهم قالوا : راعنا، أي راقبنا ٢ وتأن بنا حتى نفهم، فمنعوا من تلك الكلمة وأمروا بانظرنا أي : انتظرنا، ﴿ وَلِلكَافِرِينَ ﴾ : الذين سبوا وتهاونوا رسلنا، ﴿ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
١ كلام السلف كعلي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم ما قلناه أولا وهو صريح في أن هذه اللفظة إذا خاطب المسلمون نبي الله عليه الصلاة والسلام قالوها بدل اسمع منا، وقالوا معناه راعنا سمعك والذي ذكرناه بقيل ذكره الزمخشري وهو غير ما ذكره السلف بأجمعهم فلا تغفل/١٢ منه.
٢ من نظره إذا أنظره وإذا كان هذا معناه جاز أن يكون معنى واسمعوا: أحسنوا الاستماع حتى لا تفتقروا إلى طلب المراعاة/١٢ منه.
﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم ﴾، هو مفعول يود، ﴿ مِّنْ خَيْرٍ ﴾، من للاستغراق، ﴿ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾، من للابتداء والخير هاهنا الوحي أو علم بين تعالى شدة عداوتهم حسداً للمؤمنين لئلا يغتروا بنفاقهم، ﴿ وَاللّهُ يَخْتَصُّ ١ بِرَحْمَتِهِ ﴾ : بنبوته أو أعم، ﴿ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾، فحرمان البعض ليس لضيق في الفضل، بل لحكم ومصالح.
١ يقال: اختص زيد بكذا واختصصته به والظاهر أنه هاهنا متعد قيل: جاز أن يكون لازماً ومن يشاء فاعله/١٢ منه.
﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ﴾ : نبطل ١ حكمها أو النسخ رفعها ٢ من القرآن، ﴿ أَوْ نُنسِهَا ﴾ : نمحها عن القلوب ٣ ومن قرأ ننسأها أي : نؤخرها، أي : في اللوح المحفوظ أو نثبت قراءتها ونبدل حكمها ٤ فعلى هذا النسخ عكسه ٥، ﴿ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ﴾ : أنفع للعباد في الدارين، ﴿ أَوْ مِثْلِهَا ﴾ : في المنفعة نزلت حين قالوا : إن محمدا صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء ثم يأمر بخلافه فما هذا إلا كلامه، ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ : من النسخ والتبديل.
١ كتبديل حكم من حل إلى حرمة أو من حرمة إلى حل ويكون اللفظ من القرآن/١٢ منه.
٢ أعم من أن يبطل حكمه أولا الثاني نحو "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى بهما ثالثا/١٢ منه.
٣ عن ابن عباس: كان الوحي ينزل عليه بالليل وينساه بالنهار فلذا أنزل أو ننسها/١٢ منه.
٤ (*) وفي حاشية النسخة: الأول: قول عمر وابن عباس، والثاني: قول ابن مسعود/١٢ منه.
٥ أي: نثبت حكمها ونبدل قراءتها نحو: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما"/١٢ منه.
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ ﴾، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وأمته بدليل " وما لكم "، ﴿ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ : يفعل ما يشاء فيهما من نسخ وتغيير، والآية وإن كانت خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته، لكن في الحقيقة رد وتكذيب لليهود لإنكارهم نسخ التوراة، ﴿ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ ﴾ : وال يلي أمركم، ﴿ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ : ينصركم قيل الفرق بينهما أن الوالي قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون أجنبيا.
﴿ أَمْ تُرِيدُونَ ﴾، أي : ألم تعلموا أنه يأمر وينهى كما شاء أم تعلمون وتقترحون في السؤال ١ فأم معادلة للهمزة أو منقطعة ٢، ﴿ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ ﴾ : محمداً عليه الصلاة والسلام فإنه رسول الله إلى الناس أجمعين، ﴿ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ ﴾ : أهل الكتاب قالوا ائتنا بكتاب نقرأه وفجر لنا أنهاراً نصدقك فأنزل الله تعالى، أو قريش ٣ سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ٤ ورجعوا ٥، ﴿ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ ﴾، أي : يشتري الكفر به، ﴿ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ﴾.
١ يعني أم إما متصلة معادلة لقوله "ألم تعلم"، وإما منقطعة أي: ألم تعلموا أن له القدرة الشاملة والتصرف كيف أراد ثم قال بل لكم علم لكن تقترحون في السؤال كما اقترحت أسلافكم على موسى عليه السلام/١٢ منه.
٢ معناه بل والهمزة للمبالغة في النهي حتى كأنهم كانوا بصدد الإرادة فنهوا عنها فضلا عن السؤال يعني من شأن العاقل أن لا يتصدى لإرادة ذلك/١٢ منه. والمراد أن يوصيهم بالثقة به وترك الاقتراح عليه لأن معنى المنقطعة بل والهمزة للإنكار/١٢ منه.
٣ على الوجه الأول: المخاطبون هم اليهود وهو قول ابن عباس وغيره وعلى الثاني: المخاطبون قريش وهو قول مجاهد والسدي وقتادة/١٢ منه.
٤ يعني إذا ظهرت تلك الآية فمن يكفر منكم فإن الله لا يمهله ويعذبه فلذلك أبوا عن الإيمان ورجعوا عن مقترحهم محبة للكفر كما قال تعالى لهم: "فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحداً من العالمين" (المائدة: ١١٥)/١٢ منه.
٥ (*) أخرجه بنحوه ابن اسحاق وابن حرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس كما في الدر المنثور للسيوطي، ١/٢٠١.
﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾، كان من أحبارهم رجال جاهدوا في رد الناس عن الإسلام فأنزل الله تعالى، ﴿ لَوْ يَرُدُّونَكُم ١، لو بمعنى أن، ﴿ مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً ﴾، حال من كم، أو مفعول ثان ليردون لتضمين معنى التصيير، ﴿ حَسَداً ﴾ علة ود، ﴿ مِّنْ عِندِ ٢ أَنفُسِهِم ﴾، أي : تمنوا من عند أنفسهم لا من قبل التدين أو معناه حسداً مبالغاً مبعثاً من أصل نفوسهم، ﴿ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ : في التوراة، ﴿ فَاعْفُواْ ﴾ : عن مجازاتهم، ﴿ وَاصْفَحُواْ ﴾، وأعرضوا عنهم، ﴿ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ : بالقتال أو القتال والسبي والجلاء، أو إسلام بعض والباقي لبعض، ﴿ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
١ ذهب بعض النحاة إلى أنها مصدرية، إلا أنها لا تنصبه كما فصلناه في قوله: "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" (البقرة: ٩٦)/١٢ منه.
٢ على التفسير الأول: من عند ظرف لغو بِوَدّ، وعلى الثاني: ظرف مستقر صفة لحسد أو قيد مبالغاً ليكون مقيداً وإلا فالحسد لا يكون إلا من الأنفس/١٢ منه.
﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزّكاة ﴾، أي : اصبروا على المخالفة والجئوا إلى الله تعالى بالبر، ﴿ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ ﴾، أي : ثوابه،
﴿ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ : فلا يضيع عمل عامل.
﴿ وَقَالُواْ ﴾، أي : أهل الكتاب، ﴿ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾، وهذا لف بين قولي اليهود والنصارى ثقة بفهم السامع،
﴿ تِلْكَ ﴾، إشارة ١ إلى ألاّ ينزل على المؤمنين خير أو أن يردوهم كفاراً وألا يدخل غيرهم، أو إشارة ٢ إلى الأخير بحذف المضاف أي ٣ أمثالها، ﴿ أَمَانِيُّهُمْ ﴾ : التي تمنوها على الله تعالى باطلاً، ﴿ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ﴾ : على اختصاصكم بالجنة، ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾
١ يعني أمانيهم بصيغة الجمع بأبي أن يكون تلك إشارة إلى شيء واحد فلا بد من تأويل إما بأن يقول إشارة إلى متعدد أو إلى واحد بحذف المضاف أي: أمثال تلك/١٢ منه.
٢ قيل: أفرد المبتدأ لفظا، لأنه كناية عن المقالة، وهي مصدر يصلح للقليل والكثير وأريد بها الكثير باعتبار القائلين ولذلك جمع الخبر فطابق من حيث المعنى/١٢منه..
٣ قيل هذان الوجهان خلاف الظاهر، أما الأول: فلأن كل جملة ذكر فيها ودهم قد انقضت وكملت واستقلت في النزول فيبعد أن يشار إليها، وأما الثاني: فللحذف، ولأن هذا المعنى يناسب إذا كان أمانيهم مبتدأ وتلك خبر/١٢ منه.
﴿ بَلَى ﴾ : إثبات لما نفوا من دخول غيرهم الجنة، ﴿ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ ﴾ : أخلص له نفسه، أو دينه أو عمله، ﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ : متبع نبي ١ الله عليه الصلاة والسلام، قيل : مؤمن، ﴿ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ ﴾ : ثابت لا ينقص، ﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ : في الآخرة عند الفزع الأكبر، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ : على ما مضى.
١ يعني للعمل المتقبل شرطان أحدهما: أن يكون خالصاً لوجه الله لا فيه رياء، والثاني: أن يكون صواباً موافقاً للشريعة/١٢ منه.
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ ﴾ : أمر يعتد به ١ أي : دينهم باطل من أصله نزلت حين قدم وفد نجران فتنازعوا مع اليهود، ﴿ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ﴾ : مطلقاً دائماً، ﴿ وَهُمْ ﴾، أي : الفريقان، ﴿ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ﴾، وفي كتاب كل منهما تصديق من كفروا به، ﴿ كَذَلِكَ ٢ مثل ذلك الذي سمعت، ﴿ قال الذين لا يعلمون ﴾ آباؤهم الذين مضوا أو عوام النصارى أو مشركوا العرب قالوا في نبيهم أو أمم قبلهما، ﴿ مثل قولهم ﴾، وبّخهم الله على التشبه بالجهال وهو مفعول مطلق لقال وكذلك مفعول به وقيل كذلك مبتدأ ومثل قولهم مصدر أو مفعول ليعلمون، ﴿ فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ بما استحقوا عن الحسن هو تكذيبهم وإدخالهم النار.
١ لو لم يفسر على هذا الوجه يكون كلام كل منهم صدقاً فلا يكون قوله "وهم يتلون الكتاب" ردّا عليهم، ولا يكون لواو الحال موقع حسن/١٢ منه.
٢ يمكن أن يكون تقديره الأمر كذلك ثم ابتدأ وقال: "وقال الذين لا يعلمون" إلخ.../١٢ منه]}.
﴿ ومن أظلم ممن١ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن ٢ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ﴾، عام لكل من خرب مسجدا، وإن كان سبب نزوله منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة ويحج عام الحديبية، وأي خراب أعظم مما فعلوا من إخراج المسلمين واستحواذهم بالأصنام، أو نزلت ٣ في الروم خبروا بيت المقدس، ﴿ أُوْلَئِكَ ﴾ : المانعون، ﴿ مَا كَانَ لَهُمْ ٤ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ ﴾، خبر معناه الطلب لا تمكنوهم ٥ من دخولها إلا تحت هدنة أو جزية، أو بشارة للمسلمين أنه سيكون كذلك، أو ما كان ينبغي أن يدخلوها إلا خاشعين فضلا أن يخربوا، أو ليس الحق أن يدخلوا إلا خائفين عن المسلمين فضلا من أن يمنعوهم منها، ﴿ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾ : قتل وسبي أو جزية، ﴿ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾
١ [هذا كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً: من أظلم ممن آذى الصالحين/١٢.
٢ قوله: "أن يذكر"، أي: من أن يذكر بحذف من وقيل بدل اشتمال من مساجد الله ولا تناقض بين قوله هذا وبين قوله: "فمن أظلم ممن افترى على الله" (الأنعام: ١٤٤، الأعراف: ٣٧، يونس: ١٧)، وقوله: "ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها" (السجدة: ٢٢)، لأن معناه هؤلاء أظلم ولا يدل على أن أحدهم أظلم من الآخر، بل كلهم مساو في الأظلمية/١٢ منه.
٣ ولهذا نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح ألا لا يحج بعد العام مشرك ومن كان له أجل فأجله إلى مدته/١٢ منه.
٤ ما كان لهم في علم الله وقضائه أن يدخلوها إلا خائفين وقد أنجز وعده/١٢ منه.
٥ الأول قول سعيد بن جبير عن ابن عباس وكأنه أرجح، لأن القول الثاني وهو قول العوفي عن ابن عباس وقول عكرمة ومجاهد والسدي أن النصارى أخرجوا اليهود ومنعوهم عن الصلاة في بيت المقدس، اليهود إذ ذاك غير مقبولة لأنهم لعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون/١٢ منه.
﴿ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ : له الأرض كلها إن منعتم الصلاة في أحد المساجد، ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ ﴾، أيَّ : في أي مكان توليتم القبلة، ﴿ فَثَمَّ وَجْهُ ١ اللّهِ ﴾، أي : جهته التي أمر بها لا يختص بمسجد ومكان، أو معناه بأي جهة وجهتم إليها وجهكم فثم قبلة الله المشرق والمغرب، أو ذاته مطلع بكم، ﴿ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ ﴾ : محيط بالأشياء رحمة لا يضيق على عباده، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : بالأعمال في الأماكن أو نزلت ٢ في صحابة عميت عليهم القبلة فتحروا القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة ثم تبيّن خطأهم ٣، أو نزلت ٤ في صلاة التطوع حين السير أو في تحويل القبلة لما عبرت اليهود بأن ليس لهم قبلة معلومة، أو لما نزلت " ادعوني أستجب لكم " ( غافر : ٣٠ )، قالوا أين ندعوه فنزلت، أو لما مات النجاشي قال النبي صلى الله عليه وسلم : صلوا عليه، قالوا إنه كان لا يصلي إلى القبلة كيف نصلي عليه ؟ فنزلت، نقله ابن جرير رضي الله عنه ٥.
١ قيل الوجه الجاه كما يقال فلان وجه القوم، أي موضع شرفهم، معناه فثم جلال الله وشرفه وعظمته/١٢ منه.
٢ روى الترمذي وابن ماجة وابن حاتم أنها في شأن من عميت عليه القبلة قال الترمذي: حديث حسن ليس إسناده بذلك وروى الدار قطني أيضا برواية أخرى وضعفها، والثاني وهو الذي أنها في التطوع في حديث رواه الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم، والثالث قول ابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة وقتادة وغيرهم، والرابع قول ابن جرير، والخامس نقله ابن جرير وقال: قال آخرون كذا هذا الوجه لا يخلو عن إشكال فتأمل، والأولى أن يحكم بعدم صحة الرواية والله أعلم/١٢ منه.
٣ (*) أخرجه الترمذي (٣١٣٣ - أحوذي) وضعفه وأبو داود الطيالسي عبد بن حميد وابن ماجه وابن جرير والدارقطني وغيرهم عن عامر بن ربيعة. وضعفه أيضا العقيلي كما في الدر المنثور للسيوطي (١/٢٠٥).
٤ قوله أو نزلت إشارة إلى أنه قد علم من التفسير الذي ذكرنا وجه آخر بسبب النزول، فإنه إذا كان سبب النزول الوجوه الخمسة التي سنذكرها فيكون معنى "فأينما تولوا فثم وجه الله" لا يصدق إلا على المعنى الثاني في بعض، والثالث في بعض فتأمل/١٢ منه.
٥ أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن قتادة مرسلا كما في الدر المنثور (١/٢٠٦).
﴿ وَقَالُواْ ﴾ : اليهود في عزير والنصارى في المسيح والمشركون في الملائكة، ﴿ اتَّخَذَ ١ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ ﴾ : نزه نفسه عن ذلك، ﴿ بَل لَّهُ مَا ٢ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ : أي : مخلوق وملك فلا مناسبة لشيء مع الله فلا ولد، ﴿ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ : منقادون لا يمكن لهم الامتناع عن مشيئته.
١ اتخذ هاهنا بمعنى عمل وصنع فهو متعد إلى مفعول واحد/١٢ منه.
٢ غلب غير أولي العلم أولا فقال ما في السموات لأن ما يستعمل في الإبهام في مقام الوصف وكما يدل على التعظيم في بعض المواضع يدل على التحقير في بعض، فهنا اتباع أولى العلم غيرهم تحقير لشأنهم، والمقام يقتضيه، وأما قانتون فعلى تغليب أولي العقل، وهو الأصل أو نقول إن ما عام فلا تغليب والتغليب في قانتون على الأصل/١٢١ منه.
﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ : مبدعهما وخالقهما بلا سبق شيء، أو بديع سماواته وأرضه، ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْراً ﴾ : قدر وأراد، ﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾، من كان التامة، أي : يكونه فيكون ولا واجب أن هناك حقيقة قول كما ابتدأ المسيح بأمر كن من غير والد والملائكة كذلك ومن قرأ فيكون بالنصب فهو جواب الأمر.
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ : مشركوا العرب أو بعض اليهود والنصارى، ﴿ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ ﴾، أي : هلا يكلمنا عيانا، ﴿ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ﴾، كما قال تعالى :﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ﴾ الآية ( الإسراء : ٩٠ )، ﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ﴾ : من كفار الأمم الماضية، ﴿ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ : في العناد، ﴿ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ : أيقنوا وطلبوا الحق لا من عاند واستكبر.
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ﴾ : متلبسا، ﴿ بِالْحَقِّ ﴾ : بالصدق، ﴿ بَشِيراً ﴾ : بالجنة، ﴿ وَنَذِيراً ﴾ : من النار، ﴿ وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾، أي : لست بمسؤول عنهم لِمَ لَمْ يؤمنوا، ومن قرأ بصيغة النهي فذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : ليت شعري ما فعل أبواي، فنزلت ١ وقيل معناه لا تسئل عن حالهم فإنك لا تقدر أن تخبر عنها لفظاعتها.
١ أخرجه عبد الرزاق بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي قال السيوطي هذا مرسل ضعيف الإسناد ثم رواه من طريق ابن جرير عن داود بن أبي عاصم مرفوعا وقال هو معضل الإسناد لا تقوم به ولا بالذي قبله حجة هذا ما في الفتح وفي الوجيز وهذا القول بعيد جدا فإنه متوسط بين فضائح أهل الكتاب والمشركين/١٢. [كلام السيوطي على الطريق وتضعيفه لهما تراه في الدر المنثور (١/٢٠٩)، وقال في الحاوي (٢/٣٨٩): "لم يخرج –أي هذا الحديث- في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وإنما ذكر في بعض التفاسير بسند منقطع لا يحتج به، ولا يعول عليه"]..
﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى ﴾، كانوا يرجحون أن يرجع محمد عليه الصلاة والسلام إلى دينهم حين كان يصلي إلى قبلتهم، فلما صرفت القبلة أيسوا منه فأنزل الله، ﴿ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ : دينهم وقبلتهم، ﴿ قُلْ ﴾ : يا محمد، ﴿ إِنَّ هُدَى اللّهِ ﴾ : الذي بعثني به، ﴿ هُوَ الْهُدَى ﴾ : طريق الحق، ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم ﴾ : آراءهم الباطلة، ﴿ بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ : القرآن والسنة، ﴿ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ١ : يدفع عنك العقاب وهو تهديد شديد للأمة.
١ وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتتصدع منه الأفئدة ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه والقائمين ببيان شرائعه ترك الدهان لأهل البدع المتمذهبين بمذاهب السوء التاركين للعمل بالكتاب والسنة المؤثرين لمحض الرأي عليهما فإن غالب هؤلاء وإن أظهر قبولا وأبان من أخلاقه ليناً لا يرضيه إلا اتباع بدعته والدخول في مداخله والوقوع في حبائله فإن فعل العالم ذلك بعد أن علمه الله من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو ما في كتابه وسنة رسوله لا ما هم عيله من تلك البدع التي هي ضلالة محضة وجهالة بينة ورأى منهار وتقليد على شفا جرف هار فهو ذلك ماله من الله من ولي ولا نصير ومن كان كذلك فهو لا محالة مخذول وهالك بلا شك وشبهة/١٢ فتح.
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾، أي : جنس الكتاب من الكتب المتقدمة، ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ﴾، حال كونهم لا يحرفونه ولا يكتمون ما فيه ويحلون حلاله ويحرمون حرامه، ﴿ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾، أي : بكتابهم دون من يحرفه ويكتمه ولا يحل ولا يحرم حلاله وحرامه أو أولئك يؤمنون بالقرآن لا من يحرف كتابه، أو معناه الذين آتيناهم القرآن حال كونهم يتبعونه حق اتباعه هم المؤمنون بالقرآن لا غيرهم، ﴿ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾، حيث اشتروا الكفر بالإيمان.
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ : عالمي زمانكم.
﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ١. ، كرر ذلك وختم به الكلام معهم مبالغة في النصح وكأنه الفذلكة والمقصود بالذات.
١ لما بين حكاية آدم وهو أبو الجميع وفصل حكاية مخالفات بعض أولاده وعدولهم عن الاستقامة أخذ يبين حكاية أب العرب إبراهيم الذي وفى تحريضا على متابعته وتحذيراً عن أن يكونوا مثل بعض أولاده فقال: "وإذ ابتلى إبراهيم" الآية/١٢ وجيز.
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى ﴾ : اختبر أي : عامل معاملة المختبر، ﴿ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ﴾ : ربّ إبراهيم، ﴿ بِكَلِمَاتٍ ﴾، في الكلمات ١ اختلاف كثير، أي : شرائع وأوامر ونواهي أو ثلاثين خصلة عشر في البراءة، " التائبون العابدون " ( التوبة : ١١٢ ) إلخ. . . وعشر في أول سورة " قد أفلح المؤمنون " ( المؤمنون : ١-٩ )، " وسأل سائل " ( المعارج : ٢٢-٣٤ )، وعشر في الأحزاب، " إن المسلمين والمسلمات " ( الأحزاب : ٣٥ ) إلخ. . ، أو عشر خصال خمس في الرأس : قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وخمس في الجسد : تقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء [ ( * ) أخرج هذا التفسير الحاكم في " المستدرك، ٢/٢٦٦، عن ابن عباس من قوله، وقال :" صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " وأقره الذهبي ]، أو مناسك الحج، أو أنه كان يقول كلما أصبح وأمسى :" فسبحان الله حين تمسون " ( الروم : ١٧ ) إلخ الآية أو الآيات التي بعدها " إني جاعلك للناس إماما " وغيرها، ﴿ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ : أداهن تامات وقام بهن حق القيام، ﴿ قَالَ ﴾، استئناف كأنه جواب لمن قال ماذا قال له ربه حين أتمهن ؟، أو بيان لقوله ابتلي، عند من يقول هي الكلمات، ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾ : يقتدى بك وإمامته مؤبدة إلى الساعة، ﴿ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾، عطف على الكاف، أي : اجعل من أولادي أئمة، ﴿ قَالَ ﴾ : الله، ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾، في تفسيره أيضا كثير خلاف الأرجح أنه إجابة لملتمسه وإشارة إلى أن في ذريته من لا يصلح للإمامة والنبوة.
١ قال ابن جرير: ما حاصله أنه لا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له ثم قال إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب يعني إن الكلمات هو قوله: "إني جاعلك للناس إماما" وقوله: "وعهدنا إلى إبراهيم" وما بعده/١٢ فتح.
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ ﴾ : الكعبة، ﴿ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ ﴾ : مرجعاً يأتون ثم يرجعون ثم يأتون أو موضع ثواب، ﴿ وَأَمْناً ﴾ : من المشركين أبداً فإنهم لا يتعرضون لأهل مكة ويتعرضون لمن حولها، أو لا يؤاخذ الجاني الملتجئ إليها كما هو مذهب أبي حنيفة وقيل يأمن الحاج من عذاب الآخرة، ﴿ وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ ﴾، مقام إبراهيم الحجر المعروف، أو مسجد الحرام أو الحرم أو مشاعر ١ الحج وقد صح ٢ أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله هذا مقام أبينا إبراهيم ؟ قال : نعم، قال : أفلا نتخذه مصلى ؟ فأنزل الله :" واتخذوا " ٣ إلخ وهو عطف على عامل إذ أعني اذكر، أو مقدر بقلنا ٤، ﴿ مُصَلًّى ﴾، يسن الصلاة خلفها أو مدّعى، ﴿ وَعَهِدْنَا ﴾ : أمرنا ولأنه بمعنى الوحي عدى بإلى، ﴿ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ ﴾، أي : بأن طهراه من الأصنام ٥ وما لا يليق ٦ به أو ابنياه على التوحيد على اسمه وحده، ﴿ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ : لمن يطوف ولمن يجلس في المسجد ولمن يصلى، أو المراد من الطائفين الغرباء ومن العاكفين المقيمين والركع السجود جمع راكع وساجد.
١ كعرفة ومزدلفة ومنى ومن فسر كلمات بمشاعر الحج فسر مصلى بمدعى فإن إبراهيم قام في هذه المواضع ودعا فيه/١٢ منه.
٢ (*) في حاشية النسخة: في البخاري وغيره/١٢ منه.
٣ (**) أخرجه البخاري في "التفسير"، باب: قوله ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى (، ٤٤٨٣، وفي غير موضع من صحيحه..
٤ فيكون عطف على جعلنا البيت/١٢ منه.
٥ هذا قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء/١٢ منه.
٦ قال ابن جرير وغيره أنه كان يعبد عند البيت في زمن نوح الأوثان/١٢ وجيز ومنه.
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا ﴾ : المكان، ﴿ بَلَداً آمِناً ١ : ذا أمن، أو آمن من فيه، ﴿ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾، من آمن بدل البعض أهله، ﴿ قَالَ وَمَن كَفَرَ ﴾، عطف ٢ على من آمن وهو من كلام الله، نبه الله تعالى أن الرزق عام دنيوي لا كالإمامة، أو مبتدأ تضمن معنى الشرط، ﴿ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ﴾، خبره وقليلاً نصبه بالمصدر، ﴿ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ﴾، أي : ألجئه إليها، ﴿ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ٣، أي : العذاب ٤.
١ نحو ليل نائم/١٢ منه.
٢ هذا العطف عطف تلقين كأنه قال: قل وارزق من كفر أيضا فإنه مجاب/١٢ منه.
٣ (*) في الأصل وما قبلها وما بعدها.
٤ يعني: أن المخصوص بالذم محذوف/١٢.
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ ﴾ : الأساس، ﴿ مِنَ الْبَيْتِ ﴾ : ورفعها البناء عليها، ﴿ وَإِسْمَاعِيلُ ﴾، كان يناوله الحجارة يقولان :﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ﴾، بنائنا البيت ١، ﴿ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ ﴾ : لدعائنا، ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ : بنياتنا.
١ (**) في حاشية النسخة: بالإثابة/١٢ منه.
﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ﴾ : مخلصين منقادين، ﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا ﴾، أي : اجعل بعض أولادنا، ﴿ أُمَّةً ﴾ : جماعة، ﴿ مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ : خاضعة مخلصة والأصح أنها تعم ١ العرب وغيرهم، ﴿ وَأَرِنَا ﴾ : أبصرنا، ﴿ مَنَاسِكَنَا ﴾ : معالم حجنا أو مذابحنا، ﴿ وَتُبْ عَلَيْنَا ﴾ : مما فرط عنا، ﴿ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ٢ : للتائب.
١ قال السدي: يعنيان العرب قال ابن جرير الصواب أنه أعم لأن من ذريته بني إسماعيل قال: "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" (الأعراف: ١٥٩)/١٢ منه.
٢ رحمته وإن اشتملت التائب وغيره لكن الرحيم هو المبالغ في الرحمة ولذلك خصها السلف بالتائب/١٢ منه.
﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ ﴾ : في الأمة المسلمة، ﴿ رَسُولاً مِّنْهُمْ ١، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ يَتْلُو ﴾ : يقرأ، ﴿ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ﴾ : القرآن، ﴿ وَالْحِكْمَةَ ﴾ : السنة أو الفهم في الدين أو العلم والعمل به ٢، ﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ : عن الشرك، ﴿ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ ﴾ : الغالب، ﴿ الحَكِيمُ ﴾ : واضع الأشياء في محالها.
١ وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: أنا دعوة أبي إبراهيم/ ١٢ وجيز منه. [وهو حديث صحيح أخرجه أحمد (٥/٢٦٢) من حديث أبي أمامة مرفوعا، وانظر الصحيحة (١٥٤٦)، وصحيح الجامع (١٤٦٣).
٢ الأول قول الحسن وقتادة ومقاتل وأبي مالك وغيرهم والثاني قول عطاء والثالث قول محمد بن إسحاق/١٢ منه.
﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ : استبعاد عن ذلك أي لا يرغب أحد، ﴿ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ : خسرها أو جهل ١ نفسه أو ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره والمستثنى بدل من ضمير يرغب لأنه في معنى النفي، ﴿ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ﴾ : اخترناه للرسالة، ﴿ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ : وهذه ٢ حجة وبيان لقوله " ومن يرغب ".
١ فلم يعلم أنها مخلوقة لله ويجب عليها عبادة خالقها، وعن المبرد سفه بكسر الفاء متعد وفي الحديث الكبير أن تسفه الحق وتغمض الناس/١٢ منه.
٢ أي مجموع قوله ولقد اصطفيناه إلخ.
﴿ إِذْ قَالَ ﴾، ظرف لاصطفينا أو بأضمار اذكر كأنه قال : اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى، ﴿ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ١ : استقم على الإسلام أو أخلص العمل لله أو أسلم نفسك إلى الله وفوض أمرك إليه، قال ابن عباس –رضي الله عنهما- : حقق ذلك حيث لم يستعن بغير الله حين ألقي ٢ في النار، ﴿ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
١ إن كان الأمر قبل النبوة عند استدلاله بالكواكب فأسلم على ظاهره وإلا فالمراد منه الثبات أو غير ذلك/١٢ منه.
٢ وذلك حين قال جبريل عليه السلام "ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا"/١٢ منه.
﴿ وَوَصَّى بِهَا ﴾ : بالملة أو كلمة الإخلاص، ﴿ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ﴾، أي وصى هو أيضا بنيه، ﴿ يَا بَنِيَّ ﴾، على إضمار القول أو متعلق بوصى لأنه نوع من القول، ﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ ﴾ : دين الإسلام، ﴿ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾، أي : داوموا على الإسلام حتى لا يصادفكم الموت إلا عليه.
﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء ﴾، منقطعة ١ والهمزة للإنكار أي : ما كنتم حاضرين، وهذا رد على اليهود حيث قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية، ﴿ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ﴾، تم الكلام ثم ابتدأ بقوله :﴿ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ ﴾، كأنه قال : اذكر ذلك الوقت حتى لا تدعى إليه اليهودية أو متعلق بقالوا نعبد، ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً ﴾، نصبه على البدل من إله آبائك وإسماعيل عمه فهو من التغليب، ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾، حال من معمول نعبد.
١ قيل أم متصلة أي: تدعون على أنبياء اليهودية بلا سند أم كنتم حاضرين وفي البحر لا نعلم أحداً أجاز حذف هذه الجملة ولا نحفظ ذلك في شعر ولا غيره وقيل منقطعة بمعنى بل للإضراب عن الكلام الأول لا بمعنى نفيه والحكم ببطلانه بل بمعنى الأخذ فيما هو أهم وقيل قد يجيء المنقطعة بمعنى الهمزة وحدها ويكون لمجرد الإنكار وهاهنا كذلك/١٢ منه.
