تفسير سورة البقرة

تفسير ابن عرفة
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

قوله تعالى: ﴿الم﴾
قال ابن عطية: اختلف في الحروف التي في أوائل السور فقال الشعبي وسفيان الثوري وجماعة: إنّها من المتشابه الذى انفرد الله بعلمه.
قال ابن عرفة: قال الفخر في المحصول: اختلفوا هل يرد في القرآن ما لا يفهم أو لا على قولين؟
109
قال (السراج) : في اختصاره إنما ذلك في الألفاظ الحادثة (وأما) الكلام القديم الأزلي فمجمع عليه.
قال ابن عرفة: وهذا لا يحتاج إليه إلاّ لو قال: اختلفوا هل يصح أن يرد في القرآن اللفظ المهمل الذي لا معنى له؟ وقوله: ما لا يفهم دليل على أنه عنده معنى ودلالة لم تفهم.
قال ابن عطية: (والجمهور) على أن لها معاني اختلفوا فيها على اثني عشر قولا.
قال ابن عرفة: اعلم أن قول الصحابي إذا كان مخالفا للقياس هو عندهم من قبيل المسند لأن التجاسر (على) التفسير بمثل هذا
110
لا يكون إلا عن توقيف من نصّ أو إجماع. وقال قوم: هو بحساب (أبجد) (دليل) على مدة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وذكر السهيلي في الروض الأنف حديثا استخرج منه المدة ومن أوائل السور وأسقط المتكرر من الحروف.
وقال قوم هي أمارة على أن الله تعالى وعد أهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتابا في أول كل سورة منه حروف مقطعة.
قال ابن عرفة: يقال له: ما معنى تلك الحروف؟ (فلم يزل) الإشكال فيها، (وهذه الم مبنية على الوقف).
فإن قلت: إنما تكون موقوفة قبل الترتيب مثل: واحد - اثنان - ثلاثة - إذا أردت مجرد العَدَدِ (وهذه) جزء كلام (وقع) الإسناد (فيزول) الوقف (ويعرف).
قال: (في) الجواب (إنها) محكية مثل سائر الأسماء المحكية.
111
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾
أورد الزمخشري هنا سؤالا قال: الإشارة بذلك للبعيد وهو هنا قريب. وأجاب بأن المراد القرب المعنوي.
قال ابن عرفة: السؤال غير وارد لأنه أجاب في غير هذا الموضع في قوله تعالى ﴿فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ وفي قوله تعالى: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ لأن الإشارة بلفظ (البعيد) للقريب على سبيل التَّعظيم وهو معنى (يذكره) البيانيون.
قال: وعبر عنه باسم الإشارة دون ضمير الغيبة تنبيها على أنه كالمحسوس المشار إليه فهو دليل على عظمته في النفوس.
وقوله تعالى: لاَ رَيْبَ فِيهِ: إما خبر في هذا معنى النهي وإما خبر على بابه والمراد إما نفي وقوع ذلك حقيقة. فيكون عاما مخصوصا بمن ارتاب فيه، أو المراد لا ينبغي فيه ريب أي ليس بأهل لأن يرتاب فيه (أحد).
قال: ومن الناس من يقف على (لاَ رَيْبَ) وكان بعضهم يتعقبه بأن فيه شبه تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه، ومنهم من وقف
112
على ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ (وعادتهم بأنهم يصوّبونه بأنه يبتدئ) بقوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، (فجعله) خبر مبتدإ مضمر، أي هو هدى فيكون القرآن كله (هُدى) أي هو نفس الهدى، فهو أبلغ ممن جعل الهدى فيه.
فإن قلت: أخر المجرور هنا وقدمه في قوله: ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ ﴿وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ (فالجواب) أن المراد نفي الرّيب بالإطلاق. فيتناول جميع الكتب من التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فليس نفي الريب خاصا بالقرآن فقط بل هو (عام) بخلاف ما لو قيل لا (فيه ريب)، (لأوهم) خصوص النفي به وبخلاف: ﴿وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ فإنّ الغشاوة خاصة بأبصارهم دون أبصار المؤمنين.
113
قوله تعالى: ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب... ﴾
(قال ابن عرفة) : الغيب ما (لم) يَنصبّ عليه دليل (فَمِنَ) الناس من أجاز النظر في علم النجوم وعلم الهيئة والكسوفات.
113
وقال أبو العز المقترح في عقيدته: أجمعوا على أن النظر في علم الهيئة محرم.
قال ابن عرفة: إنما ذلك إذا نظر (فيه) للحكم، أما إذا (نظره) ليعلم الكواكب (والنجوم) فجائز، لكن الاشتغال بالعبادة وتعلّم ما ينفعه أولى.
قوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾.
قال القرطبي: الآية حجة على المعتزلة ويلزمهم الكفر في قولهم: إنّ لفظ الرزق لا يطلق إلا على الحلال لأن من تغذى من صغره إلى كبره بالحرام يلزمهم أن لا يدخل في عموم قوله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا﴾ قال ابن عرفة: يكون عاما مخصوصا (ان) سمّاه رزقا مجازا أو من باب التغليب باعتبار الأكثر فإنّ الأكثر حلال.
وقال غيره: هذا الخلاف لفظي لا يبنى عليه كفر أو إيمان.
114
قوله تعالى: ﴿والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ... ﴾
114
قال الزمخشري: إن قلت إنْ عَنَى بما أنزل إليك كلّ القرآن فليس بماض وإن أراد بما سبق (إنزاله) منه فهو إيمان ببعض المنزل والإيمان بالجميع واجب.
(ورده) ابن عرفة: بأنه إنما يجب مع العلم بإنزال ما وسينزل منه. أما مع عدم العلم/ فلاَ يجب الإيمان إلا بما أنزل منه فقط. وأمّا ما لمْ يعلم في الحال بأنه سينزل (فلسنا) بمكلفين بالإيمان به.
وأجاب الزمخشري: أن المراد بالإيمان بالجميع، وعبر بالماضي تغليا لما أنزل على ما سينزل.
قال ابن عرفة: ويلزم على كلام الزمخشري استعمال اللّفظة الواحدة في حقيقتها ومجازها. وفيه خلاف عند الأصوليين.
قال ابن عرفة: أو يجاب بأن المراد إنزاله من اللّوح المحفوظ إلى سماء الدنيا وقد كان (حينئذ) ماضيا.
قال ابن عرفة: وعادة الشيوخ يوردون هنا سؤالا لم أره لأحد وهو هلا قيل: والذينَ يُؤْمِنونَ بما أنزل من قبلك وما أنزل إليك (فهو) الأَرْتَبُ ليكونَ الأَسْبَقَ في الوجود (متقدما) في اللّفظ؟
115
قال: وعادتهم يجيبون عنه بأن الإيمان بما أنزل على النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سبب في الإيمان بما أنزل من قبله، لأن المكلف إن آمن به يسمع القرآن المعجز والسنة المعجزة ويرى سائر المعجزات، فيطلع (من ذلك) على أخبار الكتب السّابقة وصحتها، فيؤمن بها إيمانا حقيقيا أقوى من إيمانه بها مستندا لأخبار اليهود وأخبار النصارى عنها:
قيل (له) : أو يجاب (عنه) : بأنه قدم لكونه أشرف وأحد أسباب تقدم الشرف.
قال: وهلا أخر ويكون (مترقيا) ؟
قوله تعالى: ﴿وبالآخرة... ﴾
المنعوت إما النشأة الآخرة أو الدار الآخرة أو الملة (الآخرة)، والموصوف لا يحذف إلا إذا كانت الصفة خاصة، وعموما (هذا) في نوع الموصوف فلا يمنع الخصوص.
قوله تعالى: ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾
إن قلنا: إن العلوم متفاوتة، فنقول: اليقين أعلاها. وإن قلنا: إنها لا تتفاوت في (أنفسها)، فنقول: اليقين منها هو العلم الذي لا يقبل التشكيك (وغيره هو العلم القابل للتشكيك) وهو قسمان: بديهي، ونظري.
116
فالتشكيك في الأمور الضرورية البديهية غير قادح بوجه، والتشكيك في النظريات ممكن (شائع). وبهذا يفهم اختلاف العلماء الذين هم مجتهدون فيصوب أحدهم قولا ويخطئه الآخر، (وقد) (أَلِفَ) الناس التشكيك على كتاب إقليدس في الهندسة.
117
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ... ﴾
قال ابن عرفة: لما كان المخاطب في مادة (أن ينكر) مساواة (حالة) إنذارهم لحالة عدم الإنذار بل (نقول) : إنّها مظنة الانزجار والفلاح (والنجاح) احتيج إلى تأكيد المساواة بأن قال ابن عطية: قيل: (للزارع) كافر لأنه يغطي الحب ويقال: إذا غطى قلبه بالدين عن (الإيمان) أو غطى الحق بأقواله وأفعاله.
117
قال ابن عرفة: أما الأول فظاهر لأنّ الدّين يجامع القلب فيصح تغطيته إياه، واعتقاد الحق لا يجامع اعتقاد الباطل، بل هو نقيضه وستره (له) لا يكون إلا مع اجتماعه معه: والفرض أنه لا يجامعه وأما باعتبار الأفعال فظاهر.
قيل لابن عرفة: يصحّ اجتماعهما باعتبار اختلاف المتعلق؟
فقال: تحول المسألة وما (كلامه) إلا فيما إذا كان متعلق الكفر هو متعلق الإيمان، (فحينئذ) (تتعلق) التغطية.
قيل له: تكون التغطية مجازا، عبر به عن (معاندة) أحد الاعتقادين للآخر؟
فقال: إنما هو مخبر عن أصل العقيدة أي هذه اللفظة ممّاذَا هي مشتقة؟ فما حقه أن يأتي إلاّ الحقيقة اللّغوية، وأما المجاز فليس بأصلي.
واختلف الأصوليون في الألف واللام الداخلة على الموصول فقيل: إنها للجنس ويكون عاما مخصوصا كأكثر عمومات القرآن.
وقيل: إنها مطلقة فتكون للحقيقة أعني الماهية، فلا يحتاج إلى تخصيص، ويحتمل أن تكون للعهد.
118
ابن عطية: وقال الرّبيع بن أنس: (إنّ) الآية نزلت في قادة الأحزاب وهم أهمّ أهل القليب ببدر، وفي بعض النسخ وأهل القليب ببدر.
قال ابن عرفة: وهو الصحيح فإن غزوة الأحزاب متأخرة عن بدر، وأهل القليب ببدر قتلوا فلم يبق منهم أحد للأحزاب.
قال ابن عرفة: إلاّ أن يريد بالأحزاب الجماعة ولا يريد به الغزوة.
قال الإمام ابن الخطيب: والآية دليل على جواز تأخير البيان (عن) وقت الحاجة، فإنها لم (تبين) متعلقها.
ورده ابن عرفة بأنها ليس المراد بها التكليف (فيحتاج) إلى بيان وإنما هي تخويف وإنذار، والعموم أدعى (لحصول) التخويف من الخصوص.
119
قوله تعالى: ﴿ءَأَنذَرْتَهُمْ... ﴾
أنكر الزمخشري هنا قراءة ورش وجعلها لحنا وكفره الطيبي. وظاهر كلام الطيبي هذا أن (السّبع) (قراءات) أخبار آحاد وليس بمتواتر.
قال ابن عرفة: وحاصل (كلام) (الناس) فيها أنها على وجهين: فأما ما يرجع إلى آحاد الكلم كملك
120
ومالك ويخدعون ويخادعون فهو متواتر اتفاقا من غير خلاف منصوص، إلا أن ظاهر كلام الدّاودي على ما نقل عنه (الأنباري) أنها غير متواترة. وأما ما يرجع إلى كيفية النطق بها من إعراب وإمالة وكيفية وقف ففيه ثلاثة أقوال:
الأول نقل (الأنباري) شارح البرهان عن أبي المعالي أنها متواترة وأنكره عليه وهو اختيار الشيخ أبي عبد الله محمد بن سلامة من أشياخنا.
121
(الثاني) أنّها متواترة عند القراء فقط (نقله المازري في شرح البرهان واختاره شيخنا ابن عرفة.
الثالث: أنها غير متواترة) قاله ابن العربي في العواصم والقواصم (والأنباري) وابن رشد في كتاب الصلاة الأول وفي كتاب (الجامع) الرابع من البيان والتحصيل.
122
قال ابن عرفة: وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق إبراهيم (الجزرى) وشيخنا القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السلام وصاحبنا الفقيه أبي العباس أحمد بن إدريس (البجائي).
ءَأنذَرْتَهُمْ: استفهام في معنى الخبر أو معنى المصدر أي إنذارك وعدم إنذارك سواء.
قال: (وسَوَاءٌ) مبتدأ وءَأَنذرْتَهُمْ إما فاعل وإما خبره (ويصح) أن يكون مبتدأ لأنه يكون الخبر أفاده المبتدأ، فلا فائدة (فيه).
ورده ابن عرفة: بأنه يفيد التسوية إذْ لَعلّ المراد إنذارك وعدم إنذارك مختلفان.
قال ابن عرفة: والصواب أنه على/ حذف مضاف أي سواء عليهم جواب ﴿ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ﴾. ويكون استفهاما حقيقة لأن الاستفهام في قوله مجاز (والمصدر) يحتاج إلى (
123
أداة) (تصيّر) الفعل مقدرا بالمصدر وهو (بمنزلة) قول.
قيل: يشتمل على إنذار وجوابه (إمّا معه) أو قبله ولذلك هنا جواب (الأمرين) عندهم سواء.
قوله تعالى: ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
هو احتراز لأنه قد يكون الاختيار (باستواء) الحالتين عندهم يقتضي مبادرتهم إلى الإيمان وعدم (توقّفهم) على الإنذار فاحترز من ذلك (ببيان) أنهم على العكس.
قيل لابن عرفة: إن (ابن فورك) أبطل بهذه الآية قاعدة التحسين والتقبيح؟
قال: لأن الله تعالى أخبر أن الإنذار لا ينفع فيهم، وقد أمر بإنذارهم، ومراعاةُ الأصلح (تقتضي) عدم تكليفهم وعدم إنذارهم.
124
(فقال) :(تقدم) ذلك في جواز تكليف ما لا يطاق وهذا متفق عليه فإنّ هؤلاء المخبر عنهم بذلك غير معيّنين فليست هذه كقضية أبي لهب وإنّما الخلاف يخبر عن معينين (بعدم) الإيمان وتكليفهم بالإيمان كقضية أبي لهب فليس في هذه الآية دليل بوجه.
125
قوله تعالى: ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ... ﴾
قرر ابن عرفة وجه المناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها (بأنها) سبب فيه، كأنه قيل: لِمَ لا ينفع الإنذار فيهم؟ فقيل: بسبب الختم على قلوبهم.
قال ابن عرفة: هكذا قرره بعضهم. ويرد عليه (أنه كان يكون الأوْلى تقدير هذه الآية على ما قبلها، لأنها سبب فيه وكان يمشي لنا فيه) إن كان تقرير المناسبة بأنّ امتناع تأثير الفعل في المفعول إما (لخلل) في الفاعل أو المَانِعِ في القابل فقد يضرب بالسيف شجاع قوي ويكون على المضروب مصفّح من حديد فلا يؤثر فيه شيئا، فأخبر هنا أن (تعذر) تأثير الإنذار فيهم لا
125
بتوهم أنه (لإخلال) (واقع في الرسول) في تبليغه بوجه بل لمانع فيهم هو (الطبع) على قلوبهم.
وفسر ابن عطية الختم بثلاثة أوجه:
الاول: أنه (حسي) حقيقة، فإن القلب على هيئة الكف ينقبض مع زيادة الضلال كما ينقبض الكف إصبعا إصبعا.
الثاني: أنّه مجاز (عبارة عن خلق الضّلال في قلوبهم) (وأنّ ما خلق الله في قلوبهم من الكفر والضلال والإعراض عن الإيمان سمّاه ختما).
الثالث: إنّه مجاز في الإسناد كما (يقال)، أهلك المال فلانا وإنّما أهلكه (سوء تصرفه فيه).
قال ابن عرفة: وسكت ابن عطية عن هذا الثالث وهو إنما يناسب مذهب المعتزلة ولما جاءت الآية مصادمة لمذهبهم تأولها الزمخشري وأطال وقال: إنه مجاز واستعارة.
126
وقال ابن عرفة: فجعله تمثيلا. قال: والفرق بين التشبيه والتمثيل والاستعارة أن إطلاق الصفة على الموصوف إن كان بأداة التشبيه فهو تشبيه مثل: زيد كالأَسَدِ، وإلا فإن كان بواسطة ما يدل على التمثيل فهو تمثيل نحو: زيد الأسد، وإن لم يكن بواسطة فهو استعارة مثل: رأيت أسدا (يكرّ) ويفرّ في الحرب.
وظاهر كلام الطيبي أنّه لا فرق بين التشبيه والتمثيل.
قال: والآية حجة لمن يقول: إن العقل في القلب، ولو كان في الدماغ لقال: ختم الله على أدمغتهم. فإن قلت: لم قدم القلب والأصل تأخيره؟ قلت: لوجهين:
إما (لأنّ) السمع والبصر طريقان إليه فما يلزم من الختم (عليهما) الختم عليه، إذ لعلّه يعلم (المعقولات) بقلبه. ويلزم من الختم على القلب عدم الانتفاع بمدركات السمع؛ وإما لأن المدركات قسمان: وجدانيات ومحسوسات. فما يلزم من نفي المحسوسات نفي الوجدانيات (بخلاف) العكس.
(قال) : وأجاب (الطيبي) بأن (الأمور) المدركات على ثلاثة أقسام: معقولات، ومسموعات، ومبصرات
127
قال: فإن المعقولات أغمض وإدراكها (أصعب) والمحسوسات أبين وإدراكها أهون، فقدم الختم على القلب ليكون تأسيسا، إذ لا يلزم من عدم إدراكهم الدليل الصعب الغميض عدم إدراكهم الدليل البين الظاهر.
((وقال بعض الناس: (نص) أفلاطون وأرسطو وغيرهما على أن المعقولات فرع المحسوسات))، ونفي الفرع لا يستلزم نفي الأصل بخلاف العكس.
قوله تعالى: ﴿وعلى سَمْعِهِمْ... ﴾
إفراد السمع إما لأمن اللبس أو لأنه مصدر (مبهم) (يحتمل القليل والكثير). أو لإضافته إلى (المجموع فأغنى عن جمعه أو لأن الكلام على حذف مضاف قدره الزمخشري: (وعلى) حواس
سمعهم، وابن عطية: على (مواضع) سمعهم. (وضعف ابن عرفة الأول بأنه أمن اللبس أيضا في القلوب فهلا قيل: {خَتَمَ
128
الله على قُلُوبِهِمْ} وضعف الثاني بأن الختم إذا كان (حقيقة) كأول تأويلات ابن عطية: فيه أنه حسّي فلا يصح تعلقه (بالسمع) لأن (المصدر) معنى من المعاني إلا أن يتجوز في الختم، (أو) يتجوز في السمع فيراد به محله.
قال الزمخشري: (والبصر) نور العين، وهو ما يبصر به الرائي ويدرك به المرئيات، كما أنّ البصيرة نور القلب وهو ما (به) يستبصر ويتأمل.
قيل لابن عرفة: إنّ ابن (راشد) قال: (إنّ) هذا لا يجري على قواعده وإنما يتم على مذهب أهل السنة؟
(فقال) : بل هو (يحتمل) (الأمرين)، لأن ذلك النور هل هو بأشعة تنفصل من الرائي للمرئي، أو يحتمل المذهبين؟
129
قال: وإعادة حرف الجر دليل على أن لكل واحد منهما (ختما) (يخصه) فهو يمنزله (الكلّية) لاَ الكل.
قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
قال ابن عرفة: (العَظِيمُ) للتّهكم.
قال الزمخشري: والعظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، والعظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير.
قال ابن عرفة: هذا ينتج له العكس (لأن) نفي (الأبلغ) يحصل (بثبوت) (أدون نقائضه)، ونفي (احقر) العذاب يصدق (بثبوت) العذاب العظيم وإن كان في نفسه صغيرا، أما العذاب الصغير يصدق عليه أنه عذاب عظيم لأن نفي (الأبلغ) في الحقارة عنه منتف، فإذا كان ضد الحقير عظيما لزم أن يكون الكبير أعظم من العظيم قطعا، لأنه إذا انتفى عن العذاب اسم الحقارة ثبت له نقيضه وهو (العظم) وإن كان في نفسه صغيرا. ((وإذا
130
انتفى عنه ما فوق الحقارة وهو (الصغر) ثبت له ما فوق ذلك وهو (الكبر) (وكان) أعظم من العظيم. / ويؤيد ذلك (اختيارهم) في تكبير الصلاة عند الإحرام لفظ: الله أكبر (ولم يختاروا) الله العظيم فدل على أن الكبير أعظم من العظيم)).
قلت: هذا عند مالك خلافا لأبي حنيفة فإنه أجاز دخول الصّلاة بالله العظيم أو السّميع أو الكبير ونحو ذلك والزمخشري حنفي المذهب.
131
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَقُولُءَامَنَّا بالله... ﴾
قال ابن عرفة: ذكر أولا (المؤمنين) (أهل) التقوى والصفات الحسنة، ثم (الكافرين) أهل الضلال والصفات القبيحة ثم المتصفين بأقبح من ذلك وهو (النّفاق) الموجب للحلول في الدرك الأسفل من النار. أو يقال: ذكر أولا من اتصف بالإيمان البسيط
131
((ثم من (اتصف) بالكفر البسيط))، ثم من اتصف بالدّين المركب من أمرين وهو الإيمان ظاهرا والكفر باطنا، والمركب متأخر عن البسيط في (المرتبة).
والألف وللام في «الناس» للعموم (في) أنواع بني آدم و «من» للتبعيض في أشخاص تلك الأنواع. وهذا القول إمّا من اليهود أو من المنافقين فإن كان من اليهود فهو قول (حقيقي) موافق للاعتقاد ومعناه: من يقول آمنّا بوجود الله واليوم (الآخر)
(وما هم بمؤمنين) لأنّهم (قد) ادّعوا (الشّريك)
فقالوا: ﴿عُزَيْرٌ ابن الله﴾ ﴿قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ (وإن) كان من المنافقين فمعناه: وَمنَ النّاس من يقول آمنّا (بوحدانية) الله، ويجري هذا على الخلاف في (الكلام) (النفسي)، هل يمكن فيه تعمّد الكذب، ويكون الاعتقاد فيه
132
مخالفا للعلم، أو لا يمكن ذلك؟ و (هي) مسألة تكلّم عليها الأصوليون لما قسّموا العلم إلى تصوّر وإلى تصديق.
فإن (قلنا) بجواز الكذب في الكلام النفسي، فيكون هذا قولا حقيقيا بألسنتهم وقلوبهم، وإن منعنا وقوع الكذب فيه، فيكون قولا باللسان فقط قال ابن (عرفة) :(ليس فيها دليل عليهم) وانظر كيف لم يصرحوا بالإيمان (بالرسول) مطابقة بل عبّروا بلفظ يدلّ عليه باللّزوم لا بالمطابقة (لأنّ مقصودهم) كفّ الأذى (عنهم) لا الإيمان حقيقة. قال ابن عطية. وفي الآية ردّ على الكراميّة في قولهم: إنّ الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب.
قال ابن عرفة: ليس فيها دليل عليهم لأنهم لم يقولوا: إنّ الإيمان قول باللّسان (يخالفه) ((الاعتقاد بالقلب، (وإنما قالوا: إنّه قول باللّسان) عري عن الاعتقاد بالقلب لا لأنّ الاعتقاد بالقلب يخالفه القول باللّسان))، بمعنى أنه يقوله
133
بلسانه، ولا (يعتقد) بقلبه شيئا لا هو ولا نقيضه (هكذا) حكى (عنهم) الشهرستاني في (النحل) والملل وليست الآية كذلك.
(قيل له) : نصّ الطبري هنا على أنّ مذهبهم كما قال ابن عطية وألزمهم نسبة الكذب إلى الله عزّ وجلّ.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قال عنهم (ءَامنّا) بلفظ الفعل وفي الردّ عليهم ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ بلفظ الاسم؟
(وأجاب) :((إنّ مقصودهم الإخبار)) بالاتصاف بالإيمان، فردّ عليهم بأنّهم ليسوا من نوع المؤمنين، ولا من جنسهم بوجه.
قال ابن عرفة: وهذا الجواب ضعيف، وممّا يؤكّدُ السؤال أنّ الفعل أعمّ والاسم أخصّ، ونفي الأعمّ أخصّ من نفي الأخصّ.
134
(فهلا) كان الأمر بالعكس، فهو الأولى؟
قال: (والجواب) أنّ المنافقين لمّا (كان) مقصدهم التورية لم يعبّروا بلفظ صريح في الإيمان بل عبّروا بما يدل على (الاتصاف) بمطلق الإيمان لا (بأخصّه)، و (أتوا) بالفعل الماضي ليدلّ على وقوعه وانقطاعه وعدم الدّوام عليه. ولما كان المقصود الرد عليهم وأنّهم لم يتّصفوا بالإيمان (النافع بل بإيمان لا ينفع، لم ينف عنهم مطلق) الإيمان لأنهم قد آمنوا ظاهرا فنفى عنهم الإيمان الشرعي (لأنّ الإيمان الشرعي) الموجب لعصمة دمائهم وأموالهم قد اتّصفوا (به) ظاهرا، فأخبر الله تعالى أنّ ذلك الإيمان النّافع لهم في الدنيا بالعصمة من القتل والسّبى لا ينفعهم في الآخرة فلذلك نفاه (عنهم) بلفظ الاسم.
135
قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ الله والذينءَامَنُواْ... ﴾
قال الزمخشري: (في) هذه الجملة إمّا تفسير لما قبلها أو استئناف.
135
قال الإمام ابن عرفة: الفرق بينهما أنه على الأوّل يكونون وَصفوا بأمرين: بعدم الإيمان (وبالخداع). وعلى الثاني وصفوا بعدم الإيمان فكأنّ قائلا يقول: لم حكم عليهم بعدم الإيمان فقيل: لأنّهم يخادعون الله.
قال أبو حيّان ما نصّه: ((يخادعون (مستأنفة)، أو بدل من (يقول) آمنّا ولا موضع لها، أو حال من فاعل يقول (فموضعها) نصب)).
قال: وأجاز أبو البقاء كونها حالا من الضمير في المؤمنين.
قال: واعترض بأنه يلزم منه نفى الإيمان المقيَّد بالخداع، وهو فاسد لأن المقيَّد بقيد إذا نفى فله طريقان: إما نفي المقيِّد فقط وإثبات المقيَّد وهو الأكثر، فيلزم إثبات الإيمان، ونفي الخداع وهو فاسد. وإما نفيهما معا (فيلزم) نفي الإيمان (والخداع) وهو فاسد. قال: ومنع أن تكون الجملة حالا من الضمير في آمنّا لأن آمنّا محكي (بنقول) فيلزم أن يكونوا أخبروا عن أنفسهم بأنهم يخادعون وهو باطل، وأيضا فلو كان من قولهم لكان يخادع بالنون (انتهى).
136
وأجاب ابن عرفة بأنك تقول: قال زيد: إنّ عمرا منطلق وهو كاذب، فالجملة الأخيرة في موضع الحال مع أنها ليست من قول زيد، (فلا) يلزم من ذلك أن يكون ﴿يُخَادِعُونَ الله﴾ مقولا لهم بوجه.
قلت: وردّ بعضهم هذا بأنّ المعنى يقول: «ءَامنّا» مخادعين الله (فبالضّرورة) انّها من قولهم.
قال: وإنّما يتمّ هذا الجواب (إن) لو كان «يُخَادِعُونَ» حالا من الضّمير الفاعل في «يَقُولُ».
قال: وقوله يلزم إثبات الإيمان ونفي الخداع ليس كذلك، لأنّه إنما أخذه من المفهوم. ونحن نقول: لا مفهوم (له لأنّه مفهوم) خرج مخرج الغالب، إذِ الغالب عليهم الخداع، فلا يوجدون غير مخادعين، كما ورد: في سائمة الغنم الزّكاة أو يقال: إنّ المفهوم (منتفى) بالنص (على تفسير) في غير هذه الآية أو معلوم من السّياق.
وأورد الزمخشري سؤالا قال: كيف يصحّ وقوع الخديعة بالله مع أنه عالم بكلّ شيء؟ وكيف صحّ وقوعها (فيه) مع أنه يستحيل عليه القبيح؟
137
وأجاب (بأجوبة أحدها) بأنه (لمَّا) نعّمهم في الدّنيا وعصم دماءهم وأموالهم ثمّ عذّبهم في الآخرة (كان) ذلك شبه الخديعة. قال: وكذلك المؤمنون (معهم).
قال ابن عرفة: لا (نتصوّر) الخديعة من المؤمنين لأنهم عصموهم في الدنيا خاصة، والآخرة لا حكم/ لهم (فيها).
قيل (له) : قد يتصوّر باعتبار أنّهم عالمون بهم ومع هذا (تركوا) قتالهم.
قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون هنا سؤالا وهو أنه عبر عن (نفيهم) عن المؤمنين في قوله: ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ بالوصف المقتضي (أعلى) درجات الفلاح، (فدل على اختصار الفلاح فيه)، ولو أريد: وما هم بمؤمنين الإيمان الكامل، للزم عليه حصول بعض الفلاح لهم والغرض (أنهم) لم يحصل لهم من شيء (فإذا ثبت) أن الفلاح منحصر في مسمى المؤمنين لا في مسمى من آمن، فهلا قيل: يخادعون الله والمؤمنين، لأنّ المنافقين يصدق عليهم أنهم ممن آمن؟
138
قال: (والجواب أن المراد الإخبار عنهم بكونهم يخادعون الله تعالى) وكل من اتصف بمطلق الإيمان حتى أنهم (يخادعون) بعضهم فيظن بعضهم في بعض أنه غير منافق فيخادعه والكل منافقون.
قوله: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.
نفى عنهم الشعور، وهو مبادئ الإدراك. (فبنفي) (مبادئ) الإدراك ينتفي كل الإدراك من باب أحرى.
139
قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ... ﴾
قال ابن عرفة: هذا احتراز لأنه لما أخبر (عنهم) أنهم يخادعون الله، والمخادع على نوعين فالغالب عليه أن يكون صاحب فكر ونظر ودهاء يدبر الأمور التي يخدع بها عدوه، ومنهم من يخادع على غير أصل وذلك موجب (الاستهزاء) به وعلامة على سخافة عقله فأخبر الله تعالى أن المنافقين من القسم الثاني.
وقال الطبري: إن في اعتقاد قلوبهم مرضا.
قال ابن عرفة: بل المرض في القلوب أنفسها كما قلناه.
قوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً... ﴾
139
الفاء للسبب (وفيه) العقوبة على الذنب بذنب أشدّ منه. فإن قلت: هذا مرض واحد والزّيادة عليه إن كانت مثله لزم اجتماع المثلين في المحلّ الواحد وهو باطل كما يمتنع اجتماع الضدّين والنَّقيضين: فأجيب بوجوه:
الاول: قال ابن عرفة: إنّما يمتنع ذلك في الواحد بالشّخص وهذا واحد بالنّوع أو بالجنس، فاشتركا في جنس المرض و (تغايرا) في الفصل (واجتماع الغيرين جائز).
الثاني: قال ابن عرفة أيضا: الضّمير في زادهم عائد على ذواتهم لا على قلوبهم، إذ لو كان عائدا على القلوب لقال (فزادها) الله مرضا. وهو أولى. فإن نزل المرض بجميع ذواتهم فمحلّ الثاني (أوسع) من محلّ المثل الأوّل فصحّت الزّيادة، ولا يلزم منه اجتماع المثلين إلاّ أن يقال: إنّه على حذف مضاف تقديره فزاد الله قلوبهم (مرضا).
الثالث: قال بعض الطّلبة: ذكر الإسفراييني وغيره في صحّة اجتماع المثلين (أنه) يخلق جوهرا آخر يكون فيه المثل الآخر زيادة في نعيم المنعّم وعذاب المعذّب.
قال ابن عرفة: إنّما ذلك في المثلين حقيقة، وهذان مختلفان في الفصل بينهم غير أنّ كما تقدم (لا مثلان).
140
قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
إما بمعنى مؤلم كقولك «تحية بينهم ضرب وجيع»، أو بمعنى مؤلَّم، فيكون الألم حالا (بالعذاب) مجازا أو تنبيها على شدّته «مثل. جَدّ جِدّه» - «وشِعْر شَاعر».
141
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض... ﴾
هذا القول واقع (فيما مضى) ودائم في المستقبل، ودوامه محقق ولذلك دخلت عليه إذا لأنه من باب تغيير (المنكر) فهو واجب. وحذف الفاعل قصدا للعموم والشيوع (في القائل) ولأن القائل عظيما أو حقيرا لا يقبلون منه. وفائدة ذكر المجرور وهو في الأرض (التنبيه) على أن إفسادهم عام في الاعتقاد الديني وفي الأمر الدنيوي، والفساد (يعمّ) في جلب المؤلم ودفع (الملائم) شرعا.
قال ابن عطيّة: و «إذا» ظَرف زمان، وحكى المبرد أنها للمفاجأة نحو: خرجت فإذا زيد، ظرف مكان لتضمّنها (الجهة)، وظرف الزمان لا يكون إخبارا عن (الجثة).
141
قال ابن عرفة: (وتقدم لنا) إبطال كونها ظرف مكان لأنه يلزم عليه مفاجأة من بالمشرق لمن بالمغرب) ولا يلزم ذلك في الزمان.
ابن عطية: وقال سلمان (الفارسي) لم (يجئ) هؤلاء بعد.
ابن عطية: ومعناه لم ينقرضوا بل يجيئون في كل زمان.
قال ابن عرفة: والقول: إما لفظي وهو الأظهر، (وبعيد) أن يكون نفسيا ولا يمتنع لاحتمال (أن يخلق الله جل جلاله) في خواطرهم النهي عن ذلك وعدم امتثال ذلك النهي.
وأورد الزمخشري سؤالا قال: كيف يصح أن يقام مقام الفاعل جملة (الجملة) لا تكون فاعلة؟
وردّه ابن عرفة بأنّهم نَصّوا في باب الحكاية على عمل القول في الجملة المحكية مثل: قال زيد إن عمرا منطلق. واحتجوا بقوله:
142
مَتَى تَقُول القلص الرّواسما يدنين أمّ قاسم وقاسما
فإذا صح تعدي (القول إلى) الجملة على المفعولية صح إقامة ذلك المفعول مقام الفاعل.
143
قوله تعالى: ﴿ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون... ﴾
قال ابن عرفة: أَلاَ تنبيه والتنبيه لا يؤتى إلا في الأمر الغريب وكونهم لا يشعرون من الأمر الغريب.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْءَامِنُواْ كَمَآءَامَنَ الناس... ﴾
قال الفخر (الخطيب) : بدأ بالنهى عن الفساد لأنه راجع لدفع المؤلم ثم عقبه بالأمر بالإيمان لرجوعه إلى جلب المصالح، لأن دفع المفاسد آكد من جلب المصالح.
قال ابن عرفة: والآية عندي حجة لمن يقول: إنّ النظر واجب (بالعقل) (إذ لو كان واجبا) بالشرع لما كلفوا بالإيمان بل كانوا يكلفون بالنظر.
فإن قلت: ليس هذا بأول تكليفهم فلعلهم كلّفوا به بخطاب آخر قبل هذا؟ (قلنا) : الآية خرجت مخرج ذمّهم والذّم (الأغلب) فيه أنه إنما يقع على المخالفة في الأصل لا في الفرع.
143
قال ابن عرفة: ولكن يمكن أن يجاب عنه بوجهين:
الأول: أن الآية خرجت مخرج التقسيم بين الشيء وضدّه. (والإيمان) نقيض الكفر، وليس بينهما اشتراك، والنظر لا (يناقض) الكفر لأنه يكون صحيحا ويكون فاسدا، (فقد) ينظر المكلف فيهتدي، وقد ينظر فيضل. فالنظر اشتراك بين الكفر والإيمان فلأجله لم يقل: وَإِذَا قِيلَ (لَهُمْ) انظروا كما نظر الناس، (لأنّه) لا يدل صريحا على تكليفهم بالنظر الصحيح.
الثاني: إن النفوس مجبولة على النظر في غرائب الأمور فلو كلفوا بالنظر لأشبه ذلك (تحصيل الحاصل).
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن تكليفهم بالإيمان وذمهم على عدمه يستلزم تكليفهم بالنظر.
قال: (والكاف) منهم من جعلها (نعتا) (لمصدر) (محذوف) أي إيمانا (شبيها) (بإيمان)
144
الناس والمشبه بالشيء والمشبه بالشيء لا يقوى قوته، ففيه حجة لمن يقول: إن الإيمان يزيد وينقص (فكلفوهم) بتحصيل أقل ما يكفي منه، فلم يقبلوا ذلك.
قال أبو حيان: ومنهم من أعربه حالا من الإيمان أي آمنوا الإيمان كما آمن الناس لأن الإيمان المقدر يعرف بالألف واللام.
قال ابن عرفة: ولا يحتاج إلى (هذا) (لأن) سيبويه قال في قوله تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً﴾ إن رُوَيدا حال من المصدر المقدر وهو إمهال وصحّ إتيانها منه وإنْ كان نكرة (لأنه) لما ينطق به أشبه المضمر في المعرفة، (فكذلك يكون هذا).
قوله تعالى: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَآءَامَنَ السفهآء ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء... ﴾
أجابوا بعدم الامثتال مع ذكر الموجب لذلك، فأما أن يريدوا بالسفهاء المؤمنين فيكون (جرأة) منهم ومباهتة: أي أنتم
145
سفهاء ضعفاء فلا نتبعكم، أو لم يقصدوا أعيان المؤمنين بل قالوا هذا على سبيل المبالغة والجدل فيقول لهم المؤمنون على: هذا نعم، نقول بموجبه: (ونحن) لم نأمركم بإيمان السّفهاء فلسنا بسفهاء، وعلى الأول (لا) يحسن أن يقول لهم ذلك المؤمنون لأنهم (مباهتون) ويقولون: أنتم هم السفهاء.
قال الزمخشري: وإنما أطلقوا عليهم ذلك باعتبار الغالب لأن أتباع النبي صلّى الله عليه وسلم في أول الإسلام كان أكثرهم فقراء.
قيل لابن عرفة: إنما كان هذا في المدينة.
(قال) : كان أكثر المهاجرين معه فقراء.
قال الزمخشري: وختمت الآية بقوله: ﴿ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾، وتلك ﴿لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ إما لأن الفساد في الأرض (أمر) محسوس فناسب الشعور الذي هو (أوائل) الإدراك والإيمان معنوي يناسب العلم، (وإما لتقدم السفه وهو جهل، فناسب ذكر العلم طباقا).
146
قال ابن عرفة وانظر هل فيها دليل على أن التقليد كاف لقوله: ﴿آمِنُواْ كَمَآءَامَنَ الناس﴾. (الظاهر أنه ليس فيها دليل لأن المراد: انظروا لتؤمنوا كما آمن الناس) لأن الأمر بالإيمان أمر بما هو من لوازمه، ومقدماته، ومفعول «يعلمون» إما عاقبة أمرهم أو المراد لا يعلمون صحة ما أمروا (به) أو لا يعلمون علما نافعا، وحذف المفعول (قصدا) لهذا العموم.
قال ابن عرفة: وفي هذه آيتان، آية من الله تعالى بعلمه ذلك (مع أنهم) أخفوه: وآية أخرى بإعلامه به محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
147
وقال جل ذكره: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذينءَامَنُواْ قالواءَامَنَّا... ﴾
(إنما) اعبر بإذا اعتبارا بالأمر العادى لأنهم (مجاورون) لهم (وقريبون منهم) فهم في مظنة أن يكون لقاؤهم لهم محقق الوقوع. فإن قلت لم قال: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذينءَامَنُواْ قالواءَامَنَّا﴾. ولم يقل إذا لقيهم الذين آمنوا، وأي فرق بين قولك: لقيني زيد ولقيت زيدا، مع أنه أمر نسبي، فإن من لقيته لقيك؟
قال ابن عرفة: فرق بعضهم بينهما بأن المتلاقيين إن كانت لأحدهما مندوحة عن اللقاء، ويجد ملجأ أو مقرا فهو مفعول، والآخر الذي لم يجد ملجأ ولا مقرا بل اضطر إلى لقاء صاحبه يستحسن أن
147
يكون فاعلا للقاء، والمنافقون كانوا يكرهون لقاء المؤمنين، وإذا لقوهم في طريق يحيدون عنهم، فلذلك كانوا في الآية فاعلين لأنهم مضطرون إلى اللّقاء.
قال جل ذكره: ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ... ﴾
قال الزمخشري: لم عبّر في الأول بالفعل وفي الثاني بالاسم؟
وأجاب بأنهم عبروا بالفعل (لأنّ) مقصودهم الإخبار بتحصيل مطلق الإيمان، ولم يلتزموا تحصيل أعلاه، وأخبروا أشياطينهم بحقيقة أمرهم على جهة الثبوت.
قال ابن عرفة: وتقدّم الجواب عنهم بأنّهم (إنّما) عبّروا بالفعل لكونهم نزّلوا أنفسهم منزلة البريء الذي يقبل قوله ولا يتّهم، فلو أكّدوا كلامهم لكانوا مقرّين بأنَّ المؤمنين يتهمونهم بالكفر وينكرون عليهم زعمهم أنهم مؤمنون، فأرادوا أن لا يوقعوا لأنفسهم ريبة، بل يخبرون بذلك على البراءة الأصلية خبر من يكتفي منهم بأدنى (العبارة) ويقبل كلامه، ولا ينكر عليه.
وقولهم لشياطينهم: «إِنَّا مَعَكُمْ» أكدوا ذلك لأمرين: إما لكون (ذلك محبوبا لهم)، فبالغوا فيه كما (يبالغ)
148
الإنسان (في مدح ما) هو محبوب (له)، وإما تقرير لمعذرتهم لأنّهم أظهروا الإسلام (فخشوا أن) يتوهّم فيهم أصحابهم أنّهم مسلمون، فبالغوا في تمهيد العذر (لنيّتهم).
قال ابن عطية: قال الشّافعي وأصحابه: إنما منع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قتل المنافقين (لما) كانوا يظهرونه من الإسلام بألسنتهم مع العلم بنفاقهم لأن الإسلام يجبّ ما كان قبله فمن قال: إن عقوبة الزنادقة أشد من عقوبة الكفار فقد خالف الكتاب والسنة.
قال الشافعي: إنّما كفّ رسول الله عليه وسلّم عن قتل المنافقين مع العلم بهم، لأنّ الله نَهَاهم عن قتلهم إذا أظهروا الإيمان فكذلك هو الزنديق.
قال ابن عرفة: الفرق بينهما أنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم كان يعلم أن المنافقين يموتون على نفاقهم وكفرهم والزنديق لا يقدر أحد منا أن يعلم وفاته على الزندقة.
149
قوله تعالى: ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ... ﴾
149
قال ابن عرفة: هذا تشريف واعتناء بمقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث (تولى) الله عقوبتهم (بنفسه) ولم يقل: ملائكة الله يستهزئون بهم.
قال (ابن عرفة) (وأوردوا) هنا سؤالا في إسناد الاستهزاء إلى الله (فقدّره) المعتزلة (بأنّه) قبيح، وصدور القبح من الله تعالى محال، (وقدّره) أهل السنة/ بأنّ الاستهزاء ملزوم بالجهل لقوله تعالى: ﴿قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾ والجهل على الله تعالى محال فالاستهزاء في حقه محال.
وأجاب ابن عطية بثلاثة أوجه: إما أنه مجاز (المقابلة) كقولك:
قَالُوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا.
150
وقول لبيد:
أَلا لا يَجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وإما بأنه يفعل بهم من الإملاء بالنعم كفعل المستهزئ، أو يفعل بهم في الآخرة ما هو في (تأويل) البشر كفعل المستهزئ، حسبما روي أن النار تجمد كما تجمد الأهالة وهي الشحم (فيمشون) عليها يظنونها منجاة فتخسف بهم.
قال الزمخشري: هلا قيل: الله مستهزئ بهم كما قالوا هم: إنما نحن مستهزؤون؟ وأجاب بأن الفعل يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتا بعد وقت.
(فرده) ابن عرفة بأن دوامه عليهم أشد وأشنع.
قال: ويجاب عليه بأن التجدّد يقتضي تنويعه واختلافه عليهم
151
شيئا بعد شيء فلا يستهزئ بهم بنوع واحد.
وأجاب الطيبي بأن دوام العذاب فيه توطين لهم، فقد تألفه نفوسهم وتدرّب عليه بخلاف تجدّده فإنه إذا ارتفع عنهم يرجون انقطاعه (وإذا) عاد إليهم كان أشد عليهم.
قيل لابن عرفة: نقل بعض الشيوخ عن الأستاذ ابن نزار أنه كان ينهى عن الوقف على ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ﴾ لأن قوله ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ مقابل لما قبله فالصواب إيصاله (به) ؟
فقال ابن عرفة: كان غيره يختار في مثل هذا الوقف في الفصل بين كلام الله وكلامهم كما ينهى عن الوقف على «إنَّا مَعَكُمْ».
152
قوله تعالى: ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى... ﴾
الإشارة بلفظ البعيد إلى القريب (للبعد) من جهة المعنى. وفسر ابن عطية الشراء بأوجه متقاربة، إنها عبارات مختلفة فالأولان في كلامه راجعان لنفس المعنى، والأخيران (لكيفية) (صدق) اللّفظ على ذلك المعنى.
152
قال ابن عرفة: وأدخل الذين للحصر.
قال أبو حيان: ودخول الفاء في خبر الموصول لا يجوز إلا إذا كان الموصول عاما. (ويشترط) أن يكون فيه معنى التعليل للخبر وعادتهم يردون عليه بقوله تعالى: ﴿الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ لأنه ليس بعام ولا (هو) علة في الخبر، إذ ليس (الخلق) علة في الهداية وإلا لزم عليه مذهب المعتزلة.
قال: وهنا سؤال وهو لِمَ أثبت الضلالة دون الهدى والمناسب العكس أو كان يقال اشتروا (الضلال) بالهدى (فهو) أبلغ في الذّمّ لاقتضائه أنهم اشتروا الضلال الكثير بخلاف الضلالة الواحدة فإنها لا تفيد ذلك الذم؟
قال: والجواب بوجهين:
أحدهما: أنهم إذا ذمّوا على أخذ الواحدة من الضلال (فأحرى) أن يذموا على كثيره.
الثاني: أن هذا أشنع من حيث إنهم بدّلوا الهدى الكثير الشريف فأخذوا عوضه الشيء القليل من مقداره الحقير في ذاته.
فإن قلت: الهدى الذين اشتروا الضلالة به لم يكن لهم بوجه؟ قلنا: إمّا أنه يعد حاصلا لأجل تمكنهم منه أو هو حاصل
153
بالفعل لحديث: «كل مولود يولد على الفطرة» أو المراد المنافقون وقد حصل لهم الهدى (بالنطق) اللّساني فخالفوا بالفكر الاعتقادي (وبكفرهم) بلسانهم عند خلوّهم مع شياطينهم.
قوله تعالى: ﴿فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ... ﴾
فإن قلت: هلا قيل: فخسرت تجارتهم، فهو أصرح لأن عدم الربح لا يستلزم الخسران؟.
قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأنّهم إذا ذمّوا على عدم الربح فأحرى أن يذموا على الخسران.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾
(قال ابن عطية: قيل: معناه في شرائهم هذا، وقيل معناه على الإطلاق، وقيل: في سابق علم الله).
قال ابن عرفة: وتقدم لنا أن الصواب غير هذا كلّه وهو أن الخسارة في التجارة تارة تكون لأجل حوالة الأسواق برخص أو لأجل الجهل بمحاولة البيع والشراء أو لأجل الفساد وتبذير المال بإنفاقه في غير مصلحة أو فيما لا يحل، فلما أخبر عن هؤلاء بالخسارة في (تجارتهم) (بقي) أن يتوهم أنهم من القسم الأول الذين
154
لهم عذر في الخسارة لأن ذلك أمر جبري (ليس من قبلهم ولا لهم فيه اختيار بوجه فاحترز عن ذلك بقوله: ﴿وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ حتى يتيقن أنهم من قسم من كانت خسارته في التجارة من قبل نفسه وسبب فساده وقبح تصرفه وهذا أصوب من قول الزمخشري: إذ المراد بذلك إضاعتهم رأس المال ونظره ابن عطية بمنع مالك الاشتراء على أن (يتخير) المبتاع فيما تختلف (آحاده) ويمتنع التفاضل فيه.
ابن عرفة: الخيار والاختيار في آخر كتاب الخيار منع فيها أن يشتري الرجل عدد شجرة شجرة مثمرة يختاره اتّفق الجنس أو اختلف، وتدخله المفاضلة في الجنس الواحد وبيع الطعام قبل قبضه إن كان على الكيل، لأن من خير بين شيئين يعد متنقلا فيدع هذه وقد ملك اختيارها أو يأخذ هذه وبينهما فضل في الكيل، وكذلك منعه في الجنس الواحد المختلف الثمن من غير الطعام للفرد فإن اتفقت حاده أو استوت قيمته جاز الاختيار وان اختلف منع.
155
قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً... ﴾
قال ابن عرفة: كيف شبه (الجمع) بالواحد. فأجيب بأنّه كلية روعي فيها آحادها، أو المراد بالموصول الجمع أو هو واحد
155
بالنوع لا بالشخص، والتشبيه يستدعي مشبها ومشبها به ووجه التشبيه نتيجتة، كما أن القياس التمثيلي يقتضي فرعا وأصلا وعلة جامعة ونتيجة وهي الحكم، فالمشبه المنافقون والمشبه به مستوقد النار. ووجه التشبيه حكى فيه ابن عطية حمسة أقوال (ونتيجته) هو الخسران والندم.
قوله تعالى: ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ... ﴾
قال السهيلي في الروض: إن قلت: لم عداه هنا بالباء. وقال في سورة الأحزاب: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت﴾ فعداه بنفسه؟
فأجاب بأن الباء تقتضي الصاحب، فإذا قلت: ذهبت بزيد، فأنت أذهبته وذهبت معه والنور محبوب شرعا فناسب اسناد الذهاب إليه باعتبار الفهم والتصور وإن كان في حق الله تعالى محالا لكنه على معنى يليق به، كما وصف نفسه بالمجيء في قوله: ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً﴾ والرّجس مذموم شرعا وطبعا فناسب إبعاده عنه (وعدم) إسناده إليه.
قال ابن عرفة: وفي (التعدية) بالباء التي للمصاحبة نوع زيادة وإشعاره (بدوام) الذهاب، وملازمته بسبب ملازمة
156
فاعل الذهاب له، فلا يزال ذاهبا عنهم فهو أشد في عقوبتهم حتى لا يتصور رجوعه (إليهم) بوجه. وتكلم الطيبى (هنا) (في الضياء) والنور.
قال الزمخشري: النور ضوء النهار وضوء كل شيء، وهو نقيض الظلمة، والضياء إفراط الإنارة، فالنور عنده زيادة في الضياء. قال تعالى:
﴿هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً ﴾ وقدره صاحب المثل السائر بأنّ الضياء هنا (مثبت) والنور منفي.
والقاعدة استعمال الأخص في الثبوت والأعم في النفي فإذا ثبت أعلى الضياء فأحرى أدناه، وإذا انتفى أقل النور (ومبادِئُهُ)
157
فأحرى أكثره أعلاه.
وتعقب عليه صاحب الفلك الدائر بأن يعقوب ابن السكيت نص في (إصلاح) المنطق على أن الضياء هو النور لا فرق بينهما.
وقال بعضهم: قول: من قال: إن القمر مستمد من نور الشمس مخالف لمذهب أهل السنة، ولا يتم إلا على مذهب الطبائعية. ورد بعضهم على الفخر الخطيب في سورة النور عند قول الله تعالى: ﴿الله نُورُ السماوات والأرض﴾ قال فيها: إن النور هو الضوء الفياض من الشمس.
(قال) : ما يتمّ إلا على القول بالطّبع والطبيعة.
وأجاب ابن عرفة بأنه أخطأ في العبارة فقط، ومراده أنه نور يخلقه الله في القمر عند مقابلة الشمس، ومذهب أكثر أهل السنة أن الظلمة أمر وجودي، وذهب الحكماء والفلاسفة إلى أنها أمر عدمي.
قوله تعالى: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ... ﴾
158
قول الله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ... ﴾ الآية
158
قال ابن عطية: الأصم هو من لا يسمع. والأبكم من لا ينطق ولا يفهم، والأخرس من (يفهم) ولا ينطق. وقيل: الأبكم والأخرس واحد.
قال ابن عرفة: تقدم في الأصول أنه إذا (تعارض الترادف) والتباين (فالتباين) أولى وانظر (ما معنى) كونهما سواء هل يرد الأبكم إلى الأخرس او بالعكس (وعادتهم) يقررونه بأن معنى كونهما سواء أن الأبكم والأخرس هو الذي لا ينطق سواء فهم أو لم يفهم، ولو فسرناه برد الأخرس إلى الأبكم للزم عليه الإهمال والتعطيل، لأنّه يكون الأصم من لا يسمع والأخرس والأبكم من لا ينطق ولا يفهم، (ويبقى) من يفهم ولا ينطق واسطة بينهما مهملا.
قيل (له) : إنا نجد الأخرس هكذا؟
(فقال) : قد يكون في الشيوخ الصم من تعطل فهمه.
قال: والترتيب في الآية (قدوره) بوجهين: إما أنه على حساب الوجود الخارجي لأن المكلف يسمع قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
159
أني رسول من عند الله فينطق ويقول له: ما دليل صدقك (فيريه) انشقاق القمر (أو غَيره) من الآيات. وإما لأن الأمور منها (ما يصدرُ) عن الشخص وهو منفعل، ومنها ما (يصدر) عنه وهو فاعل، فحاسة السمع من (قبيل) قسم المنفعل لا من قسم الفاعل، لأن الإنسان يسمع الشيء من غيره، وليس له فعل، وحاسة النطق من (قسم) الفاعل لأنه لا يتكلم إلا باختياره إن أراد (تكلم) وإلا سكت، وحاسة البصر جامعة (للامرين) فالنظرة الفجائية من قسم المنفعل لا من قسم الفاعل لا تسبب (للإنسان) فيها، وما عداها من قسم الفاعل. فبدأ أولا (بقسم المنفعل) لأن الكلام في شيء مخلوق حادث والأصل في الحادث الانفعال لا الفعل، وهما خبر مبتدأ محذوف، وحسن حذف المبتدأ لكون الخبر لا يصح إلا له وتعدد الجنس فيه خلاف فمنعه بعضهم، وأجازه آخرون بشرط كون الجميع في معنى خبر واحد، ومنهمْ من كان يجعله خلافا ومنهم من يجمع بين القولين بأنّ الذي منع من التعدد إنما منع حيث يكون الخبران متناقضين كقولك: زيد قائم قاعد، أو متحرك ساكن. والذي أجازه بشرط الجمعية معنى واحد، هكذا مراده، لأن النقيضين لا يجتمعان في معنى واحد بوجه.
قال الله تعالى: ﴿فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾
160
قال أبو البقاء: جملة مستأنفة، وقيل: في موضع نصب على الحال فتعقبه أبو حيان بأن ما بعد الفاء لا يكون حالا. قال: لأنّ الفاء للترتيب، والحال مقارنة لا ترتيب فيها.
قال ابن عرفة: الحكم بكون الفاء تمنع عمل ما قبلها فيما بعدها صحيح إلا أن هذا التعليل باطل لأنا نقول: تكون الحال مقدرة لا محصلة قال: وقوله: فهم لا يرجعون.
قيل: إنه خبر وقيل دعاء.
قال ابن عرفة: لا يتمّ كونه دعاء إلا أنّهم صمّ حقيقة، فإن أريد به المجاز فلا يصح الدعاء عليهم به.
قيل لابن عرفة: ولا يصح كونه حقيقة لأن مقتضاه لم يقع.
فقال: الدّعاء ليس من الله (فيلزم حصول متعلقه) بل هو (أمر) للنّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والملائكة. فالدّعاء عليهم بهذا اللفظ لا يلزم وقوعه فإنه تحصل للدّاعي مطلوبه، وقد لا يستجاب له، ويثاب على الدّعاء.
قال ابن عطية: وقال غيره، معناه: لا يرجعون، ما داموا على الحال التي (وصفهم بها).
قال ابن عرفة: هذا تحصيل الحاصل.
161
قيل له: قد قال أهل المنطق: كل كاتب محرك يده ما دام كاتبا، ولم يجعلوه تحصيل الحاصل. فقال: (هؤلاء) ينظرون إلى المعنى، والنحوي كلامه في صحة تركيب (الألفاظ) (والاصطلاحان) متباينان.
162
قال الله تعالى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء... ﴾
قالوا: أو هنا (تحتمل معانيها) الخمسة.
قال ابن عرفة: وجعلها للتفصيل أصوب من جعلها للشك فإن الشكّ من حيث ذاته يحتمل ثلاثة معان وإن كان ذلك احتمالا ضعيفا.
تقول: زيد قائم أو قاعد تشك: هل هو قائم أم لا؟ ثم تشك هل هو قاعد أم لا؟ ويحتمل أن يكون غير ذلك ولا ينحصر الأمر إلا في دخولها بين نقيضين مثل زيد متحرك أو ساكن، ويبعد كونها للتخيير أو الإباحة لأنهما أكثر ما يكونان في الطلب، وهذا خبر، ويبعد الجمع بينهما هنا باعتبار الزمان لأن الناظر أولا ينظر/ إلى مستوقد النار فيشبههم به ثم ينظر إلى المطر النازل في الظلمات فيشبههم به، وهو على حذف مضاف..
فإن جعلنا الذي اسْتَوْقَدَ النَّار جمعا (في التقدير) قلنا: أو كأهل صيّب، وإن جعلناه واحدا بالنوع قدرنا المضاف أو كذي صيّب.
162
وأورد الزمخشري سؤالا قال: ما الفائدة في قوله: (من) السماء؟ وكأنه إخبار بالمعلوم (كقولك) : الماء فوقنا والأرض تحتنا ولذلك منع سيبويه الابتداء بالنكرة كقولك: رجل قائم، إذ لا فائدة فيه. وأجاب بجواب لا ينهض.
قال شيخنا الإمام ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن فائدة التنبيه على كثرة ما فيه من الهول لأن حصول الألم والتأثير بشيء ينزل من موضع مرتفع بعيد الارتفاع أشد من حصوله مما ينزل من موضع دونه فى الارتفاع، فأخبر الله تعالى أن هذا المطر ينزل من السماء البعيدة، فيكون تأثيره وتأثير رعده، وبرقه وصواعقه أشد.
قال الله تعالى: ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ... ﴾
(يحتمل أن يكون من باب القلب لأن المطر ينزل في الظلمات لأن الظلمات فيه) يحتمل أن يكون الظلمات في المطر حقيقة والأول أظهر و (كذا) تقدم لنا في قوله تعالى: ﴿إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل﴾ وفي قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْنَاقِهِمْ
163
أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذقان فَهُم مُّقْمَحُونَ} وتقدم لنا أنه من باب القلب (فإن أعناقهم) هي التي في الأغلال لا العكس، وتقدم الجواب عنه بأنه (حقيقة) على أنّ الأغلال ضيقة جدا (فتحصر) أعناقهم وتدخل فيها حتى تصير الأغلال مضروبة في أعناقهم.
قوله تعالى: ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ... ﴾
هذا الترتيب باعتبار الأعم الأغلب في الوجود لوجود الظلام في كل دورة لأن كل يوم معه ليلة، وذكر الرعد بعده لأنه أكثر وجود من البرق لأن البرق لا بد معه من الرعد، والرعد قد يكون معه برق وقد لا يكون، أو لأن الرعد في (الظّلمة) أشد على النفوس من الرّعد في (الظّلمة) أشد على النفوس من الرّعد في الضوء، (والآية خرجت) مخرج التخويف فابتدأ (فيها) بما هو أشد (في) التخويف.
قوله تعالى: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ... ﴾
ولم يقل: أنامل أصابعهم والمجعول إنما هي الأنامل إشارة إلى شدة جعلها وقوة الشدّ لها، حتى كأنّهم يجعلون الإصبع كلّها.
164
وقال ابن عرفة: وجمع الأصابع إشارة إلى شدة تحيرهم وخوفهم وأنّهم لم يتأمّلوا ويهتدوا حتى يجعلوا إصبعا واحدة ((وهي السبابة فهم تارة يجعلون هذا وتارة هذا حتى (يجعلوا) الجميع)).
قوله تعالى: ﴿مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت... ﴾
أي حذرا من أن يقرع ذلك الصوت أسماعهم فيموتون.
قال ابن عرفة: واختلفوا في وجه التشبيه (فهو عندي كما قرره) بعضهم راجع لتشبيه محسوس أي: أن المنافقين في خوفهم وفي حيرتهم مشبهون بمن يدركه هذا الصيب والرعد والبرق.
قوله تعالى: ﴿والله مُحِيطٌ بالكافرين﴾
(هذه) تسلية للنّبي صلى الله عليه وسلّم. والمراد بالكافرين إمّا المنافقين أي لا تهتم بأمرهم فالله يكفيكهم فإنه محيط بهم إحاطة هلاك في الدنيا (وعذاب) في الآخرة، أو المراد عموم الكافرين هؤلاء منهم، وهذا كالاحتراس لأنه لما أخبر عنهم أنّهم في غاية الخوف والحذر من المؤمنين شبّههم بمن (يسدّ أذنيه خشية) الموت، والخائف في (مظنة) (السلامة لأنه يكون على حذر من عدوه وتحرز منه ويرتكب أسباب النجاة فأخبر الله تعالى أنّهم ليسوا من هذا القبيل
165
بل لا نجاة لهم مما هم خائفون منه فالله محيط بهم إحاطة إهلاك وانتقام.
166
قوله تعالى: ﴿يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ... ﴾
قال ابن عرفة: هذا من (تمام) قوله: ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ فصل بينهما بجملة اعتراض وهي قوله ﴿والله مُحِيطٌ بالكافرين﴾ أتت (مشددة) لما قبلها.
قال: واختلفوا في كاد فقيل: (نفيها) إيجاب، وإيجابها نفي.
قال ابن الحاجب: إذا دخل النفي عليها فهي كالأفعال (على الاصح وقيل: إنها تقتضي الثبوت مع الماضي والمستقبل، وقيل: مع الماضي للاثبات ومع الاستقبال كالأفعال) وانظر أبا حيان.
166
قال ابن عرفة: الظّاهر عندي أن (الخلاف) لفظي يرجع إلى (الوفاق) فمن رده النفي إلى المقاربة جعلها كسائر الأفعال ومن رده إلى نفس الفعل الذي تعلقت به المقاربة قال نفيها إثبات وإثباتها نفي.
فإن قلت: هلا قال: كلما أنار لهم مشواْ فيه؟
(والجواب: أنه لشدة) الظّلمة (لا يزيلها) إلاّ شدة الضوء (وقليل) النور لا يزيلها، أو لشدّة (الضوء) عقب شدة الظلمة إذ هو (أشد في التخويف).
(فإن قلت) : هلا قيل: وإذا ذهب ضوؤه عنهم قاموا فإن ذهاب الضوء يكون بحصول مطلق (الظلمة) حسبما تقدم أن الضوء هو إفراط الإنارة.
والجواب بأنّ الحالتين لا واسطة بينهما: فإما ظلام شديد وإما ضوء شديد وهذا أبلغ في التخويف، وهو معاقبة ظلام شديد (بضوء شديد) سريع الذهاب يعقبه أيضا ظلام شديد.
فإن قلت: ما أفاد قوله فيه مع أن المعنى يهدي إليه؟
167
قلنا: أفاد أنهم لا يمشون إلا في موضع الضوء خاصة، ولا يستطيعون المشي في غيره.
فإن قلت: ما أفاد قوله «عَلَيْهمْ» ؟
قلنا: التنبيه على أنّ تلك الظّلمات عقوبة فهي ظلمة عليهم ولأجلهم فليست على غيرهم بوجه.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ... ﴾
فإن قلت: هلا علقت المشيئة بما (تحذروا) منه، وهو الموت لأنهم لم يتحذروا من الصمم والعمى؟
والجواب: أن الموت أمر غالب عام متكرر في العادة ليس لأحد مقدرة عن التحرز منه (وأما ذهاب السمع والبصر فهو نادر ليس بعام يمكن المخالفة فيه وادّعاء الحذر منه) (بالتحرز) والتحصن بأسباب النجاة فلذلك أسندت (المشيئات) إليه.
قلت: (أو) لأنهم لم يتحرّزوا من الموت ألاّ بسدّ سمعهم فلذلك أسند الذهاب إليه.
قال الطيبي: والآية حجّة لمن يقول: إن القدرة (تتعلق) بالعدم الإضافي لأن المعنى: لو شاء الله أن يعدم سمعهم لعدمه.
168
وردّه ابن عرفة: بأن القدرة إنما تعلقت بإيجاد نقيض السمع والبصر في المحل، فانعدم السمع والبصر إذ ذاك لوجود نقيضهما لا لكون القدرة تعلقت بإعدامهما.
قال الطيبي: في مناسبة هذه الآية إنّه لما تقدم أن الرعد سبب/ لإذهاب سمعهم والبرق سبب لإذهاب سمعهم والبرق سبب لإذهاب بصرهم نبّه بهذا على أنّه ليس بسبب عقلي فيلزم ولا ينفك بل هو سبب عادي بخلق الله تعالى ولم يقع ولو شاء أن يقع لوقع.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
قال ابن التلمساني: لا خلاف لأن المعدوم باعتبار التقرر في الأزل لا يصدق عليه شيء واختلفوا في الإطلاق اللّفظي (فذهب المعتزلة إلى أنه يطلق عليه شيء) ومنعه أهل السنة.
قلت: وقال الآمدي في أبكار الأفكار: هما مسألتان:
- أحدهما: هل يطلق على المعدوم شيء أم لا ولا (ينبني عليها) كفر ولا إيمان؟
والثانية: هل المعدوم تقرر في الأزل أم لا؟
169
فذهب المعتزلة إلى أنّ له تقررا في الأزل ويلزمهم الكفر وقدم العالم.
قال الزمخشري: (في) أن الشيء يطلق على الممكن والمستحيل.
وظاهر الآية حجة المعتزلة لأنه لو كان المراد أن الله على كل (شيء) موجودٍ قديرٌ للزم تحصيل الحاصل.
فإن قلت: يصح تعليق القدرة بالموجود عند من (يقول) : إن (العَرض) لا يبقى زمانين؟
(قلت) : إن كانت القدرة متعلقة (بالعرض الموجود) فيلزم تحصيل الحاصل، وإن تعلقت بإيجاد العرض الذي يخلقه (هو) حين التعلق معدوم فيلزم تعلقها بالمعدوم.
قلت: وأجيب بثلاثة أوجه:
الجواب الأول: أجاب القرافي في شرح الأربعين لابن الخطيب بأن المشتق كاسم الفاعل لا خلاف في صحة (صدقه)
170
حقيقة في الحال (مجاز) في الاستقبال. (واختلفوا) في صدقه عن الماضي. قال: هذا إذا كان (محكوما) به، وأما إذا كان متعلق الحكم فلا خلاف في صحة صدقه على الأزمنة الثلاثة حقيقة (نحو القائم في الدار) (قال) : وكذلك لفظة شيء إن كان محكوما به كقولنا: المعدوم شيء، ففيه التفصيل المتقدم، وإن كان متعلق الحكم كهذه الآية فلا خلاف أنه يصدق على المستقبل حقيقة.
الجواب الثاني: قال ابن عرفة: القدرة تتعلق بالممكن لعدم المقدر الموجود كما يفهم (من) معنى قوله تعالى ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ﴾ المراد من حصل منه الزنا (بالفعل)، ومن سيحصل منه الزنا يصدق عليه في الحال أنّه زان (باعتبار) على تقدير (وجوده)، وهذا كما (يقول) المنطقيون: القضية الخارجية والقضية الحقيقية ويجعلون (القضية) الخارجية عامة في الأزمنة الثلاثة مثل كل أسود مجمع للبصر وكل أبيض (مفرق) للبصر. والمراد (به) كل موصوف بالسّواد مطلقا في الماضي والحال والاستقبال.
171
فإن قلت: (هلا) يلزمكم تخصيصه بالممكن الذي علم الله تعالى أنه يوجد ولا (يصدق) (على الممكن الذي علم الله) أنه لا يوجد؟
قلنا: نعم وصح إطلاق الحدوث عليه لأن الآية خطاب للعوام ولو كان خطابا للخواص لتناولت الممكن بالإطلاق الذي علم لله أنه (لم يوجد) فالمراد: الله قادر على كل شيء موجود لأن الخطاب للعوام. ونظيره الوجهان (المذكوران) في الاستدلال على وجود الصانع.
قالوا: ثم دليل الإمكان يخاطب به الخواص، ودليل الحدوث بخاطب به الجميع.
وأشار الطيبي إلى هذا وزاد جوابا آخر، وهو ثالث، وهو الجواب الثالث: أن لفظة شيء تصدق على الموجود عند (وجود) أول جزء منه فيصح تعلق القدرة به (إذ ذَاك).
قالوا: وهذا العموم مخصوص بالمستحيل.
172
وقال ابن فورك: لا يحتاج إلى تخصيصه لأنك إذا قلت (للآخر) كل مما في هذا البيت فلا (تأكل) إلا مما هو مطعوم، وما ليس بمطعوم لا تأكله. وكذلك هو الذي وقع به التخصيص اللّفظُ يأباه فلا يحتاج إلى إخراجه منه.
قال ابن عرفة: «إنّا إن اعتبرنا لفظ شيء من حيث الإفراد وجب التخصيص (وإن) اعتبرناه من حيث التركيب لم يحتج إلى تخصيصه.
قال ابن الخطيب:»
لو كان (لفظ) شيء عاما في الموجود والمعدوم لما صدق على الموجود شيء لأن الآية دلّت على أن تعلق القدرة في العدم فلا يصدق عليه بعد الوجود شيء «.
وأبطله ابن عرفة بأنه ما صار موجودا حتى ثبت له ذلك الاسم (في) العدم وتعلقت به القدرة وصدق عليه لفظ شيء»
.
173
قوله تعالى: ﴿ياأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ... ﴾
قال ابن عرفة: هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب لأنه تقدم الكلام بين المسلمين والمنافقين بلفظ الغيبة ثم أقبل على الجميع بالنداء وهو خطاب لمشركي مكة.
قال القاضي العماد: « (في) هذا اضطراب وتناقض لأن جعله التفاتا يقتضي خطاب جميع الناس مسلمهم وكافرهم».
173
وأجاب ابن عرفة: بأنه خطاب لجميع الناس الذين منهم مشركو مكة.
قال: وإذا قلنا إن السورة مدنية كيف يخاطب مشركو مكة؟ إلا أن يقال: إنه خطاب للجميع ويتناول مشركي مكة وإن كانوا غالبين من باب تغليب المخاطب على الغائب.
قال: وحرف النداء اما اسم فعل لأنادي وأنادي إما خبر أو إنشاء والصحيح أنه إنشاء في معنى الخبر يدل عليه قول الفقهاء: إن من قال لرجل: «يا زان» إنّه يحدّ.
(قال) : ويَا نداء للبعيد ويستعمل في القريب مجازا.
وقيل إنه (وضع) أيضا للقريب فيكون مشتركا فيتعارض الاشتراك والمجاز فالمجاز (أولى).
وعلى ما قال ابن الخطيب في القدر المشترك: يكون للقدر المشترك بينهما وهو أول من تكلّم به أعني ابن الخطيب.
وقال بعضهم: لم تعرف العرب القدر المشترك بوجه. ورده بعضهم بتفريق الجزولي بين علم الجنس وعلم الشخص.
قال: وحرف النداء جرى مجرى أداة التعريف فلذلك لم تدخل على ما فيه الألف واللام إلا بواسطة أي.
174
قال (ابن عرفة) : وعادتهم يردّون بقولك: يا/ رَجُل فلو كان (للتعريف) (لما صحّ) دخوله على النكرة.
وأجاب بأن النكرة غير مقبل عليها، والتعريف في المنادى إنما هو (بما فيه من) معنى الإقبال.
والنّاسُ (إن) أريد به أهل مكة فيدخل غيرهم من باب خطاب التسوية، (لأنّهم) يتناولهم التكليف كما قال اللّخمي في أول كتاب النكاح.
قال مجاهد: ﴿ياأيها الناس﴾ حيث وقع (فهو) مكي و ﴿ياأيها الذينءَامَنُواْ﴾ مدني.
(قال الطّيبي) أكثر اقتران النّاس بلفظ الرّبّ.
قال ابن عرفة: لأنه تكليف للجميع من المؤمنين والكافرين، فحسن فيه وصف التربية (بالإحسان) والإنعام على سبيل التهييج
175
للامتثال. ولما كان الآخر خطابا لمن حصل له الإيمان بالفعل لم يحتج إلى ذلك التأكيد.
وَاعْبُدُو: حمله ابن عطية على التوحيد. وحمله الزمخشري على الطاعات.
قال الطّبري: وفيها حجة لأهل السنة القائلين بوقوع تكليف مالا يطاق (لأنّ) من جملة الناس المنافقون المخبر عنهم بأن الله ختم على قلوبهم (وسمعهم).
(وردّه ابن عرفة بأن هذا ليس من محل النزاع).
فقد استثنى ابن التلمساني في شرح المعالم (الفقهية) في المسألة الرابعة عشر من باب الأوامر استثناء المحال عقلا كالكون في محلين في وقت واحد، والمحال عادة. كالطيران في الهواء فقال: هذا لا يصحّ التكليف به (إلاّ مع التمكن ومع القدرة عليه.
كما يحكى عن الركراكي وغيره من الصالحين وهذا) (
176
ليس) من ذلك القبيل بل يصح التكليف به وإن كان غير واقع في علم الله تعالى.
وحمل الزمخشري (الترجي) على الوجوب وهو المناسب لمذهب المعتزلة لأنهم يقولون: إن الطائع يجب على الله أن يثيبه وكما قالوا في قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ قال ابن عرفة: وإذا فسّرنا العبادة بالتوحيد كما قال ابن عطية بيكون في الآية دليل على أن النظر واجب بالعقل، ولو وجب بالشرع لأمروا أولا بالنظر ثم بالتوحيد.
فإن فسرنا العبادة بفعل التكاليف الشرعية من الصلاة والزكاة وغير ذلك كما قال الزمخشري فيكون فيها دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة إلا أن يقال: إنهم كلفوا بالايمان وبفروعه ضربة واحدة.
177
قوله تعالى: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً... ﴾
أخبرهم أنّ الله تعالى خلقهم، وعقّبه ببيان ما هو من ضروريات الأجسام المخلوقة وهو الخبر. وعبّر عنه بالفراش تنبيها على أنه نعمة لهم كالفراش الذي ينام عليه الإنسان، ويتلذذ به، ويطمئن إليه.
177
قال الزمخشري: والموصول إما منصوب صفة للنعت كالذي خلقكم أو على المدح والتعظيم أو رفع على الابتداء وفيه ما في النصب من المدح.
قال ابن عرفة: لا يكون فيه ما في النصب إلا إذا كان خبرا (لمبتدإ) مضمر لأن معناه الممدوح الذي جعل لكم وأما إذا كان مبتدأ فلا يفيد ذلك التعظيم الذي في النصب بل دونه لأنه إذا جعله خبرا يقدر المبتدأ معرفا بالألف واللام فيفيد الحصر والتعظيم، وإن جعله مبتدأ (يقدر) خبره نكرة.
فإن قلت: هلا قيل: الذي جعل لكم ولمن قبلكم (كما قيل ﴿الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ) ﴾ فالجَواب من أوجه.
قال ابن عرفة: إمّا أن يجاب بأنه من (الحذف) من (الثاني) لدلالة (الأول) عليه، أو (بأن) حصول العلم بخلق الله لهم لا يستلزم العلم بخلق الله لمن قبلهم لزوما عقليا، بخلاف
178
الاخبار بجعل الأرض فراشا لهم بعد أن ذكر أن الله (خلقهم) وخلق من قبلهم فإنه لا يستلزم عقلا (جعلها فراشا لمن قبلهم كما جعلت فراشا لهم) أو يجاب (بأنه من تغليب المخاطب على الغائب). أو بأن الآية خرجت مخرج الامتنان (بما هو مأوى المخاطبين) فامتنّ عليهم بخلقهم، ثمّ بخلق آبائهم الذين هم سبب فيهم، ثم جعل الأرض لهم فراشا (لأنها) سبب في دوام وجودهم ونعمة لهم، ولم، يحتج إلى ذكر كونها فراشا لمن قبلهم لأن الامتنان (إنما) هو لها، وإنّما المخاطبون (الأحياء، ومن) قبلهم قد ماتوا وانتفى عنهم التكليف.
قال ابن عرفة: والأرض (كرويّة) والكرة الحقيقية لا يمكن أن (يوجد) فيها خط مستقيم بوجه حسبما برهن عليه إقليدس.
قال ابن الخطيب في الأربعين: لما استدل على بطلان الجوهر الفرد قال: إن الكرة الحقيقية إذا ما مسّت جزءا من الأرض فإن قلنا:
179
إنّ ذلك الجزء لا ينقسم فهو الجوهر الفرد وإن قلنا: إنه ينقسم لزم أن يكون في الكرة خط مستقيم وهو باطل.
قال ابن عرفة: فالصواب أن الكرة محددة (بكور) أخر (وضع عليها) (كما تأخذ) رطلا من شمع فتصنع من نصفه كرة وتأخذ (باقيه) تضعه على أجنابها (تسويها به) وكذا تعرض الأرض قال: (قبة أزين) في وسط الأرض.
وذكروا أنه لا يعيش هناك أحد لكثرة ما فيها من الحرارة.
قلت: وقال الشيخ عبد الخالق: والحكماء لما قاسوا الأرض اختلف عليهم وسطها الحقيقي لكن الاختلاف في مواضع قريب بعضها من بعض فبنوا عليه القبة على مواضع مسافتها ثلاثة أميال حتى
180
تحققوا أنها احتوت على وسط الأرض الحقيقي قال: ورأيت رجلا رجلا أعجميا أخبر أنه رآها وسمع فيها الأفلاك ودوي حركتها.
وأخبروا عن الحكيم (فيتاغوش) أنه أتى عليه وقت تروحن فيه وصعد إلى قريب السماء فسمع حس الأفلاك (قال) : ويسمع أحسن من ذلك الحس فنزل (واستنبط صنعة الديباج) مما رأى في السماء والله أعلم.
وقبة (أزين) بينها وبين جبل سرنديب درجتان لأن عرضه درجتان في الإقليم الأول وهو عامر والدرج يقابله في الأميال مائة ميل على ما عليه الأكثرون وصحّحوه. وقيل: مائة وثمانية وقيل: ستة وستون. ومن يكن في القبة يظهر له القطبان محاذيين للأفق.
181
قيل لابن عرفة: إن الفخر في المباحث المشرقية ذكر أن الأرض على الماء (وجهتها الموالية) للماء كروية وأعلاها مسطح ولولا ذلك لما استقرت على الماء والله أعلم.
قوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ... ﴾
المراد بالرزق المباح فهو عند المعتزلة من مادة اللّفظ على أصلهم وعندنا من (ناحية) أن الآية خرجت مخرج الامتنان والامتنان إنما يكون بالحلال (لا بالحرام).
قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
أي وأنتم تعلمون الله.
قيل لابن عرفة: فيه دليل على أن كفرهم عناد؟
قال: لا. بل هم عارفون بالله لأنهم قالوا في الأصنام ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله﴾ وهم جاهلون بما يبطل عبادتهم الأصنام للتقرب أو (نقول) (المعنى)
182
وأنتم تعلمون الآيات والدلائل التي تدلكم على عبادته، (لكنّهم) لم يهتدوا (للعثور على الوجه) الذي منه يدل (الدليل إن كان ارتباط الدليل بالمدلول عقلا أو يقول: علموا الدليل، وعثروا على الوجه الذي منه يدل)، ولم يحصل لهم العلم بالمدلول بناء على ارتباط الدليل بالمدلول عادي.
183
قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ... ﴾
قال ابن عرفة: لمّا تقدم الكلام معهم في الإيمان بتوحيد الله والإيمان بالرسالة عقب ذلك بما جرت به العادة (في المخاطبة) بالجدل، وهو (أنكم) وقع منكم شك في البرهان الذي أتاكم به الرسول دليلا على صحة رسالته فعارضوه، وهذا أحد أنواع الجدل وهو إما القدح في دليل الخصم، أو معارضته بدليل آخر.
(قيل) : لابن عرفة: هم ادعوا أن القدح في الدليل فهلا عجزوا بذلك؟
فقال: (قد) نجد الخصم يدعي دعاوي (جملة) ويقدح في دعاوي خصمه، ولا يقبل منها شيّا إلا ما يمكن أن يكون فيه شبهة.
قال: والأظهر أن الريب هو عدم الجزم بالشيء، فتناول الظن والشك والوهم، لأن الإيمان لا يحصل إلا بالجزم اليقيني، وما عداه كله ليس بإيمان.
183
قال: وعبّر ب «إن» دون إِذَا لأن المراد (التنبيه) عن حالهم، وانها مذمومة شرعا فعبر عنها لما يقتضي عدم الوقوع وإن كانت واقعة.
وأورد الزمخشري أن نزّل يقتضي التنجيم، وأنزل يقتضي الإنزال دفعة واحدة. وأجاب (عن ذلك) بأن المراد أنه نزل شيئا بعد شيء.
قال ابن عرفة: ونقضوا هذا بقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ وتقدم الجواب عنه.
قال التلمساني: من أن اللّفظ (قد) يدل على المعنى بظاهره ولا (يظهر) (بخلافه) في بعض الصور.
فإن قلت: ما الحكمة في تنزيله منجما؟
(قلنا) : علله بعضهم بما في الآية وهي: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾
184
قال ابن عرفة: يرد عليه أنه من الجائز أن يثبت الله تعالى به فؤادك صلّى الله عليه وسلم مع نزوله جملة واحدة.
قال: ويمكن تعليله بأن ذلك الأظهر فيه كمال الدلالة على صدقه لأن العادة أن رسول الملك إذا كذب عليه إنما يكذب مرّة واحدة وبعيد أن (يكرر) الكذب خشية التفطن منه والعلم به فلو أنزل عليه في مرة واحدة لقويت التهمة في حقه فلما تكرر إنزاله مرارا كان ذلك ادعى لجواب تصديقه.
قوله تعالى: ﴿على عَبْدِنَا... ﴾
ولم يقل على رسولنا تنبيها على ما يقوله أهل السّنة من أنّ الرّسول من جنس البشر وعلى طبعهم (وأنّ وصف الرسالة أمر اختص) الله به من شاء من عباده وليست في ذواتهم زيادة (موجبة) بوجه.
وقال القرطبي: إنما قال ذلك لأن العبودية تقتضي التذلل والخضوع ولا شك أن التذلل للبارئ جل وعلا هو أشرف الأشياء.
قال ابن عرفة: نمنع ذلك بل (وصف الرسالة أفضل منه) فهلا قيل: مما نزلنا على رسولنا؟
وقال بعضهم: إنما ذلك تنبيها على أنّهم إذا ذموا على مخالفته مع استحضار كونه عبدا فأحرى أن يذموا على ذلك مع استحضار كونه رسولا من عند الله.
185
(قرئ) ﴿مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا﴾. فإن قلت: إنما هم في ريب مما نَزَلَ على عبدنا هذا فقط،
قلنا: الشك في المنزل على هذا شك في المنزل على من قبله لأن الكل رسل من عند الله يصدق بعضهم بعضا فالشكّ في أحدهم شكّ في الجميع.
قوله تعالى: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ... ﴾
قال ابن عرفة: (قال ابن عطية) : قال الأكثرون: مثل نظمه ووصفه وفصاحة معانيه ولا يعجزهم إلا (التأليف) الذي خص الله به القرآن، وبه وقع الإعجاز عند الحذاق.
وقال بعضهم: من مثله في غيوبه وصدقه وقدمه (في التحدي وقع عند هؤلاء بالقديم).
قال ابن عرفة: إن قلت: هذا (الخلاف) مخالف لما (نصّ) عليه الفخر وإمام الحرمين في الإرشاد من أن المعجزة
186
من شرطها أن تكون حادثة لأنها (إن) كانت قديمة استحال أن يأتي بها الرسول، (أو تكون) دليلا على صدقه لأن الرسول حادث.
(قلت) : القديم هنا ليس هو كل المتحدى به هو جزء من أجزاء المعجزة التي تحدّى بها الرسول، فالرسول تحدى بكلام لا مثل له في صدقه وإخباره بالغيوب وأن مدلوله (هو القديم).
قال المقترح وابن بزيزة في شرح الإرشاد: اختلفوا هل يجوز أن تعلم صحة الرسالة بغير المعجزة (أم لا) ؟
187
فأجاز القاضي أبو بكر الباقلاني وابن فورك في تأليفه في الأصول ومنعه إمام الحرمين هذا في الجواز. وأما الوقوع فلم يقع في الوجود إلا مع المعجزة (اتفاقا) وكان بعضهم يقول: هذا إنما لا ينبغي الخوض فيه لأنه كلام لغير فائدة لا ينبغي عليه كفر ولا إيمان.
(وكان الشيخ الصالح الزاهد أبو محمد عبد الهادي نقل عنه بعضهم أنه قال: يجوز في العقل أن يخلق الله خلقا أكرم عليه من نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسمع بذلك) الشيخ الصالح أبو الحسن علي بن المنتصر الصوفي فأنكره الإنكار التام وألزمه إلزاما
188
شنيعا. واجتمع بابن عبد السلام القاضي فخفف أمره حتى وقعت بين الشيخين وحشة عظيمة/ بسبب قوله يجوز أن يخلق الله عقلا أكرم من نبيّه محمد صلى الله عليه وسلّم.
(قوله تعالى: ﴿وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
يحتمل أن يريد بالشهادة أي الاستصراخ للاجتماع والتعاون على الإتيان بمثله ويحتمل أن يريد فأتوا بمثله واستحضروا شهداءكم لا شاهدا واحدا يشهدون لكم أنه من عند الله. وعبّر «بإِنْ» تنبيها على أن صدقهم في ذلك محال).
189
قوله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ... ﴾
قال ابن عرفة: لما أمرهم بالعبادة على لسان نبيه المقارنة للبرهان الدال على صدقه (وهو القرآن) وعجزهم بأنّهم إن لم (يفعلوا) ذلك (فليأتوا) بسورة من مثله قال هنا: فإن عجزتم ولم تقدروا على معارضته فاعلموا أن الرسول صادق فيجب عليكم الإيمان به (ثم قال) :﴿فاتقوا النار﴾ (فأقام) مقام السبب الذي هو منه في ثالث رتبة أي: فإن لم تفعلوا تبين لكم أن ذلك معجزة وإذا تبين أنه معجزة دل ذلك على صدقه فمهما أخبر به، (فيكون سببا في الإيمان به) وفي تصديقه والإيمان به سبب في اتّقاء النار.
189
قال الزّمخشري: فإن قلت: امتناع معارضتهم القرآن واجب هلا قيل: فإذا لم تفعلوا؟
وأجاب بوجهين: الأول أنه ساق ذلك على حسب نيتهم وقصدهم وأنهم كانوا يزعمون أنهم يقدرون على معارضته.
الثاني: انّه تهكّم بهم كقول الفارس النحرير لمن دونه: «إن غلبتك في كذا».
قال ابن عرفة: وأنكر الشيخ أبو علي عمر بن خليل السّكوني هذا الإطلاق (لئلا) يلزم عليه أن يسمي الله تعالى متهكما، وأسماؤه تعالى توقيفية.
وكان بعضهم يرد عليه بإجماع المسلمين على ورود المجاز في القرآن مع امتناع أن يقال فيه سبحانه وتعالى متجوز.
190
فقال ابن عرفة: والصحيح أن التهكّم يطلق على معنيين: تقول تارة هذه القصيدة التي هي (للمعري: هو فيها) متهكم وتارة تقول فهمنا منها التهكم، ولا يلزم منه أن يكون (المعري) هو فيها متهكم بل التهكم باعتبار ما فهمنا نحن وعلى الأول يكون هو متهكما، فإطلاق التهكم على البارء جلّ وعلا بالمعنى الأول باطلا قطعا، وبالثاني (حق).
قال ابن عرفة: ويظهر (لي) عن السؤال جواب ثالث، وهو أن هذا على سبيل التعظيم بالمخاطبات، وهو أن يظهر أحد الخصمين لآخر أنه مغلوب، أو شاك في الغلبة أو متوقع لها ولا (يريه) انه محقق أنه الغالب له لئلا (يتحرز منه) أو يرجع عن مخاصمته بدليل قوله تعالى «وَلَن تَفْعَلُواْ».
قال القرطبي: معناه فإنْ لَّمْ تَفْعَلُواْ في الماضي وَلَن تَفْعَلُواْ في المستقبل.
قال ابن عرفة: فإن قلت: لم تخلص الفعل للماضي (وإن) تخلصه للاستقبال وهما متباينان؟
191
فالجواب: أنّ «لم» خلصت الفعل ( «ولن» ) دخلت على الجملة فخلصتها.
قال بعض الناس: فإذا قلت: إن لم يقم زيد قام عمرو فلم يقم مستقبل باعتبار ما مضى. والمعنى أن يقدر في المستقبل أنه لم يقم (زيد) فيما مضى فقد قام عمرو. ونظيره ما أجابوا به في قوله تعالى ﴿إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ لأن الشرط يخلص الفعل للاستقبال والمعنى يدل على أنه ماض.
قالوا: المراد أن (يقول) في المستقبل إني إن قلته فيما مضى فقد عملته فكذلك هنا. فإن قلت: لم عدلوا في قولك: إن قام زيد قام عمرو إلى لفظ الماضى والأصل أن يعبروا بالمستقبل لفظا ومعنى؟
قلت: إما لتحقيق قيامه في المستقبل حتى كأنه واقع أو التفاؤل بذلك أو للتنبيه على أن قيامه محبوب مراد وقوعه.
فإن قلت: (كان يلزمهم) أن يعبروا بإذا (موضع إن) ؟
قلت: إذا لا تدخل إلا على المحقق وقوعه وإن تدخل على الممكن وقوعه، وعلى المحال مثل ﴿قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين﴾ فإن أعم من أن تكون في هذا وفي هذا.
192
قوله تعالى: ﴿فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة... ﴾
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هي حجارة الكبريت.
((قال) بن عرفة: معناه مقارنة الناس لها أي هي نار شديدة دائمة (حالة) حلول أجسامهم الرطبة فيها كما لو كان فيها) فإنها لا تزال أبدا تشتعل كاشتعال النّار في الوقود.
وقال الزمخشري: عرف النار هنا ونكرها في سورة التحريم لأن تلك الاية نزلت أولا بمكة وهذه نزلت بالمدينة بعد ما عرفوا (النار) وتقررت عندهم.
قيل لابن عرفة: هذا مردود بما تقدم للزمخشري عن ابراهيم بن علقمة ولابن عطية عن مجاهد أن كل شيء نزل فيه يا أيها الناس فهو مكي ويا أيها الذين آمنوا فهو مدني وصوب ابن عطية (قوله) في يا أيَهَا الَّذِينَ آمَنُوا بخلاف قوله في أيها الناس
193
فقال ابن عرفة: قال ابن عطية: ان سورة التحريم مدنية بإجماع لكن يقول الزّمخشري إن تلك الآية منها فقط نزلت بمكة، فيكون دليلا على تقدم نزولها على هذه وهو المراد.
194
قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الذينءَامَنُواْ... ﴾
194
قال الزمخشري: معطوف إما على ﴿فاتقوا النار﴾ أو على الجملة (كلها).
واعترض أبو حيّان الأول بأن «فاتقوا» جواب الشرط وموضعه جزم وبشر لا يصح أن يكون جوابا لأنَّه أمر بالبشارة مطلقا مطلقا إلا على تقدير أن لم تفعلوا.
ورده المختصر بوجهين: الأول نص الفارسي وجماعة في مثل زيد ضربته وعمرو كلمته أنه معطوف على الجملة الصغرى مع أن عمرو كلمته يمتنع أن يون خبرا (عن) زيد لعدم الرابط فكذا لا يصح أن يعطف على الجواب ما ليس جوابا.
قال ابن عرفة: ونظيره رب شاة وسلخها مع أن ربّ لا تدخل إلا على النكرة.
وأجاب المختصر عن قوله لأنه أمر بالبشارة مطلقا (بأن) الواقع عدم الفعل جزما (ولهذا قال) :«وَلَن تَفْعَلُواْ» فليس ثم تقدير: إن فعلتم فلا (تبشير واقع بل) الأمر بالبشارة واقع مطلقا.
وارتضى ابن عرفة الأول، وضعف الثاني بالفرق بين جواب الشرط وغيره، فإن المشاركة في العطف جواب الشرط المعنى يقتضيها [و]
195
بخلاف العطف (على غيره) فإنه قد يكون مراعاة/ لمقتضى اللفظ وأما الشرط فالمعنى فيه يؤكد الارتباط.
قلت: ورد غيره الأول بأن (الصغرى عاطفة) على الكبرى لعدم الرّابط إلا أن يقول: وعمرو أكرمته في داره.
قال: وقول سيبويه: إنه (معطوف) على الصغرى ليس على ظاهره إن لم يتعرض لإصلاح اللّفظ ولو سئل عنه لقال لا بد من الربط.
وقال الفارسي: إنه محمول على الصغرى في النصب ومعطوف على الكبرى ولا يلزم من الحمل على الصغرى أن يكون معطوفا عليها إنّما روعي في المشاركة اللّفظية فقط.
(ابن عرفة) : نص عليه ابن الصفار وابن عصفور في شرح الإيضاح وشرح الجمل الكبير.
196
قال: وأما رب شاة وسلخها فضمير النكرة عندهم نكرة كما تقول (ربه رجلا).
قلت: واحتج ابن عصفور (للفارسي) بأن العرب لاحظوا المناسبة في كثير من كلامهم واختاروا التصب في «ضربت القوم حتى زيدا ضربته» مع أنه غير معطوف لأن حتى لا تعطف الجمل وكذلك اختاروا في زيد ضربته إذا كان جوابا لمن قال: أيهم ضربت، بالرفع أن يرتفع، وبالنّصب أن ينتصب، فقد لاحظوا المناسبة في عدم العطف وهذا كله (نصّ) على أنه ليس معطوفا على الصغرى (بوجه بل محمولا عليها في النصب للمشاركة بين (الجملة) وبين ما يليها خاصة).
قال ابن عطية: الأغلب استعمال البشارة في الخير وقد تستعمل في الشر مقيدة به فمتى أطلقت فهي في الخبر.