﴿ تِلْكَ ﴾، أي : إبراهيم ويعقوب وبنوها، ﴿ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ﴾ : مضت، ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ : من العمل، ﴿ وَلَكُم ﴾ : يا معشر اليهود، ﴿ مَّا كَسَبْتُمْ ﴾، أي : انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، ﴿ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ : لا تؤاخذون بسيئاتهم، كما لا تثابون بحسناتهم.
﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ﴾، قالت اليهود للمؤمنين : كونوا على ديننا فهو الحق، وقالت النصارى مثله، ﴿ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾، أي : نكون أهل ملته، أو نتبع ملته ﴿ حَنِيفاً ﴾ : مائلا عن الباطل إلى الحق حال عن إبراهيم، ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، وهذا تعريض للمخاطبين.
﴿ قُولُواْ ﴾ : أيها المؤمنون، ﴿ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ﴾ : القرآن، ﴿ وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ ﴾ : أولاد يعقوب وفيهم الأنبياء، ﴿ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى ﴾، أفردهما بحكم ١ أبلغ لأن التراع فيهما، ﴿ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ ﴾ : المذكورون وغيرهم، ﴿ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ﴾ : كاليهود يكفر ببعض ويؤمن ببعض واحد بحسب ٢ الوضع يستوى فيه المفرد والجمع والمذكر والمؤنث، ﴿ وَنَحْنُ لَهُ ﴾ : لله، ﴿ مُسْلِمُونَ ﴾ : مخلصون منقادون.
١ وهو الإيتاء فإنه أبلغ من الإنزال/١٢ منه.
٢ فهو اسم لمن يصح أن يخاطب ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة كل أو في كلام غير موجب، نص على ذلك أبو علي وغيره من أئمة العربية/١٢ منه.
﴿ فَإِنْ ١ آمَنُوا ﴾، أي : أهل الكتاب، ﴿ بِمِثْلِ مَا ٢ آمَنتُم بِهِ ﴾، المثل صلة والباء زائدة أي : مثل إيمانكم بالمذكور، أو هو من باب التعجيز إذ لا مثل لدين الإسلام نحو قوله تعالى :" فأتوا بسورة من مثله " ( البقرة : ٢٣ )، ﴿ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ : أعرضوا عن الإيمان،
﴿ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ﴾ : خلاف ونزاع، ﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ ﴾، تسكين للمؤمنين ووعد بالحفظ والنصرة، ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾، من تمام الوعد والوعيد لا في طلب حق.
١ جاء بكلمة الشك على سبيل الفرض والتقدير/١٢ منه.
٢ أي: حصلوا ديناً آخر مثل دينكم مساوياً له في الصحة والسداد فقد اهتدوا/١٢ منه.
﴿ صِبْغَةَ اللّهِ ﴾، من تتمة المقول أي : قولوا التزمنا ١ دين الله، أو صبغنا الله صبغته وهي فطرة الله فإنها حلية الإنسان كما أن الصبغ حلية المصبوغ، نقل أن النصارى يغمسون أولادهم في ماء أصفر ويقولون : هو تطهير لهم وبه يحق نصرانيتهم فيكون للمشاكلة، ونقل أن بني إسرائيل قالوا لموسى : هل يصبغ ربك ؟ فناداه ٢ ربه أن قل نعم أنا أصبغ الألوان وأنزل الله على نبيه :" صبغة الله " ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً ﴾ ٣ : لا صبغة أحسن من صبغته، ﴿ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ﴾
١ قدرنا التزمنا ليكون داخلا في مقول قولوا آمنا لأنه لو قدرنا الزموا كما قدره كثير من المفسرين يلزم فك النظم لأن قوله: "ونحن له عابدون" عطف على "آمنا"، فيلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بأجنبي وهو قوله: "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة" فإنه ليس من مقول قولوا حينئذ وقيل: نقدر الزموا، وقوله: "ونحن له عابدون" مقدر بالقول، أي: وقولوا: نحن له عابدون فلا يلزم فك النظم وأنت تعلم أن ما ذكرناه أقل حذفا وأمتن فتدبر/١٢ منه.
٢ عن سيبويه أن صبغة الله مصدر مؤكد لقوله: "أمنا بالله" فإن الإيمان يطهر النفوس كأنه قال: طهرنا الله تطهيره/١٢.
٣ (*) ذكره الحافظ ابن كثير في "التفسير"، (١/٨٩) وعزاه إلى ابن مردويه ابن أبي حاتم من طريق أشعب بن إسحاق عن ابن جبير عن ابن عباس مرفوعا. وقال: "كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعا، وفي رواية ابن أبي حاتم موقوف وهو أشبه إن صح إسناده".
﴿ قُلْ ﴾ : يا محمد لأهل الكتاب، ﴿ أَتُحَآجُّونَنَا ﴾ : أتجادلوننا ١، ﴿ فِي اللّهِ ﴾، في دين الله وأمره حيث قالوا الأنبياء منا فنحن أولى بالله منكم، ﴿ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ﴾ : لا اختصاص له بقوم دون قوم، ﴿ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ : لكلّ جزاء عمله فليس ببعيد أن يكرمنا الله تعالى، ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴾
١ أتجادلوننا في شأن الله واصطفاءه النبي من العرب دونكم؟!/١٢ منه.
﴿ أَمْ تَقُولُونَ ﴾، أم منقطعة والهمزة للإنكار، ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ ﴾، " ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما " ( آل عمران : ٦٧ )، و﴿ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ ١ مِنَ اللّهِ ﴾، يقرأون في التوراة أن الدين الإسلام وأن هؤلاء الأنبياء براء من اليهودية والنصرانية، فشهد الله بذلك فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك، ﴿ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾، وعيد لهم.
١ الظرفان كلاهما صفة شهادة/١٢ منه.
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، كرر مبالغة في الزجر عما في الطباع من الاتكال بالأشراف من الآباء، قيل : الخطاب فيما سبق لأهل الكتاب وفي الآية لنا، وقيل : المراد بالأمة في الأول : الأنبياء وفي الثاني : أسلاف أهل الكتاب‏.
﴿ سَيَقُولُ ١ السُّفَهَاء ٢ مِنَ النَّاسِ ﴾ : اليهود ومشركوا مكة، ﴿ مَا وَلاَّهُمْ ﴾ : ما صرفهم، ﴿ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا ﴾، وهي الصخرة، ﴿ قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ : ملكاً لا يختص به مكان دون مكان، ﴿ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ : تقتضيه الحكمة فتارة إلى الصخرة ثم إلى الكعبة.
١ ظاهر في الاستقبال وهو خبر من الله قبل استقبالهم الكعبة، فهو من المعجزات، وذهب قوم إلى أنه نزل أولا "قد نرى تقلب وجهك في السماء"، ثم نزل سيقول السفهاء نص على ذلك ابن عباس وغيره وحديث البخاري، وهو أنه صلى الله عليه وسلم صلى في المدينة نحو بيت المقدس ستة عشر، أو سبعة عشر شهراً وكان يجب التوجه نحو الكعبة، فنزل "قد نرى تقلب وجهك في السماء" الآية، فقال السفهاء من الناس وهم اليهود: "ما ولاهم عن قبلتهم" الآية فقال الله تعالى: "قل لله المشرق والمغرب" فعلى هذا السين دل على أنهم كما صدر عنهم في الماضي يصدر عنهم في الآتي، فهو في ضلالتهم في الأول والثاني/١٢ وجيز [أخرجه البخاري في "التفسير"، باب: "سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم..." (٤٤٨٦)، وفي غير موضع من صحيحه، ومسلم في "المساجد ومواضع الصلاة" (٢/١٦٠).
٢ الذين خف أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن النظر/١٢ بيضاوي..
﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ : كما هديناكم صراطاً مستقيماً، وقيل إشارة إلى ولقد اصطفيناه في الدنيا، أي : كما اخترنا إبراهيم عليه السلام، ﴿ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ١ : عدولا خياراً، ﴿ لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ ﴾ : على صدقكم، ﴿ شَهِيداً ﴾، وذلك لأن الأمم يجحدون يوم القيامة تبليغ الأنبياء، فالأنبياء يأتون بأمة محمد عليه الصلاة والسلام فيشهدون بالتبليغ، فتقول الأمم : من أين عرفتم ؟، فيقولون : أخبرنا نبينا في كتابه ٢، ثم يزكيهم محمد عليه الصلاة والسلام، ﴿ وَمَا ٣ جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ ٤ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا ﴾، أي : أصل أمرك استقبال الكعبة، فإنها قبلة إبراهيم، لكن جعلنا قبلتك بيت المقدس، قوله :" التي كنت عليها " أحد مفعولي جعل، أي : الجهة التي كنت عليها ٥، وقيل : تقديره وما جعلنا تحويل القبلة التي كنت عليها، وعلى هذا التي صفة القبلة أقول والله أعلم بمراده : يحتمل أن يراد من التي كنت عليها الكعبة، أي : خاطرك مائل إليها، فإن الأصح أن القبلة قبل الهجرة الصخرة لكن خاطره الأشرف مائل إلى أن تكون الكعبة قبلة، ﴿ إِلاَّ لِنَعْلَمَ ٦ : علماً حالياً يتعلق به الجزاء، ﴿ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ﴾ : عند نسخ القبلة، ﴿ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ : يرتد، والظاهر أن تقديره متميزاً، ممن ينقلب حال من فاعل يتبع، أو ثاني مفعولي نعلم، وقد نقل أن كثيرا من المسلمين ارتدوا عند تحويل القبلة، ظنا منهم أن هذا حيرة منه عليه الصلاة والسلام، ﴿ وَإِن كَانَتْ ﴾، أي التولية ٧، وإن مخففة، ﴿ لَكَبِيرَةً ﴾ : ثقيلة، ﴿ إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ﴾، أي : هداهم الله، ﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ : بالقبلة الأولى، وتصديقكم واتباعكم نبيكم في القبلة الثانية، أو صلاتكم إلى الصخرة، ففي الصحيح ٨ أن الصحابة سألوا كيف حال إخواننا الذين ماتوا على القبلة الأولى ؟ فنزلت، ﴿ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ٩
١ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الوسط هاهنا بالعدل رواه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وغيرهم مرفوعاً فوجب الرجوع إلى ذلك/١٢ فتح [بل ثبت هذا التفسير في البخاري مرفوعاً (ح٤٤٨٧).
٢ (*) أخرجه البخاري في "التفسير"، باب: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا..." (٤٤٨٧)، وفي غير موضع من صحيحه.
٣ قيل: التصير الانتقال، فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول، وبالحالة الثانية هو الثاني، نحو: جعلت الطين، خزفاً والجاهل عالماً، فعلى هذا، التي كنت عليها هو المفعول الأول، لا كما قاله الزمخشري: ما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت عليها أولا، ثم قال: كان صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الكعبة ثم صلى إلى بيت المقدس، ثم أمر أن يصلي إلى الكعبة، وكل واحد من الكعبة، وبيت المقدس صالح لأن يوصف بقوله التي كنت عليها لأنه قد كان عليه السلام متوجها إليهما في وقتين فافهم/١٢ منه.
ومفعوله الثاني، إلا لنعلم كما تقول: ضرب زيد للتأديب، أي: كائن له وعلى هذا يحتمل أن يراد بالقبلة الكعبة، ويحتمل أن يراد بيت المقدس إذ كل منهما متصف بأنه كان عليه م ١٢ منه.

٤ (حديث) صلى النبي صلى لله عليه وسلم في مسجد بني سلمة ركعتين فتحول إلى الكعبة في الصلاة، وتبادل الرجال والنساء الصفوف، فسمى المسجد ذا القبلتين، كذا ذكره البيضاوي، وقال السيوطي: هذا تحريف للحديث، فإن قصة بني سلمة لم يكن فيها النبي صلى الله عليه وسلم إماما، ولا هو الذي تحول في الصلاة/١٢.
٥ قيل هذا الوقت وهي بيت المقدس/١٢ منه.
٦ العلم هاهنا بمعنى الإدراك فلا يطلب إلا مفعولا واحدا وثاني مفعوليه ممن ينقلب، وقيل: من استفهامية مبتدأ، ويتبع خبره فيكون العلم من المتعدى إلى مفعولين معلقا بالاستفهام عن العمل/ ١٢ منه.
وقيل: معناه فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم/١٢ منه.

٧ (*) في حاشية النسخة، إلى الكعبة/١٢ منه.
٨ (*) أخرجه البخاري في "التفسير"، باب: "سيقول السفهاء من الناس..." (٤٤٨٦).
٩ قيل: معناه لرءوف بالمؤمنين في الدارين رحيم على الفاسقين، وقيل: قدم الرءوف محافظة على الفواصل/١٢ منه.
﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ﴾، أي : تردد وجهك في جهة السماء انتظاراً لجبريل والوحي بتغيير القبلة، فإنه يحب أن تكون " قبلة " قبلة أبيه إبراهيم، ﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ ﴾، نمكنك استقبال قبلة من وليته كذا، أي صيرته واليا له، ﴿ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾، تحبها، ﴿ فَوَلِّ ﴾ : اصرف، ﴿ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾، أي : نحوه، ﴿ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ ﴾، من بر وبحر، وهو بمعنى الشرط، أي : أينما كنتم ١ فالفاء، ﴿ فَوَلُّواْ ﴾، للجزاء، ﴿ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾، حين الصلاة، ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ ﴾ : اليهود، ﴿ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ﴾ : أمر الكعبة، ﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ﴾، ليقينهم بحقية محمد عليه الصلاة والسلام، وبأن الكعبة قبلة إبراهيم، ﴿ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾
١ لا يجوز أن يكون حيث ما كنتم ظرفا لقوله فول لأنه يلزم اجتماع حرفي العطف/١٢ منه.
﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ ﴾ : دالة على أن الكعبة قبلة، ﴿ مَّا ١ تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ﴾، لأنهم حساد جاحدون، ﴿ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ﴾، قطع لأطماع اليهود الرجوع إلى الصخرة ثانيا، ﴿ وَمَا بَعْضُهُم ٢ بتابع قبلة بعض ﴾ اليهود تستقبل الصخرة، والنصارى مطلع الشمس، فمحال أن تراعي خاطرهم، إن أردت مثلا لاختلافهم، ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم ﴾، مثلا، ﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾، بأن لك الحق بالوحي، ﴿ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾، مثلهم وبالحقيقة هذا تهديد لأمته.
١ قوله: "ما تبعوا" جواب قسم محذوف، دل عليه اللام الموطئة في "ولئن أتيت" سد مسد جواب الشرط/١٢ منه.
٢ قال الحافظ ابن القيم في بدائع الفوائد: قبلة أهل الكتاب ليست بوحي وتوفيق من الله ؛ بل بمشورة واجتهاد منهم، أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق وهم يقرون بأن قبلة المسيح قبلة بني إسرائيل، وهي الصخرة وإنما وضع لهم أشياخهم هذه القبلة، فهم مع اليهود متفقون على أن الله لم يشرع استقبال بيت المقدس على رسوله أبدا، والمسلمون شاهدون عليهم بذلك الأمر، وأما اليهود فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة البتة، وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا، فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه، فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة/١٢ فتح].
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾ : علماءهم، ﴿ يَعْرِفُونَهُ ﴾ : محمدا بنعته وصفته، ﴿ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ ﴾ : كمعرفتهم أبناءهم بلا التباس، ﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ ﴾، أي : نعته وصفته، أما العوام فلا يعرفون شيئا، وأما المؤمنون منهم فلا يكتمون، ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾، فإنهم يقرؤون في كتابهم.
﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾، مبتدأ أو خبر واللام للإشارة إلى الحق١ الذي يكتمونه، أو إلى ما عليه محمد عليه الصلاة والسلام، أو تقديره هو الحق حال كونه من ربك ﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ : الشاكين فيما أخبرتك، وهذا مبالغة في تحقيق الأمر، أو أمر للأمة.
١ [حال مؤكدة وجاز أن يكون خبرا بعد خبر/١٢ منه.
﴿ وَلِكُلٍّ ﴾ : من أهل الأديان، ﴿ وِجْهَةٌ ﴾ : قبلة، ﴿ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾ : وجهه، ووجهة الله حيت توجه المؤمنون، أو الله مولى الأمم إلى قبلتهم، ﴿ فَاسْتَبِقُواْ ﴾ : بادروا، ﴿ الْخَيْرَاتِ ﴾ : قبول أمر القبلة وغيره، ﴿ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ ﴾، أنتم وأهل الكتاب، ﴿ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً ﴾ : يحشركم إليه ويجازيكم ﴿ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ﴾ : من الإماتة والإحياء والجمع، ﴿ قَدِيرٌ ﴾
﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ﴾ : من أي مكان خرجت، افعل ما أمرت به، فالفاء في، ﴿ فَوَلِّ ﴾، للعطف ١ على مقدر، ﴿ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾، إذا صليت، ﴿ وَإِنَّهُ ﴾ : المأمور به، ﴿ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
١ لا مساغ في عمل "فول" في "ومن حيث خرجت" لاجتماع حرفي العطف، وإن جوزنا إعمال ما بعد الفاء فيما قبله، فالوجه أنه متعلق بمحذوف كما قدرنا، وجاز أن تجعل "ومن حيث خرجت" في معنى الشرط، أي: أينما كنت وتوجهت، فالفاء للجزاء، صرح بذلك العلامة التفتازاني واخترناه في "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم"/١٢ منه.
﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾، لما كان النسخ من مظان الفتن والشبه، أكد وكرر وبالغ مراراً، ﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ ﴾، أحد من الآحاد، ﴿ عَلَيْكُمْ ١ حُجَّةٌ ٢، فإن اليهود قالت : ما درى ٣ محمد أين قبلته حتى هديناه، فلما صرفت القبلة بطلت صورة حجتهم، ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾ : من الناس، كمشركي مكة، فإنهم قالوا : محمد قد تحير في دينه وسيعود إلى ملتنا كما عاد إلى قبلتنا، والاستثناء متصل، قيل : معناه لئلا يكون لأحد من اليهود حجة، إلا للمعاندين منهم، فحجة المنصفين أن يقال لم لا يحول إلى قبلة إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة ؟ وحجة المعاندين، أنه ما ترك قبلة الأنبياء إلا ميلاً إلى دين قومه، والمراد من الحجة ما يساق سياقها، ﴿ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ ﴾، المشركين، فمطاعنهم لا تضركم، ﴿ وَاخْشَوْنِي ﴾ : فلا تخالفوا أمري، ﴿ وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ﴾، بتكميل الشريعة، وهو عطف على قوله لئلا يكون، ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ : لكي تهتدوا أنتم خصوصا إلى قبلة إبراهيم.
١ الظاهر أن عليكم حال من حجة: والناس خبر يكون ١٢ منه.
٢ قيل: حجة الظالمين هي أنه يزعم أن دينه دين إبراهيم، فإن كان بيت المقدس قبلة إبراهيم فلم تحول عنه/منه.
٣ هكذا فسره أبو العالية ومجاهد وعطاء والضحاك وربيع بن أنس وقتادة والسدي/١٢ منه.
﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ ﴾، متصل بما بعده، أي : كما ذكرتم بالإرسال، فاذكروني، أو بما قبله، ومعناه : ولأتم نعمتي عليكم في الآخرة كما أتممتها في الدنيا بإرسال رسول منكم، ﴿ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ ﴾ : يحملكم ما تصيرون به أزكياء من رذائل الأخلاق، ﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ ﴾ : القرآن، ﴿ وَالْحِكْمَةَ ﴾ : السنة، ﴿ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ : بالفكر من الأحكام والشرائع.
﴿ فَاذْكُرُونِي ﴾ : بالطاعة أو في الرخاء، ﴿ أَذْكُرْكُمْ ﴾ : بالمغفرة أو في الشدة، ﴿ وَاشْكُرُواْ لِي ﴾ : نعمي، ﴿ وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾، بجحد نعمي، ومن أطاع الله فقد شكر ومن عصاه فقد كفر.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ ﴾ : على طلب الآخرة، ﴿ بِالصَّبْرِ ﴾ : عن المعاصي، ﴿ وَالصَّلاَةِ ﴾، التي هي أم العبادات ١، ﴿ إِنَّ ٢ اللّهَ مَعَ ٣ الصَّابِرِينَ ﴾ : بالعون والنصرة.
١ الفارق بين الكفر والإيمان والصبر أمر قلبي، والصلاة ثمرته، وهي من أشق التكاليف لتكررها في كل يوم وليلة/١٢ وجيز.
٢ قال شيخ الإسلام في شرح حديث النزول: ولفظ المعية في كتاب الله جاء عاما، كما في قوله تعالى: "وهو معكم أينما كنتم" [الحديد: ٤] وفي قوله: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا رابعهم" إلى قوله "هو معهم أينما كانوا" [المجادلة: ٧] وجاء خاصاً كما في قوله: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" [النحل: ١٢٨]، وقوله: "إني معكما أسمع وأرى" [طه: ٤٦]، وقوله: "لا تحزن إن الله معنا" [التوبة: ٤٠] ولو كان المراد أن الله بذاته مع كل شيء، لكان التعميم يناقض التخصيص فإنه قد علم أن قوله: "لا تحزن إن الله معنا" أراد به تخصيص نفسه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار، وكذلك قوله: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" خصهم بذلك دون الظالمين والفجار، وأيضا فلفظ المعية ليست في لغة العرب ولا شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى كما في قوله: "محمد رسول الله والذين معه" [الفتح: ٢٩]، قوله: "فأولئك من المؤمنين" [النساء: ١٤٦]، وقوله: "اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" [التوبة: ١١٩]، وقوله: "وجاهدوا معكم" [الأنفال: ٧٥]، ومثل هذا كثير، فامتنع أن يكون قوله: "وهو معكم" [الحديد: ٤] يدل على أن ذاته تكون مختلطة بذوات الخلق، وأيضا فإنه افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم به، وقد بسط الكلام عليه في موضع آخر، وبين أن لفظ المعية في اللغة وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة، فهو إذا كان مع العباد، ولم يناف ذلك علوه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد. انتهى مختصراً/١٢ منه..
٣ ولما كانت الصلاة ناشئة عن الصبر، قال: "إن الله مع الصابرين" اندرج المصلون تحت الصابرين، اندراج الفرع تحت الأصل/ ١٢ منه.
﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ ﴾، هم، ﴿ أَمْوَاتٌ بَلْ ﴾ : هم، ﴿ أَحْيَاء ﴾، نزلت في قتلى ١ بدر من المسلمين وأرواح ٢ الشهداء في أجواف طير خضر تسرح في الجنة، ﴿ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ﴾ : ما حالهم.
١ هم أربعة عشر/١٢ منه.
٢ هذا حديث مذكور في صحيح مسلم وتتمته (تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوى إلى قناديل معلقة تحت العرش)/١٢ منه [أخرجه في الإمارة، باب: بيان أن أرواح الشهداء في الجنة (٤/٥٥٠).
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ﴾ : ولنصيبنكم إصابة من يختبركم، ﴿ بِشَيْءٍ ﴾، أي : قليل، ﴿ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ ﴾، أي : القحط، ﴿ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ ﴾ : خسران الأموال، ﴿ وَالأنفُسِ ﴾ : الموت أو هو المرض والشيب، ﴿ وَالثَّمَرَاتِ ﴾ : الحوائج، وحكى عن الشافعي رضي الله عنه : الخوف، خوف الله والجوع رمضان، ونقص الأموال الزكوات والصدقات، والأنفس الأمراض، والثمرات موت الأولاد، ﴿ وَبَشِّرِ ﴾ : يا محمد، ﴿ الصَّابِرِينَ ﴾
﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ ﴾ : مما ذكر، ﴿ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ ﴾ : عبيد أو ملكاً، ﴿ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾ : في الآخرة فلا يضيع عمل عامل.
﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ ﴾ : مغفرة ١، أو ثناء من الله وأمنه من العذاب، ولكثرتها وتنوعها جمعها، ﴿ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ٢، لطف وإحسان، ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ : إلى الصواب أو إلى الجنة.
١ في مسند الإمام أحمد، وسنن ابن ماجة (ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها، وإن طال عهدها، فيسترجع، إلا جدد اله له عند ذلك فأعطاه/١٢ منه [وهو حديث ضعيف، انظر تعليق الشيخ الألباني على المشكاة (١٧٥٩)].
٢ قال الزمخشري: عطف الرحمة على الصلوات بمنزلة أن يقال: عليهم رأفة ورحمة بعد رحمة/١٢ منه.
﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ ١ : جبلان بمكة، ﴿ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ ﴾ : من أعلام مناسكه، ﴿ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ ﴾، الحج والعمرة عبادتان معينتان في الفقه، ﴿ فَلاَ جُنَاحَ ﴾ : إثم، ﴿ عَلَيْهِ ﴾، في ﴿ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ : بالجبلين، كان فيهما صنمان معروفان، وأهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما، فلما جاء الحق وزهق الباطل، كره المسلمون الطواف بينهما فأنزل الله، وعند الشافعي : هو ركن الحج بدليل الأحاديث والآية لا ٢ تنافيه، ﴿ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً ﴾، من صلاة وزكاة وطواف وغيرها، أو تطوع بالسعي عند من يرى أنه سنة ٣ ونصب خيرا على المفعول المطلق، أو تطوع بمعنى : فعل وأتى، ﴿ فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ ﴾ مجازيه بعمله، ﴿ عَلِيمٌ ﴾، لا يخفى عليه خافية.
١ ولما كان الحج أخا الجهاد، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم أحد الجهادين، وفيه نقص الأموال، والصبر على هجران الأصحاب، وترك الوطن، وفيه مشاهدة القبلة، وهي متمنى الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الصفا والمروة من شعائر الله"/١٢ وجيز.
٢ إذا عرفت مورده كما ذكرناه، بل قوله: "من شعائر الله" أي: ما شرع الله تعالى في مناسك الحج يؤيده/١٢ منه.
٣ وهو مذهب ابن عباس وأنس والزهري/١٢ منه.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا ﴾، علماء اليهود، ﴿ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ﴾، صفة محمد، وآية الرجم، وغيرهما، ﴿ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ﴾ : التوراة، ﴿ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ : جمع الخلق سوى الجن والإنس أو الملائكة والجن والإنس المؤمنون، يعني : يقولون اللهم العنهم قد نقل ١ أن البهائم والطيور إذا اشتدت السنة تعلن عصاة بني آدم ٢.
١ في الحديث: إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه، تسمعها كل دابة غير الثقلين، فتلعنه كل دابة سمعت صوته، فذلك قوله تعالى: "أولئك يعلنهم الله" إلخ.. رواه ابن أبي حاتم/١٢ منه.
٢ (*) أخرج ذلك سعيد بن منصور في سننه وابن جرير على مجاهد من قوله.
﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ﴾ : رجعوا عن الكتمان، ﴿ وَأَصْلَحُواْ ﴾، ما أفسدوا، ﴿ وَبَيَّنُواْ ﴾ للناس ما كانوا كتموه، ﴿ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ : بالقبول والمغفرة، ﴿ وَأَنَا التَّوَّابُ ﴾ : المبالغ في قبول التوبة، ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ : كثير الرحمة.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾ : ماتوا على الكفر، ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾، المراد من الناس المؤمنون، أو هذا في الآخرة يوقف الكافر فيلعنه جميع الناس، حتى إنه يلعن نفسه.
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ : في اللعنة، ﴿ لاَ يُخَفَّفُ ١ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾، أي : لا يمهلون، أو لا ينتظرون ليعتذروا، وقيل : لا ينظر إليهم نظر رحمة.
١ هذه الآية مكذبة لمن يدعي أن الكفار بعد مدة في النار لا يجدون ألم الحرقة أو هم غير معذبين/١٢ وجيز.
﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾، كفار قريش قالوا : يا محمد ! صف لنا ربك فأنزل الله، ﴿ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ : ليس في الوجود إله غيره، ﴿ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾، هما كالحجة لوحدانيته، فإنه مولى النعم وحده، فغيره لا يستحق العبودية، ولما سمعه المشركون، قالوا : إن كنت صادقاً في أن لا إله إلا الله فأتنا بآية، فأنزل الله.
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ ١ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ : تعاقبهما، ﴿ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ﴾ : بنفعهم أو بالذي ينفعهم من الركوب والحمل، ﴿ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء ﴾، السماء السحاب، أو الفلك، أو جانب العلو، ﴿ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ ﴾ : بالنبات، ﴿ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ : جدوبتها، ﴿ وَبَثَّ فِيهَا ﴾، فرق في الأرض، عطف على أحيا، والمجموع صلة، أو على ما أنزل بتقدير الموصول، أي : وما بثه، ﴿ مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ﴾، في مهابها وأحوالها، ﴿ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ﴾، أي : المذلل لأمر الله، بينهما لا ينزل ولا ينقشع، ﴿ لآيَاتٍ ﴾ : دلالات على وحدته، ﴿ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ : يتفكرون فيها.
١ أي إيجادهما أو خلقهما وشكلهما كما يقال: خلق فلان أحسن أي شكله/١٢ منه.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً ﴾ : أصناماً جعلوا له أمثالاً يعبدونهم، ﴿ يُحِبُّونَهُمْ ١ حال البلاء، قال تعالى :" فإذا ركبوا في الفلك " ٢، { وَلَوْ يَرَى ﴾ : لو يعلم، ﴿ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾، باتخاذ الأنداد، ﴿ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ﴾ : عاينوه يوم القيامة، ﴿ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾، ساد مسد مفعولي يرى، وجواب لو محذوف، أي ٣ : لو يعلمون أن القدرة لله جميعا لا قدرة لأندادهم، إذ يرون العذاب، أي : يوم القيامة، لندموا أشد الندامة، ومن قرأ ولو ترى بالتاء، فالذين ظلموا مفعوله من رؤية البصر، وإذ يرون العذاب بدل من الذين، وأن القوة بدل اشتمال من العذاب، وجواب لو محذوف أيضا أي لرأيت أمرا فظيعا.
١ قال العلامة ابن القيم رحمه الله في شرح المنازل في باب التوبة: أما الشرك فهو نوعان أكبر وأصغر فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة وهو أن يتخذ من دون الله تعالى ندا يحبه كما يحب الله تعالى، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولذا قالوا لآلهتهم في النار: "تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين" [الشعراء: ٩٨-٩٧] مع إقرارهم بأن الله تعالى وحده خالق كل شيء ومليكه وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تميت ولا تحيي وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم بل كلهم يحبون معبوديهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله تعالى ؛ وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله تعالى ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله تعالى، ويغضبون بتنقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم ما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين، وإذا انتقصت حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث أو الكلب، وإذا انتهكت حرمات الله تعالى لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه ولم تنكر له قلوبهم قد شاهدنا نحن وغيرنا هذا منهم جهرة انتهى. وقال الإمام تقي الدين أحمد بن علي المقريزي رحمه الله: ومن أجل الشرك وأصله الشرك في محبة الله قال تعالى: "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله" فأخبر سبحانه أنه من أحب مع الله شيئا غيره كما يحبه فقد اتخذ ندا من دونه، وهذا على أصح القولين في الآية، أنهم يحبونهم كما يحبون الله وهذا هو العدل المذكور في قوله تعالى: "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون" [الأنعام: ١] والمعنى: على أصح القولين أنهم يعدلون به غيره في العبادة فيسوون بينه وبين غيره في الحب والعبادة وكذلك قول المشركين في النار لأصنامهم "تاالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين" [الشعراء: ٩٧-٩٨] ومعلوم قطعا أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونه ربهم وخالقهم فإنهم كانوا كما أخبر الله عنهم مقرين بأن الله تعالى وحده هو ربهم وخالقهم، وأن الأرض ومن فيها لله تعالى وحده، وأنه رب السماوات ورب العرش العظيم، وأنه هو الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وإنما كانت هذه التسوية بينهم وبين الله تعالى في المحبة، والعبادة فمن أحب غير الله تعالى وخافه ورجاه وذلك له كما يحب الله تعالى ويخافه ويرجوه فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى، فكيف بمن كان غير الله تعالى أتم عنده وأحب إليه وأخوف عنده وهو في مرضاته أشد سعيا منه في مرضات الله؟، فإذا كان المسوى بين الله وبين غيره في ذلك مشركا فما الظن بهذا؟ فعياذا بالله من أن ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام كانسلاخ الحية من قشرها هو يظن أنه مسلم موحد - انتهى] كَحُبِّ اللّهِ}: يعظمونهم كتعظيمه، أي: يسوون بينه وبينهم في الطاعة، أو يحبونهم كحب المؤمنين الله، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ﴾، لأنه لا تنقطع محبتهم عن الله عز وجل بحال، أما المشركون إذ اتخذوا صنما ثم رأوا أحسن منه طرحوا الأول، وأيضا يعرضون عن معبودهم [نقله محي السنة عن قتادة/١٢.