قال الزمخشري: البشارة الإخبار بما يظهر سرور المخبر به أو عنه.
قال: و (أما) ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المسْتَهْزَإ به وتألمه.
197
قال ابن عرفة: جعله الزمخشري من قسم المنفرد، وابن عطية من قسم المشترك.
نص الأصوليون في التعارض أن الإفراد (أولى).
قال الزمخشري: ومن ثم قال العلماء فيمن قال لعبيدِه: «أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر»، فبشروه فرادى فعتق أولهم، ولو قال: أيكم أخبرني (بقدوم فلان فهو حر) م، فأخبروه فرادى عتقوا كلهم.
قال ابن عرفة: عوائدهم يقولون: لا فرق بينهما فإن الإخبار الثاني بعد الأول لم يفد شيئا فهو تحصيل الحاصل فليس بإخبار في الحقيقة.
قال: لكن يجاب عنه بأن في الإيمان والنذور من المدونة ما نصه: «ومن حلف لرجل إن علِم كذا ليعلّمنّه أو ليخبرنّه» فعلماه جميعا لم يبرّ حتى يعلمه أو يخبره (مع أن) إخباره لم يفد شيئا. قال: فإن كتب إليه وأرسل إليه رسولا برّ ولو أسر إليه رجلٍ (سرا) وأحلفه لتكتمنّه ثم أسره المسرّ (لآخر) فذكره الاخر للحالف فقال الحالف: ما ظننت أنه أسره لغيري حَنَث مع أن الحالف لم يخبره بشيء بل أفهمه بما هو تحصيل الحاصل.. «وفي كتاب العتق الثاني من المدونة». ومن قال لأمته: أول ولد تلدينه حر. فولدت
198
ولدين في بطن واحد عتق أولهما خروجا، فإن خرج الأول ميتا لم يعتق الثاني عند مالك.
وقال ابن شهاب: يعتق الثاني إذ لا يقع على الميت عتق.
قال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين لام الجنس الداخلة على المفرد والداخلة على المجموع؟ وأجاب بما حاصله أنّها إذا دخلت على المجموع تفيد العموم في أنواع ملك المجموع لا في أفراده وإذا دخلت على المفرد أفادت العموم في الأشخاص وفي الجمع وهو نوع من جوابه في قوله تعالى ﴿رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي﴾ ولم يقل العظام. وذلك أن الصالحات أصله صالحات فيحتمل أن يكون مخرجي الزكاة فقط لأنهم عملوا الصالحات وبعد دخول الألف واللام صار يتناول مخرجي الزكاة والمصلي والصائم إلى غير ذلك. قال: (وعملوا) الصّالحات يتناول الفعل والقول والإعتقاد لأن العلماء فهموا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنما الأعمال بالنيات» على العموم لأن الفخر في المحصول قال: أجمع الناس على أنه مخصوص بالنية والنظر، فلولا أن العمل يصدق على النية لما احتاجوا إلى استثنائها من الحديث فيكون في الآية عطف العام على الخاص.
199
قوله تعالى: ﴿جَنَّاتٍ... ﴾
قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا... ﴾
قال ابن عرفة: قدّم ذكر الجنّات وأنهارها على الأكل لوجهين إما لأن منفعة (التنعيم) بالنظر إليها سابقة على منفعة الأكل منها وإما لأن الأنهار مصلحة لثمرها وسبب في تكونه قال: وعموم «كلما» إن أريد به الإطلاق في ثمار الجنة فتكون القبيلة صادقة على ما سوى أول مأكول منها لأنه ليس قبله شيء.
(قال) : وقولهم في «كُلَّما» إنها في موضع الحال إن أريد به أنهم بحيث (لو رزقوا منها شيئا قالوا ذلك فتكون حالا محصلة، وإن أريد أنهم رزقوا بالفعل فتكون حالا مقدرة لأنهم لم يحصل لهم جميعه في الحال)
قال الزمخشري: كلما، وإما، صفة أو استئناف أو خبر مبتدإ.
قال ابن عرفة: كونها خبر مبتدأ لا يخرج عن الإعرابين الأولين لأنه حينئذ يصلح أن تكون الجملة صفة أو استئنافا.
قال ابن عطية: في الآية رد على من يقول: إن الرزق من شرطه التملك، ذكره بعض الأصوليون، قال ابن عطية: وليس عنده ببيّن.
200
قل ابن عرفة: انظر هل معناه أنّ القول غير بيّن أو أنّ الرد عليه بالآية غير بيّن وليس المراد المسألة التي اختلف فيها أهل السنة والمعتزلة فقالت المعتزلة: الرزق لا يطلق إلا على الحلال وقالت أهل السنة: الرزق يطلق على الحلال وعلى الحرام.
قال ابن عرفة: لأن الخلاف هنا أخص من ذلك الخلاف لأنه تحرز (منه رُدَّ بقوله) من شرطه (التملك) فمن رزق شيئا ينتفع به (ولا يملكه كالضيف عند الإنسان إذا قدم له طعاما فإنه يأكل منه ولا يحل/ له أن يتصدق منه بشيء، ولا يعطي منه لقمة لأنه لا يملك) غير الانتفاع به فقط.
قال مالك: الانتفاع تارة يكون مؤبّدا كالحبس، وتارة يكون موققا كالعارية ونحوها.
قوله تعالى: ﴿مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً... ﴾
قال الزمخشري: «مِن» الثّانية لابتداء الغاية، أو البيان، كقولك: رأيت منك أسدا تريد أنت أسد. وتعقبه أبو حيان بأن «مِنْ» البيانية لم يثبتها المحققون ولو صحت لامتنعت هنا إذ ليس قبلها ما تكون بيانا له لاَ معْرفة، مثل قوله تعالى: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ ولا نكرة مثل: من تَضْرِب من رجل. (وقدروها) مع المعرفة بالذي هُو، ومع النكرة بضمير عائد عليها أي هو رجل. فإن قال: تكون بيانا للنكرة بعدها (أى
201
كلما رزقوا منها من ثمرة) (خلاف) الأصل بالتقديم والتأخير، وأما رأيت منك أسدا ف «من» لابتداء الغاية أو للغاية ابتدائها وانتهائها.
وأجاب ابن عرفة: بأنه (لا يريد) وأنها لبيان الجنس بل للتبيين وسماه بعضهم التجريد. ونقل بعض الطلبة أن ابن مالك جعل في قوله تعالى: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾ للبيان.
قلت: وقال بعضهم: لم يذكر أحد أنها للتبيين، وما معناها إلا (بيان) الجنس. وذكر البيانيون أنها تكون للتجريد وهو للتبعيض مثل: لي من زيد صديق حميم، كأنك جردت عن صفاته رجلا صديقا وكذا قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ﴾ وقوله ﴿لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخلد﴾ وأنشد عليه ابن عطية في سورة آل عمران في قوله ﴿وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت﴾ قوله الشاعر:
202
وكأنه جرد من صفات الله تعالى حاكما عدلا.
قال الزمخشري: ومعناه هذا مثل الذى رزقناه إذ لا يصح أن يكون (ذات الحاضر عندهم) الذات الذي رزقوه ذات في الدنيا.
قال ابن عرفة: ومعناه أن هذا الذي أكلناه هو الذي رزقناه أولا، وهو الذي شاهدناه حين الأكل، على ما ورد أنّ الإنسان إذا أكل شيئا يرجع كما كان أولا).
قال ابن عرفة: وعلى القول بإجازة إعادة المعدوم بعينه يصح ذلك وهو مذهبنا.
قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ... ﴾
أي مخلصة من الشين والدنس المعنوي والحسي المتصل والمنفصل فليس (لهن) ذنوب ولا نتن رائحة ولا حيض ولا بصاق ولا مخاط بوجه.
قال الزمخشري: فإن قلت: هلا جاءت الصفة مجموعة لموصوفها؟ قلت: (هما لغتان) يقال: النساء فعلن، والنساء فاعلات.
203
قال ابن عرفة: يرد عليه أن النساء اسم جمع لفظه مفرد، بخلاف هذا فإنه جمع صريح. وإنما يجاب بما قال المبرد في المقتضب: من أن جمع السلامة لا ينعت إلا بالجمع وجمع التكسير ينعت بالمفرد والجمع.
الزمخشري: إنما قال «مطهرة» ولم يقل طاهرة، إشارة إلى أن تطهيرهن من قبل الله تعالى ليس لهن فيه تكسب ولا اختيار بوجه.
قال ابن عرفة: وهذا كله تقدم إما على التوزيع أو لكل واحد منهم أزواج وهو الظاهر.
قال: والبيانيون منهم من يختار في مثل هذه (المجرورات) والضمائر، (الفصل) ومنهم من يختار (الوصل) وعليه أنشد:
أفاءت بنو مروان ظلما دماءنا وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل
وتسعدني في غمرة بعد غمرة صبوح لها منها عليها شواهد
وكان يقول على الأول: ولهم أزواج مطهرة (فيها)
204
قال: وأورد الزمخشري سؤالا في قوله تعالى في الأنعام: ﴿وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ﴾ قال: النكرة إذا وصفت في الأصل تقدم خبرها المجرور عليها.
قلنا: وهذه الآية جاءت على الأصل الذي قال (فلا سؤال فيها).
205
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا... ﴾
قال ابن عرفة: الحياء هو (استقباح) فعل الشيء بحالة ما دون نقص فيه، والاستحياء (استقباح) فعله لنقص فيه.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف وصف به القديم ولا يجوز عليه التغير والخوف؟ وفي حديث سلمان قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنّ الله كريم حي يستحي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا»
205
أجاب أنه على سبيل التمثيل مثل تركه كتغييب العبد من العطاء بترك من يمتنع من رد المحتاج حياء منه. والمعنى هنا لا يترك ضرب المثل بالبعوض ترك من يستحى أن يتمثل بها.
قال ابن عرفة: فجعله من باب العدم و (الهلكة)، مثل زيد لا (يبصر) لا من السلب والإيجاب مِثل الحائط لا يبصر.
وقال صاحب المثل السائر في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» إنه يفهم على وجهين: إما إذا لم تفعل فعلا تستحي منه فاصنع ما شئت على سبيل التخبير والإباحة، وإما إذا لم تتصف بالحياء لأجل جرمك وتعديك الحدود الشرعية ولم تبال ما أتت فاعل فاصنع ما شئت على سبيل التهديد والوعيد والإنذار.
قال: وفسر «يَضْرِبَ» (في الآية) بوجهين: إما بمعنى يذكر مثلا، وإمّا بمعنى يصوغ كضرب الصائغ الدراهم بمعنى صاغها.
قال: وحكمة ضرب المثل بهذا أن لفظ القرآن صحيح فصيح فضرب الله المثل فيه ابتلاء لعباده، فالمحق يأخذ بالقبول، والمبطل يعانده فيه. وهذا جرى على (السّنن) المألوف عند (العرب) الفصحاء في صحيح الأمثال فحق المنصف منهم (أن يقبل المثل) (
206
وعلى) هذا فردهم لذلك فيه ومعاندتهم فيه محض مباهتة، وهي طريقة المغلوب إذا لم يجد ملجأ.
قوله تعالى: ﴿فَمَا فَوْقَهَا... ﴾
قيل: أي، ما دونها، وقيل: ما هو أعظم منها.
وانتقد ابن الصائغ على ابن عصفور حدّه (التنازع) (أن يتقدم اسم ويتأخر عنه عاملان) فصاعدا، وقال: إنّه غير جامع، لا يتناول الأسئلة تكون فيها ثلاثة عوامل، لأن (الفاء) تقتضي الجمع. ومنهم من جعلها بمعنى «أَوْ» فعلى ما ق ابن الصائغ لا يفسّر إلا بمعنى الاول، وهو أن المراد ما دون (البعوضة) فيتم المثل وعلى أنّ (الفاء) بمعنى (أو) (ويصحّ) تفسير الفوقية بالأمرين.
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الذينءَامَنُواْ... ﴾
207
وقال الزمخشري: «أما» حرف فيه معنى (الشرط) ولذلك/ يجاب بالفاء وفائدته أنه يزيد الكلام تأكيدا.
قال: وفي (قولك) : أما زيد فذاهب. معناه عند سيبويه مهما يكن من شيء فزيد ذاهب وتفسيره يفيد أمرين: التأكيد والشرطية.
(قال ابن عرفة: أراد أنه يفيد ملزومية الشرط للجزاء أي زيد ملازم للذهاب، فكأنه لم يزل ذاهبا) وفائدة دخول الفاء على «أمّا» أنّه لما تقدم (الإخبار) بأن الله تعالى لا يستحي أن يضرب مثلا وكان الإخبار بذلك لا يقتضي وقوع ضرب المثل بل جوازه في حقّه، وأنّه لا يمتنع منه عقّبه ببيان أن ذلك واقع منه لقوله تعالى ﴿فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق﴾.
وعبر عن المؤمنين بالفعل تنبيها على أن من أتّصف بمطلق الإيمان يعلم ذلك فأحرى من حصل له الإيمان القوي الكامل ويستفاد من عمومه في المؤمنين أن الاعتقاد الحاصل للمقلد عِلْمٌ (لاَ ظنّ) وهو الصحيح عندهم.
قوله تعالى: ﴿فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق... ﴾
قال ابن عرفة: الحق في القرآن كثيرا كقوله تعالى: ﴿مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق﴾ فمن يفهمه على ظاهره يعتزل لأن مذهب المعتزلة مراعاة الأصلح
208
على قاعدة التحسين والتقبيح، فالصواب أن يقال في تفسير «الحق» هو الأمر الثابت في نفس الأمر الذي دل الدليل الشرعي على ثبوته، أو يقال: (إنما هو) الثابت بدليل شرعي، أو مدلول الكلام القديم الأزلي.
قال ابن العربي في شرح الأسماء الحسنى: الحق في اللغة هو الموجودُ ويعم الاعتقاد والقول والعمل ثم قال: والمختار أن الحق ما له فائدة مقصودة، والباطل (ضده) سواء كان (موجودا) أو معدوما قال تعالى: ﴿مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق﴾ أي لفائدة مقصودة وهي الثواب والعقاب لقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً﴾ وقوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾ وانظر ما قيدته في الزمر والأحقاف والتغابن وعم.
قال أبو حيان: والفاء الداخلة على جواب «أما» فحقها التقديم فيقال: أما زيد فذاهب، لأنه هو الجواب لكنها لو قدمت للزم عليه وجود المعطوف دون المعطوف عليه.
209
وكذا قال الفارسي وأبو البقاء وابن هشام: «أَمَّا» فيها معنى الشرط، والفاء كذلك فكرهوا اجتماع (حرفي) شرط، كما كرهوا اجتماع حرفي تأكيد.
قال ابن عرفة: إِنَّمَا امتنع عندي لما فيه من إيهام الإتيان بالجزاء دون الشرط.
قوله تعالى: ﴿مِن رَّبِّهِمْ... ﴾
لم يقل من الله تنبيها على أنه رحمة منه ونعمة لهم، (لكونه) نصب لهم عليه الأدلة والطرق إلى العلم به.
قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً... ﴾
الآية (فيها) حذف التقابل أي فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقّ مِنْ رَبِّهِمْ ويقولون ذلك بألسنتهم، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا (مَثَلا. ويعتقدون
210
ذلك بقلوبهم ولذلك لم يقل في الكافرين: بماذا أراد ربنا بهذا مثلا) ويمكن أن تكون هذه الجملة في موضع الحال من الأولى، وهو أصوب مو كونها استئنافا، لأن (المؤمنين) إذا (اعتقدوا) أنه الحق حالة وجود المخالف والمعاند (لهم) فيه فأحرى أن يعتقدوا صحته مع عدم المخالف.
قال ابن عرفة: وسلكوا في هذه العبارة طريق الجدل (عند الجدليين) لأنهم لو قالوا ذلك (أمرنا بالرد) عليهم، فالضرب في رجوعهم بالمباهتة والتبكيت.
(وأتوا) في الجواب بلفظ ظاهره الاستفهام ومعناه الإنكار كما يأتي المجادل المغلوب بلفظ (يموه به ويحيد به) عن الجواب.
وقوله: ﴿مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً﴾ قال الزمخشري: فيه وجهان: إما أن (ذا) اسم موصول بمعنى الذي مرفوع على الابتداء أو خبره مع صلته، وإما أن (ماذا) كلمة واحدة كلها وهي في موضع نصب بأن إذا.
211
قال ابن عرفة: وكان ابن الحباب يحكى عن (بعضهم) أنه كان يقول في قوله تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ (بالرفع: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً﴾ قال: النصب في جهة المؤمنين أرجح، والرفع للكافرين أرجح كما هو في الآية. ووجهه أنه حيده منهم عن الجواب لأن الكافرين لو نصبوا أساطير الأولين لكان المعنى أنزل) أساطير الأولين فيكونوا مقرين بالإنزال (وإذا) رفعوه فيكون المعنى هو أساطير الأولين، وحادوا عن الجواب على مقتضى السؤال والمؤمنون أجابوا على مقتضى السؤال فقالوا: أنزل خيرا فأقروا بالإنزال، وأنه خير في نفسه، فحصلوا المطلوب وزيادة. وكذلك (يجيء الرفع في هذه الآية أرجح في جهة الكافرين)، ويحتمل أن يكون «ماذا أراد الله» في موضع الحال، ويحتمل أن يوقف على «ماذا».
قال ابن عرفة: وَ «مَثَلا» إما تمييز أو حال، وإما منصوب على المخالفة كما قال ابن منصور في شرح مقربه لما (عدّ) المنصوبات.
212
قال ابن عطية: ومعنى كلامهم هذا الإنكار بلفظ الاستفهام.
وقال الزمخشري في قولهم «مَاذَا» استرذال واستحقار.
وقال ابن عرفة: (عادة) ابن المنير ينتقد عليه ذلك لأنه إساءة أدب لا بنبغي أن يفسر القرآن به ولا (يحكي) عن (الكافرين) في الكلام القبيح إلا ما هو نص كلامهم مثل ﴿وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ قوله تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً... ﴾
قال ابن عرفة: هذا لف ونشر لأنه لما تقدم ذكر المثل وذكر (بعده) الفريقين عقبه ببيان أنَّه يضل به قوما، ويهدي به آخرين. واللَّف والنشر قسمان: موافق كقوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار﴾ ومخالف كقوله تعالى {يَوْمَ
213
تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} قال: وحكمة ذلك في (الجمع) الاهتمام بمقام التخويف والإنذار، فلذلك بدأ بأهل الشقاوة في الآيتين.
وقال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: هذه الآية إذا (بنينا) على (القول) الصحيح فإن ارتباط الدليل بالمدلول عادي وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، وقد نصوا على أن الحق لا يستلزم الباطل بوجه، وإنما يستلزم حقا مثله. وجاءت هذه الآية بعد ذكر ضرب المثل الذي جعله الله دليلا للمكلفين على صحة الرسالة، ثم عقبه ببيان أنه دليل (حق ثم قال: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً﴾، فجعل الدليل الحق مستلزما للضلال فإذا بنينا على أن ارتباط الدليل بالمدلول عادي يكون/ الحق بهذه الآية قد يستلزم الضلال كما قالوا إنه) يستلزم الحق. وغاية ما فيه أن يقال: الغالب (عليه) استلزم الحق وقد يستلزم الباطل. ((قال ابن عرفة واقتضت الآية أنّ المثل الذي هدى الله به المؤمنين أضل به بقية الكافرين، وهو سبب في الشيء ونقيضه،
214
وهذا هو عين مذهب أهل (السنة)، لأن جميع الأشياء كائنة بإرادة الله وقدرته. وأراد الزمخشري سؤالاً (أ) قال: إن قلت: لم قال: " يضل به كثيراً " وهم قليلون قال تعالى: ﴿وقليلٌ مِنْ عِبّادِيَ الشَّكُورُ﴾ وقال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَليِلٌ مَّا هُمْ﴾ ؟ قال ابن عرفة: السؤال غير وارد لأن الشكور أخص من الشاكر، والشاكر مهدي فلا يلزم من كون الشاكر قليلاً أن يكون المهدي قليلاً. قال: والآية الأخرى تقتضي نسبة العلة لمن آمن وعمل الصّالحات وهو أخص ممن اتصف بمطلق الإيمان ومطلق الاهتداء فلو قدر السؤال بقوله تعالى: ﴿ومَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين﴾. لكان صحيحاً متوجها. قيل لابن عرفة: إنما السؤال غير وارد على مذهبنا، وأما عند الزمخشري وسائر المعتزلة فهو وارد لأن المؤمن عندهم هو الذي عمل. قال: بل هو غير وارد عندهم لأن من آمن الإيمان الحقيقي الكامل (واخترمته المنية) إثر ذلك ولم يمض عليه زمن عمل (فيه) الصّالحات هو مؤمن باتفاق منا ومنهم.
215
زاد الزمخشري في تمثيل القليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النّاس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة. قال كذلك (قوله) وجدت الناس أخبر تقله أي أخبر أحدهم ببعضه. قال ابن عرفة: وهو تسليم للسؤال. فأجابه عنه الزمخشري: بأنهم كثيرون في أنفسهم. لا سيما فيما قالوا في جمع الكثرة: إنه يتناول مع العشرة فما دون ذلك والقلة (هي) فما في الترجيح في العدالة إنه ترجح التي هي أعدل لشرفها. وإسناد فعل الإضلال إلى الله تعالى حقيقه. وجعله الزمخشري مجازاً على قاعدة التحسين والتقبيح عندهم ثم استدل لذلك بحكاية عن مالك بن دينار أنّه دخل على محبوس مقيد بين يديه (دجاج) (وأخبصه) فقال له: هذه وضعت القيود على رجلك.
216
ابن عرفة: وهذا من أنواع الدليل (المسمى) في علم المنطق بالخطأ، لأنه جعل (استحالة) نسبة الأضلال إلى الله تعالى كاستحالة نسبة وضع القيد في رجل المحبوس إلى الدجاج (وللأخبصة) قال: فكما أطلقه هناك مجازاً فكذلك هنا (استحقاقاً) لمذهبه (وجرياً) على عادته الفاسدة. قوله تعالى: ﴿ومَا يُضِلّ بِهِ إلاّ الفَاسِقينَ﴾. تقدم للزمخشري في قوله تعالى: ﴿هُدى للمُتَّقِينَ﴾ سؤال، قال: المتقي مهتد فكونها هدى له (تحصيل) الحاصل، وأجاب بأن المراد الصائرين (للتقوى) وهو هُدى بإعتبار الزيادة في الهداية. وكذا السؤال هنا وجوابه قول تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذينَ ءامَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيِمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذيِنَ ءامَنُوا مَّرَضٌ فَزَادتَتْهُمْ رِجْسًا﴾.
217
قوله تعالى: ﴿الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ... ﴾
217
حكى ابن عطية في هذه الجملة خلافا هل هي استئأنفا أو من تمام ما قبلها؟
قال ابن عرفة: إن راعينا مقام التخويف وترتّب الذّم على كل وصف من هذه الأوصاف جعلناه كلاما آخر مستأنفا، وإن راعينا مناسبة اللَّفظ فترد لما قبلها. واختلفوا في العهد ما هو؟
ابن عرفة: والظاهر أن نقض العهد راجع إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى. وقطع ما أمر الله به أن يوصل راجع إلى الإقرار بالرسالة.
وأشار إليه ابن عطية فهم مكلفون بشهادة أن لا إلاه إلا الله وأن (يصلوها) بشهادة أن محمدا رسول الله فخالفوا في الأمرين فعهد الله هو الدليل الدال على وحدانيته ونقضه هو المخالفة فيه.
ابن عطية: وقال بعض المتأوّلين إنّ العهد هو ما أخذه الله تعالى على (بني آدم حين أخرجهم من ظهر آدم كالذرّ ﴿وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُواْ بلى﴾ وضعفه الفخر بأنهم حينّذ ليسوا مكلفين فلا يعاقبون على نقض ذلك العهد).
وأجاب ابن عرفة بأن قال: لا مانع من أنهم كلفوا (حينئذ) بالإيمان فآمنوا والتزموا العهد ونسوه، ثم ذكروا بذلك في الدنيا بهذه الآية وأنظارها، فمنهم من تذكر وآمن، ومنهم من بقي فيعاقب لأجل
218
ذلك (ونظيره) عندنا أن القاضي إذا حكم بحكم ونسيه فذكره فيه شاهد واحد فإنه ينفذه بشهادته ويرجع إليه وكذلك هذا.
قوله تعالى: ﴿مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ... ﴾
أي من بعد توثقه وإبرامه.
ابن عطية قيل: إنّها لأهل الكتاب، وقيل: لجميع الكفار، وقيل: لمن آمن (ثم) كفر.
ابن عرفة: الظاهر تناولها لكل من صلح صدق هذا اللفظ عليه، قيل: لتدل على مبادرتهم بالنقص في أول (أزمنته البعيدة).
أبو البقاء: «من» لابتداء الغاية في الزمان عند من أجازه وزائدة عند من منعه وهو ضعيف (لا متناع) زيادتها في الواجب.
قال الصفاقسي: هذا ليس بشيء لأن القبلية والبعدية من صفات الزمان، فكأن «من» (تدخل) على الزمان فلا يحتاج إلى زيادتها
219
قال ابن عرفة: لا يليق به على علمه فإن ابن عصفور وغيره قد تأولوها في مثل هذا على حذف مضاف تقديره مصدرا، وأعربوا «قبل» و «بعد» إذا انتصبا ظرفي زمان صريحين وقالوا: ظرف الزمان هو اسم الزمان أو عدده أو ما قام مقامه نحو: أتيتك طلوع الشمس أو ما أضيف إليه إذا كان هو أو بعضه.
قوله تعالى: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ... ﴾
قال ابن عرفة: فيه عندي حجة لمن يقول إن لفظ أمر إنما يطلق على الواجب فقط، وأما المندوب فغير مأمور به إن زعم أنه لإجماعنا على المراد به هنا (الوجوب) لترينه الذمّ (فمن) يقول: إن المندوب مأمور به إن زعم أنّه حقيقة لزمه الاشتراك.
وإن جعله مجازا لزمه المجاز، وهما معا على خلاف الأصل.
ابن عرفة: والصحيح عندي في الأمر اشتراط الاستعلاء فقط (لاَ) العلو خلافا للمعتزلة وبعض أهل السنة.
قوله تعالى: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض... ﴾
إن أراد بالفساد الأمر الأعم من القول والفعل والاعتقاد فيكون ذلك من عطف العام على الخاص (وإن أريد به) الفعل فقط فتكون من عطف الشيء على ما هو مغاير له.
قوله تعالى: ﴿أولئك هُمُ الخاسرون﴾
220
عبر بالخسران لأنهم بالعهد والميثاق حصل لهم الفوز والنجاة، فلما نقضوه (شبّهوا) بمن اشترى سلعة للتجارة وكان بحيث إن بادر بيعها لربح فيها ربحا كثيرا فتركها حتى كسد سوقها وباعها بالبخس والخسران.
قيل لابن عرفة: هذه الآية تدل على أنّ مرتكب الكبيرة غير مخلد في النار لاقتضائها حصر الخسران في هؤلاء لأن البناء على المضمر يفيد الحصر؟
فقال: يقول الزمخشري: إنه لمطلق الربط لا للحصر كما قال في ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار﴾
221
قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله... ﴾
قال (ابن عطية) : هذه الآية دليل على أنّ المراد بما قبلها المخالفة في توحيد الله تعالى والإيمان به إمّا على سبيل الخصوصية أو مع غيره وهو الأصل (وغيره تابع له).
الزمخشري: «كَيْفَ» سؤال عن حال ومعناها معنى الهمزة (لكن السؤال بالهمزة) عن الذات، والسؤال بكيف عن صفة الذات فيستلزم السؤال عنها.
221
قال ابن عرفة: فإن قلت: لم وبّخوا بكيف، وهلا وبّخوا بالهمزة؟
وأجاب: بأنه إذا أنكر عليهم الكفر في حال من الأحوال فيلزم إنكار نفس الكفر من باب أحرى، لأن كل موجود لا ينفك عن صفة فنفي الصفة يستلزم نفيه بطريق البرهان.
ق ابن عرفة: هذا استدلال بنفي الملزوم على نفي اللازم وهو باطل عندهم ويقال له: الصفة تابعة لموصوفها، ولا يلزم من نفي التابع نفي المتبوع بل العكس (الذي يلزم)
قيل لابن عرفة: هذا تابع لازم لا ينفك عنه (المتبوع) فنفيه يستلزم نفيه؟
فقال: قصارى أمره أنه دلّ على نفي المتبوع باللزوم لأن دلالته عليه بواسطة نفي الصفة والهمزة تدل على نفيه بالمطابقة.
قيل لابن عرفة: الكفر في ذاته لا ينفك عن (حال) من الأحوال فعموم النفي في حالاته يستلزم (انتفاءه هو معها بخلاف نفيه هو في ذاته؟
فقال: نفيه في ذاته يستلزم انتفاء حالاته، وأيضا فالهمزة تدل على إنكار نفي الكفر بالمطابقة، وكيف بواسطة دلالتها على (إنكار) نفي صفته ودلالة المطابقة أقوى من دلالة الالتزام.
222
(قال) : وكان (يظهر) لنا في الجواب عنه تقدير بأن النّفي بالهمزة مطلق في الشيء والنّفي بكيف عام في جميع حالات الشيء. ودلالة العام أقوى من دلالة المطلق لأن الهمزة تدل على إنكار كفرهم في حالة ما، وكيف تدل على إنكار جميع أحوال كفرهم. وتقريبه بالمثال أنّ الميتة والخمر عندنا محرمان، لكن الميتة مباحة للمضطر بخلاف الخمر على المشهور. ونص في كتاب الصلاة الأول (من العتبية) في أول رسم تأخير صلاة العشاء، فتقول للانسان: أتأكل الميتة وهي محرمة؟ ولا تقول له: كيف تأكل الميتة وهي محرمة، ولا تقول له: أتشرب الخمر وهو محرم؟ هذا المختار عندهم.
قلت: وبدليل من غص بلقمة ولم يجد ما (يدفعها) به إلا الخمر (وخاف الموت).
قال ابن رشد: الظاهر من قول أصبغ أنّ ذلك (لا) يجوز له وأجازه غيره غيره.
223
قال ابن عرفة: ومثله الزمخشري بقولك (أتطير) بغير جناح؟ وكيف تطير بغير جناح؟
قال ابن عرفة: هذا المثال لا يطابق الآية، إنّما (يطابقها) أن يقول: أتطير وأنت مكسور الجناح من غير ضرورة تدعوك لذلك لأن الطيران بلا جناح مستحيل بالبديهة، (وكفر هؤلاء) ليس بمحال.
(قلت) : والحاصل أن الزمخشري والشّيخ ابن عرفة اتّفقا على أنّ «كَيْفَ» سؤال عن جميع الأحوال (واختلفا) في الهمزة فهي عند الزمخشري سؤال عن حقيقة الشيء، وعند ابن عرفة مطلقة في السؤال عن ذاته وعن أحواله تصدق بصورة من صور ذلك.
وقال بعض الشّيوخ: ومن ظنّي أن كلام سيبويه موافق لما قال ابن عرفة.
قوله تعالى: ﴿وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ... ﴾
قال ابن عرفة: إن قلت ما الفرق بين هذا وبين ما تقدم في قوله تعالى: ﴿ياأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ وهل هو تكرار أم لا؟ قلنا: ليس
224
بتكرار وتلك إرشاد للنظر في دليل الوحدانية والإيمان، وبعد (تقرر) (الإيمان) ذلك جاءت هذه توبيخا لمن نظر في الدليل ولم يعمل بمقتضاه.
ابن عرفة: وفي قوله: ﴿وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً﴾ دليل على أن الموت أمر عدمي، فإنه أخبر أنهم كانوا متّصفين بالموت حالة كونهم عدما صرفا، والوجود لا يجامع العدم على المشهور، وإنما يجامع وجودا مثله.
قال ابن عرفة: وأتى في الدليل بأمرين: أحدهما (مروي) مشاهد، وهو وجودهم بعد عدمهم، وموتهم بعد ذلك ثم عطف عليه أمرا آخر نظريا لا يعلم إلا من جهة الرسل وهو حياتهم بعد ذلك، ورجوعهم إلى الله، والعطف يقتضي التسوية فهو إشارة إلى أن ذلك الأمر النظري اعتقدوه حقا كأنه ضروري (فليكن) (عندهم) مساويا للضرورة. ونظيره العطف في قوله تعالى ﴿وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾ (قالوا: أفاد عطف الكبيرة التسوية في الإحصاء بينها وبين الصغيرة فالمراد أنه لا يدع شيئاً إلا أحصاه).
قال الزمخشري: فإن قلت: لم عطف «فَأَحْيَاكُمْ» بالفاء ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ بثم؟
225
فأجاب بأن الإحياء الأول غير متراخ عن الموت، ولذلك كان الإحياء الثاني متراخ عن الموت ورده ابن عرفة: بأنّه إن أراد أول أزمنة الموت فالإحياء الأول متراخ عنه فهلا عطف بثم؟ (وإن) أراد آخر أزمنة الموت فالإحياء الثاني (عقيبه) من غير تراخ بوجه.
قيل له: الإحياء الأول ليس بينه وبين الموت الذي قبله فاصل بوجه، وبينه وبين الموت الذي بعده فواصل، وهي التكاليف التي أمرنا الشرع بها. فلما كانت معتبرة شرعا جعل زمن الحياة (ممتدّا) متراخيا، فعطف عليه الموت بثم.
قال ابن عرفة: هذا (يعكر) عليكم في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ لأنه ليس بينه وبين الموت الذي قبله أيضا فاصل. قال: وإن كان (يظهر) لنا الجواب عن ذلك السؤال بأن الموت الأول لسنا نشاهده، ولا (نحن) نعلمه إلا من جهة الخبر والعلم به إن تطاول زمانه يأتينا دفعة واحدة يجعل (كأنه شيء واحد والحياة الدنيا مشاهدة لنا ضرورية وزمانها لا نعلمه دفعة واحدة) وإنما نعلمه شيئا بعد شيء إذ لا يدري أحدنا مقدار عمره ما هو؟ فالإماتة متراخية عنه فاعتبر (فيه) التراخي، والحياة الثانية أيضا إنما
226
نعلمها من جهة الشرع وهو إنما أخبر بها بعد حصول الموت الأول وتقرره في جميع الناس حتى لا يبقى أحدهم منهم إلا مات فحياة أولهم موت متأخر عن موت آخرهم فاعتبروا فيها التراخي لهذا المعنى.
قلت: وقرر بعض الشيوخ كلام الزمخشري بأن الموت الأول لا (بداية) له بوجه فهو عدم مستمر غير مسبوق بشيء فروعي فيه آخره وأنه شيء واحد فعطفت عليه (الحياة) (بالفاء) إشارة إلى سرعة التكوين والحياة الأولى (زمنها) متطاول والخطاب (بالآية) إنما هو (للاحياء) فهو مدة حياتهم، وقد بقيت منها بقية ولها مبدأ ومنتهى، فاعتبر فيها التراخي، والموت الثاني عدم مسبوق بوجود قبله ومرتفع بوجود بعده فهو (محصول له) مبدأ ومنتهى فُروعي أيضا فيه التراخي فلذلك عطفت عليه الحياة الثانية بثم والله أعلم.
وأورد الزمخشري سؤالا على مذهبه (في اشتراط البنية) فقال: كيف قيل: لهم أموات في حال كونهم جمادا، وإنّما يقال: ميّت فيما تصح فيه الحياة من (البناء). وهذا على مذهبه
227
اشتراط البنية وهي (البلة) والرطوبة المزاجية (ولا يرد السؤال على مذهبنا بوجه).
228
قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم... ﴾
أتت هذه غير (مفصولة) وحقها أن تكون مفصولة بحرف العطف لمغايرتها لما قبلها. لكن يجاب: بأنّها أتت تفسيرا ودليلا على الجزء الأخير من الجملة (المتقدمة) وهي قوله ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي الدليل على (إعادتهم ورجوعهم) إليه أنه خلق جميع ما في الأرض ومن (قدر) على خلق الجميع اولا لا يستحيل عليه إعادتهم ثانيا.
قيل لابن عرفة: أو يقال: الأول دليل على الخلق، وهذه دليل على العلم والأصوليون ما استدلوا على ثبوت العلم إلا بالخلق والقدرة؟
قال ابن عرفة: (والضمائر) منهم من قال: إنها كلية، وقيل: إنها (جزئية) والصحيح أنها بالإطلاق الأعم كلية (وأما بالاستعمال) الأخص فضمير المتكلم والمخاطب جزئيان
228
وضمير (الغائب) إن عاد على كلي فهو كلي مثل الإنسان هو حيوان ناطق. وإن عاد على جزئي فهو جزئي مثل: زيد هو قائم.
وقوله تعالى: «لَكُمْ» قال الزمخشري: اللاّم للتعليل، وهو اعتزال. وقدره بعض المأخرين على مذهب أهل السنة بأنه مجاز والمراد بأن ذلك بحيث لو (صدر) من غيره لكان لأجل مصلحتكم (وانتفاعكم) وراعى في هذا الأمر المناسب الملائم للانسان.
قال ابن عرفة: وهذا هو تعليل أفعال الله، وفيه خلاف، وأما أحكامه فمعللة.
قال ابن عطية: واحتج بها من يقول: إن الأشياء على الإباحة و (قيه) ثلاث أقوال: ثالثها الوقف.
وقال الطيبي: لا حجة في ذلك إذْ لعله خطاب المجموع بالمجموع وردّه ابن عرفة بوجهين:
229
الأول: أنه إحداث قول لم يقل به أحد، وهو أن بعض الأشياء على الحظر أي المنع، وبعضها على الإباحة.
- الثاني: ان (المضمرات) كلّية لا كلّ (فالخطاب) بالمجموع لكل واحدة لا للمجموع.
قال ابن عطية: ويرد على القائلين بلاباحة بكل حظر في القرآن وعلى القائلين بالحظر بكل إباحة في القرآن.
قال ابن عرفة: هذا (يلزمهم) ولهم أن يقولوا: إن الأشياء على الحظر ما لم يرد النّص على الإباحة. ويقول: الآخرون على الإباحة ما لم (يقع) النص على الحظر.
قال ابن عرفة: والقول بالوقف هو مذهب المعتزلة وهو المختار عند أهل السنة لكن ديلنا نحن يعارض الدّلائل السّمعية. ودليل المعتزلة (شبهة) تعارض الدلائل العقلية.
(قال ابن عرفة) : وهذا إن كان مجرد الإنعام والامتنان بالأمر الدنيوي فالمخاطبون (ب «لَكُمْ» ) غير داخلين في عموم ما في الأرض، وإن أريد به الاعتبار (الدّيني) فهم داخلون قال تعالى: ﴿وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾
230
قوله تعالى: ﴿مَّا فِي الأرض جَمِيعاً... ﴾
قيل لابن عرفة: هذا معارض لقوله تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ﴾
قال ابن عرفة: خلق بعضها مجتمعا وبعضها (متفرقا) ووقع التنكير في هذه الآية (فما) خلق منها مجتمعا فهو أبلغ وأدل على كمال القدرة، لأن من قدر على أحداث أشياء مجتمعة في حالة
231
واحدة (هو قادر على احداثها متفرقة شيئا بعد شيء من باب أحرى.
قلت: ووجه السؤال المتقدم أن ظاهر هذه الآية أن الأرض وما فيها خلقت مجتمعة في حالة واحدة، (وظاهر هذا) أنها خلقت مفرقة وجميعا هنا، فيقتضي الاجتماع في حالة واحدة، فوقع النصّ على ما خلق منها (مجتمعا)، (فقد قال أبو حيان: «جميعا» حال من الموصول، وهو ما أتى مجتمعا) وترادف كلا في العموم ولا تفيد الاجتماع في الزمان بخلاف جميعا. وعدها ابن مالك في ألفاظ التأكيد قال: ونبّه سيبويه على أنها بمنزلة كُلّ معنى واستعمالا واستشهد له أبو حيان بقول: امرأة ترقص ولدها.
فداك حي خولان جميعهم وهمذان وكذلك آل قحطان والأكرمون عدنان
(قال المختصر) : فعلى رأيه تعرب جميعا هنا توكيدا للمفعول ونظيره قوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ قال ابن عصفور: وفيها أن التأكيد بكل يقتضي الإحاطة، والتأكيد بأجمع يقتضي الاجتماع في حالة واحدة.
قال ابن عرفة: وتقدم لنا الرد عليه أنه لو اقتضى الجمعية في الزمان للزم انتصابه على الحال.
232
وكذا قال الزمخشري في قوله تعالى في سورة يس ﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ (الزمخشري) إن قلت: هذه الآية تقتضي تقدم خلق الأرض على خلق السماء، وقوله في سورة النازعات: ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَآ﴾ يقتضي تأخر (خلق) الأرض على (خلق) السّماء،) (والآيتان متعارضتان) ؟
فالجواب: بأن (خلق الأرض متقدم على خلق السماء) ودحوها وتسويتها متأخر عن خلق السماء.
ورده القاضي العماد بأن هذه الآية تقتضي تقدم (خلق) جميع ما في الأرض على خلق السماء، وخلق ما في الأرض متأخر عن (دَحوِها) وتسويتها بلا شك، فيكون دحوُها متقدما على خلق السماوات فما زال السؤال واردا. وكذلك قوله في فصلت: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ﴾ ثم قال: ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ﴾ ولا جواب عنه إلا أن يكون ثم للمهلة المعنوية، وهي بعد ما بين المنزلتين.
233
قيل لابن عرفة: أو يجاب بعكس ما قال الزمخشري، وهو أنه خُلِقت السماوات والأرض ملتصقة، ثم خلقت الأرض ودحيت، ثم فصلت السماوات وصيرت سبعا والله أعلم؟
فقال: هذا يمكن لكن (الأثر) الذي أورده هنا أنّ الأرض خلقت كالفهر وعلاها الدخان فخلقت منه السماوات يرده ما ذكره الشيخ الزمخشري ونقله عن الحسن وللفخر في الأربعين في ذلك كلام طويل وليس فيه خبر صحيح.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
234
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ... ﴾
قال ابن عرفة: ( ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ﴾ هذه لنا فيها وجه مناسبة لما قبلها) هو أنه لما قدم الامتنان عليهم بخلقهم وجعل الأرض لهم فراشا عقبه ببيان السبب فيهم وفي خلق أهلهم وهو آدم (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ).
234
وقرر الطيبي وجه المناسبة بأمرين إما أنه ترّق فمن عليهم بأمرين خلقهم ثم خلق أباهم آدم عليه السلام. ورده ابن عرفة بأنّه داخل في عموم قوله ﴿هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً﴾ قال: فما المناسبة إلا ما (قلناه).
قال أبو حيان: والظرفية لازمة لإِذْ، إن يضاف إليها زمان نحو يَوْمَئِذٍ، ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ قال ابن عرفة: بل هو ظرف مطلقا إذ لا يمتنع إضافة الزمان وتكون من إضافة الأعم إلى الأخص أو الأخص إلى الأعم أو يكون بينهما عموم وخصوص من وجه دون وجه كقولك: جئتك في أول ساعة من يوم الجمعة فأول أخص من ساعة.
وذكر أبو حيّان في إعراب «إِذْ» ثمانية أقوال، رابعها أنه ظرف في موضع خبر المبتدأ (تقديره) ابتدأ خلقكم إِذْ قَالَ رَبُّكَ.
(ورده) ابن عرفة بأن زمن الابتداء ليس هو زمن هذه المقالة بل بعدها قال: فيكون الصواب أنّ تقديره (سبب) ابتداء خلقكم. قال: والأصح أن العامل فيها ﴿قَالُواْ أَتَجْعَلُ﴾.
قال ابن عرفة: يرد عليه أن قولهم ذلك إنما كان جوابا عن قوله تعالى ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً﴾ فليس مقارنا له بل هو بعده بلا شك إلا أن يقال: إن ما قارب الشيء (له) حكمه
235
وهذا مع قطع النظر عن الكلام القديم الأزلي لأنه يستحيل عليه الزمان ويستحيل نسبة (التقدم) والتأخر إليه.
ق ابن عطية: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: كانت الجن قبل بني آدم (في الأرض) فأفسدوا، وسفكوا الدّماء، فبعث الله إليهم قبيلا من الملائكة، فقتلت بعضهم وهربت باقيهم، وحصروهم إلى البحار، ورؤوس الجبال، وجعل آدم وذريته خليفة.
ق ابن عرفة: هذا يدل على أن الجنّ أجسام كبني آدم لأجل القتل والمبالغة فيه.
قيل لابن عرفة: كيف يفهم هذا مع قوله تعالى ﴿هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً﴾ إنّ اللاّم في «لَكُم» تقتضي اختصاصه بنا؟ فقال: لعل اللاّم هنا ليست للاختصاص ولو سلمنا أنها للاختصاص يكون ما في الأرض لهم، (ويلزم منه) كونه قاصرا عليهم فهو خلق لهم ولا ينافي أن يكون (خلقا) لغيوهم.
قال ابن عرفة: وظاهره أنه (قيل) لهم ذلك مباشرة (ونص المحدثون) على أن الراوي إذا قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنه من قبيل المسند لكنه عندهم يحتمل السّماع مباشرة أو بواسطة (لكن الصحابي) إنما يروى عن صحابي
236
فلذلك عدوّه من المسند، وفي هذه زيادة اللام (في) للمقول له كقولك: قال لي فلان: كذا.
فهو أصرح في الدلالة على المباشرة من (الأول).
قوله تعالى: ﴿خَلِيفَةً... ﴾
قال الحسن: سماه خليفة لأن كل قرن وجيل يخلفه الجيل الذي قبله والأول مخلوف وما بعده خالف.
وقال ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: معناه خليفة في الحكم بين عبادي بالحق (وبأوامري) يعنى آدم ومن قام مقامه من ذريته.
قال ابن عرفة: إنما يتناول هذا الأنبياء فقط لأنهم هم الَّذين (يتلقون) الذكر مع الملائكة وغيرهم لا يرى الملائكة بوجه.
237
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا... ﴾
فسره ابن عطية بوجوه.
قال ابن عرفة: أظهرها أن الملائكة طلبوا أن يكون الخليفة منهم، فأثنوا على أنفسهم وذموا غيرهم.
قوله تعالى: ﴿وَيَسْفِكُ الدمآء... ﴾
هذا (العطف) كما هو في قوله تعالى ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ فجعله بعض الأصوليين من عطف الخاص على العام/، وجعله بعض المتأخرين من عطف (المقيد على المطلق)، وهو المعبر عنه بعطف الأخص على الأعم. قال: لأن «فاكهة» نكرة في سياق الثبوت فلا تعم، وكذلك الفعل هنا موجب فهو مطلق.
قيل لابن عرفة: أخذ بعضهم من هذه الآية أنه يجوز للانسان أن يتحدث بما هو يفعل من أفعال الخير والطاعة، كما قال يوسف عليه السلام ﴿اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾
238
فقال ابن عرفة: ليس في هذه الآية دليل لأن الله تعالى عالم بكل شيء، فما أخبروه إلا بما هو عالم به، أو تقول إنما معنى الآية أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن إذ ذاك (نسبح) بحمدك ونقدس لك، ولا يمنعنا إفساده من ذلك لأن الملائكة معصومون فيكون استفهاما (عن) بقاء تسبيحهم (معه).
واختلفوا في كيفية عصمة الملائكة فقيل: إنهم لا يستطيعون فعل الشر بوجه، وهو قول من فضّلهم على جميع بني آدم.
وقيل: إنهم متمكنون من فعل الشر، وعصموا منه وهو الصحيح.
قيل لابن عرفة: الجواب ﴿إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ غير مطابق (للسؤال) لهذا التفسير.
قال: (سألوا عن جزأين) : وهما هل يكون الخليفة مفسدا؟ وهل يكونون إذ ذاك هم يسبحون؟ فأجيبوا عن الجزء الأول فقط.
قوله
تعالى
: ﴿وَعَلَّمَءَادَمَ
الأسمآء كُلَّهَا... ﴾

قال ابن عرفة: فيه دليل على أفضلية العلم، وأنه أشرف الأشياء، لأن الله تعالى جعل السبب في استحقاقه للخلافة كونه عالما مع وجود أن الملائكة شُرفوا بالقوة العملية وهي التسبيح والتقديس، ولكن القوة العملية لا تنفع إلاّ (بالعلم) وآدم أعلم منهم. وقال الله تعالى:
239
﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ ((فهو يتناول المخلوقات كلها إذ لا ينبغي الكمال إلا لله فهو المختص بالعلوم، وليس فوقه شيء. وجعل بعضهم عمومها مخصوصا (خوف) التسلسل)). والصواب أنها باقية على عمومها، والقوقية أمر اعتباري. فإذا نسبت بعض الطلبة إلى بعض تجد أحدهم أعلم بالفقه، وآخر أعلم منه بالنحو، وآخر بأصول الدين، فيصدق أن فوق كل ذي علم عليم (بالإطلاق).
ولقد اختلف الأصوليون في (واضع) اللّغة على (تسعة) مذاهب:
الأول: مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فورك وأتباعهما أن الواضع هو الله تعالى وضعها، (ووقف عباده عليها) بأن علّمها بالوحي إلى بعض الأنبياء، أو خلق الأصوات والحروف في جسم وأسمع ذلك الجسم واحدا أو جماعة، أو خلق الأصوات والحروف في جسم وأسمع ذلك الجسم واحدا أو جماعة، أو خلق علما ضروريا لبعض الناس، (بأن واضعا) وضع تلك الألفاظ بإزاء تلك المعاني ثم الذي حصل له العلم بها علّم غيره كحال الوالدات مع (أولادهن)
240
الثاني: أن الوضع اصطلاحي من الناس وهو مذهب أبي هاشم المعتزلي ومن وافقه.
الثالث: قول الأستاذ أبي اسحاق الإسفراييني يعني أن البداية من الله (والتتمة) من الناس، وهو مذهب قوم، ونقل أيضا عنه قول آخر: إن القدر المحتاج إليه من الله وغيره محتمل نقله عنه الشيخ ابن الحاجب في مختصريه الكبير والصغير وشمس الدين الدمشقي والقول الذي قبله نقله عنه ابن الخطيب في المحصول وتاج الدين في (الحاصل) والقرافي.
الرابع: أن البداية (من الله) (والتتمة) من الله وهو مذهب قوم.
الخامس: مذهب عباد ابن سلمان الصّميري المعتزلي أن (الألفاظ) تدلّ على المعاني بذواتها دلالة طبيعية من غير وضع.
241
قال ابن يونس في العتق الأول في فصل ما يلزم من ألفاظ العتق وما لا يلزم ما نصه: واختلفوا فيمن أراد أن يقول ادخلي الدار فقال: أنت حرة أو أنت طالق فقيل: يلزمه ولا يعذر بالغلط وقيل: لا يلزمه.
قال ابن عرفة: القول باللّزوم لا يتم إلا على مذهب عباد (الصميري) الذي يجعل بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية.
قال القرافي: عزاه (الآمدي) لأرباب علم التكسير وهم أهل علم الرياض في الهندسة والمساحة من فنون الحساب وهذا تفريع على مذهب من يعتقد أن الحروف مشتملة على (الحرارة) والبرودة والرطوبة واليبوسة والخواص الغريبة وأنها صالحة لمداواة الأمراض وأحداثها.
السادس: للقاضي أبي بكر الباقلاني والإمام فخر الدين في المحصول الوقف في الجميع إلا في فساد مذهب عباد.
قال القرافي في شرح المحصول: قال المازري فائدة الخلاف في هذه المسألة يقع في جواز قلب اللّغة أما ما يتعلق بالأحكام الشرعية فقلبه محرم اتفاقا وما لا تعلق له بالشرع. فإن قلنا: إن اللّغة توقيفية
242
امتنع تغيرها، وإن قلنا: اصطلاحية جاز تغيرها. وعلى القول بتجويز الأمرين وهو الوقف اختلفوا. فقال بعضهم: يجوز التغير ومنعه عبد الجليل الصابوني لاحتمال (التوقيف) (فإن الله) أوجب على السّامعين أن لا ينطقوا إلا بالموضوع الرّباني. وقال الغزالي في البسيط في كتاب النكاح: إذا أظهروا (الصدق) (البين) وعبروا بها عن ألف (الجمع) فيخرج جواز ذلك على كون اللّغة توقيفية أو اصطلاحية، انتهى:
وقال ابن عبد النور في شرح الحاصل: منهم من قال: فائدة الخلاف لو سب أحد واضع اللغة وقال: هذه لغة سوء أو أن واضعها كذا، فإن قلنا أنها توقيفية (قتل) وإلا أدّب.
وقال القاضي عبد الحميد بن أبي الدنيا: في شرح عقيدته ليس لهذا الاختلاف إلا فائدة واحدة وهي أنه إذا قال قائل: قتل فلان فلانا. فإن قلنا: إنه توقيف فيكون ذلك مجازا، وإن قلنا: اصطلاحا (
243
فمن) لم يثبت (إلا فعل) الله يقول: أخطأ المصطلحون لأن القتل والإحياء وكل فعل إنما هو بخلق الله وهو القاتل. وأبطل ابن الحاجب وغيره مذهب عباد بأنه لو كان بين الاسم والمسمى ارتباط طبيعي لما صح وضع اللفظ لشيء ونقيضه على سبيل البدل، وقد وجدنا القرء موضوعا للطهر والحيض وهما نقيضان (أو ضدّان) على طرفي النقيض وليس بين الشيء وضدّه أو نقيضه مناسبة طبيعية
وقال ابن الحاجب: احتج الأشعرية بدليلين أحدهما قوله تعالى ﴿وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا﴾ فأسند تعليمها ((إليه وكذلك الأفعال والحروف إذ لا قائل بالفرق ولو أنها كانت اصطلاحية لما أسند (تعليمها) إليه)) واعترض عليه بوجوه:
الأول: أن ذلك (إعلام) لا تعليم أعني أنه فعل يصلح لأن ينشأ عنه العلم ولذلك يقال: علَّمته فتعلم (أو) لم يتعلّم.
الثاني: أن المراد إيجاد العلم لكن المراد (تعلم) شيء ثبت باصطلاح قوم خلقهم الله قبل آدم فعلمه تلك الاصطلاحات السابقة كما يعلم أحدنا الطّلبة النحو والفقه (والطب).
244
الثالث: لم (لا) يجوز أن يكون مراده الإعلام بحقائق الأشياء ومنافعها، مثل أن يعلّمه أن (حقيقة) الخيل (تصلح) لكذا، أو أنها (تصلح للركوب) (وللكرّ والفرّ) والجمل للحمولة ويعين ذلك قوله ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ ولو (أريد) الأسماء لقلل عرضها واجاب الشّيخ ابن الحاجب عن الجميع بأن ذلك خلاف (الظاهر، لأن) الأصل (بالتعليم) إيجاد العلم (لا الإلهام) والأصل عدم اصطلاح سابق والمراد بالأسماء الألفاظ لا الحقائق لقوله جل ذكره: ﴿أَنبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء﴾ فأضاف الأسماء إلى هؤلاء، فلو كان المراد الحقائق للزم إضافة الشيء إلى نفسه والضمير في «عَرَضَهُمْ» للمسميات.
قال ابن عطية: قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: أي علّمه اسم كل شيء من جميع المخلوقات.
قال ابن عرفة: في هذه العبارة نظر. والصواب ان كان يبدل (المخلوقات بالمعلومات) ليدخل تحتها (المعدوم) الممكن والمستحيل فإنه قد علمه اسمه وليس مخلوقا لله.
245
قال ابن عرفة: وهذا بناء على أن المراد بالاسم التسمية لا المسمى.
قيل لابن عرفة: كيف فضل آدم عليهم مع أنّ الله علّمه ولم يعلمهم، وما كان تقوم الحجة عليهم إلا لو علّموا فلم يتعلّموا وعلّم آدم فتعلم؟
فقال في جوابه: هذا تفضيل من قبل ذات المعلم والتفضيل هنا وقع بالاختصاص من الله تعالى فقط
قوله تعالى: ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.
اقتضت الآية أن الثابت في نفس الأمور صدق ذلك وهو عدم صدقهم مع أنهم معصومون من الكذب وغيره.
وأجيب بأن الكذب عندنا هو الخبر غير المطابق لما في نفس الأمر سواء كان عمدا أو سهوا.
قال ابن عرفة: لا يحتاج إلى هذا (وكانوا يجيبون عن) السؤال بأن الأصل الذي (يعرض) فيه التصديق والتكذيب منتف عنهم فإنهم لا يجيبون بشيء، (فلم يعتقدوا) خبرا (حتى) يقال فيهم: إنّ اعتقادهم مخالف لما في نفس الأمر فيكون الإخبار عنه كذبا، أو موافقا فيكون الإخبار عنه صدقا (بوجه).
246
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ... ﴾
246
(أتى) (بالتنزيه) المقتضي لنفي ما (قد) يتوهم من (آن) الله تعالى طلب منهم الجواب عما علم أنّهم جاهلون به والواحد (منا) إذا سأل صاحبه عن مسألة يعلم منه أنّه (يجهلها) فإنه يتوهم فيه أنّه إنّما سأله اختبارا وتعجيزا له واستحقارا به.
فقالوا: ننزهك (عن) أن ينسبك أحد لمثل هذا ويتوهم فيك شيئا منه. وأيضا يكون التسبيح نفيا للشبهة العارضة في تكليف ما لا يطاق لأن مذهبنا جوازه، وأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ومنعه المعتزلة لهذه الشبهة وهي حجة تكليف الله الخلق بما يعلم أنهم لا يقدرون عليه.
قيل لابن عرفة: لعل مراد الملائكة تتزيهه عن عدم العلم الثابت لهم؟
فقال: ما قلت لكم أنسب.
قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنتَ العليم الحكيم﴾
قال ابن عرفة: الوصف بالحكيم إشارة إلى الوجه الذي اختص به (آدم) بالعلم دونهم فمعناه: أنت تضع الأشياء في محلها أو يكون المراد (الامتنان) بالعلم ودليل العلم وهو الحكمة لأن الأصوليين عدوها من أسباب العلم.
247
قوله تعالى: ﴿قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ... ﴾
قال ابن عرفة: إذا قدّم النداء على الأمر فيكون المراد تنبيه المخاطب واستحضار ذهنه لما يلقى إليه، وإن قدم الأمر على النداء كان ذلك دليلا على تأكيد طلبه وأنه هو (الاسم) (المقصود) كما ورد في الحديث الصحيح في غزوة بدر لما برز من صف المشركين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وطلبوا أن يكون المباشر (لهم) بالقتال مثلهم من بني عمّهم فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة بن الحارث» وكذلك في حديث الأنصار حيث قام منهم خطيب فقال النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قل (يا أباحية) ».
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ... ﴾
248
(فإن قلت: هلاّ قيل: فأنبأهم بأسمائهم. فقال: ﴿أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ﴾ الآية؟
قلت: الجواب ما قال بعضهم: من أن حكمته الإشعار بترتيب المجازات على الفعل (فيؤخذ) منه جواز (الثناء) على الإنسان بما فيه من المحاسن لكن في غيبته لئلا يقع (في نفسه) كبر وعجب وإن كان (الإنسان) هنا سالما من ذلك.
قال الطيبي: ويؤخذ من الآية أن علم اللغَة والحِكْمة أفضل من علم العبادة فضلا عن علم الشريعة/ لأن آدم عليه السلام فضل على الملائكة لاختصاصه بعلم الأسماء وهذا راجع إلى حفظ اللغة وهم لم يحتجوا إلا بكمال التسبيح والتقديس.
فقال ابن عرفة: إنّما يؤخذ منه أن علم اللّغة له فضل وشرف لا أنه أفضل من العبادة.
قال ابن عطية: قال بعض العلماء في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ﴾ نبوءة (لآدم) عليه السلام إذ أمره الله أن ينبيء الملائكة بما ليس عندهم من علم الله عَزَّ وَجَلَّ.
وكذا قال ابن الخطيب: إنّه احتجّ بها من قال: إنّ آدم عليه السلام رسول، ورد هذا (بوجوه) :
الأول: قال الفخر الرازي: الأنبياء معصومون وهو قد أهبط بعد ذلك من الجنة لأكله من الشجرة فلا يصح كونه رسولا.
249
الثاني: قال ابن عرفة: الرسول مأمور بتبليغ التكاليف لأمته، والملائكة ليسوا مكلفين بإجماع، وأيضا فالتبليغ إنما هو مع الغيبة والله تعالى خاطب الملائكة خطاب مشافهة فلا فائدة في الإرسال إليهم.
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾.
250
قال ابن عرفة: كان الشيخ ابن عبد السلام رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى يقول في هذه الآية الكريمة: إنه لم يتقدم في الآية (التي قبلها) أنه قال لهم هذا لأن المتقدم إنما هو ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء﴾ إلى قوله ﴿تعلمونَ﴾ قال الشيخ ابن عبد السلام: ينبغي عندي أن يوقف عند قوله ﴿أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ﴾ أي (أَلَمْ) أَقُل لَّكُمْ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ.
ثم يبتدئ: ﴿إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض﴾ ؟
قلت: والظاهر عندي أن الوقف عند قوله: ﴿غَيْبَ السماوات والأرض﴾ لأنّ ﴿غَيْبَ السماوات والأرض﴾، لا يعلمونه هم فكأنه قال: إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ويبتدئ ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ لأن هذا لا يتسلط عليه القول إذ لم يقله لهم أصلا.
قوله تعالى: ﴿مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾
قال ابن عرفة: عادتهم يوردون هنا سؤالا مذكورا في جنس الائتلاف وهو: لِمَ جَاءَ هذا هكذا (مع) صلاحية الأربعة أوجه إمّا حَذْف كان من الفعلين، أو ذكرهما فيهما معا أو ذكرها مع الأول دون الثاني، أو العكس. فلم اختص اختص بها الثاني دون الأول؟
قال: وتقدم لنا الجواب عنه بأنه قصد بالعطف التسوية بين علم الله تعالى الظاهر والخفي كما في قوله تعالى ﴿مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾ وعلم الأمر الظاهري في الحال أقرب من علم ما كان ماضيا في الباطن وجهل الأمر الماضي الخفيّ أشدّ من جهل الأمر الحالي الخفي (فقرن) علمه الظّاهر الّّذي في أعلى درجات (الجلاء) والوضوح بعلمه الأمر الخفي الباطن الذي في أنهى درجات الخفاء إشارة إلى استواء علمه فيهما، وأنه ليس بينهما عندي في ذلك تفاوت بوجه فلذلك قرنت كان ب «تَكْتُمُونَ» دون «تُبْدُونَ».
قيل لابن عرفة: ولو (قصد) التّسوية لبدأ «بِمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ» لأن معرفة الخفي يستلزم (معرفة) الجلي، فلا تكون للعطف فائدة إلا التسوية وأما الآن فالعطف تأسيس وفائدة ظاهرة.
قال ابن عرفة: جاء هذا على الأصل فلا سؤال فيه.
251
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمَ﴾
251
قال: (اختلفوا) هل المراد السجود حقيقة أو الإيماء إليه أو الخضوع؟ وسبب الخلاف أن الخضوع بكون بأمور، ففسره بأقصاها وهو السجود لاستلزامه الخضوع فعبّر عن الخضوع بلوازمه وهذا (يشبه) ما قالوه (في تعارض) الحقيقة المرجوحة والمجاز، لأن القاعدة الثابتة المقررة في أن السجود حقيقة إنما هو بوضع الجبهة في الأرض فإطلاقه (هنا) على الخضوع مجاز راجح استصحابا لتلك القاعدة، وكون المراد به حقيقة هو نسبة المشبه، لكن (إِنْ) نظرنا إلى (أنّ) هذه الأمور جعلية شرعية فنقول: إنّ الله تبارك وتعالى أمر بالسّجود لآدم (فنأخذ) الأمر على حقيقته والمعتزلة على (قاعدة) التحسين والتقبيح يقولون: إن السجود ليس حقيقة بل هو بمعنى الخضوع. ومنهم من جعله تكرمة وجعل آدم كالقبلة فكما أن الصلاة للقبلة تكرمة لها فكذلك هذا، واحتج بعضهم بهذا أن الأنبياء أفضل من الملائكة.
قال ابن عرفة: إنما يؤخذ منه تشريف آدم وتكرمته، لا أنه أفضل وإنما يلزم ذلك لو كان السجود له لذاته.
ونقل ابن عطية: أن الأكثرين على الملائكة أفضل من بني آدم وعكس الفخر الخطيب.
252
قوله تعالى: ﴿فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ... ﴾
حكى الآمدي في شرح الجزولية قولا: بأن الاستثناء من الإثبات ليس بنفي.
قال الرازي في المعالم: اتفق الناس على أن الاستثناء من الإثبات نفي واختلفوا في العكس. قلت: وحصل بعضهم فيه ثلاثة أقوال: قيل: الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات، نفي وقيل: ليس بإثبات وليس بنفي، وقيل: من الإثبات نفي ومن النفي ليس بإثبات.
قال القرافي في شرح المحصول: ذهب بعض الأدباء إلى أن الاستثناء من الإثبات اثبات واحتج بقوله تعالى ﴿فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ أي فلو كان نفيا لما احتيج إلى قوله «أَبَى».
وكان الشيخ ابن عبد السلام يرده بأنها أفادت أن امتناعه من السجود لم يكن لعجز (بعذر) ولا لأنه أكره عليه بل استكبارا وعنادا لعنه الله.
وقال الآمدي: قيل أنه إثبات في الوجهين، وقيل: نفي في/ الوجهين، وقيل: من الإثبات نفي، ومن النفي ليس بإثبات.
253
وقال الطيبي: إن الترتيب هنا معنوي وفي قوله: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ باعتبار اللفظ والأمر الحسّي الوجودي.
قال ابن عطية: قال جمهور المتأولين: كان من الكافرين في علم الله تعالى.
قال ابن عرفة: إن أرادوا أنّه إذ ذاك كفر بهذا الفعل وكان قبل ذلك مؤمنا (بالحسّ) (وكان) كافرا في علم الله تعالى وقيل: إنه كان كافرا بالحس، وشؤم كفره أوجب متناعه من السجود.
واختلف هل كفره عناد (أم لا) ؟ فمنهم من قال: يستحيل صدور المعصية من العالم حالة كونه عالما لأن العلم يقتضي ترجيح (طرق السلامة) (على طريق الهلاك) فأبطل الكفر عنادا وهي قاعدة الفخر وغيره.
ومنهم من قال: إنّ كفره كان عنادا.
قيل لابن عرفة: ويمكن تقرير هذا بما قالوا: من أنّ ارتباط الدليل بالمدلول هل هو عقلي أو عادي فقد يعلم الدليل ولا ينتج له العلم بالمدلول؟
فقال: نعم ولكن ما ذكروا (هنا) إلا الأول.
254
قال ابن عطية: روى ابن القاسم عن الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إن أول معصية كاتت الحسد والكبر والشح، حسد إبليس آدم وتكبر عليه (وشح آدم في أكله من شجرة قد نهى على قربها).
قلت: وهذا بعينه من كتاب الجامع الأول من العتبية. وقال فيه ابن رشد: الحسد من (الذنوب) العظام وهو أن (يكره) أن يرى النعمة على غيره، ويتمنى انتقالها عنه إليه، والغبطة أن يتمنى مثلها فقط مع بقائها عند صاحبها فالغبطة مباحة والحسد محظور قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا حسد إلا في اثنين رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء اللّيل وأطراف النهار» انتهي.
والاستثناء في الآية منقطع. ومنهم من يرى الحسد على وجهين:
- محظور إن كان فيه (بغي). وهو أن يريد الإضرار (بالمحسود) بزوال النعمة عنه.
255
وجائز إن لم يكن معه بغي كالحسد في الخير فإنه مرغب فيه إذ لا بغي فيه والحسد في المال إن لم يكن معه بغي جاز: والشح قسمان: فالشح بالواجبات حرام، وبالمندوبات مكروه.
قال: وقوله في آدم «فَشَحّ» أي فَشح أن يأكل من ثمار الجنة التي أباح الله له الأكل منها فلم يأكل منها (ابقاء عليها) وشحّا بها.
256
قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ... ﴾.
قال ابن عرفة: (الجمع) من قوله تعالى، وزيادة «قلنا» في بعض الآيات تنبيها على تشريف القول وتعظيمه والاهتمام به. فرد عليه بقوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً﴾ ﴿قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ والتعظيم للقول لا للمفعول له، ففيه تهويل وتفخيم لذلك الأمر. والسكنى لا تفيد التأبيد.
قال في المدونة في أواخر كتاب الهبات: ومن قال لرجل: داري هذه لك صدقة سكنى فإنما له السكنى فقط دون رقبتها، وأما إن قال هذه الدار لك ولعقبك سكناها فإنها ترجع إليه ملكا بعد اتقراضهم. فإن مات فأولى الناس به يوم مات وإلى ورثتهم لأنهم هم ورثته.
256
قال ابن عطية: اختلف (مَتَى) خلقت حواء من ضلع آدم؟ ثم قال: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه سألوه لم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي.
ق ابن عرفة: قال بعضهم: المناسب لهذا أن (كان) يكون اسمها حيا؟ وأجيب بأنه اشتقاق أكبر، ومنهم من قال: سميت حواء لأن امرأة الرجل تحوي عليه وتستحمله، فيدخل طوعها ويسمع منها في أغالب أمره.
قوله تعالى: ﴿وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً... ﴾.
قال ابن عرفة: رأيت تأليفا للشيخ عزّ الدين بن عبد السلام في إعجاز القرآن وغيره قال: إنه على حذف مضاف تقديره: وكُلاَ من ثمارها رغدا.
قال ابن عرفة: هذا إن اعربنا «رغدا» نعتا للمصدر فتكون «من» للتبعيض والثمر ليس هو بعض الجنة إنما الجنة هي الأشجار والأرض بدليل أن من باع جنة فيها ثمر قد أبرّ فإنه للبائع ولا يتناوله البيع إلا بالشرط فليس الأكل من الجنة.
257
قيل لابن عرفة: هذه حقيقة شرعية؟ فقال الأصل موافقة الشيء للغة حتى يدل الدليل على خلاف ذلك. قال وإن أعربنا «رغدا: (نعنا) للمفعول مقدرا أي ﴿وَكُلاَ مِنْهَا﴾ (مأكولا) رغدا وتكون» من «للغاية أعني لابتدائها وانتهائها فلا يحتاج إلى تقدير المضاف وقال في الأعراف ﴿وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ فعطف بالفاء وهنا بالواو.
قال ابن عرفة: يجاب بأن تكون هذه نزلت قبل تلك الاية فعبر هنا باللَّفظ الأعم وهو الواو المحتلة لأن يكون الأكل عقب السكنى وبعدها بتراخ ثمّ خوطب هناك باللفظ الأخص الدال على إباحة الأكل بعقب السكنى ليكون الكلام تأسيسا مقيدا.
وأجاب الفخر في درة التنزيل: بأن الأكل من الموضع لا يكون إلا بعد دخوله له إما قبل سكناه أو بعده والأعراف وردت بعد قوله: ﴿اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً﴾ (خطابا للشيطان) ثم قال: ﴿وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة﴾ معناه: ادخلْها أنت دخول سكنى وهي الإقامة مع طول مكث فناسب العطف بالفاء لأن (الدّخول) متقدم في الرتبة على الأكل وآية البقرة لم يتقدم فيها ما يدل على الدخول، فالمراد اسكن حقيقة.
وتأخر الأكل على السكنى ليس بلازم.
258
قوله تعالى: ﴿حَيْثُ شِئْتُمَا... ﴾
قال ابن عرفة: / قالوا: إنه على التوزيع أي يأكل واحد منكما من حيث شاء، لأن الأكل متوقف على اجتماعهما معا على المشيئة لأن المضمرات عندنا كلية (وصيغة) الأمر هنا للامتنان، وعبر عنه ابن عطية بالإذن.
قال الشيخ الفخر: إمّا للندب أو الإباحة والظاهر ما قلناه.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة... ﴾
قال ابن عطية: قال بعض الحذاق: إن الله لما أراد النّهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل والقرب منه.
قال ابن عطية: وهذا مثال لسد الذرائع.
قال ابن عرفة: فرق بين سد الذرائع وبين النّهي عن الشيء لأجل غيره وهو النهي عما هو سبب في غيره، فسد الذرائع هو الامتناع مما لم ينه عنه خشية الوقوع في ما نهى عنه، ومنها (بياعات) الآجال المختلف فيها التي هي ذريعة للوقوع في المحرم ولولا أنّها مختلف فيها ما كان ذريعة فالذريعة (هنا) هو أن يقارب قرب الأكل من الشجرة لأنه نهى عن قرب القرب.
قال ابن الخطيب: والنّهي على الكراهة.
259
قال ابن عرفة: بل على التحريم لقوله ﴿وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى﴾ والظلم الخروج عن الحد إما بكفر أو ارتكاب أمور أدناها الصّغائر.
260
قوله تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا... ﴾
أي فسكنا، وأكلا حيث شَاءَا، فأَزَلَّهُمَا، فسَّرُوهُ بأمرين إما (أوقعهما) في الزلَّة والإثم فالضمير في «عنها» للجنة، أو للشجرة فهو معنوي، وإما حسي من الزوال فالضمير في «عنها» للجنّة.
وقرأ حمزة، فَأَزَلَّهُمَا وهو نص في الزوال الحسي فتكون (مرجّحة) (لإرادته) في القراءة الأولى.
قال ابن عطية: لما دخل إبليس لآدم سأله عن حاله فقال (له) : ما أحسن هذا لو أن خلدا (كان) فوجد به السبيل إلى إغوائه.
قال ابن عرفة: هذا إلهام (للنطق) بما وقع في الوجود حيث قال ابليس ﴿هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد﴾ كما قال
260
يعقوب عليه السلام لبنيه ﴿وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ فقالوا له: ﴿إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذئب﴾ (وكما قال الشاعر:
احفظ لسانك أن تقول فتبتلى)
إنّ البلاء موكل بالمنطق
وأكله من الشجرة إما لظنه أنّ النهي للكراهة أو المنهي عنها شجرة واحدة بالشخص وهذه من نوعها فقط.
زاد ابن عطية: إن حواء سقته الخمر فأكل في حال السكر.
قيل لابن عرفة: خمر الجنة لا يسكر فقال: إن تلك الجنة (التي) من دخلها (يؤمّن) من الخروج (منها) ولعلّ هذه إذ ذاك (كان) خمرها مسكرا.
قلت: أو كان الخمر من غيرها وأدخل (فسقي منها) قال: ومذهب مالك أنّ جميع ما يصدر عن السّكران من طلاق وقذف وقتل وزنا وسرقة كلّه يلزمه ويؤاخذ به وهي (أول) مسألة في العتبية من النكاح الأول.
261
قيل له: إنما هذا اللزوم بعد تحريم الخمر وقد كانت حينئذ حلالا فيعذر شاربها؟
فقال: حفظ العقول من الكليات الخمس التي اتفقت جميع الملل عليها فالسّكر حرام وإنما يجوز فيها ما لا يسكر.
قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا اهبطوا... ﴾.
الأنسب أن يكون الخطاب بواسطة وهو الأغلب فيمن يواقع الأمر المرجوح.
قوله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ... ﴾
ابن عطية: هو في موضع الحال فألزمه أبو حيان أن تكون العداوة مأمورا بها لأن الحال داخله في الأمر.
وأجاب ابن عرفة: بأن ذلك حيث يكون الحال غير (واقعة) حين الخطاب بالأمر (إلا) إذا كانت واقعة فالأمر بها تحصيل الحاصل كقولك: وزيد (ضاحك). أكرم زيدا ضَاحِكا. والعداوة حينئذ بين آدم وإبليس موجودة. أو تقول: إنها مأمور بها ولا يلزم عليه شيء لكن هذا إن كان إبليس داخلا في الأمر.
262
قال ابن عطية: المخاطب بالهبوط آدم وحواء وإبليس والحية؟
وقال الحسن: آدم وحواء والوسوسة.
قال: (ابن عرفة: أي عدو الوسوسة). وقال غيره: والحية. لأن إبليس قد كان إهبط.
قال: وإذا قلنا: (إنّ) الأمر لآدم وحواء وإبليس، فيكون في الآية دليل على جواز إطلاق (لفظ البعض) على أكثر من النصف.
263
قوله تعالى: ﴿فتلقىءَادَمُ... ﴾.
معطوف على قلنا: والفاء للتعقيب أي (يعقب) إن قلنا له ذلك تلقّى فهي إشارة إلى سرعة إلهام الله تعالى له المبادرة بالتوبة.
قال ابن عطية: تلقاها إما بإقباله عليها أو إلهامه إليها.
قال ابن عرفة: والإلهام إما حضور ذلك (بباله) من (غير) تكلّف نظر أو علمه بها بعد تكلّف النّظر. قال: والتفعل يقتضي إمّا (تكلف) الفعل بمشقة وإما للتَّناهِي إلى أعلى درجاته وهو هنا يحتمل الأمرين وتقدم المجرور للتشريف.
263
وقرأ ابن كثير: «آدَمَ» بالنّصب «وكَلِمَاتٌ» بالرفع.
قال ابن عرفة: قراءة الجماعة بالرّفع ظاهرة لأنه هو فاعل التلقي (فكلفه) التلقي والقصد إليه و (إمعان) النظر (فيه ظاهر)، وأمّا قراءءة ابن كثير فتقتضي أن آدم عليه السلام أتاه التلقي هجما من غير نظر، فيمكن (فهمه) على أنه أتته أَوَائِل درجات النظر بالبديهة لأن المعقولات فرع المحسوسات، فأول درجات النظر مدرك معلوم بالبديهة لا يفتقر إلى تقدم شيء قبله (لئلا) يلزم عليه التسلسل، وتنكير «كلمات» للتشريف والتعظيم كما قال الزمخشري في قوله تعالى: ﴿والفجر وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ وقال: نكّرت لأنّها معيّنات معلومات فرد عليه/ بمنافاة التنكير للتعيين. وأجيب بأنها لشرفها وعظمها صارت معلومات في الذهن فلم تحتج إلى تعريف وكذلك هنا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم﴾
تنبيه على أن توبته (لا تخص آدم) بل توبته ورحمته عامة.
264
قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً... ﴾
قال الزمخشري: إن قلت لم جِيءَ بكلمة الشك وإتيان الهدى كائن لا محالة لوجوبه، قلت: فائدته الإعلام (بأن الإيمان) بالله (وتوحيده) لا يشترط فيه بعثة الرسل؟
قال ابن عرفة: هذا السؤال إنما يرد على مذهبه لأنه يقول: إنّ إرسال الرّسل واجب عقلا. وجوابه ضعيف، بل هو مؤكد للسؤال (وبيانه) أن يقول: إتيان الهُدى محقق الوقوع إمَّا من جهة العقل المقتضي لوجوب بعثة الرسل، (أو) من جهة (الوجود) الخارجي لأن التوحيد موجود (فإتيان) الهدى محقق.
قال: فحقه (كان) أن يجيب بما (عادته) أن (يجيب) به. وهو أنّ هذا على عادة الملوك (في خطاباتهم أن يعبروا عن الأمر المحقق الوقوع باللفظ المحتمل) لأن خطاباتهم كلّها محققة.
265
وأجاب الطيبي: أن الشك راجع (إلى اتّباع الهدى) لا إلى نفس الهدى والإتباع غير محقق.
قال ابن عرفة: وهذا كله لا يحتاج إليه على مذهبنا لأن إرسال الرسل إنما يجب (عندنا) بالشرع لا بالعقل، ولم يكن حينئذ شرع بوجه فكان الأمر محتملا.
قال الطيبي: أكد أول الفعل ب «إما» وأخره بالنون الشديدة.
قال ابن عرفة: قد قالوا في قول ابن دريد في مقصورته:
أما ترى رأسي (حكى) لونه طرّة صبح تحت أذيال الدجى
( «إما» زائدة للتأكيد) ونابت مناب تكرير الفعل فكأنه قال: إنْ تَرَ تَرَ. وكذلك هنا تأكيد أوله مناف تكريره وتأكيد آخره راجع إلى تحقيق وقوعه وتثبيته.
قوله تعالى: ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
266
قالوا: سبب الخوف مستقبل وسبب الحزن ماض فإن قلت: على هذا كان يقال: فلا (حزن) عليهم ولا يخافون فهو أرتب ليعبر عن المستقبل (بصيغة) المستقبل.
(قال) : فالجواب عن ذلك أنه إشارة إلى (تكرر) الحزن منهم المرة بعد المرة، وتذكر الإنسان أمرا (مضى) أقرب من تذكره أمرا مستقبلا وتأسفه على الماضي المحقق الوقوع أشد من حزنه على المستقبل، لأنّه (يتكرّر تذكره الماضي) شيئا بعد شيء، (بل) فمهما تذكره يحزن عليه فعبر عنه بالفعل المقتضي للتجدد وليس كذلك المستقبل بوجه.
267
قوله تعالى: ﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ... ﴾.
267
قال ابن عطية: أفاد قوله «كذّبوا» أن المراد (بالكفر) (الشرك) فيخرج (كفر) النّعم والمعاصي.
قال ابن عرفة: وفي الآية عندي حذف التقابل والمعنى: فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَأوُلئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَلاَ خَوْفَ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (أي لا حزن عليهم) وَالَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وعليهم الخوف وهم يحزنون.
268
قوله تعالى: ﴿وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ... ﴾.
قال ابن عرفة: الظّاهر أن المراد به تصديق (الرّسل والإيمان بهم) والمراد بقوله «وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي» الإيمان بالله وتوحيده. والعهد يوم ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ قيل لابن عرفة: الإيمان (بالرسل) يستلزم التوحيد؟
فقال: الصحيح أن التوحيد واجب بالعقل لا بالسمع.
268
فقال الطيبي: هذا من عطف الخاص على العام (أو من عطف الأخص على الأعم) لأن الوفاء بالعهد مطلق.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تكونوا... ﴾.
دليل لمن يقول: إن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، لأنه داخل في ضمن قوله ﴿وَءَامِنُواْ﴾.
قال ابن عطية: وهذا (من) مفهوم الخطاب الذي المذكور فيه والمسكوت عنه حكمها واحد.
قال ابن عرفة: (بمعنى) أنه يدل بمفهوم الموافقة، وهو مفهوم أحرى على (النهي) على كفرهم (على الإطلاق).
قال ابن عرفة: ليس هذا مفهوم الموافقة (وإنّما هو فهم مثل الحكم) المنطوق به في المسكوت عنه، ذكره ابن التلمساني في المسألة السابعة من باب الأوامر (ونسبه) إلى ظن وقطع.
قال الزمخشري: ومعنى الآية: ولا تكونوا مثل أول كافر به.
269
قال ابن عرفة: إنما قال ذلك لأن كفرهم به قد وقع في الوجود إما قبل كفر غيرهم أو بعده، فالنهي عنه من تكليف ما لا يطاق وهو (عنده) غير جائز فلذلك قدر المضاف.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً... ﴾.
عظم الآيات بالجمع والإضافة إليه إضافة تشريف وحقر الثمن بالإفراد، والوصف بالقلة، فهو حقير في قدره (وفي صفته).
270
قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر... ﴾
الاستفهام معناه التقرير والتوبيخ.
قال ابن عرفة: فرق بعضهم بينهما بأن التقرير لمن أنعمت عليه ولم يحسن إليك. والتوبيخ لمن أحسنت إليه وأساء إليك. وجمع الأنفس جمع قلة تحقيرا لها، لأن الآية خرجت مخرج الذّمّ، والواو في «تنسون» يجب (أو يترجح) أن يكون واو الحال (إذ) لو لم تكن من تمام (الأول) للزم عليه تسلط الإنكار على كل واحدة من الجملتين على انفرادها، والأمر بالمعروف مطلوب شرعا لا يوبخ أحد (على) فعله فما الإنكار إلا على من يأمر بالبر حالة عدم اتصافه به. فإن قلت / المضارع لا يقع حالا إلا بغير واو إلاّ فيما شذّ من قولهم: (قمت وأصك عينه) ؟ قلنا: هو على اضمار المبتدأ أي وأنتُمْ تَنسَوْنَ أنفُسَكُمْ.
270
(قيل) لابن عرفة: لعل الإنكار تسلط على الجمع بين الأمرين أي أتجمعون بين الأمر بالبر ونسيان أنفسكم؟
(فقال) : ظاهر اللفظ بالاتصاف أن دلالته على ذلك المعنى إنما هو من ناحية كون تلك الجملة حالا فقط.
قلت: وأيضا فما يدل على إنكار الجمع بينهما إلا لو كان «تنسون» منصوبا كما قالوا في: لاَ تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ.
قوله تعالى: ﴿وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾
أي العقل الذي يصدكم عن ارتكاب ما منع الشرع منه وهو العقل النافع وليس المراد العقل التكليفي لأنه ثابت، وهذا هو الذي اختص منه منتفٍ عنهم لأن المعنى: أتجهلون فلا تعقلون؟ انتهى.
271
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾.
الإعلام بذلك حين التكليف ليكون المكلّف على تأهّب وبصبرة فلا يظهر له حين العمل الا ما دخل عليه، والخشوع هو استحضار التقصير في العمل وفق المجازاة عليه.
قلت: بل الخشوع رقة في القلب سببها الخوف، وانظر في أسئلة الشيخ ابن رشد في أول مسألة من كتاب الصلاة.
قوله تعالى: ﴿الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ... ﴾.
271
قالوا: معناه يعلمون.
قال ابن عرفة: (الذي يظهر) لي أن الظنّ على بابه مصروف لزمن (الملاقاة) أي هم يستحضرون الموت ويظنونه في كل زمن واقعا بهم.
قال القشيري أبو طالب: إنّ أبا بكر وعمر جلسا ذات يوم مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إني إذا أصبحت ما أدري هل أمسي أم لا؟ وقال سيّدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إذا أمسيت لا أدري هل أصبح أم لا؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: وإذا صعدت النفس لا أدري هل أرده أم لا؟ (لأنهم يعتقدون المعاد علما لا ظنّا. فقال: يكون مثل: علفتها تبنا وماء باردا، وتعلمون أنّهم إليه راجعون).
قال ابن عرفة: فإن قلت: جاء في الآية التصديق قبل التّصور لأنه حكم على الخاشعين بأن الصلاة ليست عليهم كبيرة قبل أن يبين حقيقتهم وما أراد بهم.
272
فالجواب أَنّا (إذا) جعلنا ﴿الذين يَظُنُّونَ﴾ نعتا للخاشعين فلا سؤال، لأنه من تمامه وكأنه شيء واحد، وإن جعلناه مقطوعا للرفع أو للنصب فالسؤال وارد.
قلت: وتقدم لنا غير مرة أن التصور باعتبار حقيقة الماهية والإحاطة بها لا يشترط تقدمه على التصديق.
273
قوله تعالى: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ... ﴾.
الذكر باللسان والقلب. واختلفوا في الذكر باللسان فقط هل هو معتبر (أم) لا؟ ووجه مناسبتها لما قبلها أن الله تعالى كلفهم بالصلاة (وأعلمهم) بمشقتها وكان ذلك سببا في قنوطهم (وإياسهم)، وقلة (طمعهم) في الوفاء بها والخروج من عهدتها، وعقب ذلك ببيان أن الله تعالى منّ عليهم نعما في الماضي فليتذكروها لتذهب عنهم الأمور العادية، ويكونوا على بصيرة من الطمع والرجاء في فضل الله تعالى وإنعامه عليهم في المستقبل بالإعانة على تحصيل تلك العبادة من غير مشقة (وجهد). قال: وإنما نسبهم إلى يعقوب إن كان لهم أجداد غيره أنبياء لأنه أقرب جدّ إليهم. لأن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام وعليهم. قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى﴾ ثم قال
273
﴿وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ فإن قلت: ما الفائدة في قوله: ﴿التي أَنْعَمْتُ (عَلَيْكُمْ﴾ ) ولو أسقطت لقيل: اذكروا نعمتي (عليكم) لما اختل المعنى؟
فالجواب: أنه أفاد اختصاص تلك النعمة بهم، وأنهم مقصودون بها، أي اذكروا نعمتي التي جعلتها خاصة لكم، لأنه أنعم عليهم نعما كثيرة، وذكرهم بما اختصهم به منها دون ما (شاركهم) الغير (فيه)، وأيضا فالإنعام على الشخص يطلق على ما ناله مباشرة وبواسطة كالإنعام على قريبه وصديقه (فذكّروا) بما أنالهم من النعمة مباشرة.
قوله تعالى: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين﴾.
قال ابن عطية: أي على (عالمي) زمانهم.
274
قال الزمخشري: أي على الجمّ الغفير.
قال ابن عرفة: جعله ابن عطية عاما في الأشخاص، خاصا في الأزمان (وجعله) الزمخشري بالعكس، والتخصيص في الزمان أولى لأن العام في الأشخاص مطلق في الأزمنة والأحوال، وفرق المنطقيون بين الكلية الدائمة والكلية المطلقة.
(قرره) ابن عرفة مرة أخرى فقال: الألف (واللام) عند ابن عطية للعهد، وعند الزمخشري للجنس، ونظيره كقولك: كل إنسان أبيض، إن أردت (اعتبار) الأمر الذهني فهو كاذب، وإن (كان) باعتبار الوجود الخارجي فهو صادق إذا كان أهل زمانك كلهم بيضا. زاد الفخر الرازي: أنه عام في الأشخاص والأزمان / مطلق في أنواع التفضيل. فلعلّهم فضّلوا عليهم (لفرع) واحد إما بالتنصيص على أن منهم الأنبياء والملوك قال تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً﴾ فقال ابن عرفة: «هذه دلالة ظاهرة (وليست نصا) ولا ينبغي أن يصرح بكونهم أفضل من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا في خصلة واحدة.
275
قال ابن عرفة: والنعمة تحتمل أن يراد بها أمر حسي والتفضيل معنوي فيكون الكلام تأسيسا، أو أن يكون عاما في جميع النصح فيكون وأنّي فضلتكم من عطف الخاص على العام أو مطلقة تصدق على واحدة غير معينة فيكون من عطف الأخص على الأعم وهو المقيد على المطلق.
276
قوله تعالى: ﴿واتقوا يَوْماً... ﴾.
أي اتّقوا عذاب يوم.
قال ابن عرفة: لا بد من تقدير (هذا) المضاف لأن اليوم إن أعربته مفعولا لزمك تكليف ما لا يطاق لأن يوم القيامة لا بد لهم منه، فلا يصح تكليفهم بأن يجعلوا بينهم وبينه وقاية، وإن أعربته ظرفا لم يصح أمرهم بالتقوى فيه لأنّه ليس محلا.
قوله تعالى: ﴿لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ... ﴾.
أي جزاء (تستقل به فيبطل استدلال المعتزلة بها على نفي الشفاعة العظمى أو الجزاء راجع إلى) النصرة لأن الإنسان لا (يفزع) إلى الشفاعة إلا إذا لم يقدر على النصرة لا بيده ولا بجنده، فإن علم أنه عاجز تشفع، فإن لم يقبل منه افتدى بالمال.
276
قال ابن عطية: وهذه إنما هي في الكافرين للإجماع ولتواتر الحديث بالشفاعة.
قال ابن عرفة: قال ابن الصلاح: لم يصح من (أحاديث) الشفاعة غير حديثين.
قال ابن عرفة: فعلى هذا يكون التواتر فيها معنويا لا لفظيا لتواتر شجاعة عليّ وجُود حَاتم. وقال هنا: ﴿وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ (وفي الآية الأخرى) ﴿وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ فأخّر (الفداء) بالمال هنا عن الشفاعة وقدمه (هناك).
قلت: ولقد أجاب الفخر الخطيب (عن ذلك) بأنّ ذلك على حسب حال الناس فواحد يرغب في المال (ويشح به) فيأتي بالشفيع، وآخر يرغب في (الجاه والحرمة) فيهون عليه (بذل) المال صيانة لحرمته.
277
وأجاب الفقيه أبو جعفر أحمد بن ابراهيم (ابن الزبير) العاصمي الثقفي بأن هذه الآية تقدمها ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر﴾ مظنة الامتثال والقبول فيكون مظنة لترجي الأمرين بالبر، (وأن يشفع) فيهم يوم القيامة من امتثل أمرهم ألا ترى قوله تعالى في المنافقين ﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ﴾ فقد نسبوا المؤمنين بالكون معهم فأحرى أن يتعلق هؤلاء بالحظ على الخير والدلالة عليه فكان الآكد هنا نفي الشفاعة، فبدأ (به) ولم يتقدم في الآية الأخرى ما يستدعي هذا فبدأ بالفدية التي عهد في الدنيا أنها أمكن في التّخلص.
قال ابن عرفة: واحتجّ بها المعتزلة على إنكار الشفاعة وحملها أهل السنّة على أنها في الكفار خاصة (بهم) لما تقدم.
قال الإمام الرازي: بل هي حجة على المعتزلة.
قال ابن عرفة: لا يُنْفَى إلا ما هو قابل للنفي والكفار ليسوا بقابلين للشفاعة بوجه بخلاف العصاة.
278
وأجاب ابن عرفة: بأنهم قابلون لها باعتبار الدّعوى لقولهم: ﴿هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله﴾ فقد ادعوا أن لهم شفعاء.
279
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ... ﴾.
قال ابن عرفة: معطوف على «اذْكُرُوا» (عطف الجملة) أو على «نِعْمَتِيَ» (فالعامل) فيه «اذْكُرُوا» (المتقدم) على الفعل في المفعول به، أو عطف على «عَلَيْكُمْ» (فالعامل) فيه «أنعمت» (عمل) الفعل في الظرف.
قلت: وهذا (باطل) لأن «أنعمت» في صلة الموصول فكذلك معمولها وما عطف عليه وقد (فصل) بينهما بأجنبي وهو ﴿واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا﴾ قوله تعالى: ﴿يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب... ﴾.
قال الطيبي: السّوم مفرد في اللّفظ مركّب في المعنى لأنه طلب (البغي) على الغير فمعناه مركب من الطلب (والإضرار) بالغير.
279
قال ابن عرفة: لا يسمى هذا مركبا إنما المركب عندهم (ما كان) كلفظ مركب ولفظ مجمل ولفظ النسبة. (فإنها) لا تعقل إلا بالشيئين المناسبين.
قال ابن عطية: وإنما نسب الفعل إلى (آل فرعون وهم) إنما فعلوه بأمره (لمباشرتهم ذلك).
قال الطبري: إن من أمره ظالم بقتل أحد فقتل إنه المأخوذ به (لا) الآمر.