٢ العنكبوت: ٦٥.
٣ في أيام حياتهم/١٢ منه.
﴿ إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ ﴾ : القادة من الملك وغيره، وهو بدل من إذ يرون، فيكون ظرفا لقوله أن القوة، ﴿ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ﴾ : الأتباع، يقول الملائكة :" تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون " ١، ﴿ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ ﴾، الواو للحال، وقد مضمرة، ﴿ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ﴾، أي : بسبب كفرهم، أو متلبسا ومتصلا بهم، ﴿ الأَسْبَابُ ﴾، أي : المودة، أو كل وصلة بينهم في الدنيا، أو الأعمال التي يعملونها في الدنيا، أو الحيل وأسباب الخلاص.
١ القصص: ٦٣.
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ﴾ : الأتباع، ﴿ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ﴾، أي : ليت لنا رجعة إلى الدنيا، ﴿ فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ ﴾ : من المتبوعين، ﴿ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ ﴾ : مثل ذلك الإراء الفظيع، ﴿ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ : سيئاتهم، أو حسناتهم التي ضيعوها، ﴿ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ﴾ : ندامات وهو ثالث مفاعيل يريهم، أو حال على أنه من رؤية البصر، ﴿ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾، أصلا.
﴿ يَا أَيُّهَا ١ النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً ﴾، نزلت في قوم حرموا على أنفسهم السوائب والوصائل والبحائر، وحلالا مفعول كلوا، أو حال من ما في الأرض، والطيب ما يستطاب في نفسه، غير ضار للأبدان والعقول ٢ أو المستلذ، ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾، أي : سبله وطرقه، يعني لا تقتدو به، ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ : ظاهر العداوة، عند ذوي البصيرة.
١ ولما بين من اتبع غير الأنبياء وهددهم بأن غيرهم في مآلهم وبال عليهم والتابع متبرئ عن المتبوع تلطف بالنداء للكل فقال: "يا أيها الناس" الآية/١٢ منه.
٢ فسره بذلك أكثر السلف/١٢ منه.
﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ ﴾ : المعاصي كلها أو معصية لا حد فيها، ﴿ وَالْفَحْشَاء ﴾ : معصية فيها حد أو البخل، ﴿ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ : كاتخاذ الأنداد، وتحليل الحرام وتحريم الحلال. ‏
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ﴾ : لهؤلاء المشركين، أو طائفة من اليهود ١، ﴿ اتَّبِعُوا ٢ مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا ﴾ : وجدنا، ﴿ عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾، الواو للعطف أو الحال والهمزة للتوبيخ والتعجيب، وجواب لو محذوف، أي : لو كان آبائهم جهلاء لاتبعوهم.
١ الأول: قول بعض السلف والثاني: قول ابن عباس/١٢ منه.
٢ وإنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان، تنبيها على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان وبين متابعة التقليد وفيه أقوى دليل على وجوب النظر والاستدلال وترك التأويل على ما يقع في الخاطر أو على ما يقوله الغير من غير دليل كذا في الكبير وكم من آية بينة وأثر جلي تدل على ذم التقليد والمقلدين وألف الحافظ الواحد المتكلم ابن القيم في ذلك كتاباً ضخيماً سماه "إعلام الموقعين عن رب العالمين"/١٢.
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ : فيما هم فيه من الجهل والضلال، ﴿ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء ﴾، أي : كمثل الدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي : دعاها إلى ما يرشدها لا تفقه ما يقول، بل إنما تسمع صوته فقط، هكذا نقل في تفسيرها عن السلف، وحاصله أنهم في انهماكهم في تقليد الجهل كالبهائم التي ينعق راعيها بها فتسمع الصوت ولا تفهم معناه، وقيل : تقديره مثل داعي الذين كفروا معهم " كمثل الذي " الآية وهو الأظهر، ﴿ صُمٌّ ﴾ : عن سماع الحق، ﴿ بُكْمٌ ﴾ : لا يتفوهون به، ﴿ عُمْيٌ ﴾ : من رؤية مسلكه، ﴿ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ : ولا يفهمونه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ ﴾ : حلالات، ﴿ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾، لما أباح الله للناس ما في الأرض سوى ما حرم، أمر المؤمنين أن يتحروا حلالاته ويقوموا بحقوقها فقال :﴿ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ ﴾ : على ما أحل لكم، ﴿ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ : إن صح أنكم تختصونه بالعبادة فإن عبادتكم لا يتم إلا بالشكر.
﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ﴾ : التي ماتت من غير ذكاة، ﴿ وَالدَّمَ ﴾، أي : دما ١ مسفوحا والسمك والجراد والكبد والطحال مستثنى بالحديث ٢، ﴿ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ ﴾ : وتخصيص ٣ اللحم بالذكر لأنه معظم ما يؤكل، ﴿ وَمَا أُهِلَّ ٤ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ﴾ : ما ذكر اسم غير الله عند ذبحه، وهذه الآية رد على من حرموا على أنفسهم أشياء من عند أنفسهم، فالمراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقاً فلا يرد أن المحرمات غيرها كثيرات، ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ ﴾ : أحوج ولجئ إليه، ﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾ : خارج على السلطان ٥ أو مستحله أو آكله من غير ٦ اضطرار أو متجاوز القدر الذي أحل له وقيل باغ بالاستئثار على مضطر آخر، ﴿ وَلاَ عَادٍ ﴾، متعد عاص بسفره أو غيره متعد ما حد له، فيأكل أكثر مما يمسك رمقه ٧، أو يتعدى حلالا وهو يجد عن الحرام ٨ مندوحة، ﴿ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾، في تناوله، ﴿ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، حيث رخص بالأشياء.
١ يعني كل من الكبد والطحال يصدق عليه أنه دم مسفوح كالخمر المتجمد فإنه نجس لأنه مسكر مائع فإنه كان كذلك/١٢ منه.
٢ (*) يعني قوله صلى الله عليه وسلم: "أحل لنا ميتتان ودمان، الحوت والجراد، والكبد والطحال" أخرجه أحمد (٢/٩٧)، وابن ماجة (٣٣١٤) وغيرهما، وانظر الصحيحة (١١١٨)، وصحيح الجامع.
٣ مع أن جميع أجزائه حرام نجس كشحمه/١٢.
٤ قوله وما أهل، أصل الإهلال رفع الصوت، أي: ما ذبح للأصنام والطواغيت وصيح في ذبحه بغير الله، ولا خلاف في تحريم هذا وأمثاله، ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم. فإنه مما أهل به لغير الله ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن، قال مجاهد: يعني ما ذبح لغير الله. أخرجه ابن أبي حاتم وفي تفسير النيسابوري للنظام قال العلماء: لو أن مسلماً ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتدا وذبيحته ذبيحة مرتد انتهى/١٢ فتح، وقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في كتابه الصراط المستقيم في الكلام على هذه الآية: الظاهر أنه ما ذبح لغير الله، سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه، وقال فيه: باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقربا إليه يحرم، وإن قال فيه: باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال لكن تجتمع في الذبيحة مانعان. انتهى
أقول أراد بذلك أن النحر عبادة مختصة بالله تعالى، كالصلاة فالنحر للأموات عبادة لهم، قال تعالى: "فصل لربك وانحر" [الكوثر: ٢] والنحر من النسك، "إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين" [الأنعام: ١٦٢]/١٢.

٥ الأول قول سعيد بن جبير ومجاهد، والثاني لمقاتل بن حيان، والثالث للسدي، والرابع لابن عباس وعثمان بن عطاء الخراساني/١٢ منه.
٦ كأنه قال اضطراراص واقعياً/١٢ منه.
٧ هذا قول قتادة/١٢.
٨ أي: سعة يعني يجد شيئا يسد رمقه من الحلال/١٢ منه.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ﴾، رؤساء اليهود، ﴿ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ : من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وغيره، ﴿ وَيَشْتَرُونَ ١ بِهِ ﴾ : بما أنزل الله، ﴿ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، من مال يأخذونه من سفلتهم كما مر، ﴿ أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ ﴾، أي : لا يأكلون يوم القيامة ملأ بطونهم ٢ إلا النار، ﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾، كناية عن الغضب، أو لا يكلمهم بما يسرهم، ﴿ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ﴾ : لا يمدحهم ولا يثنى عليهم أو لا يطهرهم من الذنوب، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ : مؤلم.
١ يستبدلون بأن يأخذوا ثمنا قليلا ويكتمون ما أنزل الله/١٢ منه.
٢ قيل إن الرشاء التي يأكلونها تصير في أجوافهم ناراً لكن لا يحسون بها إلا بعد الموت/١٢ منه.
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ﴾ : في الدنيا، ﴿ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ١ : في الآخرة، ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾، تعجب من حالهم، وما تامة مبتدأ، أو استفهامية توبيخية، ما بعدها الخبر.
١ جاز أن يكون المراد اعتاضوا عن المغفرة، أي: أسبابها بأسباب العذاب فيكون هو أيضا في الدنيا/١٢ منه.
﴿ ذَلِكَ ﴾، أي : ذلك العذاب، ﴿ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ ﴾، أي : جنس الكتاب أو القرآن، ﴿ بِالْحَقِّ ﴾، وهم أخذوه هزوا، ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ ﴾، أي في جنس الكتاب، والاختلاف الإيمان ببعض دون بعض، أو في التوراة، والاختلاف التحريف أو في القرآن واختلافهم تكذيبه بأنه سحر وشعر، ﴿ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ : لفي خلاف بعيد عن الحق.
﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾، أي : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا بعد ذلك شيئا، كما هو في أول الإسلام، فهذا حين نزول الفرائض، أو قبلة ١ اليهود المغرب وقبلة النصارى المشرق، فأنزل الله أو لما ٢ تحولت القبلة شق ذلك على أهل الكتاب وبعض المؤمنين، فهذه الآية بيان حكمته، وهو أن المراد امتثال أوامر الله، وهو البر وليس في لزوم التوجه قبل مشرق أو مغرب بر إن لم يكن عن أمر الله، ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ ﴾ أي : برّ من آمن، أو ذا البر من آمن بالله ﴿ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ ﴾، أي : جنسه، أو القرآن، ﴿ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ٣ : حب المال، أي : أخرجه وهو محب له، وقيل : على حب الله، ﴿ ذَوِي ٤ الْقُرْبَى ﴾ : قرابات الرجل، ﴿ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ ﴾، من لا يجد ما يكفيه، ﴿ وَابْنَ السَّبِيلِ ﴾ : المسافر الذي انقطع عنه ما يكفيه في سفره والضعيف صرح به السلف ﴿ وَالسَّآئِلِينَ ﴾ : من ألجأته الحاجة إلى السؤال، ﴿ وَفِي الرِّقَابِ ٥، أي : في تخليصها بمعاونة المكاتبين، وقيل في فك الأسارى، ﴿ وَأَقَامَ الصَّلاةَ ﴾ : المفروضة، ﴿ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾ : المفروضة ويكون قوله :" وآتى المال " بيان المصارف، أو صدقات السنة، ﴿ وَالْمُوفُونَ ٦ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ﴾ : الله والناس، عطف على من آمن، ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء ﴾ : حال الفقر ونصبه على المدح ٧ لفضل الصبر، ﴿ والضَّرَّاء ﴾ : المرض، ﴿ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾ : القتال لله، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ﴾، في إيمانهم، ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾، لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات.
١ هذا قول أبي العالية والحسن والربيع بن أنس/١٢ منه.
٢ هذا قول مجاهد والسدي/١٢ منه.
٣ قال عليه الصلاة والسلام: "وآتى المال على حبه" أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه/١٢ منه [انظر المستدرك (٢/٢٧٢)، وأقره الذهبي، لكن أخرجه موقوفا على ابن مسعود وليس مرفوعا كما ذكر].
٤ المفعول الأول والمال مفعوله الثاني، وقدم لأن المقصود الأعظم هو إيتاء المال على حبه، هذا مذهب الجمهور/١٢ منه.
٥ قيل عبيد يشرون ويعتقون/١٢ منه.
٦ روى ابن أبي حاتم أنه قال عليه الصلاة والسلام (في المال حق سوى الزكاة، ثم قرأ "ليس البر" إلى قوله تعالى: "وفي الرقاب"/١٢.
٧ كأنه قال وأخص الصابرين من بينهم/١٢ منه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ ﴾، أي : فرض، ﴿ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾، كان بين حيين قتل ودماء، وكان لأحد الحيين فضل على الآخر، فحلفوا أن يقتلوا بالعبد منهم الحر، وبالمرأة الرجل، وبالواحد الاثنين فنزلت :﴿ الْحُرُّ ١ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى ﴾، أي : ليتساووا وليتماثلوا في القصاص فلا يدل على ألا يقتل الحر بالعبد، والذكر بالأنثى كما لا يدل على عكسه، ومن قال بعدم قتل الحر بالعبد فدليله الحديث، وروى عن بعض ٢ السلف أنها منسوخة بقوله تعالى :" النفس بالنفس " فالقصاص ثابت بين الحر والعبد والذكر والأنثى، ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾، تقديره فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه، أي : ولى الدم شيء من العفو، فإن ٣ عفا لازم، بمعنى : أخذ الدية بعد استحقاق الدم، ﴿ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ﴾، أي : فعلى ٤ العافي أن يطالب الدية بالمعروف ولا يعنف، ﴿ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾، أي : وعلى المعفو عنه أن يؤديها بإحسان لا يمطل ولا يبخس، ﴿ ذَلِكَ ﴾، الحكم الذي هو أخذ الدية، ﴿ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ : مما كان محتوما على الأمم قبلكم، من القتل في اليهود، والعفو في النصارى، ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى ﴾ : بالقتل، ﴿ بَعْدَ ذَلِكَ ﴾ : بعد العفو، ﴿ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ : في الآخرة أو في الدنيا بأن يقتل ولا يأخذ ٥ منه الدية.
١ أي الحر مقتول بالحر، أي: بقتله الحر، أي يقتص الحر بالحر/١٢ منه.
٢ كابن عباس وأبي مالك وسعيد بن جبير/١٢ منه.
٣ يعني فسرنا بشيء من العفو وهو يدل على أنه مفعول مطلق أقيم مقام الفاعل، لأن عفا لازم بقال: عفوت لفلان عما جنى/١٢ منه، قيل عفى بمعنى: محا، وإذا كان كذلك فشيء مفعول به أقيم مقام الفاعل/١٢ منه.
٤ يعني فاتباع مبتدأ، خبره محذوف، وقيل: تقديره الأمر اتباع/١٢ منه.
٥ هذا مذهب بعض السلف يعني من قتل بعد أخذ الدية أو قبولها فعذابه القتل وقد كان الولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبول الدية ثم يظفر به فيقتله/١٢ منه.
﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾، أي : لكم في حكم القصاص نوع حياة عظيمة، لأن العلم به يردع عن القتل مخافة القصاص ويدفع الفتنة المنجرة إلى القتال العظيم، ﴿ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ﴾، دوي العقول، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١ عن القتل أو لكي تترجوا فتتركوا محارم الله.
١ فإن التقوى اسم جامع لتلك الطاعات وترك المنكرات/١٢ منه.
﴿ كُتِبَ ﴾ : فرض، ﴿ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ ١ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ﴾، أي : أسبابه، ﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً ﴾، أي : مالا أي مال، أو مالا كثيرا، واختلف في الكثرة، فعن علي رضي الله عنه : لا بد أن يزيد على أربعمائة دينار، ﴿ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ﴾، وكان وجوبه في بدء الإسلام فنسخ ٢، ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : بالعدل فلا يتجاوز الثلث، ﴿ حَقّاً ﴾، أي : حق ذلك حقا ٣ ﴿ عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ : عن الشرك.
١ الظاهر أن إذا ظرف لكتب بمعنى: أن توجه الإيجاب حين حضور أسباب الموت وجزاء أن ترك محذوف يدل عليه الكلام ولا يجوز أن يكون العامل في إذا الوصية لأنه لا يتقدم معمول المصدر المعرف باللام عليه/١٢ [وهو حديث صحيح، وانظر صحيح الجامع، ١٧٢٠، والإرواء، ١٤٠١.
٢ صرح بذلك جماعة لا يحصى من السلف وفي السنن وغيرها كان عليه الصلاة والسلام يخطب وهو يقول: إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث/١٢ منه.
٣ قيل حقا لا يجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لأن المتقين متعلق به أو صفة له وعلى كلا الوجهين يخرجه عن التأكيد، أما الأول فلأن المصدر المؤكد لا يعمل على ما تقرر في النحو، وأما الثاني فلأنه حينئذ مخصص بالصفة ويخرجه عن التأكيد، فالأولى أنه مفعول مطلق لكتب لأنه بمعنى وجب وحق فهو كقعدت جلوسا/١٢ بحر/١٢ منه.
﴿ فَمَن ١ بَدَّلَهُ ﴾ : غيّره من الأوصياء والشهود، ﴿ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ ﴾ : من الميت، ﴿ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ ﴾، أي التبديل، ﴿ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ﴾، قد وقع أجر الميت على الله، ﴿ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ ﴾ : يسمع كلام الميت، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : يعلم تبديل المبدل.
١ تذكير ضمير بدله وسمعه مع أنه للوصية لأنه بمعنى الإيصاء أو بمعنى أن يوصي/١٢ منه.
﴿ فَمَنْ خَافَ ١، أي : علم، ﴿ مِن مُّوصٍ جَنَفاً ﴾، خطأ في الوصية مثل أن يوصى بأكثر من ثلث، ﴿ أَوْ إِثْماً ﴾ : عمداً، ﴿ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ﴾ : بين الورثة والموصى لهم، ﴿ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ : في التبديل لأنه تبديل باطل إلى حق، ﴿ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، ذكر الغفران لمطابقة ذكر الاثم.
١ استعمال الخوف بمعنى العلم والظن شائع في كلامهم/١٢ منه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾، صيام رمضان، أو ثلاثة أيام من كل شهر وعاشور إثم نسخ، ﴿ كَمَا كُتِبَ ١ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾، من لدن ٢ نوح أو أهل الكتاب، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، المعاصي، فإن الصوم تضييق لمسالك الشيطان.
١ روى ابن أبي الحاتم حديثا فيه: أن صيام رمضان كتبه الله تعالى على الأمم قبلكم، وأما القول الثاني فقد ذكر الإمام أحمد حديثا صرح فيه وهو قول أكثر السلف/١٢ منه.
٢ الظاهر أن ما مصدرية، أي: كتب كتابة مثل كتابته على من قبلكم/١٢ منه.
﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾، تقديره ١ صوموا أياما، ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ ٢ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾، أي : فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر من أيام أخر، إن أفطر بحذف الشرط، والمضاف والمضاف إليه للقرينة، ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ﴾، أي : الصحيح المقيم، ﴿ فِدْيَةٌ ﴾، إن أفطروا، ﴿ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾، كان في بدء الإسلام ٣ الخيار بين الصوم والإطعام عن كل يوم مسكينا فنسخ، أو الآية غير منسوخة، والمراد الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا تستطيعان الصوم، وعلى هذا معنى الذين يطيقونه يصومون طاقتهم وجهدهم، ويؤيده بعض القراءة وهو " يطوّقونه " أي : يكلفونه، ﴿ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً ٤، بأن أطعم أكثر من مسكين كل ٥ يوم، ﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ، وَأَن تَصُومُواْ ﴾، أي : الصوم، ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾، أيها المطيقون أو المطوقون من الإفطار والفدية، ﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ : فضائل الصوم.
١ لا يجوز أن يكون ظرفا للصيام لعدم جواز الفصل بينه وبين معموله وأما كونه معمولا لكما كتب فغير ظاهر معناه بل فاسد/١٢ منه.
٢ واختلف أهل العلم في السفر المبيح للإفطار فقيل مسافة قصر الصلاة والخلاف في قدرها معروف وبه قال الجمهور، وقال غيرهم بمقادير لا دليل عليها والحق أن ما صدق عليه مسمى السفر فهو الذي يباح عنده الفطر/١٢ فتح وفي البخاري في كتاب التفسير وقال عطاء يفطر من المرض كله [البخاري، ٨/٢٨-فتح].
٣ الأول روى البخاري عن سلمة بن الأكوع وعن ابن عمر أيضا، والثاني روى البخاري عن ابن عباس بروايات متعددة، وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن عطاء/١٢ منه [رواية سلمة وابن عمر في صحيح البخاري (٤٥٠٦، ٤٥٠٧)، وكذا رواية ابن عباس (٤٥٠٥)]..
٤ نصب خير بنزع الخافض، أي: بخير وقيل تقديره تطوعا خيرا/١٢ منه.
٥ أو بالجمع بين الصوم والفدية/١٢ منه.
﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾، مبتدأ خبره ما بعده أو ذلكم ١ شهر رمضان، ﴿ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾، جملته ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم نزل منجما إلى الأرض، وهو خبر شهر رمضان أو صفته، والخبر فمن شهد، ﴿ هُدًى لِّلنَّاسِ ﴾، أي : هاديا بإعجازه، ﴿ وَبَيِّنَاتٍ ﴾، آيات واضحات، ﴿ مِّنَ الْهُدَى ﴾ : مما يهدي إلى الحق، ﴿ وَالْفُرْقَانِ ﴾ : يفرق بين الحق والباطل، ﴿ فَمَن شَهِدَ ﴾ : حضر ولم يكن مسافراً، ﴿ مِنكُمُ الشَّهْرَ ﴾، أي : فيه، ﴿ فَلْيَصُمْهُ ﴾، أي : فيه، ﴿ وَمَن كَانَ مَرِيضاً ﴾ : مرضا يشق، أو يضر عليه الصيام، ﴿ أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾، الآية الأولى تخيير للمريض والمسافر والمقيم، وهذه لهما دون المقيم، فلا تكرار، بل علم من هذه نسخ ٢ الأولى، ﴿ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾، فلذلك أباح الفطر للسفر والمرض، ﴿ وَلِتُكْمِلُواْ ٣ الْعِدَّةَ ﴾، عطف على اليسر مثل " يريدون ليطفئوا " ٤ أو تقديره وشرع لكم ذلك، أي : جملة أحكام الصوم لتكملوا، أي : لتكملوا عدد أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في المرض والسفر، ﴿ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ ﴾ : لتعظموه، ﴿ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ : أرشدكم إليه من وجوب الصوم ورخصة الفطر بالعذر، أو المراد تكبيرات ليلة الفطر، ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ : الله في نعمه، أو رخصة الفطر.
١ أي: على تقدير أن يكون شهر رمضان خبر مبتدأ مقدر/١٢ منه.
٢ لأن قوله تعالى: "فمن شهد" عام خص عنه المريض والمسافر فعلم أن الصحيح لا يجوز له الإفطار بحال، وهو خلاف الأول على الوجه الأول، وأما ذكر المريض والمسافر ليعلم أن النسخ لم يطرأ عليهما/١٢.
٣ قوله لتكملوا علة الأمر لمراعاة العدة ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر ولعلكم تشكرون علة الترخيص والتيسير وأشار إلى ذلك الشارح وهو نوع لطيف المسلك من الملف/١٢ منه.
٤ الصف: ٨.
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾، أي : فقل اني قريب أطلع على جميع أحوالهم ١، قال أعرابي يا رسول الله : أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه فنزلت ٢، وروي ٣ أن بعض الصحابة قالوا : أين ربنا، فنزلت، وروى لما نزلت " ادعوني أستجب لكم " ٤ قال الناس : لو نعلم أي ساعة ندعو ؟ فنزلت، وروى أن اليهود قالوا : كيف يسمع الله الدعاء وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء كذا وكذا سنة ؟ فنزلت، ﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي ﴾، أي : فليجيبوا لي إذا دعوتهم للطاعة كما أجيبهم إذا دعوني إلى مهامهم، ﴿ وَلْيُؤْمِنُواْ بِي ﴾ : أمر بالثبات والدوام، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾، راجين إصابة الرشد، وهذه الآية المتخللة بين أحكام الصوم إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء في الصوم والفطر، وروي :" ثلاثة لا ترد دعوتهم ٥، الإمام العادل والصائم حتى أو حين – يفطر، ودعوة المظلوم ".
١ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه/١٢.
٢ (*) أخرجه ابن جرير والبغوي في معجمه وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طريق الصلت بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده. كما في الدر المنثور (١/٣٥٢).
٣ رواه ابن عبد الرزاق/١٢ منه [أي: عن الحسن مرسلا].
٤ غافر: ٦٠.
٥ في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجة/١٢ منه [وهو ضعيف كما في ضعيف ابن ماجة].
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ﴾ : ليلة الصيام التي تصبح منها صائما والرفث عبارة عن الجماع، وعدى بإلى لتضمنه معنى الإفضاء، كان في بدء الإسلام غير جائز، ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ ﴾، أي : سكن، وشبه باللباس لاشتمال كل على صاحبه اشتمال اللباس على اللابس، ﴿ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾، سكن، أي : لما كان بينكم غاية الخلطة رخصنا لكم لئلا يشق ١ عليكم، ﴿ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ ﴾ : تظلمونها بما هو حرام عليكم ؛ ووقع ذلك ٢ على عمر رضي الله عنه فقال : يا رسول الله أشكو إلى الله وإليك الذي صنعت فنزلت، ﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ : لما تبتم، ﴿ وَعَفَا عَنكُمْ ﴾، محا عنكم أثره، ﴿ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ﴾، والمباشرة كناية عن الجماع، ﴿ وَابْتَغُواْ ٣ : اطلبوا، ﴿ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ﴾ : ما أثبته في اللوح المحفوظ من الولد أو ليلة ٤ القدر أو الرخصة التي كتب الله لكم وما أحل الله لكم، ﴿ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ ﴾، جمع الليل، ﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ ﴾، بياض الصبح، ﴿ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ﴾ : من سواد الليل، ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾، بيان للخيط الأبيض، ﴿ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ﴾، فإنه آخر وقته، كان الأكل والشرب بعد العشاء، أو النوم حراماً فبعض الصحابة نام عن فطره فلما انتصف النهار غشى عليه فنزلت، ﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾، كان إذا اعتكف الرجل فخرج من المسجد جامع إن شاء ورجع، فأنزل الله تعالى النهي عن المباشرة ما داموا عاكفين فيها، ﴿ تِلْكَ ﴾، أي : الأحكام المذكورات ٥، ﴿ حُدُودُ اللّهِ ﴾، أي : ذوات حدود الله، ﴿ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ٦، نهى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل، لئلا تداني الباطل فضلا أن يتخطى، أو المراد من الحدود المحارم، وتكون تلك إِشارة إلا لا تباشروهن، أي هذا وأمثاله محارم، ﴿ كَذَلِكَ ﴾ : مثل هذا التبيين، ﴿ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ : مخالفة الأمر.
١ والله لا يريد بكم العسر عن ابن عباس هن فراش وأنتم لحاف/١٢ منه.
٢ روى عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغيرهم أن الآية في عمر بن الخطاب كما نقلناه/١٢ منه، زاد في الوجيز ثم قام رجل بعد اعترافه واعترفوا فأنزل الله فحسن موقع "أنكم كنتم تختانون"/١٢ منه [حسن سنده السيوطي في الدر المنثور (١/٣٥٧) وعزاه إلى إحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك].
٣ وفيه إشارة إلى أن المقصود الأصلي من المباشرة تحصيل الولد/١٢ وجيز.
٤ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وقال الزمخشري هو قريب من بدع التفاسير/١٢ منه.
٥ من باشروا وابتغوا، أو كلوا واشربوا كلها للإباحة وأتموا للإيجاب ولا تباشروا للتحريم/١٢ وجيز.
٦ وأما الاستدلال بالآية في جواز النية في صوم رمضان بعد ظهور الصبح فليس ببعيد مع مجال البحث لكنه خلاف الإجماع عملاً بالسنة/١٢ وجيز.
﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ ١ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ﴾، أي : لا يأكل بعضكم مال بعض بوجه لم يبحه الله، ﴿ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ﴾ : ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام، عطف على المنهي، أو نصب بتقدير أن، ﴿ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً ﴾ : طائفة، ﴿ مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ ﴾ : بما يوجب الإثم كاليمين الكاذبة، ﴿ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ : أنكم مبطلون.
١ ولما أمر بالصوم وهو الإمساك عن المفطرات في أكثر أوقات شهر الصوم، ثم أحل لهم في بعض أوقاته الأكل والشرب، أمرهم بوجوب حلية المأكل سيما في هذا الشهر المعظم وخص بالمنع هذا القسم من الحرام الذي فيه شبهة الحلية عند بعض كحكم حاكم بها ليدل على منح الباقي بطريق الأولى فقال: "ولا تأكلوا أموالكم" الآية/١٢ وجيز.
﴿ يَسْأَلُونَكَ ١ عَنِ الأهِلَّةِ ﴾، سأل بعض الصحابة ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد ثم ينقص ؟ فنزلت ٢، ﴿ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾، سألوا عن حكمة اختلاف حال القمر فأجاب بأن الحكمة الظاهرة أنه معالم ٣ للناس يوقتون بها أمورهم سيما الحج، ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ﴾، كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، أو الأنصار ٤ إذا قدموا من سفر لم يدخلوا من قبل بابهم فنزلت، ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ ﴾ : بر، ﴿ مَنِ اتَّقَى ﴾ : المحارم، ﴿ وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ : واتركوا سنة الجاهلية، ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ ﴾، في تغيير أحكامه، ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ : لكي تظفروا بالفلاح والهدى، ووجه اتصال هذه الآية بما قبله أنه لما ذكر الحج ذكر أيضا شيئا من أفعالهم في الحج استطراداً، وفيه تنبيه على أنهم يخترعون أشياء لا حكمة فيها، ولا يسألون ولا يتفكرون فيها ويسألون عن شيء حكمته ظاهرة.
١ ولما بين أحكام شهر رمضان ولا يعلم الشهور إلا بالهلال والشمس والقمر آيتان من آيات الله، والله يبين آياته للناس تحركت العزم بالسؤال عن هذه الآية ما بين قوله: "يسألونك عن الأهلة" الآية/١٢.