قال ابن عرفة: هذا هو المشهور عندنا وذكره الشيخ ابن رشد في البيان والتحصيل وأظنه في كتاب السلطان واللّخمي في (الغصب) وذكره ابن يونس فر فروع آخر الغصب عن ابن أبي زيد (من أخبر لصوصا أو غاصبا بظهر رجل، ومن قدّم رجلا إلى ظالم إنّه يغرمه مالا يجب عليه، انظرها)، وفي الحج الثالث إذا دل محرم على صيد محرما أو حلالا فقتله المدلول
280
عليه فلا شيء على الدال وإن أمر بقتله فعليه جزاء واحد وإن كان المأمور عبدا وإلاّ فلا. هذا هو المشهور.
ونقل ابن يونس عن أشهب في كتاب ابن المواز: أنه إن دل محرما على صيد فقتله فعلى كل واحد منهما جزاء وإن دل حلالا فلا شيء على الدال.
وقال التونسي: الصواب بأن الجزاء لئلا يبقى الصيد بلا جزاء لأنه إذا وجب (الجزاء) حيث يكون المدلول محرما فأحرى إذا كان حلالا وهو عكس/ المشهور.
وذكر ابن بشير الأول والثالث وزاد إن دل حلالا وجبت عليه (الدية) إذ لا يمكن إسقاطها. وإن دل حراما لم تجب لاستقلال المدلول بها فجاءت أربعة أقوال. وإن أمسك الصيد لرجل فقتله قال في المدونة: إن كان القاتل حلالا أدّاه الماسك وإن كان حراما (أدّاه) القاتل.
281
وقال سحنون: لا شيء على الماسك.
ابن يونس: وقال التونسي: وانظر هل يلزم على مذهب أشهب إذا دل أحد على مال رجل فأخذه، أو على قتله فقتله؟ فإنه يقتص منه ويغرم المال لأنه لم يتوصل إليه إلا بدلالته.
قوله تعالى: ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ... ﴾
كانوا أضروهم بقتل الذكور لانقطاع النسل وإحياء النساء للإذلال والمعرة وقد كانوا هم (يكرهون) استحياءهم خوف المعرة والإذلال.
وقال في سورة إبراهيم: ﴿وَيُذَبِّحُونَ﴾ بالواو وهنا بغير واو.
قال ابن عرفة: الجواب (إما) بأن العطف بالواو (تفسير) كما قال الشيخ ابن رشد في المقدمات في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ﴾ وإما بأن يكون «وَيُذَبِّحُونَ» معطوفا على فعل مقدر يكون ذلك الفعل تفسير الأول، وإلا فالقصة واحدة.
282
فإما أن يكون الثاني هو الأول فيهما، أو مغايرا (له فيهما) لأن العطف يقتضي (المغايرة، وعدم العطف) يقتضي الموافقة فكيف الجمع بينهما؟
قلت: وتقدم لنا الجواب في الختمة الثانية في سورة إبراهيم حيث قال ابن عرفة: (وعادتهم) يجيبون بأن (المنّة في) آية البقرة (وقعت من الله تعالى) «نَجَّيْنَاكُمْ» فأسند الفعل إلى نفسه (والملك) (لكل) الأشياء (عنده) حقير فلذلك أتى بالجملة «يذبحون» مفسرة للأول غير معطوفة فكأنها شيء واحد إذ لا يستعظم الأشياء إلا العاجز فالألف دينار لا قدر لها عند الغني وهي عند الفقير (مال جليل).
وأما سورة إبراهيم فالامتنان فيها من موسى عليه السلام لأن أول الآية ( ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ فهي حكاية صدرت من موسى لقومه)، فناسب المبالغة بالعطف (فيها) المقتضي (للتعدد) والمغايرة لتكثر أسباب الامتنان.
283
قلت: وأجاب صاحب درة التنزيل بأن آية إبراهيم وقعت في خبر عطف على خبر آخر قبله وهو ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ﴾ ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ﴾ فيبقى معنى العطف في «َيُذَبِّحُونَ» لأنه هو وما عطف عليه داخل في جملة معطوفة فالمقام مقام فصل وأما آية البقرة أخبر فيها بخبر واحد وهو إخباره عن (نفسه) بإنجائه بني إسرائيل فلذلك لم يعطف وأخبر في إبراهيم بخبرين معطوفين فلذلك عطف.
قلت: وأيضا فالجمل المتقدمة في البقرة طلبية وهي ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا﴾ «واتَّقُواْ»، وجملة «يُذَبِّحونَ» خبرية فليست مشاكلة لها بخلاف في سورة إبراهيم فإنها كلها خبرية وقد نص ابن أبي الربيع على أن المشهور أنه لا يعطف الخبرية على الطلبية ولا العكس.
وأجاب القاضي أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بأن هذه الآية مشتملة على استيفاء القصص، وسورة إبراهيم على إيجاز القصص، والأمران سائغان عند العرب قال شاعرهم:
يرمون (بالخطب) الطوال وتارة
(رمي) الملاحظ خيفة الرقباء
284
فذكر في البقرة سوء العذاب مجملا، (ثم) البينة (بذبح) الذكور وإحياء النّساء لأن القصد الإطناب بدليل زياده ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر﴾ وأشار في السورة الأخرى بقوله: ﴿يَسُومُونَكُمْ (سواء العذاب﴾ ) إلى جملة ما (امتحنوا) به من فرعون وقومه من استخدامهم وإذلالهم بالأعمال الشاقة وذبح الذكور واستحياء النساء ثم جرد منها (أعظمها) امتحانا، فعطفه لأنه مغاير لما قبله فقال: «وَيُذَبِّحُونَ» إشعارا (بشدة) الأمر فيه، وهو مما أجمل فيه، كما ورد في قوله تعالى:
﴿مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ خصصهما بالذكر إعلاما بمكانهما.
قال ابن عرفة: فإن قلت: لم قال هنا: «نَجَّيْنَا» وفي الأعراف ( ﴿أَنجَيْنَا) ﴾ فالجواب: بأن القصد هنا كثرة تعداد وجوه الإنعام (فيه) (فبدأ) ب ﴿ياأيها الناس (اعبدوا) رَبَّكُمُ﴾ إلى آخرها
285
وكلها إنعام، ثم قال: ﴿يَا بَنِي إسْرَائِيلَ﴾ فلما كان موضع تعداد النعم ناسب التضعيف في «نَجَّيْنَاكُمْ» وأيضا فهو مناسب للتضعيف في «يُذَبِّحُونَ» الأعراف إنما فيها «يُقَتِّلُونَ» فرُوعِيَ مناسبة اللّفظ فيما بعد، والمعنى فيما قبل، انتهى.
قال ابن عرفة: وإنما قال: «نِساؤُكُمْ» ولم يقل: ببناتكم كما قال: «أَبْنَآءَكُمْ» تسمية للشيء بما يؤول إليه، وإشارة إلى قصدهم المعرة، واستحقار (بناتكم).
قوله تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكُم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾
البلاء: إما قدر مشترك بين الخير والشر أو لفظ مشترك، ويجيء فيه تعميم المشترك (فيبتلى الإنسان) بالخير ليشكر، و (الشر) ليصبر. قال الله تعالى ﴿هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلونياءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ قال ابن عطية: (معناه) الامتحان والاختبار.
قال ابن عرفة: في هذه العبارة قلق، وينبغي أن يفهم (بما) قال الزمخشري في غير هذا الموضع: إنه يفعل بهم فعل المختبر لأن الاختبار من لوازمه الجهل، وهو مستحيل عن الله عَزَّ وَجَلَّ.
286
قوله تعالى: ﴿فَأَنجَيْنَاكُمْ... ﴾
قال البسيلي: في تفسير قوله تعالى: «فأنجيناكم» قدم الإنجاء وإن كان دفع المؤلم آكد مراعاة للترتيب الوجودي لأن الإنجاء متقدم على إغراق آل فرعون.
قوله تعالى/: ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً... ﴾
قال ابن عرفة: يمتنع أن يكون أربعين ليلة (ظرفا) لأن ظرف الزمان المحدود (العمل) فيه كله، ويمتنع أن يكون (مفعولا)، لأنها ليست هي (الموعودة) إنما الموعود موسى عليه السلام.
قال الزمخشري: وعده الله الوحي، ووعده موسى (المجيء للميقات)، (فكأنه) مواعدة من الجانبين، وأبطله الطيبي بأن فيه تقدير مضافين معطوفين. وهو باطل.
قال ابن عرفة: إنما يريد واعدنا موسى مناجاة أربعين (ليلة)، وملاقاة أربعين ليلة، والمناجاة تستلزم مجيء موسى إلى الميقات، لأنها بعد الأربعين لأن الله تعالى جعل له عبادة هذه الأربعين
287
ليلة (و) وِصَال صيامها كلها ليلا ونهارا سببا في مناجاته إياه بعدها بما طلب من التوراة والصحف والألواح.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ... ﴾
منع أبو حيان عود الضمير إلى الوعد للتناقض، لأن «ثُمَّ» للتراخي و «مِن» في «مِن بَعْدِهِ» (تقتضي) ابتداء الغاية فهي لأول أزمنة البعدية.
وأجاب ابن عرفة: بأن الأولية مقولة بالتشكيك، ألا تراهم يؤرخون بأوائل الشهر في العشرة (الأول) كلّها.
(قيل له) : ابتداء الغاية ما (يصدق) إلا على أول جزء.
قوله تعالى: ﴿وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ﴾
أي لا شبهة لكم في اتخاذه، بل ذلك محض ظلم منكم وتعنت.
288
قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
قال ابن عطية: الترجي مصروف للمخاطب أي (عَفَوْنَا) (
288
عنكم) لتكونوا بحيث (يترجى) المخاطب (بها) شكركم عليه.
وفسره الزمخشري على مذهبه بالإرادة.
289
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم... ﴾
الظلم هنا المراد به الكفر لتقيّده (باتخاذ) العجل. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ وقال جلّ ذكره: ﴿الذينءَامَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ﴾ هو مطلق فلذلك أشكل على الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، وَقَالوا: أيُّنَا لم يلبس إيمانه بظلم؟
قال ابن عرفة: وقدم المجرور هنا على المفعول، والأصل تأخيره عنه، ولا (يقدم) إلا لنكتة (تتوخى) والحكمة في ذلك أن النداء إقبال على المنادى، وتخصيص له فلو قيل: (وإذ) قال موسى: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم لقومه. لما كان
289
لقومه فائدة بخلاف قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ﴾ فإن تقديم المجرور هناك (بمعنى) آخر وهو الاعتناء بالمقول له وتشريفه، والاهتمام به وتخصيصه بتلك المقالة دون غيره، وبين (بقوله) :﴿ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُم﴾ أن الله تعالى منزه عن أن يناله شيء من ظلمهم، وإنما ضرر ذلك راجع (إليهم).
قال ابن عرفة: وهذا (يشبه المحدود)، فإنه لا تنفع فيه الشفاعة، ولا (تسقطه) التوبة كما قال الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في المحارب: إذا قتل (أحدا) فعفا عنه وليه، أنّ الحد لا يرتفع لأن الحق لله تعالى، فلذلك قال: ﴿فاقتلوا أَنفُسَكُمْ﴾ وهذا بيان للتوبة، (و) الفاء (للتسبيب أو للتعقيب).
قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ... ﴾
الإشارة
290
إلى التوبة بشرطها، وهو القتل، و (خير) هذا إما (فعل)، لأن (ضده) وهو عدم التوبة لا خير فيه، أو أفعل مِن، لأنّ ضده المشارك له في مطلق الخيرية هو التوبة مع علم قتل الأنفس.
قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ... ﴾
إما علم أنكم تتوبون، وإما على المعنى ألهمكم (للتوبة) أو يسرّها لكم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم﴾
قال ابن عرفة: الوصف بالرحيم دليل لنا على المعتزلة في إبطال قاعدة التحسين والتقبيح، وأن الله تعالى لا يجب عليه شيء لاقتضائها أن توبته على (العصاة) محض رحمة منه وتفضل (لأن) الدليل اقتضى وجوب ذلك عليه، قال الإمام فخر الدين الرازي.
قال ابن عرفة: يقال: إنه إنما لم يقل: فقتلوا لأن توبتهم (ملزومة) لقتلهم (أنفسهم)، فلا يبق للقتل بعد ذلك محل، لأنهم قد ماتوا حين التوبة.
291
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ... ﴾
أي لن ندوم على الإيمان لك فليس هو ردة، لأنّه من قول السبعين، وقد كانوا آمنوا به، وفيه دليل على أن رؤية الله سبحانه وتعالى ممكنة جائزة عقلا لطلبهم ذلك.
فإن قلت: لم يقم الدليل على صحة طلبهم، فلعلهم آخطؤوا في الطلب؟
قلنا: نص العميدي في الجدل وغيره إذا وقع الشك في شيء إنما يحمل على الأمر الغالب فيه، والغالب في هؤلاء أنهم ما يطلبون إلا الأمر الممكن عقلا، فأخبر الشارع أنه غير واقع.
قال ابن عرفة: واستشكل القرطبي تكليفهم بعد إحيائهم من الصعق (لسقوط) التكليف بالصعق وإذا سقط لا يرجع.
قال ابن عرفة: (وعندي) لا إشكال (فيه) وهو كمن أحرم بالحج وعنده طائر في قفص، فإنه مكلف (بإرساله، فإذا أزال إحرامه عادت الإباحة، كما كانت أول مرة. وكذلك النائم حالة نومه غير مكلف) فإذا استيقيظ عاد التكليف.
قوله تعالى: ﴿وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾
292
قال (ابن عرفة) :(حال) من الضمير المفعول في «أَخَذَتْكُم» فهي إشارة إلى أن (الصّاعقة) نالتهم/ على غفلة فصادفتهم ثابتين في النظر والأبصار والعقول، ولو علموا بها قبل ذلك لأذهب الوهم عنهم أبصَارَهُم وبصائرهم فلم تصادف عندهم إثباتا بوجه، والمراد بذلك أو أجزاء (الصاعقة).
293
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية... ﴾
قال ابن عرفة: هذا إما خطاب لهم مباشرة أو بواسطة.
والأول: (يمتنع) لأنّ الله تعالى لم يباشرهم بالخطاب إلا على لسان نبيه إلا أن يكون الخطاب لجماعة أنبياء وهو بعيد.
والثاني: أيضا ممتنع لأنهم غائبون عن الخطاب، وفعل الآمر الغائب إنما يكون باللام فكيف (يقول) :«ادْخُلُوا».
وأجيب باختيار أنه مباشرة، وأن قول الرّسول لهم منزل منزلة خطاب الله لهم قال الله تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾ وكما يقول الملك: بنيت داري، وكاتبت فلانا (بكذا) وهو لم يفعله بنفسه، إنما فعله أعوانه وخدمه.
293
قال ابن عرفة: والقرية إن أريد بها بيت المقدس فصيغة أفعل للطلب، وإن أريد بها (أريحا) فهي للاباحة.
قيل لابن عرفة: هذا أمر ورد عقب الحظر فهو للإباحة (مطلقا) ؟
فقال: لم يرد عقب الحظر القولي، وإنما (ورد) عقب (الحظر) الجبري (المعلن) بالبقاء في أرض وعدم التمكن في الخروج عنها أربعين سنة ولم يقع هنالك نهي بالقول حتى يكون هذا أمر بعده.
قيل له: قد قال تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ فقال: هذا إخبار عن واقع، لأنهم كلفوا بالبقاء فيها وعدم الخروج بل منعوا من ذلك فمقامهم ليس باختيارهم لأجل التكليف به، بل جبرا واضطرارا لأجل عدم قدرتهم على الخروج.
قال ابن عرفة: وعموم «حيث شئتم» مخصوص بالمساجد، (فإنه) يمتنع الأكل فيها.
294
قوله تعالى: ﴿وادخلوا الباب سُجَّداً... ﴾
أعيد لفظ «ادْخُلُوا» (لأجل وصفهم) سجدا فليس بتكرار، والمراد بالسجود الركوع لتعذر الدخول حالة السجود أو يكون حالا مقدرة، فيكون الدخول سابقا على السجود.
واحتج ابن التلمساني على أن الواو لا تفيد ترتيبا بكون المقدم هنا مؤخرا في سورة الأعراف، فلو كانت الواو للترتيب للزم عليه: إما التنافي بين الآيتين، أو المجاز في أحدهما، وأجاب بأنه قصد تكليفهم ((بأن يقولوا: حطة (حال كونهم) قبل السجود وبعده، وأجاب أبو جعفر (الزّبير) بأنه قصد تكليفهم)) بالجمع بين السجود والقول في حالة واحدة لأن كلا الأمرين حصل له وصف (الاهتمام) بالتقديم.
قوله تعالى: ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ... ﴾
قال الفخر الرّازي: يحتج بها على المعتزلة في قولهم: إن قبول التوبة واجب عقلا لأجل ما اشتملت عليه من أوصاف الامتنان بتعداد (
295
النعم)، فغفران الخطايا نعمة وتفضل (لا انّه) واجب لأجل التوبة.
ورده ابن عرفة: بأنهم يقولون: إن الامتنان بهذه النعمة سبب لطريق التوبة والخطايا مرتفعة بالتوبة.
قوله تعالى: ﴿وَسَنَزِيدُ المحسنين﴾
قال ابن عرفة: لما تضمّن الكلام السابق حصول المغفرة لهؤلاء وعدم المؤاخذة بالذنب فقط من غير زيادة على ذلك أفاد هذا أن المحسنين لهم مع ذلك ثواب جزيل وعبر عنهم بالاسم تهييجا على الاتصاف بذلك وإشارة إلى (أنّ) الزيادة إنما هي لمن بالغ في الإحسان وحصل منه الحظ (الوافر) (لينَالَها) من حصل مطلقة وأدناه.
فإن قلت: لم قال هنا: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ﴾، وفي الأعراف ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية وَكُلُواْ﴾ قلت: نقل (لي) عن القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السلام أنه قَال: إن كانت القصة واحدة، وتلك مكررة بهذه، فعبر
296
فيها ب «قيل لهم» عن «قُلْنَا» التي في هذه، وأخبر بما بعد الدخول وهو السكنى (لالتزامها) إيّاه وان (كانا) قصتين فتلك بعد هذه. وأجاب أبو جعفر (الزبير) بأنهم أمروا أولا بالوسيلة وهو الدخول، ثم أمروا (بالمقصد) وهو السكنى.
قال الشيخ أبو جعفر: وعطف هنا بالفاء لأن الأكل من الموضع (لا يكون) إلا بعد الدخول عليه وعطف في الأعراف (بالواو) لأنّ السكنى قد تقارن الأكل، وقد يتأخر عنه، وقد يتقدم (عليه)
قال ابن عبد السلام: أو هما قصتان أو يقال: لما فيهم التعقيب من الأول لم يحتج إلى إعادته في الثانية وقال هنا: ﴿حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً﴾. وأسقط في الأعراف (رغدا) لأن السكنى يفهم منها الملازمة والدوام وعطفها على الأمر بالأكل من حيث شاء، وأشعر بدوام الأكل من غير مانع (فتحصل) فيه معنى الرغد (فأغنى) عن ذكره هناك وقال هنا ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾،
297
وفي الأعراف على قراءة الجماعة غير أبي عمرو وابن عامر، (نَغْفِرْ لَكُمْ) خَطَايَاكُمْ، مجموعة جمع سلامة ولأن آية البقرة (بنيت) على كثرة تعداد النعم فناسبت جمع الكثرة وآية الأعراف لم يبالغ فيها بكثرة تعداد النعم فناسبت جمع القلة وهو جمع السلامة.
وقلت: ونقل/ لي عن القاضي ابن عبد السلام أجاب بأن آية البقرة صدرت ب «إِذْ قُلْنَا» المكنى به عن الله تعالى فناسب جمع الكثرة (ولما ذكر) هنا ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ﴾ بحذف الفاعل فناسب جمع القلة، وقال هناك «وَسَنَزِيدُ» بالواو وفي الأعراف بغير واو لأن البقرة بولغ فيها بتعداد ما لم يبالغ في الأعراف، أي ولنجزي المُحْسِنِينَ على مَا تَقَدّم من تعداد النعم بالعفو وزيادة الإحسان.
298
قوله تعالى: ﴿فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ... ﴾
298
قال ابن عرفة: يكون القول بذاته مصروفا (لنقيض) الشّيء، فينصرف إلى ذلك الشيء باعتبار حال المخاطب، وعَبّر ب «الَّذِينَ ظَلَمُواْ» ولم يقل: فَبَدَّلَ الظالمون، لأن تعليق الذم على الوصف الأعم يستلزم الذم على الأخص من باب أحرى، (وكذلك ذمّهم على) تبديل القول يستلزم (ذمهم) على تبديل الكلام (من باب أحرى) لأنه إذا (بدل) أحد قرار المركب انتفى عنه التركيب. فإن قلت: هؤلاء إنما بدلوا غير القول الذي قيل لهم، ومن بدل غير (ما) قيل له يذم، وإنّما يذم من بدل لا ما قيل له (بغيره) ؟
فالجواب بوجوه: إما بأن في الآية حذفا، أي فبدل الذين ظلموا فقالوا قولا غير الذي قيل لهم، ويكون ذلك تفسيرا للتبديل كيف هو، وإما بأن (يشوب) «بدل» معنى أتى أي فأتى الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم، وإما بأن يكون «بدل» (تعدى) إلى الثاني على إسقاط حرف الجر أي فبدل الذين ظلموا قولا بغير الذي قيل لهم.
وذكر أبو حيان أن البدل قد يتعدى إلى المبدل وهو المعطي بنفسه وإلى (المبدل به) وهو المأخوذ بواسطة حرف الجر وأنشد عليه:
299
وبدلت والدهر ذو تبدل
(هيفا) دبورا بالصبا والشمأل
والتقدير هنا فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم بالقول الذي قيل لهم.
قال ابن عرفة: وهو كقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾ ق ابن عرفة: وأخذ منه منع نقل الحديث بالمعنى، (ورد بأنهم) إنما ذموا على تبديل اللّفظ والمعنى. و (أجيب) بأن الذم إنما علل (بتبديلهم القول، والقول إنما يطلق على اللفظ فقط) وأيضا فلعل هذه اللّفظة متعبد بها فلذلك ذموا على تبديلها.
(ورده) ابن عرفة (بأنه يلزمكم) التعليل بأمرين.
قال القاضي أبو جعفر بن الزبير: وقال هنا ﴿فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ﴾ فعمم ثم خصص ذلك العموم بالأعراف بزيادة منهم لأن المخاطبين ليسوا سواء في الامتثال قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون﴾ ولذلك أعاد الظاهر فقال: {فَأَنزَلْنَا
300
عَلَى الذين ظَلَمُواْ} (التختص) العقوبة بالظالمين، ولو قال: عليهم لاحتمل العموم وهو غير مقصود.
قال: فإن قلت لم قال هنا: ﴿بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ وفي الأعراف ﴿بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ﴾ وأجاب بأنه في البقرة وصفهم أولا بالوصف الأعم الصادق على أدنى المعاصي وأعلاها وهو الظلم ثم بالأخص وهو الفسق فقال: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ ثم قال هنا: ﴿رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ وفي الأعراف وصفهم بالظلم في قوله: ﴿بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ﴾ ثم بالفسق فقال: ﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر﴾ إلى قوله ﴿بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾
301
قوله تعالى: ﴿وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر... ﴾
أخذ منه الإمام المازري جواز استسقاء المخصب للمجدب لأن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم ينله من الاحتياج وقد استسقى لهم.
ورده ابن عرفة بأنه نبي مرسل إليهم وهو معهم فليس مثل هذا.
301
قوله تعالى: ﴿فانفجرت... ﴾
أجاز الزمخشري أن تكون الفاء جواب شرط مقدر أي فإن ضربت فقد (انفجرت).
ورده أبو حيان بأن الشرط لا يحذف، وإن سلم (فيلزمه) فساد المعنى والتركيب لأن الشرط وجوابه مستقبلان «وانفجرت» ماض لفظا ومعنى (إذ لا تدخل الفاء على الماضي إلا إذا كان دعاء أو ماضيا لفظا ومعنى) ولأنه المفهوم من الآية.
(وأجاب المختصر) بأنّ «اضرب» أمر مُضَمَّنٌ معنى الشرط فليس فيه حذف، ومنع فساد المعنى والتركيب بأنه كقوله تعالى: ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ﴾ قال فجوابه محذوف أي فإن كذبوك فاصبر لأنه كذبت رسل من قبلك. وان ضربت فسّر أو لم ينكر ونحوه، فإنه قد انفجرت، أي أردنا وحكمنا أنها انفجرت.
302
قال ابن عرفة: وقد يقال إن يكذبوك (فعل) ماضٍ وعبر عنه بالمستقبل لأجل (التصديق) فهو حكاية مستقبل مضى، أي كان مستقبلا فصار ماضيا، ولا سيما أنهم حين نزول الآية كان التكذيب قد وقع منهم لأنها ليست من أول ما نزل وكذلك قوله تعالى: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾ قالوا: أنزلت في غزوة بدر، وقد كان ذلك واقعا قبلها. ويمكن أن يكون معنى (تلك) الآية وأن يدوموا على تكذيبك ولا يزال الشرط مستقبلا، وقول الصفاقسي: أنَّ «اضرب» مضمن معنى الشرط.
قال الزمخشري: جعل الفاء جواب الشرط (مقدر) لأنها جواب شرط مفهوم من الأمر فلم يتوارد على محل واحد.
303
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ... ﴾
الإقبال بالخطاب تأكيد لما تضمنه الكلام من المدح والإكرام أو الذم والتوبيخ. (قوله). ﴿لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ (أنظر ما فيه) من الجفاء والغلظة والجهل لقولهم: «لَن نَّصْبِرَ» ولقولهم «رَبَّكَ» ولم يقولوا «رَبَّنَا» وجعلوه واحدا إما
303
من جهة أنه كله (خبز) (أو) إدام للخبز، وليس فيه خبز بوجه، وإما من (أجل) تكرر كل يوم بعينه من غير أن يتبدل.
قوله تعالى: ﴿مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا... ﴾.
قيل/ لابن عرفة: هل هذا ترق بدأوا بالبقل ثم بالفوم وهو القمح؟
فقال: (بعيد) لقوله «وبصلها» فهو في هذا تدلٍّ.
قوله تعالى: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ... ﴾.
قال ابن عرفة: كان الشيخ أبو عبد الله بن سلام يقول: إن هؤلاء لم يطلبوا ذلك بدلا من طعامهم بل زيادة عليه لقولهم: ﴿لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ ولم يقولوا: لن نحب هذا الطعام فكيف أنكر عليهم استبداله؟
قال: وتقدم الجواب عنه بأنهم إذا أكلوا من الطّعام الذي طلبوه فإنه ينقص أكلهم من الطّعام الأول بقدر ما أكلوا من هذا فقد حصلت لهم (المبادلة) في ذلك المقدار فمن كان يأكل رطلا من المنّ
304
والسلوى قبل ذلك يصير الآن يأكل (منه) نصف رطل أو أقل. نعم إنهم (يجتمعون) في ملك واحد. وحَوْز واحد ولا يجتمع ذلك في (بطن) واحد إلاّ على الصفة التي ذكرنا.
قيل لابن عرفة: قد (لا) يأكل الإنسان من (الخبز) والإدام، والخبز أكثر (مما) يأكل من كل (واحد) منها على انفراده؟
فقال: وكذلك (أيضا) يأكل من العسل إذا (عقد) وصنع (خبيصا أو نحوه) كثيرا.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنهم طلبوا النقلة من ذلك الموضع (إلى موضع ينبت فيه البقل والقثاء والفوم وما قام الدليل على أن ذلك الموضع) المنتقل إليه ينزل عليهم فيه المن والسلوى وكأنهم طلبوا الاستبدال.
305
فقال (ابن عرفة) : هذا صحيح لو كان (هذا) من كلامهم لأن ﴿اهبطوا مِصْراً﴾ من كلام موسى عليه السلام عن الله تعالى، فالذم إنما هو على طلبهم الاستبدال وطلب (الاستبدال) ليس من كلامهم. ((بل (من) دلالة الحال والأمر العادي)) فهو لازم قولهم، لأن تلك الأرض لم تجر العادة بإنباتها تلك الأشياء (فطلبهم تلك الأشياء) يستلزم طلبهم النقلة منها إلى أرض تُنبِتُها ولا ينزل فيه المن والسلوى. والذم إنما هو على سؤالهم.
قيل لابن عرفة: هذا كله على تسليم السؤال، ولنا أن نمنعه ونقول: إن سؤالهم ليس بنصّ في أنهم طلبوا الزيادة بل (هو) ظاهر في ذلك فقط؟
والجواب (أنهم لهم) نص في طلبهم الاستبدال وإنما عبّروا عنه بلفظة محتملة احتمالا مرجوحا، وربما ينافيه.
ومعنى كلامهم: لن نصبر على هذا الطعام لأنه طعام واحد بل نرجع إلى أطعمتنا المعتادة المتعودة.
فقال ابن عرفة: هذا هو الحق والله أعلم.
قوله تعالى: ﴿الذي هُوَ أدنى... ﴾.
306
سماه «أَدْنَى» لكونه يأتيهم بعد تكليف ومشقة، والمنّ والسلوى ينزل عليهم بلا كلفة، (أو) أنه حلال محض أو بأنه ألذّ وأطيب، أو أنه الذي أمرهم الله به ففي أكله الشكر عليه نعمة وأجر.
قلت لشيخنا ابن عرفة: مساق الآية يقتضي أنه فيه دناءة قليلة مع أنه خير كله؟
فقال: لا يريد الذي هو أدنى من طعامكم (هذا، بل يريد الذي هو أدنى) بالإطلاق فليس في المن والسلوى دناءة.
قال القرطبي: يؤخذ من الآية تفضيل المستلذات الدنيوية، وأنها مباحة راجحة ليس فيها مرجوحية بوجه لأجل وصفها بالخير.
(فرده) ابن عرفة بأنه يلزم من ذلك رجحانها، فلعل وصفها بالخير لأجل أنها تنال بلا مشقة ولا تكلف.
قوله تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة... ﴾.
(قال ابن عرفة) : المسكنة إن كانت من أقسام الفقر فهي مغايرة (للذلة)، وإن لم تكن من أقسامه فيكون المسكين هو الذي يسأل، والذلة مسكنة من غير سؤال، وضرب الذلة عليهم يطلق يصدق بصورة إما في عصر من الأعصار وهو زمن بعثة نبينا
307
سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الآن (وكذا) تعمّ الذلة اليهود في كل بلد، أو يكون في بعض البلاد، أو في زمن عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وما بعده إلى الآن وسجل عليهم بوصف الغضب، وكونه من الله تعالى فهو أشد عليهم.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين... ﴾.
قال ابن عرفة: ذمّهم على قبح ما صدر منهم في (قوتهم) العلمية والعملية، و (جمع) الأنبياء مبالغة في كثرة قتلهم، وكذلك جمع الضمير في «يقتلون»، أو يكون حقيقة.
وقد قال الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في جامع العتيبية: بلغني أنه مات في مسجد (الخيف) كذا كذا كذا نبي ماتوا كلهم بالقمل والجوع.
(قال ابن رشد) : لزهدهم في الدنيا أو لآن الله تعالى يبتلي عباده المؤمنين بالإذاية ليصبروا (فيه) فيعظم أجرهم عند الله.
قال ابن عطية: من همز النبيء فهو عنده من (الإنباء) إذا أخبر.
308
قال (ابن عرفة) : معناه كونه يخبر الناس بأنه يوحى إليه على الجملة. والرسول يبلغهم الأحكام والشرائع ويدعوهم إلى الإيمان.
قوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ الحق... ﴾.
ما الفائدة فيه مع أن قتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك؟
وأجاب الزمخشري بأنه الحق باعتبار الدّعوى، كما إذا تخاصم رجلان فكل واحد منهما يزعم أنه على الحق ولدعواه مرجح، (وهم يقتلون) ولا يستندون في (قتلهم) إلى شبهة بوجه، وهم بحيث لو سئلوا عن موجب ذلك لم يستحضروا له سببا.
وفي سورة آل عمران ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ فهو مطلق وهذا (معرف) بالعهد أي بغير الحق المعهود في الدعاوى لا الحق الثابت في نفس الأمر لأن قتل النّبيئين لا يكون إلاّ بغير ذلك الحق.
قوله تعالى: ﴿ذلك بِمَا عَصَواْ... ﴾.
و/ إن كانت الإشارة إلى المشار إليه أولا فهو من التعليل بعلتين فأكثر (فيجيء) فيه تعداد (العلل، والعلل) الشرعية يصحّ
309
تعدّدها مطلقا، وكذلك العقلية (تتعدد) لكن بالنوع لا بالشخص، وإن كانت الإشارة إلى العلة الأولى فيكون من تعليل المعصية بمعصية أخرى. فإن قلت: إذا كانتا علتين فهلا عطف بالواو ولم (يكرر) سم الإشارة بكأن يقال: وبما عصوا؟ فالجواب: أنه إشارة إلى أن كل واحدة منهما علة مستقلة يحسن التعليل بها. فإن قلت: لم أُكّدت الأولى دون الثانية بأن؟
قلنا: (الغرابة) القتل، وعدم تكرره بخلاف المعصية والاعتداء فإنّه يكثر تكرره، ويتجدّد شيئا فشيئا، ونفي (أكثريته) لا يدعيه أحد.
قال الطيبي: على أن القتل والاعتداء علتان (تكون) الأولى للمصاحبة بمعنى مع، والثانية للسبب. وفيه (تقديم) وتأخير، أي ذلك بكفرهم (وعصيانهم) مع قتلهم النبيئين بغير الحق.
قال ابن عرفة: الصواب إنما للسبب مطلقا ولا يحتاج إلى تقديم ولا (إلى) تأخير.
310
قوله تعالى: ﴿مَنْءَامَنَ بالله واليوم الأخر... ﴾
310
بدل من ﴿الذينءَامَنُواْ﴾ و (مَا) عطف عليه فجيء فيه استعمال اللفظ (الواحد) في حقيقته ومجازه، لأن المؤمنين (حصّلوا) الإيمان، فقوله: ﴿مَنْءَامَنَ﴾ مجاز في حقهم، عبّر به المداومة على الإيمان (وإيمان اليهود والنصارى والصّابئين إن شاء فهو حقيقة. ويمكن أن يراد بالجميع المداومة على الإيمان)، لأن النصارى إذا داموا على الإيمان بملة نبيهم يؤمنون (بمحمد) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن (من) ملة نبيهم عليه السلام الإيمان بملة سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإن لم يؤمنوا به فلم يؤمنوا بملّتهم (قط) انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً... ﴾.
قال (ابن عرفة) : أي فيمن لم (تخترمه) المنية.
قوله تعالى: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ... ﴾.
هذا ثواب (تفضلى) سماه أجرا إشعارا بتأكده حتى كأنه واجب كأجرة الأجير على عمله.
311
قوله تعالى: ﴿وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
عبر عن الخوف بالاسم، وعن الحزن بالفعل، لأن الخوف يتعلق بالمستقبل، والحزن بالماضي، وتذكر الإنسان للأمر المستقبل وتألمه منه وخوفه أشد من تألمه من الماضي يعرض له التناسي إذا بعد أمره، والمستقبل يشتدّ (الخوف) منه متى قرب أمره، ويتزايد أمره ويتأكد ثبوته في النفس، ففي كل واحد منهما على ما هو عليه. فإن قلت: هلا كان بالفعل لأنّه (يتجدد زيادة) ؟
قلنا: التجديد تأكيد لثبوت الخوف (في النفس)، وليس هو (أمرا) مغايرا للأول.
312
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ... ﴾
قال ابن عرفة: الواو إما عاطفة، والعامل فيه «اذْكُرُوا» المتقدم أو استئناف (والعامل فيه «اذكروا» ) مقدر. (والَّذي قرره المفسرون) عند قول الله عَزَّ وَجَلَّ ّ: ﴿خُذُواْ مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ﴾. الآية.
وقدر الفخر ابن الخطيب وجه مناسبتها لما قبلها (بأنها) نعمة.
312
قال ابن عرفة: الصواب أنها وعظ، لأن قبلها ﴿ (إنَّ) الذينءَامَنُواْ والذين هَادُواْ﴾ إلى آخره، وهو وعظ ونعمة (لجميع الملل). ولما كانت بنو إسرائيل أقرب الناس إلى الإيمان والاتباع لوجهين: إما لأن ملّتهم أقدم من (ملة) النّصارى، وإما لأنهم كانوا أكثر أهل المدينة، فإيمانهم سبب في إيمان غيرهم وتعنتهم (وفرارهم) سبب في امتناع غيرهم أكّد ذلك بإعادة الوعظ لهم بخصوصيتهم في هذه الآية، ولذلك (كررت) قصّتهم في القرآن (في) غير ما سورة أكثر (مما) تكرر غيرها من القصص.
وقوله تعالى: ﴿مِيثَاقَكُمْ﴾ إما أن يريد ميثاق آبائكم، (أو) المراد المخاطبون (الموحدون) (حين) ما أنالوه، والمراد الجميع لأن أخذ الميثاق كان على آبائهم، وعلى من يأتي (بعدهم) من ذريتهم إلى قيام الساعة.
وضعف الثاني بقوله: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور... ﴾.
وأجاب ابن عرفة: بأنّ المراد رفعنا فوق آبائكم وفوقكم.
313
قال أبو حيان: حال من الطور. وضعف كونه حالا من الضمير في «رفعنا» لما يلزم عليه من إيهام كون الرافع في مكان.
فإن (قلت) : الفوقية تستلزم الرفع؟ قلنا: قد يكون إنسان فوق آخر بمقدار قامة فيقال (رفعته) عليه إذا علوت (به) عليه مقدار قامتين.
قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا... ﴾.
قال ابن عرفة: إما حال، أي أخذنا ميثاقكم في هذه الحالة أو المراد أخذنا عليكم الميثاق فلم تقبلوا، فرفعنا فوقكم الطور. كما قال المفسرون في سبب نزول الآية.
قال ابن عطية: خلق الله وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم، لأنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة.
قال ابن عرفة: المذهب لاعتبار الإيمان الجبري، ولذا يجبر الكفار على الإيمان (ويقاتلون عليه) بالسيف، وإنّما (تعتبر) النية (والإرادة) في الثواب والقبول المرتب عليه، وكما قالوا في الزكاة: إنها تؤخذ من أربابها جبرا.
314
قال ابن عطية: الإيمان المتفق عليه الذي لا شبهة فيه ولا ريبة وليس قصده الإيمان المخرج من (عهدة) التكليف.
((قوله تعالى: ﴿واذكروا مَا فِيهِ... ﴾.
ابن عطية: أي (تدبروه) ولا تنسوه، وامتثلوا أوامره (ووعيده)) ).
قال ابن عرفة: أو اذكروه لغيركم وعلموه له.
قيل لابن عرفة: لا يناسب أن (يعلل) هذا بالتّقوى، فإنه قد يكون المعلم غير متَّقٍ (لله) ؟
فقال: قد يكون (تذكيره) لغيره سببا في (انزجاره هو)، وتذكيره في نفسه.
315
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُم... ﴾
((قال ابن عرفة: «ثُمَّ» إما لبعدها ما بين منزلة (الإيمان والكفر) أو للمهلة حقيقة)).
315
قيل لابن عرفة: الحقيقة متعذرة/ فإن «من» لابتداء الغاية، وليس بين أول أزمنة البعدية وآخر أزمنة (أخْذِ الميثاق) تراخ بوجه؟
قال ابن عرفة: الأولية مقولة بالتشكيك في أزمنة البعدية.
قيل لابن عرفة: هذا يرجح أن المراد أخذنا ميثاق آبائكم لأن المخاطبين لما (أسلموا) لم يرتد منهم أحد؟
فقال ابن عرفة: يفهم هذا كما يفْهم في قوله تعالى: ﴿والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النور إِلَى الظلمات﴾ لأنه لم يحصل لهم النور فقط، لكن لما كانت أدلته والآثار التي هي سبب فيه سهلة مُتيسرة (قريبة) لفهمهم لا مشقة عليهم (فيها) فصاروا كأنهم حصل لهم الإيمان بالفعل لحصول (أثره) أي شرائطه وأسبابه، (فعدم) إيمانهم كأنه ردّة وخروج من النور إلى الظلمات.
قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ... ﴾.
قال ابن عرفة: هذا ليس بتكرار، بل فضل الله راجع إلى قبول التّوبة، (ورحمته) راجعة إلى نفس التوبة، أو أنّ فضل الله
316
راجع إلى الثواب والإنعام، ورحمته أعم من ذلك (تتناول) رفع المؤلم فقط، أو دفعه مع (جلب) الملائم، فهو من عطف الأعم على الأخص.
317
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنكُمْ فِي السبت... ﴾
فرق الفخر في المحصول بين العلم والمعرفة، أن العلم من قسم التصديق والمعرفة من التصور.
(فردّ) عليه بقوله: عرفت زيدا أبا من هو؟ وأجيب بأن متعلق العلم تصديق ومتعلق المعرفة تصور. وانظر ما قيدت في سورة الرّحْمَان، انتهى.
قوله ﴿فِي السبت﴾. (قال ابن عطية) : والسبت أي في يوم السّبت أو (في) حكم السّبت.
قال ابن عرفة: الاعتداء إنما يتعلق بحكم اليوم لا بنفس اليوم فلا بد من (تقرير) لفظ الحكم.
317
ابن عطية: السّبت إمّا من السّبوت وهو الراحة والدعة، وإما بمعنى القطع.
قال ابن عرفة: هما راجعان للقطع لأنّ الراحة إما تحصل بقطع الشواغل والمشوشات، أو هما متغايران تغاير العلة والمعلول فالقطع سبب في الراحة.
قال ابن عرفة: (واعلم أن) هذا انذار لهؤلاء الحاضرين أي (أولئك) عوقبوا بالمسخ مع أنهم مؤمنون بموسى، ومعصيتهم إنما هي بالتعدي في السبت (وفيها سوى الكفر) فهؤلاء الكافرون بالرسول الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فمعصيتهم أشد.
قوله تعالى: ﴿خَاسِئِينَ﴾.
(قيل) : حال من فاعل «كُونُواْ» ومنع أبو حيان والطيبي أن يكون حالا من ﴿قِرَدَةً﴾ إذ لو كان حالا منها لقيل: خاسئة.
ورده ابن عرفة بجواز: من كانت أمك، ومن كان (أمك) ؟
318
فقد أجازوا تذكير اسم كان مراعاة للفظ (مع أن خبره مؤنث) فلذلك يصح إتيان الحال جمع سلامة بالياء والنون من خاسئة وإن كان جمع ما لا يعقل لكونه خبرا عن مذكر عاقل.
قال ابن عطية: وثبت أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام.
قال ابن عرفة: وقول الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إن القرد لا يؤكل لأنه مسخ يريد أنه شبيه (بالممسوخ) وعلى صفته.
وخرّج مسلم في كتاب (الزهد) والرقائق في صحيحه عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ « (فقدت) أمة من بني إسرائيل لا (يدرى) ما فعلت (وإني لأراها) إلا الفأرَ إذا وضع لها ألبان الإبل لا تشربه فإذا وضع لها ألبان الشاء شربته» قلت: وخرجه الإمام البخاري في كتابه.
319
(ابن عطية) : ظاهره أن الممسوخ ينسل، فإذا كان أراد هذا فهو ظن منه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا مدخل له في التبليغ ثم أوحي إليه بعده أنه لا ينسل.
قلت: (وكذا تأوله ابن رشد في كتاب الجامع الثالث من البيان. ونظير هذا نزوله عليه السلام على مياه بدر، وأمره لهم بترك تذكير النّخل فلم يثمر ذلك العام إلا يسيرا فقال لهم عليه الصّلاة والسلام: «إذا أخبرتكم برأي من أمور دنياكم فإنما أنا بشر وأنتم أعلم بدنياكم».
(قلت) : وخرّج مسلم في كتاب الصيد والذبائح عن جابر ابن عبد الله قال: أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بضب فأبى أن يأكل منه وقال: «لا أدري لعله من القرون التي مسخت».
وخرج أيضا عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: «قال: رجل يا رسول الله إنّا بأرض مضبة فما تأمرنا؟ قال: ذكر لنا أن أمة من بني إسرائيل مسخت» (فلم يأمر ولم ينه). وفي رواية «غضب: الله على (سبط) من بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض: فلا أدري لعل هذا منها، (فلست) آكلها ولا أنهى عنها».
320
قال ابن عرفة: فإن قلت: يعارض حديث مسلم، أي هذا الحديث لأنه أفاد بأن (الممسوخ) لا يعيش أكثر من ثلاثة (أيام) ؟ فيجاب بأن مراده في الضب أنه مثل المسخ.
قيل لابن عرفة: (مثل المسخ) كونه شبيها لا يوجب تحريمه؟ فقال: حرمه لأنه مسخت أمة على صفته (فلولا أنه مستقبح مستكره عند الله لما مسخت تلك الأمة على صفته).
فقيل له: أو يكون هذا الكلام منه قبل أن يوحى إليه لحديث: أن (الممسوخ) لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام والضبّ (حيوان) يشبه الحرضون إلا أن لونه أسود وسيره غير مسرع يكون في الصحاري.
قلت: وخرج مسلم في آخر كتاب القدر عن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال رجل: يا رسول الله القردة والخنازير هي مما مسخ؟ فقال/ النّبي صلى الله عليه وسلّم: «إن الله عَزَّ وَجَلَّ (لم) يهلك قوما ويعذب قوما فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك».
(ذكره في باب ضرب الآجال وقسم الأرزاق، انتهى).
321
وهذا إنذار للموجودين (حين) نزول الآية. أي القوم المتقدمون منكم عوقبوا مع أنهم مؤمنون بعيسى عليه السلام، ومعصيتهم إنما كانت في الفروع، وأنتم كافرون فمعصيتكم أشد وعقوبتكم أشد.
وجعل ابن التلمساني شارح المعالم صيغة أفعل هنا للتكوين كما قال ابن عطية.
322
قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهَا... ﴾
ابن عطية: المراد إما جعلنا العقوبة أو المسخة أو الأمة الممسوخة أو القردة أو القرية، وقيل: أو الحيتان وفيه بُعْدٌ.
قوله تعالى: ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا... ﴾.
ابن عطية: عن السدي قيل: لما قبلها من ذنوب القوم وما بعدها من يذنب بعد ذلك (مثل تلك الذنوب). وقيل: لما بين يديها أي لما قبلها من الأمم، وما خلفها أي لما بعدها من الأمم، لأن (مسختهم) ذكرت في كتب من تقدمهم من الأمم، وعلموا بها فاعتبروا وانزجروا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً... ﴾
322
قال ابن عرفة: هذا الأمر (على الوجوب) على تقدير عدم العفو من أولياء القتيل لأن ما يتوصّل (إلى الواجب) إلاّ به فهو واجب.
قوله تعالى: ﴿قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً... ﴾
هذا على سبيل الغفلة والذهول من غير تأمل، (وإن) قالوه بعد تأمل فهو كفر، لأن نسبة الاستهزاء إلى النبيء كفر. وقوله تعالى: ﴿الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ من مجاز المقابلة كَ ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ لا أنه حقيقة، وقُرِىء «يَتَّخِذُنَا» بياء الغيبة، فإن كان فاعله عائدا على الله تعالى فهو أشد في الكفر والتعنت، وإن كان عائدا على موسى عليه السلام فهو أخف من (اقترانه) (بتاء) الخطاب لأنهم حينئذ (يكون) قالوا ذلك بعضهم لبعض في (حالة) غيبة موسى عنهم، ولم يباشروه بهذه المقالة.
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾.
من باب نفي الشيء بنفي لازمه، لأن الاستهزاء ملزوم للجهل فينتفي الأمران: الاستهزاء والجهل، وجميع ما هو من لوازم الجهل، ولو نفي الاستهزاء وحده لما نفي الجهل ولا ما (عد) من لوازمه.
323
قيل لابن عرفة: قد يكون الاستهزاء مع العلم؟
فقال: من غير (النبيء أما من النبيء المعصوم) فَلاَ، والاستعاذة بالله فيها إقرار بالتوحيد ونسبة كل الأمور إليه عَزَّ وَجَلَّ ّ.
قلت: ونظير الآية قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين﴾
324
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِيَ... ﴾
قال الطيبي: إنما يسأل ب «ما» عن جنس الشيء أو نوعه فكأنهم اعتقدوا أنها خارجة عن جنس البقرة إذ لم يعهد في البقرة إحياء الموتى.
قال ابن عرفة: هو مثل قول المنطقيين: الجنس هو المقول على كثيرين ((مختلفين بالحقيقة، في جواب ما هو؟ و (النّوع) المقول على كثيرين متفقين في الحقيقة)) في جواب ما هو؟ وكقول ابن مالك في أول المصباح: إن السؤال بما هو؟ يكون عن حقيقة الشيء.
324
وأورد الفخر هنا سؤالا قال: إن السؤال ب «ما» (إنما) هو عن الحقيقة فكيف سألوا عن الصفة؟
قال ابن عرفة: وجوابه ظاهر على مذهبه (لأنه) قال في تأليفه في المنطق كالآيات البينات والمحصول (وغيرهما) :(إن) الأمر اللازم العرضي حكمه كحكم الذاتي مثلا الألوان (فصحّ) السؤال (هنا) بما هي؟ لأن الصفة هناك كالذاتي وأما عندنا فنقول السؤال عن الذات بصفتها، أو السؤال عن حقيقة تلك الصفة (فهو) سؤال عن الحقيقة.
قوله تعالى: ﴿فافعلوا مَا تُؤْمَرُونَ﴾.
قال ابن عرفة: اختلف الأصوليون في لفظ الأمر هل هو أبلغ من صيغة افعل أو لا؟
فقيل: أنّ أمرتك بالقيام أبلغ من قم، لأن صيغة افعل، قد تكون للإباحة (كما في قوله جل ذكره ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا﴾
325
وللوجوب بخلاف الأمر، فإن لفظ أمرتك لا يكون للإباحة). وقيل: إن قم أبلغ، واستدلوا بهذه الآية. فلولا أنه أبلغ لما احتيج إلى قوله ﴿فافعلوا مَا تُؤْمَرُونَ﴾ وإلا (كان يلزم) عليه تأكيد الأقوى (بالأضعف) ؟ والجواب بأن القرينة هنا أفادت أن صيغة افعل للوجوب، فهو من تأكيد الأقوى بالقوي. واحتجّ بها بعض الأصوليين على (صحة) تأخير البيان عن وقت الحاجة. وقال الآخرون: بل هو تأخير إلى وقت الحاجة.
((أو يجاب) بقول ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (إنهم) إنما أمروا بذبح بقرة (على الإطلاق)، فلو بادروا وذبحوا من غير سؤال لحصل لهم الغرض، ولكن شددوا فشدد (الله) عليهم.
326
قوله تعالى: ﴿فَاقِعٌ لَّوْنُهَا... ﴾
لم يقل فاقعة مع أنّه من صفة البقرة (جعلوه) مبالغة مثل: جدّ جدّه، وجعله الطيبي مجازا، ورده ابن عرفة بأنه آكد، والتأكيد ينافي المجاز ألا ترى أن أهل السنة)) استدلّوا على
326
وقوع الكلام من الله لموسى بقوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً﴾ لأنه (مؤكد) بالمصدر والتأكيد (ينفي) المجاز. ذكره الإمام المازري في شرح التلقين في كتاب الطهارة في قوله: ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾
327
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ﴾.
احتج بها الفخر على أن جميع الأشياء من الخير والشر مخلوقة لله تعالى ومرادة له.
ورده ابن عرفة/ بإجماعنا على أن الداعي خلق الله تعالى فيقول الخصم: نحمل الآية عليه.
قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض... ﴾
فسره الزمخشري بوجهين: إما نفي الإشارة فهو على إضمار «لاَ» أي لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث، وإما على إثبات الإشارة ونفي السقي أي هي تحرث ولا تسقي. ورد هذا بأنها إذا انتفى عنها أنّها ذلول ثبت كونها صعبة غير مذللةٍ فلا تطاق لا إلى الحرث ولا إلى سقي. وأُجيب عنه بأن ذلولا من أبنية المبالغة فما انتفى عنها إلا الأخص
327
((من) الذلة فهو نفي (للاخص)، ولم ينتف عنها مطلق الذلة (فهي متوسطة) فلولا كانت صعبة جدا ما حرثت ولا سقت، ولو كانت ذليلة)) فهي منقادة لا صعبة ولا مذللة.
وقال الطيبي: يحتمل أن يكون من نفي الشيء بنفي لازمه مثل قول امرىء القيس:
على لاَحِبٍ لا يهتدى بمناره... ابن عطية: إنما ذلك حيث يذكر لازم الشيء فقط فيكون نفيه نفيا للملزوم وهنا (ذكر) (الملزوم) ولازمه منفيين فليس من ذلك القبيل إلا لو قيل: لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث ولم يقل: لا ذلول.
ورد هذا بأن مراد الطيبي (أنّ) نفي (الذلّة) عنها ونفي السقي يستلزمان نفي (إثارتها) الأرض، لأن الإثارة في (الآية) مثبتة غير منفية، وهو مثل قول الله تعالى: ﴿وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾
328
قال الزمخشري: إنه مثل قوله.
على لاَحِب لا يهتدى بمناره
((أي ليس هناك خبير فينبئك، وكذا (كمثل) قولهم هذا يوم (لا) ينادي وليد أي ليس فيه وليد فينادي)) ومثل قول صاحب البردة:
فذلك حيِنَ بُلوغٍ من نُبُوَّتهِ فليس يُنْكَر حالُ محتلِمِ
أي ليست له حال محتلم فتنكر.
فإن قلت: الذّلة والإثارة متلازمان؟
قلنا: الذلة في الآية منفية، والإثارة مثبتة، و (لا) يتم ما قال الطيبي إلا إذا (أعرب) «تثير الأرض» صفة ل «ذلول» فمعناه لا ذلول مثيرة (الأرض) أي ليست مثيرة الأرض فيكون ذلولا كمعنى البيت المتقدم أي ليس له منار يهتدي (به)، وإن أعربناه صفة للبقرة أو استئنافا أو حالا (فما يجيء) فيه ذلك التفسير، وإذا كان صفة ل «ذلول» فيكون النفي مسلطاً على الموصوف وصفته، (وقصده) ثبوت أحدهما فتكون إما ذلول غير مثيرة
329
ولا مسقية وإما ذلول فقط كقولك: لا رجل صالح في الدار. وضده احتمال كونه: فيها رجل غير صالح، (أو أنها ليس) فيها أحد.
قال ابن عرفة: وأخذوا من الآية أن الأمور الجزئية المشخّصة يمكن تعريفها بالخاصة، لأن التعريف بالخواص إنما يكفي عندهم في الأمور الكلية، أما الجزئية فإنها تعرف بتعيينها والإشارة إليها، إذ في الممكن أن يكون في الوجود غيرها مختصا بتلك الصفات.
قال: وعادتهم يجيبون بأن الزمان والمكان هنا معينان، فلذلك اكتفى بالتعريف بالخواص ولو كان الزمان (مُبْهَما) لقلنا: في الجائز أن يوجد من هو على تلك الصفة في زمن من الأزمان، أو في غير ذلك المكان إما في ذلك الزمان وإما في ذلك المكان (فيتعين) أن الموصوف شيء واحد لا يحتمل غيره.
واحتجوا بهذه الآية على أبي حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لأنه (يمنع) السلم في الحيوان على الصفة، وقال: لا (تخصصه) الصفة، فنقل عنه القرطبي هنا وابن يونس المنع في الحيوان بالإطلاق، ونقل عنه غيرهما أنه خصص ذلك (ببني) آدم.
330
قال ابن عرفة: وله أن يجيب بأن الغرور في البيع معتبر، وهذا ليس ببيع (فلا) يلزم من جواز الاكتفاء (بالصفة) هنا الاكتفاء بها هنالك. انتهى.
331
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً... ﴾
قال ابن عرفة: لِمَ نسب (القتل) إلى الجميع والقاتل إنّما هو واحد؟
قال: وأجيب بأنه راعى في ذلك من رضي (بفعله).
قال ابن عرفة: إنّما يتمّ لو كان ظاهرا بحيث علم به البعض ورضي (بالقتل) أما هذا (فهو واحد منهم)، وقد قتل واحد منهم غيلة فلم يعلم به أحد (حتى) يقال: إنّه رضي بقتله.
قال ابن عرفة: وإنما الجواب أنه جمعهم باعتبار الدعوى لأن المتهم (بالقتل) ينفيه عن نفسه ويدعيه (على) غيره وذلك الغير ينفيه أيضا عن نفسه ويدعيه (عليه).
331
قال الزمخشري: (خوطبوا مخاطبة) الجماعة لوجود القتل فيهم.
قال: فإن قلت: لم يذكر القصة (على ترتيبها) ؟ فهلا قدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها؟ ثم قال: هلاّ قدم الأمر بالقتل ثم الذبح ثم الضرب؟
قال ابن عرفة: ظاهر كلامه هذا (متناقض) لأنه قال: الأولى بتقديم الضرب ثم رجع إلى أنّ الأولى تقديم الذّبح ولكن جوابه أنّ الأمر بالذبح (متقدم) على الذبح. انتهى.
قوله تعالى: ﴿والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾.
لم يقل: ما كنتم تجحدون، لأن الجاحد للشيء المنكر له قد يكون على الحق فيكون موافقا لظاهره بخلاف الكاتم (فإن) باطنه مخالف لظاهره فهو على الباطل بلا شك.
قال الفخر الرازي: يؤخذ من عمومه أنّ الله تعالى يظهر جميع الأشياء من الخير والشر.
قال ابن عرفة: يلزم عليه (الخلف) في الحبر لأن الله تعالى يستر على العبيد كثيرا من المعاصي.
332
قال الرازي: هو عام مخصوص لأن المراد ما كنتم تكتمون / من أمر القتل، واحتج بها الفقهاء في قول القتيل: (دمي) عند فلان، إنّه (لَوْثٌ) يوجب القسامة.
قال ابن رشد في المقدمات في كتاب القسامة: قول الميّت: دمي عن فلان، لم يختلف قول الإمام مالك: إنه لوث في العمد يوجب القسامة والقَوَد عدلا أو مسخوطا. (وخالفه) الجمهور، وحجة الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه هذه الآية، وأبطله ابن عبد البرّ بأن هذه الآية (معجزة لنبي وآية له فلا يصح الاستدلال بها).
وأجاب ابن رشد: بأن الآية إنما كانت في الإحياء، وأما في قوله بعد أن حيى: فلان قتلني، فليس فيه آية. وقد كان الله قادرا على أن يحيي غيره من الأموات فيقول: إن فلانا قتل فلانا.
(قلت) : ورده ابن عرفة بأن موسى عليه السلام أخبرهم أن الميت يحيا ويخبرهم بمن قتله فكان الأمر كذلك فكلا الأمرين آية.
333
وقد قال الأصوليون (إذا) قال النبي: دليل صدقي أن هذا الميّت يحيا (فصار حيا). ((وقال: هذا الرجل كاذب. فقال القاضي أبو بكر الباقلاني: (إنّ) ذلك دليل على كذبه. وقال الإمام)) لا يكون دليلا على كذبه. قالوا: وأمّا إن قال: دليل صدقي أن هذا الميت يحيا ويقول لكم: إني صادق، (فيحيا) فيقول: إنه صادق، فلا خوف بينهم أنه دليل على صدقة. فكذلك هذا (هو) معجزة (بلا) شك، فهو خاص بهذه القضية لا يصحّ القياس عليه. وجعل الفقهاء وجود القتيل في محلة قوم لوثا يوجب القسامة. وكانوا يحكون أن مسجد الشماسين بتونس كان دار لبعض الموحدين وبجواره قوم لهم ولد صغير يجلس على باب الدار بكسوة رفيعة ففقدوه، فبحثوا عليه فوجدوه ميتا بمطمور تلك الدار، فرأوا ذلك لوثا فعوقب الموحد وهدمت داره وبنيت مسجدا.
334
قوله تعالى: ﴿فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا... ﴾
334
قال ابن عرفة: لم (يتعنّتوا) في هذا ولو مكن الله إبليس منهم لقالوا (لموسى) : عيّن لنا ذلك البعض ما هو؟ وانظر قضية عمر ابن عبد العزيز مع الأمير.
وأورد (ابن عرفة هنا سؤالا قائلا: لمّا أمروا بذبح بقرة مطلقة انتصبوا للسؤال: على أى بقرة هي، والأمر دائر بين أن يكون هذا منهم تعنتا أو استرشادا فإذا تقرر هذا فلأي شيء لم يسألوا هنا ما هو البعض الذي يضربون به ميتهم فيحيِيَ؟
وأجيب: بأن تفاوت أفراد الجنس والصنف ثابت بخلاف أجزاء الكلّ من حيث هو كل. وأجيب أيضا بأنهم قادرون على أن يضربوا بكل بعض من أبعاض تلك البقرة حتى يوافقوا البعض المراد بخلاف الآخر فإنهم غير قادرين على ذبح جميع البقر كلها.
قلت: وهذا قريب من الأول.
قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُحْيِ الله الموتى... ﴾.
أفرد الخطاب والمخاطبون جماعة: إما لقلة من يتأثر بهذه الآية (منهم)، ثم جمعهم في قوله «وَيُرِيكُمْ» اعتبارا (بظاهر) الأمر، وإما لأن المخاطب واحد بالنوع. واستقرأ الفخر الرازي من الآية
335
فوائد كثيرة: منها أن الزيادة في خطاب نسخ له. ومنها أن النسخ قبل الفعل (جائز وإن لم يجز) قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى (البدء).
وردّ ابن عرفة الأول بأنها زيادة على النص. والصحيح أنها ليست (بنصّ) خلافا لأبي حنيفة.
وقال الطيبي: إنه من باب (تقييد) المطلق، أو تخصيص العام، لأن البقرة مطلقة.
336
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم... ﴾
جعل الزمخشري العطف ب «ثم» لبعد ما بين منزلة الإيمان والكفر.
قال ابن عرفة: ولا (يبعد) أن تكون على بابها. (فرد عليه بأن جعل) بعد ذلك لابتداء الغاية (فتناقض) مهلة «ثم» ؟
فأجاب بأن دلالة «ثمّ» على المهلة نص لا يحتمل غيره، فهو أقوى من دلالة «من» على ابتداء الغاية.
336
وقال ابو حيان: السياق يقتضي أنها لبعد ما بين المنزلتين.
ورده ابن عرفة بأن الأصوليين رجّحوا الدلالة باللّفظ على الدلالة المفهومة من السياق.
قيل لابن عرفة: يلزم (على ما قلت) أن يكونوا مرّ عليهم (زمَن) هم فيه مؤمنون؟ فقال: نعم وهو المناسب وهو الزمن الذي كان فيه الرّسول موسى بين أظهرهم، وظاهر الآية أن العقل في القلب.
قوله تعالى: ﴿فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً... ﴾.
منع أبو حيان أن تكون الكاف بمعنى «مثل» محتجا بأنه ليس مذهب سيبويه.
وأجاب ابن عرفة بأن ذلك إنما هو إذا جعلها حرفا. ونحن نقول: إنها اسم.
وأورد الشيخ الطيبي: ان القلوب شبهت بالحجارة مع أن المشبه بالحجارة إنما هو قسوتها (شبيهة) بقسوة الحجارة.
وأجاب: بأن التشبيه في الحقيقة راجع للقسوة، أي (صلبت) وخلت من (الإنابة) والإذعان (لآيات الله تعالى).
337
قاله (ابن عطية). قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المراد قلوب (ورثة) القتيل لَمّا (أخبرَ) بمن قتله ومات قالوا: كذب.
قال ابن عرفة: فالمراد أنّها دامت على القسوة، أو زادت قسوتها لأنهم لم يزالوا قبل ذلك منكرين للقتل، قال: ويضعف هذا بأنه لما قتل قاتل القتيل انقطعت تلك القسوة فلم يبق من هو متصف بها. وجعل السّكاكي هذا من (ترشيح) المجاز.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار... ﴾.
قال الطيبي: إنّها تذليل لما قبلها لأنها في معناها.
قال ابن عرفة: الصواب أنها تعليل أو بيان للوجه الّذي كانت به أشدّ من الحجارة ودليل عليه. وهذا تدلي أو ترقي الذّمّ وهو أولى من العكس لأن الحجارة التي تتفجر منها (الأنهار) أفضل وأعلى من الحجارة التي تنشق فيخرج منها الماء. ويلزم من كونها أشد قسوة من التي تنشق فيخرج منها الماء أن تكون أشد قسوة من المتفجرة عن الأنهار فلذلك أتى به بعده. ولو قيل: إن من الحجارة لما (ينشق) فيخرج (منها) الماء، وإن منها لما يتفجر منه الأنهار لكان تأكيدا. انتهى.
338
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله... ﴾.
قال ابن عرفة: يؤخذ من الآية أنّ الأفضلية ثبتت للجنس بثبوتها لبعض أفراده لأنّ الحجارة الموصوفة بذلك هي بعض من كل، وقد ثبت التفضيل للجميع بقوله: فهي كالحجارة، ولم يقل فهي كالحجارة الموصوفة بكذا، والحجارة عام إما بالألف واللام (أو) بالسياق فقد فضل عليهم جميع الحجارة.
قيل لابن عرفة: هذا تقسيم مستوفى فليس (من الحجارة) شيء إلا داخل فيه؟
فقال: الحجارة التي تتفجر منها الأنهار، والتي تنشق عن الماء لا قساوة فيها بوجه، وهم إنّما ذُمّوا بمشاركتهم للأحجار في القساوة مع الزيادة عليها فقد فضلت عليهم الحجارة القاسية لكونها من جنس ما هو غير قاس.
قيل له: فكل ما نراه من الأحجار ساقطا من فوق، هلا تقول: إنه (هبط) من خشية الله؟ فقال: ((الآية إنما دلت على (أن) بعض الحجارة يهبط)) من خشية الله لا كلها، وكل ما نراه هابطا يجوز أن يكون هبوطه من خشية الله.
قال الفخر: وهذا مثل قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله﴾
339
قال ابن عرفة: ليست مثلها لأن تلك شرطية، والشرط قد يتركب من المحال بخلاف هذه.
قال: وقوله: ﴿مِنْ خَشْيَةِ الله﴾ هو قيد في الجميع، لأن تفجر الأنهار أيضا من خشية الله.
340
قوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ... ﴾
استفهام على (سبيل) الاستغراب فيتناول النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين، (أو على الإنكار فيتناول المؤمنين فقط).
قوله تعالى: ﴿يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ... ﴾.
(ابن عطية: قال ابن إسحاق: وهم السبعون الّذين سمعوا كلام الله مع موسى، ثم بدلوه.
ابن عطية) : وهذا ضعيف وخطأ لأن فيها (إذهابا) لفضيلة موسى في اختصاصه (بالتّكليم).
قال ابن عرفة: بل هو مقرر للفضيلة لأنهم (إنما) سمعوا كلام الله بحضرته من أجله وعلى سبيل التّبعية له. وقيل: المراد سماعهم تلاوة التوراة والصحف من موسى، وكونهم بدلوا فيها وغيّروا، فالسماع الأول حقيقة وهذا شبه مجاز في المسموع لا في
340
نفس السّماع، لأن مسموعهم ليس هو كلام الله تعالى، إنما هو كلام موسى عليه السلام، ومدلوله كلام الله، ونظيره سماعك كلام زيد من ناقل (نقله عنه).
قال الزمخشري: والمراد (بالتحريف) ما يتلونه من التوراة، ثم يحرفونه كما حرفوا صفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وآية الرجم.
قيل لابن عرفة: لم يبدلوا آية الرجم إنما وضع مدرّسهم يده عليها فقط؟
فقال: المراد بالتحريف الكتم أو عدم العمل بمقتضاها.
قيل لابن عرفة: إن الشيخ أبا علي ناصر الدين البجائي المشذالي كان يحتج بهذه الآية على إثبات العمل بالقياس، وقرره بأنه سجل على هؤلاء بالكفر قياسا على أحبارهم ومن سلف (منهم) الذين شاهدوا الآيات البينات وسمعوا كلام الله إمّا مشافهة أو بواسطة؟
فقال ابن عرفة: إنما فيها استحالة ثبوت المعنى وهو الإيمان لوجود المانع (منه) وهو أحبارهم (يحدثونهم) بتحريف من سلف (منهم) وكفرهم.
341
واللام في قوله عَزَّ وَجَلَّ ﴿يُؤْمِنُواْ لَكُمْ﴾ الأصوب (أن تكون بمعنى «مع» ويبعد كونها) للتعليل أي يؤمنوا لأجلكم لأن مفهومه حصول الإيمان منهم بسبب آخر غير المؤمنين.
342
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذينءَامَنُواْ... ﴾
عبر ب «إذا» مع أنهم يكرهون لقاء المؤمنين لوجهين: إما لعلم الله تعالى أنهم لا بد لهم من لقائهم، وإما لأنّ النبي عليه السلام مأمور بتبليغ الوحي لهم ولغيرهم فلا بدّ (لهم) من لقائه، وإنما قال ﴿وَإِذَا لَقُواْ﴾ ولم يقل وإذا أتوا، إشارة إلى أن لقاءهم للمؤمنين إنما يكون فجأة غير مقصود (ومن خبثهم أنّهم) ﴿قالواءَامَنَّا﴾ من غير تأكيد نزّلوا أنفسهم منزلة البريء (الغير متّهم)، ولم يذكروا بمن آمنوا حتى يبقى الكلام مطلقا يفهمه المخاطب على شيء، ويقصد به المتكلم شيئا آخر.
قوله تعالى: ﴿قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ... ﴾.
قال ابن عرفة: هذا من رؤسائهم المنكرين عليهم قصور الإنكار والمناسب لحالهم المبالغة في الإنكار (عليهم) لأنهم ما أنكروا عليهم إلا التحدث الموجب للحاجة فمفهومه أنهم أباحوا (لهم) مطلق الحديث مع المؤمنين لكن يبقى النظر/ هل اللام في «لِيُحَآجُّوكُم» تعليل للحديث أو للإنكار؟ (وهل) اللام سابقة على الهمزة، (
342
ثم) دخلت الهمزة على الحديث لأجل (المصاحبة) فأنكرته بعلته أو الهمزة سابقة فدخل التعليل بعدها فكان علة الإنكار؟ (وهل) قبل حديثهم لأجل (المحاججة) هو المنكر أو المراد أن الحديث في (الإطلاق) وأنكر (خوف) المحاجة به؟
وجعل أبو حيان اللام في «لِيُحَآجُّوكُمْ» للصيرورة بناء عنده على أنه تعليل للتحدث وإذا جعلناها للإنكار (تبقى) اللام (على بابها) من التعليل الحقيقي ويكون الإنكار بليغا لا قصور فيه بوجه.
قلت: ورده بعضهم بأنه على هذا يكون المعنى لا تحدثوهم بما فتح الله عليكم لئلا يحاجوكم به عند ربكم، فيكون الرؤساء أقروا (أن) للمؤمنين عليهم حجة بذلك يوم القيامة، وهم إنما غرضهم (التمويه) على العوام، وتنفيرهم من الإيمان فكيف يقرون لهم بصحة هذا الدين؟
343
وأعرب الطيبي «عِندَ رَبِّكُمْ» بدلا (مما) ﴿فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ﴾ لأنه هو.
ورده ابن عرفة: إنما يكون (هُوَ إن لَوْ) قيل: ليحاجوكم.
قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾.
إما من كلام الله أو من (قول) المنكرين، وعلى هذا حمله ابن عطية على العقل التكليفي فقال: العقل علوم ضرورية.
قال ابن عرفة: والصواب أنه العقل النّافع أي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ من أجل هذا.
344
قوله تعالى: ﴿أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾
عطْف «يُعْلِنُونَ» على «يُسِرُّونَ» تأكيدٌ ليدل اللفظ عليه بالمطابقة واللّزوم، وأفاد العطف التسوية بين علمه السر (والجهر) كما قال الأصوليون في عطف صيغة افعل المحتملة للوجوب والندب على ما هو نص في أحدهما، وكما قال (ابن بشير) في سبب الخلاف في النوم: هل هو حدث أو سبب في الحدث؟
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ... ﴾
قال ابن عطية: الأميون عامة اليهود وأتباعهم لا بطمع في إميانهم.
قال ابن عرفة: يؤخذ منه ذم التقليد لكن في الباطل، ولا نزاع فيه.
ابن عطية: وقيل: قوم ذهب كتابهم. وقيل: نصارى العرب. وعن عليّ هم المجوس.
واستبعده ابن عرفة لأنهم لا كتاب لهم، (وقد) جعلهم منهم.
ووجهه ابن عطية: بأن الضمير في «مِنْهُم» على هذا يرجع للكفار أجمعين (لا أنه) خاص بأهل الكتاب.
قال أبو حيان: والاستثناء منفصل.
قال الطيبي: يعلمون (بمعنى) يعرفون. ولا يصح أن تكون «أَمَانِيَّ» مفعولا ثانيا لها لأن عَلِمَ المتعدية إلى اثنين داخله على المبتدأ والخبر والكتاب ليس هو الأماني بل غيرها.
345
ورده ابن عرفة بأن ذلك إنما هو في الإثبات، وأما في النفي فيجوز أن تقول: لا أعلم زيدا حمارا.
قيل له: هذا الثاني مثبت ولا يجوز أن تقول: لا أعلم زيد إلا حمارا؟
فقال: الأَمَانِي (هنا) في معنى النفي إذ ليس المراد إلا النفي المطلق.
قال ابن عرفة: والأَمَانِيّ، إمّا بمعنى التلاوة أي لا يعلمون معنى الكتاب بل يحفظون ألفاظه فقط، وأنشدوا عليه قولا في عثمان:
(تمنّى) كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقاد
وإِمَّا معنى (التمني) أي أنهم يتمنون أن يكونوا يحفظونه ويعلمونه.
قلت: وتقدم لنا في الختمة الأخرى أنه من تأكيد الذّم بما يشبه المدح كقوله:
هو الكلب إلاّ أنّ فيه ملالة وسوء مراعاة وما ذاك في الكلب
وعكسه كقوله:
346
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾.
ابن عطية: الظن على بابه
ونقل عن الشيخ أبي علي ناصر الدين أنه معنى يَشُكونَ.
وردّه ابن عرفة: بأن فروع الشريعة عندنا يكفي فيها الظنّ والأمور الاعتقادية لا بد فيها من العلم وهذا أمر اعتقادي فالظن (فيه) غير (كاف) فلذلك سجل (عليهم بوصف الظنّ) دون الاتصاف بالعلم فلا يحتاج إلى جعله بمعنى الشك.
347
قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ... ﴾
الفاء للاستئناف أو للسبب.
ابن عطية: قال الخليل: الويل شدة الشر. وقال الأصمعي: الويل (القبائح) وهو مصدر (لا فعل له) ينصب على الدعاء.
واستبعده ابن عرفة أن يراد به القبائح قال: إنما يفهم منه العقوبة المترتبة على القبائح قال: وويل وويح (وويس وريب) (متقاربة) وقد فرق بينها قوم. قلت: قال: القاضي عياض في الإكمال
347
في كتاب الإيمان في حديث خرّجه مسلم من رواية واقد بن محمد أنه سمع أباه يحدث عن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، عن النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال في حجة الوداع: «ويحكم، أو قال: وَيْلَكم لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».
قال القاضي عياض: ويح، وويل للتّعجب والتوجّع كما قال سيبويه ويل (لمن) (وقع) في مهلكه، وويح يترحم بمعناها، وحكى عنه ويح لمن أشرف على (المهلكة).
قال غيره: ولا يراد بها الدعاء بإيقاع الهلاك ولكن الترحم.
وروي عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ويح ترحم.
348
قال الهروي: ويح لمن وقع في مهلكة لا يستحقها/ (فيرثى) له ويترحم عليه، وويل للذي يستحقها ولا يترحم عليه.
وقال الأصمعي: ويح ترحم، وابن عباس: الويل المشقة.
قال ابن عرفة: هو الحزن (وقيل الهلاك).
قلت: وقال القاضي في حديث (ويحك يَا أَنجشة) (رويدك بالقوارير).
قال سيبويه: هي لمن وقع في مهلكة (لا يستحقها) فيرثى له ويترحم عليه، وويل بضده، وويس تصغير أي (دونها ذكره في كتاب الفضائل).
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله... ﴾.
( «ثم» ) لبعد ما بين منزلة الكتب والقول.
349
قيل لابن عرفة: (الكتاب) لا شيء فيه، إنما العقوبة على نسبته إلى الله.
فقال: لا بل على الأمرين كمن يكتب (عقودا) يضرب فيها على الخطوط والشهادات (ويخليها) عنده، فإنه قد ارتكب محظورا فإن أظهرها ونسبها إلى تلك الشهود وطلب بها فهو قد فعل محظورا (آخر).
قيل لابن عرفة: نص ابن التلمساني في آخر باب النسخ على أنهم أجمعوا على تكفير من كَّذب الله، واختلفوا في تكفير من كذَب على الله.
فقال ابن عرفة: هذا مشكل فمن يفتي بالخطأ كاذبا على الله يلزم أن يكون كافرا وليس كذلك.
قوله تعالى: ﴿لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً... ﴾.
قال ابن عرفة: إما أن يراد (يبيعونه) بشئ تافه، أو بلا شيء كقول سيبويه: مررت بأرض فلمّا تنبت (البقلا) أي لا تنبت شيئا ونحوه.
قال الزمخشري في قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ﴾ وَفِي قَوْلِهِ في النساء: ﴿فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ وأنشد:
350
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
(قليل التشكي للمهمّ يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك)
وأنكره أبو حيان وذكره أيضا الزمخشري في سورة النّمل في قول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأرض أءلاه مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ قال: المعنى نفي التذكير. والقلة تستعمل في معنى النفي.
قال ابن عرفة: معنى كتبهم: إما أنهم يكتبون زيادات يدلّون فيها (صفات) النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وغير ذلك ممّا يقصدون تبديله لغرض ما ويعطون ذلك لعوام ويقولون لهم: إنّه منقول من التوراة، وإما أنهم يخبرونهم بذلك بالقول: إنه (من) التوراة دون (كتب)، وأما (تبديلهم) ذلك في نفس التوراة فلا، (وقد قال ابن فورك: إنّ صفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الآن موجودة في التوراة). وقال المازرى في الأحوذى له عن (الجوزقى) إن اسمه فيها بالعبرانية «وار كليط» وما زالت تقع في (الكتبيين للبيع). والفرق بينهما أن القرآن
351
أخبرنا اللهُ تعالى فيه أنّه تكفل بحفظه والتوراة أمر أهلها بحفظها ونحن لا نثق بهم في قولهم: إنّهم حفظوها، فلعلهم عصوا ذلك، لأمر ولم يمتثلوه.. وبرهان هذا واضح بالبحث عن القرآن في الأقطار كلها المحصل للعلم والتواتر.
قيل لابن عرفة: قال بعضهم: الدليل على أنّ التوراة لم تزل في نفسها على ما كانت عليه غير مبدلة أنها في الأقطار كلها متساوية الجرم على نوع واحد ولو بدلوها لاختلفت في الأقطار؟ قالوا: وهي لا تقع إلا في خمسة أسفار (وصفات) النبي صلى الله عليه وسلّم في الخامس منها.
قال ابن عطية: قال ابن إسحاق: كانت صفته في التو اة أسمر اللون ربعة، فردوه آدم طويلا.
قال ابن عرفة: نصوا على أنّه لا يُقَالُ فيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: أسمر لأنه نقص.
قيل له: ذكروا في صفاته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه أبيض بياضا مشوبا بحمرة. وهذا أحد ما تصدق عليه السمرة.
فقال: لفظ (أسمر) موهم لإطلاقه على القريب من الأسود.
قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾.
352
أي من كل خطيئة يكسبونها بالإطلاق كتبا أو غيره، فهو من عطف العام على الخاص.
353
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ... ﴾
قال الزمخشري: الفاء جواب شرط مقدر أي أن اتخذتم عند الله عهدا.
قال ابن عرفة: لا يحتاج إلى هذا لأنَّ (الثاني) ملزوم للأول، فاتخاذ (العهد) ملزوم للوفاء به فيصح عطفه عليه، ودخل (العهد) الإنكار على الفعل وما عطف عليه فهو كالنفي سواء ينفي الفعل وما عطف عليه.
وكذا قال الطيبي: إن كلام الزمخشري هنا مبني على أن ﴿فَلَن يُخْلِفَ الله﴾ كلام مستأنف ولو كان عنده معطوفا على ﴿أَتَّخَذْتُمْ﴾ لما احتاج إلى تقدير شيء.
353
قال ابن عرفة: وكان (يظهر) لنا أنه يخرج لنا من الآية أن النّافي للدعوة مطالب بالدليل على ذلك (لأنه) أنكر عليهم قولهم ﴿لَن تَمَسَّنَا النار﴾ قال: (وكان) ابن عبد السلام يجيب عنه بأنهم ادعوا أمرا مشتملا على نفي وإثبات فطولبوا بالدليل على طرف الإثبات. ورد بأن من ادعى ما يوافقه الخصم عليه لا يحتاج إلى دليل، ونحن نوافقهم على مس النار لهم أيّاما ونخالفهم في طرف النفي. وأجيب عنه بأن الإنكار في طرف النفي لكنه نفي ما قد حصل وتقرر ثبوته لأنهم وافقوا على مسّ النار إياهم أربعين يوما. ومن ادعى على رجل حقا فأقرّ به، وقال: دفعته، يطالب بالدليل على براءته منه.
قال ابن عرفة: الكلام معهم في مدة النفي لا في مدة الإقرار.
وأجيب أيضا بأنّ هذا النّفي يستلزم ثبوتا، لأنه ليس هناك إلا جنة أو نار، فإذا نفوا عنهم النار فقد/ ادعوا أنهم في الجنّة، فقال: إنما علمنا الجنة أو النار بالشرع، وكلامنا الآن في الدليل العقلي، لأن الدليل العقلي اقتضى أنّ النافي لا يطالب بالدليل.
فقيل له: بل ذلك أيضا معلوم من الشرع لحديث «البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر».
354
قوله تعالى: ﴿بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً... ﴾
قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تضمن الكلام السابق (ادّعاء) الكفار أنّهم لا يعذبون بالنار إلا زمانا (مخصوصا) يسيرا، رد عليهم ذلك بوجهين:
354
الأول: مطالبتهم بالدّليل على ذلك حسبما تضمنه ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً﴾ - الثاني: أنّهم لما عجزوا عن الإتيان بالدليل (احتمل) أن يكون دعواهم في نفس الأمر صحيحة، فأتى بهذا الدليل على بطلانها.
فقال: ﴿بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾. ظاهر الآية حجة لأهل السنة في إثبات الكسب لأنهم اصطلحوا على إطلاق هذا اللفظ مرادا به القدرة على الفعل مع العلم بما فيه من مصلحة أو مفسدة، والأصل عدم النقل،
فإن قلت: المراد به معناه اللّغوي؟
قلنا: الأصل موافقة اللغة للاصطلاح، وعدم النقل فلعله كذلك في اللغة.
فإن قلت بقول (المعتزلة) : المراد به عندي استقلال العبد بقدرته وأنه يخلق أفعاله، والأصل عدم النقل، فلعله كذلك في اللغة؟
قلنا: قد أبطلنا مذهبهم في الأصول بموافقتهم على الدّاعي.
و «مَن» إما موصولة أو شرطية، والظاهر الأول لعطف الموصول عليها ولأنّ الشرط (قد) يتركب من المحال.
تقول: (لو اجتمع) النقيضان لكان زيد متحركا ساكنا، وهذا صادق مع أنه محال، وكسب السيئة قيل: المراد به ما سوى الكفر من المعاصي.
﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته﴾ المراد به الكفر. وقيل: بالعكس.
قيل لابن عرفة: أو المراد بالجميع الكفر؟
فقال: يكون العطف تكرارا.
355
(قيل له) : بل المعنى كسب السيئة وأحاطت به تلك السيئة؟
(قال) : والخلود إن كان كسب السيئة مرادا به المعاصي سوى الكفر، والخطيئة المراد بها الكفر، فيكون من استعمال اللّفظ الواحد في حقيقته ومجازه لأن خلود الكفار حقيقة وإن كان شيئا واحدا، (فيجوز) فيه أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
ويفرع على القول الأول بأن معنى الخطاب بذلك راجع إلى تضعيف العذاب على المخالفة في الدار الآخرة، فيكون هذا خلودا خاصا.
والآية حجة لأهل السّنّة (بدليل) أداة الحصر.
(فالمعنى) : هم الخالدون لا غيرهم.
قيل لابن عرفة: يخرج من حافظ منهم على الفروع فيلزم أن يكون غير (مخلد) ؟
فقال: السياق يبين أنّ هذا خلود خاص.
قال الطيبي: يحتمل أن يراد بالسّيئة كل ما فعل عن قصد، وبالخطيئة ما فعل غير مقصود كمن شرب الخمر فلما سكر ضرب رجلا (أو قتله).
356
الزمخشري: قال الحسن: كل آية نهى الله عنها، وأخبرك أن من عمل بها أدخله النار فهي الخطيئة المحيطة.
قال ابن عرفة: صوابه كل نهي.
قال ابن عرفة: وزيادة لفظ الخلود دليل على أن الصحبة (تطلق) على مطلق الاجتماع وإن لم يكن معه دوام.
357
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله... ﴾
قال ابن عرفة: هذا دليل على أن الاستثناء من النفي إثبات.
قيل لابن عرفة: نقول إنه محتمل للإثبات والنفي، والدليل العقلي عين هنا أحد المحتملات، وهو الإثبات، فقد تقرر عند الجدليين والأصوليين أنه إذا تعارض حمل الكلام على فائدة (احتمل أن تكون) فهمت من مجرد اللّفظ، (أو) من خارج، فالأولى (ترجيح) فهمها من اللّفظ. وتقرر عند الجدليين أنّ جواز الإرادة موجب (للإرادة) بجواز إرادة أن الاستثناء من النفي إثبات موجب لإرادة ذلك.
قال: ولا يصح أن يكون ﴿لاَ تَعْبُدُونَ﴾ بدلا من ﴿مِيثَاقَ﴾ فإنه متعلق الميثاق لا نفس الميثاق.
قلت: يكون بدل اشتمال، أو بدل شيء من شيء على تقدير مضاف أي ميثاق لا تعبدون إلاّ الله.
357
قوله تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً... ﴾.
قال ابن عرفة: المراد هو الحسن شرعا، فيدخل فيه تغيير المنكر، فإنّه من القول الحسن، وليس المراد به القول الملائم للناس، ومجرد تحسين الخلق معهم، فإنه يخرج عنه تغيّر المنكر مع أن الأمر يتناوله هو وغيره، ويحتمل أن التكليف به لهم في شريعتهم أو في شريعتنا بعد (إيمانهم، أو بعد التوفيه بذلك)، وتقيده بالإعراض إشارة إلى دوامهم على ذلك، والإصرار عليه فإن (المتولي) على قسمين: فواحد يطمع في رجوعه، وآخر لا يطمع فيه بوجه فهذا هو المعرض.
358
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ... ﴾
تضمن الكلام السابق أمرا اعتقاديا وأمرا فرعيا، (وهذا تضمّن أمرا فرعيا فقط) وسفك الدماء أشد من الإخراج من الديار، فالنّهي عنه لا يستلزم النهي عن الإخراج من الديار، فكان ذلك ترقيا في الذمّ. وقراءة «يسفكون» بالتخفيف أعم من (قراءة) التشديد لأنه نهي عن مطلق السفك. ووجه قراءة التشديد أنّ النّهي أتى على وفق حالهم/ في سفك الدّماء، وكانوا قد تَنَاهَوْا وبلغوا الغاية.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾.
358
قال ابن عرفة: إما أنّ المراد أقررتم بذلك إقرارا يتضمن أنّكم حصل لكم بذلك العلم اليقيني، فهو يبلغ إلى درجة الشهادة، لأنّ الإنسان يُقِرّ بها: يظن ولا يشهد إلا بما يعلم.
قلت: وأشار الزمخشري إليه حيث جعله كقولك: فلان مُقر على نفسه بكذا، شاهد عليه.
قال ابن عرفة: وإمّا أن يراد أقر كل واحد منكم على نفسه وشهد على غيره.
الزمخشري: وقيل: وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق.
زاد ابن عطية: أقررتم (خلفا بعد سلف) أنّ هذا الميثاق أخذ عليكم، والتزمتموه، فيتجه في هذه اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد، ويتعدى بالباء، وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله أي أقررتم هذا الميثاق ملتزما.
«وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ» أي تحضرون أخذ الميثاق والإقرار.
359
قوله تعالى: ﴿بالإثم والعدوان﴾
يحتمل أن يكون الإثم هو مواقعة الذنب خطأ من غير قصد، والعدوان مواقعة (الذنب عن قصد).
359
قوله تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب... ﴾
أنكر عليهم تناقضهم كما هو في قول الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾ ليس المنكر كل واحد (من الأمرين) على حدته، لأن الإيمان (بالبعض) وأمر الناس بالبر غير منكر، إنما المنكر (الكفر) بالبعض (وعدم) الاتصاف بالبر، والمنكر (الجمع بين) الأمرين. وعبر بالفعل المضارع للتصوير والدوام.
قيل لابن عرفة: في الآية حجة لمن يقول بوجوب فِدَاء الأسارى لقوله تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب﴾ بعد أن قالوا: ﴿وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ﴾ فدل على أن (فداء) الأسارى (من جملة) ما في كتابهم. فإذا قلنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا، نقول: إن الفداء في شرعنا واجب؟
(فقال: نعم).
قوله تعالى: ﴿فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ... ﴾
360
ولم يقل: من فعل.
قال ابن عرفة: في التعبير بالمضارع ترج وإطماع لهم في العفو، (لأن) من فعل ذلك في الماضي وتاب لا يجازى بالخزي، إنما يجازى به من لم يتب.
قوله تعالى: ﴿يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب... ﴾
إن قلت: (الرد) يقتضي تقدم الحلول في المردود إليه؟
قلنا: هؤلاء كانوا فيما هو من جنس ذلك العذاب لأن العذاب نالهم في الدنيا. قال الله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾ فإن قلت: كيف هو أشد وعذاب المنافقين أشد وعذاب الدهرية أشد لنفيهم الصانع؟
قلنا: الأشديّة مقولة بالتشكيك، أو المراد أشد العذاب الّذي علم الله حلوله بهم في الدنيا والآخرة، فلا ينافي أن يحل بغيرهم ما هو أشد منه.
فعذاب الدهرية أشد، وعذاب المجوس أشد، وكان بعضهم يقول: إن الدهرية لم يدّعوا نفي وجود الصّانع إنّما قالوا: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَآ إلاّ الدهر﴾ فادّعوا أن لهم خالقا أوجدهم فقط، أو (يقال) : قوله تعالى: ﴿إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار﴾
361
لم يعين أنه أسفل الطبقات نصا فالمراد أنه أسفل من غيره بالإطلاق فيصدق بكونه أسفل من طبقة (ما منها).
قلت: الآية خرجت مخرج الذم للمنافقين و «الدَّرْكِ» معرّف بالألف واللام العهدية، والمعهود (هنا) في الأسفل إنما هو ما بلغ الغاية في الانخفاض لا سيما إن قلنا: (الأصح) الأخذ بأواخر الأشياء.
قيل لابن عرفة: ظاهر الآية أنّ من كفر بالجميع عذابه أخف من عذاب من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه مع أن كفر الأول أشد؟
فأجاب: بأن الإيمان بالبعض دليل على حصول (العلم) وكفر العالم أشد من كفر الجاهل.
قلنا: أو يجاب بأن (عذاب) الجميع (متساو) فيصدق على كل فريق أن عذابه أشد، وهم مستوون في الأشدية، أو المراد أشد العذاب المعهود في الدنيا، لأن عذاب الدنيا على أنواع: (منها) الضَّرب والسجن، وأشدها عذابا النّار أي يردون إلى عذاب النار.
362
قوله تعالى: ﴿اشتروا الحياة... ﴾
قوله تعالى: ﴿فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾
قال ابن عرفة: هذا ليس بتكرار:
- فالأول اقتضى أن ذلك العذاب لا يرجى من فاعله شفقة على المفعول ولا تخفيفا عنه.
- والثاني اقتضى أنه لا يقدر أحد على (استخلاص) المفعول من ذلك العذاب ونصرته بوجه.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْءَاتَيْنَا موسى الكتاب... ﴾
إن قلت: الخطاب لليهود وهم معترفون بنبوة موسى عليه السلام فما فائدة القَسم على ذلك؟
قلنا: فائدته التنبيه على مساواة غيره من الرسل الآتين بعده (له) في النبوة، وأن نبوتهم حق كما (هي) نبوة موسى عندهم حق.
قال ابن عرفة: وهذه معجزة للنَّبي صلى الله عليه وسلّم، لأنّ القاعدة أن من ادّعى أمرا محالا لم يسمع منه، وإن ادعى أمرا ممكنا (سمع منه وطلب) بالدّليل على صحّته. والدليل قسمان:
363
جدلي برهاني للخواص، ودليل للعوام، فبين لهم أولا أنه ادّعى أمرا ممكنا، (واستدلّ عليه لهم بدليل برهاني) خاص بالخواص، ثم استدلّ لهم الآن بالدليل الّذي يفهمه العوام، وهو أنّه إنّما (ادّعى) أمرا تكرر أمثاله قبله فلم يأتكم بأمر غريب فهو ممكن عقلا، (واقع) أمثاله بالمشاهدة، فحقكم أن تنظروا في معجزته فتؤمنوا به.
فإن قلت: ما أفاد «مِن بَعْدِهِ» مع أنّ (القبلية) تفيد معنى البعدية؟
قلت: لإفائدة أول أزمنة البعدية إشارة إلى أنّ موسى عليه السلام من حين أرسله لم تزل شريعته باقية معمولا بها حتى أرسل رسولا آخرا فكان مقرر لها كيوشع بن نون أو ناسخا كعيسى. وعين موسى وعيسى دون غيرهما إما لأن المخاطبين بهذه الآية اليهود والنصارى، أو لأن المتبعين لشريعة موسى وعيسى باقون قيام الساعة، ولم يبق أحد (ممن) تشرع بشريعة غيرهما من الأنبياء.
فإن قلت: لِم خصّص عيسى بذكر (الآيات) البينات؟
قلنا لوجهين: إما لأنه بَشّر بنبينا سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث قال: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه
364
أَحْمَدُ} واستظهر على صحة قوله بمعجزات واضحات، وإمّا لأنّ الخطاب لليهود وهم كافرون بعيسى، (فمعناه) أرسلنا من بعده موسى رسلا، منهم عيسى ورسالته، (قام) الدليل على صحتها، وأنها نسخت شريعة نبيكم موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فكذلك هذه الرسالة.