٢ (*) خرجه ابن عساكر عن ابن عباس بسند ضعيف، كما في الدر المنثور للسيوطي (١/٣٦٧).
٣ مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم وعدة نسائهم ومحل دينهم/١٢ منه.
٤ الأول رواية البخاري عن البراء والثاني رواية أبي داود عنه/١٢ منه.
﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾، إعلاء لكلمته، ﴿ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾، كما أن همتهم قتالكم فلتكن همتكم كذلك، ﴿ وَلاَ تَعْتَدُواْ ﴾ : لا تظلموا في القتال، بأن تقتلوا النساء والشيوخ والصبيان وأنهم ليسوا من الذين يقاتلونكم ١، وبأن تفعلوا المثلة والغلول، وروي أنها أول آية نزلت في القتال بالمدينة، ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ : لا يريد بهم الخير، وعن بعض السلف أن قريشا صدوا المسلمين عن الحج وصالحوهم على رجوعهم من قابل، فخاف المسلمون من عدم وفائهم وقتالهم في الحرم شهر الحرام وكره المسلمون ذلك فنزلت، ومعناه : قاتل من قاتلك ولا تظلم بابتداء القتال، فالآية منسوخة.
١ عن أبي العالية: لما نزلت هذه الآية كان صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله ويكف عن من كف حتى نزلت سورة براءة وفيما ذكر إشكال فتأمل/١٢ منه.
﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ : وجدتموهم في حل أو حرم، ﴿ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾، أي : مكة، فإن قريشا أخرجوا المسلمين منها، والمسلمون أخرجوا المشركين يوم الفتح، ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾، أي : شركهم في الحرم وصدهم إياكم عنه أشد من قتلكم إياهم في الحرم، وجزاء سيئة سيئة مثلها، ﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾، حرمة له، ﴿ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ ١ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ ﴾، وابتدأو بالقتال عنده، ﴿ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ : مكافأة، ﴿ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ﴾ : يفعل بهم ما فعلوا، قال بعضهم : آية " واقتلوهم حيث ثقفتموهم " منسوخة بهذه الآية، وهذه منسوخة بآية السيف في براءة، فهي ناسخة منسوخة، والأكثر على أنها محكمة لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم ٢.
١ ولهذا أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد يوم الفتح بأن لا يقاتل إلا مع من يقاتله/١٢ وجيز.
٢ في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم"/١٢ منه.
﴿ فَإِنِ انتَهَوْاْ ﴾ : عن القتال والكفر، ﴿ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، يغفر لهم ما قد سلف.
﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ : شرك ١، ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ ﴾، خالصاً فلا يعبد شيء غيره، ﴿ فَإِنِ انتَهَواْ ﴾ : عن الكفر، ﴿ فَلاَ عُدْوَانَ ﴾ : لا قتل ولا نهب، ﴿ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾، لا عليهم، فإنهم قد ارتدعوا عن الظلم.
١ فسر الفتنة بالشرك عامة السلف من الصحابة والتابعين/١٢ منه.
﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾، صدهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة عن العمرة، وخرج المسلمون لعمرة القضاء فيه سنة أخرى، وكرهوا القتال لحرمته، فنزلت، أي : هذا بذاك وهتكة بهتكة فلا تبالوا، ﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾، أي : كل حرمة وهو ما يجب المحافظة عليه يجرى فيه القصاص، وهم هتكوا حرمة شهركم بصدكم فافعلوا به مثله ١، ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾، أي : ادخلوا مكة عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم، ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ ﴾، فيما لم يرخص لكم، ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾، فيحرسهم ويعلى كلمتهم.
١ إن وقع قتال/١٢.
﴿ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ : في جهات الخير، ﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾، بعدم ١ الإنفاق فيها، وصح عن ابن عباس وغيره أنهم قالوا : الآية في النفقة لا في القتال ٢، أو تقديره لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة بالإسراف، بحيث لا يبقى لكم شيء أصلا، أو معناه : أنفقوا في الجهاد ٣ ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة بترك القتال والإمساك عن الإنفاق في الجهاد، والباء زائدة، والمراد من الأيدي الأنفس، أو تقديره ولا تلقوا بأيديكم أنفسكم إليها، وعدى بإلى لتضمن معنى الانتهاء، ﴿ وَأَحْسِنُوَاْ ﴾ : أعمالكم، أو الظن بالله، ﴿ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾
١ ودخل فيه عدم الإنفاق في الجهاد بطريق الأولى، فإنه رأس كل خير وذروة سنامه/١٢ منه.
٢ يعنى ليس معناه لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة بأن تواجهوا أو تحاربوا جمعا تظنون فيهم أنهم الأغلبون وروى الحاكم وصححه أنه قال رجل لبراء بن عازب: إن حملت على العدو وحدى فقتلوني أكنت ألقيت نفسي إلى التهلكة؟ قال: لا، إنما هو في ترك الجهاد، وكذا قال أبو أيوب وغيره/١٢ منه.
٣ الفرق بين المعنى الأول والثالث، أن سبيل الله عام في جميع جهات الخير، في الأول وخاص بالجهاد في الثالث، والحديث الذي رواه الترمذي والنسائي وصححه الحاكم عن أبي أيوب صريح في هذا المعنى/١٢ منه.
﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ﴾ : بمناسكهما وحدودهما وسننهما، أو بأن تحرم من دويرة أهلك، أو بأن تخرج لهما لا لغرض ١ آخر من تجارة وغيرها، أو بأن تكون النفقة حلالا، ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ : منعتم والمراد حصر العدو، أو أعم كالمرض فيه خلاف، ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ ﴾، أي : فعليكم ما تيسر، ﴿ مِنَ الْهَدْيِ ﴾، يعني من أحصر وأراد التحلل تحلل بذبح هدى من بدنة أو بقرة أو شاة، ﴿ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ ﴾ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ }، أي : أنتم محرمون حتى يصل هديكم محلا يحل ذبحه فيه وهو مكان الحبس ٢ وعليه الشافعي، أو حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ الحرم وذبح وعليه الحنفي، ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً ﴾ : مرضا يحتاج إلى الحلق، ﴿ أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ ﴾، كجراحة وقمل، ﴿ فَفِدْيَةٌ ﴾ : فعليه فدية إن حلق، ﴿ مِّن صِيَامٍ ﴾ : ثلاثة أيام، ﴿ أَوْ صَدَقَةٍ ﴾، ثلاثة آصاع على ستة مساكين، ﴿ أَوْ نُسُكٍ ﴾، ذبح شاة، وهو مخير في الثلاثة، ﴿ فَإِذَا أَمِنتُمْ ﴾، العدو، أو كنتم في حال أمن، أي : إذا تمكنتم من أداء المناسك، ﴿ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ﴾، أي : استمتع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة في أشهر الحج إلى أن وصل الحج فحج، أي : من اعتمر أشهر الحج وأحل ثم حج في تلك السنة، ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ ﴾، أي : فعليه ما استيسر، ﴿ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ ﴾، أي : الهدى، ﴿ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ﴾ : في أيام الاشتغال به، أي : بعد الإحرام وقبل التحلل، أو في أشهر بين الإحرامين، ﴿ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ٣ : إلى أهلكيم، لا قبل الوصول، أو المراد من الرجوع الفراغ من الحج، ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾، فائدتها العلم بأن الواو لا بمعنى أو، والمراد العدد المعين لا الكثرة، ﴿ ذَلِكَ ﴾، أي : هذا الحكم، ﴿ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾، هم أهل الحرم، أو أهل مكة، أو من كان وطنه من مكة دون مسافة القصر أو من دون الميقات، ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ ﴾، أي : مخالفته، ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏ ﴾ : لمن لم يتقه.
١ هذا قول سفيان الثوري/١٢ منه.
٢ ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ذبحوا هديهم في الحديبية وحلقوا رءوسهم، والحديبية خارجة من الحرم كما صرح به البخاري، ولا يلتفت إلى قول غر ثابت عن بعض من السلف، كيف وقد صرح عن جماهير من السلف أنها ليست من الحرم؟/١٢ منه.
٣ حكى أبو جعفر بن جرير على أن المراد من الرجوع، الرجوع إلى وطنه/منه.
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ ﴾، أي : وقته، ﴿ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ : معروفات، شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، أو تمامه وفائدته ١ كراهة العمرة في بعضه، أو في تمامه والأكثرون ٢ على عدم جواز الإحرام بالحج في غيرها، ﴿ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ : أوجب على نفسه بالإحرام، ﴿ فَلاَ رَفَثَ ﴾ : لا جماع ٣ ومقدماته من التقبيل والتكلم به في حضورهن في حكمه، ﴿ وَلاَ فُسُوقَ ﴾ : هي المعاصي، فإنها في الإحرام أقبح، أو خاص ٤ بمحظورات الإحرام فقط، ﴿ وَلاَ جِدَالَ ﴾ : لا مخاصمة، أو لا مراء، وروى أن المشركين يقفون في الحج ويجادلون، فبعضهم يقول نحن أصوب وبعضهم يقول نحن أو لا جدال في مناسكه، فإنه قد بين اله تعالى أشهره ومواقفه، ﴿ فِي الْحَجِّ ﴾ : في أيامه وفي شأنه، ﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ ﴾ : فلا يضيع، حث على الخير بعد النهي عن الشر، ﴿ وَتَزَوَّدُواْ ٥، كان أهل اليمن يحجون ٦ بلا زاد مظهرين التوكل، ثم يسألون الناس فنزلت، ﴿ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾، ومن التقوى الكف عن السؤال والإبرام، ﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾، أي : واتقوا عقابي وغضبي يا ذوي العقول.
١ فإن العمرة في أشهر الحج مكروه/١٢ منه.
٢ يعني من السلف كابن عباس وجابر وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وابن جريج وروى ابن مردويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، "لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا أشهره"، وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد جاز الإحرام بالحج في غير أشهره"، وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد جاز الإحرام بالحج في غير أشهره لكن خلاف الأولى/١٢ منه [وقوله: "لا ينبغي..." أخرجه أيضا الشافعي في الأم وابن أبي شيبة والبيهقي في الكبرى عن جابر موقوفاً مثله، وهو أشبه.
٣ قيل: لا رفث، ليس نفيا لوجوده، بل نفيا لمشروعيته، فيرجع النفي إلى وجوده مشروعا لا محسوساً، كقوله: "لا يمسه إلا المطهرون" [الواقعة: ٧٩] وقوله: "المطلقات يتربصن" [البقرة: ٢٢٨] وهذه الدقيقة فاتت العلماء، فقالوا إن الخبر يكون بمعنى انتهى/١٢ منه.
٤ كقتل الصيد وحلق الشعر ونحو ذلك/١٢ منه.
٥ قيل سياق الكلام دال على أن المراد التزود وتحصيل الأعمال الصالحة التي هي كالزاد إلى سفر الآخرة، فمفعول تزودوا محذوف هو التقوى، ولما حذف مفعوله أتى بخبر إن ظاهراً ليدل على المحذوف، ولولا الحذف لأتى مضمراً/١٢ منه.
٦ هكذا قال ابن عباس وأناس من الصحابة لا تحصى/١٢ منه.
﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ﴾ : إثم، ﴿ أَن تَبْتَغُواْ ﴾، أي : في أن تبتغوا، ﴿ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ : عطاء ورزقاً منه بالتجارة حين الإحرام، كان المسلمون كرهوا التجارة في الحج، فنزلت، وأيضا روى أنه سئل هل للجالبين حج ؟ فنزلت، ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ ﴾ : انصرفتم عنها، ﴿ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾، بالدعاء والتلبية، ﴿ وَاذْكُرُوهُ ﴾، بالتوحيد والتعظيم، ﴿ كَمَا هَدَاكُمْ ١ : كما ذكركم بالهداية فهداكم أو كما علمكم، ﴿ وَإِن كُنتُم مِّن ٢ قَبْلِهِ ﴾، أي : الهدي، ﴿ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ﴾ : الجاهلين بالطاعة، وإن : هي المخففة، واللام : هي الفارقة.
١ ما إما مصدرية أو كافة كفت الكاف عن العمل، ولهذا دخلت على الفعل/١٢ منه.
٢ من جوز تقديم المجرور على العامل الواقع صلة فالعامل في "من قبله لمن الضالين"، ومن لم يجوز فيقول: هو من طريق شريطة التفسير/١٢ منه.
﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾، أي : من عرفة، كان القريش لا يخرجون من الحرم يقفون عند أدنى الحل قائلين : نحن أهل الله، فلا نخرج من الحرم بخلاف الناس، فأمرهم الله أن يقفوا بعرفة ويخرجوا من الحرم كسائر الناس، وحينئذ ثم : للتراخي في الإخبار، أو من مزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفة إليها، وحينئذ المراد بالناس : إبراهيم عليه السلام، أو جميع الناس، ﴿ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ ﴾، من جاهليتكم، ﴿ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، يغفر الذنب وينعم.
﴿ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ ﴾ : فرغتم من العبادات الحجية، ﴿ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ ﴾، أهل الجاهلية يقفون ويذكرون مفاخر آبائهم، فأمرهم الله بذكره كذكرهم مفاخر آبائهم، أو كقول الصبي : أبه أمه، كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه فالهجوا أنتم بذكر الله بعد النسك، ﴿ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾، عطف على كذكركم، أو على ذكركم، والمعنى : ذكراً أشد ذكراً على الإسناد المجازي، وصفا للشيء بوصف صاحبه كشديد الصفرة صفرته، أو عطف على آبائكم، أي : كذكركم قوما أشد مذكور به من آبائكم وأما عطفه ١ على الضمير المضاف إليه لكذكركم فضعيف، قيل : أو بمعنى بل، ﴿ فَمِنَ ٢ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ﴾، أي : اجعل إعطاءنا في الدنيا خاصة ٣، ﴿ وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾، نصيب أو من طلب خلاف.
١ للعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، والزمخشري قد منعه في قوله تعالى: "تساءلون به والأرحام" [النساء: ١]، وأما الأجوبة بأن المنع إذا كان الجار حرفاً، أو بأن المجرور هاهنا في حكم المنفصل لأنه فاعل المصدر، أو بأن المراد العطف من حيث المعنى فضعيف كلها/١٢ منه، أما بحسب اللفظ فهو على حذف مضاف معطوف على الذكر، أي: وذكر قوم أشد ذكراً فهو أيضا ضعيف كما لا يخفى ١٢/ منه.
٢ هذا تقسيم للمأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك وفيه التفات لأن الظاهر أن يقول فمنكم ومنكم/١٢ منه.
٣ عن ابن عباس، كان قوم من الأعراب يأتون الموقف فيقولون: اللهم اجعله لنا عام غيث وعام خصب وعام أولاد، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا فذمهم الله سبحانه تنفيراً عن التشبه بهم/١٢ منه.
﴿ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ١ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾، يدخل فيها كل خير في الدنيا وصرف كل شر، ﴿ وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾، مثلها يدخل فيها الخير كله، ﴿ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾، تخصيص بعد التعميم ؛ لأنه هو الفوز، وبعض السلف خصص الحسنة في الموضعين بشيء خاص، والتعميم أولى.
١ في مسند الإمام أحمد "كان أكثر دعوة يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"/١٢ منه [بل أخرجه البخاري في "الدعوات" (٦٣٨٩)، وفي غير موضع من صحيحه، ومسلم في "الذكر والدعاء" (٥/٥٤٦) فالعزو إليهما أفضل.
﴿ أُولَئِكَ ﴾، أي : الفريق الثاني، ﴿ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾، أي : مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه، والدعاء كسب، لأنه عمل، أو من أجل ١ ما عملوا، ﴿ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾، يحاسبهم مع كثرتهم وكثرة أعمالهم في لمحة، وقيل : سريع الحساب مع الفريق الثاني لأن يتخلصوا من هوله.
١ أو من أجزاء ما عملوا/١٢ منه.
﴿ وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ ١ مَّعْدُودَاتٍ ﴾ : أيام التشريق، والمراد : التكبير بعد الصلوات وعلى الأضاحي وعند الجمرات، ﴿ فَمَن تَعَجَّلَ ﴾ : عجل في النفر، ﴿ فِي يَوْمَيْنِ ٢، ونفر بعد رمي اليوم الثاني ﴿ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ ﴾ : في النفر إلى اليوم الثالث، ﴿ فَلا إِثْمَ ٣ عَلَيْهِ ﴾، في تأخره، لا كما قال بعض من أهل الجاهلية، فإن منهم من أثم المتعجل ومنهم من أثم المتأخر، ﴿ لِمَنِ اتَّقَى ﴾، أي : التخيير، أو الأحكام المذكورة ؛ لأنه الحاج حقيقة، أو عدم الإثم لمن اتقى في حجه، ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾، للجزاء.
١ وهي أربعة أيام، يوم النحر وثلاثة أيام بعده وصرح بذلك جماهير السلف/١٢ منه.
٢ الظرف المثنى إذا عمل فيه الفعل فلا بد من وقوعه في كل من اليومين، وهاهنا لا يمكن فلا بد من توجيه إما بأن يجعل وقوعه في أحدهما كأنه وقع فيهما كقوله تعالى: "يخرج منهما اللؤلؤ" [الرحمن: ٢٢]، و"نسيا حوتهما" [الكهف: ٦١]، وإما بحذف مضاف، أي: في ثاني يومين/١٢ منه.
٣ قيل كثير من السلف كعلي وابن عباس وابن مسعود: أن معنى لا إثم عليه – مغفور، يعني: ما بقي له إثم، وقال مجاهد: لا إثم عليه إلى العام القابل/١٢ منه.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ﴾ : يروقك ويعظم في نفسك قوله، ﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾، أي : قوله في أمور الدنيا، أو يعجبك فيها لا في الآخرة، ﴿ وَيُشْهِدُ ١ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾ : يحلف ٢ على أن ما في قلبه موافق للسانه، أو يبارز الله بما في قلبه من الكفر، كما قال تعالى :" يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله " ٣، ﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ٤ : أشد الخصومة والجدال، نزلت ٥ في أخنس بن شريك، فإنه حلو الكلام سيئ السريرة منافق، أو عام في المنافقين.
١ هذا قول مجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وعزاه ابن جرير إلى ابن عباس/١٢ منه.
٢ هذا قول مجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وعزاه ابن جرير إلى ابن عباس/١٢ منه.
٣ النساء: ١٠٨.
٤ كلام الشارح مشعر بأن الخصام كما قاله الخليل، والحمل للمبالغة كزيد ضرب، وعند الزجاج أن الخصام جمع خصم، أي: أشد المخاصمين فلا مجاز حينئذ/١٢ منه.
٥ قاله السدي/١٢ منه [أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور، ١/ ٤٢٣.
﴿ وَإِذَا تَوَلَّى ﴾ : انصرف عنك، أو صار واليا، ﴿ سَعَى ١، أي : قصد، ﴿ فِي الأَرْضِ ٢ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾، كما فعله الأخنس حين رجع إلى مكة أحرق زرع المسلمين وعقر الحمر، أو إذا تولى سعى ٣ في الأرض فساداً –منع الله القطر فهلك الحرث والنسل، ﴿ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾ : لا يرتضيه.
١ قيل: معناه سعى بقدميه بسرعة ليقطع الطريق/١٢ منه.
٢ قوله: في الأرض لإفادة العموم/١٢.
٣ هذا الوجه الثاني قول مجاهد/١٢ منه.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ ١ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ ﴾، حملته الأنفة ٢، وحمية الجاهلية على الإثم المأمور بتركه لجاجاً –الخصومة- يقال : أخذته بكذا، إذا حملته عليه، ﴿ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ﴾ : كفته جزاء، ﴿ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾، أي : والله لبئس المقر جهنم.
١ قيل: معناه أخذته الحمية بسبب ما ارتكبه من الآثام/١٢ منه، قيل: لعمر اتق الله فوضع خده في الأرض تواضعا، وقال: هذا مقدرتي، ووقف يهودي بين يدي هارون وهو راكب فقال: يا أمير المؤمنين [لعل في الكلام سقطا: "اتق الله"]، فنزل عن دابته وخر ساجداً وقضى حاجته، فقيل له في ذلك: فقال: ذكرت قول الله: "وإذا قيل له اتق الله" إلخ/١٢ منه.
٢ (*) الاستنكاف.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي ١ : يبيع، ﴿ نَفْسَهُ ﴾ بالبذل في الجهاد، أو في جميع الأوامر، ﴿ ابْتِغَاء ﴾ : طلب، ﴿ مَرْضَاتِ اللّهِ ﴾، نزلت في صهيب بن سنان الرومي، عذبه المشركون ليرتد فأعطى جميع أمواله وخلص دينه وأتى المدينة ٢، وأكثر السلف على أنه عام في كل مجاهد في سبيل الله، ﴿ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾، لإرشادهم إلى الهدي.
١ (**) خطأ في الأصل: يشترى.
٢ (***) انظر الدر المنثور للسيوطي (١/٤٣٠-٤٣١).
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ١ : في الإسلام، أو في الطاعة، وكافة : حال من السلم، أي : خذوا بجميع عرى الإٍسلام وشرائعه ٢ أو حال من الفاعل، أي : ادخلوا ٣ فيه بكليتكم لا تخلطوا به غيره وهو خطاب للمسلمين وعن ٤ بعضهم أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب، فإنهم مع أن أسلموا عظموا السبت وحرموا الإبل وأحبوا قراءة التوراة، فأمروا بتركها، ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ : آثاره التي زين لكم، ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ : ظاهر العداوة.
١ قال: في المغني قول الزمخشري: حال من السلم وهم، لأن كافة مختص بمن يعقل وهم في قول الله تعالى: "وما أرسلناك إلا كافة" [سبأ: ٢٨] [في الأصل: "في قول الله تعالى: "ثم أشير فوقها: "في قول الله"]، أي: رسالة كافة وأيضا وهم في خطبة المفصل إذا قال: محيط بكافة الأبواب/١٢ منه.
٢ ولا تخلوا بشيء منها/١٢ منه.
٣ الظاهر أنه إذا كان حالا من الفاعل أن يكون معناه ادخلوا جميعاً في الإسلام لا يشرد بعضكم عنه، والشارح عدل عن الظاهر في تفسيره بقوله: أي ادخلوا فيه إلخ لتمام الموافقة بسبب النزول، ولأن الخطاب مع المسلمين عند الشارح فلا وجه لأمر الجميع بالدخول في الإسلام إلا بهذا المعنى فتأمل/١٢ منه.
٤ قول عكرمة ونسب أيضا إلى ابن عباس/١٢ منه.
﴿ فَإِن زَلَلْتُمْ ﴾ : عدلتم عن الحق، ﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾، على أن الإٍسلام هو الحق، ﴿ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ﴾ : لا يعجزه الانتقام، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ : لا ينتقم بظلم.
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ ﴾، استفهام بمعنى النفي، ﴿ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ١ اللّهُ ﴾، مذهب السلف الإيمان بمثل ذلك ووكول علمه إلى الله تعالى، أو تقديره : يأتيهم باسمه، ﴿ فِي ظُلَلٍ ﴾، جمع ظلة، ﴿ مِّنَ الْغَمَامِ ٢، السحاب الأبيض، والعذاب إذا جاء من مكان يجيء الخير منه يكون أصعب، ﴿ وَالْمَلآئِكَةُ ﴾، هو على الحقيقة، ﴿ وَقُضِيَ الأَمْرُ ﴾ : تم أمر هلاكهم، أو فرغ من حسابهم فأوقعوا من عقابهم وذلك يوم القيامة، ﴿ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ‏ ﴾، فيجازيهم.
١ لفصل القضاء/١٢ منه.
٢ السحاب الأبيض "كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم حين قالوا: أين كان ربنا قبل خلق العرش؟ قال: كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء" [حديث ضعيف أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة، وانظر ضعيف ابن ماجة]، ومذهب السلف الصالح الإيمان بمثل ذلك ووكل العلم إلى الله سبحانه/١٢ وجيز.
وفي الفتح أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم "قال: يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياماً شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي" [ذكره ابن كثير في التفسير، ١/٢٤٩ واستغربه]، وعن ابن عمر قال: يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتا ينخلع له القلوب، وعن ابن عباس: يأتي الله يوم القيامة في ظلل من السحاب، قد قطعت طاقات.
وفي الخازن روى الطبري في تفسيره بسند متصل عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم "قال: ظلل من الغمام طاقات يأتي الله عز وجل فيها محفوفاً" وذلك قوله: "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر" انتهى. [أخرجه ابن جرير والديلمي بسند ضعيف، وانظر الدر المنثور للسيوطي، ١/٤٣٣.
واعلم أن إتيانه تعالى ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء ثابت بهذه الآية وآية "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك" [الأنعام: ١٥٨]، "وجاء ربك والملك صفا صفا" [الفجر: ٢٢] وغيرها من الأحاديث والآثار فذهب أهل التحقيق إلأى الإيمان بظواهر هذه الآيات وسائر آيات الصفات وأحاديثها، ووجوب الاعتقاد بظواهرها، والإيمان بها كما جاءت، ووكول العلم إلى الله سبحانه مع تنزيهه سبحانه عن التشبيه والتمثيل والتحريف والتبديل والتعطيل، وهو قول سلف هذه الأمة وأئمتها، وكان ابن عيينة والزهري والأوزاعي ومالك وابن المبارك والثوري والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يقولون في هذه الآية وأمثالها: اقرءوها كما جاءت بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل ولا تعطيل، وأما تأويل إتيان الله تعالى ومجيئه بإتيان عذابه فخلاف ما عليه السلف، وتحريف لكتاب الله وزيادة فيه، فالقول الثاني قول مردود ؛ لأنه يئول إلى نفي صفة ثابتة بكتاب الله وكتاب رسوله صلى الله عليه وسلم وهو قول أهل الإلحاد في صفاته ولله در من أنشد في هذا المعنى:
عقيدتنا أن ليس مثل صفاته ولا ذاتـــه شيء عقيدة صائـب
نسلم آيات الصفات بأسرها وإجـــرائها للظاهر المتقــارب
ونركب للتسليم سفنا فإنهـا لتسليم دين المرء خير المراكب.

﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾، هو سؤال تقريع، ﴿ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾، معجزة ظاهرة على نبوة موسى، أو آية في الكتاب على نبوة محمد عليهما السلام، وكم : مفعول ١ ثان ٢، أو مبتدأ ٣ والعائد محذوف، وآية : مميزة، ومن : للفصل، والجملة إما مفعول ٤ ثان لسل وتقديره : سلهم قائلا كم آتيناهم ؟ أو في موقع المصدر، أي : سلهم هذا السؤال، ﴿ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ ﴾، أي : آياته، فإنها أجل نعمة لأنها سبب الهداية فجعلوها سبب الضلالة، أو حرفوها، ﴿ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ ﴾، وعرفوها، ﴿ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ : يعاقبه أشد ٥ عقاب.
١ أي: لآتيناهم/١٢ منه.
٢ مفعول ثان، أي: في موضع مفعول ثان، فإن سل هنا متعلقة عن الجملة الاستفهامية، فهي عاملة في المعنى غير عاملة في اللفظ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله إلا الجار، قالوا: وإنما علقت سل وإن لم يكن من أفعال القلوب ؛ لأن السؤال سبب العلم فأجرى السبب مجرى المسبب في ذلك/١٢ منه.
٣ قال في البحر: هذا لا يجوز عند البصريين إلا في الشعر وقال ابن مالك: لو كان المبتدأ غير كل والضمير مفعول به لم يجز عند الكوفيين حذفه مع بقاء الرفع إلا في الاضطرار، والبصريون يجيزون [في الأصل المطبوع: يخيرون وما أثبت من البحر المحيط لأبي حيان، ٢/١٣٥، ط دار الكتب العلمية] ذلك في الاختيار ويرونه ضعيفا، فعلى هذا فأي داعية إلى جواز ذلك في القرآن مع إمكان حمله على غير ذلك/١٢ منه.
٤ مفعول ثان، أي: في موضع مفعول ثان، فإن سل هنا متعلقة عن الجملة الاستفهامية، فهي عاملة في المعنى غير عاملة في اللفظ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله إلا الجار، قالوا: وإنما علقت سل وإن لم يكن من أفعال القلوب ؛ لأن السؤال سبب العلم فأجرى السبب مجرى المسبب في ذلك/١٢ منه.
٥ وهذا تهديد شديد للكافرين بمحمد عليه السلام وأشرف الصلاة وأكمل التسليمات/١٢ منه.
﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾، حسنت في أعينهم حتى أعرضوا عن غيرها، ﴿ وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ : فقراء المؤمنين كبلال وعمار، ﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ ﴾، الشرك، ﴿ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾، لتقواهم لأنهم في الجنة وهم في النار، ﴿ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾، في الدارين.
﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ١، بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على الحق ٢، أو متفقين على الجهل على عهد إبراهيم، ﴿ فَبَعَثَ اللّهُ ﴾، أي : اختلفوا فبعث على الوجه الأول، وحذف لدلالة قوله " فيما اختلفوا " عليه، ﴿ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ ﴾، مع الأنبياء، لا مع كل واحد، ﴿ بِالْحَقِّ ﴾، متلبسا به، ﴿ لِيَحْكُمَ ﴾، أي : الكتاب، مجازاص، أو الله، ﴿ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾، أي : في شيء التبس عليهم، ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ ﴾ : في الكتاب الذي أنزل لدفع الاختلاف، ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ ﴾، أي : الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف، ﴿ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾، الحجج الظاهرات الواضحات، ﴿ بَغْياً بَيْنَهُمْ ٣، أي : اختلفوا حسدا وظلما، واختلافهم : كفر بعضهم بكتاب بعض وتحريفهم كتاب الله، ﴿ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾، أي : لمعرفته، ﴿ مِنَ الْحَقِّ ﴾، بيان لما، ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ : بإرادته، كاختلافهم في القبلة وفي إبراهيم وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ﴿ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾، لا من جمع له أسباب الهداية.
١ قال الله تعالى في سورة يونس: "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا [يونس: ١٩]/١٢ منه.
٢ قاله ابن عباس وغيره/١٢.
٣ يعني: أنزلنا الكتبا ليتفقوا كما كانوا فازدادوا في الاختلاف وعكس الأمر/١٢ وجيز.
﴿ أَمْ ١ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ ﴾، أم منقطعة، ومعنى الهمزة الإنكار، لما هاجر المسلمون وتركوا الديار والأموال فأصابهم ما أصابهم من الجهد وضيق العيش نزلت تشجيعا لهم وتطييبا لقلوبهم، ﴿ وَلَمَّا يَأْتِكُم ﴾، أي : لم يأتكم وزيدت عليه ٢ ما، ﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ ﴾، مضوا، ﴿ مِن قَبْلِكُم ﴾ : حالهم التي هي مثل في الشدة أو سنتهم ﴿ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء ﴾، الفقر والأسقام والمصائب والنوائب، ﴿ وَزُلْزِلُواْ ﴾، بأنواع البلايا وخوف العدو، ﴿ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾، أي : إلى الغاية التي يقول الرسول ومن معه فيها، ﴿ مَتَى نَصْرُ اللّهِ ﴾، أي : بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى استبطئوا النصر، ﴿ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ﴾، أي : قيل لهم ذلك إجابة لطِلْبتهم، يعني لا بد لكم أن يصيبكم مثل ما أصابهم فتصبروا كما صبروا.