قوله تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُكُمُ... ﴾
قال ابن عرفة: هذا نهي عليهم، ومبالغة في ذمّهم، لأن ما لا تهواه (النفس) أعمّ مما تكرهه (النّفس)، والمعنى أنهم مهما أتاهم رسول من عند الله تعالى بأمر (لا يحبونه) سواء كانوا يكرهونه أو لا، فإنّهم (يستكبرون) ويكفرون به ونظيره قوله تعالى في سورة العقود: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون﴾ ولم يقل: ومن حكم بغير ما أنزل الله، فيتناول من ترك الحكم ولم يحكم بشيء، لأن الفصل بين المسلمين بالحق واجب.
وأورد الزمخشري سؤالا قال: لم قال «فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ» بالماضي «وفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» بالمضارع؟ وأجاب بان التكذيب في أفراد متعلقاته كله ماض، والقتل في (بعض) آحاد متعلقاته مستقبل، لأنهم
365
كانوا يحبون أن يقتلوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد أهدت له يهودية في (خيبر) شاة مصلية وسمت فيها الذراع، لأنه كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحبه، وأخبره الذراع بالسم بعد أن لاكه في فيه، ثم ألقاه منه، ثم قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في مرضه الذي (انتقل فيه إلى الفردوس الأعلى) : ما زالت من الأكلة التي أكلت بخيبر (فهذا أوان انقطاع) أبهري. ولهذا يقال: إن النبي صلى الله عليه ولم مات شهيدا.
366
قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ... ﴾
الظّاهر أنه بلسان المقال لا بلسان الحال، واختلفو في تفسيرها؟
فقال الزمخشري: أي خلقت قلوبهم غير قابلة (للإيمان) بوجه.
ونقل ابن عطية عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أن المعنى قلوبنا ذات غلاف يمنعها من (قبول) الإيمان. والأول أشد، أو معناه أنّها ممتنعة من القبول لذاتها وهذا يقتضي أنّ المانع لها غير ما قال الزمخشري.
366
وقيل: غُلْف مخفف غَلَفَ جمع غِلاَفٍ أي قلوبنا غِلاَف لغيرها، والغلاف الوعاءُ، أي هو وعاء للعلم، وهو نقيض الأول لأنه يقتضي أنها مستغنية بعلمها عن علم الرّسول الذي (جاء) به. وعلى الأول يكونون: إما قصدوا الاستهزاء به، وإما الاستعذار (له) بأنّهم جاهلون (لا يفهمون ذلك ولا يطيقون، فعلى أنّهم قصدوا الإخبار) بأنّهم (غنِيّون بعلمهم عن علمه) يكون الإضراب يدلّ على ذلك الكلام حقيقة، وكذلك إن أرادوا أنها خلقت غير قابلة للإيمان فالإضراب عن لازم ذلك وهو الاستعذار أي لا عذر لهم في ذلك بوجه لأن كونها ذات مانع هو الثابت في نفس الأمر فلا يصح (إبطاله).
367
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ... ﴾
قال الزمخشري: أي ما عرفوا من الحق كفروا به بغيا وحسدا وحرصا على الرئاسة.
367
قال ابن عطية: المراد بقوله «مَّا عَرَفُواْ» الرّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟
قال ابن عرفة: واستشكلوه لأنّ «ما» لا تقع إلا على (ما لا يعقل) (أو على أنواع من يعقل). وأجيب بأنها واقعة على صفة من يعقل لا على ذاته، أي ما عرفوا من نبوته وصفاته وصحّة رسالته كفروا به، وكان بعضهم يأخذ من الآية جواز الاكتفاء في الشهادة والأحكام بالصفة دون تعريف.
وأجيب: بأنه احتفت به قرائن تقوم مقام التّعيين، وهي المعجزات التي جاءهم بها. ورُدَّ بأن المعجزات خارجة عن هذا وكافية وحدها، وليست مذكورة في الآية إنما المذكور فيها معرفتهم له من حيث الصفة التي في كتابهم فقط من غير ضميمة إلى ذلك.
وفي كتاب اللقطة: وإذا وصل كتاب القاضي إلى قاض آخر، وثبت عنه بشاهدين، فإن كان الفعل موافقا لما في كتاب القاضي من صفته، وخاتم القاضي في عنقه لم يكلف الذي جاء به أن يقيم بينة أنّ هذا (الحكم) هو الذي حكم به عليه.
قوله تعالى: ﴿فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين﴾
قال ابن عرفة: وانظر هل هذا إنشاء أو إخبار لقول متقدم؟ ثم قال: لا يبعد أن يكون إنشاء، وتكون اللّعنة مقولة بالتشكيك والتفاوت، / لأن هؤلاء كفروا وهم جاهلون، إذا بنينا
368
على أن ذلك (استعذار)، وهؤلاء كفروا بعد علمهم ومجيء الكتاب لهم فاللّعنة في حقهم أشد.
369
قوله تعالى: ﴿بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ... ﴾
قال ابن عرفة: نص النحويون على أنّ (اسم) الممدوح في «نعم» أو المذموم في «بئس» لا يكون إلا أخص من فاعلها أو مساويا، ولا يكون أعمّ منه، والشراء والكفر بينهما عموم وخصوص من وجه، فالشّراء يطلق على المعارضة من غير الكفر وعلى المعارضة في الكفر، والكفر أيضا أعم من وجه، لأن من كفر بعد أن آمن اشترى الكفر (بالإيمان)، ومن كان كافرا بالإصالة لم يشتر شيئا بشيء.
قوله تعالى: ﴿فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ... ﴾
أي رجعوا، ومنه قولهم: بُؤْ بِشسع نعل كليب، أي ارجع بشسعِ نعل كليب وهي من كلام المهلهل أخي كليب قالها في حرب (داحس) للحارث.
قال ابن عرفة: وتنكير الغضب بدل على أن الثّاني غير الأول كما قالوا في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر
369
يُسْراً} لن يغلب عسر (يسرين) ووجّهوه بأن العسر معرف فكان شيئا واحدا، واليسر منكر فكان يسرين.
قال ابن عرفة: وإنما قال: «عَلى غَضَبٍ»، ولم يقل بعد غضب إشعارا (بشدته)، فإنه مجتمع متراكم بعضه على بعض.
قيل لابن عرفة: والغضب إن كن صفة فعل فالتعدد فيه متصور صحيح وإن كان صفة معنى امتنع فيه التعدد، لأنه في (هذه الحالة يصير) راجعا إلى الإرادة، وهي شيء واحد، فكيف يفهم أنهما غضبان؟ ثم أجاب بأنّهما متغايران باعتبار المتعلق، فمتعلّق الإرادة متعددة، وهو (أنواع) العذاب، فالمعنى على الأول: فباؤوا بعذاب على عذاب. وعلى الثاني: فباؤوا بإرادة عذاب على عذاب.
وأوقع الظاهر موقع المضمر في قوله ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ ولم يقل: ولهم عذاب مهين، مبالغة في إسناد العذاب على كل من اتصف بالكفر بالإطلاق.
370
قوله تعالى: ﴿وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ... ﴾
إما معطوف على «قَالُواْ نُؤْمِنُ» فيكون جوابا لِ «إذا»، أي إِذَا قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله يكفرون بما وراء كتابهم، وإما حال مع أن المضارع لا يأتي حالا بالواو إلا قليلا، لكنه هنا على إضمار المبتدإ أي وهم يكفرون بما وراءه.
370
أخبر الله عن تناقضهم بأن إيمانهم بكتابهم يستلزم إيمانهم بما سواه من الكتب التي من جملتها القرآن، وكفرهم بالقرآن يستلزم كفرهم بكتابهم المنزل عليهم، لأنّ الكتب كلّها يصدق بعضها بعضا.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ... ﴾
أبو حيان «مُصَدِّقاً» حال مؤكدة.
قال ابن عرفة: بل هي مبنية، لأن الحقّ قد يكون مصدقا لما معهم، وقد لا يكون مصدقا ولا مكذبا، لأن النّبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أتى بشرائع بعضها في كتابهم، وبعضها ليس موجودا في كتابهم (بوجه)، فكتابنا حق (ومصدق لما في كتابهم) (بالنسبة إلى ما تكرر في الكتابين)، وليس بمصدق أو مكذب بالنسبة إلى ما زاد به على كتابهم، وأما أنه مكذب فَلاَ لأن كلا الكتابين حق، فليس من لوازم كون القرآن حقا يصدق ما معهم إنّما من لوازمه أنْ لا يكذبه لأن الحق لا يكذب الحق.
371
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَآءَكُم موسى بالبينات... ﴾
371
إن قلت: لِم أقسم على مجِيئه لهم بالبينات، وهم موافقون عليه. وإنما يتوهم مخالفتهم في اتخاذهم العجل فقط؟ فهلاَ قيل: ولقد اتخذتم العجل من بعد ما جَاءكم موسى بالبينات؟
فالجواب: أنه ظهرت عليه مخائل الإنكار لمجيئه لهم بالبيّنات بسبب اتخاذهم العجل، فلذلك عطفه عليه (بيانا لسببه) الموجب للقسم.
قال ابن عطية: البينات: التوراة، والعصا، وفرق البحر، وغير ذلك من آيات موسى عليه الصّلاة والسلام.
قال ابن عرفة: إن أراد بالبينات الظاهرة فظاهر، وإن أراد المعجزات فليست التوراة منها، لأنها غير معجزة وإنما الإعجاز بالقرآن فقط. فإن قلتم: إنّها معجزة باعتبار اشتمالها على الإخبار بالمغيبات.
قلنا: الإعجاز فيها حينئذ (ليس هو من حيث المجيء بها بل من حيث الإخبار بالمغيبات فقط).
قال ابن عرفة: وذمهم أولا بكفرهم فيما يرجع إلى النّبوة بقوله: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ﴾ ثم ذمهم بكفرهم فيما يرجع إلى الألوهية باتخاذهم العجل إلاها فهو ترق في الذم.
قال: ومفعول «اتّخَذْتُمُ» محذوف أي العجل إلاها، وحذفه مناسب، لأنه مستكره مذموم، فحذفه إذا دل السياق عليه أحسن من ذكره.
372
قوله تعالى: ﴿خُذُواْ مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ... ﴾
على حذف القول أي القائلين: ﴿خُذُواْ مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ﴾
قيل لابن عرفة: هل فيه دليل على أن الأشياء كلها محض تفضل من الله تعالى وليست باستحقاق لأن هؤلاء يستحقون ذلك؟
فقال: نعم.
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا... ﴾
قال الطيبي: / هذا من القول بالموجب، ومنه قول الله تعالى: ﴿يُؤْذُونَ النبي وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ﴾ قال ابن عرفة: لا بل هو مغالطة منهم لأن السماع في قوله: «واسمعوا» ليس المراد به حقيقة بل هو من مجاز إطلاق السبب على مسببه، لأن السماع سبب في الطاعة، فكأنهم أمروا بالطاعة (فغالطوا) في ذلك، وحملوا الأمر بالسماع على حقيقته من أن المراد به الاستماع فقط فقالوا: «سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا»
قوله تعالى: ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ... ﴾
الباء إما للمصاحبة أي مع كفرهم، أو للسببية فيكون العقوبة على الذنب بالذنب كما ورد أن المعاصي تزيد الكفر.
قيل لابن عرفة: إنما كفروا بعبادتهم العجل، ولم يتقدم لهم قبل ذلك كفر بوجه؟
فقال: لا بل كفروا أولا كفرا عاما بالاعتقاد، ثم عبدوا العجل (بالفعل).
373
قوله تعالى: ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ... ﴾
عبر بالفعل المضارع، وقال بعده ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ﴾ فعبر بالماضي فما السر في ذلك؟
أجاب ابن عرفة: بأن الشراء لا يتكرر لأنه إذا دفع للبائع الثمن لم يعد إليه بوجه، فلا يقال: إنه يبيع سلعته مرة أخرى أو يشتري العوض مرة أخرى. فإلإيمان الذي باعوه لا يرجع إليهم بوجه بخلاف أمر الإيمان لهم فإنه يتجدد (بحسب) متعلقه شيئا فشيئا.
قال ابن عرفة: وقبح فعلهم إما من (جهة) كذبهم في مقالتهم إذ ﴿قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا﴾ وليسوا بمؤمنين، وإما من جهة إيمانهم مع اتصافهم بالقبيح. والإيمان لا ينشأ عنه إلا الحسن.
قيل لابن عرفة: المراد بقوله: «إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ» الإيمان الحقيقي الشرعي، والإيمان الحقيقي لا (يأمر) إلا بالخير فكيف قال لهم: ﴿بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ ؟
فقال: المراد إن (كنتم تدّعون) الإيمان حاصلا لكم، فبئس ما يأتيكم به إيمانكم المدّعى.
قيل له: لما يأمرهم الإيمان بذلك، وإنما هو إيمان ناقص زاحمه غيره من وساوس النفس، فالمزاحم هو الأمر لا الإيمان؟
فقال: بل الأمر الإيمان المدعى أنه إيمان.
374
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً مِّن دُونِ الناس... ﴾
هذا (إما) أمر خاص بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن يقوله لهم، أو أمر لكل واحد من المسلمين أن يقوله لهم، لكنه لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالذات ولعموم المؤمنين (بالتّبع)، وهذا قياس (شرطي استثنائي) (وفي) قوله ﴿وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ قياس شرطي اقتراني، وفي القرآن أيضا القياس الحملي.
قال الزّمخشري: سبب نزول الآية أن قوما من اليهود والنصارى قالوا: ﴿لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾ وقرره ابن عطية بأن اليهود قالوا: ﴿نَحْنُ أبناؤا الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ فقال لهم الله عَزَّ وَجَلَّ؛ ﴿فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ فهو أحسن لكم. قال: إن الله منعهم من التمنّي وهذا على القول بالصرفة.
375
قال ابن عرفة: ولا يبعد إيراد الأمرين في كلام ابن عطية، ويكون على الأول خطابا لمن ليس كفره عنادا، فلا يتمنى الموت لعلمه بكذبه في مقالته، والصرفة لمن ليس كفره عنادا يريد أن يتمنى الموت فيصرفه الله عن ذلك التمني تعجيزا له.
فإن قلت: هلا ترك ذكر خالصة فهو أخص وأبلغ (لتناوله) تعجيز من زعم منهم أن الدار الآخرة له ولغيره؟
فالجواب: أنه جاء على حسب الدعوى: لأنهم قالوا: ﴿لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾
376
قوله تعالى: ﴿وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً... ﴾
وفي سورة الجمعة ﴿وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً﴾ - قال ابن عرفة؛ إن كانا بمعنى واحد فلا سؤال. وإن كانت «لَن» أبلغ في النفي كما يقول الزمخشري: فلعل تلك الآية نزلت قبل هذه، فلم تقتض المبالغة فجاءت هذه تأسيسا.
قلت: قوله: «أبدا» دال على المبالغة، فقال: قد قالوا في قول الله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ إنه عبارة على طول الإقامة فقط، وأجاب أبو جعفر بن الزبير بأن آية البقرة لما كانت جوابا لأمر أخروي مستقبل وليس في الحال إلاّ زعم مجرد ناسبه النفي ب «لن» الموضوعة لنفي المستقبل لأن لَنْ يَفْعَلَ جواب سَيَفْعَل، وآية الجمعة جواب لزعمهم أنهم أولياء الله من دون الناس، وهو حكم دنيوي ووصف حالي، فناسبه النفي ب «لا» التي ينفى بها المستقبل والحال،
376
ولم ينف ب «ما» الخاصة بالحال، لأنهم أرادوا أنهم أولياء الله مستمرون على ذلك إلى آخر حياتهم، فكذبوا بما ينفي ذلك.
377
قوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ... ﴾
قال الزمخشري: نكرة لأنها حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة.
قال ابن عرفة: فأريد بها (هنا) التعظيم والتهويل أو يقال: إنّه (نكرة) للتقليل أي يحرصون على الحياة القليلة فأحرى الكثيرة، فيكون من التنبيه بالأدنى على الأعلى، هذا أظهر وأدلّ على اختصاصهم بالحرص على الحياة وأبلغ، لكن ما بعده يدل على ما قاله الزمخشري.
قوله تعالى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ... ﴾
قال بعض الطلبة: (لم يرد) (الحول معبرا عنه بالسنة إلا إذا كان فيه (الجدب والغلاء) قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَآءَالَ فِرْعَوْنَ بالسنين﴾ فهلا قيل: يودّ أحدهم لو يعمر ألف عام؟ فَأجاب ابن عرفة بأنهم (يختارون) الحياة على الموت
377
كيف ما كانت، وهو تنبيه على الأعلى بالأدنى، لأنّهم إذا تَمنّوا حياة ألف سنة مجدبة وفضلوها على الموت، فأحرى أن يفضلوا ألف عام.
378
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ... ﴾
قال الزمخشرى! روي أنه كان (لعمر) أرض بأعلى المدينة وكان (ممرّه) على {مدارس) اليهود، فسألهم عن جبريل، فقالوا: ذلك عدوّ لنا يطلع محمدا على أسرارنا.
وقال ابن عطية: سبب نزول الآية أنّهم سألوا النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أربعة أشياء (منها: أنهم) سألوه عمّن يجيئه من الملائكة بالوحي؟ فقال: جبريل. فقالوا: ذلك عدوّ لنا لأنه ملك الحروب والشدائد.
قال ابن عرفة: هدا جهل ومحض ومكابرة، ولقائل أن يقول: أن السبب غير مطابق للآية، لأنهم أخبروا أن جبريل عدو لهم، والآية اقتضت أنهم أعداء لجبريل، (ولا يلزم) من عداوة أحد الشخصين للاخر أن يكون الآخر عدوا له.
وأجيب بأن هذا خرج مخرج الوعيد لهم، لأن جبريل ذو قوة وسطوة، فإذا خالفوه ودافعوه مع علمهم بقوته فقد عادوه.
378
قال ابن عرفة؛ الظاهر أن «مَنْ» موصولة لأن الشرطية لا تقتضي وجود شرطها ولا إمكان وجوده، والعداوة ثابتة موجودة كما تقدم فهى موصولة.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يصح قوله: ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ﴾ جزاء للشرط؟
وأجاب بوجهين: أحدهما أنهم لو أنصفوا لشكروا جبريل على إنزاله كتابا ينفعهم ويصحح كتابهم.
الثاني إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزَّل عليك القرآن مصدقا لكتابهم.
قال ابن عرفة: إنما احتاج إلى هذا (السؤال) لأنه فهم أن الارتباط بين الشرط والجزاء لا يكون إلا لزوميا، وهو عند الأصوليين يكون لزوميا. ويكون اتفاقيا، لكنّه في محل الاستدلال لا يصح أن يكون الا لزوميا. وفي الخبر يصح فيه الأمران. (نعم لا بد من المناسبة وصحة ترّتبه على الشرط) كقولك: إن تكرم زيدا فقد أكرمه غيرك. فإنه لا ارتباط بينهما إلا في الزمان أو في الذّكر خاصة فهو اتّفاقي.
قلت: ولما ذكر ابن عرفة في الختمة الأخرى هذين الجوابين قال: أو يقال: إن في هذا ردا على من زعم أن جبريل غلط في الرسالة، وهي مسألة العتبية في كتاب المرتدين والمحاربين في رسم (يدير)
379
ماله من سماع ابن القاسم. قال: فيمن قال: إن جبريل أخطأ بالوحي وإنما كان النّبي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
ابن رشد: هذا كفر صريح فإن أعلنه استُتِيب، وأن أسرّه بلا استتابة كالزنديق.
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ... ﴾
قيل لابن عرفة: يؤخذ منه تسمية بعض القرآن قرآنا لأنه لم يكن حينئذ أنزل جميعه بل بعضه؟ فقال: يجاب إما بإيقاع الماضي موقع المستقبل أو بأن الضمير في «نَزَّلَهُ» عائد على المتلوّ من القرآن لا (على) نفس القرآن.
(أقول: أو إن الضمير يعود على ما أخبر به جبريل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أسرارهم الّذي كان سببا في عداوتهم، له كما تقدم في سبب النزول من قولهم لعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وهو قريب من الجواب الثاني)، وتقدم في الختمة الأخرى.
380
قال بعض الطلبة (لابن عرفة) : اعتزل الزمخشري فقال: إذا كانت عداوة الأنبياء كفرا فما بالك بعداوة الملائكة وهم أشرف ﴿فجعله أشرف من بني آدم ولا ينبني عليه كفر ولا إيمان؟
قال ابن عرفة: فقوله على هذا {مَن كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ﴾
تدل، وهو من باب التذييل لما قبله، ومعناه أن يكون اللّفظ بزيادة قوله تعالى: ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون﴾ فيه دليل على أن الاستثناء من النفي إثبات.
قيل لابن عرفة: من (عاداك) فقد عاديته فما أفاد قوله: ﴿فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾ فقال (العداوة) ليست متعاكسة النسبة بدليل قول الله عَزَّ وَجَلَّ ّ} ﴿ياأيها الذين ءامنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم﴾ مع أن الآباء ليسوا أعداء لأولادهم.
قيل له: هي متعاكسة؟
فقال: «من» خارج بالدليل العقلي لا من جهة اللفظ والمادة.
381
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ... ﴾
قيل لابن عرفة: إن أريد المعجزات فظاهر، وإن أريد آيات القرآن فيؤخذ منه امتناع تخصيص السنة بالقرآن، والقرآن بالسّنة لأنّه كله بيّن؟
381
فقال: نقول إن القرآن بين من حيث دلالته على صدقه من جهة لفظه المعجز وفصاحته، وإن كان معناه (مجملا) لا يفهم فلا يمتنع فيه بيان (القرآن) بالسّنة.
382
قوله تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم... ﴾
قال ابن عرفة: ذمّ الإنسان على عدم العمل بما كان التزم العَمَلَ به أشد من ذمه على إنكار ما يعلم صحّته. وقال بعضهم: النّبذ طرح خاص، وهو عدم الاعتناء بالشيء لحقارته وذمامته وانظر تنبيهات القاضي عياض من العتق الثاني.
قال ابن عرفة: وهذه تسلية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه لما تقدم ذكر إنزال الايات البينات وكفرهم بها عقبه ببيان أن ذلك شأنهم وعادتهم فلا يلحقك/ بسببه (ضجر) ولا حزن بوجه. فإن قلت: هل يؤخذ منه أن العهد لا يقبل النقض لأجل ذمهم على نقضه؟
فالجواب من وجهين: إما بما تقرر في كتاب الإيمان والنذور من أنه في الحكم الشرعي على قسمين: عهد يقبل النّقض، وعهد لا يقبله، وهذا من الذي لا يقبله، وإما بأن الذي وقع فيه الكلام (إنما هو) العهد المطلق الذي هو غير متكرر، وأما هذا فهو عهد مؤكد متكرر فلا يقبل النقض بوجه فلذلك ذمّوا على نقضه. فإن قلت: هلا قيل: أَوَ كُلَّمَا عَاهَد فريق منهم عهدا نقضه، لئلا يلزم عليه ذم الجميع بعصيان البعض؟
382
فالجواب: أنّ الجميع ذمّوا بسبب رضاهم بفعل البعض وإمّا بأن الذم للفريق الناقض للعهد فقط، وأتت الاية على هذا الأسلوب لأن نقض العهد من فريق عاهدوهم وغيرهم، فثبت غيرهم ونقضوا م فاتّسع في الذّم لهم في نقضهم عهدا اختصوا به.
قوله تعالى: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾
قال ابن عطية: الضمير في «أكْثَرهُمْ» إما عائد على بني إسرائيل أو على الفريق النابذين. وضعفه ابن عرفة لأنه يلزم عليه أن يكون بعض الذين نبذوا العهد مؤمنا؟ وأجيب باحتمال كون المنبذ راجعا لعدم الإيمان بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبعضهم (آمن بكتابه) ولم يؤمن بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد نبذ العهد (مع أنه مؤمن بكتابه).
قال ابن عرفة: و «أَكْثَرُهُمْ» إما أن يراد به الفريق، أو (هو) أعم منه. ولما كان الفريق يصدق على القليل والكثير بين بالأكثر.
(قيل) لابن عرفة: (عدم) إيمانهم هو نفس نقضهم للعهد فلا يصح أن يكون الأكثر غير مؤمنين والأقل ناقضين للعهد؟ وأجاب بأنّه يصحّ لأن هؤلاء اليهود منهم من هو متبع لكتابه ومنهم من هو مخالف له.
383
قال ابن الخطيب: وقيل: المراد بنبذ العهد عدم إيمانهم بالقرآن. قال: وهذا مردود بأن مادة النبذ تقتضي تمسكهم به قبل ذلك مع أنهم لم يكونوا قط متمسكين بالقرآن.
وأجاب ابن عرفة بأنهم كانوا قابلين للتّمسّك (به) وكانوا قبل البعثة متمسكين (به) لأن كتابهم أخبر به على وفقه بدليل أن من مات منهم قبل ذلك مات مسلما حنيفيا.
384
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ... ﴾
قال الفخر: يحتمل أن يكون التصديق بموافقته لما في التوراة.
فرده ابن عرفة بأن التصديق هو نسبة المخبر إلى الصدق فهو من عوارض الخبر، والتصديق بالصفة مجاز لا حقيقة، وإنما ينسب للصفة الصدق والتصديق.
قوله تعالى: ﴿كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾
قال ابن عرفة: كان الفقيه أبو العباس أحمد بن علوان يقول: مقتضى هذا أنهم طرحوه بين أيديهم، لأن الظهر بالنسبة إلى
384
الوجه خلف، والوجه بالنسبة إلى الظهر خلف، فالظهر خلف الوجه، والوجه خلف الظهر، وإذا طرحوه وراء ظهورهم لزم أنهم طرحو أمامهم فلا ذم عليهم.
قال ابن عرفة: وأجيب بأن المراد المبالغة في إبعاده عنهم فهم جعلوه وراء الوراء كما جاء في الحديث الصحيح: «مِنْ وَرَاءِ وَرَائِهِمْ» جعلوا للوراء وراء ونبذوه خلف ذلك الوراء وهو أبلغ في كمال النبذ.
قلت: والحديث خرجه مسلم في أواخر كتاب الإيمان من أحاديث الشفاعة من رواية ربعي بن خراش عن حذيفة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول: وهل أخرجكم منها إلا خطيئة أبيكم آدم؟ لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله، فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك، إنما كنت خليلا من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى عليه السلام الذي كلمه الله تكليما» الحديث بكماله انفرد به مسلم.
385
قوله تعالى: ﴿واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين... ﴾
أي عملوا بمقتضاه، وليس هو من الاتباع الحقيقي، لأن متلو الشياطين لا يتبع إنما يتبع التالي وهو الشيطان لا متلوه.
قوله تعالى: ﴿على مُلْكِ سُلَيْمَانَ... ﴾
قيل؛ أى على عهد سليمان، ويحتمل أن يراد اتّباعهم ما سمعوا أنّ الشيطان كان يتلوه في عهد سليمان، وأنهم يتبعون في عهد سليمان ما يتلوه الشيطان إذّاك؟ قال ابن عرفة: وتعلّم السّحر واعتقاده حقا كفر. وأما تعلمه من غير اعتقاد حقيقة ففي التكفير به قولان، وظاهر المتكلّمين أنّ التكفير إنّما هو بأحد ثلاثة أمور: إما بقول كلمة الكفر، أو بالسّجود
385
لصنم، أو بالفعل كلبس الزّنار ونحوه. وجعل الفخر (هنا) من السحر (الشعوذة). وكان شيخنا ابن عبد السلام يستضعف ذلك وينكره ويقول: إنما ذلك من خفة اليد، وليس بحسر، بخلاف ما يحكى عن غالب العجائبي من أنه كان يزرع الفقوس (ويجنيه) في ساعة واحدة فإنه سحر.
قال ابن عطية: روي أنهما (ملكان) اختصمت إليهما إمرأة، وحكى القصة، وضعفه ابن عطية من جهة السند.
قال ابن عرفة: بل هو ضعيف من جهة الاستدلال، فإنه قد قام الدّليل على عصمة الملائكة.
ولا يقال: إنهما كانا معصومين، ثم انتفت العصمة عنهما حينئذ، فإنّ ذلك إنما هو فيمن يتّصف بالحفظ لا بالعصمة، فيصح أن يحفظ تارة دون تارة، أما العصمة فلا تزول عمن ثبتت له أبدا (وقد) كان الشيوخ/ يخطئون ابن عطية في هذا الموضوع لأجل (ذكره) هذه الحكاية. ونقل بعضهم عن القرافي أن (مالكا) أنكر ذلك في حق هاروت وماروت.
386
قال ابن عرفة؛ وكان تَعلم السحر في (زمن) هاروت وماروت (جائزا)، وكانوا مأمورين بتعليم النّاس على جهة الابتلاء من الله تعالى لخلقه، فالطائع لا يتعلمه، والعاصي (يبادر) إليه ويتعلمه كما خلق الله السّم القاتل والحديد وغير ذلك مع أنه لا يجوز تناوله. فقوله على هذا: (فلا) يكفر، إما أن يراد به العمل أي تعلمه ولا تعمل به فتكفر، أو يرادُ به نفس العلم أي نحن يجوز لنا تعليمه وغيرنا لا يجوز له أن يتعلمه منا فلا نتعلمه فنكفر، فهم مباح لهم تعليمه للغير، وذلك الغير لا يباح له أن يتعلمه منهم، وكان التعليم حينئذ جائزا ثم نسخ فصار حراما.
وقال الزمخشري: أي فلا نتعلمه (معتقدا) أنه حق فنكفر.
ومنهم من قال: إن تعلمه جائز أو مطلوب ليفرق بينه وبين المعجزة والكرامة، ولكن ذلك في تعلمه على الجملة لا تعلمه مفصلا، وكلام الزمخشري هنا أنسب من كلام ابن عطية إلا في كلمة واحدة. (وبقوله) تعالى: «فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا» استشهد ابن التلمساني في كتاب القياس على أن الفاء تكون للاستئناف.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه... ﴾
ابن عطية: الضمير عائد على بني إسرائيل.
387
قال ابن عرفة: إمّا عموما أو على علمائهم. وقيل: على الشيطان، وقيل: على الملكين. وضعفه ابن عرفة، لأنه جمع فلا يصح الا على القول بأن أقل الجمع اثنان. فإن قلت: هلا قيل فحفظه في الآخرة جهنم، فهاذ أدل على (الخسران) في الآخرة، لأن فاعل المباح يصدق عليه أنه ليس له في الآخرة نصيب إذ لا ثواب فيه؟
قلنا: السياق يهدي إلى (أن) المراد له العذاب، وأن هذا القسم (منتف عنهم).
قوله تعالى: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾
قال ابن عرفة: جواب «لو» مقدر، أي لو كانوا يعلمون لما شَرَوْا، ولا يصح أنْ يكون جوابها: «لَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ» لأنه مذموم سواء شروه أو لم يشتروه، وسواء علموا أو لَم يَعلموا.
ابن عطية: من أَعَاد الضمير في «وَلَقَدْ عَلِمُواْ» على بني إسرائيل وينتقض ذلك عليه بقوله: «لوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ». فظاهره (أنّهم) لم يعلموا (ويمكن) أن يجاب عنه بأنه مجاز لأنّهم عملوا عمل من لا يعلم، فكأنهم لم يعملوا.
قال ابن عرفة: قال بعضهم: أو يجاب بأنّ قولك: كأن زيدا يعلم كذا، أخص من قولك: علم زيد كذا لاقتضاء (الأول)
388
تكرّر العلم له ودوامه حتى تطبع به، فأثبت في أول الآية لهم مطلق العلم الصادق بأدنى شيء وقال في آخرها: «لوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ» علما ثابتا حقيقيا لما باعوا أنفسهم بذلك. وشروا بمعنى بَاعُوا.
389
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْءَامَنُواْ واتقوا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ... ﴾
التّنكير هنا للتعليل بمعنى: أنّ الثواب من عند الله وإن قل في ذاته فهو خير من ذلك كلّه.
قال ابن عرفة؛ وجواب «لَوْ» إما نفس «قوله لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله» وإما نفس الثواب المفهوم منها، وإما مقدر.
قوله تعالى: ﴿لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا... ﴾
اختلف الأصوليون في صيغة افعل هل هو من قسم المركب أو من قسم المفرد؟ حكاه الأنباري في شرح المحصول. وقال صاحب الجمل: واللّفظ المركب إن دلّ بالقصد الأول على طلب الفعل كان مع الاستعلاء أمرا ومع الخضوع سؤالا ومع التساوي التماسا وإلا كان تنبيها إن لم يحتمل الصدق والكذب، وإن احتملهما كان خبرا وقضية (جعلها) من قسم المركب، فهل الآية حجة لأحد المذهبين أم لا؟ من ناحية أن القول إنما (يحكى) به الجمل لا المفردات؟ قال: لا دليل فيها لأن «رَاعِنَا» (قد) اتّصل به ضمير المفعول فهو مركب (هنا) بلا شك. وقرئ «رَاعِناً» بالتنوين على أنه نعت لمصدر محذوف أي قولا راعِنا. فعلى هذا المراد بذلك نفس القول وعلى (القراءة) الأخرى المقول له.
قوله تعالى: ﴿مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب... ﴾
مع أن الثابت في نفس الأمر أنهم ودّوا عدم نزول الخير، لكن ذلك مستفاد من السياق فلا يحتاج إلى التنصيص عليه.
قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا... ﴾
تكلم ابن عطية هنا كلاما حسنا من جملته أن قال: المنسوخ عند أيمتنا هو الحكم الثابت نفسه لا ما ذهبت إليه المعتزلة من أنه مثل الحكم الثابت فيما يستقبل، وقادهم إلى ذلك مذهبهم من أن الأوامر مرادة، ثم قال: والتخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به لأن المخصص لا يتناوله العموم فقط.
قال ابن عرفة: قالوا: وليس معناه أنه لم يكن (مرادا لئلا يلزم عليه كون الأمر غير الإرادة، وإنما معناه أنه لم يكن) متعلق الحكم، ومنهم من قال: رفع الحكم إن كان قبل العمل به فهو تخصيص وإن كان بعد العمل به فهو نسخ.
قال ابن عطية: وقد ينسخ الأثقل بالأخف كنسخ قتال الواحد للعشرة.
390
قال ابن عرفة: والثقل والخفة باعتبار المصالح، فقد يكون متعلق هذه المصلحة أرجح من متعلق المصلحة الأخرى أو مساويا لها. ولا شك أن وقوف الواحد للعشرة (ثوابه) يكون أعظم من ثواب ما هو أخف منه لكنه نادر، وليس بأكثري الوقوع فنسخ بما هو أخف منه وأقل ثوابا لكونه أكثري الوقوع، فيتعدد ثوابه ويكثر بتعدد وقوعه، والأخف بالأثقل كنسخ صوم عاشوراء/ بصيام رمضان.
قال: وأجمعوا على جواز نسخ القرآن بخبر الواحد.
قال أبو المعالي؛ إنه واقع في مسجد قباء لأنهم كانوا يصلون فيه العصر إلى بيت المقدس، فمر بهم بعض الصحابة، فأخبرهم أن القبلة حولت إلى مكة، فتحولوا في الصلاة. ومنع ذلك قوم، وقالوا: إنما نسخ بالقرآن. قال: ولا يصح نسخ النص بالقياس.
وقال ابن عرفة: لأن النص المقيس عليه إما أن يكون موافقا لذلك (النص) المنسوخ أو مخالفا فإن كان (موافقا) فلا نسخ، وإن كان (مخالفا) فهو النّاسخ (لا) القياس. ولا ينسخ النص بالإجماع لأنه إنما يكون في حياة النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والإجماع إنما هو بعد وفاته.
فيل لابن عرفة: قد حكى الأصوليون عن أبي مسلم أنه أنكر وقوع النسخ من أصله؟
391
فقال ابن عرفة: إنما ذلك في الفروع والأحكام الظنية، وأما باعتبار الملة فلا خلاف بين المسلمين في وقوعه وأنّه تنسخ ملة بملة. وإنما الكلام فيه باعتبار الشخص الواحد هل يصح نسخ الحكم في ملته (بحكم آخر أم لا) قولان.
قوله تعالى؛ ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَا... ﴾.
الخير باعتبار المصالح الشرعية، فقد يكون متعلق الحكم يستلزم مصلحة أرجح (من مصلحة أو مثلها ومعنى ﴿نُنسِها﴾ أي نؤخرها فتعجيل نسخها أو تأخير نزولها إنما هو لتعجيل الإتيان بما مصلحته أرجح). وفيه تأخير البيان إلى وقت الحاجة. واحتج الفخر الرازي في المحصول بهذه الآية على جواز النسخ ووقوعه.
ورد عليه السراج في التحصيل بأنها قضية شرطية لا تدل على وقوع ولا على إمكان الوقوع كقوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين﴾ وأجاب عنه ابن الخطيب شمس الدين الجزري بأن الاية خرجت مخرج المدح، والمدح لا يكون إلا بما (هو) واقع بالفعل لأن الله تعالى قال: ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. فقد أثنى على نفسه جل وعلا بذلك.
392
قال ابن عرفة: والتحقيق في هذا (أن) المدح دال على جواز النسخ وإمكانه لا وقوعه كما تقول: فلان قادر على أن يعطي ألف درهم وإن لم يعطها بالفعل، فالمدح بذلك دال على أن إعطاءه غير محال بل هو ممكن سواء وقع بالفعل أم لم يقع.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
قال ابن عطية: الهمزة (للتقرير).
قال ابن عرفة: التقرير في حق المرضي عنه ليس (كالتقرير) في حق غيره.
قال: فإن كان خطابا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فالمعادل محذوف تقديره: أم علمت ذلك، وضعفه ابن عرفة وأبو حيان بأن المعادلة إنما يحتاج إليها إذا كان الاستفهام عن أمرين يكون المتكلم شاكا في أحدهما فيطلب تعيينه. وأما إذا كان الإستفهام للتقرير فليس على هو حقيقته فلا يحتاج إلى المعادلة بوجه.
قال ابن عطية: وهو مخصوص بالقديم والمحال.
قال ابن عرفة: أما القديم فظاهر لأن القدرة لا تتعلق به، وأما المحال (فلا) يتناوله اللّفظ (بوجه)، لأنه ليس بشيء ولا سيما المحال عقلا.
393
ونقل بعض الطلبة عن شرح الأسماء الحسنى لابن (الدهاق) قولا بجواز تعلق القدرة بالمحال العقلي. ورده ابن عرفة بقول الإرشاد: العقل علوم ضرورية لجواز الجائزات واستحالة المستحيلات قال: فيلزم سقوط هذا القسم ولا قائل به.
قال ابن عرفة: وتقدم لنا (في الختمة الأخرى) في الآية سؤال، وهو أن النسخ تبديل آية بآية أو حكم شرعي بحكم شرعي، والحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، وخطابه كلامه القديم الأزلي، فهو راجع إلى الكلام القديم، والقدرة لا تتعلق بالقديم بوجه، وإنما تتعلق بالحادث فكيف حسن بعده أن يقال: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ؟ وأجيب بأنه نسخ ما ثبت وتقرر في الأذهان على سبيل اعتقاد الدّوام، وقد تقرر في الأذهان دوام الحكم الشرعي الذي هو مضمون الكلام القديم، فالنّسخ عبارة عن ارتفاعه.
وردّه ابن عرفة بأنّ ذلك الذي أنكر النسخ لم ينكره من حيث كونه تبديل اعتقاد باعتقاد، وإنّما أنكره لكونه يلزم عليه (البداء) لأن الحكم الأول كان مرادا لله فيصير غير مراد له وهو باطل.
(قال ابن عرفة: وإنّما عادتهم يجيبون عن السّؤال) بأنه لما كان المتبادر للذهن أنّ الشيء لا يرتفع إلا بثبوت نقيضه،
394
فإذا نسخ الحكم الشرعي المتضمن المصلحة إنما ينسخه حكم آخر يتضمن مفسدة فأخبر أن الله تعالى قادر على أن يصير الحكم الشرعي المتضمن للمصلحة، متضمنا لمفسدة باعتبار الأزمان فيكون الحكم في زمن متضمنا للمصلحة ثم يعود في زمن آخر متضمنا للمفسدة، (فحينئذ) ينسخه الله تعالى بحكم شرعي يتضمن مصلحة إما مثل الأولى أو أرجح منها.
قال ابن عرفة: وجاء الترتيب في الآية على أحسن وجه، فبين أولا جواز تعلق القدرة بكل شيء، ثم بين وقوع ذلك الجائز بقوله تعالى: ﴿لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ ثم بين (بعده) أن ذلك خاص لا يشاركه فيه غيره بوجه.
وقال ابن عرفة: والملك/ عبارة عن أهلية التصرف العام في جميع الأمور من المتملك، فمالك العبد ليس مالكا له حقيقة لأنه ليس له قتله ولا أن يضربه الضرب المبرح، فحقيقة الملك إنما هو لله تعالى.
395
قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُم مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾.
مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ والجواب (كالجواب) انه على تقدير أن يوجد ولي أو ناصر فلا يوجد إلا من هو في أنهى درجات الولاية والنصرة، فنفي ذلك (المعنى) المتوهم المقدر الوجود سواء.
قوله تعالى: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ... ﴾
395
إن كان الخطاب للمؤمنين فالمراد أن تسألوا الرسول الذي (أقررتم برسالته، وإن كان الخطاب للكفار فالمراد الرسول) الذي ثبتت رسالته إليكم في نفس الأمر.
قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل﴾.
قالوا: ﴿سَوَآءَ السبيل﴾ وسطه. ورد عليه ابن عرفة: أنه يلزمهم المفهوم وهو أنه يكون اهتدى لبعض سبيل الحق وهو جانباه والجواب: أن السبيل اسم جنس يعم طريق الحق والباطل و ﴿سَوَآءَ﴾ هنا هو طريق الحق منهما، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾
396
قوله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب... ﴾.
قيل لابن عرفة: ذكر بعضهم في الفاعل أنه يشترط فيه ما يشترط في المبتدإ إذا كان نكرة من أنه لا بد له من مسوغ، وذكره في قول الله جلّ ذكره: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ﴾ قال ابن عرفة: لم أسمع هذا من أحد إلا في المبادى كنت أسمعه في قول الجزولي أسند إليه فعل، أو ما جرى مجراه.
قال ابن عرفة: ومن دعا على مسلم أن يميته الله كافرا (ما يلزمه؟) فقال النووي: إن اعتقد مرجوحية الإيمان فهو
396
كافر، وإلا فهو عاص وإثمه أشد من إثم من دعا على الكافر أن يميته الله كافرا. والخلاف عندنا في شرطية النطق بالشهادتين هل لا بد منها مع القدرة عليها (أو) يكفي الاعتقاد؟ وأما إن صرح بكلمة الكفر فهو كافر بإجماع، وانظر سورة الحجرات.
قوله تعالى: ﴿مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق... ﴾.
إمّا أن كفرهم عناد أو ليس بعناد، بناء على أن ارتباط الدليل بالمدلول عادي أو عقلي فيكون الله تعالى (أنبأهم) ذلك في ثاني حال بعد أن علموه وتحققوه.
قوله تعالى: ﴿فاعفوا واصفحوا... ﴾.
قال ابن عرفة: العفو رفع الحرج عمن ثبت وتقرر كمن عفا عن قاتل وليّه بعد ثبوته القتل عليه (والصفح رفع الحرج عن الشخص قبل (ثبوت) موجبه كمن عفا عن قاتل وليه قبل ثبوت القتل عليه، قال: ويكون هذا ترقيا أي فاعفوا عنهم حتى تؤمروا بقتالهم.
397
قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَءَاتُواْ الزكاة... ﴾
إن قلت: هلا قيل: وأقيموا الصّلاة والزكاة فيكون أمرا بإقامتهما معا على أبلغ الوجوه؟
فالجواب: أنّه لما كانت الصّلاة متكررة مشقة على النّفوس أكّدها بالأمر، وهو الإتيان بها مستوفاة الشرائط، ولما كانت الزكاة لا تكرر فهي أخف، اكتفى فيها بالأمر دون تأكيد.
397
قوله تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله... ﴾
إن قلنا: إن المباح مأمور به فخير. أفعل من، لأن المراد بذلك كل ما فيه خير يفضل عن غيره فله فيه الأجر وإن قلنا: إن المباح غير مأمور به، فافعل فعل، لا فعل من.
قيل لابن عرفة: وكذلك المباح إذا كان مأمورا به فهو خير؟
فقال: وكذلك الحرام فيه خير باعتبار الدنيا، وإنّما المراد بالخير الأخروي وهو الثواب؛ وأما المباح فلا ثواب فيه؟
398
قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ... ﴾
قال ابن عرفة: حكاية هذه المقالة إما على سبيل الإبطال لها أو على سبيل التقرير لها والموافقة عليها (والأول باطل لئلا يلزم أن يكون كل فريق منهم على شيء، والثاني باطل لئلا يلزم عليه أنّها) لو حكيت على سبيل أنها حق لم يصح ترتب الذم عليهم مع أن مساق الاية يقتضي ذمهم على ذلك.
قال: وأجيب عنه: بأن اليهودية والنصرانية لهما اعتباران فهما من حيث أصلهما الذي نشآ عنه وهو موسى وعيسى حق ومن (حيث) دعوى المنتمين إليهما (والمتدينين بهما) باطل، فقول اليهود: «ليست النَصارَى عَلى شَيء» إبطال لأصل ملّة النصرانية وليس هو ابطال لدعوى المنتمين إليها، فحكيت هذه المقالة على معنى الإبطال لها أو ذمّ قائلها أي قولهم ذلك وإبطالهم له باطل، بل هم على شيء باعتبار أصل الملة لا باعتبار الدعوى وهذا حق وهو على حذف الصفة أي ليسوا على شيء ديني.
398
قال الزمخشري: هذه مبالغة عظيمة لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء.
قال ابن عرفة: الزّمخشري ضعيف في أصول الدّين، وقد تقدم الإجماع على أن المحال (ليس بشيء) باعتبار المعنى، واختلفوا في الإطلاق اللّفظي والتسمية هل يطلق عليه لفظ شيء أم لا؟ فمنعه أهل السنة وأجازه المعتزلة وهما مسألتان:
فهذه لا ينبني عليها إيمان ولا كفر، والأخرى توهّم أن للمعدوم تقررا في الأزل ويلزمهم بها الكفر.
قيل لابن عرفة /: لم قال: ﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب﴾ ولم يقل: وهم يعلمون الكتاب؟
فقال: التلاوة هنا تستلزم العلم.
قال ابن عرفة: فإن قلت: لم قال ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾ فجمع المقالتين (معا) هناك وفرقهما هنا ولم يقل: وقالوا ليست النصارى واليهود على شيء؟ (قال) : عادتهم يجيبون بأن المقالتين هناك محصورتان لا ثالث لهما فيعلم بالضرورة أن النصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، واليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا اليهود، وأما هنا فلو قيل: وقالوا: ليست اليهود والنصارى على شيء لأوهم أن المسلمين هم الذين قالوا ذلك (والكتاب) جنس (يشمل) التوراة والإنجيل.
399
قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾.
تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك وغيرهم.
400
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه... ﴾
وقال في آية أخرى: ﴿مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله﴾ وقال في سورة الزمر ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله وَكَذَّبَ بالصدق إِذْ جَآءَهُ﴾ فالجمع بين الآيتين يقتضي تساويهما في الظلم، لكن قام الدليل على أن مفتري الكذب على الله أشد ظلما ممن منع مساجد الله من ذكر الله فيها.
قيل لابن عرفة: يؤخذ من الآية أنه لا يجوز لهَؤُلاء الأيمة أن يغلقوا باب المسجد ولا أن يبنوا مسجدا لنقوض مسجد آخر؟ فقال رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أما غلق باب المسجد في غير أوقات الصلاة فهو حفظ له وصيانة إلا أن يكون الإمام مفرطا في الصلاة فيتركه مغلوقا لا يصلى فيه إلى آخر الوقت، وأما بناء مسجد بمسجد فلا يجوز وإن صار قاعة جاز جلوس الجنب والحائض فيه لأنه لم يبق له حرمة المسجد.
400
قال (في المدونة) في كتاب الأقضية: والقضاء في المسجد من الأمر القديم، ولأنه يرضى فيه (بالدون) من المجلس، وتصل إليه المرأة والضعيف.
قال ابن عرفة: وتقدم لنا أن رحابه هنا غير رحابه في الصلاة، فرحابه في الصلاة أوسع من هذا فلا يركع الفجر إلا في الصحن البراني الذي لا يحوزه (الغلق)، ويحكم هنا في رحابه التي هي صحنه الدخلاني.
قوله تعالى: ﴿أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه وسعى فِي خَرَابِهَآ... ﴾
قال ابن عطية: تضمنت الاية أن يكون قوله ﴿أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه﴾ مفعولا لأجله.
قال ابن عرفة: مفهومه أن منعها لغير هذه الحيثية لا يتناوله هذا (الإثم) بل إثمه أقل من ذلك.
401
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله... ﴾
قال في سورة المعارج: ﴿فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب﴾
401
قال ابن عرفة: إما على أن الأرض كروية فتعدد المشرق والمغرب ظاهر لأن كل موضع مغرب لقوم مشرق لآخرين، وإن قلنا: إنها بسيطة فهو مغرب واحد ومشرق واحد لكنها تتعدد بالفصول فمشرق الصيف غير مشرق الشتاء.
(قال ابن عرفة: وفيه إبطال للقول بالجسم والجهة، لأنه لو كان الإلاه جسما للزم عليه حلول الجسم الواحد في الزمن الواحد في مجال متعدد وهو محال).
قيل لابن عرفة: يقول صاحب هذا القول: إنه كالفلك فإنه دائر بالعالم كله بدليل قوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ والتولي إنما يكون فيما يحوزه الفلك بل في بعضه فقط. وإنما أبطلوا الجسمية بدليل آخر فكما أنّا أيْنَما (نولّ نَرَ) الفلك بعضه (فكذلك هو) لكن لا نراه والفلك جسم؟
فقال لفظ «ثَمّ» يقتضي وجوده في المكان الذي يقع فيه التولي حقيقة، وإذا كان كالفلك فليس هو في ذلك المكان.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾
قال ابن عرفة: هذا إما ترغيب وترهيب أي هو واسع الرحمة عليهم بأعمال العباد فيجازيهم عليها، وإما ترغيب وتأكيد للترغيب أي هو واسع الرحمة مع علمه بأعمال العباد، وهذا أبلغ في رحمته لأن الإنسان قد يرحم عدوه إذا كان جاهلا بِعَداوَتِهِ وعصيانه ولا يرحمه إذا علم بذلك.
402
قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً﴾
ذمهم بالوصف الأعم لأنّ اتخاذ الولد يصدق على الابن حقيقة وعلى ابن التبني.
قوله تعالى: ﴿بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض... ﴾
إن رجع الإضراب إلى قوله «سُبْحَانَهُ» فهو إضراب انتقال، وإن رجع إلى قوله: ﴿اتخذ الله وَلَداً﴾ (إضراب) إبطال.
قال ابن عطية: قرأ الجمهور «وَقَالُواْ» بالواو، وأسقطها ابن عامر، إما لأن هذه الجملة في معنى ما قبلها أو مستأنفة.
قال ابن عرفة: هذا بعيد لأنه أمر واحد ومقالة واحدة، إلاّ أن يكون التعدد باعتبار اختلاف الحالات والأشخاص. واحتجوا بالآية على أن أعمال العباد مخلوقة لله عَزَّ وَجَلَّ. واحتج بها اللّخمي على أن من ملك ولده عتق عليه، لأن (الآية) اقتضت منافاة الملك (للولدية) أى لو/ كان لله ولد لما صدق أنه
403
مالك لجميع ما في السماوات والأرض و (اللازم) باطل فالملزوم مثله.
وأجيب بالفرق بين المقامين فهذا ملك حقيقي وذلك ملك جعلي، فما يلزم من منافاة الملك الحقيقي للولدية منافاة الملك الجعلي لها.
قوله تعالى: ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾
قال ابن عطية: أي كل شيء له ملك.
قال الزمخشري: أي كل ما هو في السماوات والأرض.
ابن عطية: والقنوت إما الخضوع فيصدق على الحيوان والجمادات، وإما الطاعة، فالكافر يسجد ظله وهو (كاره).
قيل لابن عرفة: كيف يُوصَف الظل بالسّجود وهو هو موجود أم لا؟ فقال: الظل ظلمة خاصة باعتبار الكم والكيف فيجري على الخلاف في الظلمة: هل هو أمر وجودي أو عدمي؟ والصحيح أنها وجودية، ونص بعضهم على أن الظل عرض قام بجسم الهواء.
404
قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السماوات... ﴾
قال الزمخشري: هذا إما من إضافة الصفة المشبهة باسم الفاعل.
404
قال ابن عرفة: ف «بدِيعُ» صفة «السماوات». قال: أو من إضافة اسم الفاعل.
قال ابن عرفة: «بَدِيعُ» صفة الله تعالى أي مبتدع السماوات.
وقال أبو حيان: الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدإ، وقرئ بالنصب على المدح، وبالجر على البدل من الضمير في قوله «له»، وهي صفة مشبهة باسم الفاعل (والمجرور) مشبه بالمفعول، وأصله: بديع سماواته، ثم شبه الوصف فأضمر فيه ضمير عائد على الله ونصب سماواته على التشبيه. وقيل: بديع سماواته ثم أضيف فانجرَّ مِنْ نصب.
وقال الزمخشري: هو من إضافة الصّفة المشبهة إلى فاعلها واعترض بأن الصفة لا تكون مشبهة إلا إذا نصبت أو أضيفت عن نصب، أما إذا رفعت فليست مشبهة لأن عمل الرفع في الفاعل تستوي فيه الصفات المتعدية وغيرها، وأيضا بإضافة الصفة إلى (فاعلها) لا يجوز لأنه من إضافة الشيء إلى نفسه، وقد يتناول كلامه على أن معناه من إضافة الصفة المشبهة إلى ما كان فاعلا لها قبل أن تشبه. انتهى.
قلنا قوله: واعترض بكذا، نقل ابن عصفور في شرح الجمل عن الأستاذ أبي الحسن علي بن جابر الرماح أن الإضافة: في مررت برجل حسن وجهه، يمكن أن يكون من رفع، وأنه حكى ذلك عن أشياخه وحمل عليه كلام سيبويه واعترضه ابن عصفور فانظره.
405
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قضى أَمْراً... ﴾
أي أراد فيرجع للارادة القديمة (التنجيزية).
(وقال الزمخشري: إنه عبارة عن سرعة التكوين. فجرى على مذهبه.
وقال ابن عطية. أي قدر في الأزل وأمضى فيه).
406
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ... ﴾
قال ابن عرفة: إن أريد بهم مشركو العرب فواضح، وإن أريد أهل الكتاب فواضح، لأن جهل المشركين بسيط، وجهل أهل الكتاب مركب.
واستشكل الفخر قول من فسره بأهل الكتاب قال: لأنّهم يعلمون.
قال ابن عرفة: ويجاب بما قلناه: من أنهم جاهلون جهلا مركبا وكان بعضهم يقول: إنما نفى عنهم العلم لوضعهم الشيء في غير محله، لأنّهم طُلب منهم الإقرار بصحة الرسالة فَطَلَبُوا هم أن يكلمهم الله مشافهة وهذا مناف للرسالة لأن هؤلاء إذا حصلت لهم المباشرة بالكلام فلا حاجة إلى الرسالة.
406
قيل لابن عرفة: إنهم طلبوا أن يكلّمهم الله (بتصديق رسوله).
فقال: وفي هذا وقع الكلام معه، فإذا (بُوشروا) به فلا حاجة إلى الرسالة.
وقال: وتنكير «ءَايَة» لتعم (في) المعجزات كلها، وتفيد التقليل فهو محض مكابرة ومباهتة منهم (حتى) (كأنه) لم يأتهم بشيء من الآيات.
قوله تعالى: ﴿مِّثْلَ قَوْلِهِمْ... ﴾
قيل لابن عرفة: ما فائدة زيادة «مِّثْلَ قَوْلِهِمْ» مع أنه مستغنى عنه لأن التشبيه الأول (يكفي) في حصول المثلية؟ فأجاب بوجهين:
- إما أنه تأكيد في مقام التسلية للنَّبي صلى الله عليه وسلّم بتكذيب من قبله وتعنتهم.
- وإما أن قوله «كَذلِكَ» تشبيه لا يقتضي المساواة من جميع الوجوه بل (المقابلة)، لأن المشبه بالشيء لا يقوى قوّته فزاد «مِّثْلَ قَوْلِهِمْ» ليفيد كمال المماثلة والمساواة، ولم يقل: مثل كلامهم، لأن القول أعم من الكلام، ولازم الأعم لازم الأخص، فأفاد حصول المساواة في قولهم المفرد والمركب.
قوله تعالى: ﴿قَدْ بَيَّنَّا الأيات... ﴾
407
رد عليهم في قوله: ﴿أَوْ تَأْتِينَآءَايَةٌ﴾ ولم يرد عليهم قولهم: ﴿لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله﴾ لظهور بطلانه بالبَديهة.
قوله تعالى: ﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾
ابن عطية: اليقين عند الفقهاء أخص من العلم لأن العلم عندهم معرفة المعلوم على ما هو به، واليقين معتقد يقع للموقن في حقّه، والشيء على خلاف معتقده كتيقن (المقلدة) ثبوت الصانع. ثم قال: وحقيقة الأمر أنّ اليقين هو الأخص، وهو ما علم على الوجه الذي لا يمكن أن يكون إلا عليه.
قال ابن عرفة: كان ابن عبد/ السلام يقول: هذا كلام خلف، لأنه ذكر أنّ اليقين أخص ثم فسر بما يقتضي أنه أعم من العلم.
والصواب أن يقال: اليقين أخص من العلم لأن العلم أخص من الاعتقاد، فالاعتقاد أعمها ثم العلم، ثم اليقين، واليقين هو اعتقاد الشيء بدليل قاطع لا تعرض له الشكوك، والعلم اعتقاد الشيء بدليل يقبل الشكوك والمعارضة، وهي مسألة المدنة قال: إنّما اللغو أن يحلف بالله على أمر تيقّنه ثم تبين له خلاف ذلك فلا شيء عليه. وانظر ما قيدت في سورة الذاريات.
408
قوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بالحق... ﴾
الظاهر أن المعجزات هي المراد. وقدم البشارة على النذارة لأنّ القاعدة في محاولة الأمور الصعبة أن يبدأ فيها بالتلطّف والتيسير
408
ليكون أدعى للقبول، كما إذا كان لك جمل معك وأردت أن تدخله موضعا فإنك تسايسه بربيع تطعمه له أو تفتل شعره أو نحو ذلك، كما قال ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً﴾ قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم﴾
الظاهر أنها تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
409
قوله تعالى: ﴿وَلَن ترضى عَنكَ اليهود... ﴾
كان بعضهم يقول: غالب استعمال الملة فيما عدا الدّين المحمدي، ولذلك كانوا ينتقدون على أثير الدين الأبهري في كتابه في أصول الدين حيث قالوا: قال الملّيّون: يعني به الإسلاميين قال: وهذا على حذف وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ حَتّى تتبعَ مِلتهُم ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، وفيه المبالغة في لفظ «لَن» و «حَتَّى» وفي تكرير «لاَ».
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى الله... ﴾
يحسن أن يكون أمرا لكل واحد من الناس أن يقول ذلك.
قيل لابن عرفة: النصارى يوافقوننا على ذلك ويقولون: إن دينهم هُو هُدى الله؟
409
فقال: إن هُدَى الله على ثلاثة أقسام: هدى باعتبار ما في نفس الأمر، وهدى باعتبار الدليل العقلي، وهدى باعتبار الدعوى؛ فالمراد أن هدى الله الذي دل الدليل العقلي عليه هو الهدى، وهو الهادي إلى الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُم... ﴾
خطاب على سبيل التهييج والإلهاب، وعطف النصير على الولي تأسيس، لأن الولي إما أخص من النصير أو بينهما عموم وخصوص من وجه دون وجه. وعلى كل تقدير فالعطف تأسيس وانظر ابن عطية وانظر ما قيدت في سورة العنبكوت وفي سورة الفتح.
410
قوله تعالى: ﴿الذينءَاتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ... ﴾
ابن عطية: عن قتادة: هم المؤمنون بمحمد، والكتاب القرآن. وعن ابن زيد: هم المؤمنون بموسى عليه السلام، والكتاب التوراة، وقيل: الأربعون الواردون مع جعفر بن أبي طالب في السفينة.
قال ابن عرفة: المراد به الأنبياء والرّسل فقط. لكن يضعف لقوله «يُؤْمِنُونَ بِهِ» فكأنه إخبار بالمعلوم.
410
ابن عطية: ويصح أن يكون «يَتْلُونَهُ» حالا والخبر «أُوْلئِكَ يُؤْمِنُونَ».
ورده ابن عرفة: بأنه إخبار بالمعلوم فيمتنع كما امتنع أنّ الذاهبة جاريته مالكها، لأنّهم فسّروا: يتلونه «بمعنى يتبعونه بامتثال أوامره ونواهيه، وهذا هو حقيقة الإيمان به. لكن قال: هذا إنما يلزم إذا جعلنا الهاء من» به «عائدة على الكتاب، وأما إن أعدناها على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو على» الهُدَى «فيتم له ما قال.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن الحال من شرطها الانتقال فالتلاوة غير لازمة؟
فقال: الإخبار عن (المبتدإ) إنما هو (بصفته) والحال من صفته فإذا انتقلت انتقل الخبر.
قال ابن عرفة: وفي الآية رحمة وترجّ لكونها لم يذكر فيها إلا من آمن بالكتاب ومن كفر به، ويبقى من كان في زمن الفترة والمجانين والصغار مسكوتا عنهم لم يتناولهم هذا الوعيد. وجاءت الآية مفصولة بغير عطف غير موصولة مع أنهم شرطوا في ذلك اختلاف الجملتين بأن تكون إحداهما طلبية، والأخرى خبرية وكذا الأمر والنهي وهاتان متفقتان في الخبر لكنهما مختلفان.
411
قوله تعالى: ﴿اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ... ﴾
ذّكرهم بنعمة واحدة إشارة إلى أن التذكير باستحضار النعم الكثيرة من حيز المحال (تكليف) بما لا يطاق فلا يطيقون إلا الشكر على النعمة الواحدة.
411
قوله تعالى: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين﴾.
أي فضلت أمتّكم على الأمم: إمّا على أمم زمانكم لأن بعثة موسى عليه السلام لم تكن عامة لجميع الناس فكان في زمانه أمم أخرى، وإما على جميع الأمم التي قبله وبعده فتدخل فيه أمة سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لكثرة ما كان في زمن بني إسرائيل من الأنبياء. وليس المراد ب «العَالَمِينَ» جميع النّاس لأن سيدنا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل الخلق (على الإطلاق).
412
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ... ﴾.
جعله ابن عطية من باب «على لاحب يهتدي بمنارة».
قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ... ﴾
والعامل/ في إذ (مضمر) أي (اذكر) إذ ابتلى، ويعمل فيها عمل الفعل في المفعول به ولا عمله في الظرف لأنه يستحيل ذكره في ذلك الوقت. وقرئ برفع «إِبْرَاهِيمُ» ونصب «رَبَّهُ» ومعناه ابْتَلَى (ابراهيمُ) إجابة ربه، أي اختبر حاله عند ربه.
قيل لابن عرفة: فهل يجوز أن يختبر المكلف حاله عند ربه؟
412
فقال: أما عند الاضطرار فجائز كما في حديث الثلاثة الذين أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت عليهم من (أعلى الجبل) صخرة فسدت (فم) الغار فقالوا: تعالوا يتوسّل كل واحد منا إلى الله بأفضل عمل عمله، الحديث أخرجه الصحيحان.
قال: وكذلك عند الضرورة الظاهر الجواز.
قال الإمام فخر الدين هنا: والجمهور على أن إمامة الفاسق حال فسقه لا تجوز، واختلفوا في الفسق الطارئ هل يبطلها أم لا؟
قال: وخطأ أبو بكر الرازي من نقل عن أبي حنيفة إجازة كونه خليفة وامتناع كونه قاضيا.
قال: فإن شرط كل واحد منهما العدالة.
وفي الإكمال للقاضي عياض في كتاب الإمارة قال المازري: وإذا عقد الإمام على وجه صحيح ثم فسق وجار بأن كان يكفر وجب خلعه، وأما بغيره من المعاصي فلأهل السنة لا يخلع، وللمعتزلة يخلع.
عياض: الاختلاف أنها لا تنعقد لكافر ولا تدوم إن طرأ عليه الكفر، وكذا إن كان يترك الصلاة والدعاء لها، وكذا عند الجمهور بالبدعة ولبعض البصريين أنها لا تنعقد للمبتدع وتدوم له للتأويل.
عياض: لا تنعقد ابتداء للفاسق بلا تأويل، وهل يخرج منها بمواقعة المعاصي أو لا؟
413
قال جمهور أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا يخلع (بالظلم) والفسق وتعطيل الحقوق، ويجب وعظه وترك طاعته فيما لا يجب فيه طاعة.
وقال بعضهم: يجب خلعه، وهذا مع القدرة فإن لم يقدر على ذلك إلا بفتنة وحرب فاتفقوا على منع القيام عليه.
واحتج الزمخشري بهذه الآية على أن الفاسق لا يصلح للامامة.
قال ابن عرفة: لا دليل فيها، وفرق بين نيل العهد للفاسق وتعلقه به وبين انعقاد الإمامة للفاسق. فنقول: أمّا ابتداء فلا يصح أن يَلِي الإمامة الفاسق. وأما بعد الوقوع فتنعقد له الإمامة كما قالوا في البياعات الفاسدة: إنما تمنع ابتداء فإن وقعت مضت وحكم لها بحكم الصحيح.
قيل لابن عرفة: كيف هذا مع قول الله تبارك وتعالى ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ فقال: يكون الاصطفاء (لنفسه) فقط لا مطلقا.
414
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى... ﴾
أي محل رجوع، والرجوع ليس هو باعتبار الشخص الواحد المعين بل باعتبار الأنواع (فيحج) واحد ولا يرجع، ويحج آخر. ويحتمل أن يراد بالشخص الواحد المعين لكن لا يتناول إلا الأفاقِي فإنه يطوف طواف القدوم ثم يرجع إلى البيت فيطوف طواف الإفاضة. واتفقوا على أنه ليس المراد بالبيت حقيقة بل ما حولها فمن دخل المسجد الحرام فهو آمن.
قوله تعالى: ﴿وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود﴾.
ابن عطية: عن عطاء وغيره: الطائفون أهل الطواف، وعن ابن جبير: الغرباء الطارئون على مكة والعاكفون أهل البلد المقيمون. وعن عطاء: المجاورون بمكة الذين عكفوا بها فأقاموا لا يبرحون.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المصلون وعن غيره المعتكفون.
قال الزمخشري: المعتكفون الواقفون يعني القيام في الصلاة.
415
قال ابن عرفة: وقدم الطائفين لقرب الطواف من البيت (واختصاصه) به والعكوف في سائر البلد، وإن أريد به الاعتكاف فهو أحرى لأنه يكون فيه (وفي) كل مسجد تصلى فيه الجمعة ثم الرّكوع والسجود لأنه يكون في سائر المساجد والمواضع الطاهرة.
وقال السماكي: لأن العكوف يخص موضعا واحدا من المسجد والطواف يكون بجميع البيت فهو أعم والأعم قبل الأخص. قال وجمع: (الطائفين) جمع سلامة لأنه أقرب إلى لفظ بمنزلة يطوفون للاشعار بعلة تطهير البيت وهو حدوث الطواف وتجرده ولو قيل: الطواف: لم يفد ذلك لأن المصدر يخفي ذلك، وجمع العاكفين جمع سلامة لقربهم من البيت كالطائفين بخلاف الركوع والسجود فإنّه لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده، فلذلك لم يجمع جمع سلامة ولم يعطف (السجود على الركوع) لأنّ الرّكع هم السّاجدون ومن لم يسجد فليس براكع شرعا، ولأن السجود يكون مصدر «سَجَدَ» ويكون جمع «سَاجِد» ولو عطف لأوهم أنه مصدر.
فإن قلت: هلا قيل: السجّد، كما قيل: الركع، قال الله تعالى: ﴿رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً﴾ قلت: يراد بالسجود وضع (الجبهة على) الأرض ويراد به الخشوع ولو قيل (السجَّد) لم يتناول إلا السجود المرئيِ
416
بالعين، فقيل: السجود ليعم المعنوي والحسي بخلاف الركوع. وجعل السجود وصفا له لأن الخشوع روح الصلاة وسرها.
417
قوله تعالى: ﴿رَبِّ اجعل هذا بَلَداًءَامِناً... ﴾
قيل لابن عرفة: إنه دعا بصيرورته بلدا آمنا، فظاهره أنه لم يكن حينئذ بلدا فدعا (هنا بصيرورته بلدا ثم بعد حصوله بلدا دعا بما في) سورة إبراهيم؟
فقال: إنك تقول: رب اجعل هذا رجلا صالحا، فلم تدع بحصول الرجولية له بل بكونه صالحا.
قيل له/ قد ذكروا في الجواب عن معارضة الآيتين أنه لم يكن حينئذ بلدا فدعا هنا بصيرورته ثم بعد حصوله بلدا دعا بما في سورة إبراهيم؟
فقال: الظاهر أنه كان في موطنين فقال أولا: ﴿رَبِّ اجعل هذا بَلَداًءَامِناً﴾ ثم أعاد الدعاء في إبراهيم إما لأنه استجيب له وطلب دوام الأمن، أو تأخرت الإجابة وأعاد الدعاء تأكيدا، وإن كان ذلك منه في موطن (واحد) فيشكُل فهم الآيتين لأنه إن كان نطق به معرّفا فلِمَ حكى منكّرا، وإن قاله منكّرا فلِمَ حكي معرّفا؟ ومنهم من أجاب بانه على حذف الصفة أي اجعل هذا البلد آمنا، وخص بعض ذريته بالدعاء دون بعض إما لأنه علم أن (فيهم) الظالمين أو لأن الله أوحى إليه بذلك أو لأن هذا اسلام أخص فخصص البعض (به دون البعض).
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ... ﴾
قال: إنما فصل بين إسماعيل وإبراهيم بالمفعول (ليظهر كمال المباينة بينهما) لأن إبراهيم هو متولي البناء وهو الذي كان يضع الحجر في الحائط وإسماعيل إنما كان يناوله خاصة.
قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ... ﴾
مع قوله: ﴿رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ دليل واضح لأهل السنة في قاعدة الكسب لأن مجرد الدعاء بقبول العمل دليل على أن العبد مستقل بفعله والدعاء (بتحصيل) الإسلام دليل على سلب القدرة على العبد فالجمع بينهما موضح لقاعدة الكسب.
قوله تعالى: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً... ﴾
تقدم أن الواحد يطلق عليه «أُمَّة» وفيه تناقض كلام ابن الخطيب في المحصول.
قوله تعالى: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا... ﴾
المراد به موضع الهدى، وأما النسك فيذبحه حيث شاء من البلاد.
قوله تعالى: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَآ... ﴾
الصواب فيه انه باعتبار الانتقال من مقام إلى مقام أعلى منه (فيرى) في ذلك نقصا (يقتضي) التوبة لأن الكبائر (
418
تستحيل) على الأنبياء، وكذلك صغائر الخسة بإجماع، ويحتمل أن (يريد) (أعطنا ثواب التائبين.
فإن قلت: الرحمة سبب في التوبة فلَِم أخرها عنها؟
قلت: لأن الرحمة) وسيلة والتوبة مقصد والمقصد أشرف من الوسيلة.
419
قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ... ﴾
إعادة النداء للاهتمام بالسبب وزيادة «مِنهُم» تنبيه على عموم رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في العرب لأن ضمير الذرية يعم العرب والعجم لأن بعض كفار قريش زعم أنه لم يرسل إليهم.
قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ... ﴾
هذا جاء على الأصل في تقديم العلم أولا ثم (العمل) به لأن العلم شرط في العمل، ولذلك قال: كل شيء يمكن حصوله للولي الجاهل إلا العلم، لأن العلم لا يحصل له إلا بالتعلم وما يحكى في بعض المسائل عن الشيخ الصالح أبي الحسن علي الشاذلي وغيره إنما هي مسائل جزئية يمكن أن يطلعه الله على حكمها في مرآة يراها مسطورة بين يديه، فيجيب بما فيها، إنما العلم الكلي من حيث هو بحيث (يتصدى) لإقرائه وتعلمه فلم يوجد في العادة لأحد (
419
بوجه)، كذا كان بعض الشيوخ يقول.
وقدم هنا وفي الحزب الذي يليه بعده «يُعَلِّمُهُمُ» «يُزَكِّيهِمْ»، وآخّره في سورة الجمعة.
كان الشيخ محمد بن عبد السلام يقول: إنه بحسب المجالس فحيث تقدم التعليم تكون تلك الآية نزلت عليه بمحضر الخواص ومن هو أهل للتعليم، فيكون التعليم أَهَمّ، وحيث تقدم التزكية تكون الآية نزلت عليه في موضع أكثره عوام، فتكون التزكية في حقهم أهمّ.
قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾.
(لَمْ) يَقُلْ: الغفور الرحيم لأن العزيز هو الذي ينفذ مراده ولا ينفّذ فيه مراد (أحد) والحكيم هو الذي تضمنه قوله تعالى: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ وقوله ﴿وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾
420
قوله تعالى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ... ﴾
الاستفهام في معنى النفي، أى لا يرغب إلا السفهاء، وهذا إن كان المراد عقائد التوحيد فالملل كلّها متفقة على ذلك وخصص منها
420
ملة إبراهيم لشرفها واجتماع جميع الملل على اتباعها، وإن كان المراد به شريعته والأحكام الفرعية فلا شك أنها منسوخة (فالمراد) من يرغب عنها قبل (تقرر نسخها).
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين﴾
الآخرة هي التي يظهر فيها فائدة الصلاح في الدنيا. انتهى.
421
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ... ﴾
قال: هذا إما قول حقيقة بعد رؤية الكوكب والقمر والشمس وإما بمعنى الإلهام إلى/ ذلك وخلقه في قلبه بنصب الدلائل العقلية عليه.
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين﴾
إقرار بالحكم ودليله فلذلك لم يقل: أَسْلَمْتُ لَكَ.
قوله تعالى: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت... ﴾
421
ولم يقل: أم كنتم حضورا، لأن لفظ الشهادة تفيد الضبط والإحاطة بعلم الشيء.
فإن قلت: مفهوم الآية أنهم لو حضروا لذلك لصح لهم الاحتجاج به مع أنه حجة عليهم لأن يعقوب إنما أوصى بنيه بعبادة الله سبحانه وتعالى وتوحيده؟
فالجواب: أن المعنى: أم كنتم شهداء إذ قال ذلك، أم تقولون هذه المقالة وتدعون أنه أوصاهم (بغير ذلك).
قال ابن عرفة: لأن هذا الاستدلال على سبيل التقسيم عليهم والتنزل معهم على عادة المستدل، فأبطل قولهم بالدليل العقلي ثم احتج عليهم بالدليل السّمعي النّقلي فقيل لهم: أحضرتم لوصية يعقوب لبنيه، وتزعمون أنها كانت موافقة (لدعواكم)، أي ما لكم دليل عقلي ولا نقلي.
وتقديم يعقوب وهو مفعول على الموت للاهتمام لأنّ الآية (نزلت) في معرض إقامة الحجة على الكفار وإقامة الحجة إنما هي بإسناد الأمر إلى يعقوب لا للموت.
قال ابن عطية: والمعنى إذا حضر يعقوب مقدمات الموت، وإلا فلو حضره الموت لما قال شيئا.
قال ابن عرفة: لا يحتاج إلى هذا إلا لو قيل إِذْ نَزَلَ (بيعقوب) الموت. وأما حضور الموت فهو أعم من (نزولها) و (مقاربة) نزولها.
422
قوله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ... ﴾
قال الزمخشري: «مَا» علم في كل شيء فإذا (علم) فرّق ب «ما» و «من» وكفاك دليلا قول العلماء «مَنْ» لما يعقل ولو قيل: من تعبدون، لم يعم إلا أولي العلم وحدهم.
قال ابن عرفة: إن قلت: جعل «مَا» عامة تقع على «مَا» وعلى «مَنْ» فتقسم الشيء إلى نفسه وإلى غيره؟
(قلتُ) : جعلها مشتركة بين الأعم والأخص، فتارة وضعت لأن تدل على كل شيء وتارة وضعت للاختصاص بمن يعقل. فإن قلت: كيف قال «من» لما يعقل فأطلق «ما» على العاقل وهي لا تصدق عليه إلا مع غيره؟
قلنا: عادة الطلبة يجيبون بأنّها إنّما أطلقت عليه مقيدا بالعقل وإنما تخص غير العاقل عند عدم القرينة كقولك: رأيت ما عندك.
الزمخشري: ويجوز أن يقال «مَا تَعْبُدُونَ» سؤال عن صفة المعبود.
وضعفه ابن عرفة لقولهم «نَعْبُدُ إلهك» فلم يجيبوا بالصفة وإنما يصح ذلك لو قالوا: نعبد القادر السميع البصير.
فإن قلت: لم قال: «من بعد» فاتى ب «من» المقتضية لأول الأزمنة البعدية مع أنه لا يتوهم مخالفتهم ورجوعهم عن دينهم إلا بعد طوال الزمان (وأما) بالقرب من موته فلا يزالون متَّبعين له ومقتفين (لآثاره) ؟
423
قال الغاسل: عادتهم يجيبون بأن الآية أتت في معرض الرّد على اليهود، وهم يدعون أنهم متبعون لآبائهم فذكر لهم الوجه الذي يصدق على أولاد يعقوب أنهم متبعون له وذلك لا يصدق إلا بأول أزمنة البعدية، وأما (ما) بعد ذلك فقد يقال: إنّهم لم يتبعوا، بل تناسوا الأمر واتبعوا غيره والزمن القريب من موته يقوى فيه وجه الاتباع.
قوله تعالى: ﴿وإلهءَابَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ... ﴾
قال ابن عرفة: إن أجزنا استعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه (فالعم) يطلق عليه أب مجازا.
وجعله الزمخشري حقيقة واستشهد بحديث: «عم الرجل صنو أبيه» وبقوله في العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «هذا بقية آبائي».
ابن عطية وقال: «أنا ابن الذبيحين» قال: وعلى القول المشهور في أنه إسحاق. وهو قول مالك في العتبية، وإن كان اختيار ابن عطية في غير ما موضع أنّه إسماعيل وجعله أصح من القول الآخر، والوصف بقوله «وَاحِداً» دليل على أن لفظ الإلاه كلي ولذلك كان دليل الوحدانية نظريا وإلاّ (كان يكون) ضروريا.
424
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ... ﴾
ابن عطية: رد على الجبرية القائلين بأن العبد لا قدرة له وأنه كالميت بين يدي الغاسل.
424
زاد القرطبي: أن فيها ردا على المعتزلة القائلين بأن العبد يستقل (بفعله) لأن الآية دلت على الكسب لا على الخلق والاختراع.
قال ابن عرفة: إن كان الكسب في اللغة هو الذي اصطلح عليه المتكلمون، فما قاله حق وإلا لم يتم له ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ... ﴾
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾
فيه حذف، أي ولا يُسْأَلُونَ هم عما كنتم تعملون.
قال أبو حيان: «لَهَا مَا كَسَبَتْ» يجوز أن يكون حالإ من الضمير في «خَلَتْ» ويضعفه عطف «وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ» عليه، لأنها تكون حالا، وعطف الحال على الحال يوجب اتحاد الزمانين وزمان استقرار (الكسبين) مختلف.
وأجاب ابن عرفة بكون الثانية حالا مقدرة مثل، مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، أي قد خلت حالة كون (لها) ما كسبت وحالة كون (لمن) بعدها ما يكسب على تقدير (اكتسابه).
425
قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ... ﴾
قال ابن عرفة: هذا قياس استثنائي (في) قوة كلامهم (فيه) أنهم قصدوا استثناء غير المقدم فينتج عَين التالي وينتفي الثاني لانتفاء الأول، أي إن لم تكونوا هودا لم تهتدوا لكنكم لستم بهود فلستم بمهتدين.
وقاعدة الأصوليين استثناء عين التالي وينتفي/ الأول لانتفاء (الثاني) حسبما نص عليه ابن التلمساني في كتاب القياس فيجيء تركيبه: إن لم تهتدوا تكونوا هودا، وليس هو مرادهم بل مرادهم أن الهداية لازمة لدين اليهودية.
والجواب: أنهما متساويان إذا انتفى أحدهما لزم منه انتفاء الآخر والإضراب ب «بل» إبطال.
فإن قلت: هلا قيل: وما كان مشركا، فهو الأخص لأن نفي الأعم أخص من نفي الأخص لأنه يستلزم نفي الأخص؟
فالجواب أن النفي ورد على (وفق) دعواهم و (هم) ما ادعوا إلا أنهم متّبعون له وأنه كان على دينهم وهم مشركون لقولهم: عزير بن الله والمسيح ابن الله وادعائهم (التجسيم). والخطاب بقوله: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ... ﴾ لجميع الناس خوطب به كل واحد على
426
حدته وهو أولى من جعله خطابا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه مقابل لقول أتباع موسى وعيسى فيقابلون بقول أتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
427
قوله تعالى: ﴿قولواءَامَنَّا بالله﴾
قال ابن عرفة: فيه دليل على أن من قال: أنا مؤمن، لا يحتاج إلى زيادة: إن شاء الله، وهو قول سحنون.
قلت: قال ابن بطال في أوائل شرح البخاري هو قول ابن عبد الرحمان السلمي، وعطاء، وسعيد بن جبير، وإبراهيم التميمي وعون ابن عبد الله، (ورأى) زيادة الاستثناء ابن عبد الحكم وحمديس وابن عبدوس وأحمد بن صالح الكوفي.
قلت: ونقل لي بعض الطلبة عن الركراكي بالقيروان وكان صالحا أنه قال: لا أماته الله على الإسلام إن كان يعتقد أنه مسلم.
427
(قال: فسألت الفقيه أبا عبد الله محمد بن محمد بن سلامة. فقال: مراده إن كان يعتقد أنّه كامل الإسلام.
وقال لي شيخنا الفقيه أبو العباس أحمد بن إدريس: إنما أراد ما في حديث: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده»
قال ابن عرفة: والصواب أنه إن أراد: أنا مؤمن في الحال، لم يحتج إلى زيادة: إن شاء الله تعالى، وإن أراد المستقبل فلا بد من زيادة إن شاء الله، وهذه الآية إما خبر أو إنشاء فإن كانت خبرا فهو ماض لا يحتاج فيه إلا الاستثناء لأنه محقق عنده، وإن كان إنشاء فمدلولها حق صح الإخبار عنه على ما هو عليه من غير استثناء لأنه حق.
(ابن عرفة). والمسألة المتقدمة مذكورة في الفقه وفي المعالم الفقهية.
وقال أبو حيان: هنا في إبراهيم وإسماعيل (يجوز) أن يجمعا جمع سلامة فيقال: (ابراهيمون) وإسماعيلون.
قال ابن عرفة: كان بعضهم يمنع ذلك (فيه) لأنه عجمي. والله أعلم.
428
قال الزمخشري: والأسباط حفدة يعقوب عليه السلام (ذرارى) أبنائه الاثني عشر.
وقال ابن عطية: (هم أولاد) يعقوب وهم روبيل وشمعون ويهودا وداني ولاوى وكرد.
قلت: وتقدم لنا في الختمة التي قبل هذه قال بعض الطلبة لابن عرفة: ما الحكمة في تخصيص أول الآية بلفظ الإنزال و (ثانيها) بالإيتاء؟
فقال: لفظ الإنزال صريح فيما أنزل من أعلى إلى أسفل، ولفظ الإيتاء محتمل لأن يكون من اليمين والشمال والأمام والعلو، والنصارى (مؤمنون) بما أنزل على عيسى، واليهود (مؤمنون) بما أنزل على موسى لأنهم لا احتمال عندهم فيه ولا شك، ولما كانوا شاكين في المنزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى آل إبراهيم وما بعده وبعضهم يدعي أنهم (تلقوه) من الكهان، أتى فيه باللفظ الصريح الدال على نزوله من أعلى إلى أسفل ولهذا قال: ﴿وَمَآ أُوتِيَ النبيون مِن رَّبِّهِمْ﴾ لينفي هذا الاحتمال، فعورض بوجهين:
429
الأول قال بعض الطلبة: السحر إنما يتلقونه من الشياطين المسترقين للسمع فهو من أعلى إلى أسفل فلا احتمال في الإنزال كالاحتمال في الإيتاء.
- الوجه الثاني: قلت: (إذاً) إنّ النصارى كافرون بما أنزل على موسى واليهود بما أنزل على عيسى فالاحتمال لم يزل أقال في هذه: ﴿وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا﴾ وفي آل عمران ﴿قُلْءَامَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا﴾ قال ابن الخطيب: إنّ «على» صريحة في حصول الشيء من فوق «وإلى» يحتمل حصوله من إحدى الجهات السْبب. والخطاب في قوله «ءَامَنَّا» بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقرآن أنزل عليه حقيقة من السماء. والخطاب هنا للمؤمنين، وإنما حصل لهم القرآن من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (ولم يحصل) لهم من فوق.
وأورده الزمخشري في آل عمران، وأجاب بأن الوحي يتنزل من فوق وينتهي للرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر، قل ومن قال علينا لقوله قل: «إِلَيْنَا» لقوله «قُولُواْ» فقد تعسف، ألا ترى إلى قوله «بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» وإلى قوله ﴿ءَامِنُواْ بالذي أُنزِلَ عَلَى الذينءَامَنُواْ﴾ وأجاب ابن عرفة بجواب آخر: وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما كان خاطره إلى العالم العلوي أميل، إذ في السّماء الجنّة والعرش والكرسيّ والملائكة، ناسب تعدي الإنزال إليه ب «على» ليشعر
430
بإتيانه من الجهة الشريفة المحبوبة بخلاف هذه فإنّ فيها «قُولُوا» وهو خطاب له ولغيره.
وأجاب ابن عرفة وبعض طلبته عن تخصيص أول الآية بالإنزال وآخرها بالإيتاء بأنه لما/ كان ظهور المعجزات الفعلية على يد موسى وعيسى أكثر (وأشهر) من ظهورها على يد إسحاق ويعقوب وإبراهيم لأن موسى ضرب البحر فانفلق، وألقى العصا فعادت ثعبانا، وأخرج يده فصارت بيضاء من غير سوء، (ورفع) من على البئر الصخرة لابنة شعيب، ووضع ثوبه على حجر، ودخل النهر فمضى الحجر به فتبعه وهو يقول: ثوبي حجر.
وعيسى كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله، فناسب لفظ الإيتاء سَيدَنَا إبراهيم عليه السلام وأولاده فإن اشتهارهم بإنزال الوحي أكثر من اشتهارهم بالمعجزات.
431
قوله تعالى: ﴿فَإِنْءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ... ﴾
قال ابن عرفة: الباء: إما للسبب والمراد أسباب إيمانكم وهي البراهين والمعجزات، أو للتعدية (به) والمراد متعلق الإيمان وهو الإلاه؛ فإن كان للسبب فواضح أي «فَإِنْءَامَنُوُاْ» بسبب مثل الأسباب التي أرشدتكم أنتم إلى الإيمان فقد اهتدوا، وإن أريد متعلق الإيمان فمشكل.
431
قال ابن عطية: فقيل الباء زائدة (وقيل مثل الزائدة) وقيل: إنَّه مجاز والمراد (من مثل) الشيء ذات الشيء كقولك: مثلك لا يفعل هذا.
زاد الزمخشري: أنه تبكيت لهم كقولك: هذا هو الرأي، فإن كان عندك أصوب منه فاعمل عليه وقد علمت أنه لا أصوب منه.
فإن قلت: هلا قيل: فَإِنْءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنتُم بِهِ كما قيل: فَإِنَّمَا هم «مهتدون»، كما قيل ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ ؟ قلنا هذا تأكيد في التنفير عن دين الكفر واهتمام لتخفيف جانب الخوف على جانب الرجاء.
قوله تعالى: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله... ﴾
يتضمن كفاية شرهم وقتالهم (وكلّ ما) يصدر عنهم من المضار وهو أبلغ من (أن) لو قيل: فسيكفيك الله شرّهم. وقول الله كفايته إياهم بنفسه اعتناء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ السميع العليم﴾.
الزمخشري: وعيد لهم أو وعد للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
432
قال ابن عرفة: بل هما معا فهو وعد ووعيد.
433
قوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً... ﴾
قال ابن عرفة: هذا في معنى: الله أحسن صبغة من غيره مثل: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً﴾ أي الله من أصدق من غيره. قال: وهذا التركيب يرد على وجهين تقول: زيد أحسن القوم، وتقول: لا أحسن من زيد في قومه، فيقتضي الأول نفي الأعلى والمساوي (ويقتضي) الثاني نفي الأعلى فقط.
قال الزمخشري: وانتصاب «صِبْغَةً» على أنّه مصدر مؤكد وهو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حذام.
قيل لابن عرفة: هذا هو معرفة الحق بالرجال؟
فقال: نعم الذين لا يعرف الحق إلا منهم، وهذا صواب. انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾
راجع للعمل ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ للإيمان الاعتقادي التوحيدي فتضمنت الآية العلم والعمل.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ... ﴾
سماها حجة مجازا وإنما هي شبهة وليست حجة بوجه.
قوله تعالى: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ... ﴾
433
«أَمْ» إما متصلة والمعنى: أي الأمرين تأتون المحاجة في حكم الله أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء، وخلط هنا مقالتهم مع أن اليهود ادعوا على الأنبياء دين اليهودية فقط؛ وإما منفصلة والإضراب انتقل إلى ما هو (أشد) وأشنع.
قال ابن عرفة: وقوله: ﴿قُلْءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله... ﴾ دليل على أنها منقطعة لأنه رد عليهم في المقالة الثانية فقط أي لم يكونوا كذلك.
وقوله «أَمِ اللهُ» إما على ظاهره أو المراد به أمْ رسول الله، كما قال الله جل ذكره: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ وهو على سبيل التنزل معهم والإنصاف (أو) من باب تجاهل العارف
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله... ﴾
جمعه مع ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله﴾ ومع ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله﴾ يقتضي التساوي إلا ما دل الدليل على (التفاوت) فيه (بل أقوالهم تضمنت كتم الشهادة فيقال: إنما علق الظلم على الكتم ليعلم أن شهادة الزور أعظم جريمة فقد وعده بالعذاب على الوجهين (ووبخوا) بفعل ما ارتكبوا من ذلك) والشهداء على ثلاثة أقسام: شاهد بالحق، وشاهد
434
بالزور، وكاتم للشهادة، فلا يشهد بشيء) مع علمه بها. وهؤلاء شهدوا بالزور ولم يكتموا الشهادة فقالوا: ﴿كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى﴾ فعلق الحكم على الأخف ليفيد العقوبة على ما هو أشد منه من باب أحرى.
قال الزمخشري: ويحتمل أن يرجع للمؤمنين، أي لو كتمنا الشهادة لم يكن أحد أظلم منا فلا يكتمها.
قوله تعالى: ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾
من باب السلب والإيجاب لا من باب العدم والملكة.
435
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ... ﴾
راجع للأنبياء والأمم السالفة.
قيل لابن عرفة: هم إنما ادعوا أنهم ينتفعون بعلمهم / لا أنهم يسألون عن (علمهم) فقالوا: كونوا على ديننا، ونحن متبعون لهم لننتفع بعلمهم. فهلا قيل: ولا (ينفعهم) علمهم؟
فقال: هذا (استدلال) أي اعلموا أنّهم (لم يضركم عملهم) فكما لا يضركم كذلك لا ينفعكم، أو يكون فيه حذف أي لا تُسألون عما كانوا يعملون ولا يُسألون هم عما (أنتم) تعملون.
435
قلت: وتقدم في الختمة الأخرى قال بعض الطلبة ﴿قُلْءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله﴾ يقتضي نفي العلم عنهم، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله﴾ يقتضي ثبوت العلم لهم إذ لا يكتم إلا من علم؟
فأجيب بوجهين:
الأول: ﴿ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ﴾ لا يقتضي نفي العلم بل مقتضاه أن العلم الحاصل لهم لا يقارب علم الله ولا يدانيه.
الثاني: أن العلم المنفي أولا غير المثبت آخرا، فالمنفي هو العلم بأنّهم كانوا هودا أو نصارى، والمثبت الّذي (ذُمّوا) على كتمه هو العلم بأنّ إبراهيم كان (حنيفا) مسلما، فهم أولا ادّعوا ما لا يعلمون (ثم كتموا ما يعلمون).
436
قلت: وتقدم في الختمة الأخرى قال بعض الطلبة ﴿قُلْءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله﴾ يقتضي نفي العلم عنهم، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله﴾ يقتضي ثبوت العلم لهم إذ لا يكتم إلا من علم؟
فأجيب بوجهين:
الأول: ﴿ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ﴾ لا يقتضي نفي العلم بل مقتضاه أن العلم الحاصل لهم لا يقارب علم الله ولا يدانيه.
الثاني: أن العلم المنفي أولا غير المثبت آخرا، فالمنفي هو العلم بأنّهم كانوا هودا أو نصارى، والمثبت الّذي (ذُمّوا) على كتمه هو العلم بأنّ إبراهيم كان (حنيفا) مسلما، فهم أولا ادّعوا ما لا يعلمون (ثم كتموا ما يعلمون).
447
قلت: وتقدم في الختمة الأخرى قال بعض الطلبة ﴿قُلْءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله﴾ يقتضي نفي العلم عنهم، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله﴾ يقتضي ثبوت العلم لهم إذ لا يكتم إلا من علم؟
فأجيب بوجهين:
الأول: ﴿ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ﴾ لا يقتضي نفي العلم بل مقتضاه أن العلم الحاصل لهم لا يقارب علم الله ولا يدانيه.
الثاني: أن العلم المنفي أولا غير المثبت آخرا، فالمنفي هو العلم بأنّهم كانوا هودا أو نصارى، والمثبت الّذي (ذُمّوا) على كتمه هو العلم بأنّ إبراهيم كان (حنيفا) مسلما، فهم أولا ادّعوا ما لا يعلمون (ثم كتموا ما يعلمون).
448
قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس... ﴾.
جعله الزمخشري مستقبلا حقيقة، قال: وفائدة الإخبار به قبل وقوعه لأن مفاجأة المكروه أشد والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع.
قال ابن عطية: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وغيره أنه مِنْ وضع المستقبل موضع الماضي (لدلالته على دوام) ذلك واستمرارهم عليه.
قال ابن عطية: وإنّما قال ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ لأن السّفيه يكون من الجمادات والحيوانات، (يقال) : ثوب سفيه أي خفيف النسج.
ورده ابن عرفة بأنّ القول المسند إليه في الآية يخصصه بالحيوان.