١ ولما كانت حكاية الاتفاق ومزيد الاختلاف بعد بعث النبيين وإنزال الكتاب لتشجيع المؤمنين وتثبيتهم على الدين خاطبهم بقوله: "أم حسبتم" الآية/١٢ وجيز.
٢ وفيها معنى التوقع، يعني الفعل الذي هو الإتيان منتظر/١٢ منه.
﴿ يَسْأَلُونَكَ ١ مَاذَا يُنفِقُونَ ﴾، نزلت في شيخ كبير كثير المال، قال يا رسول الله : بما نتصدق على من ننفق ؟، ﴿ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾، حاصله أن المنفق هو كل ٢ خير والاهتمام في شأ ن المصرف ؛ لأن الخير لا يعتد به إلا بعد وقوعه موقعه، ﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾، فيجازيكم بقدره، والآية في نفقة التطوع، وعن بعضهم هي منسوخة بفرض الزكاة.
١ وعلم من أول السورة إلى هذا الموضع فضل الإنفاق، ناسب السؤال من الإنفاق فقال: "يسألونك ماذا ينفقون" الآية/١٢ وجيز.
٢ فالجواب مطابق للسؤال، ولما كان أفضل الإنفاق ما هو في سبيل الله وأفضل السبيل الجهاد – أخذ يبين حال الجهاد ومكانه فقال: "كتب عليكم القتال"/الآية/١٢ وجيز.
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ﴾، شاق مكروه طبعا عليكم، ﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ﴾، وهذا عام في الأمور كلها، ﴿ وَاللّهُ يَعْلَمُ ﴾ : ما هو خير لكم، ﴿ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، واعلم أن الجهاد فرض كفاية.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ١، نزلت في سرية قاتلوا المشركين أول رجب وهم يظنون أنه من الجمادى فعيرهم المشركون وقالوا : إن محمدا استحل الشهر الحرام ٢، ﴿ قِتَالٍ فِيهِ ﴾، بدل اشتمال، ﴿ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾، أي : ذنب كبير، واختلف في أنه منسوخ ٣ أو لا، ﴿ وَصَدٌّ ﴾ : منع، ﴿ عَن سَبِيلِ اللّهِ ﴾، كمنعهم المسلمين عن العمرة، ﴿ وَكُفْرٌ بِهِ ﴾ : بالله، ﴿ وَالْمَسْجِدِ ٤ الْحَرَامِ ﴾، أي : صد عنه، ﴿ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ ﴾ : أهل المسجد، وهم المؤمنون، ﴿ مِنْهُ ﴾ : من المسجد، ﴿ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ ﴾، وزرا مما فعلته السرية خطأ، ﴿ وَالْفِتْنَةُ ﴾، أي : الشرك، أو ما يرتكبونه من الإخراج والكفر، ﴿ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ : أفظع مما ارتكبوه، ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ ﴾، أي : المشركون، ﴿ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ ﴾، أي : ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين، وحتى معناه التعليل، أي : يقاتلونكم كي يردوكم، ﴿ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ﴾، هو استبعاد لاستطاعتهم كقول الواثق بنفسه : إن استطعت فاضربني، ﴿ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ﴾ : من يرجع عن دينه إلى دينهم، ﴿ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ﴾، أي : يرجع ثم يموت على الكفر، ﴿ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ : النافعة وبطلت، ﴿ فِي الدُّنْيَا ﴾، لما يفوتهم بالردة ما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام، ﴿ وَالآخِرَةِ ﴾، بسقوط الثواب، ﴿ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، قيد الردة بالموت عليها في إحباط الأعمال وهو مذهب الشافعي.
١ والسائل من المؤمنين كباقي الأسولة [سلْت أسال سُوالا: لغة في سألت، حكاها سيبويه، وحكى ابن جني سوال وأسْوِلة. لسان العرب (سول) الخمسة، أو من المشركين لقوله: "ولا يزالون يقاتلونكم" وعلى هذا لم يعطف على الأول ولم يعطف الثالث عليه لاختلاف السائل/١٢ وجيز.
٢ (*) صحح سنده السيوطي في "الدر المنثور"، ١/٤٤٨، وعزاه إلى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي.
٣ والأصح أنها غير منسوخ، والاستدلال بعموم بعض الآيات في جواز القتال غير تام ؛ فإن العام لا يكون ناسخا للخاص/١٢ وجيز.
٤ عطف على سبيل الله والفاصلة بين المصدر وهو "صد" وصلته وهو "المسجد" جائز لما بين الصد عن سبيل الله وكفر به اتحاد معنوي كأنه لا فاصلة وأما عطف المسجد على الضمير وإن جوزه المحققون بلا إعادة الجار نحو "تساءلون به والأرحام" [النساء: ١] فليس للكفر بالمسجد الحرام معنى إلا بتكلف/١٢ وجيز.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾، نزلت في تلك السرية لما ظن بهم أنهم لو سلموا من الإثم ليس لهم أجر، ﴿ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ ١ رَحْمَتَ اللّهِ ﴾ : ثوابه، ﴿ وَاللّهُ غَفُورٌ ﴾، لما فعلوا من قلة الاحتياط، ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ : بإجزال الأجر.
١ ما أراد به تخصيص وجود الرجاء، فإن غيرهم قد يرجون، لكن خصص بهم استحقاق الرجاء يعني: أولئك يستحون أن يرجوا رحمة الله/١٢ وجيز.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ ١ وَالْمَيْسِرِ ٢، أي : عن تعاطيهما، قال عمر ومعاذ وسعد : يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال ؟ فنزلت ٣، والميسر : القمار، ﴿ قُلْ فِيهِمَا ﴾، أي : في تعاطيهما، ﴿ إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾، حيث يؤذي إلى مخاصمة وفحش وزور وهذا لا يدل صريحا على حرمتهما لأنه مؤدى إلى الإثم لا أن الإثم يحصل منه، والمحرِّمة ما في المائدة، ﴿ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ : من كسب المال والطرب وغيرهما، ﴿ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾، فإن مفاسدهما التي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقعة منها، ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا ٤ يُنفِقُونَ ﴾، لما نزل قوله :" فللوالدين والأقربين " سأل عمرو بن الجموح عن مقدار ما ينفق فنزل، ﴿ قُلِ الْعَفْوَ ﴾، أي : ما فضل من المال عن العيال، أو أفضل مالك وأطيبه، قيل : إنها منسوخة بآية الزكاة، وقيل : مبينة بها قاله مجاهد وغيره، ﴿ كَذَلِكَ ﴾، أي : مثل ما فصل وبين لكم هذه الأحكام، ﴿ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ ﴾، أي : سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده، أي يبين تبيينا مثل لهذا، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾
١ ولما كان الخمر مذهبا للعقل، لكن تعاطيه مفرج للكروب المجتمعة في القلوب من مصائب الدنيا ومزيح للبخل ومشجع، سألوا عن تعاطيه فقال: "يسألونك عن الخمر والميسر" الآية/١٢ وجيز.
٢ قال جماعة من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: كل شيء فيه قمار من نرد أو شطرنج أو غيرهما فهو الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعبان إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إضرار الحقوق، وقال مالك: الميسر ميسران، ميسر اللهو وميسر القمار، فمن ميسر اللهو: النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه/١٢ فتح.
٣ (*) صحيح أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، وانظر صحيح سنن الترمذي، ٢٤٤٢.
٤ الأولى أن يكون ماذا كلها استفهامية في موضع نصب ينفقون، وحينئذ الجواب بقوله: "العفو" بالنصب مناسب للسؤال/١٢ منه.
﴿ فِي ﴾، أمر، ﴿ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ﴾، لتعلموا زوالها وفناءها وإقبال الآخرة وبقاءها، وقيل : متعلق بيبين أي : يبين لكم الآيات في أمر الدارين لعلكم تتفكرون، ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ﴾، لما نزل ١ " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما " ٢ إلخ، اعتزلوا مخالطة اليتامى ولا يأكل أحد معهم، فشق ذلك عليهم فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت، ﴿ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ﴾، أي : على حدة، أو مداخلتهم لإصلاحهم خير من مجانبتهم، قيل : أو إصلاح أموالهم من غير أجرة خير، ﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ ﴾، أي إن خلطتهم طعامكم وشرابكم بطعامهم وشرابهم، وقيل : إن تصيبوا من أموالهم أجرة من قيامكم بأمورهم، ﴿ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾، أي : فهم إخوانكم، ولا بأس من الخلطة أو من إصابة بعضكم من مال بعض، ﴿ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾، أي : يعلم من قصده الإفساد أو الإصلاح فيجازيه، ﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ ﴾، العنت : المشقة، أي : لو شاء الله إعناتكم لأعنتكم : كلفكم ما يشق عليكم من المجانية مطلقا دون المخالطة، ﴿ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ﴾ : غالب يقدر على الإعنات، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ : يحكم بحكمته فيتسع لكم.
١ هكذا روى أبو داود والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه/١٢ منه [وهو حديث حسن، انظر صحيح أبي داود، ٢٤٩٥].
٢ النساء: ١٠.
﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ ١ الْمُشْرِكَاتِ ٢ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾، كانت لأبي مرثد الغنوي خليلة مشركة فبعدما أسلم أراد أن يتزوج بها، فنزلت ٣ " والمشركات " هاهنا عامة في كل من كفرت بالنبي عليه الصلاة والسلام لكن خصت ٤ منها حرائر الكتابيات بقوله :" والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب " ٥، وقيل : المراد بها عبدة الأوثان ؛ فلا يدخل فيها أهل الكتاب، ﴿ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ ﴾، أي : من حرة مشركة كانت لعبد الله بن رواحة ٦ فأعتقها كفارة أن لطمها وتزوجها فطعنوا فيه وعرضوا عليه نسيبة مشركة، فنزلت، ﴿ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾، الواو للحال، وبمعنى أن، أي : وإن أعجبتكم بمالها وجمالها، ﴿ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ ﴾، أي : لا تزوجوا منهم المؤمنات حتى يؤمنوا وهو على عمومه، ﴿ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ ٧ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾، أي : رجل مؤمن وإن كان عبدا خير من مشرك وإن كان سريا، ﴿ أُوْلَئِكَ ﴾، أي : المشركون والمشركات، ﴿ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾، أي : الأعمال الموجبة لها، ﴿ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ ﴾، أي : العمل الموجب لهما، قيل : تقديره وأولياء الله يدعون، بإقامة المضاف إليه مقام المضاف تعظيما لهم، ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾، أي : بأمره وشرعه أو بتوفيقه أو بقضائه، ﴿ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ : لكي يتذكروا، أو ليكونوا بحيث يرجى عنهم التذكر.
١ ولما رخص في مخالفة اليتامى لإصلاحهم نهى عن نوع مخالطة المشركات فقال: "ولا تنكحوا المشركات" الآية/١٢ وجيز.
٢ أي: عابدات الأوثان/١٢ وجيز.
٣ (*) أخرجه ابن أبي حاتم وابن المنذر عن مقاتل بن حيان كما في الدر المنثور، ١/٤٥٨.
٤ قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم: استثنى الله تعالى من ذلك نساء أهل الكتاب/١٢ منه.
٥ المائدة: ٥.
٦ هكذا ذكر السدي رضي الله عنه/١٢ منه [انظر تفسير ابن كثير، ١/٢٥٩، والدر المنثور للسيوطي، ١/٤٥٩ وسنده معضل.
٧ الحر المشرك فإن الشرك ذم يزيل جميع مدحه، قيل: فيه دليل لمن يعتبر الولي في نكاحها/١٢.
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ ١ عَنِ الْمَحِيضِ ﴾، إذا حاضت نساء اليهود لا يؤاكلونهن ولا يخالطونهن فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت ٢، والمحيض مصدر، ﴿ قُلْ هُوَ أَذًى ﴾، أي : الحيض مستقدر، ﴿ فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ ﴾، اجتنبوا مجامعتهن ٣ إذا حضن، ﴿ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ ﴾، بالجماع، ﴿ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ ﴾ : من الدم، أو يعتسلن وقراءة حمزة والكسائي وهو " يطهّرن " دالة عليه سيما مع قوله، ﴿ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ﴾، أي : بالماء، ﴿ فَأْتُوهُنَّ ﴾ : بالوقاع، ﴿ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ﴾، أن تعتزلوهن منه وهو الفرج، أو من المأتى الذي حلله لكم وهو القبل، ﴿ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ﴾ : من الذنوب، ﴿ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ : المترهين عن الأقذار، كإتيان الحائض وفي الدبر ٤.
١ ولما بين أحكام النكاح بين المسلمين والشركين وفي النكاح شائبة للوقاع ناسب سؤال زمان الغشيان ومكانه فقال: "ويسألونك عن المحيض" الآية/١٢ وجيز.
٢ (*) أخرجه مسلم في "الحيض".
٣ أكثر السلف على أنه يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج، ويدل على ذلك الأحاديث الصحيحة عن عائشة رضي الله عنها/١٢.
٤ لا خلاف لأحد من السلف أن غشيان المرأة والجارية في دبرها حرام ملعون صاحبه، روى الدارمي في مسنده عن ابن عمر أنه قيل له: ما تقول في الجواري أيمحض بهن قال وما التمحيض؟ [الذي في سنن الدارمي (١/٢٧٧) ط الريان: ما تقول في الجواري حين أحمض لهن؟ قال: وما التمحيض؟]، فذكر الدبر فقال: وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين؟ وهذا إسناد صحيح البتة، وأيضا نص مالك رضي الله عنه على حرمته وثبت عنه، فما نقل عنه افتراء من الرواة/١٢ منه أقول: وقد اختلف النقل فيه عن ابن عمر روى البخاري في صحيحه عن نافع عن ابن عمر "فأتوا حرثكم أنى شئتم" قال يأتيها في [أخرجه البخاري في "التفسير" (٤٥٢٧)، قال الشارح: أي: في الدبر كما وقع التصريح به، قال المظهري: إن الصحيح أن الوهم إنما هو من ابن عمر وقد حكم بكونه وهما من ابن عمر رأس المفسرين ابن عباس انتهى/١٢ [كما في صحيح أبي داود (١٨٩٦).
﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ﴾، أي : مزرع للولد، ﴿ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ ﴾ : مزرع الولد لا غير، ﴿ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾، من أي جهة شئتم مقبلة أو مدبرة لا كما قالت ١ اليهود : إن مجامعة المرأة من دبرها في قبلها يجعل الولد أحول ودنس عند الله، ﴿ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ ﴾ : ما يدخر لكم الثواب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو التسمية عند الجماع، ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ ﴾، في معاصيه، ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ ﴾، فاحذروا عن الفضيحة، ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ : الكاملين في الإيمان الذين اجتنبوا المعاصي.
١ روى البخاري ومسلم وغيرهما أن قوله تعالى "نساءكم حرث لكم" إلخ نزلت ردا لليهود وهم رووا عن جابر وسفيان الثوري/١٢ [صحيح البخاري (٤٥٢٨) وصحيح مسلم (١٤٣٥).
﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً ﴾، اسم لما يعرض ١ دون الشيء، ﴿ لِّأَيْمَانِكُمْ ﴾ : أراد منها الأمور المحلوف عليها من البر والتقوى، وهي صلة عرضة أو الفعل، ﴿ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ ﴾، عطف بيان للإيمان، أي : لا تجعلوا الله مانعا لما حلفتم عليه من الخير، بل افعلوا الخير ودعوا اليمين كما قال السلف ٢ في معنى الآية : لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير لكن كفر عن يمينك واصنع ٣ الخير ويجوز أن يكون اللام للتعليل، أي : لا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به مانعاً لأن تبروا، وقيل : والعرضة بمعنى المعرض للأمور وأن تبروا علة النهي، أي : لا تجعلوه معرضا للإيمان فتبتذلوه بكثرة الحلف به أرادة بركم فإن الحلاف ٤ مجترئ على الله وهو غير متق، ﴿ وَاللّهُ سَمِيعٌ ﴾ : لأيمانكم، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : بمقاصدكم.
١ أي يجعل قدامه بحيث يصير حاجزا ومانعا عنه/١٢.
٢ كان ابن عباس وابن عمر وجماعة لا تحصى، وفي الصحيحين وغيرهما "عنه عليه الصلاة والسلام من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير"/١٢ منه [أخرجه البخاري في "الأيمان" (٦٧١٨)، وفي مواضع كثيرة من صحيحه، وكذا مسلم في "الأيمان" (١٦٤٩)].
٣ حاصله لا تتركوا البر معللين بالحلف/١٢.
٤ حاصله لا تكثروا الحلف بالله كي تكونوا بارين فعلى هذا اليمين على الحقيقة، واللام المقدر في أن تبروا للتعليل، نحو: لا تكثر الكلام لتكون حكيما/١٢..
﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ ﴾، هو ١ ما يجري على اللسان عادة ك : لا والله وبلى والله، أو هو حلف يرى أنه صادق ولا يكون كذلك، أو أنت تحلف وأنت غضبان، أو أن تحرم ما أحل الله لك، أو أن تحلف عن الشيء ثم تنساه، ﴿ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ : وهو أن يحلف ويعلم أنه كاذب، ﴿ وَاللّهُ غَفُورٌ ﴾ : لم يؤاخذ باللغو، ﴿ حَلِيمٌ ﴾ : لا يعجل بالعقوبة وإن حلف كاذبا.
١ التفسير الأول روى أبو داود عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول ابن عمر وابن عباس وعكرمة ومجاهد، والثاني لأبي هريرة ومكحول وطاوس وغيرهم وهذا القول أيضا ثبت عن عائشة، والثالث لابن عباس أيضا وروى أبو داود في ذلك أثرا، والرابع لسعيد بن جبير هو أيضا لابن عباس، والخامس لمغيرة وإبراهيم/١٢.
﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ﴾، أي : يحلفون على أن لا يجامعوهن، وعدى بمن لمعنى البعد، وهو خبر لقوله، ﴿ تَرَبُّصُ ﴾، أي : توقف، ﴿ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾، أي : للحالف حق التلبث في تلك المدة لا يطالب فيها بوطء ولا طلاق، ﴿ فَإِنْ ١ فَآؤُوا ﴾ : رجعوا بالحنث، ﴿ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ للمولى إثم الحنث وإضرار المرأة، والأصح ٢ أنه يجب عليه الكفارة.
١ وجامعها، فسره بذلك السلف/١٢.
٢ الذي عليه جمهور العلماء، وهو الجديد من مذهب الشافعي/١٢.
﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ ﴾ : وطلقوا، ﴿ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ ﴾ : بما يقولونه، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : بما يفعلونه، وعند كثير من السلف :١ أنه تقع تطليقة بمجرد مضي أربعة أشهر، إما بائنة أو رجعية، وفي الآية دلالة على أنه يوقف، فيطالب إما بهذا أو بهذا، وعليه كثير من السلف ٢ أيضا.
١ كعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر، وقد صح وثبت عنهم وعن جماعة أخرى من السلف أنها تصير مطلقة بائنة/١٢.
٢ روى البخاري عن ابن عمر وروى الشافعي عن سليمان بن يسار قال: أدركت بضعة عشر من الصحابة كلهم يوقف المولى، وروى الشافعي عن علي أنه وقف المولى، وقال الشافعي: هكذا نقول، وهو موافق لما رويناه عن عمر وابن عمر وعائشة وعثمان وزيد بن ثابت وبضعة عشر من الصحابة، وهو مذهب مالك أيضا/١٢.
﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ ﴾ : المدخول بهن من ذوات الأقراء، ﴿ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ﴾، يحملنها ١ على الانتظار، خبر معناه الأمر للتأكيد، ﴿ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ﴾، أي : أطهار أو حيض، ثم يجوز لهن أن يتزوجن، ونصبه على الظرفية، أي : مدتها، أو المفعولية أي : مضيها، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلقت، فإنها تعتد بقرأين، ﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ﴾، من حبل ٢ أو حيض ٣، ﴿ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾، هذا تغليظ وتأكيد لا تقييد، ﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ ﴾ : أزواجهن جمع بعل والتاء لتأنيت الجمع، ﴿ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ﴾ : إلى النكاح والرجعة، ﴿ فِي ذَلِكَ ﴾ : في زمان التربص وهو العدة، وكان الرجل يرجع إلى امرأته وإن طلقها مائة إلى أن نزلت " الطلاق مرتان " ٤ فصار قسمين بائنة ورجعية، فليس الضمير أخص من المرجوع ٥ إليه، ﴿ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً ﴾ : بالرجعة لا إضراراً وهو تقييد للأحقية ٦، ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ ﴾، أي : لهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : بالوجه الذي لا ينكر في الشرع والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب الواجب في الحسنة لا في جنس الفعل، ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ : زيادة ٧ في الحق وفضل فيه، أو شرف وفضل في الدنيا والآخرة، ﴿ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ ﴾، يأمر كما أراد بمقتضى حكمته.
١ يعني في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص، فإن أنفسهن طوامح إلى الرجال، فأمرن أن يجبرنها على التربص/١٢.
٢ إذا أرادت فراق زوجها فكتمت لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع، وربما لا يطلقها إذا علم حبلها، أو كتمت حيضها وقالت حين الحيض: قد طهرت، استعجالاً للطلاق/١٢.
٣ هكذا فسر ابن عباس وابن عمر وغيرهما/١٢.
٤ البقرة: ٢٢٩.
٥ كما قال بعض الأصوليين: لأن البعل كان أحق بردها من غيره وإن طلقها ألف طلقة حتى نسخ فافهم، كما ذكره السدي ومجاهد وابن جرير وغيرهم/١٢.
٦ لا كما قال القاضي: وهو أنه ليس المراد منه شريطة.
٧ لأن حقوقهم في أنفسهن، وحقوقهن المهر، وتركه الضرار ونحوهما/١٢.
﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ ﴾، كان ١ الطلاق غير محصور في الجاهلية في عدد، ثم إن رجلا من الأنصار غضب على امرأته فقال : لا أطلقك ولا أؤويك أبدا، أطلقك حتى إذا دنا أجلك راجعتك وهكذا، فشكت ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فنزلت، وحاصله أن الطلاق الرجعي مرتان، ( فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } أي : إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فلك الخيار في المراجعة وحسن المعاشرة ٢، ﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ : بالطلقة الثالثة ٣، أو بألا تراجعها ضراراً ﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ ﴾ أيها الولاة ﴿ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ ٤ : من الصداق، ﴿ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا ﴾ أي : الزوجان، ﴿ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ﴾ من مواجب الزوجية، ولما كان الولاة يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع كأنهم الآخذون والمؤتون ٥، ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ ﴾ أيها ٦ الحكام في المزاوجة، ﴿ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾ أي : لا جناح على المرأة فيما أعطيت ولا على الرجل فيما أخذ، وحاصله أنه لا يجوز أن تضيقوا عليهن ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الصداق، نعم إذا تراضيا وطبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا، ولهذا كثير من السلف والخلف على أن الخلع حرام إلا أن يكون الشقاق من المرأة، لكن ذهب الشافعي إلى أنه إذا جاز في حال شقاقها ٧ فبطريق الأولى عند الاتفاق، لكن في غير هاتين الصورتين فحرام، ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ﴾ بالمخالفة، ﴿ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ : عقب النهي بالوعيد مبالغة في التهديد.
١ رواه الترمذي وابن أبي حاتم وابن جرير والحاكم، وقال: صحيح الإسناد/١٢ [وتعقبه الذهبي كما في التلخيص (٢/٢٨) بقوله: في حميد بن كاسب: "ضعفه غير واحد".
٢ فإمساك مبتدأ حذف خبره، أي فلك إمساك/١٢.
٣ نقل أبو داود عن ابن عباس والنسائي عن علي بن الحسين، أن قوله: "الطلاق مرتان" ناسخ لقوله: "وبعولتهن أحق بردهن" من أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً فهو كان أحق رجعتها/١٢.
٤ "شيئا" إما مفعول به و"مما" حال مقدم أو بيان، وإما مفعول مطلق أي: شيئا من الأخذ، و"مما" مفعول به/١٢.
٥ (*) كذا في الأصل، وكأنه أراد أن يقول: ولما كان الولاة... قال، فسقطت قال من آخر الكلام.
٦ الأولى أن يكون الخطاب للولاة والحكام، ولا يجوز أن يكون الخطاب في قوله: "وإن خفتم" للأزواج بقرينة "ألا يقيما"، وقيل: الخطاب لمجموع المؤمنين/١٢.
٧ فيجوز حينئذ للرجل قبول الفدية/١٢.
﴿ فَإِن طَلَّقَهَا ﴾، أي : بعد اثنتين، فهو مرتبط بقوله :" الطلاق مرتان "، نوع تفسير لقوله :" أو تسريح بإحسان "، وذكر بينهما الخلع دلالة على أن الطلاق يكون مجانا تارة وبعوض أخرى، ﴿ فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ ﴾ أي : بعد ذلك الطلاق ﴿ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ﴾ أي : حتى يطأها زوج آخر، يعني في نكاح صحيح، أو المراد من النكاح : العقد، والإصابة قد علم من الأحاديث الصحاح، ﴿ فَإِن طَلَّقَهَا ﴾ : الزوج الثاني ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا ﴾، بنكاح جديد ﴿ إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ﴾ : من حقوق الزوجية، ﴿ وَتِلْكَ ﴾ أي : الأحكام المذكورة ﴿ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ : يفهمون، ثم اعلم أن شرط التحليل في النكاح فاسد إلا عند أبي حنيفة، وقد صح " لعن الله المحلل والمحلل له "، والخلاف في أن الناكح بنية التحليل هو المحلل أم لا، وكلام السلف ١ يدل على أنه المحلل الملعون.
١ روى الحاكم وقال: حديث صحيح الإسناد، أن رجلا جاء إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له عن غير مؤامرة منه ليحللها لأخيه، هل تحل للأول؟ فقال: لا إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم [المستدرك، ٢/١٩٩، وأقره الذهبي]، وفي الحديث: "لا إلا نكاح رغبة لا دلسة" (الدلسة التحليل) ولا استهزاء بكتاب الله، ومثّله صلى الله عليه وسلم بالتيس المستعار/١٢ [كما أخرجه ابن ماجة، ١٩٣٦، والحاكم، ٢/ ١٩٨ وغيرهما بسند حسن، انظر الإرواء، ٦/٣٠٩-٣١٠]..
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ الأجل يطلق للمدة ولمنتهاها والبلوغ : الوصول، وقد يقال للدنو على الاتساع، وهو المراد هاهنا ١، ﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ : راجعوهن من غير ضرار، ﴿ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ : أو خلوهون لتنقضي عدتهن عدتهن من غير تطويل، وهذا إعادة لبعض ما سبق للاهتمام به، ﴿ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً ﴾ : لا تراجعوهن إرادة ٢ إضرارهن كما سبق ﴿ لَّتَعْتَدُواْ ﴾ لتظلموهن بالتطويل والإلجاء إلى الافتداء وهو عين الضرر ٣، ﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ بتعريضها للعقاب، ﴿ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً ﴾ كان الرجل يطلق أو يعتق أو ينكح فيقول : كنت ٤ لاعبا فنزلت، ﴿ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ ٥ : التي منها الهداية، ﴿ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ ﴾ : القرآن، ﴿ وَالْحِكْمَةِ ﴾ : السنة، وقيل : مواعظ القرآن، أفردهما بالذكر لشرفهما ﴿ يَعِظُكُم بِهِ ﴾ : بما أنزل، ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ تأكيد وتهديد.
١ فيصح قوله: "فأمسكوهن"، إذ لا إمساك بعد انقضاء العدة/١٢.
٢ فعلى ما فسرنا ضراراً مفعول له وقيل: حال بمعنى مضارين/١٢.
٣ إذ المراد تقييده/١٢.
٤ هكذا رواه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري وابن جرير أيضا عنه، وعن عبادة بن الصامت، وابن مردويه عن ابن عباس وفي الترمذي وأبي داود وابن ماجة قال عليه الصلاة والسلام: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد، الطلاق والنكاح والعتاق"/١٢ [وهو حديث حسن، وانظر صحيح الجامع (٣. ٢٧)، وراجع الإرواء (١٨٢٦ و ٢٠٦١)]..
٥ بأن تشكروها.
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ أي : انقضت عدتهن ﴿ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ ١ أيها الأولياء، وقيل : الضمير ٢ للناس كلهم، أي : لا يوجد فيما بينكم هذا الأمر، ﴿ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ ﴾ أي : الذين كانوا أزواجا لهن، نزلت في أخت ٣ معقل بن يسار، طلقها زوجها، فلما انقضت عدتها جاء يخطبها، ومعقل منع أن يتزوجها، ﴿ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم ﴾ أي : الخطاب والنساء، وهو ظرف لا تعضلوهن أو لأن ينكحن، ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : بما يعرفه الشرع، وهو حال ٤ عن الفاعل، ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي : النهي والخطاب لك أحد ٥، أو الكاف لمجرد الخطاب دون تعيين المخاطب، أو خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، يعني : ما أنزل إليك وقلنا لك ﴿ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ ٦ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ ﴾ أي : ترك العضل، ﴿ أَزْكَى ﴾ : أنفع ﴿ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ﴾ : من دنس الإثم، ﴿ وَاللّهُ يَعْلَمُ ﴾، النافع ٧ الصالح، ﴿ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ : لقصور علمكم.
١ العضل: الحبس والتضييق/١٢، وفي الفتح "فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن": الخطاب في هذه الآية إما أن يكون للأزواج، ويكون معنى العضل منهم أن يمنعوهن من أن يتزوجن من أردن من الأزواج، بعد انقضاء عدتهن لحمية الجاهلية، كما يقع لكثير من الخلفاء والسلاطين غيرة على من كن تحتهم من النساء أن يصرن تحت غيرهم، لأنهم لما نالوه من رياسة الدنيا، وما صاروا إليه من النخوة والكبرياء، يتخيلون أنهم قد خرجوا من جنس بني آدم، إلا من عصمه الله منهم بالورع والتواضع، وإما أن يكون الخطاب للأولياء، ويكون معنى إسناد الطلاق أنهم سبب له، بكونهم المزوجين للنساء المطلقات/١٢](: لا تمنعوهن [قيل: يدل هذا على أن ليس لهن اختيار في تزويج أنفسهن، بل الاختيار للأولياء وفيه بحث، لأنه يمكن أن الله تعالى منع هذا الظلم والتسلط الذي هو غير الحق/١٢.
٢ وعلى هذا لا يكون في الكلام انتشار الضمائر، فإن خطاب "وإذا طلقتم النساء" لا يصلح للأولياء قطعاً، ويصلح أن يكون للناس، ولهذا قيل: الوجه أن يكون الضمير للناس/١٢.
٣ هكذا رواه البخاري والترمذي وابن ماجة وغيرهم/١٢ [أخرجه البخاري في "التفسير" (٤٥٢٩)، وفي مواضع أخر من صحيحه]..
٤ قيل: تقديره تراضيا كائنا بالمعروف/١٢.
٥ نحو ذلك: "خير لكم وأظهر" [المجادلة: ١٢].
٦ والمعنى: أن المؤمن هو الذي ينتفع بالوعظ دون غيره/١٢ فتح.
٧ أو معناه: الله يعلم ما في ذلك من الزكاة والطهر وأنتم لا تعلمونه/١٢.