قال: وإنما عادتهم يجيبون بأمرين: أحدهما أنه لو لم يذكر لاحتمل كون هذا القول من الجن وكان يكون (ضمير) الغيبة في قوله: ﴿مَا وَلاّهُمْ عَن قِبلَتِهِمْ﴾ مرجحا لهذا الاحتمال.
ويقال: لو كان من (الإنس) لقيل ما ولاهم عن قبلتكم لحضورهم معهم، فقيل: ﴿مِنَ النّاسِ﴾ لِيخرج الجن قال الله تعالى:
﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾
449
الثاني أنه (إشارة) إلى أنّ هذا القول صدر من رؤسائهم وأشرافهم ومن المنافقين الذين آمنوا ظاهرا، أو من علماء اليهود ولم يصدر من العوام والجهال بوجه وذلك على سبيل (النفي) عليهم والتبكيت لهم فكفر أي جهل ليس ككفر غيره.
قوله تعالى: ﴿مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمْ... ﴾
عبر بلفظ الغيبة إشارة إلى أنّهم قالوا ذلك فيما بينهم ولم يباشروا به المؤمنين بوجه، وهذا مرجح لأن تكون المقالة من المنافقين.
قال العلامة ابن العربي في القبس: إن هذا مما نسخ ثلاث مرات وليس في القرآن ما نسخ ثلاث مرات غيره.
قال ابن عرفة: يريد أنه كان يصلي لبيت المقدس ثم نسخ بالصلاة للكعبة، ثم نسخ فصلى لبيت المقدس ثم نسخ فصلى للكعبة وقيل: كان يصلي لمكّة ثم صلى لبيت المقدس ثم صلى لمكة فيجيء التحويل ثلاث مرات والنسخ مرتين.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّهِ المشرق والمغرب... ﴾
450
أى ليس استقبالهما لذاتهما فيسأل عن سبب التخلف عنه وإنما ذلك حكم شرعي لا اختيار له فيه بوجه، وفيه دليل على أن لحكم الشرعي إذا لم تظهر لنا علته فالأصلُ فيه التعبد.
451
قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً... ﴾
أي ومثل هدايتنا من (نشاء) إلى صراط مستقيم (هديناكم) إلى الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن عطية: عن بعضهم؛ خير الأمور أوسطها أي خيارها.
قيل لابن عرفة: لا فائدة في هذا الخير وكأنه قيل: خير الأمور خيارها؟
فقال: فائدته الحصر (ولو قال) : الخير في الوسط، لم يفد الحصر.
قال ابن عرفة: إنما قال: ﴿عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ ولم يقل: لكم شهيدا، لأن شاهد الإنسان مستعمل عليه إذ لا يتم له غرض إلا بشهادته.
قال الزمخشري: لأن الشهيد كالرقيب المهيمن على المشهود (له).
451
قيل لابن عرفة: ذكر الأصوليون خلافا في إجماع غير هذه الأمة هل يعتبر أو لا؟
وذكر ابن التلمساني وابن الحاجب منه مسائل وهذه الآية تدل على عدم اعتباره؟
فقال: ذلك الخلاف لا يصح، (والإجماع) (على) انتساخ الملل كلها بالملة المحمدية.
قيل لابن عرفة: قد تقرر الخلاف في شرع من قبلنا هل هو شرع لنا أم لا؟
قوله تعالى: ﴿لِّتَكُونُواْ... ﴾.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ... ﴾.
قيل: أي ليعلم رسولنا من يتبعه، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ وقيل: إلا ليظهر متعلق علمنا حقيقة للمجازات عليه وإنما لم يقل: إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن لا يتبعه، زيادة في نفي الشدة عليهم والخسران.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ... ﴾
452
أي ليضيع أعمالكم. وقيل: إنها حجة على المعتزلة في أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، إلا أن يجيبوا بأن إيمانه يذهب بالموازنة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾.
دليل على أنّ الكافر منعم عليه لعموم الناس، وفيه خلاف، وأجيب بأنه منعم عليه في الدنيا فقط.
قال ابن الخطيب في شرح الأسماء الحسنى: إنما قدم الرؤوف على الرحيم لأن الرحمة في الشاهد إنما (تحصل) لمعنى وفي / المرحوم من حاجة (و) ضعف، والرأفة تطلق عند حصول الرحمة لمعنى في الفاعل من شفقة منه على المرحوم فمنشأ (الرأفة كمال في إيصال الإحسان ومنشأ) الرحمة كمال حال المرحوم في الاحتياج إلى الإحسان، وتأثير حال الفاعل في إيجاد الفعل أقوى من احتياج المفعول إليه.
453
قوله تعالى: ﴿قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء... ﴾
قال الزمخشري: قد نرى بما نرى، ومعناه كثرة الرؤية كقوله: قد أترك القرن مصفرا أنامله (كأن أثوابه مجت بفرصاد).
453
أبو حيان: في كلامه تضاد لأن (رُبَّ) للتقليل عند المحققين، ثم إن اللفظ من حيث (قُرِّر) ليس فيه ما يدل على التكثير لأن دخول «قَدْ» على الفعل ماضيا (كان) أو مضارعا لا يفيد هذا المعنى وإنما فهمت الكثرة من التقلب لأنه يقال: قلّب إذا ردّد.
قال (كاتبه) : كلام الزمخشري عندي صحيح لا تضاد فيه. نبه عليه في قول الله سبحانه وتعالى ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ﴾ في جواب الإتيان بلفظ النفس مفردا. قال: هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراد فيما يعكسونه. ومنه قول الله تعالى: ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ﴾ ومعناه أكثر وأبلغ؟ ومنه قول الشاعر
قد أترك القرن
(البيت المتقدم). وتقول لبعض قواد العساكر: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: «رب فارس عندي»، أوْ «لاَ تقَدّم عندي فارس» وعنده الكثير فيقصد التمادي في تكثير فرسانه ولكنه أراد إظهار براءته من التزين وأنه (ممن) يقلل كثيرا ما عنده، فضلا عن أن يزيد. فجاء بلفظ التقليل، ففهم منه لفظ الكثرة. انتهى كلامه.
قلت: فظهر أنّ أبا حيان لم يفهم كلامه ولا أنصفه.
وكان الخولاني يجيب عن الزمخشري بأن (رُبَّ) إذا اقترنت بها (ما) تكون للتكثير ولا حاجة بهذا وإنما الجواب ما قلناه. انتهى.
454
قال ابن عرفة: أي تقلبه في جهة السماء والرؤية في كل مكان وهو دليل على أن القول من السفهاء مستقبل غير واقع كما قال الزمخشري. وتنكير القبلة للتعظيم، وفيه دليل عل أنّ السّماء قبلة للدّعاء، وفيه دليل على جواز القسم على فعل لأنه لما قال: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً﴾ عطفه بقوله ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ إذا ليس مراد النحويين بالحال الحال العقلي، بل إنما يريدون الحال الحقيقي أو ما يقرب منه.
قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام... ﴾.
المعتبر في القبلة، فيمن يرى البيت العين، وفيمن يصلي على جبل أبي قبيس السمت، وفي البعيد عنه الجهة.
قوله تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ... ﴾
هو دليل على أن الأصل من أفعاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عدم التأسي حتى يدل الدليل على التأسي ولولا ذلك لما احتيج إلى قوله: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ﴾.
قال ابن عرفة: وأجيب بأن القرب مظنة الاستقبال بخلاف البعد.
قال الزمخشري: وقيل كان التحويل إلى القبلة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمسجد بني سلمة وقد صلى في أصحابه ركعتين من الظهر فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب وحوّل الرجال مكان النساء والنّساء مكان الرجال.
455
قال ابن عرفة: فيه دليل على أن المعتبر في النسخ يوم البلاغ لا يوم النزول.
قال القرطبي: وفيه دليل على (جواز نسخ) المتواتر بالآحاد.
قيل لابن عرفة: هذا إن قلنا: إنّ الأصل مشروعية القبلة (كانت) بالقرآن وقد قيل: إن أصل مشروعيتها بالسنّة؟
فقال: على كلا الأمرين (فكلّه) وحي في زمن النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهو متواتر. وكذلك نسخها هو بخبر واحد اختلفت قرينته في حياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع العلم بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من كذب عليّ (متعمدا) فليتبوأ مقعده من النار» فيكون محصلا للعلم كخبر التواتر سواء.
456
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ... ﴾.
قال ابن عرفة: في هذا تهدئة (روعته) صلّى الله عليه وسلم وتطمين له حتى لا يتهالك على عدم إيمانهم وهو عام في جميع المعجزات.
456
قيل لابن عرفة: إن الإمام ابن العربي قال: لا يناول الآيات النظرية وأما الآيات (الملجئة) الاضطرارية فلا، لأنّ الإيمان عندها ضروري؟
فقال: بل يتناول الجميع لأنّا نقول: إنّ ربط الدليل بالمدلول عادي لا عقلي، أو نقول: إن في الجائز: إن يستدل المستدل بالدليل الصحيح ويعمي الله بصيرته عن العثور على الوجه الذي يدل الدليل منه، أو نقول: إن الإيمان الاضطراري ليس إيمانا بوجه ولا يترتب عليه ثواب لأنه ليس للمكلف فيه اختيار. وفي الآية دليل على أنّ ارتباط الدليل بالمدلول عادي لا عقلي. وفيها رد على المعتزلة القائلين بمراعاة الصلاح والأصلح وأنّ الآيات التي يمكن الإيمان عندها قد أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بجميعها وليست القدرة / صالحة لغيرها فقوله: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ﴾ (دليل على أنه لم يأتهم بكل آية) وأن القدرة صالحة للإتيان بآيات أخر.
قوله تعالى: ﴿مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ... ﴾.
قال ابن عطية: أي جواب (إن) كجواب (لو) وهي ضدها، لأن (لَوْ) تطلب المضي (والوقوع) و «إِنْ» تطلب المستقبل، والجواب إنما هو للقسم لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر هذا قول سيبويه. وتعقب هذا أبو حيان بأن أول كلامه يقتضي أن الجواب لِ «
457
إن» مع أن قوله بالجواب للقسم (يقتضي) أن الجواب ليس لِ «إن».
قال ابن عرفة: إنما ذلك سلب حكم، لا حكم بالسلب فلا تناقض فيه.
قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ... ﴾.
نفى الأول بالفعل وهذا بالاسم ولم يقل: وما أنت تتّبع قبلتهم، مع أن النفي بالفعل أعم لأنه مطلق، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص.
قال ابن عرفة: الجواب أن الأول جاء على الأصل في أنهم مصممون على عدم اتباعه وأما نفيه هو بالاسم فلأن أفعاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثابتة لازمة فهو إذا اتبع أمرا ثبت عليه ولا ينتقل عنه فنُفي على حسب ما هو عليه.
قيل لابن عرفة: فيكون هذا نفي أخص؟
فقال: لا. بل ورد النفي عليه على حسب ما وجد إذا لو (وجد) اتباعه أمرا لما وجد إلا على سبيل الثبوت واللزوم.
قيل: أو يجاب بأنه قد كان تابعا قبلتهم ثم انتسخ ذلك.
فقال: هذه الآية نزلت بعد النسخ و «ما» لنفي الحال، واتّباع قبلتهم (ماض).
قوله تعالى: ﴿وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ... ﴾.
458
لأن اليهود يستقبلون بيت المقدس والنصارى يستقبلون الشمس من حيث تطلع.
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتبعت... ﴾.
راعى ابن عطية الأمر العادي فصرفه عن ظاهره وحمله على غير النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وراعى الزمخشري الأمر العقلي فأبقاه على ظاهره، وقال: وهو على حسب الفرض والتقدير من خطاب التهييج والإلهاب.
قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين﴾.
أي إنك لغريق في الظلم.
قال ابن عرفة: ويحتمل أن يكون هذا من باب السلب والإيجاب مثل «الحائط لا يبصر» لأنّ النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ معصوم من اتّباع أهوائهم.
قيل لابن عرفة: لا يصح التكليف بذلك لأنه من تكليف العاجز؟
فقال: الأشياء على ثلاثة أقسام: موجود، وقابل للوجود، ومستحيل. فالإبصار للحائط غير محال إذ في الجائز أن يخلق الله فيه الإبصار فيبصر، هذا (هو) مذهبنا، لأنا لا نشترط (البنية).
459
وكذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معصوم من اتّباع (أهوائهم) لكنه (كلف) بذلك. وجعل ذاته قابلة للاتباع باعتبار اعتقاد الكفار فيها قبول ذلك وأنّها عندهم غير معصومة لا باعتبار ما في نفس الأمر.
قال ابن عرفة: وفيه دليل على أنّ عقوبة العالم أشد من عقوبة الجاهل.
460
قوله تعالى: ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ... ﴾.
أي يميزونه بصفاته من حيث كونه رسولا. (كما يعرفون) أبناءهم (من حيث كونهم أبْنَاءهم، أو يكون من تشبيه المركب بالمفرد، أي يعلمونه بصفاته من حيث كونه رسولا كما يعرفون أبناءهم) بالإطلاق لا من حيث النسبة كما قال عبد الله بن سلام: إنه لا يتحقق أن ابنه المنسوب إليه ابنه حقيقة، ويتحقق رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علما يقينيا.
قال ابن عطية: لم شبّه معرفتهم له بمعرفتهم أبناءهم ولم يشبهها بمعرفتهم أنفسهم؟
وأجاب بأن الإنسان يتقدم له زمن لا يعرف فيه حال نفسه وهو زمن الصغر بخلاف ولده فإنه يشاهده من صغره إلى كبره.
460
قال ابن عرفة: ويحتمل عندي أن يجاب بأن ذلك التشبيه للمشاكلة لأن الكتاب منفصل عنهم فشبه بما هو منفصل عنهم وهو الولد بخلاف أنفسهم.
قوله تعالى: ﴿لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
وباقيهم إما يقرون بالحقّ، أو يكتمون الحق وهم يجلهون. وهذا دليل على أن كفر الأولين عناد.
قلت: تقدم لنا في الختمة الاخرى عن الشيخ الإمام ابن عرفة وهو أن آخر الآية مناقض لأولها لأن قوله ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ﴾ دليل على أن جميعهم يعلمونه.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق... ﴾.
دليل على أن بعضهم يجهلونه.
فإن قلت: إنما مقتضاه أن باقيهم يعلمون الحق ويظهرونه؟
قلنا: لا يصح لوجهين: الأول: أن الضمير المجرور في قوله ﴿مِّنْهُم﴾ عائد على ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب﴾ وقد قالوا: إن ﴿الذين﴾ بدل من ﴿الظالمين﴾، فإذا كان كذلك بطل أن يكون بعضهم عالمين به ومظهرين له إذ لا يسمى فاعل ذلك ظالما.
- الثاني: ﴿إِنَّ فَرِيقاً﴾ إنما يطلق على القليل من الجماعة ولا يقال للنصف (فريقا) (فيلزم) أن يكون أكثرهم مظهرين للحق، وذلك مخالف لسياق الآية لأنها إنما سيقت لذمهم.
461
وأجاب ابن / عرفة عن الإشكال باحتمال كون فيهم مِن علِم وتحقق ولم تعرض له شبهة توجب له الريبة والشك في علمه فهؤلاء هم الّذين قيل فيهم ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾. ومنهم من علم وعرضت له شبهة توجب التردد في علمه فهؤلاء هم المسكوت عنهم.
462
قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين... ﴾.
يتناول أقسام التردد الثلاثة و (هي) الظنّ، والشك، والوهم، لأن المطلوب في الإيمان العلم اليقين ولا (يجزئ) فيه الظنّ بوجه.
قيل لابن عرفة: لعلّ المراد الظن به فقط، ويدل على النهي عما سواه من باب أحرى؟
فقال: الظنّ (مطلق) يتناول ظن الباطل وظن الحق، ودلالة أخرى إنما هي في ظن الحق، أي فلا يعتقد الحق اعتقادا ظنيا فيقول القائل: لعل المراد فلا يعتقد الباطل ظنا فيبقى الشك والوهم غير منهي عنهما والصواب تناوله للجميع.
قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا... ﴾.
حمله الزمخشري على معنيين، أحدهما: ولكل فريق من أهل الأديان المختلفة قبلة هو موليها نفسه، أو يعود الضمير على الله، أى الله موليها إياه.
- (الثاني) : ولكل واحد منكم يا أمة محمد جهة يصلي إليها شمالية، أو جنوبية، أو شرقية أو (غربية). فالقبلة
462
عندنا نحن في الجنوب وعند أهل العراق و (اليمن) في الشمال والمغرب.
وضعف ابن عرفة الأول إذا أعيد الضمير في ﴿هُوَ مُوَليِّهَا﴾ على الله لأن الملل كلها قد انتسخت بشريعة سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا يصدق أن لكل قوم (وجهة).
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يفسره بمعنى ثالث وهو أن (لكلّ) شخص منّا وجهة من وجوه الخير، والله أقامه فيها، فواحد مجاهد وآخر صائم وآخر عالم وآخر حاج وآخر كثير الصدقة.
قوله تعالى: ﴿فاستبقوا الخيرات... ﴾.
دليل على أن الأمر للفور لأن مدلول صيغة اِفعل وهو الفور من مسمّى الخيرات لأن المبادرة إلى فعل المأمور به (من جملة) الخيرات فهو مأمور به.
وإنما قال: ﴿اسْتَبِقُوا﴾ ولم يقل: اسْبَقُوا، ليتناول السابق والمسبوق فالمسبوق حينئذ يصدق عليه أنه استبق ولكنه لم يسبق، ولو قال: اسبقوا لما تناول إلا السّابق. والخيرات (تعم) الواجبات والمندوبات، وتعم من سبق بخير أو سبق غيره لخير (آخر) وإن لم (يستبقا) لشيء واحد.
قوله تعالى: ﴿يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً..﴾
463
حمله الزمخشرى على معنيين: إما يأت بكم (للجزاء) أو للحشر والنشر، وإمّا أَيْنَ مَا تَكُونُوا من الجهات يجعلكم تصلون إلى جهة واحدة (كأنكم) تصلون (حاضري) المسجد الحرام.
قال ابن عرفة: وقوله إنّ اللهَ عَلَى كُلّ شَيءٍ قَدِيرٌ يرجح المعنى الأول.
464
قوله تعالى: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ... ﴾.
الاستثناء منفصل، والمعنى: لكنّ الّذين ظلموا فما يكون لهم عليكم حجة، أو متصل، والمعنى (لتنفى) حجة النّاس عليكم إلا الّذين ظلموا فما تنفى حجّتُهم عليكم لما هم عليه من الظلم ولذلك (يقال) : فما أضيع البرهان عند المقلد.
قلت: وهذا شطر بيت لابن سهل من قصيدة شهيرة.
أقلد وجدي فليبرهن مفندي... فما أضيع البرهان عند المقلد
هبوا نصحكم شمسا فما عين أرمد... بأوضح في مرآه من عين مكمد
464
قال أبو حيان: والحجة على هذا الاحتجاج والخصومة وعلى الأول الدليل الصحيح (والمراد بالناس اليهود).
قال ابن عرفة: فإن قلت على الإتصال يلزم أن يكون الذين ظلمو عليهم الحجة؟ وأجاب ابن عرفة في الختمة الأخرى بوجهين:
الأول: أنه من باب أحرى لأنه إذا لم يكن الحجة للمنصفين العارفين فأحرى أن لايكون للآخرين فإن هؤلاء فهموا وعاندوا (وأنصفوا) في الدليل وأولئك لم (ينصفوا).
الثاني: أنّ ابن مالك في هذه الآية جعل إلا بمعنى الواو.
قال ابو حيان: فعلى الاتصال التقدير: لئلا يكون لأحد من اليهود حجة عليكم إلا المعاندين منهم القائلين: ما ترك قبلتنا وتوجه (للكعبة) إلا ميلا منه لدين قومه وحبا لبلده.
قال ابن عرفة: وعلى الانفصال فالمراد إلاّ الظالمين من المشركين كذا قال في الختمة الأخرى.
قال ابو حيان: وعلى الانفصال تقديره: الذين ظلموا منهم فإنهم يتعلقون عليكم بالشبهة. قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني... ﴾.
465
قال ابن عرفة: كيف ينهى المكلف عن فعل أمر هو فيه بالطبع لأن الخوف من العدو أمر جبلي لا يستطيع الإنسان زواله؟
وأجاب عن ذلك بأن أوائل ذلك حاصل بالطبع والدوام عليه هو المنهي (عنه).
قوله تعالى: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.
إن قلت: هذا تكرار لأن الهداية من جملة (النعم) ؟
قلنا: المراد النعم الآتية من عند الله تعالى لا تسبب فيها للمكلف بخلاف الهداية والضلال فإن له (فيها كسبا وأرادة).
466
قوله تعالى: ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً..﴾.
قال ابن عطية: الكاف إما متعلقة بقوله ﴿لأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ أو ب ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أو ب ﴿اذكروني﴾ قال ابن عرفة: على الأول فهي للتشبيه فقط، وعلى الأخير للتعليل فقط. وعلى الثاني يحتمل الأمرين، أي يهتدون لما أرسلنا أى لأجل إرسالنا.
قلت: وعلى التعلق ب ﴿اذكروني﴾ حملها أبو حيان على الوجهين فانظره.
قوله تعالى: ﴿مِّنكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا..﴾.
دليل على أن الخاصية التي اختصّ الرسل بها حكمية وليست خلقية بوجه، وفيه التنبيه على حكمة إرساله منهم وهو تبرئته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
466
عن أن يكون ساحرا أو مجنونا، فيقال إليهم: لم نرسل إليكم أحدا تجهلونه بل أرسلنا واحدا منكم نشأ بين أظهركم وعرفتم براءته من كل (آفة تنسب) إليه.
قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة﴾.
(قال بعضهم) : حيث يقدم التزكية يكون معظم المخاطبين عواما مقلدين ليسوا أهلا (لتعلم) الحكمة والكتاب فتكون التزكية أهم، وحيث يقدم التعليم يكون المخاطبون خواص فيكون الأهم التعليم مع أن كِلاَ الأمرين مطلوب. والكتاب هو الكلام المعجز، والحكمة القول غير المعجزة.
قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾.
قيل: إن هذا تكرار، ففصل في أولها ثم (أجمل) ب ﴿ما لم تكونوا تعلمون﴾ شمل الكتاب والحكمة. ومنهم من قال: إنّ العلم قسمان: علم يكون (الإنسان) بحيث لو (شحذ) (قريحته) وفكر فيه لأدركه من تلقاء نفسه بعقله (وفطرته)، وعلم لايمكن للإنسان التوصل إليه من ذاته ولا يقبل أن يتعلمه وحده بعقله بوجه. وهذا هو المراد بقوله ﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ أي ما لم تكونوا قابلين لمعرفته بعقولكم.
467
قوله تعالى: ﴿فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ... ﴾.
467
(لما بين شريطة الذكر وهو التعلم أمرهم بالذكر).
قوله تعالى: ﴿واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾.
قيل لابن عرفة: إنه دليل على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده إذ لو كان نهيا عن الضد لما كان لقوله ﴿وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ فائدة؟
فقال: الأمر بالشكر مطلق (فيصدق) بشكره يوما واحدا ثم يكفر دائما، فلما قال ﴿وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ أفاد النهي عن الكفر دائما.
قيل: هل بين الشكر والكفر واسطة؟
فقال: أما في غير هذا فنعم، لأن بينهما حالة الغفلة (والذهول) وأما هنا فلا، لأن الأمر بالشكر وترك الكفر إنما أتى عقب الأمر بالذكر. قال: والكفر هنا (هو) كفر النعمة.
468
قوله تعالى: ﴿يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة إِنَّ الله مَعَ الصابرين﴾.
(استعينوا) بالصبّر على المشاق كلّها ومنها الصلاة ﴿إِنَّ الله مَعَ الصابرين﴾ أي مع المصلين، ولما كان الصبر مستلزما (لتحصيل) جميع العبادات ومنها الصلاة استغنى به عنها.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أموات... ﴾.
468
ان قلت: هلا قيل: لمن قتل في سبيل الله بلفظ الماضي؟
قال أجيب عنه بوجهين: - الأول: أن ابن عطية قال: سبب نزولها أن الناس قالوا فيمن قتلوا ببدر وأحد مات فلان وفلان فكره الله تعالى أن يحط منزلة الشهداء إلى منزلة غيرهم فنزلت الآية. وغزوة بدر وأحد هما أعظم الغزوات وما بعدهما من الغزوات دونهما بلا شك فلو كان الفعل ماضيا لتوهم خصوصية هذه الفضيلة بمن قتل في الغزوتين فقط فأتى به مضارعا ليدل على عمومها فيمن بعدهم وفيهم من باب أحرى.
- الثاني: لو قال: «قتل» لكان فيه إيحاش ووصم عليهم لأنهم كانوا (متأسفين) على من قتل منهم فيتذكرونهم بهذا ويزداد حزنهم عليهم، ولا يقال: قتل فلان غالبا إلا فيمن يفتجع عليه أو يفرح لموته فيقال: لِمَنْ يُقْتَلُ، ليعم على من يأتي ومن مضى ويسلم من هذا الإيحاش.
قوله تعالى: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ... ﴾.
هذا إما إخبار أو حكم من الله تعالى عليهم بالحياة. والمراد بل قولوا: هم أحياء والأول أظهر (لقوله: ﴿ولكن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾ ).
469
قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع﴾.
هذا ترق لأن الجوع أشد من الخوف.
فإن قلت: إنه أيضا أشد من النقص من الأموال.
469
قلت: الجواب أن النقص من الأموال أكثر وجودا فى النّاس من الجوع فهو أشد مفسدة والنقص من الأنفس بالمرض أو بالموت أشد من الجميع.
470
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.
لأنه إذا علم العبد أنه وجميع أهله وماله ملك لله طابت نفسه وهانت عليه مصيبته (كما) قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للمرأة التى عزاها فى ولدها «إن لله ما أخذ وله ما أبقى وأعطى ولكل أجل مسمى وكل إليه راجعون فاحتسبي واصبري فإنما الصبر عند أول الصدمة».
ومن شرط اللفظ العمل بمقتضاه وهو أنه يصبر ويحتسب، فإن قاله قولا فقط فلا فائدة فيه، وإن صبر ولم يقله فقد قاله بلسان الحال ويحصل له (الأجر)، وإن فعل الأمرين أخلفه الله الخير في الدنيا وأعظم له الأجر في الآخرة. (والصلاة) المراد بها الرحمة، وجمعها (لإرادة) التكرار عليهم (رحمة بعد رحمة) أي عليهم رحمات كثيرة متعددة ورحمة أخرى أعظم من الجميع فلذلك أفردها بالذكر وعطفها عليها وليس فيه تكرار بوجه.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله... ﴾.
قال ابن عطية: الصفا والمروة جبلان بمكة.
470
قال الجوهري: في الصحاح موضعان بمكة. والصفاء بالمدّ ضد (الكدرة) والتغيّر.
ابن عطية: والصفا جمع صفاة.
ابن عرفة: وجعله أبو حيان اسم جنس وهو الصواب.
ابن عطية: وقيل إنه مفرد وجمعه صفى وأصفاء، وهي الصخرة العظيمة.
قال الراجز: (كأن منبته من النفي مواقع الطير على الصفا)
وقيل: من شرط الصفا البياض والصلابة وشرط الجوهري فيه الملوسة ولم يشترط الصلابة.
ابن عطية: والمروة واحدة المرو، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين ومنه قولهم (ذكيتها بمروْة).
471
ابن عرفة: الصواب العكس لأن التذكية إنما تأتي بالصلب لا باللين.
ابن عطية: ومنه قول (الأمين أخرجني) فإن قتلني بمروة قتلته بمروة.
ابن عرفة: الأمين والمأمون ولدا هارون الرشيد وكان الأمين أراد أن (يغدر) أخاه المأمون فقال هذه المقالة.
الجوهري: الصفا والمروة علمان للجبلين كالصمان والمقطم.
الجوهري: الصّمان جبل قرب (الرملة) بالشام والمقطم جبل بمصر.
أبو حيان: فالألف واللاّم فيهما زائدة كزيادتهما في الاسم العلم، وقيل للغلبة كالنجم والثريا.
ابن عرفة: فرق بينهما بأنّ التي للغلبة يمتنع اسقاطها فلا تقول: صفا ومروة، وتريد هذين الموضعين والزائدة يصح أسقاطها.
ابن عطية: والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة أي من أعلام (مناسكه) ومتعبداته، أى من معالمه ومواضع عبادته.
472
ابن عرفة: أي عباداته الخاصة المؤقتة وإلا فكلّ مسجد من (مواضع) عباداته، فالمراد من معالمه التى وقّتها الشارع لهذه العبادة الخاصة.
ابن عرفة: وعلى هذا لا يحتاج إلى ما قال أبو حيان إن الآية على حذف مضاف (لأن). المعنى: أن الصفا والمروة بعض (مواضع) عبادة الله إلاّ على تأويل، ذكره مختصرا.
ابن الخطيب: المراد من عبادة الله فيحتاج أن يقال إن طواف الصفا والمروة.
واحتج بعض الأصوليين بالآية مع حديث «إبدؤوا بما بدأ الله به» على أنّ الواو تفيد الترتيب.
وقال الآخرون: لو كانت تفيد الترتيب لما سالوه وهم عرب فصحاء، والصواب أنّها لا تقتضيه ولا (تنافيه) لكن يحتج
473
بها على ترجيح تقديم ما قدمه الشارع في لفظه. وقرىء «أَنْ لاَ يَطُوف بِهِمَا».
أبو حيان: لا فرق بين ذكر «لا» وإسقاطها والمعنى واحد.
ابن عرفة: بل مختلف كقولك: لاجناح عليك أن تصلي العصر عند الغروب ولا جناح عليك أن لا تصليها عند الغروب.
ابن عطية: وليس المقصد إباحة الطواف للحاج وإنما المقصد زوال ما وقع فى نفوسهم من كراهة الطواف بهما. واختلف في أصل ذلك كيف كان؟ فروي أن الجن كانت تطوف بهما فى الجاهلية (فتحرج) المسلمون (من الطواف) بينهما لذلك. وروي عن عائشة: أن الأنصار كانوا يهلون لمناة التي بالمشلل (حذو) (قُدَيْد) ويعظمونها فكانوا (لا يطوفون)
474
حذو أساف ولا نائلة إجلالا لتلك. فلما جاء الإسلام (تحرجوا) فنزلت الآية.
ابن عرفة: هذا لا يناسب ولا يليق بالمؤمنين أن يفعلوه.
ابن عطية: وعن الشعبي أنهم كانوا يطوفون بهما معتقدين ذلك (السعي) إجلالا لأساف ونائلة وهما صنمان فتحرج المسلمون من ذلك فنزلت الآية.
ابن عرفة: هذا صواب.
475
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا... ﴾
قال ابن عرفة: من الناس من ينظر وجه المناسبة بين الآية وما قبلها كابن الخطيب، ومنهم من لا يلتزمه في كل آية كالزمخشري وابن عطية، ومنهم من يمنع النظر في ذلك ويحرمه لئلا يعتقد أنّ المناسبة من إعجاز القرآن فإذا لم تظهر المناسبة فقد يدرك الناظر وهن في دينه وخلل في معتقده.
ابن عرفة: ووجه المناسبة هنا أنه لما تقدم الإخبار بحكم شرعي عقبه ببيان عقوبة العالم إذا كتم علمه.
475
ابن عطية: والمراد ب ﴿الذين﴾ أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين يكتمون أمر محمد ويتناول من علم علماً من دين الله محتاجا إلى بثه وكتمه. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار» وهذا إذا لم يخف ضررا في بثه.
قال ابن عرفة: ولا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلا أو رخصة يتمادى منها إلى مفسدة كمن يذكر للظالم ما قال الغزالي في الإحياء من أن يبث المال إذا ضعف واضطر السلطان إلى ما يجهز به الجيش ويدفع (به) الضرر عن المسلمين فلا بأس أن يوظّف على الناس العشر أو غيره لإقامة الجيش وسد الخلة.
قال ابن عرفة: وذكر هذا مما يحدث ضررا (فادحا) في الإسلام.
قال ابن عرفة: والبينات إما الأدلة، والهدى نتائجها، أو العكس. ويحتمل أن يكون البينات هو الأدلة الشرعية السمعية والهدى الدليل العقلي أو العكس.
قال ابن عرفة: وقع هذا الوعيد في هذه الآية مشوبا بالرجاء لقوله: ﴿تَكْتُمُونَ﴾ بلفظ المستقبل ولم يقل كتموا بالماضي (تنبيها على أن ما وقع منهم قبل ذلك معفو عنه لا يتناوله هذا الوعيد). ثم أكد هذا الرجاء برجاء آخر وهو أن الكتم الصادر منهم في
476
المستقبل إنما يعاقبون عليه مع الإصرار عليه والمداومة لقوله: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾.
قال ابن عرفة: وكرر لفظ ﴿يَلعَنُهُمُ﴾ لوجهين: إما تشريفا لله بذكره وحده إشعارا بالتفاوت الذي بينه وبين (اللاّعنين)، وإما تنبيها على أن لعنة الله تعالى أشد من لعنة (اللاّعنين) فهو إما للتفاوت بين اللّعنين، وهذا كما قال ابن التلمساني في المسألة الثامنة من الباب الأول في حديث الخطيب القائل: «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى». وتقدم جواب القرافي وعز الدين بن عبد السلام فيه.
قال ابن عرفة: وفي الآية عندهم حجة (للعمل) بالإجماع السّكوتي لأن المجتهد إذا بلغه مذهب غيره في المسألة النازلة فإمّا أن يظهر له موافقته أو مخالفته فإن وافقه فهو المطلوب، وإن ظهر له مخالفته وسكت بطل العمل بقوله لأنه عاص (في كتمه) العلم.
فإن قلت: تبقى منهم ثالث وهو أن لايظهر (له) في الحال موافقة ولا مخافة.
قلنا: لا يكون إذ ذاك مجتهدا.
وقال القرطبي: فيها حجة (لوجوب) العمل بخبر الواحد قال: لأنه لا يجب عليه (البيان) إلا بعد قبول قوله وقال: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ﴾ فحكم بوقوع البيان بخبرهم
477
ورده ابن عرفة بأن أول احتجاحه على العمل والكلام في كتم العلم وفرق بين العمل بخبر الواحد وبين العلم به.
478
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
ابن عرفة: في الآية اللّف والنشر، فالتوبة والإصلاح راجعان لقوله: ﴿أولئك يَلْعَنُهُمُ الله﴾ لأنه يعلم السر وأخفى، وقوله: ﴿وَبَيَّنُواْ﴾ راجع لقوله: ﴿يَلْعَنُهُمُ اللاعنون﴾ لأن الملائكة وغيرهم لا يعلمون توبتهم إلا إذا بيّنوا وظهر على حالهم ذلك. قال: ومن كان متصفا بالفسق ويظهر للبعض الصلاح، ثم تاب، فلا تقبل توبته إلا إذا زاد صلاحه. وأما إن دام على صلاحه الأول فقط، فلا يقبل منه ذلك لأن صلاحه الأول لم يمنعه من الفسق.
وقوله ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ إشارة إلى عموم توبته عليهم وعلى غيرهم، وتنبيه على أنه لا يجب عليه شيء وَأَنّ قبول التوبة رحمة وتفضل، (لا أنه) واجب.
قوله تعالى: ﴿إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُواْ... ﴾.
منهم من قال: إنها مؤكدة لما قبلها لقوله ﴿إِلاَّ الذين تَابُوا﴾ فبقيت الآية عامة فيمن كفر ولم يتب يكون داخلا تحت الوعيد وهو مقتضى هذه الآية، ومنهم من قال: أنها مؤسسة. وقرره بوجهين:
- الأول: أنّ اللّعنة في الأولى مطلقة تحتمل الدّوام والانقطاع وهنا مقيدة بالخلود والدوام.
478
الثاني: أن العموم غير المخصوص بشيء أقوى دلالة من عموم خص بشيء، فلذلك أعيدت هذه الآية. ونحو هذا (لابن رشد) في النكاح الثالث.
قال ابن عرفة: فإن قلت: هلا قيل: ماتوا كفارا. فهو أخص من قوله: ﴿وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ ؟
قال: وعادتهم يجيبون بوجهين:
- الأول: أن هذا فيه فائدة البناء على المضمر، وقد ذكروا أنه يفيد إما الاختصاص أو مطلق الرّبط، قاله الزمخشري في ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار﴾ - الثاني: أن الحال قيد في الجملة، فهو من قسم التصور وقوله: ﴿وَهُمْ كُفَّار﴾ جملة من مسند ومسند إليه، فيرجع إلى قسم التصديقات، والتعبير بما هو من قسم التصديق أولى مما هو من قسم التصور لأنه يستلزم التصور (فيدل) على الأمرين.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنه لو قيل «وماتوا كفارا» لكانت حالا، والحال من شرطها الانتقال مع أن المراد: من ثبت ودام على كفره فقال: وكذلك «وهم كفار» والواو فيه واو الحال.
(قيل لابن عرفة، كيف عبر بهذا اللّفظ المقتضي للخصوص مع أن من مات كافرا بالإطلاق يناله هذا الوعيد) ؟
479
فقال: هذا وعيد خاص رتب على فعل خاص/انتهى.
قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة... ﴾.
قال ابن عرفة: إن قلت: لم أعيد لفظ الفعل في الآية المتقدمة فقيل: ﴿يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون﴾ ولم يعد هنا، فكرر هناك ما أسند إليه الاسم المعطوف عليه ولم يكرر هنا، فهلا قيل: أولئك عليهم لعنة الله ولعنة الملائكة ولعنة الناس أجمعين فهو أولى؟
قال: عادتهم يجيبون بأن الإسناد الأول للفاعل، وهو واحد بذاته لايتعدد، لأنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله، والإسناد الثاني إضافي فهو أمر نسبي، والأمور النسبية الإضافية يمكن فيها التعدد كالوجود بالنسبة إلى القديم والحادث، فلذلك لم يفد لفظ اللعنة هنا.
قوله تعالى: ﴿والناس أَجْمَعِينَ﴾.
قال ابن عرفة: ﴿أَجْمَعِينَ﴾ إما تأكيد أو حال فإن كان حالا فالمراد لعنة الجميع مجتمعين، ويبقى النظر: هل ذلك يوم
480
القيامة أو لا. ؟ فإن كان في (الآخرة) فيكون خالدين فيها حالا (محصلة أو أعيد الضمير على النار. وإن كان في الدنيا فيكون «خالدين فيها» حالا) مقدرة. وإن كانت تأكيدا فالمراد لعنة جميعهم بالإطلاق.
ابن عطية: قال قتادة: المراد بالناس المؤمنون خاصة وقال ابو العالية: ذلك في الآخرة أي يلعن الكفرة أنفسهم يوم القيامة. وقيل معناه يقولون في الدنيا: لعن الله الكافرين، فيلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون.
قال ابن عرفة: ويخرج عن هذا من كفر عنادا فإنه لا يلعن الكافرين.
481
قوله تعالى: ﴿لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ﴾.
(قيل) لابن عرفة: كيف يفهم ما ورد في أبي طالب أنه أَخَفُّ أَخَفِّ أهل النار عذابا، وأنه تنفعه شفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فصار عذابه بجمرتين في أخمص قدميه يغلي منهما دماغه. وما ورد في أبي لهب من أنه يخفف عنه العذاب يوم الاثنين لكونه أعتق فيه الجارية التي بشرته بولادته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟
قال: (العذاب) الذي استحقه كل واحد منهما ونزل به لا يخفف عنه منه بل يخفف عنه بمعنى أنه يعذب عذاب غيره فالتخفيف من عذاب غيره لا من عذابه هو النازل به.
قوله تعالى: ﴿وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم﴾.
قال ابن عرفة: الإلاه في اصطلاح المتقدمين من الأصوليين هو الغني بذاته المفتقر غيره إليه، وعند الأصوليين (المتأخرين) واللغويين هو المعبود تقربا، وبه يفهم قوله عَزَّ وَجَلَّ {وَقَالَ فِرْعَوْنُ
481
ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} وقول إبراهيم لأبيه آزر ﴿أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً﴾ وقول الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿ءأالهتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ﴾ قال ابن عطية: ومعناه نفي (المثل) والنظير. وقال أبو العالية: (نفى) التبعيض (والأنقسام).
قال ابن عرفة: فعلى الأول نفي الكمّية المنفصلة وعلى الثاني نفي الكمية المتصلة، ويحتمل الأمرين إن قلنا إن الوحدة ينطلق عليها بالتواطُؤ، وإن كان إطلاقها عليها بالاشتراك فما يتم إلا على القول بتعميم المشترك، وقوله: نفي للتبعيض والانقسام صوابه أن يقول: نفي لقابلية (الانقسام) بمعنى واحد، أي (غير) معروض للانقسام فيخرج الجوهر الفرد لأنه لا ينقسم، لكنه في حيز والحيز منقسم. فإذا قلنا غير معروض للانقسام انتفى الجوهر الذي في الحيز.
قوله تعالى: ﴿لاَّ إله إِلاَّ هُوَ... ﴾.
482
(قال ابو حيان: «إِلاّ هو» بدل من اسم «لاَ». ورده المختصر وأنه لا يجوز أن يقال: لا ألَهَ إلا هو.
ابن عرفة: لرده وجه آخر ذكره النحوين وهو أن يكون بدلا من مجموع «لا» واسمها، ومعناه الموجود الذي نفيت الألوهية عن غيره، وأثبت له هو الله.
قلت: قال الاستاذ أبو العباس أحمد بن القصار. هذا ذكره النحويون وعادتي استشكله لأنه يلزم عليه بدل المثبت من المنفي، وكذلك قال سيبويه: لا رجلَ في الدار وامرأةً، بالنصب إنه معطوف على مجموع لا واسمها وكنت أنا أستشكله بأنّ «امرأة» مثبت فكيف يعطف المثبت على المنفي؟ وكان الأستاذ الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن قيس يجيبني عنه بأنه معطوف على اسم «لا» فقط، لكنهم لما ركبوا «لا» مع اسمها وصار كجزء واحد، فالعطف عليه كالعطف على خبر الكلمة، كرهوا التصريح بالعطف عليه فقالوا: إنه معطوف على المجموع ومرادهم أنه معطوف على اسم لا فقط فكذلك يجيء هاهنا.
قال أبو حيان: وقال صاحب المنتخب: المعنى لاَ إلاهَ لنا ولاَ إِلَهَ موجود، ورده المختصر بأنه يلزمه المفهوم في لاَ إِلاَهَ لنا وقوله لاَ إِلاهَ موجود باطل على مذهب المعتزلة.
483
وأجاب ابن عرفة: أن الوجود على أربعة أقسام، فمنها وجود في الإيمان ووجود في الأذهان، فإن أراد الوجود في الإيمان فما قاله صحيح لأن أهل السّنة يمنعونه والمعتزلة يجيزونه، فيقولون: إن للمعدوم تقررا في العدم، وإن أراد الوجود في الأذهان فممنوع لأن اجتماع النقيضين باعتبار التصور الذهني فيه خلاف، فإن قلنا بامتناعه فكلام المجيب حق، وإن قلنا بصحته فكلام السائل صحيح.
قلت: وقال الأستاذ ابن القصار: المعتزلة إنما قالوا: إنّ المعدوم ثابت في العدم ولم يقولوا أصلا: إنه موجود في العدم. فالموجود لا يثبت إلا في الوجود.
قال ابو حيان عن الزمخشري في المفصل: لا يجوز أن تكون «إلاّ هو» خبراً عن «لا إلاه» لأنه بيان له فيمتنع الإخبار عنه به قال: وفيه بَحث.
قال ابن عرفة: يظهر لي أنّ البحث الذي فيه هو أنّ الحكم قسمان: تقييدي، وإسنادي. فالبيان بالحكم التقييدي لا يصح والبيان بالإسنادي صحيح، نقول: زيد العاقل الكريم الشجاع، فإن كانت نعوتا امتنع البيان بها وإن كانت خبرا صح البيان بها.
قلت: وقال ابن القصار: البحث الذي فيه هو أنّ الإسناد قيد في المبتدإ، فلا يصح أن يكون خبرا عنه لكنه نائب مناب الخبر، لأن التقدير: لا إلاه كائن في الوجود إلا هو، فهو استثناء من الضمير المستكن في كائن أو في الوجود، فلما حذف ذلك الخبر ناب هذا
484
الاستثناء منابه، فهو نائب مناب الخبر، وقيد فيه، قال وهذا راجح في المعنى.
قيل لابن عرفة: ثم قال أبو حيان بعد كلام طويل ذكره قال: فرق ابن الحاجب بين الرفع والنصب في قوله: ما قام القوم إلا زيد برفع زيد ونصبه؟
ابن عرفة: لا فرق بينهما في هذا والحال فيها واحد.
قال ابن عرفة: وقد أغفل أبو حيان الفرق بينهما فقد) قال النحويون: إنك إذا قلت: ما قام القوم إلا زيد بالرفع يكون نفيت القيام عن القوم وأثبته لزيد.
وإن قلت: إلا زيدا بالنصب يكون نفيت القيام عن القوم ونفيت ذلك النفي عن زيد ونفي الإثبات في حقه محتمل مشكوك فيه على (خلاف) في ذلك عندهم، فإذا قال قائل: لا إلاه إلا الله بالنصب فيلزمه الكفر لأن المراد نفي الألوهية عما سوى الله وإثباتها له. وهذا المعنى لايحصل إلا مع الرفع، وأمّا النّصب فما فيه إلا نفيها عما سوى الله ونفي ذلك (النفي) عن الله وأما الثبوت فلا.
قيل لابن عرفة: إذا انتفت الألوهية عما سوى الله ثبتت له بالضرورة؟
485
فقال: يبقى القول (بالتعّطيل) فقال الله تعالى ﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر﴾ قلنا: قال ابن عصفور في شرح الإيضاح: إن مذهب سيبويه وجمهور البصريين أنك إذا قلت: «قام القوم إلا زيد» تكون أخرجت زيدا من القوم ومن وصفهم. ومذهب (الفراء) أنك أخرجت وصفه من وصفهم (ولم) تخرجه من (صفهم). ومذهب الكسائي أنك أخرجته هو منهم ولم تخرج وصفه من وصفهم فمعناه أنه لم يقم معهم أعمّ من أن يكون قام وحده أو لم يقم فالاستثناء عنده بالنصب محتمل وهذا البحث هنا إنّما هو على المشهور.
486
قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض... ﴾.
قال ابن عرفة: تقدمها آية النبوة والرسالة في قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ وآية الوحدانية في قوله تعالى ﴿وإلهكم إله وَاحِدٌ﴾ فيحتمل أن يكون دليلا لهذه أو هذه.
486
قال ابن عطية: / عن عطاء: قال لما نزلت الآية المقدسة بالمدينة، قال كفار قريش بمكة: ما الدّليل على هذا وما آيته وما علامته؟ فطلبوا دلالة الوحدانية فنزلت هذه الآية.
وقال سعيد بن (المسيب) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: قالوا إن كان ما تقول حقا فأت بآية تدل على صدقك حتى قالوا: اجعل لنا الصفا ذهبا فقيل لهم: ذلك (لكم)، ولكن إن كفروا عُذبوا فأشفق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ذلك وقال: «دَعْنِي أدْعُهُمْ يَوْما فَيَوْما».
قال ابن عرفة: ظاهره أنه رق لحالهم. ويحتمل أن يكون ذلك لما في سورة الأنعام ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّاكَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ فكأنه قال: ولو حصل لهم الصّفا ذهبا فإنهم لن يؤمنوا.
قال ابن عرفة: قد تقرر الخلاف في الخلق هل هو نفس (المخلوق) وهو مذهب أهل السنة.
487
وإن من يقول: إنه غير نفس المخلوق يلزمه التسلسل وهو مذهب المعتزلة لأن ذلك الخلق يحتاج إلى خلق آخر لأنه يقال بماذا وجد؟ فيقول: بخلق آخر. وهل هو نفس المخلوق (أم) لا ويتسلسل. وأجابوا بأنه أمر نسبي فهو غيره ولكنه أمر نسبي ليس فيه تسلسل.
قيل لابن عرفة: والأمور النسبية عدمية والعدمية لا يصح الاحتجاج بها فكيف يستقيم الاستدلال بها في الآية؟
فقال: الاستدلال بها من حيث إضافتها إلى أمر موجود وهو المخلوق.
قيل لابن عرفة: إن الفخر ابن الخطيب احتج بها على أن الخلق غير المخلوق. قال: لأنه لا يقع الاعتبار إلا بالنظر إلى المخلوقات بعد وجودها لا بخلقها لأنه غير مرئي.
فقال: الاعتبار بها من حيث إيجادها (من) عدم وهو خلقها، أي معنى خلقها.
قال: والناس قسمان: عالم وجاهل، فالجاهل يعتبر بنفس خلقها على الجملة والعالم ينظر فيجد المعمور من الأرض أقل من الخالي بالنسبة إلى سائر الأرضين أقل، والأرضون بالنسبة إلى سماء الدنيا وما فوقها أقل، والسماء الدنيا وما فوقها بالنسبة إلى الشمس أقل، لأنها في السماء الرابعة، والشمس بالنسبة إلى السماء الّتي فوقها أقل منها.
قال ابن عرفة: وإنما جمعت السماوات وأفردت الأرضون مع أنها سبع لأنّ عدد السماوات يدرك بالرصد، وطول الأعمار، والكسوفات، وأطوال البلاد وأعراضها، وجري الكواكب، والأرضون لا طريق لنا إلى إدراكها بوجه إلا من السمع، لأن المشاهد لنا منها
488
إنما هي أرض واحدة فأفردت بالذكر، ولذلك اختلف فيها الإمام المازري وشيخه عبد الحميد الصائغ /انتهى/.
وأجاب القرطبي عن هذا السؤال بأنّ السماوات مختلفة، فقد ورد في الحديث أن بعضها من فضة وبعضها من زبرجد، وبعضها من لؤلؤ إلى غير ذلك، فلذلك جمعت بخلاف الأرضين فإنها متماثلة كلها من شيء واحد.
ورده ابن عرفة بوجهين:
- الأول مذهب المتكلمين أنّ الجواهر كلها متساوية في الحد والحقيقة، وإنما تختلف في الأعراض فلا فرق بين جسم الذهب وجسم الفضة.
- الثاني: أنّ النحويين أجازوا جمع المتماثلات، ألا تراهم يجمعون زيدا وزيدا مع تماثلهم في اللفظ والمعنى، فكذلك يجمعون الأرضون هنا؟
قال ابن عرفة: وإنما الجواب ما قلناه في قوله تعالى في: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض﴾ الى قوله ﴿يَعْقِلُونَ﴾ : فإن قلت: هلا أريد بخلق السماوات والأرض أنفسها أو نفس إيجادها وإثباتها؟.
489
قلت: مذهب أهل السّنة أن الخلق نفس المخلوق لا أنه أمر زائد عليه.
وكان شيخنا الإمام أبو عمرو بن الحاجب يقول بحسب ذلك: خلق الله السماوات مصدر، كقولك: خلق الله خلقا، وينكر طلبة النحو ذلك لاستغرابهم كون الجوامد مصادر وما لهم تصور لحقائق علم الكلام، ولا لهم إحاطة بالضروريات الملجئة إلى مخالفة، فإن المتكلمين التجأوا إلى ذلك لعلمهم أنّ الخلق لو كان معنى زائدا لكان وجوديا، ولكان مخلوقا ولكان خلقه مفتقرا إلى خلق آخر. فلما قطعوا باستحالة ذلك قطعوا بأن القدرة تتعلق بذات العين، فتوجدها (أفعال) الله كما أن المعاني أفعال.
فإن قلت: حاصل ذلك لا تغاير بين الخلق والمخلوق فلا مصدر إذاً، لأن (المصدر) في قولك: ضربت زيدا ضربا زائد على ذات زيد و (لا هناك) زائد، ولا يستقيم إذا كان الموت مصدرا.
قلت: هو ما ذكرت. والمستقيم كون الموت مفعولا به وهي نفس الفعل وهو الذي أراد الشيخ ابن الحاجب ولكن لو أعدّها مفعولا به لجمع بين الاصطّلاح وبين المعقول.
فإن قلت: لو قال قائل: خلق الله السماوات خلقا، فكيف يعرب خلقا؟
قلت: مصدرا، وهو نفس المفعول به في المعنى فاحفظ الصناعة والحقيقة معا، فالتغاير بين المصدر والمفعول به حقيقي في غير هذا الباب ولفظي هنا.
490
فإن قلت: ما وجه (المعطوفات) في الآية على «خلق السماوات» وقد فسرت خلقها بمخلوقاتها وكلما ذكر من المخلوقات فيصير من/ عطف الشيء على نفسه؟
قلت: هو من عطف الجزء على الكل لثبوتهما بالجزء أو من عطف الأخبار في غيرها وإن كانت فيها.
فإن قلت: ما وجه التقوية؟
(قلت) باعتبار مقصد الاستدلال لأن ذوات السماوات والأرض لا دلالة لها من حيث الأعراض القائمة بها وأنها لا أعراض بدلالة الأكوان إذ الطبيعي (محال) في إنكار الأكوان، وأبعد الأكوان الحركة والسكون، والحركة أبعد لمشاهدتها ضرورة ولأجله استفتح الشيخ الأشعري في البرهان لقوله: تحرك الجوهر وكان ساكنا.
ولا دعوى (للطبيعي) إلا في كونها تستفتح للجمع بين النقيضين. وعلى هذه النكتة دارت هذه الأدلة (فاختلاف) اللّيل والنهار (راجع إلى الحركات وذكر الفلك) باعتبار جرمها وتحركها حركات قوية ضرورية متوالية.
قوله تعالى: ﴿بِمَا يَنفَعُ الناس... ﴾.
491
أي يحدث الله المنفعة به في نفوسهم (فيقطع) قول الطبيعي: «الحركة عدم» لأن المعدوم لا ينفع وإنما ينفع الله بالفلك بواسطة حركاتها ولا فرق بين عدم النفع والنفع بالعدم. ثم ذكر (الماء) بواسطة كونه (منزلا بحركة) من السماء والأرض ثم ذكر أنه بث الأحياء بواسطة تلك الحركة، وكيف يكون العدم واسطة في الإحياء ثم إحياء الأرض عبارة عن تحريك الحب الكائن فيها إلى الظهور، ثم ذكر بث الدواب وهي المتحركات بالوصيب ثم ذكر تصريف الرياح أي تحريكها من قطر إلى قطر (ثم ذكر السحاب المسخر أي المحرك من قطر إلى قطر وكله) استدلال على حدوث الجواهر وحدوث حركاتها التي لا (تنافي) وجودها بدليل إثارتها الحسية.
فإن قلت: ليس له في كل شيء (دلالة) فما فائدة هذه الأدلة والأمثلة؟
قلت: الإيقاظ بعد الإيقاظ والإيقاع بعد الإيقاع والضرب على الضرب حتى لا يبقى للقبول علة في الاستدامة والغفلة، حتى تتحرك الدواعي حركات متتابعة متسارعة إلى ضرب (النّجاة).
قوله تعالى ﴿واختلاف الليل والنهار... ﴾.
قال ابن عطية: أي تخالفهما ومعاقبة أحدهما للآخر أو يريد اختلاف أوصافهما فالليل تارة أطول والنهار تارة أطول.
492
قال ابن عرفة: أو المراد اختلاف كل واحد منهما في نفسه فَلَيْلَةُ البارحة أقصر من ليلة اليوم ونهار اليوم أطول من نهار غد وأشار إليه الفخر.
قوله تعالى ﴿فَأَحْيَا بِهِ الأرض... ﴾.
مجاز في الإفراد وهو لفظ إحيائها ولفظ موتها.
قوله تعالى: ﴿مِن كُلِّ دَآبَّةٍ... ﴾.
«من» للتبعيض في الأصناف و «كُلّ» للعموم في الأنواع.
قوله تعالى: ﴿وَتَصْرِيفِ الرياح... ﴾.
تصريفها هبوبها من (جهاتها) المختلفة أو دوران الرّيح إلى المغرب بعد هبوبه من المشرق.
قوله تعالى: ﴿لأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
لم يقل: يعلمون، لأن هذا من باب الاستدلال (والاستدلال) مقدمة شرطها العقل وأما العلم نتيجة عن تلك المقدمات فلذلك لم يذكر هنا.
قيل لابن عرفة: عادة المتكلّمين في كتبهم يذكرون (باب) حدوث العلم ويستدلّون (فيه) على وجود الصانع ويفردون
493
بابا آخر للاستدلال على وحدانية الصانع (فيجعلونهما بابين والآية اقتضت الاستدلال بحدوث العالم على وحدانية الصانع) ؟
فأجاب ابن عرفة بوجهين:
- الأول: قال: إن الآية خطاب لقريش وهم مقرون بأن المؤثر واحد والشركاء غير مؤثرين، فلا استدلال بالآية مع ضميمة اعتقاد أن المؤثر واحد استْدل به على أنه موجود.
- الجواب الثاني: أنها دليل على أن هذه الأشياء لها فاعل ومؤثر، وقد دل الدليل العقلي على منع اجتماع مؤثرين على أثر واحد فصح بالآية وجود الصانع ووحدانيته.
494
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً﴾.
ابن عطية: ذكر الله تعالى الوحدانية، ثم الآية الدالة على الصانع الذي لا يمكن أن يكون إلا واحدا، ثم ذكر هنا الجاحدين للصانع تعجبا من ضلالهم بعد هذه الآية.
قال ابن عرفة: ويحتمل أن يكون ذكر هذه الآية توطينا وتسكينا للنّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لئلا يطمع فيى إيمانهم وتتعلق نفسه بذلك كما قال ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً﴾ فأخبره بعدم إيمان بعضهم حتى لا يناله حزن ولا غم بوجه.
قال ابن عرفة: و «من» في قوله «من دون الله» لابتداء الغاية وانتهائها حتى يعمّ في جمع الدون وتفيد كثرة تلك الوجوه.
قوله تعالى: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله... ﴾.
494
إن قلت: (هم) إنما كانوا يعبدونهم والعبادة أخص من المحبة لأن الواحد منا يحب ولده وأباه وأمه ولا (يعبدهم) فهلا قيل: يعبدونهم؟
قلت: أجاب ابن عرفة بوجهين:
- الأول: أنه ذمهم على الوصف الأعم وهو المحبة ليفيد الذم على الأخص وهو العبادة من باب أحرى.
- الجواب الثاني: أنه عدل عن لفظ العبادة استعظاما له واستحقارا للأصنام أن تنسب إليهم العبادة.
قيل لابن عرفة: إن هذه الآية تدل على أن ارتباط الدليل بالمدلول/ عادي لا عقلي، لأن هؤلاء (نظروا) فلم يؤمنوا؟
فقال ابن عرفة: (لعلهم لم ينظروا أو نظروا فلم يهتدوا) للعثور على الوجه الذي منه يدل الدليل. قال: وهما مسألتان في أصول الدين. مسألة تخالف العلم مع التّمكن من مراد النظر الصحيح.
ومسألة (تخالف) العلم مع حصول النظر الصحيح فالآية إنما تدل على الأول لا على الثاني.
495
قوله تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا... ﴾.
قال ابن عرفة: لا ينبغي للانسان أن يشغل نفسه بشهواته وجمع المال فإنه عليه (وبال) كما ورد: «الكيّس من دان نفسه»
495
وتبرؤهم منه قبل (رؤيتهم) العذاب أشد في الممانعة وعدم النصرة.
496
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً... ﴾.
قال ابن عرفة: (تمنوا) العودة في الدنيا، وأن يكونوا متبوعين ورؤساؤهم تابعين لهم فتبرؤوا منهم.
قيل لابن عرفة: كيف يتمنون الرجوع إلى الكفر؟
فقال: إنما تمنوا التبرّي فقط وهو مستلزم للكفر.
فقال: أو يريد إنهم تمنّوا الرجوع (للدنيا) وبقاء رؤسائهم كفارا فيتبرؤون هم من دينهم واتباعهم كما تبرؤوا هم من نصرتهم في الآخرة.
قال ابن عرفة: ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل.
قوله تعالى ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ﴾.
أي مثل ما نالهم من الحسرة يتبرى متبوعهم منهم (لئلا) تنالهم الحسرة برؤيتهم أعمالهم القبيحة وَبَالا عليهم، وكذلك أعمالهم التي كانوا يظنونها صالحة وَبَالا عليهم لأنهم كفار.
496
قيل لابن عرفة: الآية على قراءة مجاهد مشكلة فإنه قرأ «إذ (تبرأ) الذين اتَّبَعُوا» بفتح التاء «منَ الّذين اتُّبِعُوا» (بضم التاء) فيشكل قوله ﴿وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ (لأنهم قد تبرؤوا منهم) ؟
فقال ابن عرفة: تبرّي التابعين من المتبوعين يعم تبرّي المتبوعين منهم فلذلك قال هنا: ﴿كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا﴾.
قوله تعالى: ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار﴾.
قال ابن عرفة: قال الزمخشري: الضمير لمطلق الرّبط. لأن مذهبه خلود مرتكب الكبيرة في النار فلو جعله للحصر لكان مفهومه أنّ مرتكب الكبيرة يخرج من النار بالشفاعة.
وأجاب بعض الناس بأنه يلزم أهل السّنة كذلك لأن الآية في كفار قريش وهم جعلوا مع الله شريكا فلا يصح الحصر لأن غيرهم من الكفار مخلدون في النار.
وأجيب بأن الإجماع من الفريقين يقتضي أن الضمير لمطلق الربط. (فالمعتزلة) يحملون الآية على مذهبهم ويجعلون مرتكب الكبيرة مخلدا في النار.
497
وأهل السنة يجعلونها على مذهبهم لكن الضمير ليس هو للحصر ليدخل الكافر غير المشرك فقط.
498
قوله تعالى: ﴿ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً... ﴾.
قال ابن عرفة: هذا الأمر إما للوجوب أي أوجب الله علينا الأكل لأنّ به قوام الأجسام، أو لوجوب الأكل من الحلال. وإما للندب أو للإباحة وفيه دليل على أنّ الأشياء على الحظر، أو على الإباحة.
ابن عرفة: وهو أظهر، لأنّ لو قلنا إن الأشياء كانت على الحظر فيلزم عليه الإجمال في هذا الأمر لأن من جملة ما في الأرض النبات والسباع وغير ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان... ﴾.
من مجاز التمثيل فإنه ليس المراد النهي عن اتباع خطواته حقيقة إذ لا نراه نحن بل الخطوات (معنوية).
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء... ﴾.
وقال (ابن عرفة) : لأن العدو (قد) يأمر بالخير وهذا العدو لا يأمر إلا بالشر.
498
قيل لابن عرفة: فيه دليل على أنّ الأمر لا يشترط فيه العلو بل الاستعلاء فقط، لأن الشيطان أسفل من مأموره.
فقال: إنّما هو أسفل منه شرعا وهو في الوجود أعلى لاستعلائه عليه من حيث لايراه ولا يشعر به. وأورد الزمخشري على هذا قوله تعالى ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ قال (كان) أمرا مع تلك الآية.
وأجاب عن ذلك بأنَّه شبّه تزيينه وبعثه على الشّر بالأمر وقبول العباد وساوسه بامتثال الأمر.
قال ابن عرفة: أو يجاب بأن تلك مقيدة بالسّلطان وهو الحجة أو بلفظ العباد، فالعباد لا يتسلط عليهم ولا تقوم له عليهم حجة ولذلك أضافهم الله إليه إضافة تشريف، وقوله ﴿بالسواء والفحشآء﴾ يحتمل أن يكون السّوء ما لم يرتب الشارع عليه الحد (والفحشاء ما رتب عليه الحد، والسوء الصّغائر) والفحشاء الكبائر.
قوله تعالى: ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
قال ابن عرفة: يدخل فيه المفتي إذا أفتى بما لايعلم والقاضي إذا حكم بما لايعلم فإنه قال على الله ما (لا) يعلم.
قيل لابن عرفة: يؤخذ منه أبطال العمل بالقياس؟
499
فقال: أما من لا يقول به فظاهر وأما من يقول به فمقدمات القياس ظنية فتكون (النتيجة) ظنية، لكن يلزم عليه إبطال العمل بجميع الأحكام الشرعية، لأنها كلها ظنية فليس المراد العلم الحقيقي بل ما عليه الظن.
500
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله... ﴾
(قال) ابن عطية/: يعني كفار العرب، قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: نزلت في اليهود وقال الطبري: الضمير في (لهم) عائد على النّاس في قوله ﴿ياأيها الناس كُلُواْ﴾ وقال ابن عرفة: وهذا بناء على أن ذلك الخطاب خاص بكفار قريش.
وقال الزمخشري: الضمير للناس (وعدل) عن الخطاب إلى الغيبة التفاتا.
ورده ابن عرفة بوجهين:
- الأول: أنه يحتاج إلى تخصيص عموم الناس بكفار قريش.
500
الوجه الثاني: أنّ الأول أمر وهذا خبر فبيعد فيه الالتفاف.
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾.
«بَلْ» هنا عاطفة، والإضراب (بها هنا) للانتقال لا للإبطال لأنه أي الإبطال: لا يشترط فيه أن يكون ما قبلها وما بعدها من لفظ متكلّم واحد حقيقة أو حكما، وليس هو كذلك هنا فإن المعنى قالوا: بل نتبع.
وقوله: ﴿مَآ أَلْفَيْنَا﴾ قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إنما لم يقولوا ما وجدنا عليه آباءنا ولو كان المعنى واحدا لأن الوجدان يكون اتفاقيا على غفلة (من) غير (قصد) ومنه وجدان الضالة.
«وألفينا» يقتضي وجدان ما كان ثابتا دائما مستقرا.
قال ابن عطية: الآية دالة على ابطال التقليد، وأجمعت (الأمة) على إبطاله في العقائد. وحكى الأستاذ أبو اسحاق الإسفراييني الإجماع على جواز التقليد في العقائد.
501
وحكى المقترح في شرح الإرشاد ثلاثة طرق منهم من ينقل الإجماع (على الجواز ومنهم من ينقل الإجماع) على المنع، ومنهم من يحكي الخلاف بين الشيخ القاضي (أبي بكر الباقلاني) والأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني وتوقف ابن العربي، وأجمعوا على أنّ الفرض من أصول الدين معرفة الله تعالى على الجملة، وأما معرفة دقائق ذلك العلم والتبحر فيه ومعرفة الله بالدلائل القوية الدقيقة فهو فرض كفاية. قاله ابن التلمساني في شرح المعالم الدينية.
وقال الشيخ أبو عمرو بن الحاجب والآمدي: لا (تقليد) في العقليات كوجود الباري، وقال (الفخر) بجوازه، وقيل: النظر فيه حرام، ولنا الإجماع على وجوب ذلك والتقليد لا يحصل بجواز الكذب ولأنه كان يحصل بحدوث العالم ولأنه لو حصل لكان نظرا ولا دليل (عليه) قاله الشيخ ابن الحاجب.
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول إن هذه الآية دليل على صحة ما يقول الأصوليون من أنّ الفعل في الإثبات قد يكون عاما مع القرينة
502
لأن همزة الإنكار عليهم في حال عدم العقل تدل على أنهم قصدوا اتّباعهم مطلقا في حالة العقل وعدمه، أي أيَتّبعون إياهم، ولو كانوا لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئا وَلاَ يَهْتَدُونَ. وهذا نفي أخص، فالتأكيد بالمصدر دخل على المنفي، (فأكده) لأنه سابق على النفي. وإن جعلت شيئا مفعولا لم يحتج إلى هذا.
فإن قلت: ما أفاد قوله ﴿وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ مع أنّ نفي (العقل) عنهم يستلزم نفي الاهتداء؟
فالجواب: أن المراد لايعقلون (شيئا) من ذات أنفسهم ولو (نبّههم) غيرهم لما اهتدوا.
503
قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ﴾.
أي وَصِفَةُ الَّذينَ كفروا كصِفة الذي ينعق.
قال الشيخ أبو حيان: وقيل الكاف زائدة.
قال ابن عرفة: يفوت معنى التشبيه لأن قولك زيد (كزهير شعرا) يقتضي انك جعلته مثله سواء.
وأجيب بأنه هنا شبهت الذّات بالذّات وذات زيد (معينة) مشخصة لا يقبل التعدد، وفي الآية شبهت الصفة بالصّفة، والصفّة
503
يمكن فيها التعدد والمخالفة فجعلت كأنها هي ولو في (وحدة) النوع.
قيل لابن عرفة: وكذلك ذات زيد جعلت كأنها ذات عمرو في الشعر فقوله «شعرا» أزال الشخص والتعيين. فإن قلت: لم خالف بين «كفروا» فعبر فيه بالماضي وبين «من ينعق» (فجاء) به مستقبلا وهلا استويا أو كان الأمر بالعكس؟
فالجواب بوجهين:
- (الأول) : أن المراد من اتصف بمطلق الكفر.
- الثاني: أنه تقبيح للكفر أن يذكر بصيغة يقتضي الدوام.
قال ابن عرفة: وعادتهم يفرقون بين الدعاء والنداء بأن الدعاء يكون بلفظ الطلب وسواء كان معه نداء أو لم يكن، والدعاء أخف من النّداء لأن البهائم تناديها فلا تجيب فإذا دعوتها وزجرتها أتت. فالنداء للخواص والدعاء للعوام فمن لم يستجب للنداء قد يستجيب للدعاء، ومن لم ينفع فيه (الدعاء) فهو في غاية الجهل والغباوة.
ونقل أبو حيان عن بعضهم: (إلاّ) زائدة.
قال ابن عرفة: وسببه توهم التناقض لأنه إذا قال: ﴿لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً﴾، ويلزم أن يكون الدعاء والنداء مسموعين له
504
وقوله ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ يدل (على) أنه لا يسمع شيئا بوجه.
قوله تعالى: ﴿فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾.
أي العقل التكليفي النافع.
505
قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ... ﴾.
تقرير مناسبتها لما قبلها أنه لما تضمن الكلام السابق ذمّ المشركين لكونهم ليسوا أهلا لأن يخاطبوا بشيء من الأخبار ولا بشيء من الأوامر والنواهي، عقب ذلك بخطاب المؤمنين بهذا الأمر المستلزم لكونهم أهلا للمخاطبة.
وقرر الفخر وجه مناسبتها بوجه لا ينهض والأمر بقوله / «كُلُوا مَا» للامتنان أو للاباحة.
قال ابن عطية: الطيب هنا يجمع الحلال المستلذ، والآية تشير بتبعيض «من» إلى أن الحرام رزق.
قال ابن عرفة: وجه دلالتها على ذلك من المفهوم لأن مفهومه أن البعض الآخر وهو الذي ليس بحلال ولا مستلذ غير مأذون فيه.
قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون هنا سؤالا وهو أنه قال في الآية الاخرى ﴿ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات﴾ ولم
505
يقل من طيبات ما رزقناكم مع أن تلك خطاب للرسل (فهو كان يكون) أولى بهذا اللفظ؟ وعادتهم يجيبون بوجيهن:
- الأول: أمّا إذا قلنا: إن الرزق لا يطلق إلا على الحلال فنقول: لمّا كان الأنبياء معصومين أمروا أمرا مطلقا من غير تعيين الحلال وغيرهم ليس بمعصوم، فقيد الإذن في الأكل له بالحلال فقط فيكون الطيب على هذا المراد به المستلذ.
- الجواب الثاني: الرسل في مقام كمال التوحيد ونسبة كل الأشياء إلى الله عَزَّ وَجَلَّ وأما غيرهم فليس كذلك فقد يذهل حين اقتطاف الثمرة ويظن أنها من الشجرة ويغفل عن كون الله تعالى هو الذي أخرجها منها وأنبتها فقيل لهم ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ حتى يعتقدوا حين التناول أن ذلك الرزق كله من عند الله وليس للمتسبب فيه صنع بوجه.
506
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم... ﴾.
قال ابن عرفة: الدّمُ المسفوح نجس بإجماع، وكذلك الذي يخرجه الجزار من منحر الشاة بعد سلخها والدّم الذي يبقى في العروق طاهر (بإجماع وأمّا ما انتشر من العروق على اللحم ففيه قولان والمشهور أنه طاهر) كذا قال اللّخمي وغيره.
والميتة هي (كل مازهقت) روحه بغير ذكاة من الحيوان المفتقر إلى الذكاة شرعا.
فإن قلت: هلا قيل: إنما حرم عليكم لحم الميتة كما قال: لحم الخنزير؟
506
قلت: الجواب عن ذلك أن الخنزير غير مقدور عليه إلا بالاصطياد، والاصطياد فيه في غالب أمره إنما يكون للحمه، فعلق بما هو المقصود فيه غالبا بخلاف الميتة فإن النفوس تفر منها وتكره لحمها فالمحرم جميعها.
قال ابن عرفة: وما ذبح للجان ويتعمدون ترك التسمية عليه يقولون: إنه لا يؤكل. والظاهر عندي جواز أكله لأنهم لا يقصدون به التقرب للجان وإنما يقصدون به تكرمته، وأنه ينال منه ولا يتركون إلا النطق بالتسمية وهم إنما يسمّون في أنفسهم.
قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ... ﴾.
الفاء للتسبب ومن الأولى (أن تكون) موصولة لما تقدم فى قوله تعالى ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا﴾ من أن القضية الشرطية لا تدل على وقوع الشيء، ولا على إمكان وقوعه. و ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ قال ابو حيان: حال من الضمير فيى «اضطر» وقيل: حال من الضمير في الفعل المقدر معطوفا على «اضطر» أي في فأكل غير باغ ولا عاد.
وتعقبه أبو حيان باحتمال تقدير ذلك (الفعل) بعد ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ وهو أولى لأن في تقديره قبله فصلا بين ما ظاهره الاتصال بما بعده.
507
قال ابن عرفة: وهو أيضا باطل من جهة المعنى لأنه، على ما قال هو يكون البيان للحكم بعد الأكل وعلى ما قال أبو حيان يكون البيان للحكم قبل الأكل والبيان قبل الفعل أولى.
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: البغي غالب إطلاقه في اللّسان على ابن آدم (والعدوان غالب إطلاقه على غير ابن آدم).
فيقال: عدا عليه السّبع ولا يقال: بغى عليه، ويقال: بغى فلان على فلان فالبغي خاص بالعاقل والتعدي مشترك، وغالب إطلاقه على غير العاقل، وفرق المنطقيون بين حرف السّلب وحرف العدول فحرف السلب «لا» وحرف العدول «غير» وجعلوا قولك: الحائط لا يبصر سلبا وزيد لاَ يبصر عدولا، فجاءت هذه الاية على هذا المنوال لاقتران «غير» بالبغي الخاص بالعاقل واقتران «لا» بالتعدي الذي كثر اطلاقه على غير العاقل حتى اشتهر به وغلب عليه.
قوله تعالى: ﴿فلآا إِثْمَ عَلَيْهِ... ﴾.
قال ابن عرفة: لا ينفى إلاّ ما هو في مادة الثبوت ووجود الإثم هنا غير متصور لأن الأكل من الميتة في هذه الحالة واجب لإقامة الرمق قال: فأجاب بان المراد لا عقوبة عليه أو لا ذم عليه.
واختلفوا في حد الحرام.
قال المتقدمون: إنه ما عوقب فاعله. قال بعضهم: والصحيح أنه ما ذم فاعله لأن العقوبة قد ترفع بالتوبة، فعلى الأول معنى الآية فلا عقوبة عليه، وعلى الثاني معناها فلا ذم عليه.
قال ابن عرفة: وفي الآية دليل على أن العام في الأشخاص عام في الأزمنة والأحوال، وهو الصحيح، ولولا ذلك لما احتيج
508
إلى استثناء المضطر منه، واختلفوا في الآية، فقيل: إنها خاصة بسفر الطاعة، وقيل عامة فيه وفي سفر المعصية لأنه لو لم يبح للعاصي أكل الميتة للزم أن يضاف إلى عصيانه بالسفر عصيان آخر بقتله نفسه؟
وأجاب بعض الناس عن ذلك، بأن عصيان السفر يرتفع بالتوبة وهي (ممكنة) / حينئذ قال ابن عرفة: وفي الآية حجة للمشهور وهو أنّ العاصي بالسفر (لا يباح له أكل الميتة).
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
قال ابن عرفة: وجه مناسبة المغفرة أنه قد يظن أنه مضطر فيأكل الميتة ولا يكون مضطرا إليها.
509
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً... ﴾.
قال ابن عرفة: عطفه بالواو مع أن الشراء مسبوق عن الكتم فهلا عطف بالفاء؟
وأجاب عن ذلك بأن المراد الذمّ على كل وصف منهما لا على واحد فقط. وجعل الثمن مشترى فإما أن يتجوز في لفظ «يَشْتَرُونَ» فيجعل بمعنى يبيعون أو في لفظ «ثمنا» بمعنى مثمون قليلا؟
وهذا إن حملنا اللّفظ على حقيقته اللّغوية فنقول يصح: إطلاق الثمن على المشترى وعلى عوضه وإن نظرنا الاصطلاح فيجيء ما قلناه.
قيل لابن عرفة: ظاهره منع أخذ الأجرة على تعليم القرآن لأنه من كتم ما أنزل الله؟
فقال
509
ابن عرفة: أباح له أخذ الأجرة عليه كما أباح له ثمن الماء لأجل المشقة، (وكما) أباح له أخذ ثمن الطّعام في الأعوام التي هي مسبغة مع أنه يجب عليه إعطاؤه والواجب إنما هو تعليمه وإعطاؤه ما عنده سواء كان بالثمن أو بغيره وليس الواجب عليه بذل ما عنده بلا ثمن وهذه أمور جعلية لا عقلية.
قوله تعالى: ﴿أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار... ﴾.
قال تعالى في سورة الغاشية ﴿لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ﴾ وأجاب ابن عرفة: بأن الضريع طعامهم ولا يأكلون منه وإنما تكون المعارضة إن لو قيل ليس لهم أكل (إلا) الضريع أو يكون باختلاف الحالات في الأوقات (أو يكون) الضريع نارا فأكلهم للضريع أكل للنار، والأكل المضغ فهو في الفم لا في البطن لكن روعي السبب.
510
قوله تعالى: ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى... ﴾.
إن قلت: ما فائدة قوله «الذين» وهلا قال: أولائك اشْتَرُوا الضَّلاَلَةَ بِالهُدَى كما قيل ﴿أولئك يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون﴾ {أولئك
510
كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} (فهل هو للحصر) ؟
(فأجاب ابن عرفة: بأنه ليس للحصر بل للتحقيق، أي فهم جديرون وحقيقون بأن يقال فيهم هذه المقالة وهي أحق من غيرهم.
ابن عرفة: وفي كتاب الوصايا من المدونة: إذا أوصى فلان بعبده لرجل ثم أوصى به لرجل آخر فهو بينهما نصفين. فإن قال: عبدي الذي كنت أوصيت به لفلان فهو لفلان فلذلك رجوع عن الوصية الأولى ويختص به الثاني).
قال ابن عرفة: إنّ ﴿اشتروا الضلالة بالهدى﴾ راجع لتصوّر حالتهم في الدنيا.
قوله تعالى: ﴿والعذاب بالمغفرة... ﴾.
راجع لتصوّر حالهم في الآخرة وهذا أولى مما قال ابن عطية: لما كان العذاب تابعا للضلالة والمغفرة تابعة للهدى أدْخِلا في (حوز) الشراء، ولما كانوا متمكنين من الإيمان والكفر جعلوا كأنّهم حصلوا الإيمان ثم باعوه بالكفر.
وتقدم لابن عطية في أول البقرة الاستدلال بهذا على أن من خير بين شيئين يعد منتقلا.
511
قيل لابن عرفة: إنما فيها الاحتجاج لمن يقول من ملك أن يملك بعد مالكا؟
فقال: تلك قاعدة (مختلف) فيها والصحيح بطلانها وهذه قاعدة صحيحة دلت عليها آخر مسألة من كتاب الخيار في المدونة.
قيل لابن عرفة: هم ليسوا مخيرين بين الإيمان والكفر؟
فقال: لما كانوا متمكنين منهما فكأنهم (مخيرون) بينهما.
قال ابن عرفة: وإنما أفردت المغفرة (إشارة) إلى أن مغفرة واحدة (تكفي) في رفع العذاب وإن تعدد، وهذا دليل على أن التوبة من الكفر قطعية القبول وأنّها تَجُبّ ما قبلها، قال الله تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ قوله تعالى: ﴿فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار﴾.
(قال ابن عطية عن جماعة: أظهروا التعجب (من) صبرهم على النار لما عملوا عمل) (من وطّن نفسه عليها)
512
أي ما أجرأهم على النّار. وحكى عن المقتضب للمبرد أنه تقرير واستفهام من قولك مصبور أي محبوس أي ما أشد حبسهم في النار أو ما أحبسهم في النار.
قال ابن عرفة: وهذا أصوب لأن الأول يقتضي أن لهم اختيارا وجلادة على الصبر على النّار وهذا مدح لهم بالقوة والجلادة.
والثاني يقتضي أن حبسهم فيها اضطرار ليس لهم فيه اختيار بوجه.
قيل لابن عرفة: إنّما التعجّب من أسباب صبرهم على النار؟
فقال: أسباب الصبر (محبوبة) مستلذة، لا يتعجب (منها) كما قال «حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ».
513
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق... ﴾.
قال ابن عطية: أي بالواجب أو بالأخبار الصادقة.
وضعف ابن عرفة الأول بأن فيه (إيماء لمذهب) المعتزلة القائلين بالتحسين والتقبيح عقلا وأنّ بعثة الرّسل وإنزال الكتب واجب
513
عقلا فليس المراد إلا إنزال الكتب مصاحبا لكلامه الحق المصدق، وإنزاله بسبب الحقّ الصدق.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾.
هم كلهم في شق واحد بعيد عن شق الحق، ولا يؤخذ منه أن المصيب واحد لأنّ المراد المختلفين في الكتب/ من أهل البدع وكلهم على الباطل.
514
قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ... ﴾.
قال ابن عطية عن ابن عباس (ومجاهد) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: الخطاب للمؤمنين أي ليس البر الصلاة وحدها. وعن قتادة والربيع: (الخطاب) لليهود والنصارى.
قال ابن عرفة: هو الظاهر لقوله: ﴿قِبَلَ المشرق والمغرب﴾ والمراد بالمشرق حقيقته لأنّ النّصارى يستقبلون مشرق الشمس، والمراد بالمغرب الأفق لأن اليهود إنما يستقبلون بيت المقدس وهو في جهة المغرب. وفي الآية إيماء لصحة القول بأن المطلوب في القبلة الجهة لا العين. ومعنى «قِبَلَ المَشْرِقِ» : عند المشرق وهو مراد الموثقين بقولهم: قبل فلان (لفلان) كذا وكذا دينارا.
514
قال ابن عرفة: ومن لوازم الإيمان بالملائكة الإيمان بعصمتهم وأنهم (أجسام). وصوب المقترح في شرح الإرشاد القول بثبوت الجسمية لهم بالسمع لا بالعقل، كأنه اختار ثبوت الجوهر المفارق سمعا لا عقلا.
قوله تعالى: ﴿واليوم الأخر... ﴾.
قوله تعالى: ﴿والنبيين... ﴾.
قال ابن عرفة: (النبي) أعمّ من الرسول، وثبوت الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص، فما يلزم من الإيمان بالنبي الإيمان بالرسول فهلا قيل المرسلين؟
والجواب: أن ذلك باعتبار الوصف، لأن وصف النبوة أعم من وصف الرسالة. وترتب الحكم هنا عليهم من حيث ذواتهم لا من حيث أوصافهم، وعرف بالألف واللاّم الدالة على العموم فيدخل في ضمنه الأخص بلا شك فهو كقولك كل حيوان في الدار.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن الإيمان باليوم الآخر والملاَئِكَة وَالكِتَابِ يستلزم الإيمان بالرسول؟
فقال: لايحتاج إلى هذا والجواب ما قلناه.
فإن قلت: لم جمع الكل وأفرد ابن السبيل؟
515
قلنا: لِكثرتهم باعتبار الوجود الخارجي وقلة ابن السبيل، وقرىء ﴿لَيْسَ البِرَّ﴾ بالنصب.
قال ابن عرفة: و «أَنْ تُوَلُّوا» اسم ليس إما لكون «أَن» وما بعدها أعرف المعارف أو لأن التولية معلومة والبر مجهول أي ليست التولية برا.
قوله تعالى: ﴿وَفِي الرقاب... ﴾.
قوله تعالى: ﴿والموفون بِعَهْدِهِمْ... ﴾.
قال ابن عرفة: إن قلت: هلا قيل: بعهودهم فهذا أبلغ من الوفاء، فالعهد الواحد لا يستلزم الوفاء (بالعهود) بخلاف العكس؟
فالجواب: أنه يستلزم من ناحية أنّ المكلف إذا عاهد هو وغيره ووفى غيره بالعهود وبِهِ فإنه قد حصل الوفاء بالعهد على الإطلاق بخلاف ما إذا عاهد وحده ولم يوف فإنّه لم يقع في الوجود وفاء بالعهد، فتعظم العقوبة والذم.
فإن قلت: ما فائدة قوله ﴿إِذَا عَاهَدُواْ﴾ ولو أسقط لكان الكلام مستقلاّ صحيحا؟
فالجواب عن ذلك: أنّه أفاد سرعة الوفاء فالعهد به (يعقب) العهد منهم فهُم بنفس أن يعاهدوا يبادرون إلى الوفاء بالعهد.
516
قوله تعالى: ﴿والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس... ﴾.
البَأْسَاءُ هو الفقر، والضَّرّاءُ هو المرض، وحين البأس أي حين القتال وهذا ترق، لأن وقوع الفقر والحاجة (في) الناس أكثر من وقوع القتال فالصبّر على القتال أشد لغرابته، وقلة وقوعه، ودونه الصبر على المرض ودونه الصبر على الفقر، ولهذا تجد الفقراء الأصحاء أكثر عددا من المرضى، والمرضى أكثر عددا من الفرسان المقاتلين.
فإن قلت: لم قال «في البأساء» فعداه بفي ولم يقل وفي البأس وكان يقال: والصابرين حين البأساء وحين الضراء؟
فالجواب عن ذلك: أنه لما كان وقوع القتال أقلها وجودا بالنسبة إلى غيره كان الصبر عليه أغرب وأعجب فالمراد بالصابرين من حصل الوصف الكامل من الصبر ولو عدي بفي لتناول من حصل منه مطلق الصبر، وهو الصابر في أول جزء من أجزاء القتال لأنه حينئذ يصدق بأول جزء، فقيل: «وَحِينَ البَأْسِ» (ليفيد) كمال الصبر من أول القتال إلى آخره وأما الفقر والمرض فكلاهما أكثري الوقوع فلا غرابة فيهما فلم يحتج إلى التنبيه على كمال الصبر فيه.
قال سيدنا علي رضي الله تعالى عنه: «الصبر رأس كل عبادة وإذا ذهب رأس الشيء ذهب ذلك الشيء». وذكر بعضهم أن العهد يكون بالقول وبالفعل كمن يحدث حديثا وهو مترقب (لمن) يسمعه فهذا كالعهد في عدم نقله عنه والتحدث به.
517
قوله تعالى: ﴿أولئك الذين صَدَقُواْ... ﴾.
كرر لفظ أُوْلاَئِكَ تنبيها على أن كل وصف من هذا كاف في حصول المدح والثناء لا المجموع.
قيل لابن عرفة: احتجّ بها بعض الأصوليين على أن هذه الأمور واجبة؟
ابن عرفة: الصحيح عند الأصوليين أن الواجب ما ذمّ تاركه فالواجب إنما يستفاد من الذم على الترك لا من المدح على الفعل لأن ذلك قدر مشترك بين الواجب والمندوب.
قيل لابن عرفة: هذه الآية حجة على أن (ابن قتيبة) في قوله: إن الخبر المستقبل إذا طابق مخبره فإنما يسمّى موافقة و (وفاقا) ولايسمى صدقا، وقد سماه هنا صدقا فقال: والصدق هنا المراد به المطابقة المطلقة.
(فقال ابن عرفة: بل هي حجة له لأنه يجعل ﴿أولئك الذين صَدَقُواْ﴾ راجعا للماضي ويجعل ﴿الموفون بِعَهْدِهِمْ﴾ راجعا للأمر المستقبل فيكون الكلام تأسيسا وعلى قولكم «أنتم» يكون تأكيدا والتأسيس أولى من التأكيد).
قاله ابن التلمساني شارح المعالم الفقهية في المسألة الأولى من الباب (الثامن).
518
قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص... ﴾.
قال ابن عرفة: الخطاب للمؤمنين.
فإن قلنا: إنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟
فنقول: إنما عين المؤمنين هنا لما ذكره المفسرون في سبب نزول هذه الآية. قال: كتب بمعنى فرض أو كتب في اللوح المحفوظ.
وأورد الشيخ ابن العربي هنا سؤالا قال: كيف يفهم الكتب بمعنى الفرض مع أن القصاص غير واجب؟
قال ابن عرفة: والجواب أنّا إذا اعتبرنا جهة المجني عليه ووليه فالقصاص غير واجب لأنه مخير بين القصاص وأخذ الدية، وإذا راعينا جهة الجاني فالقصاص غير (واجب). إن طلب الولي الدية، وهذا بخلاف الدين فإنّ رب الدّين إذا أسقط دينه وامتنع من أخذه وأبى ذلك المديون فإنه يجبر رب المال على أخذ دينه، ولذلك إذا حلف أنه لا يأخذه وحلف المديون أنه لايحبسه فأنه يحنث رب المال وما ذاك إلا لحفظ النفوس، بخلاف الأموال فإن المديان يقول له: لا أقبل (مزيتك) ولا أحبها.
قال ابن عرفة في هذا: والقصاص (فعال) لأنه يفعل كما فعل له (كالإتباع) سواء لأنه يفعل كفعل المتبع.
519
قال ابن العربي: واحتج بها الحنفية على أن المسلم يقتل بالكافر لقولهم «الحر بالحر» فعمم ولم يقيد ولو كان بينهما فرق لبينه.
وأجيب بقوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ ولا أخوة بين المسلم والكافر إلا أن يريد بالأخوة الصحبة فحينئذ (لايزال السؤال واردا). لكن يجاب بما قال الفخر الرازي في المحصول في قوله تعالى ﴿لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة﴾ قال: المراد نفي مطلق المساواة في الخلود وغيره فاحتج به الشافعي على أنّ المسلم لا يقتل بالكافر.
قال: والأعم لا إشعار له بالأخص.
قال ابن عرفة: ورد عليه بعضهم بأنه لا يستوي فعل في سياق النّفي فيعم لأن نفي الأعم أخص من نفي الأخص (فنقول) تلك الآية دلت على نفي مساواة بينهما فلا يقتل المسلم بالكافر.
قال الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي: قال الكوفيون والثوري: يقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر الذمّي.
واحتجّوا بهذه الآية. قالوا: الذّمي مع (الحر) متساويان في حرمة الدم على التأبيد بدليل أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي كمال المسلم فيتساويان في الذّم إذ المال إنما يحترم بحرمة مالكه.
520
قال ابن عرفة: يقال: إنّما قطع في المال لأنه من فساد الأرض بدليل قول مالك: إن الكافر إذا سرق من مال المسلم فإنما تقطع يده، وإذا زنا بالمسلمة طائعة فإنه لا يحد وما ذلك إلا لأنّ أخذ المال من الفساد في الأرض بخلاف الزنا.
قال ابن عرفة: وقولهم في العبد إذا جنى جناية وقطع يد المسلم إنّ سيده مخيّر، فله أن يسلمه في الجناية مع أنه يبقى سليما في بدنه.
والصواب كان في عقوبته أن تقطع يده لأن إسلامه في الجناية كبعيه، فما يظلم (بذلك) إلاّ سيّده وأما هو فلم يقع عليه عقاب ولا حد يرتدع به بوجه.
وغلط الزمخشري هنا في نقله عن الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لأنه قال: مذهب مالك والشافعي أن الحر لا يقتل بالعبد، والذكر لا يقتل بالأنثى. أخذ بهذه الآية.
(واختلفوا في هذه الآية) فقيل: إنها منسوخة بآية المائدة وقيل مجملة وتلك مبينة لها.
وقال ابن العربي: تلك مجملة وهذه مبنية (لها).
521
ابن عطية: وقال علي والحسن ابن أبي الحسن إذا قتل رجل إمرأة فإن أراد أولياؤها قتلوه (ووفوا) أولياءه نصف الدية، وإلا استحيوه وأخذوا الدية، وإذا قتلت امرأة رجلا فإن أراد أولياؤها قتلوها وإلا استحيوها، وإن قتلوها أخذوا نصف الدية وإن استحيوها أدّوا الدية كاملة.
قال ابن عرفة: (نظيره) في مذهبنا قولهم في كتاب الزكاة: إذا وجبت على الإنسان بنت لبون فأعطى للساعي بنت مخاض وما نقصت قيمتها عن بنت اللّبون أو وجب عليه بنت مخاض فأعطاه بنت اللّبون وأخذ منه ما زادت قيمتها عن قيمة بنت المخاض فالمشهور عدم الإجزاء وقيل يجزيه.
قوله تعالى: ﴿ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ... ﴾.
(ابن عطية) الإشارة إلى ما شرعت له هذه الآية من أخذ الدية، وكان عند بني إسرائيل في التوراة وجوب القصاص ولا دية عندهم.
وقال الطبري: حرم على أهل الإنجيل الدّية وكان الواجب عليهم إمّا القصاص أو العفو على غير شيء.
وقال الزمخشري: فرض على أهل الإنجيل العفو وحرّم عليهم القصاص والدّية.
522
ورده ابن عرفة بوجهين:
- الأول: ما نقله الطبري وهو حجة في التفسير، - الثاني: أن الأصوليين عدوا حفظ النفوس في الكليات الخمس التي اجتمعت الملل كلها على (حفظها)، وأيضا فهو مصادم لمقتضى الآية لأنه تكون شريعة النّصارى أخف من شريعتنا فلا يكون ذلك تخفيفا بل تثقيلا.
قال ابن عرفة: فالتخفيف هو أنه كان في الجاهلية تحتم القصاص من غير قبول العفو، فصار الآن عقوبته إذا عفى عنه الولي أن يجلد مائة ويسجن عاما.
قوله تعالى: ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
ابن عطية: وقال الحسن: عذابه/ أن يؤدي الديّة فقط ويبقى (إثمه) إلى عذاب الآخرة.
قال ابن عرفة: هذا (شبه) ما قالوا في اليمين الغموس إنها أعظم من أن تكفر.
523
قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ... ﴾.
ابن عرفة: فيه دليل لاهل السنة القائلين بأن لا حسن ولا قبح لأن الآية خرجت مخرج الامتنان بتعداد هذه النعم، فدلّ على أنها تفضل من الله تعالى، ولو كان القصاص واجبا في (العقل) لما حسن كونه نعمة، ولما صح الإتيان به لأن ذلك تحصيل الحاصل.
523
قال الأصوليون والبيانيون: وهذه أبلغ من قول العرب القتل أنفى للقتل.
وقدره ابن مالك في المصباح بأربعة أوجه:
أحدهما: أن حروفها عشرة، وأسقط منها الياء من في (وألف) الوصل من «القِصَاصِ» لسقوطها في النطق وفي التفعيل أعني الأوزان (الشعرية)، وحروف «القتل أنفى للقتل» أربعة عشر.
الثاني: تنافر الحروف في المثل وتناسبها في الآية.
الثالث: لفظ الحياة محبوب، فالتصريح باسمها أولى من الكناية عنه بنفي القتل.
الرابع: صحة معناه لأن تنكير الحياة يفيد إما حياة عظيمة أو نوعا من الحياة إشارة لحسنه وغرابته، بخلاف المثل فإن معناه غير صحيح وحقيقته غير مرادة.
قال ابن عرفة: ويظهر لي بيان الرّابع إما بأن القتل في المثل (مطلق) (يتناول) القتل عدوانا مع أنه غير مراد والآية صريحة في نفي ذلك.
قال (ابن عرفة) : والآية أصوب من وجه آخر وهو أنها تقتضي المساواة في جميع الوجوه بخلاف المثل فليس فيه تنصيص على المساواة.
524
وذكر (الطبري) في تأليفه في البيان والجعبري في شرح الشاطبية الصغرى أنّ الآية تفضله من وجوه: أحدها: (إيهامه) التناقض لمنافاة الشيء لنفسه أو العموم فيكون القتل ظلما أنفى للقتل قصاصا والمراد العكس بخلاف الآية فإنّها صريحة في معناها من غير احتمال (شيء).
الثاني: عدول الآية عن التكرار وعن الإضمار، بخلاف المثل لأن تقديره كراهية القتل أنفى للقتل.
الثالث: سلامة ألفاظها عما يوحش السامع، وتخصيصها بالحياة المرغوب فيها وبعدها عن تكرار (قَلْقَلة) القَافِ للضَغط والشدة وتخصيصها بتكرار الصاد المستجلب (باستعلائها) وإطباقها مع الصفير للفصاحة.
الرابع: فيها الطباق المعنوي بين القصاص والحياة.
قلت: وزاد بعضهم عن القاضي ابن عبد السلام أن الآية أعجب لاقتضائها أنّ الموت سبب في الحياة ولأن دلالة القصاص على الحياة مطابقة ودلالة القتل عليها باللزوم.
525
قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ... ﴾.
قال الزمخشري: الوصية للوارث كانت في ابتداء الإسلام فنسخت بآية المواريث ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أن الله أعطى لكل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث».
قال (ابن عرفة) :(وهذا حديث تلقته الأيمة بالقبول حتى لحق بالمتواتر وإن كان أخبار آحاد. وحكى ابن عطية عن ابن عباس والحسن أنه نسخ منها الوصية للوالدين والقريب والوارث ثم قال: وهي في آية الفرائض في النساء) (ناسخة لهذا الحديث المتواتر: قوله: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه» ). وهذا خطأ كيف يجعله متواترا والمحدثون مطبقون على أنه لم يصح، وكلام الزمخشري فيه أصوب.
ابن عطيّة: «الوَصِيَّةُ» مفعول لم يسم فاعله «لكُتِبَ» وجواب الشرطين «إِذَا» و «إن» مقدر يدل عليه ما تقدم. وتعقبه أبو حيان بامتناع تقدّم العامل في «إِذَا» عليها.
526
ابن عطية: يجوز أن يكون العامل في «إذا» الإيصاء المقدر المدلول عليه بلفظ الوصية والوصية. مبتدأ وهو جوابه للشرطين معا.
وتعقبه أبو حيان بأنه إذا قدر قبل «إذا» لزم تقدم العامل فيها عليها، وإن قدر بعدها فهو موصول، ومعمول الصلة لا يتقدم عليه وبأن المقدر هنا ضمير المصدر معناه كتب عليكم هو أي الإيصاء وضميره المنطوق به لا يعمل عند الكوفيين فأحرى (المنوي) بامتناع كون الشيء الواحد جوابا لشرطين معا.
وأجاب ابن عرفة بأن المعنى يقتضي كون الجواب للشرطين معا لئلا يلزم عليه فيمن حضره الموت وله مال قليل أن يؤمر بالوصية، فالأمر فيها إنما هو لمن اجتمع فيه الوصفان، ورده بعض الطلبة بأن مراد أبي حيان أنّ الجواب للشرط الأول والشرط الثاني قيد في الجواب، وجوابه محذوف يدل عليه جواب الأول والمعنى:
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت «الوصية» إِن تَرَكَ خَيْرا.
قال ابن عرفة: يلزمك أن يكون الشرط الثاني وجوابه جوابا للأول، والبحث إنما هو على أنهما شرطان وجوابان أو شرطان وجواب واحد.
قال ابو حيان: لا يجوز أن يكون جواب (إذا) مقدرا من معنى كتب (لمضيه) واستقبال الشرط.
527
قال ابن عرفة: أراد ما ذكر ابن عصفور في باب القسم (من) أن جواب الشرط لا يحذف إلا إذا كان فعل الشرط ماضيا، وبهذا (ردوا) على حازم في قوله تعالى ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾ قال: جواب الشرط مقدر، أي فإنك أنتَ الغَفُورُ الرّحِيمُ، لأنّ (العزّة) لا تناسب المحل، وكان المختار أن يوقف عند قوله «وَإِن تَغْفِرْ لَهُم» «فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ» فردوا عليه بأن جواب الشرط لا يحذف إلا إذا كان فعل الشرط ماضيا.
قال ابن عرفة: واتفقوا على أن الوصية واجبة لكنّها تختلف فقد يكون/ مندوبا إليها إذا كان القريب فقيرا وإن كان غنيا فهي للبعيد أولى.
قوله تعالى: ﴿حَقّاً عَلَى المتقين﴾.
إن قلنا: إن المتقي مرادف للمؤمن، فالآية واضحة وإن قلنا إنه أخص من المؤمن كما هو مذهب المحققين من المتأخرين فتفهم الآية على أن الخطاب باعتبار ظاهر اللفظ للتكليف وفي المعنى الامتثال
528
لأنّ ظاهرها تخصيص وجوب ذلك (بالمتقي) فلا بد أن يُرَادِفَهُ وجوب قبول وامتثال.
فإن قلت: ما فائدة الإتيان بهذا المصدر (المؤكد) ؟
وأجاب ابن عرفة: بأن قولك «أكرم زيدا» أبلغ من قولك أكرم زيد إذا جاء عمرو ولضعف الثاني بتعليقه على الشّرط، والأول مطلق فهو أقوى ولما أتي الأمر بالوصية مقيدا بالشرط وهو إن (تَرَك) خيرا ضعف فأكد بقوله ﴿حَقّاً عَلَى المتقين﴾.
قال أبو حيان: «حقا» مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي حُقّ ذلك حقا، ورُدّ بأن «على المتقين» إما متعلق به والمصدر المؤكد لا يعمل، أو صفة له فيخرج عن التأكيد لتخصصه.
قال ابن عرفة: تقرر أن معاني الحروف والأسماء الجوامد تعمل في الظروف والمجرورات. قلت كقول الشاعر:
كأنه خارج من حيث صفحته سعود شرف نشده عند معتاد
أنشد ابن الصائغ في باب الاشتغال ورد به على ابن عصفور وقوله:
أنا ابن ماوية (إذا جدّ النقر)
529
قال أبو حيان: وقيل: نعت لمصدر محذوف أي كتابا حقا أو (إيماء) وقيل منصوب ب «المتقين» وهو بعيد لتقدمه على عامله الموصول وعدم تبادره إلى الذهن.
قال ابن عرفة: العلوم النظرية كلها كذلك لأنها توصل إلى فهم المعاني الدقيقة التي لا تفهم بأول وهلة.
قيل لابن عرفة: إنمّا (يراد) أن الظاهر خلافه؟
فقال: إن أراد أن ظاهر اللّفظ ينفيه فليس كذلك وإن أراد أن ظاهر اللّفظ لا يقتضيه ولا يدل عليه فكذلك المعاني الدقيقة كلها.
أبو حيان: (والأولى) أنه مصدر من معنى «كتب» لأن معناه وجب وحق مثل قعدت جلوسا.
قال ابن عرفة: الّذي فر منه وقع فيه لأنه ألزم غيره امتناع عمل المصدر المؤكد لغيره، وكذلك يلزمه هو.
قيل لابن عرفة: هل يؤخذ من الآية عدم وجوب الوصية كما قالوا في ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين﴾ ويقال له: إن كنت محسنا أو متقيا (فمتّع) ؟
530
فقال: إنه يتم لك هذا لو وقع الاتفاق على عدم وجوب المتعة.
531
قوله تعالى: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ... ﴾.
ابن عرفة: إن أريد به الموصى فالمعنى: فمن لم يمتثله، لأن تبديل حكم الله تعالى غير معقول. وأن أريد به الوارث الأجنبي فالتبديل حقيقة بَاقِ على ظاهره.
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
قال ابن عرفة: كان بعضهم يفهم فيقول فائدة الحصر أنّ الموصي للفقراء بوصية ثم منعهم منها سلطان ظالم فالأجر ثابت للموصي والإثم خاص بالظالم.
قال: (وكذلك) أخذ منه بعضهم، أنّ الموصي إذا اعترف بدين عليه وحبسه الوارث عن ربّه فقد برىء الموصي من عهدته وإثمه على المانع. ففي الآية ثلاثة أسئلة:
- الأول: لم خص الحصر بإنَّما ولم يقل: فإثمه إلا على الذين يبدلونه مع أنه أصرح؟
والجواب أنهم قالوا: إنّ «إنما» تقتضي ثبوت ما بعدها بخلاف (إلاّ) فتقتضي وجود الإثم وثبوته.
- السؤال الثاني: قال «يبدلونه» بلفظ المضارع «ومن بدله» بلفظ الماضي؟
531
والجواب عنه ما أجاب الزمخشري في قوله الله تعالى ﴿وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ وهو أنه لما كان القتل عمدا ممنوعا شرعا عبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل إشعارا بكراهيته (والتنفير) عنه حتى كأنه غير واقع، وكذلك يقال هنا.
قلت: لأنه ذكر لفظ الإثم في الثاني مقرونا بأداة الحصر أتي بالفعل مستقبلا زيادة في (التنفير) عن موجب الإثم.
- السؤال الثالث: هلا استغنى على إعادة الظاهر فيقال: فإنما إثمه عليه؟
والجواب عن ذلك! أنه تنبيه على العلة التي لأجلها كان مأثوما وهي التبديل.
532
قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ... ﴾.
كرر النداء لبعد النداء المتقدم وكثرة ما بين النداءيْن من الفصل فكرره تطرئة.
ابن عطية: الصيام مجمل لأنه لم يعين مقداره ولا زمنه.
قال ابن العربي: بل هو معين في الآية لقوله ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾.
532
(قال ابن عرفة: إنما هو تشبيه حكم بحكم والحكم لا يتبدل ولا يتفاوت فهو تشبيه وجوب بوجوب).
ابن عرفة: وهذا التشبيه وإن رجع إلى الأحكام فهو تسلية لنا لأن الإعلام بفرضيته على من مضى يوجب خفته عل النفوس وقبولها إياه، وإن رجع إلى الثواب فهو تنظير نعمة بنعمة، أي: أنعم عليكم بالصوم المحصل للثواب الأخروي، كما أنعم على من قبلكم من أن ثوابكم أعظم. وحذف الفاعل للعلّم به وزيادة «مِنْ» تنبيه على عموم ذلك في كل أمة من الأمم السالفة إلى حين: تزول هذه الآية.
533
قوله تعالى: ﴿أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ... ﴾.
زيادة/ (في التسلية) والتخفيف، أي هو أيام قلائل تعد عدا.
قلت: كما في قوله تعالى ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ قاله الزمخشري.
قوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً... ﴾.
ابن عطية: قال قوم: متى صدق على المكلف أنه مريض صحّ له (الفطر)، وقاله ابن سيرين فيمن وجعته أصبعه (فأفطر)
533
وحكاه عنه ابن رشد في مقدماته والجمهور: المراد المرض الذي يشق معه الصوم.
قال ابن عرفة: سبب الخلاف ما يحكيه المازري وابن بشير من الاختلاف في الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها فظاهر الآية عندي حجة للجمهور لقول الله ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً﴾ ولم يقل: فمن مرض فظاهره، أنه لا يفطر بمطلق المرض بل مرض محقق ثابت يصدق أن يقال في صاحبه كان مريضا لأن «كان» تقتضي الدوام.
قوله تعالى: ﴿أَوْ على سَفَرٍ... ﴾.
ولم يقل: مسافرا.
قال ابن عرفة: يؤخذ منه في الحاضر إذا عزم على السفر (أن له أن يبيت على الفطر ويفطر، ولا يلزمه كفارة لأنهم قالوا في الحاضر إذا عزم على السفر وبيت) على الصوم ثم أفطر فالمشهور عندنا أنه لا كفارة عليه.
وقال المغيرة المخزومي: تلزمه الكفارة فإذا كان لا يكفر إذا أفطر بعد أن يبيت على الصوم فأحرى أن لا يكفر إذا أفطر بعد أن يبيت على الفطر. تقول: هذا الحائظ على سقوط وهو لم يسقط أي على حالة السفر.
فقوله: ﴿أَوْ على سَفَرٍ﴾ مما يصحح ما قلناه بخلاف المرض، فإنه لايباح الفطر إلا لمن وقع به المرض وهما في المدونة مسألتان متعاكستان.
534
قال: في الحاضر يفطر مريدا للسفر يقضي فقط.
فقال المخزومي وابن كنانة: يقضي ولا يكفر.
قوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ... ﴾.
ولم يقل فعدة أيام أخر، إشارة إلى ما أجاب به الزمخشري في قوله تعالى ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت﴾ وذكر «أَيَّامٍ» إشارة إلى أنه يجزي فيها الصوم في النهار القصير قضاء عنه في النهّار الطويل وإنما المطلوب عدة أيام (كعدد) الأيام الأول لا كقدرها وصفتها.
قال أبو حيان: أجازُوا نَصب ﴿أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾ على الظرف والعامل فيه «كُتِب» أو يكون مفعولا على السعة والعامل فيه كتب ورد بأن الظرف محل الفعل وليست الكتابة واقعة في الأيام وإنما الواقع فيها متعلقها وكذا النصب على المفعول مبني على وقوعه ظرفا انتهى.
قال المختصر: في هذا الأخير نظر. قلت: يريد أنه لا يلزم من منع جعله ظرفا ل «كتب» ان لا يكون مفعولا كما قيل: إن يوم الجمعة مبارك (فجعلوه) اسم يوم مع امتناع كونه ظرفا فليس (هو) مبنيا عليه.
535
قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ.
..﴾
.
حكى أبو حيان في «يُطِقُونَه» خمسة أقوال.
الأول: أنه على تقدير: لايطيقونه، مثل قولهم:
فخالف خلا والله تهبط تلعة من الأرض إلا أنت للذل عارف
وضعفه بأنّه لا دليل عليه.
قال ابن عرفة: والجواب بأن السياق هنا يدل عليه كما قالوا في ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ أن «لا» زائدة وفي ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب﴾ أنها زائدة أيضا.
وأيضا، فيجاب بقوله قبله، ويحتمل قراءة التشديد أنها بمعنى يتكلفونه أو يكلفونه ويكون من تصويب قول بقول.
ونقل ابن عطية في تأويل الآية خلافا. ثم قال: والآية عند مالك إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من رمضان المتقدم فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم فتركه فعليه الفدية.
قال ابن عرفة: ويبقى القضاء عنده مسكوتا (عنه). فإن قلنا: إن القضاء بالأمر الأول فلا يحتاج إلى تقدير. وإن قلنا: بأمر جديد فلا بد من تقديره في الآية، ويكون حذف لفهم المعنى. (
536
﴿وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ﴾ استدلوا به على أنّ المرضع مأمورة بالصوم بدليل إيجاب الفدية عليها).
قوله تعالى: ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ... ﴾.
قال أبو حيان: إضافته للتخصيص وهي إضافة الشيء إلى (جنسه) لأن الفدية اسم للقدر الواجب والطّعام يعم الفدية وغيرها.
قال ابن عرفة: إضافة الشيء إلى جنسه هي إضافة أمرين بينهما عموم وخصوص من وجه دون وجه مثل خاتم حديد، وثوب خز.
قوله تعالى: ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً... ﴾.
إن كانت «مَنْ» شرطية فظاهر وإن كانت موصولة فمشكل لأنه كقولك: إن الذاهبة جارية مالكها.
وأجيب: بأن الخير الأول هو المال والثاني فعل ما هو أفضل من غيره، أو الخير الأول (فضل) والثاني أفضل فعل.
قوله تعالى: ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ... ﴾.
استدلو به على أن الصوم للمسافر خير وأفضل.
537
قلت: وقال لي سيدي الشيخ الصالح الفقيه أبو العباس أحمد ابن إدريس البجائي: لا دليل فيها لأن قوله ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام... ﴾ إلى قوله ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ مسنوخ بقوله الله تعالى ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن﴾ (ويدلّك) على النّسخ قوله تعالى ﴿أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾ وهو جمع قلة ولا يتناول الشهر حسبما قال الزّمخشري معناه: أياما (مؤقتات) (بعدد) ملعوم أو قلائل كقوله ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ.﴾
538
قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن... ﴾.
ابن عطية انظره وأبا حيان.
قال ابن عرفة: نقل الآمدي في شرح/ الجزولية عن السهيلي أنك إذا قلت: صمت رمضان كان العمل في كله، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».
وإذا قلت: صمت في شهر رمضان كان العمل في بعضه بدليل هذه الآية.
قال ابن عرفة: يرد بأن الفعل في الآية لم يتعد إليه بنفسه بل بواسطة «في» لقوله ﴿الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن﴾ وما كان يتم له
538
الاستدلال إلا لو كان تعدى إليه الفعل بنفسه. ونقل بعضهم عن شرح المقرب لابن عصفور أنك إذا قلت صمت رمضان أو شهرا، فالعمل في كله وإن قلت: صمت شهر رمضان فهو محتمل لتخصيصه بالإضافة ولم يرضه ابن عطية.
قال الضحاك: أُنزِلَ القُرآنُ في (فرضه) وتعظيمه والحض عليه، وقيل: الذي أنزل القرآن فيه.
قال ابن عرفة: ولا يبعد أن يراد الأمران فيكون أنزل القرآن فيه تعظيما له وتشريفا ولم يمدح القرآن بما مدح به الشهر لأن فضله معلوم. وقيل: أنزل فيه القرآن جملة إلى سماء الدنيا.
قال ابن عرفة: فالقرآن على هذا الاسم للكل وعلى القول الثاني بأنه أنزل فيه بعضه يكون القرآن اسم جنس يصدق على القليل والكثير.
قوله تعالى: ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى... ﴾.
قال ابن عطية: الألف وللام في «الهدى» للعهد والمراد به الأول.
قال ابن عرفة: إن كانت «مِنَ» لبيان الجنس فالألف (واللاّم) للعهد في الشخص وإن كانت للتبعيض فهي للعهد في جنس فيكون القرآن نوعا من أنواع جنس الهدى.
قوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ... ﴾.
539
قال الزمخشري: فمن حضر المدينة في الشهر.
قال ابن عرفة: خشي أن يترك الآية على ظاهرها لأن ظاهرها وجوب الصوم على حاضر الشهر مع أنه ينقسم إلى حضري وإلى مسافر (فتأولها) على أن المراد حاضر المصر في الشهر والّذي فر منه وقع فيه، لأن حاضر المصر في الشهر ينقسم (أيضا) إلى صحيح وإلى مريض، وظاهر الآية وجوب الصوم على الجميع فإن قال: خرج ذلك بالنّص عليه في الآية الثانية. قلنا: وكذلك المسافر خرج بالنّص عليه. وقيل: من شهد هلال الشهر.
قال ابن عطية: وقال علي بن أبي طالب وابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم من حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله فليكمل صيامه سافر بعد ذلك أو أقام، وإنّما يفطر في السّفر من دخل عليه رمضان وهو مسافر.
قال ابن عرفة: انظر هذا مع قول ابن بشير: «لا خلاف بين لأمة أن السفر من مقتضيات الفطر على الجملة».
قلت: وكان سيدنا الشيخ أبو العباس أحمد بن ادريس رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى يقول: هذه الآية تدل على أن المسافر غير مأمور بالصّوم لأن «شهد» بمعنى حضر والمسافر ليس بحاضر وقالوا إذا صامه فإنه يجزيه ويكون أداء، وقالوا في العبد: إنّ الحج ساقط عنه فإن حج
540
ثم عتق لم يجزه عن حجة الفريضة، فحينئذ نقول: فعل العبادة قبل وجوبها إن كانت عندكم نفلا سدّ مسدّ الفرض.
قال: والجواب عن ذلك أن المسافر مأمور بالقضاء لقوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ وذلك دليل على أن اباحة الفطر له (إنما هو رخصة) لا لكون السفر مانعا من الصوم بخلاف العبد فإنه إن عتق فلا يزال مطلوبا بالحج وإذا فعله بعد العتق كان أداء لأنّه أوقعه في وقته وهذا إن أدركه الصوم في السفر ثم حضر وفعله كان قضاء.
قلت: هذا لا يلزم إلا إذا جعلنا الشّهر من قوله: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ ظرف زمان لأنه على تقدير «في» والمسافر لم يحضر في الشهر، ويحتمل أن يكون «الشهر» مفعولا به فلا يلزم هذا السؤال لأن المسافر حضره وفرق بين قوله حضره وحضر فيه.
وذكرته لشيخنا ابن ادريس فوافقني عليه.
قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾.
قال ابن عرفة: المتعذر هو الذي لايمكن فعله ولو بمشقة والمتعسر هو الذي يمكن فعله بمشقة.
قال: في الآية إشكال وهو أن متعلق الإرادة إما فعل أو حكم.
والأول: باطل بالمشاهدة لأن الله تعالى يفعل الخير والشر وقد رأينا بعض الناس في الخير وبعضهم في الشر.
541
والثاني، باطل لأنه يلزم عليه أن يكون حكم الله تعالى مرادا فيكون حادثا (إذ) من شأن الإرادة التخصيص، مع أن الحكم راجع إلى كلامه القديم الأزلي والتخصيص يستلزم الحدوث.
(قيل) لابن عرفة: يقال المراد الحكم باعتبار متعلقه وهو الحكم المتعلق التنجيزي لا (الصلوحي) ؟
قال ابن عرفة: قد تكرر أنّ الصحيح أنّ التعلق صفة نفسية والتعلق التنجيزي حادث، فإن حكمنا لموصوف بحكم صفته لزم عليه حدوث حكم الله تعالى، وإن لم يحكم له بحكمها لزم عليه مفارقة الصفة (النفسية) لموصوفها، والأمران باطلان.
قيل له: نقول إن الإرادة متعلقة بالحكم؟
فقال: قد تقرر الخلاف في الإرادة هل هي مؤثرة؟ والتحقيق أنه إن أريد به التعلق التنجيزي فهي/ مؤثرة كالقدرة، ومعنى التخصيص فيها كون الشيء على صفة خاصة في وقت معين، وإن أريد به التعلق الصلاحي فهى غير مؤثرة كالعلم فإنه يتعلق ولا يؤثر وهو اختيار المقترح.
قيل لابن عرفة: لعل المراد الحكم التكليفي وهو يسر لاعسر؟
فقال: هذا تخصيص والآية عامة.
قيل له: (الحكم) أبدا لايمكن أن يكون إلا مرادا، وليس هناك حكم غير مراد، تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد؟
542
فقال: الحكم موافق (للارادة) أي مقارن لها لأنه مراد كما نقول العلم مقارن للارادة وليس متعلقا بها.
قال ابن عرفة: الجواب عن الإشكال لا يكون إلا بأنّ (يشرب) يريد معنى يحكم أي يحكم الله عليكم باليسر لا بالعسر ولا سيما إن قلنا: إن تكليف ما لا يطاق غير جائز أو جائز غير واقع. فإن قلت: قوله ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر﴾ عام فيقتضي عموم متعلق الإرادة باليسر. فقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾ تأكيد فلا فائدة له.
قلنا: ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ﴾ ليس جملة مثبتة، فهي مطلته لا تعم، ﴿وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ﴾، (فعل منفي) فيعم. قال: والعسر واليسر (تجنيس) مختلف مثل ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْئَوْنَ عَنْه﴾ قال ابن عطية: وقال مجاهد (والضحاك) : اليسر الفطر في السفر والعسر الصوم في السفر.
قيل لابن عرفة: يلزم أن يكون الصوم في السفر غير مأمور به.
فقال: هذا مذهب المعتزلة، لأنهم يجعلون الأمر نفس الإرادة وإنّما معنى الآية: يريد الله بكم إباحة الفطور ولا يريد بكم وجوب الصوم. لأن الوجوب والإباحة قسمان من أقسام الحكم الشرعي.
543
قلت: وتقدم في الختمة الأخرى لابن عرفة أنه لا يمكن أن تحمل الإرادة هنا على حقيقتها لأنّ المريض (الذي) بلغ الغاية في المرض والمحبوس المعسر بالنفقة، قد أريد بهم العسر فترجع الإرادة إلى باب التكليف وقد قال ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ﴾ قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
منهم من قال: إنه أمر.
قيل لابن عرفة: قول الله جل جلاله ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ يغني عنه لأنه يفيد أنه (يقضي) أياما على عدد ما فاته؟
فقال: أفاد هذا الأمر بإكمالها وهو الإتيان بها على وجهها موفاة كما قالوا: إنّ (الصائم) يأخذ جزءا من أول الليّل في أول النّهار وجزْءا من آخره يتحرّاه لأنه مما لا يتوصل إلى الواجب إلا به.
544
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ... ﴾.
قال ابن عطية: قال عطاء لما نزلت ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ قال قوم: في أي ساعة ندعو؟ فنزلت.
544
(وروى أنّ أعرابيّا قال: يارسول الله أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت).
قال ابن عرفة: هذا يوهم اعتقاد التجسيم والجهة وهو صعب. وقد كان بعض الناس يستشكله فكنت (أقرّبه) له بالمثال، فنقول له: لو فرضنا رجلا لم يشاهد قطّ في عمره إلا الحيوان الماشي على الأرض فإنه إذا سئل عن حيوان يطير لا هو في السماء ولا هو في الأرض بل بينهما بالفضاء فإنه يظن ذلك محالا، وكذلك النملة لو كان لها عقل وسئلت عن ذلك لأحالته.
وظاهر ما ذكروا في سبب نزول هذه الآية أن لفظ «عِبَادِي» عام ولكن آخر الآية يدل على أنه خاص بالمؤمنين.
وقوله «فَإِنِّي قَرِيبٌ» قال أبو حيان: أي فاعلم أني قريب.
قال ابن عرفة: لأن الأمور الواقعة الموجودة لا يصح ترتيبها على الشّرط إلا على مَا ذكر المنطقيون في القضية الاتفاقية مثل كلّما كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا هي لا تفيد شيئا.
قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ... ﴾.
قال ابن عرفة: «أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع» فيه سؤالان:
الأول: ما الفائدة في زيادة لفظ «دعوة» مع أنه مستغنى عنه؟
قيل له: إنّه إذا أجاب الدّعوة الواحدة فأحرى أن يجيب الدّعوات (المكررة المؤكدة) ؟
545
فقال: العكس أولى لا، إذ لا يلزم من أجابة الدعوة الواحدة إجابة الدعوات.
قال: وعادتهم يجيبون عنه بأنّ «أجاب» تطلق على (الإجابة) بالموافق والمخالف و «استجاب» خاص بالموافق، فلو قال: أُجِيبُ الدّاعِي، لأوهم العموم، وقوله «أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع» صريح في الإسعاف بالمقصود، كما نقول: أجيب طلبة فلان وأجيب دعوته، أي أسعفه بمطلوبه.
السؤال الثاني: ما الفائدة في قوله «إِذَا دَعَانِ» مع أنّه أيضا مستغنى عنه.
قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأنّ الدّعاء على قسمين دعاء بنية وعزيمة، والداعي مستجمع لشرائطه، ودعاء دون ذلك، فأفاد قوله «إِذَا دَعَانِ» إجابة الداعي بنية وحضور. وذكروا أنّ الدّعاء على أقسام فالمستحيل عقلا والمحرم لا يجوز، وكذلك الدعاء بتحصيل الواجب لأنه من تحصيل الحاصل، وكذا قالوا في قوله تعالى ﴿وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين﴾ أي المعتدي في الدعاء بالمستحيل عقلا كالدعاء بالجمع بين النقيضين وأما المحال في/ العادة كالطيران في الهواء والمشي على الماء فمنهم من أجازه ومنهم من منعه.
والمختار عندهم أنه إن كان في الداعي أهلية لذلك وقابلية له جاز له الدعاء وإلا لم يجز كدعاء شيخ ابن ثمانين سنة أن يكون فقيها عالما، ودعاء رجل من سفلة الناس بأن يكون ملكا.
546
قلت: في الجامع الثالث من العتبية قال الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: صلى رجل في المسجد ثم انصرف ولم يدع كثيرا فدعاه عروة بن الزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فقال له (أما) كانت لك حاجة عند الله. والله إني لأدعو الله في حوائجي حتى في الملح.
قال الإمام ابن رشد: الدعاء عبادة فيها الأجر العظيم استجيب أَمْ لا، لأنه لا (يجتهد) في الدعاء إلا بإيمان صحيح ولن يضيع له عند الله. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما من داع يدعو إلاّ كان بين إحدى ثلاثة: إما أن يستجاب له، وإمّا أن يدّخر له، وإمّا أن يكفر عنه» إلاّ أن هذا الحديث ليس فيه ما يدل عنه على أنه لا يدّخر له ولايكفر عنه إذا استجيب له لأن معناه: إلا كان بين إحدى ثلاثة، إما أن يستجاب له مع أن يدخر له أو يكفر عنه مع أن يستجاب له.
وفي شرح الأسماء الحسنى للشيخ ابن العربي: الدّعاء لغة الطّلب. «اغفر لنا»، ويطلق على النداء وعلى الترغيب مثل: ﴿والله يدعوا إلى دَارِ السلام﴾ وعلى التكوين مثل: ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض﴾
547
قوله تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي... ﴾.
قال الزمخشري: فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي، إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة.
قال ابن عرفة: يلزم التكرار في الآية لغير فائدة، والتقديم والتأخير لأن الطاعة مُتأخرة عن الإيمان وما معناه عندي: أَلاَ فلينظروا في الأدلة التي ترشدهم للايمان ويؤمنوا بالفعل.
قيل لابن عرفة: هذا إذا قلنا إن ارتباط الدليل بالمدلول عادي أمّا إن قلنا: إنه عقلي فيجري فيه تحصيل الحاصل لأنّهم إذا نظروا آمنوا فلا فائدة في أمرهم بالإيمان؟
(فقال) : إنّما (أمروا) بالإيمان قبل كمال النظر كما تقول لغيرك: انظر في كذا واعلمه، فإنما أمرته بالعلم قبل أن يحصل منه النظر.
قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.
أي لعلهم يحصل لهم الفوز والفلاح، وليس المراد لعلهم يهتدون (بطريق) الفوز لأنه من تعليل الشيء بنفسه.
548
قلت: وجدت هذه الآية في ميعاد القاضي أبي علي عمر بن عبد الرفيع فنقلوا عن ابن الخطيب أن الجواب (هنا) : وقع بالفاء فقط إشارة إلى أنه قريب مطلقا وقربه من العبد مع الدعاء لا يعقبه، وقيل: أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يقول لهم ذلك (وب «قل» وحدها) في ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ (وبهما) معا في ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ الآية، ونسفها إعدامها إشارة إلى الأمر بالمبادرة بالجواب عقب السؤال ردا على من قال بقدمها لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه. ونقلوا عن أبي حيان أنّ التقدير «فَقُلْ إنِي قَرِبٌ» لأنه لا يترتب على الشرط القرب بل الإخبار عن القرب، فقال الحسّاني: لا حاجة إلى إضمار «قُلْ» وقد أبدى ابن الخطيب حكمه ذلك.
فقال بعضهم: لعل مراد أبي حيان أن هذا شرط والشروط اللّغوية أسباب عقلية والسبب العقلي يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم، فليزم إذا عدم السؤال أن يعدم مطلق القرب.
549
فأجاب الطالب: بحديث: «من أحيا أرضا ميتة فهي له» قالوا فيه: إنه قد تصير له بالملك من غير إحياء فترى الإحياء انعدم والملك موجود.
فرد عليه ابن التلمساني في المسألة السادسة من باب الأوامر قال: قال (مالك) في الإحياء إنه غير موجود وإنّما الموجود ملك الشراء.
550
قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ... ﴾.
قال الزمخشري: إن قلت لم كنّى الجماع بالرفث الدال على القبح أي على معنى القبح بخلاف قوله ﴿وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ وقوله ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ﴾ وأجاب عن ذلك بأن ذلك تقبيح لما صدر منهم قبل الإباحة، كما سماه (اختيانا).
550
ابن عرفة: والجواب عندي بعكس هذا وهو أنّه مبالغة في الإباحة والتحليل فعبر عنه باللّفظ الصّريح حتى لا يبقى عندهم فيه شك ولا توهم بوجه.
قال ابن عرفة: وعدّي الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء.
وقال ابن جني في سر الصناعة في مثل هذا: إنّ الرفث يتعدّى بالباء والإفضاء بإلى فذكر الرّفث ولم يذكر معموله، وذكر معمول الإفضاء ولم يذكر عامله إشعارا بإرادة الجميع وأن الكل مقصود بالذكر.
قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ... ﴾.
ابن عرفة: ليس هذا من (النّسب) المتعاكسة مثل: زيد أخوك وأخوك زيد، إذ لا يلزم من كونهنّ لباسا للرّجال أن يكون الرجال لباسا لهن وهذا تأكيد في التحليل.
قوله تعالى: ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ... ﴾.
قال ابن عرفة: هذا من باب القلب مثل كسر الزجاج الحجر لأنّ النفس هي الخائنة قال تعالى ﴿إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء﴾
551
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد... ﴾.
ابن عطية: قال: الإمام مالك/ الاعتكاف إلا في مساجد الجماعات. وروي عنه أن ذلك في كل مسجد.
ابن عطية: وروي عنه أنّ ذلك في كل مسجد من المساجد.
ابن عرفة: لو نذر أن يعتكف فإنه يجزيه عند مالك الاعتكاف في أي مسجد أراد ويخرج به من العهدة وشرط الجامع غير واجب. وكذا قال الشيخ ابن العربي عن الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله... ﴾.
الإشارة (راجعة) إلى الأحكام أو إلى النواهي المتقدمة.
قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَقْرَبُوهَا... ﴾.
نهى عن القرب لحديث «الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه».
552
قيل لابن عرفة: تقرر أن اتقاء الشبهات غير واجب بل مستحب؟
فقال: هي أقسام: مظنون، ومشكوك فيها، ومتوهمة، فالوهم مرجوح، والظن راجح فينتج وجوب الاجتناب، والشك فيه خلاف (ومحمل النهي) في الآية على تحريم المظنون والمشكوك فيه وقال في الآية الأخرى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ ابن عرفة: يحتمل أن تكون تلك قبل هذه فنهينا أولا عن تعدي الحدود، ثم نهينا ثانيا عن قربها؛ أو يكون الأمر الأول للعوام والثاني للخواص. وأجاب أبو جعفر الزبير بأن قرب النساء بالمباشرة يدعو إلى المواقعة فقل من يملك نفسه، فنهى عن القرب ونظيره: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ﴾ ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى﴾ ولذلك منع المحرم من الطيب. فإن قصد البيان العام الفارق بين الحلال والحرام لم ينه عن المقاربة بل عن التعدي فقط، مثل
﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾ الى قوله ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ فحرم أموالهم على الأزواج بغير حق ما لم يقع نشوزٌ أو ما يمنع عن القيام بحقوقهم.
وأجاب بعضهم بأنّ تلك تقدمها «الطلاق مَرَّتَانِ» وهو أمر مباح، فناسب النهي عن تعديه لا عن قربه، وهذه تقدمها النهي عن المباشرة وهو محرم فناسب النهي عن قربه.
قوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ... ﴾.
553
قيل لابن عرفة: هذا يؤخذ منه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غير مجتهد؟
فقال: الآيات هي القرآن والمعجزات، وأما السنة كلها فلا تسمى آيات.
554
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام... ﴾.
قيل لابن عرفة: إن المازري حكى في تعليقه عن الشعبي أنّ الفقيه إذا علم من نفسه أنه ما في بلده من يصلح للفضل غيره فلا بأس أن يتسبب في الولاية ويعطي عليها الأجرة والرّشوة لولاة الأمر؟ فأنكره ابن عرفة وقال: هذا من أكل المال بالباطل والمشاركة فيه على الخطإ والّذي أدركت القضاة عليه أن بعضهم كان يتسبب في ذلك بالكلام فقط.
وقد قسّم المازري في شرح التلقين القضاء على أربعة أقسام: مندوب ومكروه وحرام وواجب، ولم يذكر هذا بوجه ولو كان جائزا لذكره.
قيل لابن عرفة: وقال المازري في تعليقه: إنّه كان ببلدهم مفتيان أحدهما يطلب الأجر على الفتوى، والآخر لا يأخذ أجرة فأجاز ذلك (شيخنا) عبد الحميد الصائغ ومنع ذلك الشيخ أبو الحسن علي اللخمي.
554
فقال ابن عرفة: وكان بتونس الفقيه أبو علي ابن علوان يأخذ الأجرة على الفتوى ممن يستفتيه.
وحكى الشيخ أبو الحسن محمد البصريني قال: أخبرني أبو العباس سيدي أحمد بن فرحون اليقربي أنّ رجلا من أصحابه كان يهدي إليه كل عام خروفين وزنبيلين فولا، وزيرين لبنا فيعطي لسيدي الشيخ الصالح أبي محمد المرجاني نصف ذلك ويأخذ هو نصفه، فجرت على الرجل مظلمة فتسبّب له الشيخ المرجاني في زوالها فأهدى ذلك العام للشيخ ابن فرحون مثله ما عادته يهدي له فبعث نصفه للمرجاني كعادته فأمره أن يقبل منه مقدار العادة ويرد له الزائد على ذلك.
قوله تعالى: ﴿بالإثم... ﴾.
إما مصاحبين للاثم أو بسبب اقتراف الإثم، أو بسبب الإثم. وجعل الإثم على هذا كأنه السبب في ذلك الفعل تقبيحا له وتنفيرا منه.
قوله تعالى: ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
تنبيها على أنّ الجاهل لايناله ذلك (أو) أنّ ذلك لايقع إلا على هذه الصفة فلا يقع من الجاهل بوجه.
555
قوله تعالى: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج... ﴾.
أي عن حال الأهلة. وجمع الأهلة إما لتعددها بتعدد الأشهر أو لاختلاف أحواله وإن كان واحدا فهو كالمتعدد.
555
قال ابن عطية: الهلال ليلتان بلا خلاف، وقيل ثلاث. الأصمعي هو هلال حتى يحجّر، ويستدير له كالخيط الرقيق. وقيل: هو هلال حتى (يعم ضوؤه) السّماء وذلك ليلة سبع. وأنشد الآمدي شاهدا على ذلك لاختلاف أحواله.
قال ابن عرفة: وجواب السؤال في القرآن كله بغير «فاء» مثل ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى﴾ ومثل ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ﴾ إلا قوله ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن الكل أمور دنيوية فالسؤال عنها ثابت واقع في الوجود/ وقوله «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال» فأمر أخروي والكفار منكرون للبعث فالسؤال غير واقع لكنه مقدر الوقوع في المستقبل أي إِنْ « (يَسْأَلُوكَ) عَنِ الجِبَالِ»، فهو جواب لشرط مقدر فحسنت فيه الفاء.
556
قال ابن عرفة: وهذا على سبيل الإعراض عن الشيء والإقبال على غيره، لأنهم سألوا عن سبب تغيير الهلال ونقصه وزيادته في أيام الشهور، فأجيبوا بالسبب عن ذلك ونتيجته. وأنّ فائدة ذلك معرفة أوقات الناس، وأوقات الحج، أي ذلك سؤال عما لا (يعني) فلا حاجة لكم بالجواب عنه، وإنما حقكم أن تسألوا عن نتيجته وهو كذا.
قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا... ﴾.
كانوا إذا حجوا واعتمروا يلتزمون أن لا يحول بينهم وبين السماء شيء فيدخلون بيوتهم من خلفها ينقبون الحائط أو من سقفها أو يطلعون بسلم على السطح فينزلون في وسط الدار، وهذا عند ابتداء الدخول فإذا تكرر ذلك تركوه.
557
قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ... ﴾.
قلت لابن عرفة في الختمة الأخرى: قاتل مفاعلة لا يكون إلا من الجانبين فما الفائدة في قوله «الذين يُقَاتِلُونَكُمْ» ومعلوم أنّه لا يقاتل إلاّ من قتله؟
فأجاب بوجهين: الأول أنهم لا يقاتلون إلا من بدأهم بالقتال.
557
الثاني: قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين﴾ هذا (النفي) يحتمل أن يكون على الكراهة لأن عدم محبة الشيء لا يقتضي تحريمه لأن المحبّ هذا إما مباح أو مكروه) وإنّما يدل على التحريم الذّم على الفعل وعلى الوجوب الذم على الترك. ويحتمل أن يكون هذا النهي (على) التحريم لأن النحاة قالوا: إذا أردت مدح زيد قلت: حبذا زيد، وإن أردت ذمه قلت: لا حبذا زيد (فسمُّوا) نفي المحبة (ذما).
558
قوله تعالى: ﴿واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ... ﴾.
هذا (احتراز) لأنه لمّا تقدم الأمر بقتال من قاتل أمكن أن يتوهم أنّه لا يقاتل إلاّ من قاتل، فهذا إما نسخ له أو تخصيص.
ابن عطية عن الطبري: الخطاب للمهاجرين والضمير لكفار قريش. واختار ابن عطية أنّ الخطاب لجميع المؤمنين، أي أَخرِجوهم إذا أخرجوا بعضكم.
قال ابن عرفة: يلزمه استعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه.
558
قيل لابن عرفة: في ظاهر الآية تناف لأن «اقتلوهم حيث ثقفتموهم» يقتضي الأمر باستِئْصالِهِم وعدم إحياًء أحد (منهم) فلا يبق للاخراج محل.
وقوله: «وَأَخْرِجُوهُم» يقتضي إحياء بعضهم حتى يتناوله الإخراج.
فأجاب بوجهين: الأول منهما: أنّ الاستيلاء عليهم تارة يكون عاما بحيث لا تبقى لهم ممانعة بوجه، فهنا يقتلون وتارة يكون (دون) ذلك بحيث يتولّى المسلمون على وطنهم (ويمتنعون) هم منهم في حصن ونحوه، حتى لا يكون لهم قوة على المسلمين ولا للمسلمين قدرة على قتلهم فهنا يصالحونهم على أن يخرجوا لينجوا بأنفسهم خاصة. انتهى.
الثاني: أنهم يخرجون أولا ثم يقتلون بعد الإخراج والواو لا تفيد رتبة ففي الآية التقديم والتأخير.
قال ابن عرفة: في الآية عندي إيماء إلى كون فعل الطاعة إذا (وافق) غرضا دنيويا فلا يقدح ذلك فيه ولا ينقص ثوابه لقوله: ﴿مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾.
قلت: وتقدم لنا في الختمة الأخرى عن ابن عرفة أنه تقرر أن الإمام مخير في الجهاد بين ثلاثة أشياء: إما القتل، وإما الفدية وإما الأسر، والآية تقتضي تحتم القتل من غير تخيير. وأجاب بأنه قد يكون تخصيصا.
559
قوله تعالى: ﴿فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم... ﴾.
وقرىء «فَإِن قَتَلُوكُمْ» أي فإن قتلوا بعضكم أو فإن أرادوا قتلكم، وقول الله جل جلاله: ﴿كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين﴾ بعد أن قال ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ فظاهره أن الكافرين ليس لهم (جزاء إلا هذا، مع أن جزاءهم)
560
أن يقاتلوهم حيث (ثقفوهم) حتى يُسلموا، فيجاب بهذا إما منسوخ أو مخصوص.
561
قوله تعالى: ﴿فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
إما أن يراد إنّ انتهوا عن الكفر فالله غفور رّحيم ﴿قُل لِّلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ وإن انتهوا عن قتالكم، فالله غفور لكم في ترككم قتالهم، أو غفور لهمْ بالستر على نسائهم وعلى صبيانهم من كشفكم لهم وسبيكم (إياهم).
قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الدين لِلَّهِ... ﴾.
في الأنفال: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ وأجاب بعضهم: بأن هذه في قتال كفار قريش وتلك في قتال جميع الكفار لأن قبلها ﴿قُل لِّلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ فالمراد في آية البقرة ويكون الدّين (الّذي) هم عليه لله ودينهم بعض الدين لا كله بخلاف آية الأنفال.
قال ابن عرفة: هذا (ينتج) له العكس لأن الأمر بقتال جميع الكفار يقتضي أنّ المراد صيرورة جميع الدّين لله فلا يحتاج إلى التأكيد بكل،
561
والأمر بقتال بعضهم لا يقتضي ذلك فهو أحق أن يؤكد (بكل).
562
قوله تعالى: ﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام... ﴾.
ابن عطية: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وجماعة (صد) النبي عن البيت سنة ست ودخلها سنة سبع فنزلت آية: «الشهر الحرام» الذي دخلتم فيه الحرم «بالشهر الحرام» الذي صدوكم فيه عنه.
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: سأله الكفار هل يقاتل في الشهر الحرام؟.
فقال: لا، فهمُّوا بالهجوم عليه فيه فنزلت، أي هو عليكم كما هو عليهم إن تركوا فيه القتال فاتركوه وإلا فلا.
قال ابن عرفة: الأول: بناء على أنهما شهران من سنتين، والثاني: على أنه شهر واحد من سنة واحدة وتعدده لأجل تعدد حالاته.
قوله تعالى: ﴿فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ﴾.
562
قال ابن عرفة: فاعتدوا اعتداء جائزا شرعيا فلا يجوز لمن زني بأخته أو ابنته أن يزني بأخت الزاني أو ابنته.
563
قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله... ﴾.
قال ابن عرفة: (هو عندي يتناول النفس والمال، أي أنفقوا ما يعز عليكم في سبيل الله) لقول الزمخشري في غير هذا: إن المفعول قد يحذف قصدا للعموم.
(قلت: أظنّه ذكره في قوله تعالى ﴿فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى﴾ قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة... ﴾.
قل الزمخشري: الباء زائدة أي لا تجعلوا التهلكة آخذة بأيديكم مالكة لكم، والمعنى النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك أو عن الإسراف في النفقة حتى (يفقر) نفسه ويضيع عياله.
قلت لابن عرفة: إن أريد النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله يكون في الآية دليل على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده إذ لو كان قوله ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ ملزوما للنهي عن ترك النفقة (في سبيل الله) لما احتيج إلى قوله ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ ؟
563
فقال لي: إن قلنا إن الأمر يفيد التكرار فيتم ما قلت، وإن قلنا إنه لا يفيده فيقال إنه مطلق والمطلق يصدق بصورة، فمهما أنفق في سبيل الله ولو مرة واحدة كان ممتثلا. وأتى بالنهي بعده ليفيد التكرار.
قوله تعالى: ﴿وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين﴾.
أي ببذل المال المتطوع، أو يراد به الإحسان الذي في حديث القدر «وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وقوله ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين﴾ أبلغ من قوله إن الله (مع)، لأن قولك: زيد يحب بني فلان أبلغ من قولك زيد مع بني فلان لأنه قد يكون معهم ولا يحبهم، قال الله تعالى ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ.﴾
564
قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ... ﴾.
(نقل ابن عطية فيه أقوالا منها) قيل: إِتْمَامُهَا أن يحرم بهما قارنا.
564
قال ابن عرفة: فالواو بمعنى «مع» والظاهر أن الإتمام الإتيان بالحج مستوفى الشرائط على كل قول. فإن فرعنا على أنّ الإحرام من الميقات أفضل فإتمامه أن لا يتعدى الميقات إلا محرما وكذلك في كل أفعاله.
وذكر ابن عطية واجباته فأسقط منها طواف الإفاضة مع أنّه فريضة إن تركه بطل حجه، ولا يجزيه عنه طواف القدوم متصلا بالسعي.
قال ابن عرفة: وتقدم في قول الفخر في المعالم: إن اللّفظ إما أن يعتبر بالنسبة إلى تمام مسماه وهو المطابقة أعتقد أن:
أحدهما: قال ابن التلمساني التمام يشعر بالتركيب، فيخرج عنه البسائط كالنقطة والوحدة. وهو يوافق قول من فسر الإتمام بما هو قبل الدخول، وهو بأن تأتي بهما مفردين (أو قارنا).
الثاني: قلنا نحن: أراد أن يحد المطابقة بحد التضمن إذ لا يتناول كلامه إلا الجزء الأخير الذي يتم به المركب وهذا موافق القول بأن إتمامهما أن يتمهما بعد الدخول فيهما، ولا يفسخ عنهما حسبما نقله ابن عطية.
قال ابن عرفة: وإن أريد الإفراد أو القران فالآية دالة على وجوبهما بصيغة: افعل.
565
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ... ﴾.
قال ابن عرفة: انظر هل تدلّ على وجوب الحلق بالنص أو باللّزوم.
كان بعضهم يقول: إنّه بالنّص ولولا ذلك لما ورد النهي عن الحلاق (مقيدا) ببلوغ الهدي محله.
قوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِّن رَّأْسِهِ... ﴾.
قال ابن عرفة: «مِن رَّأْسِهِ» صفة «لأَذى» ولا يصح رجوعه للجميع كالاستثناء وسائر القيود إذا تعقب جُملا لأن المرض مبيح للرخصة مطلقا سواء كان بالرأس أو بغيره.
قوله تعالى: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج... ﴾.
قال ابن عرفة: أي إن وجد من يسلفه، فإن لم يجد من يداينه إلا بالربح لم تلزمه الفدية. وقرىء «فصيامَ» بالنّصب.
قال أبو حيان: أي فليصم صيام أو فليلزم صيام.
قال ابن عرفة: عادتهم (يعربونه) منصوبا على (الإغراء)، قيل له ذلك (قليل) جدا.
566
أبو حيان: «إذَا رَجَعْتُمْ» قيل العامل في «إذا» «صيام» ورده ابن عرفة: بِأَنّه يلزم أن يكون صوم الثلاثة بعد الرجوع والفرض أنه قبل الرجوع إلا أن يجاب بأنّ يكون مثل: عندي درهم ونصفه، فالمعنى فيصوم سبعة إذا رجع، فيكون «صِيَامُ» عاملا فيه لفظا لا معنى.
قيل (له) : يلزمك على هذا الجواب العطف على عاملين، وصيام سبعة (إذا رجع) بعطف «صيام» على «صيام» «وإذا» على قوله «فِي الحَجّ».
فقال: إنما هو عامل واحد فقط.
قلت: وقال الأستاذ أبو العباس أحمد بن القصار: (العامل) / «صيام»، كما قال أبو حيان باعتبار لفظ المطلق والمعنى يبنه كما تقول: أكرم في الدار زيدا. أو في السوق عمرا أو لو لزم كون الثلاثة بعد الرجوع لتناقضت الآية ولكان يلزم أن يكون السبعة في الحج لأنه كما (تجعل) إذا رجعتم قيدا في صيام الجميع فاجعل «في الحج» أيضا قيدا في صيام الجميع. هذا إذا جعلنا «في الحَجّ» و «إِذَا رَجَعْتُمْ» متعلقين ب «صيام».
قال: والصواب عندي غير هذا. وهو أن يكون، «إذَا رَجَعْتُمْ» صفة ل «سبعة»، فالسبعة ظرف زمان فيصح وصفها بظرف الزمان ويكون في الحج أيضا صفة ل «ثلاثة».
567
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ... ﴾.
قال ابن عرفة: (أحدُ تفسيري) ابن عطية بناء على أنّ أسماء الأعداد نصوص، والآخر على أنّها ليست كذلك.
وأورد الزمخشري هنا سؤالين: أحدهما عن الإتيان بالفذلكة وهي لفظ «تِلْكَ» وأجاب بثلاثة أوجه.
قال بعض الطلبة: فيبقى السؤال لأيّ شيء لم يقل: فهي عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ؟
فقال ابن عرفة: «تِلْكَ» القصد بها التعظيم.
قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن القاعدة أنّ الصوم المتتابع أعظم ثوابا من المفرّق، فقد يتوهّم بتفريقها أن ثوابها أقل من ثوابها لو كانت مجموعة (فأشار بقوله «عشرة» إلى أن ثوابها على هذه الصفة أعْظَمُ من ثوابها لو كانت مجموعة فرعا عن أن) يكون مثله ولذلك قال: «كاملة».
قيل لابن عرفة: وأشار إليه مكي.
568
قال ابن عرفة: وعادة الشيوخ يحكون عن ابن الحاجب أنه قال: في قول الأصوليين: إن عمومات القرآن كلها مخصوصة (إلا قوله: ﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أنهم كان ينبغي أن يمثلوه بآية تقتضي حكما من الأحكام الشرعية) كقول الله تعالى ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ﴾ الآية ونحوه.
وكان الشاطبي يرد عليه بما إذا كان الولي مسلما والزوجين مشركين فإن ظاهر عموم الآية المنع من إنكاحهما مع أنّه جائز فيكون عمومها مخصوصا (بهذا).
قيل لابن عرفة: هل المراد ولا تنكحوا المشركين المؤمنات؟
فقال: هذا تخصيص.
قال ابن عرفة: وهذه الآية عندي من العام الباقي على عمومه إلا أن يجاب بأنه مخصوص بالمرض فإن المريض لا يقدر على الصيام ولو كانت باقية على عمومها للزم في المريض أن يؤمر بالقضاء وليس كذلك.
قال أبو حيان: فِي الحَجّ: في وقت الحج، فيجوز عنده الصيّام قبل أن يحرم بالحج وبعده. وقيل: في وقت أفعال الحج فلا يجوز الصوم إلاّ بعد الإحرام.
569
قال ابن عرفة: لا يحتاج إلى هذا لأن قوله «فِي الحَجّ» يَدُل عليه لأن الحج بذاته فعل والصوم فيه.
قيل لابن عرفة: ليس الصوم فيه؟ فقال: الحج بنفس أن يحرم فيه ينسحب عليه حكمه (فالثلاثة) الأَيَّامُ هي في الحج حكما.
قوله تعالى: ﴿ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام... ﴾.
قال ابن عرفة: يؤخذ فيمن له أهل بمكة وأهل بغيرها.
فقد قال الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إنها من مشبَّهات الأمور يؤخذ منه أن حكمه حكم الحاضر بدليل قول (مالك) في المسافر: إذا سافر ومر ببلد له فيها أهل فإنه يتمّ الصلاة كالمقيم.
قوله تعالى: ﴿واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾.
دليل على أنّ الطلب المتقدم قبل هذا كله للوجوب.
570
قوله تعالى: ﴿الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ... ﴾.
ابن عطية: أي وقت الحج أشهر.
ابن عرفة: أو الحج ذو أشهر كقولهم: زيد عدل أي ذو عدل.
ابن عرفة: وعادتهم يوردون في هذا تشكيكا وهو أن هذه القضية، إمّا صادقة أو كاذبة وكلاهما باطل، أمّا بطلان الثاني فظاهر
570
وأمّا الأول فلأنّها إذا كانت معلومة كان الإخبار بها غير مفيد إذ هو تحصيل الحاصل كقولك هذا (الشهر) معلوم.
والجواب أن المعلوم قسمان: باق على أصله ومعلوميته لم يقع فيه (تغيير) بوجه، ومعلوم غير عن وضعه وهذا منه، كما قالوه في النسيء: فإنهم كانوا (يؤخرون) المحرم لصفر ويجعلونه كذلك عاما بعد عام حتى كانت حجّة أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في ذي القعدة سنة تسع، وحجّة سيّدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعني حجة الوداع في ذي الحجة ولذلك قال في خطبته: «إن الزّمان قد استدار كهئته يوم خلق الله السماوات والارض» فاقتضت الآية أنّ (الحجّ) هو الأشهر المعلومات (الأصلية) التي ليس فيها ذلك (التغيير).
(والجواب الثاني) بأن فائدة ذلك التنبيه على هذه الأشهر المعلومة بالحج كما هو في شرع من قبلنا هي في شرعنا.
ورده ابن عرفة بأنّ اللّفظ لا يقتضى ذلك.
قال ابن عرفة: فإن قلت: ما فائدة (العدول) عن الحقيقة إلى المجاز في الإخبار بظرف الزمان عن المصدر مثل: زيد عدل؟
571
فأجاب عن ذلك بأن عادتهم يقولون: (فائدته) التنبيه على مفارقة الصلاة / فإن الصلاة الفائتة تقضى في غير وقتها، والحج لا يقضى إلا في هذه الأشهر فجعلت كأنها هي نفس الحج لملازمته لها.
قال ابن عطية: وأشهر الحج، شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة، حكاه الشيخ ابن حبيب عن الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وترك قولين آخرين في المذهب: أحدهما: أنّه شوال وذو القعدة وذو الحجة، والثاني أنه شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة وأيام الرمي.
قوله تعالى: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج... ﴾.
نقل الفخر في المحصول عن أبي الدّبوسي من (الحنفية) : أن الفرض ما نشأ عن دليل قطعي لأنه مأخوذ من الفرض في (الخشبة)، والواجب ما نشأ عن دليل (ظني) لأن الوجوب في اللغة السقوط. قال الله تعالى ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر﴾ ولذلك يقولون: هذا واجب وجوب السنن ولا يقولون: هذا فريضة فرض السنن.
572
قال ابن عرفة: فإن قلت لم أعيد لفظ الحجّ مظهرا، وهلا قيل: فمن فرضه فيهن؟
فأجاب عن ذلك بأنه لو قيل كذلك لكان فيه عود الضمير على اللفظ لا على المعنى مثل: عندي درهم ونصفه لأن الحج الأول مطلق يصدق بصورة فيتناول حج زيد وعمرو بالتعيين الواقع منهما وحجمها القابل لأن يفعلاه.
وقول الله جل جلاله: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج﴾ مقيد بحج كل واحدٍ واحدٍ بعينه، والشخص المعين (حجه مقيد لا) مطلق، فلذلك أعيد لفظ الحج مظهرا فيتناول الفرض والتطوع.
قيل لابن عرفة: ما الفرق بين (جواز تقديم) إحرام الحجّ على أشهر الحج ومنع تقديم إحرام الصلاة على وقتها؟
فقال: الإحرام قسمان منقطع ومستصحب، فالمنقطع كتكبيرة الإحرام والمستصحب النية، فالنية يصح تقديمها على الوقت لأنها لايزال حكمها منسحبا على المصلي في جميع أجزاء صلاته ولا يصح تقديم تكبيرة الإحرام لانقطاعها بالفراغ منها، ونظيره هنا السعي، لا يجوز تقديمه على أشهر الحج. وأما نية الإحرام والتوجه فهو مستصحب فيصح تقديمه على أشهر الحج. وفرقوا بين إحرام الصلاة وإحرام الحج بأنّ إحرام الصلاة متيسر (لا مشقة) فيه فامتنع تقديمه وأمر المقدم له بإعادته واعتقاد وجوبه بخلاف إحرام الحج.
قوله تعالى: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج... ﴾.
573
نقل ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية عن الإمام مالك رضي لله عنه: إنّ أقل الجمع اثنان، وقال الباجي في الفصول: المشهور عن مالك وعن أصحابه أن أقل الجمع ثلاثة إلا ابن خويز منداد فإنه قال أقله اثنان. واحتج الأولون بقوله: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ وأجيب باحتمال أنْ يريد بالضمير الفاعل والمفعول معا، أي الحاكم المحكوم عليه.
وردّه ابن التلمساني بإلزام كون الضمير فاعلا ومفعولا في حالة واحدة فيكون مرفوعا منصوبا، انظر المسألة الخامسة من الباب الثالث.
قوله تعالى: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ... ﴾.
قال أبو حيان: قرأ الأعمش رفوث.
574
قال ابن عرفة: هو إما جمع بناء على أن جمع المصدر إذا اختلفت أنواعه إما قياسا كما قال ابن عصفور أو سماعا كما قال ابن أبي الربيع وابن هشام، وإمّا مفردا.
قلت: مثل قعود ووقوف وكقولك: أقل أفولا، ولزم لزوما، والجمع كالحلوم وأما «رَفَثَ» فمثل قولك وَجِلَ وَجَلا وخَجل خجلا.
قوله تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله... ﴾.
إن قلت: المتقدم نهي وامتثاله بالترك كما أنّ امتثال الأمر بالفعل، فهلا عقب بأن يقال: وما تتركوا من شيء يَعْلَمَهُ اللهُ؟
قيل لابن عرفة: نقول إن الترك فعل؟ فقال: البحث على أنّه غير فعل.
قال: وإنّما الجواب بما قال ابن الحاجب من أنّ نقيض الجلي (جلي)، ونقيض الخفي خفي فالإخبار بأن الله تعالى يعلم الفعل يستلزم معرفته نقيض ذلك وهو الترك وإنّما عدل على التنصيص على ذلك بالمطابقة إلى دلالة الالتزام ليفيد الكلام أمرين، وهو الحض على عدم الاقتصار على ترك ذلك فقط فيتضمن طلب تركه وطلب تعويضه بفعل الخير المحصل للثواب فإنه تعالى عالم بمن يترك ذلك ويفعل الخير فنبه على الترك والفعل.
575
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ... ﴾.
سبب نزول هذه الآية أَنَّهم كانو يتوهمون أن سفر الحاج إذا خالطته نية التجارة ينقص من ثوابه أو يوقع في الإثم، فنزلت
575
الآية. وقوله «مِّن رَّبِّكُمْ» دليل على أنّ المراد التجارة بالمال الحلال أما الحرام فلا.
قيل لابن عرفة: كله من الله؟ فقال: أما باعتبار القدرة فنعم، وأمّا باعتبار الإذن فلا، والآية خرجت مخرج الإذن ورفع الحرج.
ابن عطية: الجناح أعم من الإثم لأنه فيما يقتضي العقاب وفيما يقتضي العقاب والزجر.
قال ابن عرفة: والنفي ب (ليس) لما يتوهم وقوعه والإثم كان متوهما وقوعه في سفر الحج للتجارة بخلاف النفي ب (لا). حسبما ذكره المنطقيون في السالبة والمعدومة، مثل: الحائط لا يبصر، وزيد ليس يبصر، أو غير بصير.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله... ﴾.
ذكر الزمخشري هنا أنّ التاء في (بنت) ليست للتأنيث.
قال ابن عرفة: يقال له بل للتأنيث لأن المذكر «ابن» المؤنث «بنت» وعادتهم يجيبون بأن تاء التأنيث لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا كفاطمة.
أبو حيان: منهم من قال: العامل في «إذا» «فَاذْكُرُوا» قال (وأخذ) من الآية أن جواب «إذَا» لا يعمل فيها لأن مكان إنشاء الإفاضة غير مكان الذكر فإذا اختلف المكان لزم منه ضرورة اختلاف الزمانين فلا يجوز أن يكون الذكر عند المشعر الحرام واقعا عند انشاء الإفاضة.
576
قيل لابن عرفة: نقول: إنه يذكر الله تعالى عند آخر أزمنة انفصاله من عرفات إلى المشعر الحرام، فقال: هذا صحيح لو لم يكن بين المكانين فاصل، وإنما الجواب الذي عادتهم يقولونه: إنّك تقول إذا قدم زيد من سفره فاكرمه بعد قدومه بيوم، فالعامل في «إذا» هو أكرمه مع اختلاف الزمان.
قال: عادتهم يقولون: ليس العامل في إذا أكرمته بذاته، بل لاستلزامه معنى فعل آخر يصح عمله تقديره: إذا قدم زيد فاعلم أنّكَ مكلف بإكرامه بعد قدومه بيوم، وكذلك (تفهَم) هذه الآية فلا يتم لأبي حيان الرد بهما على من يقول العامل في «إذا» جوابُها.
قوله تعالى: ﴿واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ... ﴾.
الأول: ذكرُ الحَجّ، والثاني: ذِكْرٌ مُطْلَقٌ، فهو تأسيس لا تأكيد وقوله: «كَمَا هَدَاكُمْ» الكاف إمّا للتعليل مثل: ﴿وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ﴾ قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين... ﴾.
قال ابن عرفة: إن قلت هذا تأكيد لأن الهداية تستلزم تقدم الضّلال لها.
فالجواب أنّه إنما (كان) يكون تأكيدا (أن) لو قيل: وَإِن كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ ضَالِّينَ. وهذا أخص لأن قولك: زيد من الصالحين أخصّ من قولك: زيد صالح.
577
قاله الزمخشري في قول الله تعالى ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين.﴾
578
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس... ﴾.
قال أبو حيان: «ثم» قيل إنّها للترتيب في الذكر لا في الزّمان لتعذره وهذا على (الإفاضة) من عرفات وقيل بمعنى الواو.
قال ابن عرفة: لا فرق بينهما لأن الواو كذلك هي أيضا للترتيب في الذكر فالمقدم فيها مقدم في اللفظ لا في المعنى.
قيل لابن عرفة: إنّما يريد النحويون بذلك الذكر القلبي بمعنى: أنه لم يستحضر أوّلا غير (الأول) من المعطوفين فلذلك بدأ به فلما نطق به استحضر الآخر وهذا مستحيل في الآية.
وذكر الزمخشري أن «ثُمّ» هنا لبعد ما بين الإفاضتين وأن إحداهما صواب والأخرى خطأ كما تقول: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن الى غير كريم.
قال ابن عرفة: فإن قلت: هلا (قال) ثم أحسن إلى الكريم فيعطف الأمر على الأمر فهو أولى من عطف النهي على الأمر.
فأجاب بأنه أراد تحقيق كونها لبعد ما بين الصواب وهو الإحسان إلى الكريم والخطأ وهو الإحسان إلى غير الكريم ولو أتى بالكل أمرا
578
لكانت «ثم» بين الجائز والأولى (ولم) تكن صريحة في البعد والتفاوت.
(وزاد) أبو حيان قولين: أحدهما: أنّها للترتيب الزماني والإفاضة (من) جمع. والآخر: أنها على بابها من الترتيب. وفي الكلام تقديم وتأخير أي وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الألْبَاب ثم أفيضوا.
قال ابن عرفة: والفرق بين القولين (الأولين) عندي أن يريد بقوله «ثُمّ» هنا، قيل للترتيب في الذكر، إنّها في هذه الآية خاصة بمعنى الواو، وبالقول الثاني: إنها بمعنى الواو مطلقا والله أعلم.
قال ابن عرفة: وعادتهم يقولون: إنّها للتراخي والمهلة فهي على بابها، والمهلة فيها بين الذي يليها فقط والذي يليها هو معطوف على ما قبله بالواو والمشهور في الواو أنّها للجمع من غير ترتيب ولا مهلة، فتكون الجملة الموالية ل «ثم» مراد بها التقديم. والتقدير: «فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَمَا هَدَاكُمْ» «ثم أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ» و ﴿واذْكُرُا الله عِند المَشْعَرِ الحَرَامِ﴾.
قال ابن عرفة: وهذا معنى سادس لم يذكروه، وهو الذي (ينبغي) حمل الآية عليه. والله أعلم.
579
وقول الله تعالى: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾ قرأ ابن جبير (الناسي).
أبو حيان: والألف واللاّم قيل للعهد وقيل للجنس فالعهد يريد آدم عليه السلام.
(قال) ابن عرفة: كونها للجنس (إما) أن يريد النّاسِي في الحجّ أو بالإطلاق. فالنّاسي في الحج لا إفاضة له لأنه نسي الإفاضة فلا يصح أمرنا له بالإفاضة من حيث أفاض النّاس وإِن أراد الناسي مطلقا، وهو الذي نسي غير هذا أي من حيث أفاض الذي من شأنه النسيان فباطل أيضا، لأن ترتيب الحكم على الاسم (المشتق) (يشعر) بمناسبة معناه للحكم، وعلته له فإذا قلت.
أكرم زيدا المصلي، فإكرامه إنما هو لصلاته لا لصدقته.
قال ابن عطية: ويجوز عند بعضهم حذف الياء. قال: فأما جوازه في العربية فذكره سيبويه وأمّا جوازه مقروءاً به فلا أحفظه.
580
قال ابن عرفة: وهذا غير صحيح كيف يقول: لا أحفظه وهو شأن الزوائد في القرآن في الاسم والفعل، قال الله تعالى ﴿يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ وقال أيضا ﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ﴾ فقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: «يَأْتِ» «وَنَبْغِ» بحذف الياء وصلا ووقفا.
وتعقبه أبو حيان بأن سيبويه لم يجزه إلا في الشعر وجوّزه الفراء.
قال ابن عرفة: وعادتهم يقولون: لم عدل في الآية عن دلالة المطابقة وهي حقيقة إلى دلالة الالتزام، وهي مجاز، فعبر بالإفاضة المستلزمة للوقوف، وهلا عبر بالوقوف نفسه فيقول: ثم قفوا من حيث وقف الناس، فما السر في ذلك؟
قال: وعادتهم يجيبون عن ذلك بأنّ قريشا كانوا لا يخرجون من الحرم لشرفه ويرون الخروج عنه موجبا للوقوع في الإثم، (ويقفون بالمشعر الحرام، فأتت الآية ردا عليهم وتنبيها على أن الخروج هنا لاينقص أجرا ولا يوقع في الإثم) ثم إنّ الإتيان إلى المحل الشريف من
581
المحل البعيد مُشْعِر بنهاية تعظيمه وكمال تشريفه، فقصد التنبيه على الحكم مقرونا بعلته، وهذا هو المذهب الكلامي عند البيانيين.
ولو قيل: ثم قفوا، لما أشعر بالانتقال والرجوع من الحل إلى الحرم بعد الخروج منه، فعبر بالإفاضة التي من شأنها أن لاتكون (إلا بعد) وقوف لإشعارها بالانتقال من المحل البعيد وهو عرفة لأنه في الحل إلى هذا الحرم الشريف تكريما له وإجلالا، فالإفاضة مستلزمة للرجوع إلى الحرم، ومشعرة بالوقوف المستلزم للخروج من الحرمِ إلى الحل.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنه عبر بالإفاضة للمناسبة بينه وبين لفظه في أول الآية والله أعلم.
582
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ... ﴾.
المراد: القضاء المطلق اللّغوي وهو فعل (العبادة) سواء كان في وقتها أو بعد وقتها، أي إذا فرغتم من حجكم.
قوله تعالى: ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً... ﴾.
582
الأشدية إما في القدر أو باعتبار حضور النيّة فالمراد إما الإكثار من ذكره أو كمال الحضور والإخلاص في ذكره. وفي إعرابه ستة أوجه.
قال الزّمخشري: «أَشَدّ» معطوف على ما أضيف إليه الذكر في قوله ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ﴾.
583
قال الطيبي: وضعفه بعضهم لأن فيه العطف على (المضمر المخفوض) من غير أعادة الخافض. قال ورد قراءة من قرأ ﴿تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام﴾ بالخفض أقبح رد.
قال ابن عرفة: وهذا إما كفر أو معصية لأنها قراءة حمزة.
قال ابن عرفة: ومنهم من فرق بين العطف على الضمير المجرور بالحرف وبين العطف على المخفوض (بالإضافة) فأجاز العطف على المضاف من غير إعادة الخافض.
قال الزّمخشري: كما تقول (كذكر) قريش آباءهم أو قوما أشد منهم ذكرا. قال: ويكون «أشد» في موضع نصب عطفا على « (آبَاءَكُمْ) أَوْ أَشَدّ ذِكْرا» من آبائكم على أن «ذِكْرا» من فعل المذكور.
واختلف في تفسيره فقال أبو حيان: معناه أنك إذا عطفت «أشَدّ» على «آبَاءَكُمْ» كان التقدير: أو قوما أشَدّ ذِكْرا من آبائكم فالقوم مذكورون والذكر الذي هو (تمييز) (بعد) أشَدّ
584
هو من فعلهم أي وفعل القوم المذكورين لأنه جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم أي أو قوما أشَدّ ذِكْرا من ذكركم لآبائكم.
قال ابن عرفة: فمعناه عنده أو كذكركم قوما ذاكرين الله بذكر هو أشد ذكرا، أي بذكر هو أشد من الأذكار التي تذكرون بها آباءكم، فجعل القوم المذكورين ذاكرين وهو بعيد.
وقال الطيبي: أراد الزمخشري أن معناه كذكركم قوما مذكورين بذكر هو أشد ذكرا، فقوما مفعول وأشدّ صفة، فوصفوا بالأشدية من حيث كونهم مذكورين أي كذكركم قوما ذكرتموهم بذكر هو أشد ذكرا.
قال ابن عرفة: واعلم أن «أَفْعَلَ (مِنْ) » إن انتصب تمييزها كانت من صفته وإن انخفض كانت من صفة الاسم الذي (جرت) عليه. تقول: زيد أحسن عبدا بالنصب، أي زيد يملك عبدا أحسن من عبيد غيره. وأن خفضت كان معناه: أن زيدا في نفسه أحسن عبيد الله تعالى. ففي الآية هنا على كلام التفسيرين جعل للذكر ذكر مبالغة مثل جد جده وشعر (شعره) أي ذكرا شبيها بذكر آبائهم أو ذكرا أشد، فالأشدية من صفة ذكر المتأخر وهو غير الأول فيكون الذكر ذكر مبالغة.
فالحاصل أن معناه عند أبي حيان: أو كذكركم قوما ذاكرين الله بذكر ذلك الذكر أشد ذكرا، أي ذلك الذكر كلّه ذكر أشدّ من الأذكار التي يذكرون بها آباءهم.
585
(وعند الطيبي: المعنى أو كذكركم قوما ذكرتموهم، فذكر له ذكر أشد من غيره من الأذكار التي تذكرون بها آباءكم).
فقول الزمخشري: على أن «ذكرا» من فعل المذكور هو عند أبي حيان (الفعل) وعند الطيبي الفعل الاصطلاحي النّحوي وكلام. الطّيبي أصوب لأن (التشبيه) بالقوم إنمّا هو من حيث كونهم مذكورين بأشد الأذكار لا من حيث كونهم ذاكرين بأشد الأذكار.
قال ابن عرفة: وهذه مسألة طويلة (عويصة) ما رأيت من يفهمها من الشيوخ إلا الشيخ ابن عبد السلام، والشيخ (ابن الحباب). وهكذا كانا يقررانها وما قصّر الطيبي (فيها) (وهو الذي كشف القناع عنها و (تكلم عليها) هنا وفي قول الله تعالى في النساء ﴿يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ وكلامه في تلك الآية هو الذي حمل التونسيين على نسخه لأني كنت عند ابن عبد السلام في السقيقة لما قدم الواصل بكتاب الطيبي فقلت له: ننظر ما قال في «أشَدَّ خَشْيَةً» فنظرناه فوجدنا فيه زيادة على ما قال الناس فحض الشيخ إذاك على نسخه.
586
قلت: ولما (حد) ابن الصائغ (المصدر) في بابه استشكل نصب «ذكرا» في الآية لما تقدم من أن (التمييز) المنتصب بعد افعل سواء بدأ (غير) الموصوف بها مثل: زيد أفضل الناس أبا، ف «أشدّ» في الآية صفة للذكر ثم أجاب بأنّه كقولك: زيد أفضل الناس رجلا وعبدا، ومعناه عند سيبويه أفضل النّاس إذا وصفوا رجلا رجلا، وليس المراد أن عبده أو (رجله) أفضل النّاس، فمعنى الآية أشد الأذكار إذا (صنفت) «ذكرا» في الآية تمييز أو حال والأكثر في مثل هذا أنْ تضاف إليه افعل لكنه لتقدم الذكر قبله قد يجوز مثل: زيد أفضل النّاس رجلا. قال: ويمكن أن يكون «ذكرا» مصدرا ل «اذكروا» فقدمت صفته وهو (ذكر) فانتصب على الحال. والممعنى: واذكروا الله ذكرا كذكركم آباءكم، وأطال الكلام بما هذا حاصله.
قلت: وعلى هذا لا يحتاج فيه إلى المجاز الذي في: جد جده وشعر شعره. وبالله التوفيق.
قال ابن عرفة: هذه الآية نص في (أنّ) الأمر بالشيء نهي عن ضده لأنّهم قالوا: سبب نزولها أنّ قريشا الحمس كانوا
587
يجتمعون بعد الإفاضة من عرفات فيفتخرون بأنسابهم فنزلت الآية ردا عليهم فكان الأصل أن يقال: فإذا قضيتم مناسككم لا تفتخروا بآبائكم. لكنه لو قيل ذلك لاحتمل أن يسكتوا ولا يتكلّموا بشيء ويتحدّثوا في أخبار الأوائل فيما ليس بذكر ولا فخر فأمرهم الله تعالى بذكر حتى يتناول النهي عن الاشتغال بجميع أضداده المنافية له.
قال ابن عرفة: و «أَوْ» في قوله «أَوْ أَشَدّ» للتفصيل فمن هو كثير الشغل والشغب فذكره كذكر آبائه ومن هو خالي البال يعني الخاطر فذكره أشدّ ذكرا ويزيد ما استطاع.
قوله تعالى: ﴿فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الأخرة مِنْ خَلاَقٍ﴾.
قال ابن عطية: سببها أنهم كانوا في الجاهلية يدعون في مصالح الدنيا فقط إذ كانوا لا يعرفون الآخرة فنهو عن ذلك.
قال ابن عرفة: فتقدير (السَّببية) على هذا إما أنهم نهوا عن الاقتصار (في الدعاء) بمصالح الدنيا فقط وأمروا بالشعور بالآخرة واستحضار وجودها.
قال: ويحتمل (تقدير) السببية بوجهين آخرين. أحدهما: أن في الآية اللف والنشر مَن «يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا» راجع
588
لقوله «كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ» وقوله تعالى ﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةَ﴾ راجع إلى قوله «أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً».
قيل لابن عرفة: (يعكر) عليه قوله «وَمَا لَهُ فِي الأخرة مِنْ خَلاَقٍ» (يدل على أنه كافر فيكف يذكر الله كذكره أباه؟ فقال: قد تقرر أنّ «وَمَا لَهُ فِي الأخرة مِنْ خَلاَقٍ» (معتبر) بأمرين لأنّ الواو فيه واو الحال فيحتمل أن يراد أنه في نفس الأمر ليس له نصيب في الآخرة، ويحتمل (أن) يريد من الناس المؤمنين من يطلب أمور الدنيا، ولم يتعلق له بال بطلب الثواب في الآخرة عليه، فقد يعمل العمل الصالح، ويطلب المعونة عليه، ولم يخطر بباله طلب الثواب عليه في الآخرة بوجه (أو بطلب الرزق الحلال من نعيم الدنيا ومستلذاتها، ويصرفه في وجهه وهو مع ذلك طائع، ولا يتشوق إلى طلب الآخرة بوجه) بل (يغفل) عن ذلك.
الوجه الثاني في تقرير السببية: أنه لما تقدم الأمر بذكر الله عقبه بهذا تنبيها على أن من الناس من لا يمتثل هذا الامر ولا يقبله، ومنهم من يمتثله ويعمل بمقتضاه فهو الذي يقول: ﴿رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً﴾ أو يرجع إلى القبول والأجر. وتقرر أن القبول أخص، فمن الناس من يفعل العبادة فلا يجزيه ويخرجه من عهدة التكليف فقط ولا يثاب عليها كمن يصلي رياء ومنهم من يفعلها بالإخلاص ونية فتقبل منه، ويثاب عليها في الدار الآخرة.
589
قال ابن عرفة: وعادتهم يختلفون في الألف واللام في «الناس» فمنهم من كان يقول إنها للعهد والمراد بها الناس الحجاج (ومنهم من جعلها للجنس فعلى أنّها للعهد يكون التقسيم مستوفيا لأن الحجاج) لا بد أنهم يدعون إما بأمر دنيوي أو بأخروي (وعلى أنها للجنس لايكون مستوفيا) لأن بعض الناس قد لا يدعون بشيء أصلا لا دنيوي ولا أخروي.
قيل لابن عرفة: وكذلك على أنها للعهد لأن بعض الحجاج يدعو أيضا بأمر الآخرة فقط؟...
قال أبو حيان: ومفعول «آتِنَا» الأول محذوف.
ق ابن عرفة: هذا أحد القولين فيها، وفيها قول آخر بأن الفعل المتعدي إذا ضمن المجرور الذي بعده معنى آخر تصح نيابته مناب المفعول. و «في» هنا يتضمنه معنى كقولك: أكلت من الرغيف.
590
قوله تعالى: ﴿وَفِي الأخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار﴾.
ضعف الشيخ أبو حيان العطف هنا للفصل. وأجاب بعض الطلبة بأن «حسنة» مفعول صريح وفي الآخيرة مجرور مؤخر في المعنى، فتقديمه يصيره فاصلا.
فقال ابن عرفة: لا يضر ذلك عندهم. وأنا فيه عندي أنّه نعت نكرة تقدم عليها فصار حالا والحال صفة في المعنى، وإذا كان صفة فالفصل (به) جائز لأنه جزء من الموصوف أو كالجزء. ونظيره (
590
من) الآية التي مثل بها. قال: (وما يجيء) (تمثيل) الفصل إلا بقوله تعالى ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ بالنصب على قراءة حمزة وأما قوله تعالى ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل﴾ فالفصل هنالك بالظرف (وهي) جملة معطوفة على جملة.
591
قوله تعالى: ﴿أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ... ﴾.
راجع للفريقين فمن طلب الدنيا لها وكذلك الآخرة.
قوله تعالى: ﴿والله سَرِيعُ الحساب﴾.
قال ابن عطية: قيل لعلي كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ فقال (كما يرزقهم في يوم).
قل ابن عرفة: كما يفهم أن العرض لا يبقى زمنين والقدرة صالحة إلى الإمداد بعرض آخر فكذلك القدرة صالحة (لأن)
591
يخلق لله في نفس كل واحد الإخبار بما لَهُ وما عليه (فيخبرُون) بذلك في زمن واحد. وهذا أمر خارق للعادة ولا يمكن قياسه على الشاهد.
592
قوله تعالى: ﴿واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ... ﴾.
الأمر إما خاص (بالحاج) أو عام لأن سائر الناس أيضا يكبّرون في تلك الأيام غير أنّ الحجاج يكبرون في كل النهار وغيرهم يكبّر دبر (كل) صلاة فقط، وقد كان عمر يرفع صوته بالتكبير في (خبائِه) فيكبّر من خلفه ثم يكبر النّاس كلّهم حتى (يُسْمَع) التكبير من مكة.
(وقيل) هل الأمر للوجوب أو للندب؟
قال: إن أريد مطلق الذكر فهو للوجوب وإن أريد الذكر الخاص في الوقت الخاص فهو للندب، وأما للاباحة (فلا).
وقوله «مَّعْدُودَاتٍ» أخذوا منه أن الواحد عدد لأنه جمع مفرده معدود.
وأجيب بأن الشيء في نفسه ليس كهو مع غيره فالمجموع عدد والبعض غير عدد.
قوله تعالى: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾.
592
(تُؤول) بأمرين إما نفي للإثم حقيقة أو إثبات الأجر له والثواب (لأن الثواب) كان حاصلا (بالإقامة) لأن الذكر معلوم أنه يحصل الثواب فما يبقى إلا توهم الوقوع في الإثم هنا (لما كان) الجاهلية يعتقدون. (فنفي) ما يتوهم وبقي ما عداه ثابتا بالأصالة وهو حصول الثواب على الذكر.
قيل لابن عرفة: والآية تدلّ على ترك العمل (بمفهوم) العدد لأن مفهومها أن المتعجل في أقل من يومين مأثوم، مع أن التأخير سنة وتارك السنة غير مأثوم؟
فقال: إمّا أن نفرّع على أن تارك السنن متعمدا مأثوم وتقدم نظيره في الوتر، أو نقول: معنى «لاَ إِثْمَ» أي له الثواب.
قيل للامام: ففيه حجة للقائل بأن تارك السّنن متعمّدا مأثوم؟
قال: لا حجة فيه لاحتمال أن يراد بنفي الإثم حصول الثواب.
قوله تعالى: ﴿واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
في ظاهره دليل على أنّ الحشر بإعادته هذه (الأجساد) بعينها.
قيل لابن عرفة: وفيه دليل على ذم التقليد؟ فقال: يقال الحاصل للمقلد علم لا ظن.
593
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ... ﴾.
حكى ابن عطية في سبب نزولها ثلاثة أوجه: إمّا أنها عامة في كل من أبطن الكفر وأظهر الإسلام، وإما أنّها خاصة بقوم من المنافقين تكلَّموا في قوم من المؤمنين استشهدوا في غزوة الرجيع. وإما أنها خاصة بالأخنس بن (شريق).
قال أبو حيان: و «من» إما موصولة بمعنى الذي أو نكرة موصوفة.
قال ابن عرفة: إعرابها نكرة مناسب للقول بعموم الآية في كل منافق، وإعرابها موصولة مناسب للقولين الآخرين لأجل العهد الذي في الصلة فيقتضي تقدم معهود على (الخصوص) ويكون تعجبك ماضيا في المعنى (أي) بفلظ المضارع للتصوير والتحقيق كأنه مشاهد وعلى العموم فهو مستقبل حقيقة.
قوله تعالى: ﴿فِي الحياة الدنيا﴾.
إما متعلق ب «يعجبك» أو ب «قَوْلُهُ». وعادتهم يوردون عليه سؤالا وهو أنه إن تعلق ب «يعجبك» كان الكلام غير مفيد لأنه معلوم لأن الإعجاب منه إنما هو في الدنيا، ولا يقع في الآخرة فهو تحصيل الحاصل، وإن تعلق ب «قَوْلُهُ» فإما أن يراد نفس قوله أو متعلقه، فمتعلقه إنّما هو في الآخرة لا في الدنيا لأن (محصول) ذلك القول (الإسلام) وهو أمر أخروي لا دنيوي. وإن أريد نفس «قَوْلُهُ» فذلك القول
594
إنما وقع منه في الدنيا ونحن نعلم ذلك من غير حاجة إلى الإعلام به فيرجع إلى تحصيل الحاصل.
قال: فالجواب أنه على حذف مضاف، أي يعجبك قوله في شأن الحياة الدنيا، لأنه إنما (يقصد) بكلمة الإسلام عصمته من القتل والأسر وضرب (الجزية)، وصيانة ماله وعرضه، فالإعجاب راجع إلى حكم دنيوي لأن المراد به نفس التعجب.
قوله تعالى: ﴿وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ... ﴾.
دليل على أن العقل في القلب.
قيل لابن عرفة: وهذا من الكذب على الله. وقد ذكر ابن التلمسانى فيه قولين: قيل إنه كفر، وقيل لا؟
قال ابن عرفة: إنّما الخلاف في الكذب على الله في الأحكام كقوله: أَحَلّ الله كذا وحرم كذا وأما قول القائل أي الحالف لقد كان كذا والله يعلم أنّي لصادق، فهو يمين غموس وليس من ذلك القبيل وعلق التعجب بالقول ليفيد التعجّب من كلامه من باب أحرى.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الخصام﴾.
إنما كان مُلدّا لحلفه على الباطل وتأكيده الحلف يعلم أنه تعالى أنه حق.
595
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا... ﴾.
595
(ابن عطية) : يحتمل أن يكون توليه بقلبه، أي ضل، أو بجسده، أي أدبر عنكم بجسمه. وضعف ابن عرفة الأول بأنه لم يكن قط مسلما والتولي عن الشيء يقتضي تقدم الكون فيه.
قوله تعالى: ﴿وَيُهْلِكَ الحرث والنسل... ﴾.
من عطف الخاص على العام.
قوله تعالى: ﴿والله لاَ يُحِبُّ الفساد﴾.
الصحيح أنّه ليس المراد حقيقة المحبة بل الذمّ على ذلك والله يذم الفساد ويعاقب على فعله لقول العرب في المدح التام: حَبَّذَا زَيْدٌ، وفي الذم التام: لاَ حَبَّذاَ زَيْدٌ، واحتجاج المعتزلة بها لا يتم.
والجواب عنه بما قلناه.. وكذلك احتجاجهم بقول الله تعالى ﴿وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر.﴾
596
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد﴾.
قال ابن عرفة: الآية لها منطوق ومفهوم والتقدير: لم يتق لأجل ما نالته (من العزة) بسبب الإثم واكتفى عن ذلك المفهوم فذكر علته. وفي كتاب الأقضية والشهادة فيمن قال له القاضي أو غيره: اتّق الله فإنّه يقول له: اللهم اجعلنا من المتّقين، لئلا يدخل في ضمن هاته الآية. قال: ولا ينبغي أن يقول أحد لأحد: اتّق الله، فإنه تعريض له لعدم التقوى.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله... ﴾.
قيل: إنّها خاصة بصهيب وقيل عامة في كل مجاهد أو في كل آمر بالمعروف وناه عن المنكر.
قال ابن عرفة: (يشري) على أنها خاصة (فعل حال وعلى العموم) مستقبل حقيقة و «النّاس» إمّا المؤمنون فقط أو المؤمنون والكافرون لأنه إذا تعارض العموم في جنس أقرب أو فيه وفي أبعد منه فالأقرب (أولى).
«مَرْضَاتِ» : قال ابن عطية: وقف عليها حمزة بالتاء والباقون بالهاء. وتبعه أبو حيان وهو غلط إنما وقف عليها بالهاء الكسائي فقط. وعن ورش في إمالتها وجهان، والمشهور عدم الإمالة.
قال ابن عرفة: وهو عندي منتقد على الشاطبي لأنه ذكر أنّ ورشا يميل ذوات الياء ثم عدها من ذوات الياء فضاهره إنه يميلها.
قوله تعالى: ﴿والله رَءُوفٌ بالعباد﴾.
597
المراد رؤوف بهم، أي بمن يشتري نفسه، أو المراد رؤوف بهم أي بشيء يشتري نفسه. والمراد رؤوف بالنّاس إذَا قلنا: إن الكافر مُنعَم عليه وذلك أنك إذا قلت: أنعم فلان على فلان. فإن أردت أنه أذهب عنه كل مؤلم فالكافر غير منعم عليه في الآخرة. وإن أردت أنه أذهب عنه مؤلما بالإطلاق فالكافر منعم عليه إذْ مَا مِنْ عذابٍ إلاّ وَفِي علم الله (ما هو) أشد منه.
قال الزمخشري: «رؤوف بالعباد» حيث كلّفهم الجهاد فعرضهم لثواب (الشهداء).
قال ابن عرفة: وهذا جار على مذهبنا لقوله «رؤوف» (فدل على) أَنّه لاَ يَجِبُ عليه مراعاة الأصلح وإنما ذلك محض (رأفة ورحمة) وتفضل.
598
قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً﴾.
أجاز ابن عطية أن يكون «كافة» حالا من فاعل «ادخلوا» أو من «السِّلم» كقول الله تعالى ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ «فتحمله» (حال) من فاعل «أتت» ومن قوله «به».
598
قال أبو حيان، واعترض بأنه لا يصح إلاّ إذا جعلت صاحبي الحال مبتدأين والحال خبر عنهما كقول الشاعر:
وعلقت سلمى وهي ذات موصد ولم يبد للآتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم ياليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم
فيصح: أنا وسلمى صغيران وقال امرؤ القيس:
خرجت بها نمشي تجر وراءنا على إثرنا أذيال مرط مرجل
لأنه لا يصح: أنا وهي نمشي ولا يصح أن يقال: هو وهي تحمله. فقال ابن عرفة: يصح حمله على الوجه الذي صح إتيانه حالا منهما تقول: هي تحمله وهو محمول كما (يفهم) في الحال منهما مجموعة.
قلت: وتعقب ابن القصار هذا بأنّهما كما جمعا في حال واحدة كذلك يجمعان في خبر واحد فيمتنع الجمع في تلك، ويصح هنا أي أنتم والسلم مجتمعون لكن يبطل من جهة أن المقدر خبر أو «ادخلوا في السلم» أمر والأمر لا يقدر بالخبر.
فإن قلت: المعنى أنتم والسلم مطلوبان بالاجتماع؟ (قلنا لم يخبر) عنهما بالحال بل بلازمها.
599
ابن القصار: ولا أعلم من شرط هذا إلا أبا حيان بل إنما اشترطوا اتحاد العلم في صاحب الحال مثل ما تقدم، وكقول عنترة العبسي في عمارة بن زياد العبسي، كان يتوعده عنترة بالقول: «متى تأتني فردين... »
وقوله ﴿ادخلوا فِي السلم﴾ أي دوموا على الدخول.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ... ﴾.
احتجّ ابن الخطيب بها على أنّ الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده إذ لو كان كذلك لما كان لقوله «ولاَ تَتَّبِعُوا» فائدة.
قال ابن عرفة: إنما يتمّ له هذا (على) القول بأن الأمر للتكرار مع أنّ الصحيح أنّه مطلق يخرج المأمور من العهدة بالمرة الواحدة والنّهي يقتضي الانتهاء دائما ففيه زيادة فائدة لم تكن في الأمر.
قال ابن عرفة: والاتباع في الاصطلاح كما قال الفخر الرازي في المعالم: أن يفعل فعل المتبوع (لأجل) أنه فعله.
قيل لابن عرفة: هذا فعل في سياق النفي فهو عام في جميع وجوه الاتباع؟
فقال: إنما يعم في مسمى الاتباع فقط كقولك: لا عين عندي. إنما يعم في مسمى العين الذي حملته عليه وهو المال مثلا أو غيره.
600
قوله تعالى: ﴿خُطُوَاتِ الشيطان... ﴾.
أبو حيان عن ابن أبي مريم صاحب الموضح: سكنت تخفيفا عن ضم مقدر منوي إذ هي حركة فارقة بين الاسم والصفة كما في جمع «فعلة» المفتوحة الفاء.
قال ابن عرفة: إنّما يكون الفرق باللّفظ لا (بالنّية). فرد عليه بمثل ذلك بوجهين للمفرد والجمع (بالنية).
فقال: قد ذكروا في ذلك أنّ حركته صغيرة بالنّسبة إلى حركة أخرى ولم يجعلوا (للنّية) فرقا.
قيل لابن عرفة: قد فرق المنطقيون بين العدول والتحصيل (بالنية).
فقال: المراد منهما أنّ الحركة منوي بها ذلك من أول، وهنا ليس كذلك.