﴿ وَالْوَالِدَاتُ ١ يُرْضِعْنَ ﴾، لفظه خبر ومعناه أمر، على سبيل الاستحسان، ﴿ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ ﴾ : سنتين، ﴿ كَامِلَيْنِ ٢ : تحديداً لا تقريبا ﴿ لِمَنْ أَرَادَ ﴾، أي : ذلك لمن أراد ﴿ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ فعلم أن أقصى مدتها سنتان، ولا اعتبار بالرضاعة بعدهما وعليه ٣ السلف وأنه يجوز أن ينقص عنهما، ﴿ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ﴾ أي : الأب، وعبر عنه بهذه العبارة إشارة إلى جهة وجوب المؤن عليه ﴿ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ ﴾، أي : على والد الطفل نفقة أمه المطلقة مدة الإرضاع ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ حسبما يراه الحاكم وهو يقدر، ﴿ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ تعليل للتقييد بالمعروف ولإيجاب المؤن، ﴿ لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ٤ بأن تدفعه عن نفسها لمضرة أبيه بتربيته، بل عليها إرضاعه، ﴿ وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ ﴾، أي : الأب ﴿ بِوَلَدِهِ ﴾ بأن ينزع عنها إضراراً لها، ولا " تضار " إلخ تفصيل لما قبله، أي : لا يكلف كل منهما الآخر ما ليس في وسعه ولا يضاره بسبب الولد، ﴿ وَعَلَى الْوَارِثِ ﴾ عطف على " وعلى المولود له "، وما بينهما تعليل معترض، أي : وعلى وارث الأب وهو الصبي نفسه، فإنه إذا مات أبوه فمؤن مرضعته من ماله إن كان له مال وإلا تجبر الأم، أو المراد وارث الطفل، يعني إن مات الأب يجبر جميع ورثة الطفل على فرض موته –عصبة كانوا أو غيرهم- على نفقة مرضعته، أو يجبر وارث الطفل المحرم منه بحيث لا يجوز النكاح بينهما على تقدير أن يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى لا الجميع، أو عصبات الطفل فقط ﴿ مِثْلُ ذَلِكَ ﴾ : مثل ما على والده من الإنفاق وعدم الإضرار أو المراد ٥ عدم الإضرار فقط لا الإنفاق، ﴿ فَإِنْ أَرَادَا ﴾ أي : الأبوان ﴿ فِصَالاً ﴾ : فطاماً صادراً ﴿ عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ ﴾ : بينهما قبل الحولين ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ : في ذلك ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد في الفطام ﴿ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ ﴾ : المراضع ﴿ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم ﴾ : إلى المراضع، ﴿ مَّا آتَيْتُم ﴾، أي : أردتم إيتاءه، يعني : أجرتها، أو إلى الأمهات أجرتهن بقدر ما أرضعن ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : بالوجه المتعارف شرعاً ومروءة، ونفى الجناح مقيد بالتسليم لا لأنه شرط جواز الاسترضاع، بل إرشاد إلى أن الأكثر ثواباً أن يكون الاسترضاع مقرونا بتسليم ما يعطى المرضع، فشبه ما هو من شرائط الأولوية بما هو من شرائط الصحة، فاستعيرت ٦ له العبارة مبالغة، ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ ﴾ : في محافظة حدوده، ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، حث وتهديد.
١ ولما كان النكاح قد يكون سبب ولادة، فيكون عنها رضاع، وقد تكون المرضعة زوجة وقد تكون أجنبية، والزوجة متصلة أو منفصلة، والفراق بالطلاق أكثر منه بالموت وسطه بين عدتي الطلاق والوفاة اهتماماً بشأن الولد، فقال: "والوالدات يرضعن" الآية/١٢ وجيز..
٢ تأكيد للدلالة على أن هذا التقدير تحقيقي لا تقريبي، وفيه رد على أبي حنيفة في قوله: أن مدة الرضاعة ثلاثون شهر، وعلى زفر في قوله: أنها ثلاث سنين/١٢ فتح.
٣ وفي الدارقطني "قال عليه الصلاة والسلام: لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في حولين"/١٢ وجيز [وكذا أخرجه البيهقي في سننه (٧/٤٦٢) وهو صحيح]، وشذت عائشة – رضي الله عنها – من بينهم أن رضاع الكبير يؤثر في التحريم/١٢ منه [كما في صحيح مسلم _٣/٦٣٥) ط الشعب]..
٤ أضاف الولد إلى الأم أولا، ثم إلى الأب ثانيا، استعطافاً لهما عليه وتنبيها على أنه حقيق بأن يتفقا على الإشفاق عليه/ وجيز.
٥ الأول قول الجمهور، والثاني قول مجاهد والشعبي والضحاك/١٢ منه.
٦ أي: استعير له العبارة الموضوعة لإفادة التعليق بوصف الصحة اهتماماً بشأن ذلك الأمر فافهم/١٢ منه.
﴿ وَالَّذِينَ ١ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ ﴾ : ويتركون، ﴿ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ﴾ : يحملنها على التوقف، خبر في معنى الأمر، ﴿ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ٢، أي : عشر ليال، وتقديره وأزواج الذين، أو تقديره يتربصن بعدهم، لأنه لا بد من الضمير في الخبر إذا كان جملة، وخص عنه الحامل لقوله :" وأولات الأحمال أجلهن " ٣ إلخ والجمهور على أن عدة الأمة نصفها، ﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ : انقضت عدتهن، ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ : أيها الأولياء أو المسلمون، ﴿ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ ﴾ : من التعرض للخطاب والتزين، ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : بوجه لا ينكره الشرع، ﴿ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾، فيجازيكم عليه.
١ لما ذكر سبحانه عدة الطلاق، واتصل بذكرها ذكر الإرضاع، عقب ذلك بذكر عدة الوفاة؛ لأن لا يتوهم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق، فقال: "والذين يتوفون" الآية/١٢ فتح.
٢ قال صاحب البحر: إذا كان المعدود مذكرا، وحذف فالأصل أن يبقى العدد على ما كان عليه لو لم يحذف المعدود، فيقول: صمت خمسة، أي: خمسة أيام، وهو الفصيح، ويجوز أن يحذف منه التاء، وتقول: خمساً، ومنه ما في الحديث (ثم أتبعه ستا من شوال) [وهو في صحيح مسلم في كتاب الصيام (١١٦٤)]، والتذكير هو الجائز، فجاء عشراً على أحد الجائزين، وحسنه هنا أنه مقطع الكلام، فهو شبيه بالفواصل نحو "إن لبثتم إلا عشرا" [طه: ١٠٣] وعلى ما قال فلا حاجة إلى تقدير عشر ليال/١٢ وجيز.
٣ الطلاق: ٤.
﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ ﴾، التعريض : إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازاً، كقول المحتاج : جئتك لأسلم عليك، ﴿ مِنْ خِطْبَةِ ﴾، الخطبة بالكسر : طلب المرأة، ﴿ النِّسَاء ﴾ : المعتدات للوفاة، كقولك : إنك جميلة وإن النساء من حاجتي ونحوه، وحرم التصريح بخطبتهن، وأما الرجعية فحرام على غير زوجها التصريح والتعريض، ﴿ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ ﴾ : أضمرتم فيه من غير تصريح ولا تعريض، ﴿ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ﴾، أي : في أنفسكم فرفع عنكم الحرج في ذلك، ﴿ وَلَكِن ﴾، أي : فاذكروهن ولكن، ﴿ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾ : بأن ١ تأخذوا الميثاق عنهن في عدم تزوج غيره، وقال كثير من ٢ السلف يعني ٣ : الزنا، وقيل ٤ : أن يتزوجها في العدة سرًّا، ﴿ إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾، أي : لا تواعدوهن بشيء إلا بأن تقولوا، أي : بالتعريض، أو لا تواعدوهن مواعدة إلا مواعدة معروفة وهي التعريض، ﴿ وَلاَ تَعْزِمُواْ ٥ عُقْدَةَ النِّكَاحِ ﴾، أي : لا تعزموا عقد عقدة النكاح، ﴿ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾ : حتى ينتهي ما كتب من العدة، والإجماع على أنه لا يصح العقد في العدة، وعند مالك أن من تزوج امرأة في عدة ودخل بها، حرام عليه تلك المرأة بالتأبيد، ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ ﴾ : من عزم ما لا يجوز، ﴿ فَاحْذَرُوهُ ﴾ : فخافوا الله ولا تعزموا، ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ وبخهم أولا ثم لم يؤيسهم من رحمته.
١ هذا قول ابن عباس وأكثر السلف/١٢.
٢ كالحسن البصري والنخعي وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم/١٢ منه.
٣ أي: المراد من السر الزنا/١٢.
٤ قاله بن زيد/١٢ منه.
٥ أي: لا تقصدوا قصداً جازما نهى عن العزم ليكون النهي في الفعل أبلغ، وقدر المضاف لأن العزم إنما يكون على الفعل لا على نفس العقدة/١٢.
﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾، أي : لا تبعة من مهر، أو لا وزر لأنه ليس ببدعي، ﴿ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ ﴾، تجامعوهن، ﴿ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ : توجبوا لهن صداقاً، ونصب فريضة بمعنى مفروضة على المفعول به، وأو بمعنى إلا أن، أو بمعنى إلى أن، أو بمعنى الواو، يعني : لا تبعة من مطالبة مهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة، ولم يُسَمَّ لها مهر، فإذا كانت ممسوسة فعليه مهر المثل، وإذا كانت غير ممسوسة وسمى لها مهرا فلها نصف المسمى، ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ ١، تقديره : فطلقوهن ومتعوهن من مالكم وهي قبل المسيس وتسمية المهر تستحق المتعة فقط إجماعاً، ﴿ عَلَى الْمُوسِعِ ﴾ : الغني، ﴿ قَدَرُهُ ﴾ : ما يقدره ويليق به، ﴿ وَعَلَى الْمُقْتِرِ ﴾ : الفقير، ﴿ قَدْرُهُ ﴾ : كذلك، ﴿ مَتَاعاً ﴾ : تمتيعاً، ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : بالوجه المستحسن شرعاً ومروءة، ، ﴿ حَقّاً ﴾، واجباً صفة متاعاً أو مصدر، ﴿ عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾، على من أحسن إلى نفسه أو إلى المطلقات فسماهم بالمحسنين ترغيبا.
١ ظاهر الأمر للوجوب وضمير هن راجع إلى المطلقات قبل المسيس من غير فرض صداق/١٢ منه.
﴿ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾، أي : فلهن أو الواجب لهن، ومنه يؤخذ أنه لا متعة ١ حينئذ وأن الجناح المنفي هو تبعة المهر، ﴿ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ ﴾، على وزن يفعلن، أي : يتركن حقهن، ﴿ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ٢، المراد الزوج بأن يسوق إليها المهر كلا ٣ فقيل : تسميتها عفواً على المشاكلة، أو لأن المقرر عند العرب سوق المهر إليها حين الزواج فمن طلق قبل المسيس استحق استرداد النصف، فإن لم يسترد فقد عفا عنه، أو المراد الولي، يعني : إذا كانت بكراً، وإليه ذهب مالك، وقيل : وإن كانت كبيرة، ﴿ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾، خطاب للرجال والنساء، ﴿ وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾، أي : لا تنسوا أيها الرجال والنساء أن يتفضل بعضكم على بعض، ﴿ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ : فلا يضيع تفضلكم وإحسانكم.
١ وما عليه الأكثرون أن المتعة عام لكل مطلقة/١٢ منه.
٢ روى ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن جرير، أنه قال عليه الصلاة والسلام: "ولي عقدة النكاح الزوج" [وحسن سنده السيوطي في الدر المنثور (١/٥٢١) وعزاه إلى ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والبيهقي] وهو تفسير علي وبان عباس في إحدى الروايات وأكثر السلف/١٢ منه.
٣ (*) في هامش الأصل: (ن) كملا.
﴿ حَافِظُواْ ١ وعليه الأكثرون، وأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل أو الصبح لأنها مثل العصر، أو الظهر لأنها في وسط النهار، أو واحدة من الخمسة لا بعينها كليلة القدر، وقيل : المغرب لأنها الوسطى في العدد بين الرباعية والثنائية، وقيل : العشاء لأنها بين جهريتين وقيل : صلاة الجماعة، وقيل : الجمعة، وقيل : العيد، وقيل الضحى، وقيل الوتر، { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ٢، أي : خاشعين ذليلين بين يديه والمراد القنوت في الصبح.
١ ولما ذكر وفصل وبين أمر الطلاق والرضاع والصداق والنفقة والإنفاق والتربص والتخلص والخمر والزمر، ثم رجع بعده إلى شيء من أحوال الزوج والزوجات وسط بينهما وصية حفظ الصلاة إشارة إلى ما قال: "لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله" [المنافقون: ٩] فعلى أي حال وشغل شغلكم لا تتركوا الصلاة فقال: حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى الآية/١٢ وجيز]}: داوموا، ﴿عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾، ذكرها بين الآيات إشعاراً بألا تلهيكم الأزواج والأولاد عن ذكر الله، ﴿والصَّلاَةِ الْوُسْطَى﴾، صلاة العصر [وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه قال يوم الأحزاب: شغلونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر" رواه مسلم وغيره بروايات متعددة/١٢ منه [انظر صحيح مسلم (٢/٢٧٣) ط الشعب]، وذكر في الفتح بعد تصحيح هذا القول، وأما حجج بقية الأقوال فليس فيها شيء مما ينبغي الاشتغال به ؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، وبعض القائلين عول على أمر لا يعول عليه، فقال: إنها صلاة كذا لأنها وسطى بالنسبة إلى أن ما قبلها كذا من الصلوات وبعدها كذا من الصلوات، وهذا الرأي المحض والتخمين البحث لا ينبغي أن تستند إليه الأحكام الشرعية، على فرض عدم وجود ما يعارضه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف مع وجود ما هو في أعلى درجات الصحة والقوة والثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيا الله العجب من قوم لم يكتفوا بتقصيرهم في علم السنة، وإعراضهم..
٢ وقيل: معناه ساكتين قال السدي ويدل عليه حديث زيد بن أرقم في الصحيحين وغيرهما، قال: كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية "وقوموا لله قانتين" فـأمرنا بالسكوت [أخرجه البخاري في التفسير (٤٥٣٤)] فالمتغير هاهنا حمل القنوت على السكوت للحديث المذكور/١٢ فتح.
﴿ فَإنْ خِفْتُمْ ﴾، من عدو أو غيره، ﴿ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً ﴾ : فصلوا راجلين وراكبين مستقبلي القبلة وغيرها وعند أكثر السلف يومئ برأسه حيث كان وجهه، وفيه ١ دلالة على جواز الصلاة حال المشي والمضاربة وإن لم يكن الوقوف، ﴿ فَإِذَا أَمِنتُمْ ﴾ : زال خوفكم، ﴿ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾، أي : فصلوا كما علمكم الله بلسان نبيه ما لم تكونوا تعلمون من صلاة الأمن وقيل : إذا أمنتم فاشكروا الله واذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع.
١ عند أبي حنيفة يصلون في حال المشي والمسابقة ما لم يمكن الوقوف/١٢ منه.
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً ﴾، بالنصب أي : يوصون وصية، أو كتب الله عليهم وصية، وبالرفع أي : عليهم وصية، أو كتب عليهم وصية، أو حكم الذين يتوفون وصية، ﴿ لِّأَزْوَاجِهِم ﴾ : لنسائهم، ﴿ مَّتَاعاً ﴾، ناصبه يوصون، أو وصية في قراءة الرفع على حذف الجار أي : بتمتيع، ﴿ إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ١، مصدر مؤكد لأنه دل يوصون لأزواجهم ما يمتع به سنة على أنهن لا يخرجن فأكد، أو حال من الأزواج ٢ يعني وحق المتوفي ٣ أن يوصوا قبل أن يحتضروا، بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولا كاملا وينفق عليهن من تركته غير مخرجات من مساكنهن ٤، وهذا في ابتداء الإسلام ثم نسخت المدة بقوله : أربعة أشهر وعشرا والنفقة بالإرث، هذا ما عليه أكثر السلف ٥ فكانت الآية متأخرة في التلاوة متقدمة في النزول، ﴿ فَإِنْ خَرَجْنَ ﴾ : عن منزل الأزواج، ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾، يا أولياء الميت، ﴿ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ ﴾ : من التطيب وترك الحداد، ﴿ مِن مَّعْرُوفٍ ﴾ : مما لم ينكره الشرع، وهذا يدل على أنها كانت مخيرة بين الملازمة فأخذ النفقة وبين الخروج وتركها، ﴿ وَاللّهُ عَزِيزٌ ﴾ : لا يدفعه أحد عن الانتقام، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ : يرعى المصالح.
١ روى عن مجاهد وعطاء أنهما قالا: الآية غير منسوخة، ومعناها: أن للزوجات السكنى سنة كاملة في بيت أزواجهن، لا يمنعن من ذلك وإذا انقضت عدتهن بمضي أربعة أشهر وعشر أو بوضع الحمل، واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فلهن الاختيار، وهذا مذهب جماعة واختاره ابن تيمية رحمه الله عليه/١٢ منه.
٢ أي: غير مخرجات/١٢.
٣ المراد من المتوفى الجنس، فيرجع ضمير الجمع إليه/١٢.
٤ أي: المساكن التي كن فيها حين حياة أزواجهن/١٢.
٥ روى عن مجاهد وعطاء أنهما قالا الآية غير منسوخة ومعناها أن للزوجات السكنى سنة كاملة في بيت أزواجهن ولا يمنعن من ذلك، وإذا انقضت عدتهن بمضي أربعة أشهر وعشر أو بوضع الحمل واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فلهن الاختيار وهذا مذهب جماعة واختاره ابن تيمية رحمة الله عليه/١٢.
﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ : الذين يتقون الشرك، لما نزل في المتعة :" حقا على المحسنين "، قال رجل : إن شئت أحسنت وإن شئت لم أفعل، فنزلت، وكثير من العلماء استدلوا بهذه الآية على أن المتعة لكل مطلقة ١.
١ وهو أحد قولي الشافعي، وقال بعضهم: هو الجديد الصحيح، وأجابوا بأن الآية المتقدمة بعض أفراد العموم فلا تخصيص/١٢.
﴿ كَذَلِكَ ﴾، مثل أحكام الطلاق والعدة، ﴿ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ﴾ : في إحلاله وتحريمه، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ : تفهمون وتدبرون.
﴿ أَلَمْ تَرَ ١ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ ٢ مِن دِيَارِهِمْ ﴾ : فراراً من الطاعون، ﴿ وَهُمْ أُلُوفٌ ﴾ : أربعة آلاف، أو ثمانية وأربعون ألفا والاختلاف كثير، ﴿ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾، مفعول له، ﴿ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ ﴾ : في أثناء طريقهم، ﴿ مُوتُواْ ﴾، أي ٣ : حكم عليهم بالموت، فماتوا ليعلموا أن لا فرار من قدر الله، ﴿ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ﴾، بمعجزة نبي، ثم دعا ربه بعد مدة طويلة أن يحييهم ٤ وهم قائلون : سبحانك لا إله إلا أنت، وكان فيها عبرة ودليل قاطع على المعاد الجسماني، ﴿ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ﴾ : حيث أحياهم ليعتبروا ويصدقوا رسله، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾، حيث لم يعتبروا.
١ خطاب عام لكل أحد وإن لم ير ولم يسمع لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجب، دلالة على شيوع القصة وشهرتها، بحيث ينبغي لكل أحد أن يتعجب منها وصلة الرؤية بإلى إن كانت بمعنى الإبصار، فلاعتبار معنى النظر، وإن كانت إداركاً بالقلب، فللتضمين على معنى: ألم ينته علمك إليهم/١٢.
٢ ذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء كانوا أهل بلدة في زمن بني إسرائيل، وعن ابن عباس أن اسم البلدة داوردان من قبل واسط، فلما ماتوا حين فروا من الطاعون مر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل فدعا الله بإحيائهم فأحياهم/١٢ منه.
٣ وعبر بإماتتهم الله بهذه العبارة دلالة على أن موتهم كان شيئا بامتثال أمر واحد من آمر مطاع، لا يتوقف في امتثاله، فيكون دفعة خارجاً عن العادة في موت الجماعات/١٢.
٤ أي: فأحياهم وهم قائلون/١٢.
وكان سوق هذه القضية بعث على الجهاد فلذلك قال :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ : لما علمتم أنه لا ينفع الفرار من الموت، ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ ﴾ : لما يقوله المتخلف، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : بما يضره.
﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ ﴾، مبتدأ وذا خبره والذي صفة ذا وإقراض الله مثل ١ لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه، ﴿ قَرْضاً حَسَناً ٢، وهو الإنفاق في سبيله، ﴿ فَيُضَاعِفَهُ ٣ لَهُ أَضْعَافاً ﴾، نصب على ٤ الحال من الضمير المنصوب، أو على المصدر على أن الضعف اسم المصدر، وجمعه للتنويع، ﴿ كَثِيرَةً ﴾، عن ٥ ابن عمر لما نزلت " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة " ٦ الآية، قال عليه السلام : رب زد أمتي، فنزلت " من ذا الذي يقرض الله " ٧ إلخ، قال رب زد أمتي فنزلت " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " ٨، ﴿ وَاللّهُ يَقْبِضُ ﴾ : يمسك الرزق، ﴿ وَيَبْسُطُ ﴾ : يوسع على ما أراد فلا تبخلوا، ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ : فيجازيكم على ما قدمتم.
١ كما مثل بذل المال في أخذ الجنة بالبيع والشراء/١٢ وجيز.
٢ "قرضا" إما مفعول به، لأنه ما يعطى من المال وكلام الزمخشري يشعر بهذا، وإما مفعول مطلق، أي: إقراضاً حسنا من طيب نفس وقيل: حال من ثاني مفعولي "يقرض الله" المحذوف، أي: يقرض شيئا حال كون الشيء مقرضاً حسناً حلالاً/١٢.
٣ من قرأ "يضاعفه" بفتح الفاء فعلى الجواب الاستفهام حملا على المعنى: فإن "من ذا الذي الذي يقرض الله" في معنى أيقرض الله أحداً/١٢.
٤ قيل مفعول ثان ليضاعف بتضمين معنى النصير/١٢.
٥ رواه ابن أبي حاتم/١٢ [وذكره الهيثمي في "المجمع" (٣/١١٢) وعزاه إلى الطبراني في الأوسط وقال: "فيه عيسى بن المسيب"]..
٦ البقرة: ٢٦١.
٧ البقرة: ٢٦١.
٨ الزمر: ١٠.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ ﴾، أي : الجماعة، ﴿ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ ﴾ : وفاة، ﴿ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ﴾، أشمويل، أو شمعون أو يوشع ﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً ﴾ : أنهض أميرا لنا للقتال ننتهي إلى أمره، ﴿ نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ جزمه على الجواب، ﴿ قَالَ ﴾ : لهم نبيهم، ﴿ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ ﴾، هو خبر عسيتم، والشرط فاصل بينهما، يعني : أتوقع جبنكم عن القتال إن كتب ١ عليكم، وأدخل هل مستفهما عما هو المتوقع عنده تقريراً وتثبيتاً، ﴿ قَالُواْ وَمَا لَنَا ﴾، أي : داع لنا، ﴿ أَلاَّ نُقَاتِلَ ﴾، أي : إلى أن نترك القتال، ﴿ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا ﴾، أي : أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ ﴾ : عن الحرب، ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾، قيل : ثلاثمائة وثلاثة عشر، ﴿ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ : فيجازيهم على ظلمهم في ترك الجهاد.
١ يعني لما كان المقصود مضمون الخبر، يعني: أن لا تقاتلوا خبر عسيتم كانت القيود من الاستفهامية والتوقع، ونحو ذلك عائدة إليه، حتى كأنه حاول إثبات تركهم المقاتلة، فقيده بأنه على سبيل التوقع دون الجزم، ثم بكونه مستفهماً عنه للتقرير، بل التحقيق أن الشرط أيضا قيد فيه لا في التوقع/١٢.
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً ﴾ أميراً سألتموه للقتال، ﴿ قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ ﴾ : من أين يستأهل الإمارة ؟ ﴿ عَلَيْنَا وَنَحْنُ ١ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴾، لأنه لم يكن من سبط يهوذا ٢، والملك كان في سبطه، قيل : إنه سقاء، وقيل : دباغ، ﴿ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ﴾، أي : وهو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك، ﴿ قَالَ ﴾ لهم نبيهم ﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ﴾، أجاب عن اعتراضهم أولا بأنه لست أنا الذي عينته، بل الله أمرني به، وهو أعلم منكم، وثانيا بقوله، و﴿ زَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾ : ووفور العلم وقوة البدن عماد الملك لأنه أعرف بطرق السياسة ولأنه أقوى على مقاومة العدو، وثالثا بقوله، ﴿ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ﴾، أي : هو مالك الملك، فله أن يؤتيه من يشاء من غير اعتراض عليه، ورابعا : بقوله، ﴿ وَاللّهُ وَاسِعٌ ﴾ : يوسع على الفقير فيغنيه، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : بمن يليق بالملك نسيبا أو غيره.
١ الواو في "ونحن" حال من ضمير له، والواو في "ولم يؤت" عطف على الجملة الحالية، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير "علينا" لأن و "لم يؤت" لا يصلح أن يكون حالا منه والحال ضمير له لا غير لأن و "لم يؤت" حال منه البتة/١٢.
٢ (*) في الأصل: يهودا، بالدال.
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ ﴾، لما طلبوا دليلاً على أن الله اصطفى طالوت، ﴿ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ﴾ : صندوق أخذ العمالقة منهم، ﴿ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ : وقار ١ ورحمة، من ذهب الجنة تغسل فيه قلوب الأنبياء، فوضع موسى فيه الألواح ٢، وروح من الله إذا اختلفوا في شيء يخبرهم ببيان ما يريدون، وفيه أقوال ٣ أخر، وفي الجملة في أي مكان كان فيه تطمئن القلوب، ﴿ وَبَقِيَّةٌ ٤ مِّمَّا تَرَكَ ٥ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ ﴾ عصاه ٦ ورضاض الألواح والتوراة، وقيل : ثياب هارون وقفيز من المن، ﴿ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ ﴾ : جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض، حتى وضعته بين يدي طالوت، والناس ينظرون، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾، أي : رجوع التابوت، ﴿ لآيَةً لَّكُمْ ﴾ : علامة لصدقي في اصطفائه، ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏ ﴾ : مصدقين، وهذا من تتمة كلام ذلك النبي عليه السلام، وجاز أن يكون ابتداء خطاب من الله.
١ هذا قول ابن عباس وقتادة، وقيل في الصندوق: توراته/١٢.
٢ رواه عبد الرزاق عن وهب بن منبه/١٢.
٣ فعن علي: كان لها وجه كوجه الإنسان وفيها ريح حفافة، أي: مصوتة أو شيء يشبه الهرة، وكانوا إذا سمعوا تيقنوا بالنصر/١٢ منه، أقول هذه التفاسير المتناقضة لعلها وصلت إلى هؤلاء الأعلام من جهة اليهود أقمعهم الله، فجاءوا بهذه الأمور لقصد التلاعب بالمسلمين والتشكيك عليهم، وانظر إلى جعلهم لها تارة حيوانا، وتارة جمادا، وتارة شيئا لا يعقل، وهكذا كل منقول عن بني إسرائيل يتناقض ويشتمل على ما لا يعقل في الغالب، ولا يصح أن يكون مثل هذه التفاسير المتناقضة مرويّا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا رأيا رآه قائله فهم أجل قدرا عن التفسير بالرأي، وبما لا مجال للاجتهاد فيه، إذا تقرر ذلك، عرفت أن الواجب الرجوع في مثل ذلك إلى معنى السكينة لغة، وهو معروف ولا حاجة إلى ركوب هذه الأمور المتعسفة المتناقضة، فقد جعل الله عنها سعة، ولو ثبت لنا في السكينة تفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم، لوجب علينا المصير إليه، والقول به، ولكنه لم يثبت من وجه صحيح، بل ثبت أنها تنزلت على بعض الصحابة عند تلاوته للقرآن، كما في صحيح مسلم عن البراء بن عازب، قال: "كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعل الفرس ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: تلك السكينة نزلت للقرآن" [ظاهر هذا العزو يشعر بأن مسلما أخرجه دون البخاري، وهذا غير صحيح، فقد أخرجه البخاري في "فضائل القرآن" (٥٠١١)، ومسلم في صلاة المسافرين] وليس في هذا إلا أن هذه التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكينة سحابة دارت على ذلك القارئ، فالله أعلم، فعلى هذا كل شيء كانوا يسكنون إليه فهو سكينة/م.
٤ لم يعين الله البقية والاختلاف كثير/١٢ وجيز.
٥ أراد من آلهما الأنبياء من بني يعقوب بعدهما، أو الآل مقحم زيد لتفخيم شأنهما/١٢.
٦ الأول لابن عباس، والثاني لقتادة وعكرمة والسدي/١٢.
﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ﴾، انفصل بهم عن بلده لقتال العمالقة، وكانوا ثمانين ألفا، ﴿ قَالَ ﴾، لهم طالوت، ﴿ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم ﴾ : يعاملكم معاملة المختبر، ﴿ بِنَهَرٍ ﴾ : هو بين الأردن وفلسطين، ﴿ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ ﴾، أي : شرب بفمه من النهر، ﴿ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾ : ليس من أشياعي فلا يصحبني، ﴿ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾، من طعم الشيء، إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا، ﴿ إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾، استثناء منقطع ١ من قوله فمن شرب، ﴿ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾، أي : وقع أكثرهم في النهر وكرعوا إلا قليلا، أو أفرطوا إلا قليلا، فإنه أيام الحر فكان من اغترف روى، ومن شرب منه لم يرو، والقليل ثلاث مائة وبضعة عشر، أو أربعة آلاف من ثمانين ألفا، ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ ﴾، أي : النهر، ﴿ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾، أي : القليل الذي لم يخالفوه، ﴿ قَالُواْ ﴾ : بعضهم لبعض، أو ضمير قالوا للذين خالفوا وشربوا، ﴿ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ ﴾ : لكثرتهم وقلتنا، ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ ﴾ : يعلمون، ﴿ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ ﴾ : تيقنوا لقاءه وثوابه، وهم العلماء من القليل، ومن قال ضمير قالوا للذين خالفوا، يقول : المراد من الذين يظنون، هم القليل بجملتهم، فهم والكثيرون تقاولوا بذلك والنهر بينهما، ﴿ كَم مِّن فِئَةٍ ﴾ : فرقة، وكم خبرية، أو استفهامية، ومن زائدة أو مبينة، ﴿ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ : بحكمه وأمره، ﴿ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ : بالنصر والإثابة.
١ لأن من اغترف ليس ممن شرب بمعنى كرع ولا ممن أفرط/١٢.
﴿ وَلَمَّا بَرَزُواْ ﴾ : ظهروا ودنوا، ﴿ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ ﴾ : أصبب وأنزل، ﴿ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾ : بتقوية قلوبنا، ﴿ وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾
﴿ فَهَزَمُوهُم ﴾ : كسروهم، ﴿ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ : بقضائه ونصره، ﴿ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾، كان في عساكر طالوت، وقد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشركه في أمره ونعمته، فوفى بوعده، ثم آل الأمر إلى داود، ﴿ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ﴾ : ملك بني إسرائيل، ﴿ وَالْحِكْمَةَ ﴾ : النبوة، ﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾، من صنعة الدروع ومنطق الطير، ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾، كما دفع العمالقة بجنود طالوت، ﴿ لَّفَسَدَتِ ١ الأَرْضُ ﴾ : بغلبة الكفار، أو بشؤمهم، ﴿ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ : فيدفع عنهم ببعضهم بعضا.