601
قوله تعالى: ﴿فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات﴾.
فيه سؤالان الأول أن قبلها ﴿ادخلوا فِي السِّلْمِ﴾ والأمر بالدخول يقتضي أنّهم غير مسلمين وقول الله تعالى: «فَإِن زَلَلْتُمْ» يقتضى
601
أنَّهم مسلمون ثم زلوا بعد ذلك قال الله تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ وأجيب بأنّه مثل: ﴿الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ لأن الكفار لما كانوا متمكنين من الإيمان فكأنهم حصل لهم الإيمان بالفعل.
(السؤال) الثاني: الآية خرجت مخرج التقسيم لحالهم والتقسيم الأصل فيه أن يكون بالواو. تقول: العلم إما تصور وإمّا تصديق، ولا يجوز عطفه بالفاء، فقسم حال هؤلاء إلى من دخل في الاسلام ولم يتبع الشيطان وإلى من زلّ عن الإسلام بعد مجىء البينات فهلا عطفه بالواو؟
وأجيب بأن الفاء تقتضي السبب فقصد التنبيه على أنهم ضلوا بسبب هذه الآيات التي كانت سببا في هداية غيرهم. قال الله تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ لا سيما مع مذهبنا أنّ ارْتِبَاط الدّليل بالمدلول عادي، وعبر ب «إن» دون إذا (تنفيرا) عن الزلل حتى كأنه غير واقع.
قوله تعالى: ﴿فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
قيل لابن عرفة: هل يؤخذ منه إثبات هاتين الصفتين لله تعالى (
602
بالسماع) ؟
فقال: إنما المراد العلم بلازم ذلك وهو العقوبة والانتقام ممن زلّ.
603
قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله... ﴾.
قال أبو حيان: قيل بمعنى ينتظرون فيتعدى إلى واحد بنفسه ولو كانت من نظر العين لتعدت بإلى وأضيفت إلى الوجه مثل ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ ورده أبو حيان بجواز كونها منه وإلى محذوفة وحذف حرف الجر مع أنه كثير وهو قياس مطرد ولا يلزم إضافتها إلى الوجه بل قد يضاف إلى الذات قال الله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ ﴿قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ وقدر ابن عرفة هذا التعقب بأنه (إن) أراد أن المنظور إليه لايكون إلا (بالوجه) فباطل بقوله ﴿أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل﴾ (وإن) أراد (أنّ) النظر (بالنسبة) لاعتبار الفاعل لا إلى الوجه فيقال: نظر وجهي إلى كذا، فباطل أيضا.
قال ابن عرفة: ويبطل أيضا من وجه آخر وهو المنظور إليه هنا هو الإتيان المفهوم من قوله ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله﴾. والإتيان معنى
603
من المعاني لأنه مصدر والمعاني لا ترى بوجه الا باعتبار الجواز العقلى لكونها موجدة والوجود مصحح للرؤية.
فإن قلتم: نرى إتيان الشخص؟ قلنا: إنما رأيت الشخص الآتي لا إتيانه.
فإن قلتم: إنه عرض؟ قلنا: العرض الذي هو اللون مرئي، وأما الرائحة والعلم والقدرة فليس بمرئي بوجه.
(والجواب) عن ذلك أن النظر هنا بمعنى الانتظار ومعناه أن (حالاتهم) تقتضي انتظارهم العقوبة (لا أنهم) يقصدون ذلك وفي هذا عقوبتان (حسية) ومعنوية لأن وجود السحاب مظنة الرّحمة بالمطر قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ﴾ وقال الله جل ذكره ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمئان مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾ ففيه العقوبة (بالخيبة) فيما يظن فيه قبل الغرض فلا تناله العقوبة بنقيض المقصود وهو إتيان العذاب معه.
604
قوله تعالى: ﴿سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ... ﴾.
604
(قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق أنهم إن زلوا بعد الآيات البينات عوقبوا نبّه بهذه الآية على مساواة حالهم لبني إسرائيل، إذ جاءتهم بينات كثيرة فزلّوا وتولّوا فعوقبوا).
قال ابن عطية: أي كم جاءتهم في أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من آية دالة عليه.
قال الزمخشري: ﴿كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ﴾ (دالة) على الذي آتيناهم أو من آية دالة على صحة دين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن عرفة: الأول راجع للثاني لأنه (إن) أراد بالآيات المعجزات الصادرة عن أنبيائهم دلالة على صدقهم فلا يناسب ذكره هنا عقب هذه الآية. (وإن) أراد بذلك أن (أنبياءهم) أخبروهم بإرسال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصفته وصحة نبوته فيرجع إلى الوجه الثاني.
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾.
الصواب: أن يكون على إضمار الجواب وهذا تعليل له (أي) فليعلم أن الله يعاقبه فان الله شديد العقاب.
605
قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا... ﴾.
605
أسند التزين إلى الملزوم اكتفاء به عن اللازم، مع أن اللازم هو الذي يكتفي به عن الملزوم بخلاف العكس كما قال ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات﴾ إذ لا يلزم من تزيّن الحياة الدنيا لهم محبتهم إياها ولو قيل: زين للكافرين حب الدنيا لا ستلزم ذلك تزيّن الدنيا لهم. وتقرر أن المحبة إن كانت متعلقة بأحد النقيضين أو الضدين دلت على كراهة مقابله.
((قال ابن عرفة) : والمحبة على أن المزين له كافر إلا مع معارضتها للآخرة وترجيحها عليها أما مع عدم المعارضة فلا. وهذا في الاعتقاد وأما في الأحكام والفروع فلا؛ لأجل أن عُصاة المؤمنين كلّهم رجحوا الدنيا على الآخرة).
قوله تعالى: ﴿والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
إما تهييج على الاتصاف بالتقوى فلذلك قال: «فَوْقَهُمْ» وإما تنبيه على تفاوت درجاتهم، وإما أن يكون التقوى والايمان بمعنى واحد.
606
قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ... ﴾.
دليل على أن النبي أعمّ من الرّسول بناء على الحكم المسند الى مشتق أو موصوف بصفة تقتضي ثبوت ذلك الوصف له حالة ثبوت الحكم، فيقتضي ورود البعث عليهم حال حصول النبوءة فلو كان النبي والرّسول بمعنى واحد للزم تحصيل الحاصل. وقيل الرّسول أعمّ حكاه الغزالي في (الاقتصاد) والشيخ ابن العربي.
606
وقال ابن الصلاح: اختلف المحدثون في جواز نقل الحديث بالمعنى، فقيل يجوز وقيل لا (يجوز) وقيل: إن بدل اسم الرسول بالنبي جاز بخلاف العكس.
قال ابن عرفة: الآية دالة على أن الجمع المحلي بالألف واللاّم لا يفيد العموم إذ ليس كل نبي مبعوثا وبدأ بالبشارة لأن الرحمة سبقت غضبه.
قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب... ﴾.
قيل لابن عرفة: فهلا قيل: أنزل عليهم الكتاب، كما في سورة النساء ﴿وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة﴾ ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله﴾ لأَنَّكَ تقول: قام زيد مع عمرو، فيقتضي اشتركهما في القيام، والرسل ليسوا منزلين مع الكتاب.
قال ابن عرفة: المراد أنزل مع بعثهم والإنزال مصاحب للبعث ولا اشتراك بينهما لأنه معنوي لا يمكن إنزاله وهم من أول بعثهم إلى آخره لايزال الكتاب منزلا عليهم حتى يموتوا.
607
قيل لابن عرفة: هذا كله مجاز فلم عدل عن الحقيقة إليه؟
قلت: وحمله الشيخ ابن القصار على (أمرين) :
أحدهما: أن «أنزل» بمعنى بعث، فيفيد لفظة الإنزال تشريف الرسل وقومهم بالكتاب الشريف المنزل من أشرف الجهات وهي جهة فوق، ويفيد معنى البعث أن الكتاب مبعوث مع الرسل لقومهم اعتناء بهم وتأكيدا على امتثال أوامره ونواهيه.
الثاني: أن يجعل «معهم» حالا من «الكتاب» وقدمت عليه للاهتمام بالمصاحبة. فإن قلت: الكتاب حين إنزاله لم يكن معهم؟
قلنا: هي حال مقدرة لا محصلة.
واقتضت الآية الاستدلال بمقدمة منطقية وهو أن يقول: كلما ثبتت الرّسالة لغير محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثبتت لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن عرفة: وقولهم إن الكتاب هو التوراة باطل بقوله ﴿فَبَعَثَ الله النبيين﴾ لأنّ التوراة ليست منزلة على كل النبيين.
قوله تعالى: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس... ﴾.
هذا عندنا (فضل) لا واجب.
واستشكل بعض الطلبة فهم الآية لأن قوله ﴿فِيمَا اختلفوا﴾ يقتضي تقدم اختلافهم على إنزال الكتاب.
قوله تعالى: ﴿وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات﴾.
608
يقتضي تأخير اختلافهم عن الانزال وعدم تقدمه عليه لأنه مقرون بأداة الحصر كما قال في سورة الجاثية ﴿وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأمر فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ وهذا كله على قولهم: إن الضمير المجرور في قوله ﴿وَمَا اختلف﴾ عائد على ما عاد عليه قوله تعالى: ﴿فِيمَا اختلفوا فِيهِ﴾.
قال ابن عرفة: اختلفوا قبل وبعد.
قلت: اختلفوا قبله اختلافا ضعيفا فلما ورد الكتاب والدلائل أعمى الله بصائرهم فاستنبطوا به شبهات كانت سببا في تعنتهم وضلالهم واختلافهم كمن يقرأ أصول الدين ليهتدي فيضل وكان قبل على الصواب فاختلافهم المعتبر إنما هو بعد الآيات وما قبل ذلك لا عبرة له.
قلت: فهذا يحسن جوابا والله أعلم، قال الله تعالى ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ ووافقني عليه بعضهم وقال: تكون من عود الضمير على اللفظ فقط نحو: عندي درهم ونصفه.
قوله تعالى: ﴿فَهَدَى الله... ﴾.
العطف بالفاء إشارة على سرعة هدايته للمؤمنين بعقب الاختلاف فإن يكن اختلافهم في الفروع فيحسن أن يكون ﴿وَمَا اختلف فِيهِ﴾ بعض الحق وإن يكن من الاعتقاد فهو كل الحق لا بعضه.
قوله تعالى: ﴿لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ... ﴾.
قال ابن عرفة: الصّواب أن معناه بقدرته وإن كان مجازا فهو أولى من أن يقال بعلمه أو بأمره ليكون فيه حجة على المعتزلة.
609
قوله تعالى: ﴿والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
قال ابن عطية: فيها حجة على المعتزلة في قولهم: إن العبد يخلق أفعاله.
قال ابن عرفة: هذا بالظاهر لا (بالنضر) ولهم أن يجيبوا بعود ذلك إلى الداعي ووقع الاجماع هنا ومنهم عليه.
610
قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم... ﴾.
قال ابن عصفور في مقربة والآمدي في شرح الجزولية: (لَمْ) لنفي الماضي المتصل بزمن الحال ومثل ذلك ﴿وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى﴾ ولم يندم، وعصى إبليس ربه ولمّا يندم لأن نفي الندم عن آدم كان ومضى وانقطع كوقوع الندم منه بعد ذلك، ونفيه عن إبليس متصل بزمن الحال.
قال ابن عرفة: وعادتهم يتعقبونه بوجيهن:
الأول: نسبة العصيان لآدم عليه السلام فإنه وإن كان ورد في القرآن لكنّه لا ينبغي أن (يتكلم) المخلوق على جهة المثال فإنه من إساءة الأدب على الأنبياء.
610
الثاني: ان نفي النّدم عنه إما قبل المعصية أو بعدها، والأقسام كلها باطلة لوقوع النّدم منه إثر المعصية. قال الله تعالى ﴿فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا﴾ (فعقب) الأكل بدت لهما السوءات، فوقع الندم والندم حين العصيان غير متصور فأحرى قبله.
وقال القرطبي: (لَمَّا) هنا بمعنى (لم) لنفي الماضي المنقطع لأن ذلك كان في غزوة أحد وهي متقدمة على (هذه) الآية.
ورده ابن عرفة بأنّه إنّما يلزم ذلك لو (علّقه) في الآية بالعلم، وهو أنما علّقه بالحسبان.
قلت: ونقله بعض الطلبة بلفظ لا يحتاج إلى هذا بل هي على بابها لأن حسابهم أنهم يدخلون الجنة حالة كونهم لم يأتهم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ وهذا (الحسبان) لم ينقطع وما زال المؤمنون يظنون أنهم يدخلون الجنة من غير بأس ولا مشقة تنالهم إلى حين نزول هذه الآية، ونيلهم البأس في (هذه الغزوة) لا يرفع ظنّهم ذلك.
قال ابن عرفة: والبأَسَاءُ راجع لفقد المال، وَالضّرّاءُ للنقص في البدن والزلزال في النفس.
611
قوله تعالى: ﴿حتى يَقُولَ الرسول... ﴾.
قرأ نافع، بالرفع.
قال ابن عطية: كأنه اقترن بها (تسبيب)، فحتى (حرف) (ابتداء) يرفع الفعل.
ابن عطية: ظاهره أيضا إذا كان ما قبلها سببا لما بعدها، فالرفع مطلقا وليس كذلك. بل لابد من زيادة كونه ماضيا أو حالا، وأما إن كان الفعل مستقبلا فالنصب ليس إلا، وكذلك جعله الزمخشري حكاية حال ماضية.
قال أبو حيان: وحتى على النصب (للغاية) بمعنى: إلى أن، أو للتعليل بمعنى كي. قال: والغاية أظهر لأن (الضراء) والزلزال ليسا معللين بقول الرّسول والمؤمنين.
612
قال ابن عرفة: إن اعتبرنا (الزلزال) من حيث نسبته إليهم فليس بعلة، لأنهم لا يتزلزلون قصدا لأن يقول الرّسول والمؤمنون هذه المقالة، وإن اعتبرناه من حيث نسبته إلى الحق سبحانه وتعالى إذ هو الفاعل المختار في الحقيقة فهو علة في قول الرسول والمؤمنين؛ ذلك لأن الله تعالى زلزلهم ليقول الرسول والمؤمنون هذه المقالة. وأبو حيان لما رأى الفعل وهو «زُلْزلُوا» مبنيا للمفعول اعتبر نسبته إليه.
قال ابن عطية: عن طائفة: وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره: حتى يَقُولَ الَّذينَءَامَنُوا مَتَى نَصْرُ الله، ويقول الرّسول أَلاَ إنّ نَصْرَ الله قَريبٌ.
قال ابن عرفة: لا حاجة إلى هذا التقديم والتأخير بل هو لف ونشر مخالف جعل فيه أول القولين للقائل الثاني لكونه يليه.
وقوله «مَعَهُ» يحتمل أن يتعلق ب «ءَامَنُوا» أو ب «يَقُول» فإن تعلق ب «ءَامَنُوا» فيكون من جمع القول دون قائله مثل: ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ﴾ فكل فريق دعا إلى دينه وإن تعلق ب «يقول» فيكون من جمع (القائلين وأقوالهم) فيكون الرسول قال المقالتين والمؤمنون كذلك قالوا المقالتين.
613
قوله تعالى: ﴿يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ... ﴾.
613
السؤال (يتعدى) للمحسوسات بنفسه، ويكون معموله مفردا مثل: سألته طهورا، أي طلبت منه الماء، وللمُعاين كذلك، ويكون جملة مثل: سألته ماء هو الطهور.
الزمخشري: سألوا عن تعيين المنفق فأجيبوا بتعيين المصرف لاّنه يستلزم المنفق.
قال ابن عرفة: جعل السؤال (هنا) عن حال الشيء ويظهر لي وجه آخر وهو أن السؤال بماذا عن حقيقة الشيء وهي قسمان: عقلية وشرعية.
فالعقلية لا يختلف جوابها بوجه ولا يمكن فيه التحريف، وأما الشرعية فهي أمور جعلية يصح تحريف الشّارع لها عن شيء آخر، فالمراد: يسألونك عن حقيقة الشيء المنفق المحصل للثواب في الدار الآخرة ما هو؟ فأجيبوا بأنه الشيء المنفق على الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وفعل الخير بالإطلاق.
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَآ أَنفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل... ﴾.
(مَا) إما شرطية أو موصولة.
قال ابن عرفة: الظاهر أنها شرطية، لأن فعل الشرط مستقبل ولو كانت موصولة لما حسن ترتيب الجواب عليها، لأنهم لم يكن إنفاقهم الماضي قاصرا على الوالدين والأقربين ومن بعدهم، بل عاما فيهم وفي غيرهم، فإنَّما أمروا بذلك في المستقبل.
614
قيل لابن عرفة: قد قال ابن مالك: إنّ الفعل بعد الموصول يحتمل الحال والاستقبال.
قوله تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ﴾.
علله بالعلم والمراد لازمه وهو حصول الثواب الجليل عليه.
فإن قلت: الآية تدل على أن الأب مساوٍ للأم في البر لتسويتهما في النفقة عليهما؟
قلنا: الآية إنّما تضمنت مطلق الإنفاق عليهما من غير تعرض لما بينهما من التفاوت، بدليل تضمنهما أيضا النفقة على الأقربين بالإطلاق، مع أنّهم متفاوتون لأن القرابة مقولة بالتشكيك، فالنفقة على أقرب الأقربين تكون أكثر (من النفقة) على من هو أبعد منه. وابن السبيل هو المسافر إذا قدم على بلد هو فيها فقير ويكون في بلده غنيا، فإن كان فقيرا في بلده فهو (مسكين).
615
قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال... ﴾.
قال ابن عرفة: لفظ الكتب دليل على تأكيد وجوب القتال. والكتب إما حكم الله أو في اللوح المحفوظ أو في القرآن. والجهاد هنا (قيل فرض عين) وقيل فرض كفاية.
قال ابن عرفة: الظاهر أنه فرض (عين) لأنا إذا شككنا في شيء فيحمل على الأكثر. وفرض العين في التكاليف أكثر من فرض الكفاية.
615
(قيل له: في غير هذا، وأما هنا فلا؟ فقال: هذا محل النزاع، وكان بعضهم يقول: إنه فرض عين في كفاية) فواجب على (جميع) الناس حضور القتال. ويكفي فيه قتال البعض، والحضور فرض عين (والقتال فرض) كفاية كالصلاة في الدار المغصوبة فإنّها فرض في حرام.
قال ابن عرفة: وإذا قلنا: إنّ خطاب المواجهة يعم ولا يخص، فنقول: الأمر للحاضر والغائب وغلب فيه المخاطب. والأمر للحاضرين ويتناول الغائب (بالقياس) عليه من باب (لا فارق).
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ... ﴾.
616
الضمير عائد على القتال إما (لقربه) وإما لأنه إنما يعود على (الكتب) باعتبار متعلقه لأنهّم لايكرهون الكتاب لذاته. والكراهة هنا ليست بمعنى البغض بل بمعنى النفور منه وصعوبته على النفس كصعوبة الوضوء في زمن البرد فيكرهه المكلف كذلك لا أنه يبغضه.
قوله تعالى: ﴿وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ... ﴾.
قال أبو حيان: عسى الأول للاشفاق والثانية للرجاء.
قال ابن عرفة: المناسب العكس، فإن المستقبل في الأولى خير وانتظاره رجاء، والمستقبل في الثانية شر فانتظاره إشفاق وخوف.
قيل لابن عرفة: إنما المعتبر ما دخلت عليه (أن) ؟
فقال: نعم لكن بصفته وقيده، والأول مقيد بأنه (يعقبه خير، والثاني مقيد بأنه يعقبه الشر.
قيل لابن عرفة: المستقبل غير معلوم للانسان وإنّما يعلم الحاضر فيعسر عليه المستقبل فإن كان الحاضر خيرا ترجّى دوامه وإن كان شرا أشفق وخاف من دوامه.
قال أبو حيان: وكل عسى في القرآن للتحقيق يعنون به الوقوع الا قوله عَزَّ وَجَلَّ ﴿عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ﴾ قال ابن عرفة: بل هي أيضا للتّحقيق لما تقدم من أنّ القضية الشرطية تقتضي صحّة ملزومية الجزاء للشرط ولا تقتضي الثبوت والوقوع، والقضية الحملية تقتضي الثبوت والوقوع أو بفهم الوقوع في (الآية) باعتبار (المتكلم) بهذا الشرط والرجاء واقع من الله تعالى.
617
قوله تعالى: ﴿والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
قال ابن عرفة: الآية تدل على أن جميع الأحكام الشرعية تعلل، وذلك أنهم اختلفوا في التعبدات فذهب جماعة منهم الشيخ الهمام عز الدين ابن عبد السلام إلى أنّها الأحكام (التي لاتدرك لها علة، وفي بعض كلام ابن رشد وكلام المتقدمين ما يدل على أنها الأحكام) التي لا علة لها، والآية تقتضي أنّ الأحكام كلّها لاتكون إلا لمصلحة لأنّها خرجت مخرج (التّبيين) على كمال المبادرة إلى امتثال الأحكام الشرعية فدل على أن المراد والله أعلم ما في ذلك من المصلحة وَأنتُمْ لاَ تَعْلَمونها.
فعليكم أن تأخذوها بالقبول.
وقوله: وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ: قال ابن عرفة: يصح أن يكون في موضع الحال.
قيل له: علمنا حادث لا يُجامع علم الله القديم؟
فقال: هي حال مقدرة والتحقيق أنّا إن جعلنا الجملة في موضع الحال تكون سالبة تقتضي وجود الموضوع، وبقي في الآية أنّ الزمخشري قال في ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ إما مصدر من الكراهة أو أنه بمعنى بمعنى المكروه مثل (الخبز) بمعنى (المخبوز).
618
وقرىء: «كَرْهٌ» بالفتح على أنه بمعنى (المضموم) كالضعف والضعف.
قال ابن عرفة: وقال القاضي أبو الفضل عياض في تنبيهاته: الوضوء بالضم هو الفعل وبالفتح اسم الماء، وقيل: بالعكس. قال: فيجيء هنا كذلك.
قيل لابن عرفة: هذا قياس في اللّغة فلا يجوز؟ فقال: إنما هو (إجراء) لا قياس.
619
قوله تعالى: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ... ﴾.
قال ابن عرفة: القتال الذي وقع منهم في الشّهر الحرام، إن كان غلطا فهو كبير موجب للإثم، وإن كان اجتهادا أجري على الخلاف في الاجتهاد هل يرفع حكم الخطأ أم لا؟ فإن قلت: لم أعيد لفظ القتال مظهرا، وهلا كان مضمرا، ولم أعيد منكرا وهلا كان معرفا؟ قيل: الجواب أنّ ذلك لاختلاف المتكلّم فالأول في الكلام السائل والثاني في كلام المسؤول.
قال الفراء وهو معطوف على كبير.
قال ابن عطية: (وهو خطأ لأنه (يؤدي) إلى أنّ قوله «وَكُفْرٌ بِهِ» معطوف على (كَبِير) فيلزم أن يكون إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله من الكفر. وأجيب عنه بثلاثة أوجه:
619
الأول: لأبي حيان أنّ الكلام تمّ عند ﴿وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله﴾ وما بعده ابتداء.
الثاني: قال ابن عرفة: الكفر قسمان: صريح حقيقي وهو الكفر بالشرك، وكفر) حكمي غير صريح. فنقول: (دلت الآية) على أن القتال في الشهر الحرام كفر وإن لم يعتقد فاعله الكفر، وكذلك إخراج أهل المسجد الحرام منه كفر وإن لم يعتقده فاعله فجعل الشارع إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر إثما من الكفر الحكمي الذي نشأ عن القتال في الشهر الحرام، وهذا لا شيء فيه ولا سيما إن جعلنا الضمير في «وَكُفْرٌ بِهِ» عائدا على «عن سَبِيلِ الله».
الجواب الثالث: لبعض الطلبة قال: أهل المسجد الحرام عام يشمل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وغيره ولا شك أن اخراج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من المسجد الحرام كفر وزيادة فهو أشد من الكفر بالله عَزَّ وَجَلَّ فقط.
وحكى ابن عطية عن الزهري ومجاهد، أن ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ منسوخ بقول الله تعالى ﴿وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً﴾ ورده القرطبي: بأن ﴿وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً﴾ عام وهذا خاص، والخاص يقضي على العام. ؟
وأجاب عن ذلك ابن عرفة: بأن الأصوليين قالوا: إنّ العام إذا تأخر عن الخاص فإنّه ينسخه.
620
قلت: قال أبو عمرو بن الحاجب ما نصه: «يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب». أبو حنيفة والقاضي والإمام: إن كان الخاص متأخرا وإلا فالعام ناسخ، فإن جهل تساقطا.
قوله تعالى: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ... ﴾.
قال ابن عرفة: في (لفظها) رحمة وتفضل من الله عَزَّ وَجَلَّ لأن قبلها ﴿حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ﴾ فكان المناسب أن يقول: ومن (يُرَدّ) منكم عن دينه؛ لكنّه لو قيل هكذا لدخل في عمومه من أكره على الردة. فقال: ومن «يَرْتَدِدِ» (ليختص) الوعيد بمن ارتدّ مختارا متعمدا.
فإن قلت: هلا قيل: فَيَمُتْ وَهْوَ مرتدّ، ليناسب أوّل الآية آخرها، ويسمونه ردّ (العجز) على الصدر؟
621
(قال: قلت) : إنّ من عادتهم يجيبون بأنه لو قيل كذلك لتناول مرتكب الكبيرة من المسلمين لأنه يصدق عليه أنّه مرتد عن دينه لقوله تعالى:
﴿إِنَّ الدين عِندَ الله الإسلام﴾ وفسر الإسلام في الحديث بأن قال: «هو أَن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، (وتصوم رمضان) وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» فالإسلام (حقيقة) مركبة من هذه الخمسة أمور (فمتى) عدم بعضها عدم الاسلام لامتناع وجود الماهية بدون أحد أجزائها فمن فعلها كلّها ثم بدا له في بعضها فلم يفعله يصدق عليه أنه مرتدّ عن دينه، وأنه غير مسلم، فلذلك قال: ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾.
قال أبو حيان: قوله «وهو كافر» حال مؤكدة.
ورده ابن عرفة بوجهين:
الأول: منهما ما قلناه: من أنّه احتراز من موت مرتكب الكبيرة، فإنه مات مرتدّا عن دينه الذي هو الإسلام.
الجواب الثاني: أنّها إنما تكون مؤكدة أن لو كانت حالا من «يرْتَدِد» ونحن إنّما جعلناها حالا من «يَمُتْ» والمرتدّ يحتمل أن يراجع الإسلام فيموت مسلما.
622
قيل لابن عرفة: فيمت معطوف على «يَرتَدِدْ» بالفاء التي للتعقيب، فهو بعقب رِدّته مات؟ فقال: (هما زمانان) ارتدّ في الأول ومات في الثاني، إمّا مسلما أو كافرا، في حال مبينة بلا شكّ.
قوله تعالى: ﴿فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ... ﴾.
عامل (أولئك) لفظ «مَن» (ثم) معناها، فوجه أبو حيان من طريق الإعراب اللفظي.
قال ابن عرفة: قالوا وتوجيهه من جهة المعنى أن الأول راجع الى فعلهم القبيح في الدنيا، فالمناسب فيه (تقليل) الفاعل تنفيرا عنه فلذلك أفرده، والثاني راجع إلى جزاء ذلك والعقوبة عليه في الدار الآخرة فالمناسب فيه لفظ العموم في جميع الفاعلين خشية أن يتوهم خصوص ذلك الوعيد بالبعض دون البعض.
قال ابن عرفة: وإحباط أعمالهم في الدنيا بترك الصلاة (عليهم) وعدم دفنهم في مقابر المسلمين ومنع أقاربهم من إرثهم.
قال الزمخشري: وذلك مما يتوقع هنا بالردة للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام واستدامتها والموت عليها من ثواب الآخرة.
623
قال ابن عرفة: ومذهبنا أنه يعتق على المرتدّ أمّ ولده ومدبره دون الموصى بعتقه. ومذهب الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أن ميراثه) لبيت المال.
قال القاضي عياض في الإكمال: وقال الامام الشافعي: ميراثه لجماعة المسلمين. ووهنه تاج الدين الفاكهاني وقال: بل مذهبه كمذهب مالك. وكذا حكى عنه الغزالي في البسيط.
ابن عطية وروي عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (انه) استتاب مرتدا شهرا فأبى فقتله. ونقل عنه كرم الله وجهه: أن يستتاب ثلاث مرات فإن تاب في الاولى ترك، وإلا (روجع) في الثانية (ثم) الثالثة فإن تاب وإلا قتل. قال: ومنهم من فرق بين الذكر والأنثى فمنع قتل الانثى.
قال ابن عرفة (ووجهه) أنه عنده كالحربي سواء.
624
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله... ﴾.
624
قال ابن عطية: الهجرة الانتقال من موضع الى موضع بنية الإقامة، ومن قال: الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد وهم بسبب أن ذلك كان الأغلب عندهم فيلزم أن لايكون (أَهلُ مكّة مهاجرين) عنده بالإطلاق.
قال ابن عرفة: الهجرة الانتقال من الوطن إلى محل نصرة النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقرب منه الهجرة في موضع كثير المنكر إلى موضع (أخف) منه.
فان قلت: لم قال «يَرْجُونَ رَحْمَةَ / الله». وكل مؤمن ولو كان من أهل الكبائر يرجو رحمة الله.
قلت: فالجواب: أن هذا رجاء شهد الله تعالى لهم به، فدل ذلك على صحته. ونظيره: من يزرع فدانا في سنة خصيبة ويوفي بخدمته فيراه الفلاحون فيقولون: هذا زرع يرجو صاحبه بلوغ الأمل، وآخر يزرع فدانا يراه الفلاحون فيذمونه وربه يستحسنه ويرجوا أن يبلغ فيه الأمر ويعتقد ذلك فليس الرجاءان سواء.
فإن قلت: هلا قيل: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا والَّذِينَ جَاهَدُوا أو بحذف الموصول (فيهما) واكتُفي بذكره في الأول؟
(فالجواب) أنه قصد التنبيه على أن مجرد الإيمان كاف في حصول المطلوب من ترجي رحمة الله تعالى، ولما كانت الهجرة إنّما هي للجهاد مع النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونصرته كانا كالشيء الواحد فلذلك لم يكرر ذكر الموصول مع الجهاد.
625
قلت لابن عرفة في الختمة الأخرى: إن الآية حجة على المعتزلة في قولهم إن الطائع يجب على الله أن يثيبه لأن الرجاء إنما يتعلق بالمظنون لا بالمحقق، فلو كان الثواب محققا لما قال «يرجون رحمة الله» ؟
فقال: لهم أن يجيبوا بأن من هاجر وجاهد لا يعلم أيموت مسلما أو لا؟ فهو لا يتحقق خاتمته (فصح) إسناد الترجي إليه وبطل الدليل.
626
قوله تعالى: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر... ﴾.
قال ابن عرفة: قال ابن عطية، والشيخ الزمخشري: لما نزلت (هاته الآية) شربها قوم وتركها آخرون. قام بعض الشاربين فقرأ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ أسقط (لا) فنزلت: ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ قال ابن عرفة: هذا نصّ على أنّ لفظ التأثيم في قوله عَزَّ وَجَلَّ ّ: «قُل فِيهمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ» غير ملزوم للتحريم لأنّ الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم لم ينتهوا عنها بهذه الآية فيستفاد منه الجواب عن السؤال المورود على قول الفقهاء: إنّ اتّخاذ السترة للمصلي سنة، مع قولهم: إن تركها وصلى حيث لا يأمن المرور فمر عليه أحد أثِمَ. (قال: وكنّا أجبنا عنه بأنه إنما أثم بالتعرّض للمرور والمرور معا) لأنه لو لم يمر عليه أحد لما أثم.
626
قال ابن عرفة: (وحكي) ابن عطية في الإثم وجوها:
الأول: أن يراد في استعمالها بعد النهي إثم كبير.
(ابن عرفة) ما قلناه الا على هذا.
الثاني: ان يراد خلال السّوء الّتي فيها وهي السباب والافتراء وذهاب العقل. وعن سعيد بن جبير: لما نزلت كرهها قوم (للاثم وشربها قوم) للمنافع.
قال ابن عرفة: ويؤخذ (من الآية أنها إذا تعارضت مصلحة ومفسدة واستويا لا ينبغي الفعل لأن الصحابة لما نزلت) الآية لم ينتهوا كلهم عن شرب الخمر.
فقال: (نعم)، بل هو من باب أحرى.
قال: وهذا هو الذي ذكر فيه الأصوليون عن علي بن أبي طالب أنه قال: من شرب الخمر هذى وإذا هذى افترى فأرى عليه حد المُفتري.
قلت: ذكره العلامة بن التلمساني في المسألة الثانية من الباب التاسع. قال: وساعده عمر (وغيره).
قال ابن عرفة: وهذا هو اعتبار جنس العلة في عين الحكم لأن الهذيان مظنة الافتراء باعتبار جنس المظنة في عين حد الخمر فجعله ثمانين بعد ما كان أربعين قياسا على حد القذف.
627
قلت: وذكر ابن التلمساني هذا في المسألة (الثانية) من الباب التاسع ومثله باعتبار جنس المشقة في اسقاط قضاء الرّكعتين عن المسافر قياسا على اسقاط القضاء على الحائض.
قال ابن عرفة: وجعله الأصوليون من القياس في الأسباب وقياس الكفارات من القياس في المقادير الذي لهم فيه قولان.
قال: وهذا اجتهاد من الصحابة لفهمهم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (أنّ حده لشاربه) أربعين اجتهاد لا نصّ، وكذا ما ورد أنه ضربه (بالجريد) فخافوا اختلاف المجتهدين وأجمعوا على هذا الحد فكان قطعا للنزاع.
ابن عطية: عن بعضهم حرمت الخمرة بهذه الآية لقوله: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق﴾ واقتضت هذه الآية أنّ الخمرة فيها الإثم فيستنتج التحريم، ثم أبطله هو بأنّ التّحريم حينئذ صار بمجموع الآيتين لا أنّه بهذه (وحدها) لان هذه إنّما فيها الإثم فقط لا التحريم، وكذا قال القرطبي.
قال ابن عرفة: والميسر من اليسر واليسار، اليسار بالنسبة إلى آخذه لأنه يحدث له يسرا، واليسار بالنسبة إلى معطيه لأنه مذهب يساره.
628
ابن عطية: عن ابن عباس ومجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وغيرهما: كل قمار ميسر من نرد وشطرنج حتى لعب الأطفال بالجوز.
قال ابن عرفة: إنما ذلك إذا كان بالمخاطرة بشيء يعطيه المغلوب، فأما بغير خطار فجائز. وقد أجاز الإمام مالك في العتبية للرجل أن يشتري الكعاب لولده يلعب بها. وكان ابن عبد السلام يقول: في السّبك أنّه مركب من النّرد والشطرنج فلا يجوز (لأنه من المقامرة).
قلت: وقد ذكر اللّخمي في كتاب الأشربة أنّ الخمر إنمّا حرم بالكتاب.
وذكر ابن عطية في سورة المائدة أنه إنّما حرم بالسنة.
ونقل لي: أن القاضي ابن عبد السلام/ أنكره وأنهم نظروه في جامع مقدمات ابن رشد فوجدوه موافقا لابن عطية ولم أجده أنا فلعله في البيان.
وخرج الترمذي أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: اللهم بيّن لنا في الخمر؟ فنزلت آية البقرة. فقال: اللهم بين لنا في الخمر؟ فنزلت آية النساء. ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى﴾
629
فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيان (شفاءٍ) فنزلت آية العقود إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ. فقال عمر: انتهينا انتهينا. خرجه الترمذي عن أبي ميسرة عن عامر بن شرحبيل عن عمر (ب).
630
قوله تعالى: ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ... ﴾.
ابن عرفة: تضمنت الآية أنّ للموصى في خلطه بمال اليتيم ثلاث حالات: النظر في المصلحة، والنظر في المفسدة، والنظر المطلق.
والأول مستفاد من قوله: «قٌلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ».
والثاني من قوله: «والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح».
والثالث من لفظ «إِخْوَانُكُمْ» فإنه يقتضي التساوي. والظاهر أن «خير» مبتدا «واصلاح» خبر لتكون (الخبرية) محصورة فيه. ولو جعلنا «اصلاح» مبتدأ «وخير» خبرا لاحتمل أمرين: أحدهما: أن يراد أن الفساد خير لأن (المختلقات) يمكن اجتماعها في شيء واحد. والثاني: أن الكفارات خير.
قوله تعالى: ﴿والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح... ﴾.
في الآية سؤال وهو أن القاعدة في التمييز أن يميز القليل من الكثير وتقرر في الوجود وفي الشرع أن الفساد أكثر من الصلاح.
630
قال الله عَزَّ وَجَلَّ في سورة غافر: ﴿إِنَّ الساعة لأَتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ قال ابن عرفة: والجواب أنه باعتبار الطلب لا باعتبار الوجود الخارجي فنبه بالآية على أنّ المطلوب تكثير الصّلاح وتقليل الفساد حتى يكون في الوجود أكثر من الفساد.
قيل لابن عرفة: أو إشارة إلى عموم علم الله تعالى ما قلتموه في السؤال إنما يكون في المخلوقين لقصورهم وعجز إدراكهم، فيكون تمييز القليل من الكثير أهون عليهم من العكس.
قلت: أو يجاب بأن الآية خرجت مخرج التخويف فالمناسب فيها تعلق العلم والقدرة بالمفسد ليميز من المصلح. انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
قال ابن عرفة: وهي حجة لأهل السنة في قوله: إن تكليف ما لا يطاق جائز غير واقع.
قيل له: قد تقدم لكم أن الشرط يتركب من المحال؟
فقال: إن الآية خرجت مخرج التمدح بكمال قدرة الله تعالى والامتنان على خلقه بتيسير التكليف، والتَّمدح إنما يكون بالجائز.
وهذا نظير جواب الجزري المتقدم في ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ.﴾
631
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ... ﴾.
النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وقيل حقيقة فيهما.
قال القاضي عياض في تنبيهاته: «النكاح لغة الجماع والضمّ، يقال: نكحت البُرّ في الأرض ونكحت الحصاة خفاف الإبل، ثم استعمل في الوطء وهو في الشرع يطلق على لعقد لأنه بمعنى الجمع ومآله إلى الوطء.
قال الزمخشري في أساس البلاغة: ومن المجاز قولهم: نكحت الحصى خفاف الإبل: فظاهره أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء، إلا أن يراد المجاز في الإسناد. والنهي هنا للتحريم بدليل
632
ما عطف عليه وهو التحريم بلا خلاف، وإن كان ابن التلمساني أجاز عطف التحريم على المكروه وعكسه لكن الأغلب التساوي.
قيل لابن عرفة: ما أفاد قول الله تعالى» حتى يُؤْمِنَّ «مع أنّ النكاح (يستقل) بدونه؟
(فأجاب) هو أصرح في دوام الانتهاء بأن الأول مفهوم صفة وهو مفهوم غاية، والقائلون بإعمال مفهوم الغاية أكثر من القائلين بإعمال مفهوم الصفة.
قلت: أو يجاب بأنّه لو لم يذكر لأوهم إباحة نكاحهن إن رجعن عن الإشراك إلى دين اليهود والنّصارى فيكون في الآية حجة لما حكى ابن عطية عن ابن عباس والحسن ومالك فيما ذكره عنه ابن حبيب من أنه عام فيهم وفي الكتابيات، ثم نسخت بقوله في المائدة: ﴿والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ﴾ قوله تعالى: ﴿خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ... ﴾.
633
خيْرٌ (أفعلَ من) الجواز اشتراك المتباينات في وصف ما. فالخيرية في المشركة في الدنيا فقط أما بكثرة المال أو الجمال وميل النفس إليها.
وفي المؤمنة باعتبار الدنيا والأخرة واليهود والنصارى ليسوا من المشركين لقول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ﴾ قال ابن عرفة: وأغرب ابن الخطيب: فقال: احتج من قال: بأنّهم مشركون بقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ وأجمعوا على أن اليهود والنّصارى لا يغفر لهم فهم مشركون (وإلاّ لزم) منه تطرق احتمال المغفرة لهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ... ﴾.
من إثبات ما يتوهم نفيه، أو نفي ما يتوهم ثبوته مثل: ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ قلت: وتقدم لابن عرفة في الختمة الآخرى أن هذه الآية يرد بها على ابن بشير فإنه نقل في أول كتاب الجنائز عن ابن عبد الحكم: ان الصلاة على الجنائز فرض كفاية محتجا بقول / الله تعالى: ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ﴾
634
والنهي عن الصلاة على المنافقين للتحريم فضده وهو الأمر بالصلاة على المؤمنين للوجوب.
وتعقبه اللّخمى بأنّه لا يكون (هذا) للوجوب إلاّ إذا كان له (ضد) واحد، وهذا له (أضداد)، وهو إما وجوب الصلاة على المؤمنين أو كراهتها، أو إباحتها (أو استحبابها).
وأجاب ابن بشير: بأن النّهي إذا كان للتحريم فضده الأمر للوجوب بلا شدة، وإن كان للكراهة فضده الأمر للندب.
وقال ابن عرفة: وهذا باطل بالكتاب والسنة والنظر، أما الكتاب فقول الله تعالى: «وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات» فإنّ النهي عن نكاح المشركات للتحريم وضده وهو الأمر بنكاح المسلمات للنّدب على الجملة. (وإنما) يجب في بعض الأحيان على بعض الأشخاص، وأما السنة فخرج مسلم في كتاب الحج في رواية (قتادة) عن قزعة عن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا تسافر امرأة فوق ثلاث ليال إلا مع ذي محرم».
635
فهذا نهي عن السفر مع غير ذي المحرم، وهو للتحريم (وضده) وهو الأمر بالسفر مع ذي محرم مباح لا واجب.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب التقريب والارشاد ما نصه: وأما النهي عن الشيء فلا بد أن يكون أمرا بضده إن كان له ضد واحد أو بعض أضداده إن كان له أضداد، ويكون أمرا بالضد على سبيل ماهو نهي عنه إما وجوبا أو ندبا.
ونص القرافي في شرح التنقيحات على أن ضد الكراهة الندب.
قلت: وذكرت ذلك لشيخنا المفتي الفقيه الصالح الحاج العلامة أبي العباس أحمد بن ادريس بن بلال البجائي وللفقيه أبي الحسن علي بن يحيى بن عجمي البجائي فأجابا عنه (بوجهين) :
الأول: قال ابن إدريس: النهي للتحريم ضده الأمر للوجوب ما لم يعارضه معارض كقولهم في الأمر بصغة افعل: إنّه للوجوب ما لم تقترن به قرينة صارفة عنه للندب وهنا قد جاء الأمر بالنكاح صريحا قال الله تعالى: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النسآء﴾ وفي الحديث: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج» فإذا حمل الأمر الصريح على الندب لقرينة فأحرى أن يحمل على ذلك الأمر المفهوم من النهي فلا يتم للشيخ ابن عرفة بهذه الآية.
636
قلت: وذكر بعضهم لابن عرفة معبرا عنه بان هذا خرج بالدليل الدال على عموم وجوب النكاح.
فقال ابن عرفة: أين الدليل مع قول داود بوجوب نكاح الحرة مطلقا.
قال ابن عرفة: وإنّما يعترض على اللّخمي بما قال المازري فانظره؟
الجواب الثاني: قال الشيخ ابن (عجمي) : إنما مفهوم الآية أن من أراد النكاح هنا يجب عليه إن ينكح المؤمنات كما أنه يحرم على من يريد النكاح هنا أن ينكح المشركات وكذا الكلام في الحديث سواء، والمفهوم هنا مفهوم الصفة وهذا لا نزاع فيه.
قلت: وكلام الشيخ ابن إدريس مثل ما رد به الإمام ابن رشد في مقدماته على ابن عبد الحكم. وانظر ما تقدم لنا عن ابن الحاجب في قول الله تعالى:
﴿واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ قوله تعالى: ﴿والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ... ﴾.
637
إن قلت: هلا قال: والمؤمنون يدعون إِلَى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ. كما (أسند) للمشركين الدّعاء إلى النار.
قلت: أجاب ابن عرفة بأن فيه كمال تشريف لدين الإسلام كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ قال ابن عرفة: فإن قلت المغفرة سبب في دخول الجنة فهلا: قدمت عليها؟
فالجواب من وجوه:
الأول: قال ابن عرفة: تقدم لنا الجواب عنه فإنّها إنّما أخّرت لتتناول الآية من أطاع الله ولم يعصه فإنه يدخل الجنة (دخولا أوليا) ومن أطاع الله وعصى فإنه يدخل النّار ويغفر له فيدخل الجنة، ومن أطاع الله وعصى وغفر له فإنه أيضا يدخل الجنة دخولا أوليا.
الثاني: أنه قصد ذكر المغفرة بالتضمن وبالمطابقة.
الثالث: أن المراد أولائك يدعون إلى النّار والمعصية، وهذا مقابل له فحذف من الأول لدلالة هذا المذكور في الثاني عليه.
ورده ابن عرفة: بأنّ الآية إنما جاءت تهييجا على الطاعة، فالمناسب أن يذكر فيها (المخوفات) والدعاء للمعصية ليس بمخوف.
قلت: تقول التقدير: أولئك يدعون إلى النار والعذاب.
638
قال ابن عطية: والإذن (العلم) و (التمكين) فإن انضاف إليه أمر فهو أقوى.
قال ابن عرفة: (على هذا) لا يتقرر الدعاء للمغفرة.
قيل له: الإذن الكلام والكلام يصدق على الخبر وعلى الأمر؟
فقال: الأمر مثل ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ قيل له: والأمر عندنا ليس هو (عين) الإرادة لأن الإنسان قد يأمر بما لا يريد.
قوله تعالى: ﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ... ﴾.
قال ابن عرفة: يستفاد منه حجة وقوع المجمل في القرآن لأن الآية دلّت على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
639
قوله تعالى: ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض... ﴾.
639
قال القاضي عياض في تنبيهاته/: قيل أصله: من حاضت (السمرة) إذا خرج منها (ماء) أحمر، ولعل الشجرة إنّما شبهت بالمرأة.
قال ابن عرفة: ظاهرة أنه حقيقة فيهما.
وقال الزمخشري: في (أساس) البلاغة: من المجاز قولهم حاضت (السُّمرة) اذا خرج منها ماء أحمر.
640
قال ابن عرفة: وينبغي أن ينظر الأغلب، والظاهر أنه مجاز كما قال لأن مسيس الحاجة إلى الإخبار عن حيض المرأة أشد وأكثر من الإخبار عن حيض السمرة فينبغي أن يحكم بأنّه الأسبق وحيض (الشجرة) منقول عنه.
قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ أَذىً... ﴾.
(وقال تعالى: ﴿لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً﴾ والجامع أنّ الأذى هو الأمر المؤلم الذي) يقصد إماطته، وأتى هنا بالحكم مقرونا (بعلته) ونصوا على أنّ (الأصل تقديم العلة على المعلول) كهذه الآية، وكقولك: سهى فسجد، وزنا فرجم. وقد يجيء الحكم
641
مذكورا قبلها (وإنّما) ذلك لأن العلة أصل في الأصل واعتبارها فرع في الأصل.
واختلفوا في الحائض إذا طهرت من الدم ولم تتطهر بالماء فالمشهور أن وطأها حرام.
642
مذكورا قبلها (وإنّما) ذلك لأن العلة أصل في الأصل واعتبارها فرع في الأصل.
واختلفوا في الحائض إذا طهرت من الدم ولم تتطهر بالماء فالمشهور أن وطأها حرام.
643
وحكى القاضي عياض في الإكمال عن ابن بكير جواز وطئها ابتداء من غير كراهة.
قلت: وكذا حكى ابن العربي في الاحكام وحكى غيرهما عن ابن بكير كراهة وطئها. وقرأ أبو بكر وحمزة «حتى يَطْهُرْنَ»
644
بالتشديد واختلفوا في فهم الآية على القول المشهور، فقال بعض البيانيين: فيها حرف التقابل أي حتَّى يَطهرن وَيَتَطَهَّرْنَ فَإِذَا طَهُرنَ وَتَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنّ. مثل قول الله عَزَّ وَجَلَّ ّ ﴿وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ﴾ وقول الشاعر:
وإني لَتَعْرُوني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بَلَّله القطر
أي: وإني لتعروني لذكراك سكون ثم يزول عنِّي فأفيق وأنتفض لها كما يعتري العصفور عندما بَلَّله القطر، فإنه يسكن ثم ينتفض وكذا قوله الآخر:
فإن كان شجوا فاعذروني على الهوى وإن كان داء غيره فلك العذر
أي فاعذرني فلك العذر وإن كان داء غيره فاعذرني أيضا. انظر ابن الصائغ في باب المعرب والمبني.
وقال العلامة ابن رشد: في البيان والتحصيل «يَطهرن» بمعنى: يَتَطَهَّرْنَ بدليل قراءة التشديد ولو كان الاول في الدّم والثاني للماء لجاز بالاول ما لم يجز بالثاني، إذ لا يقال: لا تقم حتى يأتي زيد، فإذا أتى عمرو فافعله.
645
وقال ابن عبد البر في الاستذكار: الحجة للمشهور أنهم جعلوها كالحيض في العدة فأوجبوا لزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل بالماء فإن قيل: الله تعالى قال: «حتى يَطْهُرْنَ». وَحَتَّى غاية لما بعدها بخلاف ما قبلها؟
فالجواب: بأنه قد يقع التّحريم بشيء آخر ولا يزول بزواله لعله أخرى (تخلفه) كقوله تعالى في المبتوته: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾
وليس بنكاح الزوج تحل له حتى يطلقها الزوج وتعتد منه. انتهى.
قلت: ونقل صاحبنا الفقيه أبو عبد الله أحمد بن علي بن ميمون النّجار عن بعضهم أنه تعقب على ابن رشد بأن التطهير بالماء يستلزم الطّهر من الدم فصار كقوله: لا تفعل كذا حتى يأتي زيد فإذا دخل عندك زيد فافعله. لأن دخوله مستلزم لإتيانه. وهذا الكلام جائز بلا شك وذكرته لشيخنا ابن عرفة فاستحسنه وأجاب عن كلام ابن عبد البر بأنّ (المبتوتة) خرجت بالإجماع لإجماعهم على أنها لا تحل للاول حتى يطلقها الثاني ومسألتنا فيها (الخلاف).
قلت: وبين الأصوليين خلاف في لزوم عكس العلة الشرعية، وأشار إليه ابن بشير في النكاح الأول، وكلام ابن عبد البر مبني على عدم انعكاسها.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين... ﴾.
646
التَّشديد لتكثير التَّوبة ودوامها، فقد تكون توبة واحدة لكنّها دائمة فمن يذكر المعصية ويندم عليها تائب، ومن يذكرها ويتشوّق لعودته إليها غير تائب لأنه مصر عليها، وتارة يقف ولا يندم ولا يتشوّق إلى العودة، واختلفوا هل تجب التوبة في كل زمن هو فيه ذاكر للمعصية، أم لا تجب على قولين؟
647
قوله تعالى: ﴿فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ... ﴾.
قال ابن عرفة: هذا أمر، فإن قلنا: إنّ سبب نزولها ما ذكره المفسّرون عن أم سلمة من أن قريشا كانوا يأتون على النساء على هيئات مختلفة، فلما تزوجوا الأنصار أرادوا ذلك فامتنعن منه، فنزلت الآية فان. قلنا: سبب نزولها هذا فيكون أمرا واراد عقيب الحظر فهو للاباحة وإن قلنا كما قال الزمخشري: فيكون أمرا ابتداء للوجوب، أو الندب.
قوله تعالى: ﴿واتقوا الله واعلموا أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ... ﴾.
تأكيد في وجوب امتثال هذا الأمر وتحريم الوطء في (الدبر) ولذا قال: إنه شبه اللّواط. وفي نوازل الشعبي ضرب سحنون
647
فاعله (خمسين) سوطا، وفي كتاب الجامع من العتبية إجازته عن مالك وهي مكتوبة وهي مكتوبة فيه (بالفور).
قال ابن بزيزة في شرح الجمل: الجمهور على المنع وزعم ابن رشد أنّ (المشهور) جوازها وأسند عنه عيسى بن دينار فقال: هذا أحلى من شرب الماء البارد. ونقل أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد أن مالكا سئل عنه فقال: الآن كما اغتسلت منه.
قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾.
قال ابن عرفة: قد يتمسك بها المعتزلة في قولهم: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار لأن المناسب أن كان يقال وبشر المحسنين (أو بشّر المتّقين) الذين يجتنبون هذا الفعل، فما قال «وَبَشِّرَ / المُؤْمِنِينَ» دل على أن فاعل هذا الفعل غير مؤمن؟
قال: والجواب أن المراد (المؤمنين) الايمان الكامل.
648
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ... ﴾.
قيل: أي مانعا من أيمانكم. وأطلق اليمين على المحلوف عليه مجازا، أي لا تجعلوه مانعا من فعل ما حلفتم عليه، وقيل أي لا تكثروا الحلف به وإن كان ذلك تعظيما له خشية أن يفضي بكم ذلك إلى التهاون وعدم التعظيم فأحرى فيما عداها.
قال ابن عرفة: وعلى الوجه الأول يكون في الآية عندي دليل على أنّ الاسم غير المسمّى لأن الجعل لا يتعلق بالذات الكريمة، وإنّما يتعلق بالألفاظ الدّالة عليها بخلاف قولك: جعلت زيدا حائلا بيني وبين كذا. وكذلك أيضا على الثاني لأن الحلف إنّما هو بالألفاظ لا بالذات.
قال ابن عرفة: وقول الله تعالى: ﴿أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ... ﴾.
قيل إرادة البرّ، وقيل أي إرادة أن تكونوا أبرارا فعلى الأول تكون ترقيا، لأن التقوى أخص من البر، والإصلاح بين الناس أخص.
قوله تعالى: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ... ﴾.
حكى ابن عطية في اللغو (خمسة) أقوال: منها قول ابن عباس ومالك: اللغو حلف الإنسان على تيقنه فتبين له خلافه.
ابن عطية: وهذا اليقين هنا غلبة الظن أطلقوا عليه لفظة اليقين.
قال ابن عرفة: وهذا مخالف لكلام الفقهاء كلّهم وأين هو من قول ابن الحاجب.
قلت: والظاهر أن الظن كذلك بعد أن قال: اللغو هو الحلف على ما يعتقده فتبين خلافه.
649
وقيل: ما سبق إليه اللسان بغير عقد.
وفي المدونة: والغموس الحلف على تعمد الكذب أو على غير (يقين) فيدخل فيه الظّن.
قيل لابن عرفة: إن الشيخ القاضي أبا العباس أحمد بن حيدرة كان يقول الظاهر أن اللغو هو قول: الرّجل: لا والله وبلى والله، لقوله تعالى في سورة العقود ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان﴾ ففسر الكسب هنا بما عقد عليه اليمين وحلف الانسان على ما يعتقده ثم يتبين له خلافه هو مما كسبت القلوب لأنه انعقد عليه (اليمين) بخلاف قوله: لا والله وبلى والله. فانه شيء جرى على اللسان من غير مواطأة القلب عليه فقال ابن عرفة: يمكن تأويل الآية على القول الآخر فإن الماضي لا يتعلق به كسب لعجز الفكر عن تلافيه والمستقبل منتظر الوقوع فيتعلق به الكسب أعني بانتظاره والتماسه وإدراكه هل هو كذلك أم لا؟ بخلاف الماضي.
قوله تعالى: ﴿والله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾.
يحتمل أن يرجع «غفور» للغو اليمين و «حليم» لعدم المعاجلة بالعقوبة في اليمين الغموس.
650
قوله تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ... ﴾.
650
قال ابن العربي: في قول الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ وفي قول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ﴾ أجمعنا على أن الأمة من نسائنا، فليكن العَبْدُ من رجالنا فتجوز شهادته، وكذلك يقال هنا: إن لفظ النساء يتناول الحرائر والإماء.
قال ابن عرفة: أو يجاب هنا بالقرينة وهو أن منصب العدالة شريف عظيم فلا تقبل فيه العبيد، وكذلك القرينة هنا (لأجل) أنّ الإيلاء إنّما هو لرفع الضرر على الزوجة والمشقة، فإذا روعي ذلك في الزوجة الحرة لزم أن يراعى في الأمة الزوجة من باب أحرى ما اتصف به من الزلة الموجبة لانتهاك (الحرمة) فضررها أشد.
قوله تعالى: ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ... ﴾.
قالوا: هذه الإضافة على معنى (في).
قال ابن عرفة: فهذا دليل على صحة القول بأنه بنفس انقضاء الأربعة أشهر تخرج مطلقة لأن التربّص هو في الأربعة أشهر فإذا انقضت انقضى التربص إلاّ أن يقال: إن التربّص (يقتضي) عند فراغه إما الطلاق أو (أيقافه) ليطلق، وكان أوّلا اتفاقا بغير طلاق. أو يقال: إنّ هذا التقسيم في الآية يدل على أنّ الزوج مخير بين أن يبقي أو يطلق، فدل على أنّه لا يلزمه الطلاق بمضي الأجل.
651
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
قيل لابن عرفة: هذا دليل على أن الإيلاء غير جائز؟
فقال: المذهب أنّه جائز على تفصيل، والصّحيح جوازه مطلقا، لأنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آلى من نسائه. وقد ذكر الشيخ ابن العربي قضيته لما رد على ابن الخطيب في قوله: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آلى وطلّق وظاهرَ. فقال: له قولك آلى وطلق صحيح وقولك ظَاهَرَ (غير صحيح) كيف والله تعالى يقول ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً﴾ قال ابن عرفة: والجواب بأن تكون المغفرة والرحمة راجعين بسبب الإيلاء لأن الإيلاء لا يكون إلاّ عن غضب وشرور وذلك غير جائز فحسن تعقيبه بالمغفرة.
652
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
قال ابن عرفة: جواب الشرط مقدر، أي ارتفع حكم الإيلاء (عنهم).
قال الزمخشري: فإن قلت: العزم من أعمال القلب فيكف عقبه بالسّمع وهو من لوازم الأقوال لا الأفعال.
652
قال ابن عرفة: وهذا (السؤال) لا يوافق أصله فإنه يرد صفة السمع لصفة العلم فلا فرق / عنده بين السميع والعليم وأيضا فهو ينفي الكلام النفسي.
وأجاب الزمخشري: بأنّ العازم على الطلاق لا يخلو من مقاولة ودمدمة.
وأجاب ابن عرفة: بأنا (نثبت) الكلام النفسي، ويصح عندنا سماعه كما سمع موسى كلام الله القديم الأزلي، وليس بصوت ولا حرف، أو يقال: إنّ العزم على الطلاق له اعتباران:
اعتبار في نفس الأمر عند الله تعالى، واعتبار في الظاهر لنا بالحكم الشرعي من حيث يرتفع له حكم الإيلاء عن صاحبه، ويخرج عن عهدة الحكم عليه، فهو بهذا الاعتبار لا يعلم إلا بأمارة وقول يدل عليه، وذلك القول مسموع فعلق به السمع بهذا الاعتبار والعلم باعتبار الأول.
653
قوله تعالى: ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ... ﴾.
هذا عام مخصوص (بالمطلقة قبل البناء والحامل والصغيرة والآيسة من الحيض.
ابن عرفة: وهو (مخصوص) بدليل متصل لأنّ الحامل معلوم عمارة رحمها فلا بد من انتظارها وقت زوالها، ومن عداها معلوم براءة أرحامهن فلا فائدة في عدّتهن ثلاثة قروء.
653
قيل لابن عرفة: هذا إن قلنا: لا تحيض، وأما على قول ابن القاسم بأنها تحيض فيكون مخصوصا بدليل منفصل عن الآية.
قوله تعالى: ﴿ثَلاَثَةَ قرواء... ﴾.
مشترك بين الطّهر والحيض، والشافعي يقول: الأقراء هنا الحيض. والإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه نقل الكل عنه أنها للأطهار، ونقل اللَّخمي عنه قولين، والقرء في اللغة الجمع.
قيل لابن عرفة: كنتَ قلتَ لنا: إن هذا ليس من ذلك لأن الجمع من قريت الماء في الحوض غير مهموز، والقرء مهموز. وقلت لنا: الصحيح أنه للقدر المشترك وهو براءة الرحم؟
قال ابن عرفة والظّاهر في لفظ الآية أن الأقراء الحيض، لأن التربص هو الانتظار، والانتظار يقتضي (أقراء مستقبلة)، وقد أمر الشارع بالطلاق في طهر لم تمس فيه، فاذا طلقها طاهرا، فان قلنا: إن الأقراء: الحيض، صح الانتظار، وان قلنا: الاطهار، لم يستقم إسناد الانتظار إليها لأن (القرء) الأول حاصل في الحال. فلا (يقال) له: انتظره. وأجيب: بأنّ الانتظار أسند ((لمجموع الثلاثة أطهار. (فقال: على أنّها الحيض يكون) الانتظار أسند لمجموعها)).
654
ولكل واحد منها وعلى أنّها الأطهار فالانتظار مسند لمجموعها باعتبار الكل لا باعتبار الكلية.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ... ﴾.
قال ابن عرفة: هذا إخبار عن الحكم، فلا يصح أن يكون الشرط الذي بعده قيدا فيه لأن متعلق الخبر حاصل في نفس الأمر سواء حصل الشرط أو لا. لأن حكم الله لا يتبدل فلا يحل لهن ذلك سواء آمنّ أو كفرن، ولا بدّ أن يقال: إنه شرط في لازم ذلك الخبر. والتقدير لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن فلا يكتُمنه إن كن يؤمن بالله، وهذا على سبيل التهييج لئلا يلزم عليه التكفير بالذنب وهو مذهب المعتزلة.
قيل لابن عرفة: ما قلتموه إنما (يقوم) على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟
وقال ابن عرفة: واستعمال الأشياء (المعقمة) المانعة من الحمل قبل (الحمل) كرهها في العتبية، وأما بعد الحمل في الأربعين فالجمهور على المنع من إسقاط الماء من الرحم ذكره ابن العربي وغيره.
وحكى الامام اللخمي فيه خلافا شاذا، واما بعد التطوير والتكوين فأجمعوا على تحريم ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ... ﴾.
655
مخصوص بطلاق الخلع. وفي المدونة قولان إن قال لها: أتت طالق طلاق الخلع.
قوله تعالى: ﴿إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً.
..﴾
.
مفهومه: إن لم يريدوا إصلاحا فلا حق لهم سواء أرادوا الإفساد أو لم يريدوا شيئا.
قيل لابن عرفة: فعلى هذا لايجوز أن يتزوجها ليطلقها إذ لا (إصلاح) فيه؟ فقال: قد يكون فيه الإصلاح، تأمل.
قوله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ... ﴾.
أي في التفضيل، وفي تفسير الدّرجة خلاف (فالجمهور) يحملونها على حسن العشرة كما قال ابن العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. وهذا الظاهر، فيقولون وله عليها من القيام بحقه المبادرة إلى غرضه ورفقه، مثل الذي عليه وزيادة درجة التقديم. ويريدون المعنوي وهو التفضيل ومن بدع التفاسير ما نقلوه عن ابن مسعود أن الدرجة (اللحية).
قال ابن عرفة: والتفضيل هو الأمر المُباح مثل إذا تعارض سكناها في دار أرادتها مع سكناها في دار أخرى أرادها زوجها وهما مستويان، فينبغي للمرأة إيثار اختيار الزوج.
656
قوله تعالى: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ... ﴾.
فسّروه بوجهين: إما الطّلاق الرجعي مرتان لأن الطلقة (الثالثة) لا رجعة فيها، وإما الطّلاق السني مرتان.
(فإن) قلت: الطلاق السّني ثلاث تطليقات؟ (قلنا) لأجل هذا قال الزمخشري: إنّ التثنية ليست على حقيقتها بل للتكرار أي مرة بعد مرة مثل ﴿ثُمَّ ارجع البَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ أي كرة بعد كرة فيكون تنبيها على أنّ الطّلاق الموقع في كلمة واحدة غيرُ سنّي. فإن قلت: هلاّ قال: الطلاق ثنتان؟ فالجواب من وجوه:
الأول: قال ابن عرفة: قدمنا أن (الثنتين) يصدقان على الطلاق الممكن والمحال فيقال: الطلاق طلاقان. ويكون محالا بخلاف المرتين لأن المرة تفيد بدلالتها / على الزمان أن الطّلاق وجودي واقع.
الثاني: أنه إنما قيل «مرتان» تنبيها على أن المراد الطلاق (مرة بعد مرة لأن المرة زمان والزمانان متفرقان بلا شك لاستحالة اجتماعهما) ولو قيل: ثنتان الطلاق مجتمعا ومفرقا لأفاد بذلك النهي عن أيقاع الثالث في كلمة واحدة.
657
قيل لابن عرفة: إن الشيخ الفقيه القاضي أبا العباس أحمد بن حيدرة والفقيه المفتي أبا القاسم الغبريني رحمهما الله تعالى سئلا عمن شهد عليه أنه قال: لزوجته ما نصّه: أنت طالق مرتين؟ قال لها في مرة واحدة فقالا: يُنَوّى. فاستشكله ابن عرفة لأنه صريح أو ظاهر في الاثنتين وقد أسرته البينة.
أبو حيان: أي عدد الطلاق مرتان أو إيقاعه مرتان.
قال اين عرفة: إن أراد تقدير معنى فصواب، وإن أراد أمرا حاجيا لا بد منه ولا يتم اللفظ إلا به، فليس كذلك.
قال ابن عرفة: والآية دالة على أن طلاق الحر مساو لطلاق العبد.
قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ... ﴾.
قال ابن عرفة: فإن قلت: هلا قيل: فإمساك بإحسان أو تسريح بمعروف، وهذا السؤال مذكور في حسن الائتلاف؟
قال: وعادتهم يجيبون بأن المعروف أخفّ من الإحسان لأن المعروف حسن العشرة والتزام حقوق الزوجية والإحسان ألاّ يظلمها شيئا من حقها، فيقتضي الإعطاء وبذل المال أشق على النفوس من حسن العشرة (فجعل) المعروف مع الإمساك المقتضي لدوام العصمة إذ لا يضر تكرّره، وجعل الإحسان المشق على النفوس (مع) التسريح الذي لا يتكرر بل هو مرة أو مرتان أو ثلاث فقط.
658
ونقل ابن يونس عن أبي (عمر) : أنّ هذه الآية ما زالت يكتبها الموثقون في الصّدُقات.
قال: وكان الشيخ القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد السلام ينكر على أهل زماننا كتبها في الصدقات إذ لا يذكر في عقد النكاح إلا ما يلائمه ويناسبه. وأما الطلاق ففي ذكره فيه تفاؤل ومناقضة للنكاح ولذا (تجد) بعضهم يقول: من الإمساك بالمعروف أو المعاشرة بالإحسان (فيؤول) اللفظ.
أبو حيان: ( «إِمْسَاكٌ» ) إما خبر، أي فالواجب إمساك، وإما مبتدأ وخبره مقدر إما قبله أي فعليكم امساك أو بعده أي فإمساك عليكم.
قال ابن عرفة: سببه أنّ «بِمَعْرُوفٍ» إن كان صفة الإمساك قدر الخبر متأخرا، وإن كان متعلقا به قدر مقدما لأن المبتدأ نكرة.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً... ﴾.
قال ابن عرفة: إن أريد تأكيد التحريم يقال: لا يحل كذا، وإن أريد مطلق التحريم يقال: لا تفعل كذا، لاحتماله الكراهة، وكذلك المفتي لا يقول: لا يحل كذا، إلاّ فيما قوي دليل تحريمه عنده، وأما دون ذلك فيقول: لا يُفعل أو لا ينبغي (أن تفعل) كذا.
قوله تعالى: ﴿مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً... ﴾.
659
قال أبو حيان: حذف العائد على (ما) لأنه (المفعول) الأول للفعل وهو ضمير نصب متصل، والثاني كذلك. وتقديره مِمَّاءَاتَيْتُمُوهُنّ. هذا نص أبي حيان، إن «ءاتَيْتُمْ» يعتدّى إلى مفعولين حذف أحدهما وهو العائد على ما تقديره (ءاتيتموهن إيّاه).
قال الصفاقسي: فيه نظر لأنّهم نصّوا على أنّ الضمير المنصوب لا يجوز (حذفه) ولا يجوز اجتماع ضميري نصب متصلين.
فقال بعض الطلبة: إنّما ذلك إذا اتفقا في الإفراد والتثنية والجمع أما إذا كان أحدهما مفردا والآخر مجموعا فنص سيبويه على جوازه.
وقال بعض الطلبة: بل ضعفه ابن مالك.
قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن (يردوا) على أبي حيان بأنّ المحذوف هنا ضمير نصب متصل. والتقدير: مماءَاتتموه إيّاهن، فحذف الضمير المفرد واتصل الآخر بالفعل بعد أن كان منفصلا فصار «ءَاتَيْتُمُوهُنّ».
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله... ﴾.
هذا إما استثناء من الأسباب، أي منهن شيئا لسبب من الأسباب: خوف عدم إقامة حدود الله. والزمخشري يعبر عنه في غير هذا بأنه استثناء من أعمّ العام.
660
قال ابن عرفة: وهذا يدل بالمطابقة على جواز الخلغ منهما معا وباللزوم على جوازه من المرأة وحدها وأما الزوج فيستحيل ذلك في حقه. وهذا الخلع للزوجين قد يكون للحاكم. ومثاله: إذا زوج الأب ابنه الصغير ومات وأراد القاضي أن يخالع منه.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَآ... ﴾.
ذكر أبو حيان أنّه في موضع الحال.
ورده ابن عرفة بأنّ «أَنْ» الموصولة (أعرف المعارف عندهم والحال لايكون إلا نكرة. قلت: الحال هنا) معنوية لا لفظية والتعريف في اللفظ لا في المعنى.
قوله تعالى: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ... ﴾.
قيل لابن عرفة: الفدية في اصطلاح الفقهاء هي المخالعة بالبعض لا بالكل وهو مناسب لقوله «أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً».
فقال: اللّغة لا تفسر بإصطلاح. والمناسب هناك منع الخلع بالبعض فيستلزم منعه بالكلّ من باب أحرى. والمناسب هنا إباحة الخلع بالجميع فيستلزم إباحته بالبعض.
قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون﴾.
قال ابن عرفة: / إفراد الضمير العائد على (مَنْ) أوّلا (و) جمعه ثانيا مناسب لفظا ومعنى؛ أما اللفظ فالمستحسن عند النحويين معاملة لفظ (من) أولا ثم معناها، وأما المعنى فأفرد ضمير المتعدي تقليلا له ومبالغة في التنفير من صفة التعدي حتى كأنه لا يقع (الأمر)
661
من أحد. ثم جمع الظالمين لأنه (جزاء) انتقام وعقوبة فالمناسب جمعه (ليعم) كل ظالم حتى يزجر عن ذلك من هذه صفته.
662
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ... ﴾
قيل لابن عرفة: وما أفاد قوله «من بعد» والكلام يستقل بدونه؟
فقال: أفاد التنبيه على مرجوحية الطلقة الثالثة.
قال ابن عرفة: (وهذا الخلع) هل هو فسخ أو طلاق؟ منهم من قال: لا يكون طلاقا إلا إذا كان بلفظ الطلاق فتقول له: خالعتك على كذا. فيقول: أنت طالق على ذلك، ولو قال وأنا أخالعك على ذلك أو قال: سرّحتك على (ذلك) وخليت سبيلك وأبحت لك الأزواج، فهو فسخ. وهي مسألة وقعت في المغرب في رجل كان يقال له البخاري، لأنه كان يحفظ البخاري، كان طلق زوجته طلاق الخلع ثلاثا بغير لفظ الطلاق، ثم ردها قبل زوج فاختلف الفاسيون. فبعضهم قال: يرجم، وآخرون قالوا: يلزمه الأدب فقط، لأنه خالع بغير لفظ الطّلاق، وحدّوه حينئذ وتركوه. وهي مسالة المدونه إما أن يعذر بجهل أولا، وهذا الرجل كان عالما.
قوله تعالى: ﴿حتى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ... ﴾.
قال سعيد بن المسيب:: إنها تحلّ بالعقد.
قال ابن عرفة: وما حمله عندي إلا أنه يقول: اقتضت الآية أنّها تحل بالعقد، وبينت السنة أنّها لا بد من الوطء. وبهذا كان يرد بعضهم على من قال: كل نكاح في القرآن المراد به العقد إلا (في)
662
هذه الآية، فكان يقول: بل هو هنا حقيقة في العقد، وبينت السنة أنه لابدّ من الوطء.
قوله تعالى: ﴿إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله... ﴾.
ولَمْ يَقُلْ: إن لم يخافا ألاّ يقيما حدود الله، لأن هذه أبلغ في التكليف.
قال ابن عرفة: وأهل بلدنا يكلفونها إذا أرادت الرجوع لمطلقها بالثلاث إثبات كون المحلل غير متّهم لفساد الزمان. وأهل القيروان يكلفونها (إثبات) ذلك عند تزويجها.
وكان الشيخ ابن هارون لما عزل عن قضاء توزر تكلّم معه القاضي ابن عبد السلام في أمور منها أنّه لم يأمر بذلك، فقال ابن هارون: تكليفها بهذا لم يذكره أحد وفيه مشقة عليها، وإنما الصواب أن يعمل على ما اتفقا عليه هي والذي (حللها) لمطلقها. قال: فأنكر ذلك ابن عبد السلام وقال له: سمعت عنك أنك تأخذ في كل صداق دينارا كبيرا وتسرحه، فسكت عنه.
663
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً﴾.
وقال قبل هذا: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ وتقدّم أن المعروف أخف من الإحسان فالجمع بين الآيتين بأنه لما وقع الأمر بتسريحهن مقارنا للاحسان إليهن خاف أن يتوهّم أن الأمر بالإحسان إليهن عند تسريحهن للوجوب فعقبه بهذا تنبيها على أنه إحسان بمعروف فهو للندب لا للوجوب. ولفظ التسريح عندهم من الكنايات الظاهرة في الثلاث.
663
وقوله «لاَ تُمْسِكُوهُنّ» قال أبو حيان: إن كان «ضرارا» حالا تعلقت اللاّم (من «لِّتَعْتَدُواْ» به أو ب «وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ»، وإن كان مفعولا من أجله تعلقت اللام) ب «ضرارا» أو كان علة للعلة كقولك: ضربت بني تأديبا لينتفع. ولا يجوز أن يتعلق ب «لاَ تُمْسِكُوهُنَّ» فيكون الفعل قد تغير إلى علة وإلى عاقبة وهما مختلفان.
قال ابن عرفة: ليس امتناعه من جهة الإعراب بل من جهة المعنى لأنه لا يقصد أحد (بإمساك زوجته أنه متعدّ حكم الله كما لا يقصد أحد) بالزنا أنه متعدّ حكم الله، وإنّما يقصد أضدادها فيؤول (أمره) إلى تعدى (حكم الله) والزاني يقصد اتّباع شهوته ويؤول أمره إلى أنه تعدى حدود الله.
قوله تعالى: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ... ﴾.
قال ابن عرفة: هذا احتراس لأنّ من يأمره بأمر ويؤكده بالنّهي عن ضده ثم يزيد تأكيدا، فإنما يفعل ذلك لتعلق غرضه به وانتفاعه به وتضرره من (عدمه) فبين أنه تعالى لا يلحقه من فعل ذلك نفع ولا يناله من (تركه) ضرر بوجه.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً... ﴾.
ولم يقل: ولا تستهزئوا بآيات اللهِ، مع أن الاستهزاء بها أعم من اتّخاذها هزؤا ونفي الأعم أخص من نفي الأخص لأن اتّخاذ آيات الله هزؤا أخص من مطلق الاستهزاء.
664
فالجواب أنّ الاستهزاء بها لو وقع لما وقع إلاّ على المعنى الأخص ولذلك أضاف الآية إلى الله تعالى إضافة تشريف. ونظيره قول الله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ أجابوا بوجهين: إما بأن المبالغة في نفس الظلم أي لو كان وقع لكان عظيما لأنّ الحقير من العظيم، وإما باعتبار تعدد متعلقاته. وآيات الله إما أحكامه أو دلائل أحكامه وهو الظاهر لأن الزاني لم يستهزىء بالزنا ولا بتحريمه، (بل) بالدليل الدال على تحريمه.
قوله تعالى: ﴿لِّتَعْتَدُواْ﴾.
لتعتدوا: متعلق ب «ضرار» وهي لام العاقبة وليس متعلقاً ب «تمسكوا».
665
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء... ﴾.
الخطاب للأزواح وقيل الأول وأمّا الثاني فقيل للأزواج وقيل للأولياء فإن كان للأزواج فالمعنى: أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهنّ.
قال ابن عرفة: / ومنهم من قال الخطاب للجميع لأن المفعول إذا لم يكن شخصا بعينه فيمكن أن يكون فاعلا مفعولا.
وقوله: ﴿فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ ليس المراد به (نساءكم) المطلقات بل المراد لا تعضلوا النّساء بالإطلاق فيقال للرّجال: إذا طلقت امرأتك لا تعضل النّساء، أي لا تمنعها هي من التزويج ولا تمنع وليّتك من التّزويج. قالوا: وبلوغ الأجل هنا حقيقة وليس المراد مقاربته.
قال ابن عرفة: ليس مرادهم أنّه يجب (هنا حمله على حقيقته) وإنّما يريدون أن الاصل في الإطلاق الحقيقة، اقترن بالأول ما أوجب صرفه عن حقيقته إلى مجازه وبقي هذا على الأصل فيصح حمله على المجاز
665
فإن (صح بأن) خوطب الأزواج فظاهر، وان خوطب الأولياء فالمراد نهي الأولياء عن عضل المرأة عن التزويج في العدة بقرب فراغها خوف الضرار، لو فرض جواز ذلك وهم ممنوعون منه شرعا فأحرى أن يُنهوا عن ذلك بعد العدة حيث هم متمكنون من المنع والإباحة.
قوله تعالى: ﴿إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف... ﴾.
إن قلت: ما أفاد قوله «بينهم» ؟
قلنا: أفاد ذلك قصر ذلك على تراضي الزوجين خشية أن يظن توقفه على تراضي عموم العشيرة وسائر القرابات.
قوله تعالى: ﴿ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الأخر... ﴾.
أي يوعظ به الوعظ النافع المحصل للانزجار.
قوله تعالى: ﴿ذلكم أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ... ﴾.
أي يزكيكم، فيجعل لكم صعود الدّرجات في الجنات، ويطهركم من الآثام ويبعدكم عن الدّركات والحلول في النار.
وقوله تعالى: ﴿والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
إما باعتبار عاقبة الأمر في المستقبل وإما لكون العلم القديم مباينا للعلم الحديث ولا مماثلة فيهما بوجه.
666
قوله تعالى: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ... ﴾.
قال ابن عرفة: هذا عام مخصوص بالعادة فالشريفة التي ليس من عادتها الإرضاع لا يطلب ذلك منها. ونص الأصوليون على صحة التخصيص بالعادة.
واعتبره مالك في حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا، فخصصه بالماء دون الطعام لان العادة تحفّظ النّاس على الطعام، فالغالب أنّ الكلب لا يصل إليه بخلاف الماء.
667
قال ابن عطية: فإن مات الأب ولا مال للابن، فذكر مالك في المدونة أنّ الرضاع لازم للأم بخلاف النفقة. وفي كتاب (ابن) الجلاب: رضاعه في بيت المال.
وقال عبد الوهاب: هو من فقراء المسلمين.
قال ابن عرفة: هذان يرجعان إلى قول واحد، لأن الفقر يستدعي الإعطاء من بيت المال.
قال ابن عطية: وانتزعه مالك وجماعة من العلماء من هذه الآية أنّ الرّضاعة المحرمة الجارية مجرى النّسب إنّما هي ما كان في الحولين لأن بانقضاء الحولين تمت الرضاعة فلا رضاعة.
قال ابن عرفة: من يطالعه يتوهم (قصد) التحريم على الرّضاع في الحولين.
وفي المدونة: ولا يحرم رضاع الكبير إلاّ ما قارب الحولين ولم يفصل مثل شهر أو شهرين، وأما لو فصل بعد الحولين وبعد حول حتى استغنى بالطعام فلا يحرم ما رضع بعد ذلك.
668
قال ابن عرفة: فالرضاع فيما زاد على الحولين بقربهما ينشر الحرمة.
قال ابن عطية: وروي عن قتادة أنه نزل أولا: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ﴾ ثم نسخت بقوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة﴾.
ابن عطية: وهذا القول متداع (مبتدع).
قال ابن عرفة: أي متناف لأن الشيء إنما ينسخ بنقيضه وما محمله عندي هنا إلا أنّه نسخ في الأخف.
قوله تعالى: ﴿وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ... ﴾.
قال ابن عرفة: ولو قيل: نفقتهن وكسوتهن، لكان فيه حُجة لمن يقول: إن الكسوة غير داخلة في النفقة، وهي مسألة اختلف فيها الشيوخ ابن زرب وغيره من الاندلسيين.
قيل لابن عرفة: المطلقة في العدة لا كسوة لها؟
فقال: وكذلك الكسوة هنا ثابتة للزوجة على زوجها وإن لم يكن إرضاع.
قوله تعالى: ﴿بالمعروف... ﴾.
669
عدل بين الآباء والأبناء فلا تبالغ في طلبه ولا يقصّر هو في الإعطاء.
قوله تعالى: ﴿لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا... ﴾.
دليل على أنّ تكليف ما لا يطاق غير واقع كمذهبنا انه جائز غير واقع.
قيل لابن عرفة: بل (هي) دليل على أنه غير جائز كمذهب المعتزلة ويكون من باب السلب والإيجاب كما تقول: الحائط لا يبصر؟
فقال: الأكثر في الكلام ان لا ينفى إلا ما هو ممكن قابل للثبوت والوقوع.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾.
قال ابن عطية: فِصَالا، أي فطاما. وفصاله قبل الحولين لا يكون إلاّ برضاهما وألاّ يكون على المولود فيه ضرر.
وأما بعد تمامهما فمن دَعَا إلى الفصل فذلك له إلاّ أن يكون على الصبي فيه ضرر.
قال ابن عرفة: فعلى هذا ينبغي أن تحمل الآية على (أن) التراضي والتشاور قبل انقضاء الحولين لأنه جعل التشاور بعدهما غير معتبر.
670
ابن عرفة: وتقدم لنا سؤال وهو أن التراضي سبب عن التشاور ((لأن المشورة) (تحصّل) التراضي أو عدمه فكان الأنسب تقديم التشاور على التراضي)).
قال: وتقدم الجواب بأنه أفاد عدم الاقتصار على تراضيهما فإذا تراضيا على الفصال وكانت مشورتهما للغير تنتج أن المصلحة في عدم الفصال فلا عبرة بما تراضيا عليه.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنّه لو قيل: عن تشاور وتراض، لأفاد تبعية أحدهما للآخر فإن المستشير أضعف رتبة (من) المستشار فقدم الرضى ليفيد اعتبار رضاهما معا من غير تبعية؟
فقال ابن عرفة: ليس في الآية أن أحدهما يستشير مع الآخر وإنّما يَسْتَشِيرَانِ مع الأجنبي.
قال ابن عرفة: (وعبر) ب (إنْ) دون (إِذَا) لأن النفوس مجبولة على محبة الولد فإرادتهم الفصال اقل بالنسبة إلى إرادة الرضاع، فكأنه غير واقع، أو يكون أفاد أنّه (غير) (مرجوح) شرعا. وعبر في الثاني ب (إذا) لأن استرضاع الولد للأجنبية (مرجوح) بالنسبة إلى إرضاع أمه.
قيل لابن عرفة: ما الفائدة في هذه الآية مع أن معناها مستفاد من قوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ
671
أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} فمفهومها أن من لم يرد الإتمام فلا جناح عليه في الفصال.
فقال: هذا جاء احتراسا لأن مفهوم تلك أن من أراد الفصال له ذلك فاقتضت الآية هذه اعتبار رضاهما معا بذلك.
فقيل: قوله لمن أراد أن يتم الرضاعة يفيد هذا لأنه إن أراد أحدهما (الفصال) وأراد الآخر الإتمام لم يتراضيا معا بالفصال؟
فقال: أفادت هذه زيادة الأمر بمشورتهما غيرهما.
قال: وقوله ﴿تَرَاضٍ مِّنْهُمَا﴾ ولم يقل: عن تراضيهما، ليفيد التفسير بعد الإتمام كما قال الزمخشري في قوله الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت﴾ قوله تعالى: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا... ﴾.
دليل على مرجوحية الفصال لأن اللّفظ غالب استعماله في فعل المرجوح.
قوله تعالى: ﴿إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بالمعروف... ﴾.
قرىء: «مَّآ أُتِيتُمْ».
قال ابن عرفة: وفي هذه القراءة تهييج على الأمر بالتّسليم لأن تسليم الإنسان ما لا يملك أهون عليه من تسليم ما يملك. ومعنى قوله «مَّآ آتَيْتُم» بالنّصب أن يعطي الأب (الأم) دينارا على الإرضاع
672
ثم يريد أن يسترضع الولد (عند) الأجنبية فلا جناح (عليهما) إذا سلم الدّينار للأم ولم يسترجعه من عندها.
قال أبو حيان: «إذا سَلّمتُم شرطٌ»، قالوا: وجوابها ما يدل عليه الشرط الأول وجوابه وذلك المعنى هو العامل في (إذا) وهو متعلق تعلق بما يتعلق به (عليكم).
أبو حيان: وظاهره خطأ لأن القول بأن العامل في (إذا) المعنى الذي يدل عليه الشرط وجوابه مع القول بأنّها تتعلق بما تعلق به (عليكم) متناف.
قال: ابن عرفة: لأنه إذا كان العامل في (إذا) ما تعلق به (عليكم) فيكون (إذا) جوابا للشرط الأول فقد قلتم إن الشرط الأول (جوابها) فيلزم التناقض.
قيل لابن عرفة: أو يريد بالتنافي أنّها إذا كان العامل فيها ما تعلق به (عليكم) يكون (إذا) ظرفا وقد جعلتموها شرطا وهذا تناقض.
قوله تعالى: ﴿واتقوا الله... ﴾.
إشارة إلى مراعاة حق الولد في ذلك لأنه لا يتكلم ولا يخبر بشيء.
قوله تعالى: ﴿واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
ابن عرفة: الوصف ب (بصير) أشدّ في الوعيد والتخويف من الوصف ب (عليم) لأن الإنسان قد يتجرأ على مخالفة سيده الغائب عنه وإن علم أنه يعلم ولا يتجرأ على مخالفته إذا كان حاضرا يشاهده وينظر إليه.
673
فائدة: سئل الشيخ ابن عرفة عن امرأة سقطت حضانتها لولدها إما لتزويج أو سفه أو عجز أو غير ذلك ثم إنها اشتاقت إلى الولد وأخذته فبقي عندها عاما كاملا ثم طلبت من أبيه نفقته فادّعى أنّه كان ينفق عليه؟
فقال ابن عرفة: بأنّ القول قولها فتحلف وتستحق، وقصارى الأمر أن تكون كالأجنبية إذا أنفقت على الولد. وقد قال في المدونة: القول قولها. وهذه لما سقطت حضانتها صارت كالأجنيبة. أنتهى.
674
قوله تعالى: ﴿والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ... ﴾.
قال ابن عرفة: وتقدم لنا فيه سؤال وهو أن يقال: ما الفائدة في زيادة (منكم) ولو أسقط لكان اللَّفظ أعم فائدة؟ كما تقدم لنا الجواب عنه بقول بعضهم: إن العام إذا قيد بشيء غالب أمره أنه يتخصص به، وقد يكون تقييده موجبا لتأكيد عمومه كهذه الآية، فإن توهّم وقوع المخالفة ممن لم يدرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (من المؤمنين) أشد من توهّم وقوع المخالفة ممن أدركه منهم فإذا خوطب بذلك من أدركه فأحرى من سواهم، ف (منكم) تأكيد لا تخصيص. وأجيب أيضا بأنّ (منكم) تخصيص لا تأكيد.
والمراد من المسلمين الحاضرين والغائبين وغلب فيها ضمير المخاطبين على غيرهم ويكون في الآية على هذا دليل على أنّ الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة.
674
فإن قلت: ما فائدة قوله: «بِأَنْفُسِهِنَّ» ؟
قلت: فائدته التنبيه على مجاهدة النفس بمنعها شهواتها وتحملها الصبر على النكاح حتى تنقضي العدة.
فإن قلت: ظاهر الآية أن يكون التربص مقصودا لها. والمذهب على أنها إذا لم تعلم بوفاة زوجها إلاّ بعد مضي العدة فإنّها تجزيها تلك ولا تستأنف عدة أخرى بوجه؟
قلنا: الأغلب في النساء معرفة - وكذلك المذهب - في الأربعة أشهر وعشرا أنها تكفي بشرط أن تحيض فيها حيضة وهو الأعم الأغلب في النساء فإن لم تحض (واسترابت) رفعت إلى تسعة أشهر فإن زالت عنها/ الرّيبة فقد انقضت عدتها وإن (استرابت) بحس بطن فإنّها تمكث أقصى أمد الحمل، ولهذا قال في المدونة: والعدة في الطلاق بعد الرّيبة وفي الوفاة قبل الريبة.
قوله تعالى: ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً... ﴾.
قيل: أراد عشر ليال بأيامها وغلب اللّيالي لأنها أسبق.
الزمخشري: ولا تراهم فقط يستعملون التّذكير فيه ذاهبين إلى الأيام تقول: صمت عشرا، ولو ذُكرت خرجت من كلامهم.
قال المبرّد: وعشر مدد كل مدة منها يوم وليلة.
675
وتعقبه أبو حيان بأنه لا حاجة إلى ذكر اللّيالي والعدد لأنهم مضوا على أن المعدود إذا كان مذكرا أو حذفته فلك في العدد وجهان إما التذكير الفصيح أو التأنيث.
قال ابن عرفة: كان الشيوخ يحكون عن شيوخهم خلافا فيمن يشتري سلعة بعشرة دارهم وفي تونس القديم والجديد فكان سيدى الشيخ الفقيه أبو محمد عبد الله الزواوي يفتي بأن له أن يعطيه عنها ثمانية دراهم جديدة لأن غالب حال الناس التعامل بالجديد وهو الأكثر.
وكان الشيخ الفقيه القاضي أبو القاسم بن زيتون يقول أسماء العدد نصوص فما يعطيه إلا عشرة دراهم قديمة كما وقع العقد بينهما.
قلت: وذكرت هذا بعينه في سورة العنكبوت.
676
قوله تعالى: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء... ﴾.
الزمخشري الكناية: هي أن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له مثل: فلان جبان، (القلب) عظيم الرماد. والتعريض: أن يذكر شيئا يستدل به على شيء لم يذكره.
676
ابن عرفة: فلفظه يقتضي أن الكناية ترجع لدلالة المطابقة والتعريض لدلالة الالتزام ولهذا كان بعضهم يقول في قولك: رأيت أسدا يريد به رجلا شجاعا إنه مطابقة ويرد على من كان يقول: إنّه مجاز ولذلك فرقوا بين دلالة اللفظ وبين الدلالة باللفظ لأن المطابقة دلالة اللّفظ على تمام مسماه بالإطلاق وما عرض من جعله مجازا، إلا أنه (فسر دلالة المطابقة بأنها دلالة اللّفظ على) تمام ما وضع له أوّلا.
قلت: قال القزويني في الإيضاح الكناية لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة ذلك كقولك فلان: كثير رماد القدر، كناية عن الكرم. وطويل نجاد السيف كناية عن طول قامة الرجل. ومثله: بَعِيدَةٌ (مَهْوَى) القرط كناية عن طول قامة المرأة.
قيل لابن عرفة: هل يجوز لمن عنده أربع نسوة أن يعرض ويواعد خامسة؟
فقال: الظاهر الجواز وهو أخف من المواعدة في العدة لأن من تزوج في العدة تحرم عليه للأبد، ومن تزوج خامسة يجبر على تطليق واحدة ونكاحه صحيح، وأيضا فالمواعد في العدة غير قادر على تنجيز (العقد عليها في الحال ومتزوج الخامسة) قادر على تطليق واحدة في الحال ويتزوجها.
فإن قلت: (ليس) قادرا على أن يطلقها طلقة بائنة؟
قلنا: هو قادر على أن يطلقها بالثلاث.
677
قيل لشيخنا القاضي أبي عبد الله: محمد بن القاضي أبي العباس أحمد بن حيدرة كان يقول: هذا إذا كان التعريض من أحد الجانبين فقط. وأما إذا وقع منهما التعريض فظاهر المذهب أنه كصريح المواعدة.
فان قلت: إذا نفي الجناح في التعريض فأحرى أن ينتفي عما يخطر بالقلب فما فائدة عطفه عليه.
قلت: فائدته الإشعار بالتّسوية بينه وبين ما في النفس من الجواز أي هما سواء في رفع الحرج عن صاحبهما وعلى الحكم بتعريض الرجل للمرأة لأنه الأغلب والأكثر وجودا أن الرجال يخطبون النّساء فهو مفهوم خرج مخرج الغالب فيستفاد منه جواز العكس قياسا عليه.
قوله تعالى: ﴿ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً... ﴾.
الزمخشري: المستدرك مقدر، أي فاذكروهنّ وَلكِن لاَ تُوَاعدوهنّ سِرّا.
قال ابن عرفة: هذا يتخرج من الخلاف في أنّ ما بعد (لَكِن) إن كان مناقضا لما قبلها جاز بلا خلاف وإن وافقه امتنع اتّفاقا فإن خالفه فقولان، ومفهومه تحريم المواعدة جهرا من باب أحرى.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً... ﴾.
678
جلعها الزمخشري متصلا أمّا مستثنى من مصدر «تُوَاعِدُوهُنَّ» أي إلاّ مواعدة القول المعروف فينتصب على المصدر أو مفرعا من مجرور أي إلاّ بالقول المعروف فينتصب على إسقاط حرف الجر، ومنع انفصاله على استثنائه من «سِرّا» لعدم تسلّط العامل عليه فلا يجوز: لاَ تُوَعِدُوهُنّ إِلاّ التعريض.
ورده أبو حيان بمنع الحصر لأن المنفصل قسمان ما تسلط عليه العامل.
مثل: مَا رَأَيْتُ أَحَدا (إِلاّ حِمَارا) فالحجازيون أوجبوا نصبه والتميميون أجازوا اتباعه لما قبله. وما لم يسلط عليه العامل نحو ما زاد إلا ما نقص.