١ يعني بفساد الأرض، إما فساد الكفار وقتل المسلمين ونحو ذلك مما يفضي إلى خرابها، وإما إهلاك أهلها بالكلية لشؤم عموم الكفر وظهوره/١٢.
﴿ تِلْكَ ﴾، إشارة إلى حديث الألوف، والتابوت، وطالوت وجالوت، ﴿ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ﴾ : بالوجه المطابق، ﴿ وَإِنَّكَ ﴾ : يا محمد، ﴿ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ : ومنها يعلم رسالتك، حيث تخبر بها عن تلك المغيبات من غير أن تقرأ وتسمع، أو إنك منهم، فلا بد أن تصبر كما صبروا.
﴿ تِلْكَ ١ الرُّسُلُ ﴾ : المذكورة قصصهم، أو اللام للاستغراق، ﴿ فَضَّلْنَا ٢ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾، بأن خصصناه بمنقبة، وإن استووا في القيام بالرسالة، ﴿ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ ﴾ : هو موسى كلَّمه في الطور، قيل : هو ومحمد عليهما الصلاة والسلام كلمه ليلة المعراج، ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾، أي : محمدا عليه الصلاة والسلام، فخواصه أكثر، وأبهمه ٣ لأنه متعين الرجحان، وقيل : إبراهيم، وقيل : إدريس، وقيل أولو العزم، ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ﴾ : الحجج القواطع، خصه بالذكر لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه، ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٤ الْقُدُسِ ﴾ : بجبريل عليه السلام، كان يسير معه حيث سار، ﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ ﴾، هداية الناس واتفاقهم، ﴿ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم ﴾ : من بعد الرسل، فلا يختلفون في الدين، ولا يكفر بعضهم بعضا، ﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ : الواضحات، ﴿ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ ﴾ : ثبت على الإيمان بتوفيقه، ﴿ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ﴾ : كالنصارى، صاروا فرقاً وتحاربوا، ﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ ﴾، كرره تأكيدا ليعلم كل أحد أنه من عند الله لا من عند أنفسهم، ﴿ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ فيوفق بعضهم فضلا، ويخذل بعضهم عدلا.
١ أي: تلك الرسل التي ثبت علمهم عندك/١٢.
٢ اعلم أنه لا تعارض بين هذه الآية وبين حديث الصحيحين، عن أبي هريرة مرفوعا "لا تفضلوني على الأنبياء"، وفي لفظ: "لا تخيروا بين الأنبياء" فإن القرآن دلى على أن الله فضل بعض أنبيائه على بعض، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن نفضل بعضهم على بعض، فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله تعالى، وليست معلومة عندنا، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلا وهذا مفضولا قبل العلم ببعضها أو بأكثرها أو بأقلها فإن ذلك تفضيل بالجهل وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له، وهو ممنوع منه، فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن بالإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض، لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفضلوا بين الأنبياء، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك؟ وإذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن والسنة بوجه من الوجوه، فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضل بعض أنبيائه على بعض، والسنة فيها النهي لعباده أن يفضلوا بين أنبيائه، فمن تعرض للجمع بينهما زاعما أنهما متعارضان فقد غلط غلطا بينا/١٢ فتح.
٣ ولا يخفاك أن الله سبحانه أبهم هذا البعض المرفوع، فلا يجوز لنا التعرض للبيان له إلا ببرهان من الله سبحانه أو من نبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يرو ما يرشد إلى ذلك، فالتعرض لبيانه هو من تفسير القرآن الكريم بمحض الرأي، وقد عرفت ما فيه من الوعيد الشديد، مع كون ذلك ذريعة إلى التفضيل بين الأنبياء، وقد نهينا عنه، وقد جزم كثير من أئمة التفسير أنه نبينا صلى الله عليه وسلم، وأطالوا في ذلك واستدلوا بما خصه الله به من العمجزات ومزايا الكمال وخصال الفضل، وهم بهذا الجزم بدليل لا يدل على المطلوب، وقد وقعوا في خطرين وارتكبوا نهيين، وهما تفسير القرآن بالرأي، والدخول في ذرائع التفضيل بين الأنبياء، إن لم يكن ذلك تفضيلا صريحا فهو ذريعة إليه بلا شك وشبهة لأن من جزم بأن هذا البعض المرفوع درجات هو النبي الفلاني انتقل من ذلك إلى التفضيل المنهي عنه، وقد أغنى الله نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ذلك بما لا يحتاج معه إلى غيره من الفضائل والفواضل، فإياك أن تتقرب إليه صلى الله عليه وسلم بالدخول في أبواب نهاك عن دخولها، فتعصيه وتسيء وأنت تظن أنك مطيع محسن/١٢ فتح.
٤ قد فسرنا من قبل روح القدس بمعان مختلفة، فما أعدنا إلا الأصح/١٢ منه، وقد ذكر المصنف في الحاشية من قبل أن هذا قول أكثر الصحابة، وورد في ذلك أحاديث صحاح/١٢.
﴿ يَا أَيُّهَا ١ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم ﴾، أراد الزكاة المفروضة، أو الإنفاق في سبيل الخير مطلقاً، ﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ ﴾، فتحصلون ما تنفقونه، أو تفتدون به من العذاب ﴿ وَلاَ خُلَّةٌ ﴾، حتى يعينكم، " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " ٢، ﴿ وَلاَ شَفَاعَةٌ ﴾، حتى تتكلوا على شفعاء، إلا لمن أذن له الرحمن ورضى له قولا، ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون ﴾، قيل : وضع الكافرون موضع التاركون للزكاة تغليظا، ويمكن أن يكون المراد منه : والكافرون هم الذين يضعون الأشياء غير موضعها، فلا تكونوا أيها المؤمنون مثلهم، في ألا تنفقوا، فتضعوا أموالكم غير موضعها.
١ ولما ذكر دفع الله الناس بعضهم ببعض، والدفع لا بد له من إنفاق فحرص المؤمنين عليه، فقال: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا" الآية/١٢ وجيز.
٢ الزخرف: ٦٧.
﴿ اللّهُ ١ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ : هو المتفرد بالألوهية للكائنات، ﴿ الْحَيُّ ﴾ : في نفسه لا يموت أبدا، ﴿ الْقَيُّومُ ﴾ : دائم القيام بتدبير الخلق، ﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ﴾ : فتور يتقدم النوم، أي : لا تأخذه سنة بلا نوم، ﴿ وَلاَ نَوْمٌ ﴾ : فلا يستغني ذكر أحدهما عن الآخر، وفي تقديم السِّنة مراعاة ترتيب الوجود، وهو كالمبين ٢ للحي القيوم ٣، ﴿ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ : ملكا وخلقاً، تقرير لقيوميته، وتفرده بالألوهية، ﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ ٤، بيان لعظمته وجلاله، ونفي لزعم الكفار أن الأصنام شفعاء، ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ : ما قبلهم، أو أمور الدنيا، أو ما يعلمون، أو ما حضر عندهم، والضمير لما في السموات وما في الأرض، فإن فيهم العقلاء، ﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾، ما بعدهم، أو أمور الآخرة، أو ما لا يعلمون، أو ما غاب عنهم، ﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ ﴾ : من معلوماته، ﴿ إِلاَّ بِمَا شَاء ﴾ : أن يعلموا، ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾، الكرسي : العلم ٥، أو الكرسي المشهور ٦ وهو يدل على عظمته، وقيل : هو الملك والسلطنة، ﴿ وَلاَ يَؤُودُهُ ﴾، لا يثقلها ٧، ٨ : السموات والأرض، والإضافة إلى المفعول، ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ ٩ : ذاتاً وقدراً وقهراً، المتعالي عن الأنداد، ﴿ الْعَظِيمُ ١٠ : كل شيء دونه حقير.
١ ولما ذكر اختلاف العباد في الانقياد والعناد، واعتماد بعضهم على شفاعة الآباء، بين لهم أنه متفرد بالألوهية، وهو المدبر القائم على كل شيء، لا حراك لأحد إلا بإرادته، وهو العالم بذرات العالم من الجواهر والأعراض والمقاصد والأغراض فقال: "الله لا إله إلا هو"/ ١٢ وجيز.
٢ لأن من جاز عليه النوم، جاز عليه الموت، فلا يكون حيّا ولا يكون قيوماً/١٢ منه.
٣ فلهذا لم يأت بينهما بالعاطف/١٢.
٤ وفيه من الدفع في صدور عبّاد القبور، والصك في وجوههم، والفت في أعضادهم ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، والذي يستفاد منه فوق ما يستفاد من قوله تعالى: "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى" [الأنبياء: ٢٨]، وقوله تعالى: "وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى" [النجم: ٢٦]، وقوله تعالى: "لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن" [النبأ: ٣٨] بدرجات كثيرة/١٢.
٥ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وروى عن سعيد بن جبير مثله/١٢.
٦ قوله: أو الكرسي المشهور، أي: الذي هو تحت العرش، روى الحاكم وصححه، وابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي، أنه عليه الصلاة والسلام "قال: والذي نفسي بيده ما السماوات السبع عند الكرسي إلا حلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة"/١٢ منه. وفي الفتح، والظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته، وقد نفى وجوده جماعة من المعتزلة وأخطئوا في ذلك خطأ بيّناً وغلطوا غلطا فاحشاً، وما قال التفتازاني والبيضاوي: إنه من باب إطلاق المركب الحسي المتوهم على المعنى العقلي المحقق ولا كرسي في الحقيقة، ولا قاعد وهو تمثيل مجرد – فقول باطل، ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلا مجرد خيالات تتسبب عن جهالات وضلالات عن الفلاسفة أقمأهم الله تعالى. انتهى. وفي الدر المنثور للشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله [١/٥٨٠]. أخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدارقطني في الصفات، والطبراني وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، والبيهقي، والخطيب عن ابن عباس قال: الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر أحد قدره، وأخرج ابن جرير وابن المنذر، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن أبي موسى الأشعري قال: الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل، وأخرج عبد بن حميد وابن أبي عاصم، في السنة والبزار وأبو يعلى وابن جرير، وأبو الشيخ في العظمة، والطبراني وابن مردويه عن عمر قال: "أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يدخلني الجنة، فعظم الرب تبارك وتعالى وقال: إن كرسيه وسع السموات والأرض، وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله، ما يفضل منه أربع أصابع" انتهى/١٢ [حديث عمر هذا قال عنه الشيخ الألباني: منكر، راجع كلامه في الضعيفة]، (وعلمه التأويل وفقهه في الدين آمين) [وقعت هذه العبارة هكذا في الأصل]، وفي كتاب العرش للحافظ الذهبي بعد نقله حديث عمر هذا، هذا حديث محفوظ عن أبي إسحاق السبيعي إمام الكوفيين في وقته، سمع من غير واحد من الصحابة وأخرجا حديثه في الصحيحين، وتوفي سنة سبع وعشرين ومائة، تفرد بهذا الحديث عن عبد الله بن خليفة من قدماء التابعين، لا نعلم حاله بجرح ولا تعديل، لكن هذا الحديث حدث به أبو إسحاق السبيعي مقرا له كغيره من أحاديث الصفات، وحدث به كذلك سفيان الثوري، وحدث به أبو أحمد الزبيري، ويحيى بن أبي بكر ووكيع عن إسرائيل، وأخرجه أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة والرد على الجهمية له عن أبيه عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن عبد الله بن خليفة عن عمر رضي الله عنه، ولفظه: إذا جلس الرب على الكرسي سمع له أطيطا كأطيط الرحل الجديد، ورواه أيضا عن أبيه، حدثنا وكيع بحديث إسرائيل، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه، إذا جلس الرب على الكرسي، فاقشعر رجل، سماه أبي، عند وكيع فغضب وكيع وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذا الحديث ولا ينكرونها، قلت: وهذا الحديث صحيح عند جماعة من المحدثين، أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في صحيحه، وهو من شرط ابن حبان، فلا أدري أخرجه أم لا فإن عنده أن العدل الحافظ إذا حدث عن رجل لم يعرف بجرح فإن ذلك إسناد صحيح، فإذا كان هؤلاء الأئمة أبو إسحاق السبيعي والثوري والأعمش وإسرائيل وعبد الرحمن بن مهدي وأبو أحمد الزبيري ووكيع وأحمد بن حنبل وغيرهم، ممن يطول ذكرهم وعددهم، الذين هم سرج الهدى ومصابيح الدجى –قد تلقوا هذا الحديث بالقبول وحدثوا به، ولم ينكروه ولم يطعنوا في إسناده، فمن نحن حتى ننكره ونتحذلق عليهم، بل نؤمن به ونكل علمه إلى الله عز وجل، قال الإمام أحمد: لا نزيل عن ربنا صفة من صفاته بشناعة شنعت وإن نبت عنه الأسماع، فانظر إلى وكيع بن الجراح الذي خلف سفيان الثوري في علمه وفضله، وكان يشبه به في سمته وهديه، كيف أنكر على ذلك الرجل وغضب لما رآه قد تلون لهذا الحديث وتذكر ما حفظ عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم بأن الله في السماء على العرش، وذلك في حكم الأحاديث المرفوعة، لأنهم رضي الله عنهم لم يقولوا شيئا من ذلك، وقد أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم لا مساغ لهم في الاجتهاد في ذلك، ولا أن يقولوه بآرائهم، وإنما تلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم: من كان يعبد محمدا فإنه قد مات، ومن كان يعبد الله الذي في السماء فإنه حي لا يموت، أخرجه هكذا الدارمي بإسناد صحيح والبخاري في تاريخه من حديث نافع وأطال بذكر أقواله الخلفاء الأربعة خصوصا وسائر الصحابة عموما/١٢.
٧ (*) كذا في الأصل وعليه فالضمير يعود على العظمة، وهذا غير صحيح إذ الضمير في "ولا يؤده" المقصود به الله تعالى.
٨ حِفْظُهُمَا.
٩ الرفيع فوق خلقه، المتعالي عن الأنداد والأشباه، قاله البغوي، قال العلامة بن القيم في كتابه زاد المعاد: من ظن أنه ليس فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبته إلى أسفل السافلين فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن بأنه أسفل كما هو أعلى، ومن قال سبحان ربي الأسفل كما قال: سبحان ربي الأعلى، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه، ومن ظن به خلاف ما وصف به نفسه، أو وصف به رسوله [وقع في هامش الأصل هاهنا: أو عطل حقائق ما وصف به نفسه، أو وصف به رسوله] فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أن أحدا يشفع عنده بغير إذنه، وأن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، وأنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه، ويتوسلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم فيدعونهم في حاجاتهم إليه سبحانه وتعالى فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه/١٢.
١٠ الكبير الذي لا شيء أعظم منه/١٢ معالم.
﴿ لاَ إِكْرَاهَ ١ فِي الدِّينِ ﴾، نزلت في رجل مسلم له ابنان نصرانيان أراد إكراههما لدخولهما في الإسلام، فالحكم خاص بأهل الكتاب، أو منسوخ بآية القتال، وهو خبر بمعنى الأمر، وقيل : خبر حقيقة، إذ الإكراه إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيراً، لكن قد تميز الإيمان من الكفر بالحجج والآيات، فلا يحتاج إلى الإكراه، ولهذا قال :﴿ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾ : الشيطان، ﴿ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ ﴾ : طلب الإمساك من نفسه أو تمسك، ﴿ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ ﴾ : من الحبل الوثيق المحكم، ﴿ لاَ انفِصَامَ لَهَا ﴾ : المأمون من الإنقطاع، وهو الإيمان، ﴿ وَاللّهُ سَمِيعٌ ﴾ : بالأقوال، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : بالنيات.
١ ولما أوضح الدلائل للعالم وللجاهل صار الدين إلى حد لا يحتاج فيه منصف إلى إكراه فيه، فقال: "لا إكراه في الدين" جملة خبرية صورة ومعنى يدل عليه قوله: "قد تبين الرشد من الغي" الآية/١٢ وجيز.
﴿ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ : ناصرهم، ومتولي أمورهم، ﴿ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ ﴾ : الجهل، وهو أجناس كثيرة، ﴿ إِلَى النُّوُرِ ﴾ : الهدى والعلم، وهو واحد، والجملة خبر بعد خبر أو حال، ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾ : الشياطين يتولون أمورهم ويزينون الجهل لهم، ﴿ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ ﴾ : الفطري، أو لما كان سببا لعدم إيمانهم كأنه أخرجهم، ﴿ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، وعيد وتحذير.
﴿ أَلَمْ تَرَ ١ إِلَى الَّذِي حَآجَّ ﴾ : جادل، تعجب من حماقة نمرود، ﴿ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ﴾، أي : لأن آتاه، يعني : بطر الملك حمله على ذلك، ﴿ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﴾، ظرف لحاج، ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾، أي : الدليل على وجوده حدوث الأشياء بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها، فإنه يدل على وجود فاعل مختار، ﴿ قَالَ ﴾ : الذي حاج، ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ : بالعفو عن القتل والقتلى ٢، أو قاله عناداً ومكابرة، وأوهم أنه الفاعل لذلك، وهذا القول أظهر، ﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ٣ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾، أي : إذا كنت كما ادعيت ٤ من الإماتة والإحياء فمن هذا صفته هو المتصرف في الوجود، في خلق ذواته وتسخير الكواكب وحركاتها، وهذه الكواكب تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلاها تحيي وتميت فأت بها من المغرب !، ﴿ فَبُهِتَ ٥ الَّذِي كَفَرَ ﴾ : أخرس في هذا المقام، وصار مبهوتاً مغلوباً، ﴿ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ : الذين ظلموا أنفسهم بالاتباع عن الحق، قيل : لا يهديهم محجة الاحتجاج.
١ ولما بين أن الدين واضح بحيث لا احتياج فيه إلى إكراه، وأن متولي أمور المؤمنين هو الله، ومتولي أمور الكافرين الطاغوت –عقبه بالحكايتين والآيتين للتعجب عن حماقة نمرود الذي تولاه الطاغوت، وإبراهيم الذي ربه رب السموات والأرض، ولتوضيح البعث والنشور، فقال: "ألم تر إلى الذي حاج" الآية/١٢ وجيز.
٢ (*) يعني بأنا أحيي: العفو عن القتل، وأميت: والقتل.
٣ ذكر السدي، أن هذه المناظرة كانت بينهما بعد خرج إبراهيم من النار، ولم يكن اجتمع به إلا في ذلك اليوم/١٢ منه.
٤ اعلم أن التفسير على ما قررنا أحسن مما في أكثر التفاسير، إنه انتقال من دليل إلى أوضح منه، بل من الثاني على ما قررنا يعلم بطلان الأول فتأمل/١٢ منه.
٥ وقال: إن هذا إنسان مجنون فأخرجوه، ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها، وأن النار لم تأكله، وخشي أن يفتضح في قومه/١٢ در منثور.
﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ﴾، الأول في قوة قوله : أرأيت مثل الذي حاج، فعطف عليه بقوله :" أو كالذي "، وقيل : الكاف مزيدة والمار عزير، أو الخضر ١، أما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس، حين خربه بختنصر، ﴿ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ : ساقطة على سقوفها، أي : خرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، أو من خوى إذا خلا، أي : خالية مع سلامة عروشها، ﴿ قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ : استبعاداً لتعميرها بعد شدة خرابها، والظاهر أن المراد به أهل القرية، فيكون استعظاماً لإحيائها، ﴿ فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ﴾، أي : فألبثه ميتا مائة عام، أراه آية في نفسه، ﴿ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾ : بالإحياء، ﴿ قَالَ ﴾ : الله لو بواسطة ملك، أو بلا واسطة، ﴿ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾، كقول الظان، ﴿ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ ﴾، ذكر أن معه عنبا وتينا وعصيرا، فالطعام الأولان، والشراب الأخير، ﴿ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾ : لم يتغير لا العنب والتين تعفنا، ولا العصير استحال، أفرد الضمير، لأنهما كجنس واحد، ﴿ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ﴾، كيف تفتت عظامه، حتى تعلم مكثك مائة سنة، ﴿ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ﴾، أي : وفعلنا ذلك لنجعلك، وقيل عطف على مقدر، أي : فعلنا ذلك ليزداد بصيرتك ولنجعلك، قيل : كان هو أسود الشعر وبنو بنيه شيب، ﴿ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ ﴾ : عظام الحمار، ﴿ كَيْفَ نُنشِزُهَا ﴾ : نحييها، أو نرفعها، فنركب بعضها على بعض، والجملة حال من العظام، وكيف منصوب بننشزها، ﴿ ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ﴾ : ما أشكل عليه، قيل : تقديره لما تبين له أن الله على كل شيء قدير، ﴿ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، ففاعل تبين مضمر يفسره ما بعده، أي : صار العلم عينيا بعدما كان غيبيّا.
١ منقول عن وهب بن منبه/١٢ منه.
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ﴾، ذكروا لسؤاله أسباباً منها، أنه لما قال لنمرود : ربي الذي يحيي ويميت، أحب أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، ومنها أنه رأى جيفة أكلتها السباع والطيور فسأل، ﴿ قَالَ ﴾ : الله، ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن ﴾ : بأني قادر على الإحياء، قال له ذلك ليجيب بما أجاب، فيعلم الناس غرضه، أي : أتنكر ولم تؤمن ؟، ﴿ قَالَ بَلَى ﴾، آمنت، ﴿ وَلَكِن ﴾، سألت، ﴿ لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾، بالمعاينة، ﴿ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ ﴾، اختلفوا في أنها ما هي، قيل : غرنوق وطاوس وديك وحمامة، ﴿ فَصُرْهُنَّ ١ إِلَيْكَ ﴾، أي : قطعهن منضمات إليك، أو اضممهن إليك لتعرف شأنها لئلا تلتبس عليك بعد الإحياء، ﴿ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ ﴾ : من الجبال التي بحضرتك، وكانت أربعة أو سبعة، ﴿ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ﴾، تقديره على المعنى الثاني : فصرهن وجزّئهن، ثم اجعل إلخ، ﴿ ثُمَّ ادْعُهُنَّ ﴾ : قل تعالين، ﴿ يَأْتِينَكَ سَعْياً ﴾ : ساعيات مسرعات، أمر بخلط ريشها ولحومها ففعل، وأمسك رؤوسها ثم دعاهن فجعلت أجزاءهن يطير بعضها ببعض، حتى اتصلت ثم أسرعن إلى رؤوسهن، ﴿ وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ﴾ : لا يعجزه شيء، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ : في تدبيره.
١ صرت الشيء: قطعته وفصلته/١٢ منه.
﴿ مَّثَلُ ١ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ : في طاعته أو الجهاد أو هو والحج، ﴿ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ﴾ حث على الخير بعد أدلة التوحيد، وتقديره : مثل نفقتهم كمثل، أو مثلهم كمثل باذر حبة، ﴿ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ ٢ أي : يخرخ منها ساق له سبع شعب لكل منها سنبلة فيها مائة حبة، وهذا تمثيل لا يجب وجوده ﴿ وَاللّهُ يُضَاعِفُ ﴾ : تلك المضاعفة، أو على تلك المضاعفة ويزيد عليها ﴿ لِمَن يَشَاءُ ﴾، بحسب الإخلاص ﴿ وَاللّهُ وَاسِعٌ ﴾ : لا يضيق عليه الإنفاق ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : بقدر الإنفاق ونياتهم.
١ ولما ذكر قصتين هما أدل دليل على البعث، أخذ يبين ما ينتفع به يوم البعث، وفيه أيضا ما يدل على البعث، فقال: "مثل الذين ينفقون" الآية/١٢ وجيز.
٢ وهذا العدد يوجد في الذرة/١٢ وجيز.
﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ ١ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً ﴾ : لا بقول ولا بفعل على من أعطوه ﴿ وَلاَ أَذًى ٢ : لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها، ثم للتفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى ﴿ لَّهُمْ ٣ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ : بلا منة أحد ﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ : من أهوال القيامة، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، على ما فات منهم.
١ ولما بين مضاعفة الإنفاق لمن يشاء وأبهمه، بين نوع تبيين لمن يشاء فقال: "الذين ينفقون أموالهم"/١٢.
٢ والأذى شامل لـ "المن" خصصه أولا، لأنه كثير الوقوع، والمن من الكبائر، ففي مسلم: "أن المال أحد من الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم" [أخرجه مسلم في "الإيمان"، (١/٣٠٤)، ومن الأذى أن تقول: ما أشد إلحاحك، وخلصنا الله منك/١٢ وجيز.
٣ قيل: ترك الفاء في الخبر مع أن المبتدأ متضمن لمعنى الشرط، لإبهام أنهم أهل لذلك، وإن لم يفعلوا، فكيف بهم إذا فعلوا؟/١٢.
﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾ : كلام حسن ورد جميل، ﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ : عفو عن ظلم، أو تجاوز عن استطالة السائل، ﴿ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ ﴾ : عن إنفاق كل منفق، ﴿ حَلِيمٌ ﴾ : لا يعجل في العقوبة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ ﴾، ثواب ﴿ صَدَقَاتِكُم ١ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ ﴾، أي : كإبطال ٢ المنافق الذي ينفق، ﴿ رِئَاء النَّاسِ ﴾، نصب على المفعول له ٣ أي : كمن يتصدق لأجل مدحة الناس وشهرته بالصفات الجميلة، مظهراً أنه يريد وجه الله، ﴿ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ ﴾ أي : مثل المرائي، أو مثل من أتبع إنفاقه منّا أو أذى، ﴿ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ﴾ : حجر أملس، ﴿ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ﴾ : مطر كبير القطر، ﴿ فَتَرَكَهُ صَلْداً ﴾ : أملس تقيّا من التراب، كذلك أعمال المرائين تضمحل عند الله، وإن ظهر لهم أعمال مما يرى الناس كالتراب ﴿ لاَّ يَقْدِرُونَ ﴾، الضمير للذي ينفق، باعتبار المعنى فإنهم كثيرون ﴿ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾، لا ينتفعون بما فعلوا ﴿ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾، الخير وفيه إيماء إلى أن الرياء من صفة الكفار، فعلى المؤمن أن يحذر عنها.
١ نصح المؤمنين عناية وإحسانا بأنواع من العبارات الرادعة من تلك الخصلة الرديئة والفعلة القبيحة/١٢ وجيز.
٢ على هذا التفسير: الكاف في موضع المفعول المطلق على حذف المضاف، وقيل: جاز أن يكون حالاً من فاعل "لا تبطلوا" بلا حذف/١٢ منه.
٣ وقيل: على الحال، أي: مرائيا/١٢ منه.
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ : تصديقا وتيقنا من أصل أنفسهم أن الله سيجزيهم على ذلك، أو يثبتون أين يضعون صدقاتهم ﴿ كَمَثَلِ ١ جَنَّةٍ ﴾، أي : مثلهم في الزكاة كمثل بستان، ﴿ بِرَبْوَةٍ ﴾ : بموضع مرتفع، زاد ابن عباس والضحاك : فيها الأنهار ﴿ أَصَابَهَا وَابِلٌ ﴾ : مطر شديد ﴿ فَآتَتْ ﴾ : أعطت، ﴿ أُكُلَهَا ﴾ : ثمرتها، ﴿ ضِعْفَيْنِ ﴾، بالنسبة إلى غيرها من البساتين ﴿ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾ أي : فيصيبها طل وهو المطر الصغير القطر، يعني : نفقاتهم زاكية عند الله، وإن كانت تتفاوت بسبب أحوالهم، كما أن الجنة تثمر قلّ المطر أو كثر، أو يضعف ثواب صدقاتهم قلّت النفقة أو كثرت ﴿ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، تحذير عن الرياء وترغيب في الإخلاص.
١ مثل حالهم بحال الجنة، في أن نفقتهم كثرت أو قلّت زاكية، كما أن الجنة يضعف ثمرها قوى المطر أو ضعف، فلوحظ الشبه فيما بين المفردات، فلا يلزمنا حذف في الكلام أو تشبيه لحال النفقة حال الجنة، في كونها زاكية، كيف ما كانت الحال، فاحتاج حينئذ إلى تقدير المضاف، أي: مثل نفقة هؤلاء كمثل جنة/١٢ منه.
﴿ أَيَوَدُّ ﴾، الهمزة للإنكار ﴿ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ١ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾، هما لما كان أشرف وأنفع الأشجار جعل الجنة منهما تغليبا لهما، ثم ذكر سائر الأشجار ليدل على التغليب ﴿ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ ﴾ : كبر السن، فإن الفقر فيه أصعب، والواو للحال ٢ بتقدير : قد ﴿ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء ﴾ : صغار ونسوان ﴿ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ ﴾ : ريح عاصف ﴿ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ﴾، فصار أحوج ما كان إليها عند الشيخوخة وكثرة ضعاف الأولاد، والمثل لرجل ٣ غني يعمل بطاعة الله، ثم نكص على عقبيه فعمل آخر عمره بالمعاصي، حتى أغرق أعماله، أو للمنافق ٤ والمرائي فإنهم إذا ماتوا واحتاجوا غاية الاحتياج إلى أعمالهم، فقدوها بمرة، ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾، لكي تتفكروا فتعتبروا.
١ كأنه ليس في البستان إلا هذان النوعان من الأشجار، وهما الأصل والباقي كالفرع فافهم/١٢ منه.
٢ لا يجوز أن يكون عطفا على "تكون له جنة"، لأن أن المصدرية دخلت عليه، فصارت للاستقبال، فلا يجوز عطف الماضي عليه، فلهذا قلنا: الواو للحال/١٢ منه.
٣ هكذا رواه البخاري عن عمر وابن عباس رضي الله عنهم/١٢. [صحيح البخاري كتاب التفسير (٤٥٣٨)].
٤ وهذا منقول عن الحسن، ومروي عن ابن عباس أيضا/١٢ منه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ ﴾ : تصدقوا، ﴿ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ١ : حلاله وخياره ﴿ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ ﴾، أي : من طيبات ما أخرجنا من الحبوب والثمار والمعادن، ﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ﴾ : لا تقصدوا الرديء ٢، ﴿ مِنْهُ تُنفِقُونَ ٣، حال من الفاعل، أو من المفعول، ومنه متعلق به، والضمير للخبيث، أي تخصونه بالإنفاق، أو منه حال من الخبيث، والضمير للمال، كانت ٤ الأنصار يعلقون أقناء البسر على حبل في مسجد المدينة للفقراء، فتعمد الرجل منهم إلى الحشف، فأدخله مع أقناء البسر، فأنزل الله فيمن فعله " ولا تيمموا " إلخ، ﴿ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ﴾، أي : والحال أنكم لا تأخذونه في حقوقكم، إلا ٥ بإغماض بصر ومساهلة، فلا تجوزوا في حق الله ما لا تجوزون في حقوقكم، عن ابن عباس رضي الله عنهما ٦ معناه : لو كان لكم على أحد حق، فجاء بحق دون حقكم، لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ ﴾، عن إنفاقكم ﴿ حَمِيدٌ ﴾، بقبوله وإثباته.
١ قيل: فيه دليل على إباحة الكسب، وفي الحديث عن المقدام "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أكل أحد طعاما، خيراً من أن يأكل من عمل يده"، أخرجه البخاري/١٢ فتح. [وفي "البيوع"، باب: كسب الرجل وعمله بيده، (٢٠٧٢).
٢ روى الإمام أحمد أنه قال عليه الصلاة والسلام: "لا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك فيه، ولا يتصدق به فيتقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث"/١٢ منه. [أخرجه أحمد (١/٣٨٧) وضعف سنده العلامة أحمد شاكر في تعليقه على المسند (٣٦٧٢)، وكذا الشيخ الألباني كما في ضعيف الجامع (١٦٢٥).
٣ أي: لا تقصدوا المال الرديء، وفي الآية الأمر بإنفاق الطيب والنهي عن إنفاق الخبيث، وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن الآية في الصدقة المفروضة، وذهب آخرون إلى أنها تعم الفرض والتطوع، وهو الظاهر/١٢ فتح.
٤ رواه ابن جرير وابن ماجة وابن مردويه والترمذي والحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط مسلم/١٢. [وهو كما قال، وانظر صحيح سنن الترمذي (٢٣٨٩).
٥ إشارة إلى أنه حذف الجار، وهو متعلق بآخذيه، على معنى: لا تأخذونه بوجه من الوجوه إلا بالإغماض والتسامح/١٢ منه.
٦ فعلى هذا معناه: إلا أن تغوروا فيه وتفتشوا عن حاله، يقال: مسألة غامضة، أي: غير واضحة المعنى تطب الغور والتأمل/١٢ منه.
﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ﴾ : يخوفكم الفقر لتبخلوا ولا تنفقوا في مرضات الله، ﴿ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء ﴾ : بالبخل، أو المعاصي مطلقاً، ﴿ وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ ﴾، الوعد للخير والشر، أي : يعدكم ١ جزاء إنفاقكم مغفرة ذنوبكم، ﴿ وَفَضْلاً ﴾، خلفاً ٢ أفضل مما أنفقتم ﴿ وَاللّهُ وَاسِعٌ ﴾ : واسع الفضل ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : بالإنفاق.
١ قال الفراء: وعدته خيرا وشرا، فإذا أسقطوا الخير والشر، قالوا: في الخير الوعد والعدة، وفي الشر الإيعاد والوعيد/١٢.
٢ في الآخرة، أو في الدنيا، والخلف: العوض/١٢.
﴿ يُؤتِي الْحِكْمَةَ ١ : تفسير القرآن، أو الإصابة في القول، أو خشية الله، أو الفهم، أو السنة، أو الفقه في الدين، أو العقل، أو النبوة ٢، ﴿ مَن يَشَاءُ ﴾، مفعول أول، ﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾، في الحديث ٣ " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها "، ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ ﴾ : ما يتعظ بالآيات، ﴿ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ : ذوو العقول.
١ ولما حث على الإنفاق عن الطيب والاجتناب عن الخبيث، وعدم الخشية عن الفقر والرجاء بالمغفرة والفضل وعدم اتباع المن والأذى، حرض عبيده على قبول ما حث عليه بمدح العلم والعمل، فقال: "يؤتي الحكمة" الآية/١٢.
٢ الأول: لابن عباس، والثاني: لمجاهد، والثالث: لابن مسعود وأبي العالية، والرابع: للنخعي، والخامس: لابن مالك، والسادس: لمالك، والسابع: لزيد بن أسلم، والثامن: للسدي/١٢ منه.
٣ رواه البخاري ومسلم وغيرهما/١٢. [أخرجه البخاري في "العلم"، ومسلم في "صلاة المسافرين"]..
﴿ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ ﴾، قليلة أو كثيرة، حق أو باطل ﴿ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ ﴾، في طاعة، أو معصية ﴿ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ ﴾، فيجازيكم عليه ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ ﴾ : الذين يضعون المال في غير موضعه، ﴿ مِنْ أَنصَارٍ ﴾ : ينصرونهم ويمنعونهم من العقوبة.
﴿ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا ١ هِيَ ﴾ : إن أظهرتموها فنعم شيئا إبداؤها ﴿ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء ﴾، تعطوها مع إخفائها، ﴿ فَهُوَ ﴾، أي : إخفاؤها، ﴿ خَيْرٌ لُّكُمْ ﴾، والآية عامة في كل صدقة، لكن عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن السر في التطوع أفضل من العلانية بسبعين ضعفا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل بخمسة وعشرين ضعفا، ﴿ وَيُكَفِّرُ عَنكُم ﴾ أي : الله، أو الإخفاء، ومن قرأ مجزوما فهو عطف على محل جواب الشرط ﴿ مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ﴾، " من " للتبعيض ٢، أو لتبيين الجنس، أي يكفر شيئا، هو السيئات ﴿ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾، ترغيب في الإخفاء.
١ فضمير هي هو المخصوص بالمدح، لكن على حذف المضاف ليحسن ارتباط الجزاء بالشرط، ويدل عليه تذكير الضمير في "فهو خير لكم" فإنه يرجع إلى الإخفاء/١٢.
٢ فيكون من السيئات ما تكفرها الصدقة ومنها ما لا تكفرها.
﴿ لَّيْسَ ١ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ﴾ أي لا يجب عليك جعل الناس مهديين، فإنه ليس في يدك وقدرتك، ولكن الهداية من الله، ﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ ﴾ أي : ثوابه، فلا تمنوا على أحد، ﴿ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ ﴾، الواو حال، أو عطف، يعني : المؤمن لا ينفق إلا لمرضات الله، وقيل : نفي في معنى النهي، قال عطاء الخرساني : معناه : إذا أعطيت لوجه الله، فلا عليك ما كان عمله، فإنك مثاب لنيتك، سواء كان السائل مستحقا أو غيره، برا أو فاجراً ٢ ﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾ : ثوابه، ﴿ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾، فلا ينقص ثواب صدقاتكم، " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بأن لا يتصدق إلا على المسلمين، حتى نزلت ليس عليك هداهم، فأمر بالصدقة بعدها على كل سائل من كل دين ٣ "، وهذا في التطوع، أما الواجب ٤، فلا يجوز صرفه إلى الكافر.
١ ولما رغب في لزوم الهدي ووجوه الخير، وأكثرهم معرضون، لأن ما دعا إليه هادم لما جبلوا عليه من حب المال، صار صلى الله عليه وسلم شديد الوجد دائم الحزن، شفقة عليهم، فخفف عليه الوجد، فقال: "ليس عليك هداهم" الآية/١٢ وجيز.
٢ أجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلا إلى المسلمين، وجوز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة، وخالفه سائر العلماء في ذلك/١٢ فتح.
٣ يدل على هذا التفسير ما ثبت أن أسماء بنت أبي بكر حجت فأتتها أمها تسألها وهي مشركة فأبت أن تعطيها، فنزلت/١٢ منه. [أخرجه البخاري في "الأدب"، (٥٩٧٩)، ومسلم في "الزكاة"، (١٠٠٣).
٤ رواه بان أبي حاتم والنسائي عن ابن عباس/١٢ منه. [أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء عن ابن عباس مرفوعا، كما في الذر المنثور (١/٦٣١).
﴿ لِلْفُقَرَاء ١ أي : الصدقات لهم، وهم الأولى والأحق، وإن جاز صرفها إلى غيرهم كما علم من الآية الأولى ﴿ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾، حبسوا أنفسهم في الجهاد، أو أصحاب الصفة، الذين انقطعوا بكليتهم إلى الله ﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ ﴾ : ذهابا فيها للتجارة لاشتغالهم بالجهاد، أو بالله ﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ ﴾ بحالهم، ﴿ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾ من أجل تعففهم عن السؤال، ﴿ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ﴾ من التخشع وأثر الجهد والصفاء، ﴿ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً ﴾ أي : إن سألوا عن ضرورة لم يلحوا في السؤال، ﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾، ترغيب في الإنفاق سيما على من تعرفه بسيماه.
١ قال ابن عباس: هم أصحاب الصفة، يعني: فقراء المهاجرين، كانوا نحو أربع مائة رجل، لم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر، وكانوا يأوون إلى صفة في المسجد يتعلمون القرآن بالليل، وهم الذين حبسوا أنفسهم على الجهاد خاصة، أو طاعة الله عامة/١٢ فتح.
﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾ أي : يعُمُّون الأحوال بالخير، نزلت ١ في ربط الخيل يعلفونها دائما في سبيل الله، أو في علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- كان له أربعة دراهم فتصدق درهما ليلا، ودرهما نهارا، ودرهما سرّا، ودرهما علانية ٢، ﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ في القيامة، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ : على ما فات عنهم، قال تعالى :" لا يحزنهم الفزع الأكبر " ٣
١ الأول: رواه أبي حاتم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه يزيد بن عبد الله وأبوه لا يعرفان، كان قال الهيثمي في "المجمع" (٦/٣٢٤)، والثاني: رواه ابن أبي حاتم عن مجاهد بن جبير عن أبيه، وكذا رواه ابن جرير، ورواه ابن مردويه عن ابن عباس/١٢ منه.
٢ (*) ذكره الحافظ ابن كثير في "التفسير" (١/٣٢٧) وضعفه.
٣ الأنبياء: ١٠٣.
﴿ الَّذِينَ ١ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ﴾ لما ذكر الأبرار المخرجين للصدقات، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالظلم، وعبر عن الأخذ بالأكل، لأن الأكل أعظم المنافع، والربا شائع في المطعومات، ﴿ لاَ يَقُومُونَ ﴾ من قبورهم، ﴿ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ ﴾ أي : إلا قياما كقيام المصروع، ﴿ مِنَ الْمَسِّ ٢ أي : الجنون، وهو متعلق بلا يقومون، أو بيقوم، وفي الحديث " مر عليه السلام ليلة الإسراء على قوم بطونهم ٣ كالبيوت ٤، وأخبر أنهم أكلة الربا "، ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي : العقاب، ﴿ بِأَنَّهُمْ ﴾ : بسبب أنهم، ﴿ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾ : اعترضوا ٥ على أحكام الله، وقالوا : البيع مثل الربا، وإذا كان الربا حراما فلا بد أن يكون البيع كذلك، ﴿ وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ يحتمل ٦ أن يكون تتمة كلام المعترض المشرك، ويحتمل أن يكون من كلام الله ردا عليهم، أي : اعترضوا، والحال أن الله فرق بين هذا وهذا، وهو الحكيم العليم، ﴿ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾ : بلغه وعظ من الله، ﴿ فَانتَهَىَ ﴾ : فاتعظ وتبع النهي حال وصول الشرع إليه، ﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾ من المعاملة، أي : له ما كان أكل من الربا زمن الجاهلية، ﴿ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ ﴾ : يحكم يوم القيامة بينهم، وليس من أمره إليكم شيء، ﴿ وَمَنْ عَادَ ٧ إلى تحليله وأكله، ﴿ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ لكفرهم.
١ ولما ذكر الأبرار النافعين المنفقين، أتبعهم حال الأشرار الآكلين أموال الناس بالظلم فقال: "الذين يأكلون الربا"/١٢.
٢ وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن الصرع لا يكون من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع، وقال: إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان، وليس بصحيح وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتخبطه الشيطان، كما أخرجه النسائي وغيره/١٢.
٣ رواه البيهقي وابن ماجة والإمام أحمد/١٢. [وهو ضعيف، انظر ضعيف ابن ماجة (٤٩٦)، وضعيف الجامع (١١٣)].
٤ قيل: يقومون من قبورهم، فيسقطون كالمصروع لا يستطيع المشي والقيام من كبر بطونهم وثقلهم/١٢ منه.
٥ الظاهر أن مرادهم أن المحلِّل والمحرم أمرُكَ وشهوتُكَ، لا حكم الله سبحانه، فإنه لو كان حكم الله لكان الربا حلالا مثل البيع، والبيع حراما مثل الربا، فتأمل/١٢ منه.
٦ ولا شك مَنْ أحدٍ أن البيع حلال، فكذا الربا [حرام]/١٢. (ما بين المعقوفتين [] زيادة من عندنا ليست في الأصل أضفناها ليستقيم السياق).
٧ إلى الاعتراض "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" لأنهم كفروا، كما اعترض إبليس وكفر، هكذا فسره المفسرون من أهل السنة، والأصوب أن الأصوب تفسير الزمخشري، عفا الله عنه، وحاصله ومن عاد إلى الأكل والارتكاب، فإن الجزاء مرتب على مطلق المرتَكَبِ، لا على الكافر المرتَكِبِ، لأن كون الانتهاء في قوله: "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى" عبارة عن الانتهاء عن الفعل، يأبى أن يكون العود في قوله: "ومن عاد" عودا إلى الاعتقاد والاستحلال، وأيضا إذا كان خلود النار للاستخلالا.. إلخ، فجزاء مرتكب الفعل غير مذكور في الكلام، مع أنه المقصود الأتم الأهم، وإذا جعلنا الخلود جزاء الفعل، علم أن جزاء الاعتقاد الذي هو كفر فوقه بخلاف العكس، فالأولى أن نجعل هذه الآية طباق آية "ومن قتل مؤمنا متعمدا" [النساء: ٩٣] إلى آخره، ولا بد لنا من تأويلها، ومن أحسن التأويلات: أن ارتكاب بعض الكبائر من غير توبة ينجر إلى سوء العاقبة من القتل وأكل الربا/١٢ وجيز.
﴿ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا ﴾ : يذهب بركته، فلا ينتفع في الدنيا والآخرة به، قد ورد :" ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة ١ " ﴿ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ : يكثرها وينميها، وقد ٢ ورد " إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد ٣﴿ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ ﴾ : لا يرتضي، ﴿ كُلَّ كَفَّارٍ ﴾ : مصر على تحليل الحرام ﴿ أَثِيمٍ ﴾ : فاجر بارتكابه.
١ (*) أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما، وانظر صحيح الجامع (٣٥٤٢).
٢ رواه ابن ماجة والإمام أحمد/١٢ وجيز. [وهو حديث صحيح، وانظر صحيح الجامع (١٨١٥).
٣ يعني الداعي إلى الربا تحصيل المزيد، والصارف عن الصدقة الاحتراز عن النقصان، فبين أن الربا وإن كان زيادة في الحال إلا انه نقصان في الحقيقة والمآل، والصدقة وإن كانت نقصانا في الصورة إلا أنها زيادة في الحقيقة/١٢ وجيز.
﴿ إِنَّ ١ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، بما جاء من الله، ﴿ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ ﴾ عطفهما على الأعم لشرفهما ٢، ﴿ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ من آت، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على فائت.
١ ولما ذكر حال آكل الربا، وصفه بأنه كفار أثيم، ذكر ضده من المطيعين الممتثلين شرائع الإسلام، فقال: "إن الذين آمنوا" الآية/١٢ وجيز.
٢ وللحث على إيتاء الزكاة في مقابلة الربا/١٢ وجيز.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ : اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رأس المال بعد الإنذار، إن كنتم مؤمنين بشرع الله، كان بين ثقيف وبني مخزوم ربا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، طلبت ثقيف فتشاجروا فنزلت.
﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ﴾ ولم تذروا ما بقي من الربا، ﴿ فَأْذَنُواْ ﴾ : فاعلموا، ﴿ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾، يقال ١ يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب، أو لا بد للإمام أن يستتيبهم، فإن تابوا وإلا وضع فيهم الحرب والسلاح، ﴿ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ ﴾ بأخذ الزيادة، ﴿ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾ بوضع رؤوس الأموال، وقيل فهم منه أن المصر، أي : على التحليل ليس له رأس ماله، لأنه مرتد وماله فيء.
١ كذا قاله ابن عباس وغيره/١٢ وجيز.
﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ : وقع غريم ذو عسرة، ﴿ فَنَظِرَةٌ ﴾ أي : فعليكم تأخير، ﴿ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ : يسار، لا كفعل الجاهلية إذا حل الدين، يطالب إما بالقضاء وإما بالربا، ﴿ وَأَن تَصَدَّقُواْ ﴾ بإبراء رأس المال، ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ : أكثر ثوابا، وقيل : خير مما تأخذونه، ﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ ما فيه من الأجر.
﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ﴾ : يوم القيامة، أو يوم الموت، ﴿ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ أي : جزاء ما عملت، ﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ بنقص ثواب وهذه ١ آخر آية نزلت من القرآن، عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها تسع ليال، أو واحد وثلاثين ٢ يوما.
١ فقال صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها بين آية الربا وآية الدين"/١٢ وجيز.
٢ ومات صلى الله عليه وسلم لليلتين خلتا من ربيع الأول في يوم الإثنين سنة إحدى عشرة من الهجرة/١٢ فتح.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ١ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾، أي : تعاملتم بمعاملات مؤجلة فاكتبوها، قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنزلت في السلف، حرم الله الربا وأباح السلف، وهذا أمر إرشاد لا أمر إيجاب، وعن كثير من السلف : أن الأمر للوجوب، ولكن نسخ بقوله :" فإن أمن بعضكم بعضا " ٢، ﴿ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ : بالسوية، لا يزيد ولا ينقص، ﴿ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ ﴾ أي : لا يأب أن ينفع الناس بكتابته، كما نفعه الله بتعليمها، أو مثل ما علمه من كتابة الوثائق، قال عطاء ومجاهد : واجب على الكاتب أن يكتب، ﴿ فَلْيَكْتُبْ ﴾ أمر بها بعد النهي عن الإباء تأكيدا، قيل : جاز أن يتعلق كما علمه الله به، فالنهي مطلق والأمر مقيد، ﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾ : الإملال والإملاء واحد، أي : وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين، ﴿ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ﴾ أمر بأن يقر بمبلغ المال من غير نقصان، ﴿ فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً ﴾ : محجوراً عليه بتبذير ونحوه، ﴿ أَوْ ضَعِيفاً ﴾ : صبيا، أو مجنونا، ﴿ أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ ﴾ بخرس، أو جهل باللغة، ﴿ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ ﴾ : الذي يلي أمره، من وكيل، أو قسيم، أو مترجم، ﴿ بِالْعَدْلِ ﴾ : بالصدق، ﴿ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ ﴾، اطلبوا شاهدين، أن يشهدوا على الدين، ﴿ من رِّجَالِكُمْ ﴾ : رجال المسلمين، ﴿ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ ﴾ أي : إن لم يكن الشهيدان رجلين، ﴿ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ﴾ أي : فالمستشهد رجل وامرأتان، وهذا مخصوص بالأموال عند الشافعي، وبما عدا الحدود والقصاص عند أبي حنيفة، ﴿ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء ﴾ لعلمكم بعدالتهم، ﴿ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ﴾ أي : إن نسيت إحدى المرأتين الشهادة، ذكرتها الأخرى، فهو علة اعتبار العدد، والعلة في الحقيقة التذكير، ولما كان الضلال سببا له نزل منزلته، ﴿ وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ﴾ لأداء الشهادة، وعند بعض ٣ معناه : إذا دعوا للتحمل ٤، وحينئذ تسميتهم شهداء باعتبار المشارفة، وما زائدة ومنه علم أن تحمل الشهادة فرض كفاية، ﴿ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ ﴾ أي : لا تملوا، ولا تمنعكم الملالة أن تكتبوا الحق، ﴿ صَغِيراً أَو كَبِيراً ﴾ : قليلا كان الحق أو كثيراً، ﴿ إِلَى أَجَلِهِ ٥ : إلى وقت حلوله، ﴿ ذَلِكُمْ ٦ إشارة إلى أن تكتبوه ﴿ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ ﴾ : أعدل، ﴿ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ ﴾ : أثبت لها، وهما مبنيان من أقسط ٧ وأقام على مذهب سيبويه، ﴿ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ ﴾ أي : أقرب في ألا تشكوا، لأن ترجعوا بعد الشك في كتابتكم، ﴿ إِلاَّ أَن تَكُونَ ﴾ التجارة، ﴿ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا ﴾ استثناء من الأمر بالكتابة، وإدارتها بينهم : تعاطيهم إياها، يدا بيد، ومن قرأ :" تجارة " بالرفع فعنده كان تامة، أو تديرونها خبر كان، ﴿ وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ مطلقا مؤجلا، أو معجلا، وهذا الأمر محمول ٨ على الندب، وعند الشعبي والحسن للوجوب لكن نسخ، ﴿ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ﴾ نهي عن الضرارر بهما، مثل أن يكلفا ترك حاجاتهم ٩ ومهامهم ولا يعطى جعل الكاتب، وعلى هذا يضار مبني للمفعول، أو معناه نهيهما عن الضرار بزيادة ونقصان، وتحريف وتغيير، فعلى هذا يكون مبنيا للفاعل، ﴿ وَإِن تَفْعَلُواْ ﴾ ما نهيتم عنه، ﴿ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾ أي : لاحق لازم بكم، ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ ﴾ في مخالفة أمره، ﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ ﴾ أحكامه وشرائعه، ﴿ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ تكرار لفظ الله في الجمل الثلاث لاستقبال كل منها، ولأنه أدخل في التعظيم.
١ ولما أمروا بالصدقة وبترك الربا، ويحصل منها تنقيص المال، نبه على طريق حلال فيه تنمية المال، وأكد في كيفية حفظه، وأمر فيه بعدة أوامر، فقال: "يا أيها الذين آمنوا" الآية/١٢ وجيز.
٢ البقرة: ٢٨٣.
٣ كقتادة والربيع بن أنس/١٢ منه.
٤ روى عن ابن عباس والحسن البصري أنها عام في الأداء والتحمل قيل: في الأداء واجب، وفي التحمل ندب/١٢.
٥ أي: أن تكتبوا الصغير والكبير منظما منتهيا إلى وقت حلوله، يعني: كما يكتب أصل الدين يكتب الأجل أيضا/١٢ وجيز.
٦ كل ذلك ضبط لأموال الناس، وتحريض على ألا يقع بينهم نزاع/١٢ وجيز.
٧ يعني "أقسط" من المزيد لقصد الزيادة في العدل، "إن الله يحب المقسطين" لا من المجرد لأن معناه الزيادة في القاسط وهو الجائز، "وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا"، وكذا أقوم أشد إقامة لا قياماً، هذا ما قال المصنف في الحاشية.
وفي الوجيز قال صاحب البحر: قسط من الأضداد وفي الصحاح القسط: -بفتح القاف- الجود-وبكسرها-: العدل، فعلى هذا بناء أفعل من الثلاثي، الذي هو القسط فلا يكون شاذا، وكذا أقوم من قام بمعني: اعتدل/١٢.

٨ عند الجمهور والأحاديث يؤيده/١٢ منه.
٩ الأول: لابن عباس وعكرمة ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير والضحاك وعطية والسدي ومقاتل بن حبان والربيع بن أنس، والثاني: للحسن وقتادة وغيرهما/١٢ منه.
﴿ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ ﴾ أي : مسافرين، ﴿ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً ﴾ يكتب لكم، ﴿ فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ﴾ أي : فليؤخذ بدل الكتابة، رهان مقبوضة في يد صاحب الحق، وعند بعض السلف أن الرهن لا يجوز إلا في السفر ١، والحديث يرده، ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً ﴾ : بعض الدائنين بعض المديونين، ﴿ فَلْيُؤَدِّ ٢ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ سمى الدَّين أمانة لائتمانه عليه بترك الإرتهان منه، ﴿ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ ﴾ في الخيانة، ﴿ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ قلبه فاعل آثم، أو مبتدأ، وآثم خبره، والجملة خبر إن، وإسناده إليه للمبالغة، كقوله : هذا مما عرفه قلبي، ولئلا يظن أنه من آثام اللسان ٣، بل من آثام القلب، الذي هو أشرف الأعضاء، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كتمانها من أكبر الكبائر، ﴿ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ تهديد ووعيد.
١ فقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم، رهن درعه في المدينة من يهودي على ثلاثين صاعا من شعير/١٢ منه. [أخرجه البخاري في "الجهاد"، (٢٩١٦)، وفي غير موضع من صحيحه، ومسلم في "المساقاة"، (٤/١٢٣) ط الشعب].
٢ قال الشعبي: إذا ائتمن بعضكم بعضا فلا بأس ألا تكتبوا ولا تشهدوا، قال أبو سعيد الخدري: هذه نسخت ما قبله/١٢ منه. وفي الفتح، بعد نقل قول أبي سعيد، وأقول: رضي الله عن هذا الصحابي الجليل ليس هذا من باب النسخ فهذا مقيد بالائتمان وما قبله ثابت محكم لم ينسخ وهو مع عدم الائتمان/١٢.
٣ أخرج ابن جرير بسند صحيح عن سعيد بن المسيب، أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين، وأخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهداً بالعرش، آية الربا وآية الدين/١٢ وجيز.
﴿ لِلَّهِ ما فِي ١ السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ خلقا وملكا، ﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ﴾ : ما خطر ٢ ببالكم من السوء، ﴿ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ ﴾ في الآخرة، لما نزلت ٣ غمت الصحابة " فقالوا هلكنا، فقلوبنا ليست بأيدينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا سمعنا وأطعنا، فقالوها " فنزلت " آمن الرسول " إلى " عليها ما اكتسبت " فنسختها، وتجاوز لهم عن حديث النفس وصرح بنسخها أكثر السلف ٤، وبعضهم صرحوا بعدم نسخها، وقالوا : يخبرهم الله يوم القيامة بما أخفوا في أنفسهم، فيغفر للمؤمنين، ويؤاخذ أهل الشك والنفاق، فمعنى المحاسبة : الإخبار، وعن عائشة ٥ رضي الله عنها " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين سألت عن الآية : هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه الله من الحمى والنكبة، حتى البضاعة يضعها في يد قميصه فيفقدها، فيفرغ لها، حتى أن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير "، فعلى هذا المحاسبة المؤاخذة، لكن المحاسبة إما في الدنيا، وإما في الآخرة، ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ ﴾ مغفرته، ﴿ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ﴾ تعذيبه، ﴿ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ من المحاسبة وغيرها.
١ ولما كانت هذه السورة مشتملة على تكاليف كثيرة سرية وجهرية بدنية وقلبية واعتقادية وعملية ناسب ختمها بهذه، فقال: "لله ما في السماوات وما في الأرض" الآية/١٢ وجيز.
٢ قال بعض المفسرين: المراد ما عزم عليه لا ما خطر بباله، فإنه لا يؤاخذ به لأنه ليس في وسعه، وفي تسفيرهم بذلك مخالفة للجماهير من السلف وللأحاديث الصحاح/١٢ منه.
٣ رواه مسلم والإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة وروى الإمام أحمد عن ابن عباس وابن جرير عنه أيضا/١٢ منه. [أخرجه مسلم في الإيمان].
٤ وصح الرواية بنسخها عن علي وابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار وغيرهم/١٢ منه.
٥ رواه الترمذي وبن جرير وبابن أبي حاتم/١٢ منه. [أخرجه الترمذي (٣١٧٦- أحوذي) بسند ضعيف.
﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ وجه نزول الآية قد ذكرناه وهو أنهم قالوا :" سمعنا وأطعنا " لا كما قال أهل الكتاب :" سمعنا وعصينا " ١ قوله :" والمؤمنون " عطف على الرسول، ﴿ كُلٌّ ﴾ : من الرسول والمؤمنين، ﴿ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾ يقولون، ﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾ في الإيمان بهم، ولا نقول :" نؤمن ببعض ونكفر ببعض " ٢، ﴿ وَقَالُواْ سَمِعْنَا ﴾، قول الله، ﴿ وَأَطَعْنَا ﴾ أمره، نسأل، أو اغفر، ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ : المرجع بعد الموت.
١ البقرة: ٩٣.
٢ النساء: ١٥.
﴿ لاَ يُكَلِّفُ ١ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ ما يسعه قدرتها ويتسع فيه طوقها، لا ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها، ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ : من خير، ﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ : من شر، ولما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهي أجدّ وأعمل فيه، جعلت لذلك مكتسبة فيه بخلاف الخير، فإنها لما لم تكن فيه كذلك وصفت بما ليس فيه الاعتمال، فقال : كسبت، ﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا ٢ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ سألوا ٣ الله التجاوز عنهما فأجاب، ففي ٤ الحديث " وضع عن أمتي الخطأ والنسيان "، وأما دعاؤنا حينئذ بهما، فيمكن أن يكون لإدامة الوعد، وأن يجعلنا ممن وعد له التجاوز عنهما، ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً ﴾ : تكاليف شاقة، تأصر صاحبه، تحبسه في مكانه، وإن أطقناها، ﴿ كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ﴾، مثل الذي حمّلْتَه إياهم فيكون صفة إصرا وهو التكاليف الشاقة وما أصابهم من المحن، ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ : من المصائب، والتشديد هاهنا لتعديته إلى مفعول ثان، ﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾ : امح عنا ذنوبنا، ﴿ وَاغْفِرْ لَنَا ﴾ : واستر عيوبنا، ﴿ وَارْحَمْنَا ﴾ في الدنيا، فلا توقعنا في ذنب ٥ آخر، ﴿ أَنتَ مَوْلاَنَا ﴾ : ولينا وناصرنا، ﴿ فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾، وفي الحديث :" في آخر كل دعوة " ٦ من هذه الدعوات، قال الله تعالى : فعلت ونعم "، وفي الحديث، " فضلنا على الناس بثلاث : أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة ٧ من بيت ٨ تحت العرش، لم يُعطَها أحدٌ قَبلي ولم يُعْطَها أحدٌ بَعدي ٩.
والحمدل لله حق ١٠ حمده.
١ ولما أخبر سبحانه عن عقائدهم وتضرعهم في المسألة بحيث يبان منه رضاؤه، استأنف بخبر معه، أنه سبحانه لا يكلف عباده من أفعال القلوب وأفعال الجوارح إلا بما هو وسع المكلف، "لا يكلف" الآية/١٢.
٢ قيل الخطأ: والنسيان قلما يتفقان، إلا عن تقصير سابق، فالمراد من الدعاء عدم المؤاخذة به/١٢ منه.
٣ ودعاؤنا بعد وضع الخطأ والنسيان عنا، كالدعاء بألا تؤاخذنا بتفريط، أو أفعال تفضي إلى خطأ أو نسيان، أو الغرض من الدعاء تذكر الفضل بالعفو عنهما والتذلل بين يديه/١٢ وجيز.
٤ رواه بان ماجة في سننه وابن حبان في صحيحه، [وكذا البيهقي بسند صحيح، وانظر صحيح الجامع (٧١١٠)، وراجع الإرواء (ح ٨٢)] وفي مسلم عن أبي هريرة وابن عباس "قال الله: قد فعلت"/١٢ منه.
٥ عن بعض السلف، المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو الله عنه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره/١٢ منه.
٦ الظاهر أن دعاءه عليه السلام بهذه الدعوات قراءته بهذه الآية، ويحتمل أن يكون قد دعا بها، فنزلت الآية حكاية/١٢ منه.
٧ وفي مسلم أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا/١٢ منه.
٨ كناية وتمثيل لما فيه من كثرة الخير والبركة والثواب/١٢ منه.
٩ (*) أخرجه بنحوه أحمد الطبراني والبيهقي عن حذيفة مرفوعا بلفظ: "أعطيت هذا الآيات من آخر سورة البقرة من تحت العرش لم يعطها نبي قبلي" وانظر صحيح الجامع (١٠٦٠).
١٠ روى ابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال: لا أدري أن أحدا يعقل لغة الإسلام ينام، حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، فإنها من كنز تحت العرش/١٢.
Icon