(قلت: وعبر القرافي عمّا يتسلط عليه العامل بأن يكون الحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه، وعمّا لا يتسلط عليه بأن يكون الحكم بغير النقيض مثل ما زاد إلا ما نقص)، فالزيادة هي نقيض عدم الزيادة وذلك بعد أن قال: الاستثناء المتصل هو أن يكون الحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه وأن يكون استثناء من غير الجنس فإن اختل أحدهما أو هما / كان منقطعا ومثل الحكم بعدم النقيض فقول الله تعالى: ﴿لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾ فظاهره جواز أكل التجارة بالباطل وليس كذلك.
679
وتعقب ابن عرفة منع الزمخشري الانفصال وتعليله بأنه مشترك الالزام بين المتصل والمنفصل.
وأجيب عن ذلك بأن (المفرّغ) أصله مستثنى من شيء محذوف تقديره في الآية: وَلَكِن لاَ تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا بشيء من الأشياء بالقول المعروف. ونظيره: ما مررت إلاّ بزيد، أي ما مررت بأحد فليس (فيه) مشترك الإلزام.
وتعقب ابن عرفة قول أبي حيان في: ما رأيت أحدا إلاّ حمارا بأن ذلك إنّما هو في النقيض.
قيل لابن عرفة: قد ذكر القرافي والشلوبين وغيرهما ومثلوه بقول الله تعالى: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى﴾ فقال: هذا منفي، مع صحة قولك لا يذوقون إلاّ الموتة الأولى.
فقيل له: لايجوز لا يذوقون إلاّ الموتة الأولى؟
فقال: (سقط فيها).
680
قلت: قال بعضهم: كلام أبي حيان صحيح وما تقدم للقرافي بيّنه.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ... ﴾.
أبو البقاء: عقدة مصدر مضاف إلى المفعول، أو على إسقاط حرف الجر كقول عنترة:
ولقد أبيت على الطوى وأظلّه... حتى أنال به كريم المأكل
أي وأظل عليه.
قيل لابن عرفة: تقدم النهي عن المواعدة في العدة وهي أدنى من هذا والنهي عن الأدنى يستلزم النهي عما فوقه من باب أحرى؟
فقال: دلالة المطابقة أقوى.
قيل له: والأول من دلالة المطابقة مثل: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾ فقال: الصحيح عنهم أنّه من دلالة الالتزام؟
قال: والعزم منهم من يفسره هنا بالفعل وهو عقد النكاح. ومنهم من فسره بالنية، أي لا تنووا عقدة النكاح وهو الصحيح لأن العزم هو
681
الجزم بفعل الشيء فهو أمر قلبي. قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الأمر﴾ وَمما (يؤيده) هنا قوله: ﴿واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنفُسِكُمْ فاحذروه﴾.
فدل على أنّه أمر قلبي.
وحكى ابن عطية عن ابن الجلاب: أن العقد في العدة يوجب حرمتها أبدا. وكان بعضهم يقيده بما إذا تعمد ذلك فإن وقع العقد خطأ لم يتأبد التحريم.
قيل لابن عرفة: الصواب العكس لأن النكاح متى كانت له شبهة تأبد فيه التحريم ومتى لم تكن له شبهة لم يتأبد التحريم؟
فقال ابن عرفة: ليس كذلك لأن (عليه) المعاقبة بنقيض المقصود.
قوله تعالى: ﴿واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنفُسِكُمْ فاحذروه... ﴾.
عبر فيه بِ (اعْلَمُوا) وب (احْذَرُوهُ) تأكيدا في التنفير عن ذلك والعقوبة من المواطأة هنا على ما في النفس والإصرار عليه.
682
قوله تعالى: ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾.
682
وجه الفصل كونها جملة خبرية والأولى طلبية فلذلك لم يعطفها عليها.
قال ابن مالك: وإلا فالقاعدة أن الجملتين إذا كانتا متقاربتين في المعنى لم يعطف.
قوله تعالى: ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ... ﴾.
ابن عرفة هذا كما (قال) غير مرة: إن من أكثر ما وردت (لَمْ) في القرآن لنفي الماضي المتصل بزمن الحال قال: و (أو) هنا بمعنى الواو. كما قال ابن راشد، وهو الصحيح، لأنها إذا كانت على بابهما أعني (للتنويع) لزم نفي الجناح (عمن طلق بعد الدخول في نكاح التفويض، وإذا اكانت بمعنى الواو فيكون المراد برفع الجناح) بسقوط نصف الصداق) بالطلاق.
قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ... ﴾.
قال ابن عرفة: إنما عطف هذه وهي أمر على ما قبلها وهي خبر لأن قبلها تضمن حكم الطّلاق وهو سبب في الأمر بالمتعة والسببية ظاهرة فلذلك عطفت (بالواو) ولو كانت خفية لعطفت بالفاء.
683
قال ابن عرفة في مختصره الفقهي: المتعة ما يؤمر الزوج بإعطائه الزوجة لطلاقه أياها، والمعروف أنّها مستحبة يؤمر بها ولا يقضى بها ولا (تحاصص).
قال ابن زرقون في المبسوط عن محمد بن مسلمة هي واجبة (يقضي بها) (لأنه) لا يأبى أن يكون من المحسنين ولا المتقين إلاّ رجل سوء.
قال ابن عرفة: ولأن رأي المتقدمين أن المؤمن والمتقي متساويان ولأن قوله: ﴿حَقّاً عَلَى المتقين﴾ يقتضي عموم تعلقها بكل مسلم لأنه متق الشرك وقوله «عَلَى الْمُحْسِنِينَ» مفهومه عدم تعقلها بمن ليس بمحسن من المسلمين فيتعارض العموم والمفهوم والأصح عند الأصوليين أن العموم مقدم ونقله اللَّخمي ولم يعزه وعزاه الامام ابن عبد السلام لابن حبيب.
قال ابن عرفة: قال أبو عمران: إنما يقدر حال المرأة، وابن عبد البر يقدر حال الرجل وابن رشد (يقدر) حالهما.
قال ابن عرفة: وهي لكل مطلقة في عصمة لا رجعة فيها ولا خيار على الزوج.
684
وفي المدونة ما نصّه: لا متعة لمختلعة ولا مصالحة ولا ملاعنة ولا مطلقة قبل البناء.
وقد فرض لها اللخمي. ولا مفتدية ولا متبارية ولا من اختارت نفسها لعتقها ولا من فسخ نكاحها ولم تعارض.
قال الامام ابن رشد: ظاهر قول ابن القاسم ان طلّق فيما يفسخ بطلاق فسخه، فلا متعة عليه.
اللخمي: إن فسخ الرضاع بأمر الزوج رأيت / عليها المتعة وإن اشترى زوجته لم يمتعها لبقائها معه ولو اشترى بعضها متّعها، وأما المخيرة والمملكة فقال الامام ابن رشد: روى ابن وهب: أنّ لهما المتعة.
وقال ابن خويز منداد: لا متعة لهما، وقال ابن يونس: لمن اختارت نفسها بتزويج أمة عليها المتعة، انتهى.
قال ابن عرفة: المطلقة لا متعة لها في البائن دون الرجعي فإن ماتت في العدة فالظاهر أن المطلق يرث من تلك المتعة.
قيل لابن عرفة: لا يرث لأنّه إذا كان الطلاق بائنا فلا متعة ولا ميراث، وإن كانت رجعية فقد ماتت قبل أن تجب لها لأنها إنّما تجب لها بعد انقضاء العدة؟
685
فقال إنّما (أجّلنا) المتعة بانقضاء العدة رجاء أن يرتجعها قبل تمامها فإذا ماتت ذهبت تلك العدة.
قيل لابن عرفة: إنما هي جبر لقلبها ففي الموت لا متعة؟
فقال: قد قالوا: إنّها تجب.
وقرىء «عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ». واستشكلها ابن عرفة بحذف المجرور. وقد انتقد القرافي على الفخر الرازي تسميته كتاب المحصول، لأن اسم المفعول من الفعل الذي لا يتعدى إلا بحرف الجر لايجوز أن يحذف مجروره، وأجابوا: بأن ذلك اسم عَلَمٍ سمّاه بالمحصول كما قال تعالى ﴿عِندَ سِدْرَةِ المنتهى﴾ لكن ذلك الجواب لا يتصور هنا.
وأجيب: بأن هذا يتعدى بنفسه تقول: وسعت المكان والدار والطريق ووسعت الأمر:
- قال الله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض﴾ _ وقال: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.﴾
686
قوله تعالى: ﴿مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ... ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى... ﴾.
الخطاب للأولياء، ويحتمل أن يكون الخطاب بالأول للزوجات والأولياء ليعفوا عن نصف الصداق إذا لم (يمكن) قبضه، وذلك حيث تكون ملية والزوج معسر. والخطاب (بهذه) للأزواج حيث يكون الزوج مليا والمرأة معسرة فالعفو عما زاد على النصف. ومعنى «أَقْرَبُ للتقوى» أن الصداق أمر دنيوي وقد ورد «حبّ الدّنيا رأس كل خطيئة» فتركه أقرب للتقوى)، وإنما عدي باللام التي للاختصاص دون (إلى) إشارة إلى خصوص العفو عنه بالتقوى.
687
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ... ﴾.
المراد إما إنشاء التفضل أو مراعاة الفضل المتقدم، أي لا تتركوا أيقاع التفضل ولا تتركوا عند الطلاق مراعاة ما وقع بينكم من الفضل عند عقد النكاح، فإن أريد الأول فيكون تأكيدا لأن ما قبله يغني عنه، وإن أريد الثاني فهو تهييج على (العفو عن) الصداق.
قوله تعالى: ﴿بَيْنَكُمْ... ﴾.
دليل على أن الخطاب للأزواج وللزوجات وغلب فيه ضمير (المذكر).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
قال ابن عرفة: وعد ووعيد.
قيل له: إنما هو وعد خاصة لأن ما قبله تفضل ومستحب لا واجب؟
فقال: هو وعيد بالذات ويحتمل أن يتناول الواجب.
688
قوله تعالى: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصلوات... ﴾.
إن قلت: ما وجه مناسبتها مع أن ما قبلها في شأن الزوجات؟
قلنا: الجواب عنه بأمرين: إما بأنّه تنبيه الأزواج أن لا يشتغلوا بأمور زوجاتهم عن الصلوات، وإما بأن بعضهم كان لا يراعي (المناسبة ولا يشتغل) بها.
688
قال ابن عرفة: إنما قال «حَافِظُوا» ولم يقل: احفظوا، إشارة إلى تأكدها (وتكرر) الأمر بها من وجهين:
أحدهما: أن «حَافِظُوا» مفاعلة لا تكون إلاّ من اثنين مثل: قاتلت زيدا، ووقوعها هنا من الجانبين مستحيل، فيتعين صرف ذلك إلى تكرر (الأمر) بوقوعه وتأكده.
الثاني: إنّ لفظه يقتضي الاستيلاء والإحاطة فهو إشارة إلى تعميم الإحاطة بالصلوات دون ترك شيء (منها) وتخصيص الصّلاة الوسطى منها بالذكر: إما لورودها على النّاس في زمن شغلهم أو في زمن راحتهم ونومهم أو لكونهم من بقية الصلوات التي كانت مفروضة على الأمم المتقدمة وهو من عطف الخاص على العام.
قوله تعالى: ﴿وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾.
فسره ابن عطية بالقيام الحسي حقيقة قال: ومعناه في صلاتهم فسره بعضهم بالقيام المعنوي وهو الجد في الطلب والطاعة فيتناول ركوع الصلوات وسجودها مثل: «قمت بالأمر».
689
قوله تعالى: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً... ﴾.
قال ابن عرفة: الخوف أمر محقق لكونه شرطا في الرخصة والرخصة إنما تكون في الأمر المحقق الثابت لأنها مظنة المبادرة للعمل بمقتضاها لما فيها من التخفيف، فلو لم يكن شرطها محققا لأدّى إلى التهاون بفعلها
689
من غير استيفاء شروطها، فحق هذا الشرط أن يكون ب (إذا) الدالة على التحقيق كما كان الشرط وهو «فَإِذَآ أَمِنتُمْ» لكنه روعي في الشرطين شيء آخر وهو الحظ على تشجيع النفس بإحضار الطمأنينة والأمن من العدوّ وعدم الاهتبال به حتى كأن الخوف منه غير واقع في الوجود بوجه، ولها عبر في آية الخوف ب (إن) وفي آية الأمن ب (إذَا).
وقال الزمخشري: وعند الإمام أبي حنيفة لا يصلون في حال المشي. وعند الإمام الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يصلّون في كل حال والراكب يومىء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة.
قال ابن عرفة: مذهب الإمام مالك والشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما في ذلك سواء وينوي بقلبه التوجّه إلى القبلة (وهذا إذا خاف العدوّ وفوات الوقت المختار) فإن رَجَا حصول الأمن فيه أخّر/ الصلاة و (وكذا) الخائف من لصوص أو سباع لأنّ الفرع في هذا أقوى من أصله كما (قالوا) في الجدة للأم مع الجد للأب، لأن الخائف من العدوّ لا يقضي والخائف من اللصوص أو السباع يقضي.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله... ﴾.
قال ابن عطية: قيل فإذا زال خوفكم الذي اضطرّكم إلى هذه الصلاة. وقيل: فإذا كنتم آمنين قبل أو بعد أي فمتى كنتم عل (أمن).
690
ورده ابن عرفة بأن الشرط هنا يقتضي أنه مستقبل لم يقع في الوجود لا أنه ماض.
691
قوله تعالى: ﴿فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ... ﴾.
وقال قبله: ﴿فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف﴾ قال ابن عرفة: الجواب أنهم قالوا إن آية «مِنْ مَعْروفٍ» نزلت قبل آية «بِالمَعْرُوف» فنزل هنا معرفا للعهد المتقدم في النزول وإن كان متأخرا في التلاوة كقول الله تعالى ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول﴾ وقاله الزمخشري في قول الله تعالى حكاية عن ابراهيم ﴿رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً﴾ في سورة البقرة ثم قال في سورة إبراهيم ﴿رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً﴾ انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين﴾.
قال ابن عرفة: عادتهم يقولون إنّ هذا أبلغ من قوله: «فَمَتِّعُوهُنّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ» من وجهين:
أحدهما: لقوله ﴿حَقّاً عَلَى المتقين﴾ (إذا قلنا إنّ المتّقي مرادف للمؤمن، فأفاد وجوبها على عموم المؤمنين وتلك اقتضت خصوص وجوبها بالمحسنين فقط).
691
الثاني: أن ذلك أمر وهذا خبر في معنى الأمر وورود الأمر عندهم بصيغة الخبر أبلغ لاقتضائه ثبوت الشيء المأمور به ووقوعه في الوجود حتى صار مخبرا عنه بذلك.
692
قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ... ﴾.
أي مثل هذا البيان في المتعة وفي العدة وجميع ما تقدم يبين الله لكم ءاياته. (والظاهر) ان المراد آيات الأحكام، ويحتمل العموم في المعجزات وغيرها وهو دليل على صحة من منع الوقف على قوله ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله﴾ وقال لابد من وصله بقوله ﴿والراسخون فِي العلم﴾ قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
قال ابن عرفة: ليس المراد هنا العقل التكليفي بل أخص منه وهو العقل النافع. وذكر ابن عطية حديثا وقال هو حديث لين.
ابن عرفة أي ضعيف.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ... ﴾.
أي متآلفون مجتمعون، خرجوا في وقت واحد فارين من الموت، والرؤية إما بصرية أو علمية لكن (العلمية لاتتعدى ب (الى) فلذلك قال أبو حيان: «المعنى لم ينته علمك إلى الذين خرجوا من ديارهم).
692
قال ابن عرفة: وكذا البصرية ممتنعة هنا فإن أولئك غير موجودين (حين) الخطاب لكن نزل الماضي منزلة الحاضر تحقيقا له حتى كأنه مشاهد كما قال سيبويه، وهذا باب كذا. وفرق في الإرشاد بين نظر في كذا وهو النظر الفكري فجعله يتعدى (بفي).
قوله تعالى: ﴿فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ... ﴾.
أورد الزمخشري هنا سؤالا فقال: كيف قال لهم الله» مُوتُوا «وكان الأصل فأماتهم الله.
قال ابن عرفة: هذا السؤال إنّما يرد على مذهبه لأنه ينفي الكلام النفسي.
وأجاب بأنه عبارة عن سرعة (التكوين) وزاد فيه (تدقيقا) لمذهبه بقاعدة (إجماعية) وهي قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ وهذا بناء على خطاب المعدوم وهل يصح (أم) لا؟
قال ابن عرفة: وهنا إضمارٌ أي: فماتوا ثم أحياهم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس... ﴾.
693
فضله عام باعتبار الكم وباعتبار الكيف فالكم راجع إلى تكثير أعداد النعم والكيف راجع إلى حالها في أنفسها، والناس عام، فالكافر منعم عليه في الدنيا وأما في الأخرة فمحل نظر. والاستدراك في قوله ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس﴾ راجع إلى لازم قوله ﴿لَذُو فَضْلٍ﴾ فإن من لوازم فضله على الناس أن يشكروه ويحمدوه فلذلك استدرك بعده ب (لكن).
694
قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله... ﴾.
المقاتلة تكون للجهاد بالذات لتكون كلمة الله هي العليا أو باللزوم كمن يقاتل ليذبّ عن حريمه، فإنّه يستلزم الجهاد. معناها ليكن اعتقادهم ونيتكم بالقتال (سبيل الله).
قوله تعالى: ﴿واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
قال ابن عرفة: وجه مناسبة الصفتين أن من قعد ولم يخرج للقتال لا بد أن يتكلم في المؤمنين ويتحدث في أمره فالله سميع له عليم. (قتال) من قاتل، ففيه وعد ووعيد.
قوله تعالى: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً... ﴾.
هذه رحمة من الله تعالى لأنه متولّ على جميع الخلق غني بذاته عنهم، ومع هذا يجعل طاعتهم له (سلفا) منهم له، وقال في سورة براءة: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾ ووصفه بالحسن في كميته وكيفيته. و «قرضا» إن كان مصدرا فهو مجاز، كما قال الامام المازري في {وَيُطَهِّرَكُمْ
694
تَطْهِيراً} إنّ التأكيد يصير التطهير المعنوي حسيا وهو من ترشيح المجاز كقولك قول هند زوجة ابن زنباع:
بكى الخزمن (عوف) وانكره جلده... وعج عجيجا من جذام المطارق
قوله تعالى: ﴿أَضْعَافاً كَثِيرَةً... ﴾.
قال ابن عرفة: «كثيرة» راجع الى المجموع (وإفراد)، كل واحد من تلك الأضعاف موصوف/ بالكثرة.
قوله تعالى: ﴿والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
قدم القبض ترجيحا له أي ذلك القبض الذي ينالكم (بالصلاة) والزكاة (راجع) لكونه يعود عليكم بالبسط في الدنيا والثواب في الآخرة، وهذا بحسب الأشخاص فقد يكون إنفاق درهم قليلا لشخص (وكثيرا لآخر كما في الحديث: «سَبَقَ دينار مائة، فمن عنده درهمان فأنفق منهما) درهما ليس كمن عنده عشرة دراهم فينفق منها درهما».
695
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ... ﴾.
قال ابن عرفة: الرؤية إن كانت بصرية ونزل الغائب منزلة الحاضر تحقيقا له، (فالخطاب) للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحده، وكذلك
695
قالوا في قول سيبويه: هذا باب: إنّ الخطاب للخواص لا للعوام. وإن كانت علمية فالخطاب للجميع والظاهر الاول (لتعديه بإلى).
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالُواْ... ﴾.
قوله تعالى: ﴿لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً... ﴾.
لم يقل: لنبيّهم لأجل مخالفتهم له وعدم اتّباعهم إياه فلذلك لم يضفه إليهم، والنبي إما شمعون، أو شمويل، أو يوشع.
وأبطل ابن عطية كونه يوشع لأن يوشع كان بعد موسى وبينه وبين داود قرون كثيرة.
قال ابن عرفة: لعل يوشع رجل آخر (غير) الذي كان بعد موسى.
(ابن عرفة قال: وتقدم لنا أنّ الإخبار بهذا القصص إما معجزة له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (أو وعظ وتخويف لأمّته أن ينالهم مثل ما نال أولئك).
قوله تعالى: ﴿نُّقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله... ﴾.
696
القتال مع أنّهم لم يقاتلوا إلا لأجل استخلاص (حريمهم) وأولادهم لكنه مستلزم لقتالهم في سبيل الله.
قوله تعالى: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ... ﴾.
قال الزمخشري: (هل) استفهام في معنى الإنكار عليهم والتقدير مثل: ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر﴾ قال ابن عرفة: ويظهر لي أنه استفهام على بابه، وأنه تأكيد في التلطف في الخطاب لمّا وبخهم على العصيان تلطف في العبارة عنه بوجهين:
أحدهما: ذكره له بلفظ الرجاء (مقاربة) العصيان دون التحقيق.
الثاني: لفظ الاستفهام دون الخبر.
فإن قلت: هم إنما طلبوا منه أن يؤمر عليهم ملكا في قتال يتطوعون به فكيف أجابهم بامتناعهم من قتال يكتب عليهم فرضا؟
قلت: إذا امتنعوا من امتثال قتال يجب عليهم (فأحرى) (ألا يوفوا) بقتال يتطوعون به.
وقرأ الكل «عَسَيتُمْ» بفتح السين إلا نافعا كسرها.
697
قال الزمخشري: وهي ضعيفة.
قال ابن عرفة: هذا (عادته) في تجاسره على القراءات (السبعة) وتصريحه بأنها غير متواترة.
قوله تعالى: ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا... ﴾.
قال ابن عرفة: (إما أنّهم جعلوا) إخراج مثلهم كإخراجهم فنزّلوا إخراج المماثل لهم منزلة إخراجهم، وإمّا أن المراد وقد قاربنا الإخراج من الديار.
قيل لابن عرفة (أو) أخرجوا منها حقيقة ثم رجعوا إليها وقيل: إنّه على القلب، أي إخراج أبنائنا من ديارنا.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ... ﴾.
ابن عرفة: هذا أبلغ من لو قيل: فكُتب عليهم القتال فتولوا، لأن قولك: لما قام زيد قام عمرو، أبلغ من قولك: قام زيد فقام عمرو، لاقتضائه تحقيق السبيبية والارتباط.
ابن عرفة: ويحتمل أن يكون (تقدم) سؤالهم سببا في (وجوب) القتال عليهم وكان قبل ذلك تطوعا كقضية بني إسرائيل في البقرة.
698
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ... ﴾.
إن قلت: لِمَ أضافه هنا إليهم ولم يضفه في ﴿إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ﴾
698
قلنا: إنّما أضافه هنا لأنه في مقام التبليغ لهم بخلاف الأول فإنه حكاية عن (مقالتهم) التي لم يوفّوا بها وعصوا وقدم المجرور لأنهم المقصودون بالذكر.
ابن عطية: عن وهب بن منبه لما سأل شمويل من الله عَزَّ وَجَلَّ أن يبعث لهم ملكا ونزله عليهم قال الله تعالى: «انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فسرا الدهن الذي فيه فهو ملك لبني إسرائيل.
قال ابن عرفة سرا أي ارتفع. وهذا الخبر إن صح وإلاّ فما يكون (مفسره) (في قوله ﴿بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً﴾ ) إلا مجرد (الوحي).
فان قلت: (قد) حرف (توقع) حسبما ذكره الزمخشري في قول الله تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾ وبنو اسرائيل لم يكونوا قط (متوقعين تأمّر طالوت عليهم؟
فالجواب: أنّهم كانوا) متوقعين البعثة بالإطلاق لا من حيث تعلقها بشخص معين.
قال الزمخشري: طالوت إن كان من الطول فوزنه فعلوت إلا أن امتناع صرفه يمنع أن يكون منه إلا أن يقال: هو اسم عبراني وافق
699
عربيا، كما وافق: حنط حنطة، وبسمالاها رحمانا رحيما، بِسْم الله الرّحْمَانِ الرّحِيمِ.
قال ابن عرفة: واستدلّوا على مرجوحية ملكه بالأصل، لأنه ليس في آبائه ملك ولا نبي أحق منه بالعادة لأن الأمير باعتبار العادة لا بد أن يكون غنيا عن غيره ولا يكون فقيرا أصلا. وغالطوا في احتجاجهم فأتوا بدليل ظاهره صواب يمكن قبوله فقالوا: ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال﴾. وعدلوا عن أن يقولوا: ولم يؤت شيئا من المال، لئلا يرمى دليلهم في وجوههم فيقال لهم: قد أوتي بعض المال وإنْ قل مع أن طالوت لم يكن لديه مال البتة. فأجيبوا عن الدليل الأول بقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ﴾ فلا مزية لكم عليه بآبائكم، وعن الثاني بإن الزيادة في العلم والجسم أرجح / من الزيادة في المال، فإنّ المال سريع الذّهاب والعلم إذا حصل ثابت لا يزول وكذلك الجسم الطويل لا يعود قصيرا بوجه.
الزمخشري: والواو في ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ﴾ واو الحال وفي ﴿وَلَمْ يُؤْتَ﴾ واو العطف.
قال ابن عرفة: الأولى أن يكونا معا للحال وهو أبلغ في التعليل لأنّ كل واحد منهما علة مستقلة، أي أنّى يكون له الملك والحالة أنّا أحق به منه، وأنّى يكون له الملك علينا والحالة أنّه فقير لا مال له، فلم يعللوا بمجموع الأمرين بل بكل واحد منهما.
قال ابن عرفة: وهما حالان من الفاعل والمفعول.
700
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت... ﴾.
قال ابن عرفة: هذا دليل على صحة ما يقول ابن التلمساني من أنّ لفظ الآية ليس خاصا بالمعجزة لأن المراد (بها) هنا الدليل والعلامة بلا خلاف، وهذا اللفظ من حيث هو قابل لأن يراد به آية ثبوت ملكه ملكه أو آية بطلان ملكه، والمراد هنا الأول، فإما أن يكون على حذف مضاف أو (يقول) :«القرينة معينة فلا يحتاج إلى إضماره».
قال ابن عرفة: والتأكيد ب (إنّ) إنّما هو لمن ينكر ذلك وهم لا ينكرون هذا عند ظهور هذه العلامة.
قال ابن عرفة: كان بعض الشيوخ يجيب بأن الإنكار تارة يتسلط على نسبة الخبر (للمخبر) عنه، وتارة يتسلط على الذات المخبر عنها وإن كانت النسبة متفقا عليها كقول الولد لأبيه الذي لا شك في صدقه: جميع ما نربح في هذه السلعة فهو لك وتكون السلعة بخيسة فالأب مستعد للرّبح من أصله وإن كان موافقا على النسبة. فالإنكار بمعنى استبعادهم وقوع ذلك، لأنه إن وقع لا يكون دليلا على صحة ملكه؟
701
وأجيب أيضا بأنّه روعي في ذلك مخالفتهم له أخيرا لأن بعضهم تعنتوا عليه.
وذكر ابن عطية هنا أقوالا منها: أن التابوت من خشب (الشمشار) طوله ثلاثة أذرع وفيه عصى موسى.
قيل لابن عرفة: (كيف) تَسَعُ فيه وهي طويلة؟
فقال: لعل ذراعهم كان أكبر من ذراعنا أو تكون العصا مفصلة أو مكسورة.
وحكي في السكينة عن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنها ريح (هفافة) لها وجه كوجه الإنسان وعنه أيضا أنها ريح (خجوج) لها رأسان.
وقال الزمخشري هي صرصرة فيها ريح.
702
قال ابن عرفة: ولا يبعد ما حكى ابن عطية على مذهبنا لأن الوجود مصحح للرؤية فيمكن أن ترى الريح. وقوله: ريح (خجوج) أي لينة.
قال ابن عطية: وقال أبو صالح: (البقية) عصى موسى وعصى هارون ولوحان من التّوراة والمنّ المنزل على بني إسرائيل.
واستشكله ابن عرفة لأنهم ذكروا أنّ المراد المنّ إذا بقي يفسد.
قلت: يجاب بأنّ هذه آية وخرق عادة.
ابن عرفة: لما ذكر الخلاف كله قال: وهذه أخبار متعارضة ويمكن الجمع بينهما فإنّ السّكينة (تتطور) فتارة تكون كالطست وتارة كالهرّ وتارة كغيره، والله أعلم!
قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.
قال ابن عرفة: إنّما أكّده ب (إِنّ) (لأن) الخطاب بهذا قبل وقوعه وقد كانوا منكرين له حينئذ أو بعد وقوعه ويكون تأكيدا لكونه آية.
وقوله ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ إما حقيقة أو تهييجا على الاتصاف بالإيمان.
703
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ... ﴾.
أضمر ابن عطية هنا الجواب فقال: التقدير، فاتفق بنو اسرائيل على ان طالوت ملك وأذعنوا وتهيّؤوا لغزوهم عدوهم فلما فصل طالوت بالجنود (تعنتوا).
قال ابن عرفة: ترك (إضماره) سبب الجواب وحقه ان كان يضمر شيئين: الجواب وسبب الجواب، ويقول: التقدير فلما أتاهم بآية ملكه وفصل بالجنود تعنتوا.
قال ابن عرفة: وعطفه بالفاء لأنه سبب ظاهر كما تقول: جاء الغيم فلما نزل المطر كان كذا، وتقول أيضا: قام زيد ولما نزل المطر قعد فهذا ليس بسبب.
قال ابن عرفة: وإنما قال: «بِالجُنُودِ» ولم يقل: بجنوده لما اقتضت الآية من أن أكثرهم تعنتوا عليه وخرجوا عن طاعته فليسوا بجنوده، وإنما قال: «مُبْتَلِيكُمْ» فعبر بالاسم دون الفعل تحقيقا لوقوع ذلك في نفس الأمر وثبوته في علم الله تعالى أزلا، وأنه لا بد منه.
وعلمه بذلك، إما بالوحي أو بإخبار من النبي.
704
قوله تعالى: ﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي... ﴾.
فسره الشيخ الزمشخري: بالكرع مع أنه ينفي فيه المفهوم لأن الشرب منه يكون كرعا ويكون بإناء تملأ منه أو باليد.
وقوله «فَلَيْسَ مِنِّي» فسره إن أراد نفيه حقيقة عنه فيكون مجازا لأنه معلوم أنه ليس منه، فعبر بنفيه عنه نفيه عن ملته، وإن أراد نفيه عن اتباعه أي فليس من اتباعي وجندي فيكون على إضمار مضاف فيتعارض المجاز والإضمار.
قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني﴾.
قال ابن عرفة: أكد الثّاني (بإن)، ولم يقل في الأول «فمن شرب منه فإنه ليس منّي» ؟ قال: والجواب بأنه إنّما لم يؤكد الأول لأن سببه أكثر (في) الوقوع، وأكد الثاني لأن سببه أقل في الوقوع فأكده حضا على المبادرة إلى امتثال سببه والعمل بمقتضاه.
قال: واحتج به بعضهم على أنّ الماء طعام وهو قول ابن نافع نقله ابن يونس في كتاب السلم الثالث.
وكان القاضي أبو عبد الله بن عبد السلام يحكي لنا عن الفقيه القاضي أبي القاسم/ بن علي بن البراء أن رجلا سأله وهو
705
راكب على بغلته عمن حلف بالله لا يتناول طعاما؟ فقال له: لا يأكل ولا يشرب الماء لأنه طعام واحتجّ بهذه الآية.
ورده ابن عرفة بوجهين:
الأول منهما: أن الآية اقتضت ذلك لغة، وأما الشرع فلا يسميه طعاما.
الثاني: أنه نفى في الأول الشرب وفي الثاني الطعمية، والطعمية أوائل الشرب، ولذلك ذكروا في الصيام أن الصّائم اذا استطعم الماء وبصقه فإنه لا يفسد صومه، فلما تعلق النفي بأوائل الشرب قال: «فَإِنَّهُ مِنِّي»، فأكد نسبته إليه ب (إنّ) أي من اتّصف بكمال البعد عنه فهو موصوف بكمال القرب مني وبقي الواسطة مسكوتا عنه وهو الذي شرب بالإناء على تفسير الزمخشري فإما أن ذنبه أقل من ذنب من كرع أو مُسَاوٍ.
قال ابن عرفة: وَ (لَمْ) هنا بمعنى (لما).
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ... ﴾.
قال أبو حيان: يستثني من الجملة (الاولى وهي) ﴿فَمَن شَرِبَ﴾. زاد أبو البقاء أو مِنْ «مَنْ» الثانية وهي ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ﴾. وتعقب بأنّه لو كان من «مَن» الثانية للزم أن يكون من
706
اغترف غرفة واحدة بيده ليس منه (مع أنّه أبيحت لهم الغرفة) الواحدة باليد لأن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات.
قال ابن عرفة: هذا لا يتعين بل يحتمل عندي استثناؤه من الجملتين فعلى أنّه مستثنى من الأولى يكون المراد نفيه عن الدخول في حكم ليس منِّي أي هو (منه) وعلى أنّه مستثنى من قوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني﴾ يكون (النَّاس) على ثلاثة أقسام: شارب بفيه فليس منه، وشارب منه بيده وهذا يقال فيه (هو) منه فقط، ومن لم يشرب منه شيئا يقال فيه: إنَّه منه مجاله أبلغ، فاستثناؤه من الأخص أي إلا من اغترف غرفة بيده فليس محكوما عليه بأنّه «منّي» أي ليس متصفا بكمال القرب مني.
قيل لابن عرفة: يلزمك أن يكون ليس منّي قدرا مشتركا بين الحرام والمباح؟
فقال: لم نخرجه (منه) وإنّما أخرجتهم، من قوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني﴾ فإذا خرج من هذا كان منفيا عنه أي يكون منه (وقد) قال: أول الآية ﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾. فيتعين أنّ النفي هنا (نفي) أخص باعتبار ترك الأمر المستحب بفعل الأمر المباح، فالمستحب ترك الشرب، والمباح الشرب باليد، والحرام الكرع فيه بالفم.
707
قال ابن عرفة: وغرفة بالضم والفتح، فالفتح هو الماء والضم الفعل.
(قال ابن عرفة) : وعلى أنها الفعل يكون المفعول مقدرا أي إلا من اغترف غرفة ماء.
قال (ابن عرفة) : وفائدة التأكيد بالمصدر على هذا تحقيقا للرخصة في ذلك الفعل وتأكيدَ (إباحتها) خشية أن يتوهم قصر ذلك على أدنى شيء من الماء المأخوذ باليد فأكده تنبيها على إباحتة الغرفة الواحدة بكمالها.
قوله تعالى: ﴿قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ الله﴾.
قال ابن عرفة: إن أريد الملاقاة بالإطلاق فهي بمعنى العلم وإن أريد الملاقاة حينئذ فالظن على بابه لأن الإنسان لا علم له بزمن موته.
قال (ابن عرفة) : وعبر عنهم بهذا إشارة إلى ما قاله بعضهم في رسالة: «من أحب الممات حيي ومن أحب الحياة مات».
قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ الله﴾.
قال ابن عرفة: قال ابن عطية: إذنُ الله هنا تمكينه وعلمه بمجموع ذلك الإذن.
708
(ابن عرفة: كذا يقول في كل موضع) والصواب أنّ معناه بقدرة الله وفضله وإرادته.
قال ابن عرفة: وهذا إما أن بعضهم قاله لبعض أو قالوه كلهم لأنفسهم (تشجيعا) لها وتوطينا على الصبر على القتال والهجوم عليه.
قوله تعالى: ﴿والله مَعَ الصابرين﴾.
قالوا: هذا إما من كلامهم أو من كلام الله تعالى.
ابن عرفة: (والصواب أنه من كلامهم لأن فيه تشجيعا لأنفسهم وحضا لها على المقاتلة وأما إن كان من قوله الله تعالى) خطابا لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو بعد انفصال تلك القضية فلا مناسبة لها، انتهى.
709
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً... ﴾.
دَعَوْا بالأمر المعنوي وهو الصبر وبالحسي (والمراد) بتثبيت الأقدام عدم الرجوع على الأعقاب، وليس المراد الوقوف في موضع واحد وابتدؤوا في الدعاء بالصبر لأنه سبب في تثبيت الأقدام.
قاله الزمخشري: «أي هب لنا ما نثبت به من القوة والرعب (في قلب العدو) ونحوه من الاسباب.
709
قال ابن عرفة: وهذا على مذهبه في أن العبد يستقل بفعله ونحن نقول: المراد ثبت أقدامنا حقيقة.
قوله تعالى: ﴿وانصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾.
تنبيه على أن قتالهم إياهم إنما هو لوصف كفرهم لا لغرض دنيوي، وهنا محذوف مقدر أي فقاتلوهم فهزموهم.
وحكى ابن عطية هنا والزمخشري أن (ايشي) كان له ستة أولاد أحدهم (داود) وكان صغير السن فمر في طريقه بثلاثة أحجار، قال له: كل واحد منها خذني (فَبِي تقتل) جالوت فجعلها في مخلاته وطلب جالوت (المبارزة)، فقال طالوت: من يبرز فيقلته فأنا أزوجه بنتي وأحكمه في مالي؟ وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع والتأمت الحجارة فوضعها في (المقلاع) وسمى بالله وأداره ورماه فأصاب رأس جالوت فقتله وحزّ رأسه وجعله في مخلاته.
قال ابن عرفة: المقلاع شبه الوضف.
710
الزمخشري: / وزوجه طالوت ابنته وروي أنه (حسده) وأراد قتله ثم تاب.
قيل لابن عرفة: كيف صحّ هذا وقد حكى الزمخشري عن بعضهم أنّ طالوت (نبي). والنّبي معصوم؟
فقال: الأكثر على أنّه غير نبي وقد (تاب) من هذا، ومعلوم ما فيه.
قال ابن عرفة: وهذه الآية يرد بها على الكوفيين في قولهم: إن الواو تفيد الترتيب لأن المفسرين نقلوا هنا أنّ الهزيمة إنما كانت بعد أن قتل داود جالوت فحينئذ انهزموا وتفرقوا.
711
قوله تعالى: ﴿مِمَّا يَشَآءُ... ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأرض... ﴾.
قال ابن عطية: أي لولا دفعه لكفر بالمؤمنين لفسدت الأرض بعموم (الكفر) من أقطارها، لكه لا يخلو زمان من داع إلى الله ومقاتل عليه إلى أن جعله في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال مكي:
711
أكثر المفسرين على أن المراد لولا ان يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي (لأهلك) لاناس بذنوبهم.
وضعفه ابن عطية قال: والحديث الذي ذكر عن ابنِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما المعارض للآية لا يصح.
قلت: انظره في تفسير مكي.
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يبدي في هذه الآية معنى ذكره البيانيون وهو الفرق بين قولك: أكلت بعض الرغيف وبين قولك: أكلت الّرغيف بعضه. وكذلك: أكلت بعض الشاة، وأكلت الشاة بعضها. (فما تقول) إلا أذا كان المأكول أكثرها أو كان أفضلها، لأنه من باب إطلاق اسم الكل على الجزء ولا يكون إلا لمعنى. قال: وفي الآية حجة على من يجعل لفظ البعض لا يطلق إلا على الأقل وهو (خلاف نقله) الآمدي في شرح الجزولية في باب التثنية والجمع لأن البعض الأول عبر به عن الدافع والبعض الثاني عن المدفوع، والدافع إما أقل من المدفوع أو أكثر أو مساو.
وأجيب بأن هذا لازم إذا كانا قسمين فقط ولعلها ثلاثة أقسام دافع ومدفوع عنه ومدفوع.
712
قال ابن عرفة: وفي الآية حجة لمن قال: إن العقل ما خلا عن سمع قط لاقتضائها أنّه لولا ذهاب الفساد بالصلاح المرشد إلى اتباع أوامر الله ونواهيه لعمّ الكفر والفساد الأرض، فلو خلا العقل من سمع في زمن من الأزمان لهلك الخلق كلهم.
فقال: بعض الطلبة بمحضره: إنّما يتم هذا على أحد تفسيري ابن عطية.
فقال ابن عرفة: والآية دالة على أنّ الفساد هو الأصل والأكثر فيستفاد (منها) فيما إذا كنّا شككنا في صفته، واحتملت الصحة والفساد أنّها تحمل على الفساد كقولهم في فداء المسلمين من أيدي الكفار بالسلاح والكراع هل يجوز؟ وتغلب مصلحة استخلاص المسلمين منهم على مفسدة تقوي الكافرين بالسّلاح أو يمتنع؟ وكذلك إذا تترّس الكفار بالمسلمين هل يباح قتل الترس أم لا؟
قوله تعالى: ﴿ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين﴾.
قال ابن عرفة: هذا احتراس وهو حجة لأهل السنة لأن ما قبلها تضمّن أنّ الله تعالى يذهب الفاسد بالصالح فلو اقتصر عليه لأوهم وجوب مراعاة الأصلح على الله تعالى فبين بهذه الآية أن ذلك محض تفضل من الله تعالى ولا يجب عليه شيء.
713
قال ابو حيان: «وَلَكِنّ» استدراك بإثبات الفضل على جميع العالمين لما يتوهمه من يريد الفساد أن الله غير متفضل عليه إذ لم يبلغه مقاصده.
قال ابن عرفة: هذا بناء على أنّ ما بعد (لَكِنّ) لا يكون (مضادا) لما قبلها، ومن يجيز كونه مخالفا له لا يحتاج إلى هذا بل نقول: معناه لهلك النّاس كلّهم بغلبة الفساد. (وعلّل تفضله) بالجميع لأنّه عام يناله المفسد والمصلح والمدفوع عنه، أما نيله المدفوع فظاهر وأما المفسد فلأن منعه من ذلك منقذ (له) من الهلاك ودخول النّار فيصير صالحا.
714
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق... ﴾.
قال ابن عرفة: الإشارة إلى الآيات المتقدمة. وعبر عن التلاوة الماضية بصيغة المستقبل للتصور والدّوام، وإمّا أن يكون «نتلوها» مستقبلا حقيقة والإشارة إلى المتقدم باعتبار لفظه فقط. مثل: عندي درهم ونصفه، أو الإشارة إلى المستقبل (المقدر) في الذهن تحقيقا لوقوعه وتنزيلا له منزلة الدافع حقيقة. وفي الآية التفات بالانتقال من الغيبة إلى التكلم.
قوله «ءَايَاتُ اللهِ» إشارة إلى عظمها وجلالة قدرها.
714
وقوله «نَتْلُوهَا» لم يقل: يتلوها الله عليك فعبر (بالنون المشتركة) بين المتكلم وحده وبين المتكلم ومعه غيره إشارة إلى بلوغها للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بواسطة الملك.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾.
715
ابن عرفة: هذا كالنتيجة بعد المقدمتين لأن تلك الآيات المعجزات دالة على صحة رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وأكدت رسالته ب (أن) واللاّم بورودها بهذا اللفظ لأنه أبلغ من قوله وإنّك (المرسل) كما قال ﴿يس والقرآن الحكيم إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾ قاله الزمخشري في قول الله عَزَّ وَجَلَّ في سورة العنكبوت ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين.﴾
716
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ... ﴾.
قال (الزمخشري) : الإشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت فقط في السّورة، أو التي (ثبت) علمها عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن عرفة: بل الإشارة إلى ما قبله يليه وهي الرسل المفهومة من قوله ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾ قال ابن عرفة: فهذا التفضيل إما مطلقا / أي بعضهم أفضل من بعض (مطلقا)، أو من وجه دون وجه، فبعضهم أفضل من بعض في شيء والمفضول في ذلك أفضل من الفاضل في شيء آخر، فهل هو كالأعم مطلقا أو كالأعم من وجه دون وجه، والظاهر الأول. وما ورد في الحديث: «لا تفضلوني على موسى ولا ينبغي لأحد أن يقول: أنا أفضل من يونس بن متى» فلا يعارض هذا لأن الآية اقتضت تفضيل بعضهم على بعض من غير تعيين الفاضل من المفضول.
قيل له: معلوم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل الخلق؟
(فقال) : بان ذلك يعتقده (الإنسان) ولا يقوله بمحضر الكفار لئلا يقعوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتنقيص (فيتركه) سدّا للذريعة، أو يجاب بأنه تواضع من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قاله الغزالي كقوله: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر».
وأجاب القاضي عياض في الإكمال عن معارضة حديث نوح
لحديث «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» وحديث «لا
716
تفضلوا بين الأنبياء» مع حديث «أنا سيد ولد آدم ولا فخر».
أحدها أن يكون قبل إعلام الله له أنه أفضل ولد آدم أو يكون على طريق الأدب والتواضع، أو المراد: لا تفضّلوا بينهم في النبوة وإنّما تفضيلهم بخصائص خص الله بها بعضهم كما قال ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ الله﴾ الآية.
قيل لابن عرفة: (إنّ) ابن عطية أخطأ في قوله هنا لأن يونس عليه السلام كان شابا وتشيخ تحت أعباء النبوة؟
فقال: لا شيء في مثل هذا.
قال ابن عرفة: وكون بعض الرسل أوتي ما لم يؤته النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (لا ينافي كون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) أفضل الخلق لأن المفضول قد يختص بفضيلة هي ليست في الفاضل كما قالوا: إن (أفضل) الصحابة أبو بكر مع أن لبعضهم من الخصوصيات ما ليست في أبي بكر، وكذلك كون عيسى (اختص) بإحياء الموتى وموسى بالكلام لا ينافي كون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل منهم، وكذلك قوله في سورة النجم ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى﴾ وتكليم الله للرسل ليس بمعجزة، وكذلك رفع الدرجات مشترك بينهم، فلذلك لم يسنده إلى معين (ولما كان إيتاء البينات والتأييد خاصا بروح القدس أسنده إلى عيسى.
والكلام هنا المراد به) كلام الرحمة.
717
فإن قلت: وكل رسول أيّد بروح القدس وهو جبريل؟
قلت: عيسى اختص من ذلك بقدر زائد من صغره إلى كبره لتكونه من نفخ جبريل عليه السلام في فرج مريم وتكلّمه في المهد.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات... ﴾.
قال الزمخشري: مشيئته قَصْدٌ وَإلجاءٌ لأنّ العبد عنده يستقل بفعله وفعله بإرادته فيقول: إنّه لا تتعلق إرادة الله تعالى بذلك الفعل.
قال ابن عرفة: وفي هذه الآية عندي حجة لمن يقول: إنّ العدم الإضافي تتعلق به القدرة لأن المعنى: ولو شاء الله عدم اقتتالهم.
فقيل له: فرق بين الإرادة والقدرة؟
فقال: قد تقدم الخلاف في الإرادة هل هي مؤثرة أو لا؟ والصحيح أنه اختلاف لفظي (وأنَّه) خلاف في حال. فإن كان المقصود بها الإبراز من العدم إلى الوجود فليست مؤثرة، إن أريد به كون الشيء على صفة مخصوصة فهي مؤثرة، وإذا كانت مؤثرة فيه كالقدرة وقد تعلقت هنا بالعدم.
قال (السكاكي) : ومفعول (شاء) (لا يحذف) إلا إذا كان (عدما) أو أريد به العموم.
718
قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا... ﴾.
قدم المؤمن لشرفه وإلاّ فالكافر أكثر وأسبق وجودا.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله﴾ إما تأكيد، أو المراد بالأول جميع الخلق. (والمراد) بهذا المؤمنون.
قوله تعالى: ﴿ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾.
صريح في مذهب أهل السنة وهو ينعكس بنفسه، فكل مراد مفعول لقوله ( ﴿ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾. وكل مفعول مراد). ولقوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا﴾ فدل على أنه أراد اقتتالهم إذ لو لم يرده لما وقع. انتهى.
719
قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمنوا أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم﴾.
قال ابن عطية: (هو عام في الجهاد والتطوع). والتحاكم في هذا إلى السبب المتقدم (هل ينهض) إلى وجوب القصد عليه أو يعم فيه وفي غيره؟
قال ابن عرفة: وفرقوا بين قولك: تَصَدّقْ، وبين قولك: يا غني تَصَدّقْ. بثلاثة أوجه: إما للوصف المناسب، أو تنبيه المخاطب، أو استحضار ذهنه. وإما خوف احتمال الشركة في النّداء.
719
فإن قلنا: إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة فينتفي احتمال (الشريك) هنا، وأيضا فسبب النّزول يعين كون الخطاب للمؤمنين فانحصر كون فائدته إمّا التنبيه أو الإشعار بأنّ سبب الأمر بذلك وصف الإيمان.
قوله تعالى: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاكُم... ﴾.
مذهب أهل السنة تعميم الرزق في الحلال والحرام، وأمروا هنا بالحلال لأن (من) للتبعيض فيبقى البعض الآخر.
قوله تعالى: ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ... ﴾.
واليوم حمله المفسرون على يوم القيامة.
قال ابن عرفة: وعندي أنه يوم موت كل واحد لأن من مات قد قامت قيامته.
قيل لابن عرفة: يلزمك الإضمار لأن يوم القيامة لا بيع فيه بالإطلاق ويوم موت كل واحد لا بيع له فيه ولا خلة له فيه، وإلاّ فالبيع لغيره ثابت له فيه لأن غيره حي قطعا؟
فقال: إنّما تعلق النّفي بيوم الموت والبيع غير ثابت فيه من حيث كونه يوم الموت، ونفي البيع لايستلزم نفي الخلة لأنه قد لا يكون عنده ما يبيع وقد يكون (له) صاحب يحميه وينصره، ولا يلزم من نفي الخليل نفي الشفاعة لأن العدو قد (يرق) لعدوه ويشفع فيه،
720
ولأن الخليل يستنقذ بالانتصار والقوة والغلبة والشفيع يستنقذ بالرغبة والفضل لا بالقوة.
721
قوله تعالى: ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم... ﴾.
قال الامام ابن العربي في شرح الاسماء الحسنى: يقال: حي وحيى ويحيي وقيل: حاي على وزن فاعل والخبر آكد، أي جنس الحي، وقيل: هو الحياة والحي نوع من القبيلة سمى به مجازا لأن به يستعزون على حماية أنفسهم وحياة مواشيهم بالخصب ورعي الحَيَا، وشربه وهو المطر، والحياة وصف للجسم (عرض) إذا وجدت في جسم أو جوهر كان دراكا فعالا والعرب إذا أرادت الإدراك والحس قالت: هذا حي، والحي في الشاهد من قوله: حياة. وأما الغائب فبعضهم قال: لا أقول: إنّ الله حي بحياة، إذ لم يرد فيه ولا في السمع والبصر ونقول: (عالم بعلم) لِوروده «.
وقال الامام الغزالي: والكثير من علمائنا: الحي: الفعال الدرّاك.
وهو باطل بوجوه: منها أن البارىء في الأزل حي مدرك بنفسه وصفاته ولم يفعل، وأيضا الإدراك معنى غير الحياة والفعل فكيف يفسر معنى بمعنى مغاير له، واعلم أنّ وجود الحياة مصحح للادراك والفعل فيلزم الإدراك إذ لايصح حي غير مدرك ويصح الفعل ولا يلزم. ووجوب الحياة للبارىء يختص بخمسة أوصاف: أنه لم يسبقه موت، ولا (يعتريه)،
721
وليس له (بلل) ورطوبة، ولا يحتاج إلى غذاء، فإنه يطعم وهي للعبد بعكس ذلك كله.
قال الزمخشري: والحي الباقي الّذي لا سبيل للفناء عليه وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم ويقدر.
قال ابن عرفة: وكل شيء يصح اتصافه بالعلم والقدرة لكن الحي بغير واسطة والجماد بواسطة الحياة.
قال ابن عرفة: قال ابن عطية: قال المعتزلة وقوم: الله حي لا بحياة، وهو باطل. وقال آخرون: حي بحياة، وقال قوم: هو حي كما وصف نفسه، وسلم ذلك أن ينظر فيه.
وقد تقدم الخلاف في الصفات فنحن نثبتها ونقول: الله عالم بعلم، قادر بقدرة. حي بحياة. المعتزلة ينفونها، وتقدم الخلاف بيننا في الأحوال كالعالمية والقادرية والحيية. فمنا من يثبتها، ومنا من ينفيها، والمثبتون لها قسموها على قسمين: معللة وغير معللة، والمعللة عندهم مشروطة بالحياة والسوادية والبياضية غير معللة، والعالمية معللة كالقادرية. وكان بعضهم يرد على من يقول: إنها معللة بصفات الحياة لأن الحياة حال ليست معللة لئلا يلزم عليه تعليل الشيء بنفسه.
قوله تعالى: ﴿الحي القيوم... ﴾.
قال الامام ابن العربي: على وزن فيعول: اجتمعت ياء وواو، سبقت إحداهما بالسكون فقلبت وأدغمت. والقيام أصله القيوام وأهل
722
الحجاز يصرفون الفعال إلى الفعلان فيقولون في الصّداع صداع. والقيم عند سيبويه فيعل للتأكيد، فقلب وأدغم. وأنكر الفراء أن في الأمثلة فيعل، وقال: أصلها فعيل ككريم وكان (أصلهم) أن يجعلوا الواو وألفا لافتتاح ما قبلها ثم يسقطونها لسكونها وسكون الياء بعدها فلمّا فعلوا ذلك صار فعيل على لفظ فعل فزادوا ياء ليكمل بها بناء الحرف.
قال ابن العربي: واختلفوا في معناه فقيل: الدائم الذي لا يزول، فالقيوم معناه: الباقي الدائم. وقيل: القيوم هو القيم على كل شيء بالرعاية والمدبر لجميع أمور العالم بمعنى: الحفيظ والمدبّر. وقيل: الذي لا تفنيه الدهورو ولا يتغير بانقلاب الأمور فهو بمعنى: الثابت القدوس.
قال: والصحيح أنه مبالغة قائم من قام إذا أطاق.
قال: وروى ابن راشد الأزدي أنه ورد على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له: «ما اسمك؟ فقال عبد العزى بن (غاويه» ) فقال له: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: بل اسمك عبد الرحمان بن راشد، قال: من الذي معك؟ قال: مولاي قال: ما اسمه؟ قال: قيوم. قال: ولكنه عبد القيوم «.
ورواه الدارقطني وعبد الغني الحافظ كذلك ورواه ابن (رشد) قال:»
ما اسم مولاك. قال: القيوم. قال:
723
لا بل عبد القيوم «والدارقطني أحفظ وأوثق. قال: فأما القائم فله في اللغة ثلاثة معان: قام إذا انتصب وعلا، وقام بالامر أي استقل به، وقام إذا لازم. قال الله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً﴾ فقيل كلها حقيقة، وقيل: الأول فقط، واختلفوا في معنى كون الله قائما بنفسه، فقيل: لا يحتاج إلى مكان، وقيل: موصوف بصفاته العلية، وقيل: مستغن عن كل شيء. والصحيح أنه لا يصح وصفه إلا مُضافا لما يبينه فإذا قلت: قائم على كل نفس بما كسبت فصحيح معنى وارد شرعا، وإن قلت: قائم بنفسه فصحيح لم يرد. واختلفوا في معنى قائم على كل نفس بما كسبت، فقيل بما كسبت من رزق تفضلا فهو امتنان، وقيل: بما كسبت من عمل يحفظه عليها فهو وعيد. وقيل: يطلع عليها لا يخفى عليه من أمرها شيء، وقيل: المراد الملائكة الموكلون بحفظ بني آدم لا يستوون مع الأصنام فكيف بخالق الملائكة ومن هو قائم عليها ومدبرها وهذا مجاز.
ابن العربي: والصّحيح أنه قائم بالخلق والحفظ والرزق وغير ذلك فهو غني عنه.
قوله تعالى: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾.
724
قال ابن عرفة: هذا كالدليل / على كونه حيا قيوما و ﴿لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ كالدّليل على أنه لا تأخذه سنة ولا نوم.
فان قلت: نفي السِّنة يستلزم نفي النوم فهلا قدم النوم على السنة؟
قال: فالجواب من وجهين:
الأول منهما: (قصد) نفى السنة بالمطابقة واللزوم. الثاني: إنّا نجد من يدافع النوم لا تأخذه سنة لأنه مهما تأخذه السّنة يدافعها ويغلبها حتى يأتيه النوم غلبة فينام فما يلزم من عدم السّنة عدم النوم.
قوله تعالى: ﴿لَّهُ مَا فِي السماوات﴾ دليل على أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى لأنها ما في السَّمَاوَاتِ وما في الأرض.
قوله تعالى: ﴿مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ... ﴾.
قال ابن عرفة: ورد النّفي بصغية الاستفهام وهو أبلغ لاقتضائه موافقة المخاطب عليه.
قال ابن عطية: الإذن قسمان فهو في الشفاعة في الخروج من النّار بمعنى الأمر لحديث «يامحمد ارفع رأسك تعطه واشفع تشفع»، وهو ((في شفاعة غيره من الأنبياء والعلماء وشفاعة (الجار) والصاحب الذين يشفعون)) قبل أن (يؤمروا) بمعنى العلم والتمكين.
725
قال ابن عرفة: (يريد) بمعنى خلق الدّاعي والقدرة على ذلك.
قال: واقتضت الآية ألاّ شفاعة إلا بإذن والإذن فيها يقتضي قبولها فيعارض قوله تعالى: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين﴾ فدلّ على أنّ هناك من يشفع ولا تقبل منه، إلا أن يجاب بأن تلك سالبة، مثل: الحائط لا يبصر (لا معدومة) مثل: زيد غير بصير، فليس المراد شفاعة الشافعين لا تنفعهم بل هو من باب نفي الشيء بنفي لازمة مثل:
على لا حب لا يهتدى بمنارة... أي ليس له منار يهدى به، أي لا شافع هناك فتنفع شفاعته.
قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ... ﴾.
هنا دليل على عموم تعلق علمه بالجزيئات والكليات فيرد بها على من نفى تعلقه بالجزيئات.
قيل لابن عرفة: قد يقال إنه دليل ظاهر لا نص وندعى تخصيص عمومه؟
فقال: استدلوا بظواهر (الآي) في (كثير) من المطالب وتعقبوا على ابن الخطيب في قوله في المحصول: إن الدلائل السمعية لا تفيد الظن فضلا عن اليقين.
726
قال ابن عرفة: وتقدم لنا سؤال وهو أنه تسلط النفي هنا على الأخص دون الأعم فلو قيل: ولا يعلمون شيئا من علمنا بل علمه إلا ما شاء لكان أبلغ لأن الإحاطة بعلم الشيء أخص من مطلق علمه.
قال: والجواب أنّا إن قلنا: إن العلوم كلها متساوية فلا فرق بين الإحاطة وعدمها.
وإن قلنا: إنها غير متساوية فالسؤال وارد.
وعادتهم يجيبون بأن (الآية) خرجت مخرج التمدح. والعلوم قسمان: ضرورية ونظرية، فالضرورية لا يقع عليها مدح ولا ذم لأنها جبرية يستوي فيها كل الناس وإنما يقع المدح على العلوم النظرية وهي لا تحصل إلاّ بالإحاطة لأنها ناشئة عن مقدمتين والعلم بالمقدمتين مستلزم الإحاطة بعلم النتيجة، فالإحاطة بها وعلمها (متساويان).
قيل لابن عرفة: الآية دالة أن المعدوم (يصدق) عليه شيء لأنّا إن لم نجعله داخلا تحت مسمى شيء لزم إبطال العمل بمفهوم الصّفة لأنّه يكون مفهوم الآية (أنهم) يحيطون بالمعدوم من (تعلق) علمه وهذا كفر؟
فأجاب: بأنه مفهوم أحرى لأنهم إذا لم يحيطوا بالموجود فأحرى المعدوم.
قلت: وقال بعضهم: إن هذا السؤال غير وارد لأن المعنى إلا بما شاء أن يحيطوا به فإنهم محيطون به ولا يلزم منه نفي تعلق المشيئة بالمعدوم بل يبقى الأمر مسكوتا عنه فلا يلزم تعلق الحكم بنفيه ولا بإثباته.
727
قال ابن عطية: «وقد قال الخضر لموسى عليهما السلام: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلاّ ما نقص هذا العصفور من البحر».
قال ابن عرفة: شبّه ما ليس بمُتناه بما هو متناهٍ لأن البحر متناهٍ، فالنقص فيه معقول وليس المراد حقيقة النقص، بل معناه نسبة علمي وعلمك من معلوم الله تعالى الذي لم ندركه نحن كنسبة ما يتعلق بالعصفور من ماء البحر إلى ماء البحر. انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض... ﴾.
قال ابن عرفة: كلام الزمخشري هنا حسن وكلام ابن عطية في بعضه إيهام والألفاظ الموهمة إذا وردت من الشارع تأولت وردت الى الصواب، وإن وردت من غيره لم تتأول لأن الشارع يذكر الألفاظ الموهمة للابتلاء بها ﴿فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ (فالمحق) يصرفها عن ظاهرها إلى الصواب والمبطل يقف مع الظاهر، وأما إذا وردت من غير (الشارع) فلا تتأول.
قلت: وكذا قال الزمخشري: لفظ الكرسي تخييلُ. والتخييل أن يعبر عن الشيء بلازمه كقوله تعالى: ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين﴾ قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا... ﴾.
728
ان قلت: هلا قيل: حفظُها، بضمير جماعة ما لا يعقل أو: حفظُه، بضمير الكرسي لا شتماله على العرش والسّماوات والأرض، (والشي) (في نفسه) ليس كهو مع غيره، فلا يلزم من نفي الثقل (عن) السماوات والأرض (بخصوصيتها) نفي الثقل (عنها) مع غيرها؟
فالجواب: أنّه (خصهما) بالذكر لأنهما المشاهدان للإنسان الذي يراهما ويوافق على إمساكهما وعدم إزالتهما ليكون ذلك أقطع في طريق / الاستدلال وأقوى في قيام الحجة عليه.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ العلي العظيم﴾.
قال ابن عطية: أي عظيم القدر والخطر وليس من عظيم الأجرام وحكى (الطبّري) عن قوم أن العظيم بمعنى المعظم كقولهم: العتيق بمعنى المعتق، وأنكره آخرون وقالوا: لو كان بمعنى معظم لوجب ان لا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم إذ لا معظم له حينئذ.
729
قال ابن عرفة: وهذا الإنكار غير صحيح، بل يفهم كما قال الضرير في أرجوزته لأنه قسم الحمد على قسمين: قديم وحادث، فالقديم حمده تعالى نفسه.
730
قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين... ﴾.
نقل ابن عرفة عن ابن عطية الخلاف في سبب نزولها ثم قال: الظاهر عندي (أنّها) على ظاهرها ويكون خبرا في اللفظ والمعنى. والمراد أنه ليس في الاعتقاد إكراه وهو أولى من قول من جعلها خبرا في معنى النّهي. وكان أبو عمر ولد الأمير أبي الحسن على المريني في (أيام) مملكته جمع كل من كان في بلده من النّصارى وأهل الذمة وقال لهم: إما أن تسلموا أو ضربت أعناقكم، فأنكر عليه ذلك فقهاء بلده ومنعوه وكان في عقله اختبال.
قيل لابن عرفة: من فسّر الدين بالإسلام لا يتمّ إلا على مذهب المعتزلة القائلين بأن الاعتقاد غير كاف.
فقال: قد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الدين عِندَ الله الإسلام﴾ وفسره في الحديث «بأنّ تشهد أن لاَ إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا».
730
قوله تعالى: ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي... ﴾.
(قد) للتوقع لأن المشركين كانوا يتوقعون بعثة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وعارضوها بقوله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب﴾ فجعل الخبيث مخرجا من الطيب، وعكس هنا. وأجيب: بأن هذا في أول الإسلام كان الكفر أكثر وتلك في آخر الإسلام كان الإيمان أكثر ودخل الناس في الدين أفواجا.
قوله تعالى: ﴿فَمَن يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله... ﴾.
قدم الكفر إما لأنّه من دفع المؤلم، أو لأنه مانع ولا يتم الدليل على الشيء إلاّ مع نفي المانع المعارض ولذلك قال في الإرشاد: «النظر في الشيء يضاد العلم بالمنظور ويضاد الجهل به والشك فيه». فإذا كان الكافر مصمما على كفره استحال إيمانه وإذا ظهر له بطلان الكفر وبقي قابلا للإيمان ونظر في دلائله أنتجت له الإيمان.
قوله تعالى: ﴿فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى... ﴾.
قال الزمخشري: هذا تمثيل للمعلوم بالنّظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس (ونظرٌ في دلالات أنتجت له) حتى يتصوره السّامع كأنّه ينظر (إليه) بعينه.
731
ابن عطية: هذا تشبيه واختلفوا في المشبه بالعروة فقال مجاهد: العروة الإيمان وقال السدى: الإسلام. وقال سعيد بن جبير والضّحاك: (العروة) لا إله إلا الله.
قال ابن عرفة: إنما يريد المشبه خاصة ولو أراد المشبه به لكان تشبيه الشيء بنفسه.
قوله تعالى: ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
قال ابن عطية: لما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات سميع من أجل النّطق وعليم من أجل المعتقد.
وقال الفخر: هذا دليل على أنّ اعتقاد القلب الايمان غير كاف ولا بد من النطق.
قال ابن عرفة: لايتم هذا إلاّ على مذهب المعتزلة الذين ينكرون الكلام النفسي ونحن نقول: كلام النفس مسموع ولذلك نتصوره في الكلام القديم الأزلي وهم ينكرونه.
732
قوله تعالى: ﴿الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ... ﴾.
أفرد الولي هنا لأن الإيمان من لوازمه التوحيد والكفر من لوازمه الشرك وتعدد الآلهة.
732
قوله تعالى: ﴿يُخْرِجُهُم مِّنَ الظلمات إِلَى النور... ﴾.
وأورد الزمخشري في أول سورة الأنعام سؤالا فقال: لأي شيء جمع الظلمات وأفرد النور وحقه إن كان يورده هنا؟ وأجاب بتعدد طريق الشرك واتحاد طريق الإيمان.
قال ابن عرفة: وإخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور بالفعل حقيقة، لأنهم كانوا كافرين فآمنوا، والكافرون كانوا في مظنة الإيمان أو القبول إلى الإيمان فأخرجهم إلى التصميم على الكفر والقسمة رباعية كفر مستديم إلى الموت وإيمان دائم إلى الموت وكفر بعد الإيمان وإيمان بعد كفر فتضمنت الآية القسمين الأخيرين.
قال ابن عرفة: إما أن يتجوز في لفظ «ءَامَنُوا» فيريد به المستقبل ويبقى «يخرجهم» على ظاهره، أو يبقى «ءَامَنُوا» على ظاهره ويتجوز في لفظ «يُخْرِجُهُم» وغلب في الآية مقام الوعظ والتخويف على مقام البشارة فلذلك لم يقل في الأول: ﴿أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ وذكر في الثاني.
733
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ... ﴾.
قوله تعالى: ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب﴾.
إن قلت: هلا قال نمرود: أَنا هو الَّذي يأتي بها من المشرق فليأت بها ربّك من المغرب؟
قلت: إنه لا يقدر أن يقول ذلك لئلا تقوم عليه الحجة لأن الشمّس كانت تطلع من المشرق قبل أن يوجد نمرود.
وذكره ابن عطية فقال: إن ذوي الأسنان يكذبونه.
قوله تعالى: / ﴿أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ... ﴾.
قال ابن عطية عن ابن عباس وجماعة: هو عزيز بن منبه، وجماعة هو أرمياء. (وقال ابن اسحاق أرميا هو الخضر).
(وضعفه ابن عطية. قال: إلاّ أن يكون اسما وافق اسما لأن الخضر) هو معاصر لموسى عليه السلام، والّذي مر على القرية (
734
هو) بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب بن منبه.
قال ابن عرفة: هذا بناء منه على أنّ الخضر عليه السلام مات والنّاس يقولون: لم يزل حيا إلى الآن على أنّ العلماء قد حكوا في موته خلافا.
(قال ابن عرفة: وعطفه) بغير فاء دليل على سرعة القول حتى أنه قال ذلك مع المرور لا بعده وتعجب من نفس الإحياء أو من كيفيته.
قوله تعالى: ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا... ﴾.
ولم يقل من بعد موتها إشارة إلى (كمال) التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها والمجاز فيها من أحد وجهين: إما أن يراد بالإحياء العمارة وبالموت الخراب أو يكون الإحياء حقيقة، والموت كذلك والمراد بعد موت أهلها.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ... ﴾.
قيل لابن عرفة: ثم للمهلة ولا مهلة بين المائة عام وبين البعثة؟
فقال: إما أن يعتبر أول أزمنة المائة عام أو نقول: المائة عام ماهية مركبة من أجزاء والإماتة بعد مجموعها، ولا تسمى الماهية إلا بكمال أجزائها فكانت المهلة بين إماتته مائة عام وبعثه لابين آخر جزء مائة).
735
قوله تعالى: ﴿قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ... ﴾.
قالوا: إنه مات في أول النهار ضحوة وبُعث آخر النهار فقال: لبثت يوما ثم نظر فوجد الشّمس لم تزل على (الجدران) فقال: بعض يوم.
قيل لابن عرفة: وكذلك كان يقول: لو وجدها غابت لأنه (ما مات) إلا ضحوة بعد مضي بعض النهار؟
فقال: ما اعتبر إلاّ ما بعد (موته) وما قبله كان فيها فيها مستصحبا الحياة.
قوله تعالى: ﴿فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ... ﴾.
736
الفاء للسببية والنّظر البصر ويستلزم العلم لقول الله: ﴿أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
وقوله: ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾. الزمخشري حمله على ثلاثة أوجه:
أحدها: لم تمرّ عليه السنون لعدم تغيره مثل «عَلى لا حب لا يهتدي بمناره» فبقاؤه دال على عدم مرور السنين عليه ومرور السّنين عليه يقتضي عدم بقائه.
الثاني: أنّ معناه لم يتغير.
قوله تعالى: ﴿كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً... ﴾.
قال أبو حيان: أعربوا «كَيْفَ نُنشِزُهَا» حالا من «العظام» أي انظر إلى العظام محياة.
وردّ بأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالا وإنما تقع حالا (كيف) وحدها.
قال ابن عرفة: (يصح) ذلك على إضمار القول كما قال: «جاؤوا بمذق هل رأيت الذيب قط» ؟.
قوله تعالى: ﴿نُنشِزُهَا... ﴾.
على قراءة الرّاء معناه نحييها فيحتج به على أن العظام تحلمها الحياة.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ... ﴾.
737
وقال أولا: ﴿أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ ؟
قال ابن عرفة: إن كان كافرا فظاهر، وإن كان مؤمنا (فمذهبنا) على القول بأن العلوم النظرية تتفاوت بالقوة والضعف خلافا لقول أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا». فهذا كان يعلم ذلك لكن علم المشاهدة أقوى من علم ما هو غائب.
قيل لابن عرفة: إنّ بعض الناس يجري على لسانه: يا حمار عزير.
فقال: يتقدم إليه وينهى عن ذلك فإن عاد إليه فلا يبعد أن يقال: إنه يؤدب.
قلت: في كتاب القذف من التهذيب ومن قال: يا شارب خمر أو يا خائن، أو يا آكل الربا، أو يا ابن الحمار، (أو يا ثور)، أو يا خنزير فعليه النكال. وفي المدارك للقاضي أبي الفضل عياض رَحِمَهُ اللَّهُ في باب نوادر من أخبار مالك سأله رجل عمن قال للآخر: يا حمار؟ قال: يجلد. قال: وإن قال له: يا فرس؟ قال: تجلد أنت.
ثم قال: يا ضعيف هل سمعت أحدا يقول: يا فرس؟.
738
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى... ﴾.
738
قال ابن عطية: قال الجمهور: إن إبراهيم لم يكن شاكا قط في إحياء الله الموتى، وإنما طلب المعاينة، وقال آخرون: إنه شك في قدرة الله تعالى (في) إحياء الموتى (ولذلك قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه.
ابن عرفة: هذا كلام لا يليق بابن عباس). وحمله على ظاهره يلزم عليه الكفر فلا بد من تأويله وهو أن الشك في كيفية وجود الشيء لا يلزم منه الشك في وجود ذلك الشيء، كما أنا لا نشك في موت عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مقتولا ونشك في كيفية ذلك حسبما اختلف فيه الرواة والنقلة.
قال: ومن هنا يستدل على القول بعدم تواتر القراءات (السبعة) غير ملزوم (للقول) بعدم تواتر القرآن جملة.
قال ابن عرفة: فأراد ابراهيم عليه السلام الانتقال من العلم النظري إلى العلم الضروري لأن (النظري) تعرض له الشكوك (والضروري لا تعرض له الشكوك) ولذلك يقول الفخر ابن الخطيب: في كلامه هذا تشكيك في الضروريات فلا يستحق جوابا. قيل له علم (النبي) ضروري لا نظري؟
739
فقال: علمه بنفس الإحياء ضروري وبكيفيته نظري، وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «نحن أحق بالشك من إبراهيم» على سبيل الفرض والتقدير في حق إبراهيم، وعلى جهة التواضع منه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أي لو فرض وقوع الشك من إبراهيم عليه السلام لكنا نحن أحق بذلك منه.
قلت: تأول عياض في الشفاء هذه الآية بستة أوجه.
أحدها: ما تقدم أنه طلب زيادة اليقين لأن العلوم تتفاوت.
الثاني: علم وقوعه وأراد مشاهدته وكيفيته.
الثالث: المراد اختبار منزلته عند الله تعالى وأن يعلم / إجابة دعوته، والمراد: أو لم تؤمن بمنزلتك واصطفائي (لك).
الرابع: لما احتج على الكفار بأن الله يحيي ويميت طلبه من ربه ليصحح احتجاجه به عيانا.
الخامس: أنّه سؤال على طريق الأدب أي (أقدرني) على إحياء الموتى.
والسادس: أنه آمن من نفسه الشّك ولم يشك لكن ليجاب فيزداد قربة.
740
وقول (رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) «نحن أحق بالشك من إبراهيم» نفي لأن يكون من إبراهيم شك أي نحن موقنون بالبعث وإحياء الموتى، فلو شك إبراهيم لكنا أولى بالشك منه (أو) على طريق الأدب أو المراد أمته (الذين) يجوز عليهم الشك أو هو تواضع، فأما قول الله تعالى ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ﴾ فقيل: معناه قل يا محمد للشاك: إن كنت في شك، كقوله تعالى: ﴿ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي﴾ وَ ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ وقيل: المخاطب غيره وقيل: إنّه تقرير كقوله:
﴿ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله﴾ وقد علم أنّه لم يقل.
«وقيل: إن كنت في شك فأسأل تزدد علما إلى علمك، وقيل: إن كنت شاكا فيما شرّفناك به فاسألهم عن صفتك في الكتاب؟ وقيل: إن كنت في شك من غيرك فيما أنزلنا إليك.
قال القاضي عياض: واحذر أن يخطر ببالك ما نقله بعضهم عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أو غيره من إثبات شك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما أوحي إليه وأنه من البشر فمثل هذا لايجوز جملة بل قال ابن عباس: لم يشك عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
741
وانظر ما قيل على هذا الحديث (في كتاب الإيمان في دفتر الحديث، وفي أسئلة السكوني).
قوله تعالى: ﴿قَالَ بلى ولكن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي... ﴾.
دليل على أن (العقل) في القلب.
قوله تعالى: ﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ... ﴾.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً... ﴾.
أي من الطير لأنهم جعلوه حالا من جزء فيكون نكرة تقدم عليها فانتصب (على الحال).
قال ابن عرفة: ويحتمل هذا أن يكون على كل جبل من الجبال فيعود الضمير على الجبال المفهومة من كل جبل.
قيل لابن عرفة: هلا بين له ذلك بإعدامهن جملة ثم أيجادهن عن عدم؟
فقال: إيجادهن لايلزم منه إعادتهن بأعيانهن لأنه يشاهد كل قوم أمثالهن: وقد يظن أن الموجود غير هذا مماثل لهن فهذا أغرب، وهو رؤيته
742
أجْزَاءهُنّ المفترقة (حين) تجتمع وتعود كما كانت أول مرة قالوا: ولما اجتمعت أتت إليه التصق كل جسد مع رأسه.
قال ابن راشد في اختصار ابن الخطيب: في الآية دليل على عدم اشتراط البنية خلاقا للمعتزلة.
فقال ابن عرفة: هذا بناء فيه على أن البنية هي الشكل الخاص وليس كذلك مطلقا بل البنية المشترطة في الرؤية هي الشكل الخاص والبنية المشترطة في الحياة هي البلة والرطوبة المزاجية. نص عليه القاضي والمقترح وغيرهما لأنا نجد الحيوانات على أشكال متنوعة ولو كانت الشكل الخاص لكانت على (شكل) واحد.
قوله تعالى: ﴿يَأْتِينَكَ سَعْياً... ﴾.
دليل على أنّهن أتينه يمشين خلافا لمن أتينه يطرن.
قوله تعالى: ﴿واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
الحكمة مشروطة (بالإتقان) وهو سأل عن كيفية الإتقان فأخبره أنّه إذا علم كيفية الإتقان فلا يسأل عما وراء ذلك، فَإنّ اللهَ
743
عَزِيز حَكِيم لا يمانع ولا يعاند في فعله فإذا تدبّر الإنسان في ملكوت الله وقدرته على الأشياء وخلقه لها، فلا يتدبّر فيها وراء ذلك لئلا (يجر به) تدبيره إلى الكفر وفساد العقيدة كما قال تعالى: ﴿فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجع البصر كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ.﴾
744
قوله تعالى: ﴿مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله... ﴾.
قال ابن عرفة: ويتناول (نفقة) النفوس وقدروه على حذف مضاف إمّا من الأول أو من الثاني. وعندي أنّه لا يحتاج إليه لأنّ المنفقين للأموال نشأ عنهم نفقات، ونشأ عن نفقاتهم منافع دنيوية من إعلاء كلمة الله وإظهار الإسلام وتكثير المسلمين وهضم (حمية) الكافرين واستئصالهم ومنافع أخروية بتكثير الثواب في الدار الآخرة كما أنّ الحبّة ينشأ عنها أولاد كثيرة.
وعن الامام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الأولاد حبوب كثيرة.
قال الزمخشري: فإن قلت هلاّ قيل سبع سنبلات بلفظ جمع القلة؟
وأجاب بجواز إيقاع جمع الكثرة على جمع القلة فوقع جمع القلة مثل «ثَلاثَةُ قُرُوءٍ».
وأجاب ابن عرفة بأنّه لما سلك في الآية مسلك الحظ على النفقة في سبيل الله وتكثير الثواب المعد عليها روعي في ذلك وصف الكثرة فأتى به بجمع الكثرة.
744
وجعله الزمخشري وابى (عطية) من تشبيه المحسوس بالمحسوس قبل الوجود.
زاد الزمخشري: أو تشبيه محسوس بمعقول مقدر الوجود.
قال ابن عرفة: كان ابن عبد السلام يقول: هذا عندهم في أرض الحجاز وأما نحن فهو عندنا كثير والحبة الواحدة تنبت قدر الخمسين سنبلة أو مائة واما أنّ (في) كل سنبلة مائة حبة فهذا عندنا قليل الوجود.
745
قوله تعالى: ﴿الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله... ﴾.
قال ابن عرفة: أتى به غير معطوف لأنه في معنى التفسير للأول فعلى هذا يكون خبر مبتدإ مقدر، أي هم الذين ينفقون أموالهم.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ... ﴾.
عطفه ب (ثم) / إما لبعد ما بين المنزلتين أو للمهلة حقيقة ويكون فيه إشارة إلى أنهم يمنون بنفقة طال (أمدها) وداموا عليها (فأحرى) أن لا يَمُنُّوا بنفس الإنفاق.
قوله تعالى: ﴿مَنّاً وَلاَ أَذىً... ﴾.
قال ابن عرفة: قالوا الأذى هو الشكوى بذلك والسب عليه.
ابن عرفة: وتقدم لنا سؤال وهو أنه لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم بل العكس، فالمنّ أعم من الأذى فإذا لم يمنّوا فأحرى أن لا يسبّوا عليها.
745
وأجيب بأن الإنسان قد يشكو بإعطائه النفقة لغيره ويذم معه ولا يمن عليه لأنه إذا رآه يستحيي منه (فلا يمن عليه). فقال: المن على المعطي يكون بمحضره وفي غيبته.
قال: وإنما عادتهم يجيبون بأن سبب المن أخف من سبب الأذى، فإنهم اعتبروا الفاعل ونحن نعتبر المفعول. فنقول: سبب المن مجرد بذل المال للفقير فقط، وأما الأذية (والتشكي) والسب فما يصدر إلا عن موجب وهو إذاية المعطي للفاعل ونحو ذلك. فلا يلزم من نفي المنّ نفي الأذى.
قال: وقال هنا ﴿لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ وقال (بعده) ﴿الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ فعطفه بالفاء.
وأجاب الزمخشري بأنّ الموصول لم يضمّن هنا معنى الشرط وضمنه هناك لأن الفاء تدل على أنّ الإنفاق به استحق الأجر.
قال ابن عرفة: هذا الكلام لا يستقل بنفسه، ولا يزال السؤال واردا، فيقال: لأي شيء أريد الشرط هناك ولم يرد هنا؟
قال: لكن عادتهم يجيبون بأنه لما قصد هناك الإخبار بأن مطلق الإنفاق في سبيل الله (يلزمه) الأجر قلّ أو كثر دخلت الفاء تحقيقا للارتباط، ولما كان المراد هنا إنفاقا خاصا على وجه شبيه بحسنة
746
موصوفة بهذه الصفة وأكدت خصوصية سلامته من المن والأذى كان ترتيب الأجر عليه كالمعلوم بالبديهة وكالمستفاد من اللفظ فلم يحتج إلى ما يحقق الارتباط.
قوله تعالى: ﴿لَّهُمْ أَجْرُهُمْ... ﴾.
أفادت الإضافة الاستحقاق أي أجرهم (اللائق) بهم فواحد يقل أجره وواحد يكثر وآخر في مادة التوسط بحسب (عمله) ونفقته. انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ... ﴾.
قال: الخوف يتعلق بالمستقبل فالمناسب فيه أن يكون الفعل المقتضي للتجدد، والحزن يتعلق بالماضي فالمناسب (أن يكون بالاسم) المقتضي للثبوت والتحقيق.
747
قوله تعالى: ﴿لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى... ﴾.
(قوله تعالى) :﴿وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله... ﴾.
تأوله المفسرون إمّا على الإضمار في الثاني أي كمثل غارس جنة بربوة أو على الإضمار في الأول أي ومثل إنفاق الذين ينفقون أموالهم.
قال ابن عرفة: والظاهر أن يكون التقدير ومثل مال الذين ينفقون أموالهم فالمال هو الذي يُشبه «جَنَّة بِرَبْوَةٍ» وَ «تَثْبِيتا مِنْ أَنفُسِهِمْ».
قال ابن عطية: «ابْتِغَاءَ» مفعول من أجله فكيف عطف عليه «تثبيتا» مع أنّ التثبيت سبب في «ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ» ومتقدم عليه فهو علة فيه.
748
وأجيب بأنّه علة غائبة فذكره أبو حيان.
قوله تعالى: ﴿فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ... ﴾.
قال المفسرون: الضعف هو المثل، أي آتت أُكلها المعهود على مرتين أعني آتته وآتت مثله معه.
قال ابن عرفة: ووقع في ابن الحاجب ما نصه: ولو أوصى بضعف نصيب ابنه فلا نص. فقيل مثله وقيل مثليه.
ابن عرفة: فعلى هذا الخلاف يكون المعنى فأتت أكلها أربع مرات وعلى القول الآخر (يكون) كما قال المفسرون.
قوله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ... ﴾.
قال المفسرون: إن أصابها الوابل تؤتي أكلها مرتين وإن أصابها الطلّ فقط تؤتي أكلها مرة واحدة.
ابن عرفة: ولا يمتنع أن يراد أنها تؤتي أكلها مرتين سواء أصابها وابل أو طلّ ويكون ذلك مدحا فيها وتأكيدا في أوصاف حسنها.
749
قوله تعالى: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ... ﴾.
الهمزة للإنكار، أي لا يودّ أحدكم أن تكون له جنّة هكذا! وهذا التشبيه لمن أبطل صدقته بالمن والأذى.
749
(قوله تعالى) :﴿لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات... ﴾.
وقد قال: ﴿مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾، يعني أنّ معظمها النخيل والاعناب وفيها من كل الثمرات.
قوله تعالى: ﴿وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ... ﴾.
بيان لتمام الحاجة (إلى) ثمر الجنة أو هو احتراس لأن من بلغ الكبر يكفيه ذرية ينفقون عليه ولا يحتاج إلى أحد.
750
قوله تعالى: ﴿مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ... ﴾.
يحتمل المستلذات فيعمّ الحلال و (غيره) إلا أن يريد المستلذّ بقيد كونه (حلالا) أو يقال بالعموم لأن الغاصب إذا زكّى مَاغَصَبَ (يجزى) عن ربّه ولكن ذلك بعد الوقوع، وأما ابتداء (فيؤمر) بردّه إلى ربّه، وقيل: الطيب الحلال هنا.
(وقوله) :﴿وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض﴾.
إشارة إلى الحقيقة وأن الكسب إنّما هو سبب (لا مؤثر)، لأن ما أُخرج من الأرض يدخل في الكسب فهو عطف خاص على عام أو مقيد على مطلق.
750
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ... ﴾.
إما الحرام أو ما تكرهون على التأويلين في الطيب.
قال ابن عرفة: وعندي أن الإنسان إذا كانت عنده كسرة باردة وأخرى سخنة وهو يكره الباردة فتصدق بها يدخل في هذا.
751
قوله تعالى: ﴿واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾.
احتراس أن تتوهموا أن الصدقة بهذا يحصل بها نفع للآمر بل النفع لمخرجها فقط.
752
قوله تعالى: ﴿يُؤْتِي الحكمة مَن يَشَآءُ﴾.
قال ابن عرفة: الظاهر أنّ المراد به الفقه والعمل به.
قوله تعالى: ﴿إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ... ﴾.
ابن عطية: هي تفسير / الفاعل المضمر قبل الذكر. والتقدير: نعم شيء إبدَاؤهَا.
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: غير هذا. وهو أنّ المازري ذكر في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به».
الخلاف هل هو إشارة للفعل فقط أو للفعل بصفته (فكذلك)
752
يجيء هنا إن عاد الضمير على الصدقات بصفتها لم يحتج إلى هذا الإضمار والقرينة هنا تعيّن أن المراد الصفة، وهي قرينة التقسيم بين الإخفاء والإظهار
قيل لابن عرفة: لعل القرينة هي المفسرة للمضمر؟
فقال: ثبت أن المراد هنا (الصّدقة) بصفتها وإنّما ثبت استعمال اللفظ في معنى ودار (الأمر) بين صرفه ذلك المعنى إلى القرينة أو إلى نفس اللّفظ فصرفه إلى نفس اللّفظ أولى.
قوله تعالى: ﴿وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء... ﴾.
753
قال ابن عرفة: لم يقل أو تبدوها وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ.
وعادتهم يجيبون: بأنك إظهارها مظنة الكشف عن حال آخذها، وكثرة السؤال عنه وإخفاؤها مظنة لعدم الكشف عن ذلك فإعطاؤها في العلانية متوقف على علم المعطي وغيره بفقر آخذها فلا تقع إلا في يد فقير لأنه إما أن يسأل عن حاله أو يراه من يعلم أنّه غني فينهاه عن الصدقة عليه وإعطاؤها (سّرا) يتوقف على مجرد علم المعطي فقط بذلك، فقد تقع في يد غني يظنه المعطي فقيرا لأنه لا يسأل عن حاله ولا يطلع عليه من يعرف حاله فيخبره بحاله فلذلك قال في الثاني: ﴿وَتُؤْتُوهَا الفقرآء﴾.
754
قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ... ﴾.
754
قال ابن عرفة: الخطاب خاص بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو عام له ولسائر المؤمنين كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ ﴿وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ وهو راجع إلى الخلاف الّذي (حكاه) ابن عطية لأن ما نقله عن سعيد بن جبير وعن النّقاش يقتضي الخصوص وما نقله عن ابن عباس يقتضي العموم.
قال ابن عرفة: وعلى تقدير الخصوص يستلزم العموم فهو خصوص لأنه إذا رفع التكليف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي هو رسول مأمور بالتبليغ والدعاء إلى الإيمان فأحرى أن يرفع عن من سواه.
755
قال ابن عطية: ذكر النّقاش أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتِىَ بصدقة فجاءه يهودي فقال: أعطني. فقال له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ليس لك من صدقة المسلمين شيء» فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت الآية، فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم أعطاه، ثم نسخ الله ذلك بقوله: ﴿إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين﴾ قال ابن عرفة: هذا ليس بنسخ ولكن المتقدمين يطلقون عليه نسخا والمتأخرين يقولون: العام إن عمل به ثم ورد بعد ذلك خاص فهو نسخ له وإن ورد الخاص بعده وقبل العمل به فهو تخصيص لا نسخ.
قال ابن عطية: والهدى المنفي هو خلق الإيمان في قلوبهم، وأما الهدى الذي هو الدعاء إلى الإيمان فهو عليه.
قال ابن عرفة: أما خلق الهدى (فمنفي) معلوم بالضرورة لا يحتاج إلى نفيه، وأما الدعاء إلى الإيمان فغير منفي، ويبقى قسم ثالث وهو الدعاء المحصل للإيمان الكسبي لا الجبري فيقال هديث فلانا إلى الإيمان، أي دعوته إليه فاهتدى بخلاف ما إذا دعوته إليه فلم يهتد فإنك لا تقول: هديته إلى الإيمان، فهذا هو المنفي في الآية، أي ليس مطلوبا بتحصيل الهداية الكسبية لهم إنّما عليك أن تدعوهم فقط، والإضافة على ما قلناه للمفعول. أي ليس عليك أن تهديهم.
قيل لابن عرفة: لعل المراد لا يجب عليك أن تهديهم إلى الإيمان؟ فرده بقول الله تعالى: ﴿ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ فَإِنَّه ليس المراد به الجبر على الإيمان بل خلق الهداية.
756
قال ابن عرفة: وهذا تسكين لروعته لأنه مضى قبل الآية مقدار ربع حزب في الحض على الصدقة، وعلى (خلوص) النّية، وكرر ذلك وأكد فخشي أن يتهالك عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأجل عدم امتثالهم فأتت هذه الآية تسكينا لروعته وتطمينا لجنانه.
قوله تعالى: ﴿ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ... ﴾.
فالتشديد كما في قوله تعالى: ﴿ولكن الله رمى﴾ وفي بعضها ولكن بالتخفيف. وسبب ذلك أنه إذا كان المخاطب منكرا وظهرت عليه مخائل الإنكار فيؤتي بها مشددة.
ابن عرفة: وهذا أعمّ من قول الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ (فإن عليك أن تهدي من أحببت) أخص من قولك أنت تهدي من أحببت، ونفي الأخص أعم من نفي الأعم.
فان قلت: الأصل في نسبة المتكلم إلى نفسه فعلا أن يأتي باسمه مضمرا فيقول: ليس عليك إكرام محمد ولكنه علي، ولا تقول: ولكنه على زيد، يعني نفسه.
قال: وتقدم لنا الجواب بأنّه لما كان المعنى خاصا بالله تعالى أتى فيه باسم الجلالة الخاص به ولو قال: ولكنّا نهدي من نشاء لكان عاما لأن الضمائر كلية.
757
قلت: ولأن النون والالف تكون للمتكلم وحده إذا عظّم نفسه وللمتكلم ومعه غيره بخلاف / اسم الجلالة فإنه خاص بلا شك.
قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله... ﴾.
يحتمل أن تكون الواو واو الحال (أى) وما تنفقوا من (خير) فلأنفسكم حالة كونهم يقصدون به وجه الله وهذا خبر في معنى الطلب (أو) الأمر أو النهي. انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾.
758
تأسيس، والمراد بالتوفية في المقدار وعدم الظلم في الصفة لأن من لك عليه طعام موصوف تارة يعطيك مثل الصفة وأقل في المقدار، وتارة يعطيك مثل القدر (وأدوَن) في الصفة.
759
قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله... ﴾.
قال الزمخشري: أي اعمدوا للفقراء او جعلوا ما تنفقون للفقراء. ويجوز أن يكون خبر متبدإ (محذوف) أي صدقاتكم للفقراء.
قال ابن عرفة: المقدرات باعتبار المعنى متفقة وباعتبار كيفية الدليل مختلفة «وَسَبِيلِ اللهِ» قال مالك في كتاب الحبس: هو وجوه الخير. بالإطلاق كيف ما كانت.
وقال ابن عبد البر: المشهور عن مالك أنه الجهاد.
قوله تعالى: ﴿أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف... ﴾.
ولم يقل: من تعفّفهم إشارة إلى اتصافهم بأبلغ وجوه التعفف لأن تعفف المحتاج (المضطر) إلى المسألة ليس كتعفف من لم تبلغ
759
به الحاجة إلى السؤال فأفاد أن هؤلاء لم يتّصفوا بتعفّفهم اللائق بهم بل اتصفوا بالتعفف الإجمالي.
قوله تعالى: ﴿تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ﴾.
الخطاب له ولغيره.
قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْئَلُونَ الناس إِلْحَافاً... ﴾.
ونقل هنا ابن عرفة كلام المفسرين ثم قال: ويحتمل أن يكون مثل ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ أي لو قدر صدور السؤال منهم لما قدر وقوعه إلا بالإلحاف لأجل ما نالهم من الجهد والحاجة، ويحتمل أن يكون مثل قول الله تعالى ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر﴾ فيكون من باب (نفي) استلزام الأخص أمرا وإذا لم يستلزم الأخص أمرا لم يستلزمه الأعم. والمعنى: لا يسألون الناس لأجل الإلحاف (في السؤال) أي لأجل سبب الإلحاف وهو شدة الحاجة وإذا لم يسألوهم لأجل شدة الحاجة فأحرى أن لا يسألوهم لأجل سبب عدم الإلحاف وهو مطلق الحاجة فقط.
قال الفخر بن الخطيب يحتمل أن يراد بالإلحاف (تأكيد) صبرهم.
760
قال ابن عرفة: ينبغي أن يوقف على قوله: ﴿لاَ يَسْئَلُونَ الناس إِلْحَافاً﴾ مصدر، أي يلحفون إلحافا، أي يبلغون في شدة صبرهم وتجلدهم على الفقر. انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ﴾.
قال ابن عرفة: قالوا: إن العبد يفرق بين حالة طاعته لسيده وهو حاضر ينظر إليه وبين حالة طاعته له في غيبته فمع الحضور يجتهد أكثر.
قيل لابن عرفة: إذا بنينا على مذهب أهل السنّة في التفريق بين (عليم وبصير) فيرد السؤال على ما قلت، فيقال: هلا قيل: فَإنّ اللهَ بِه بصير فهو أخص من (عليم) خلافا للمعتزلة؟ فقال: الآية خطاب للعوام لا للخواص وصفة العلم عندهم (أجلى) اذ لا خلاف فيها، بخلاف بصير فإنّ منهم من ردّه لعليم ومنهم من أبقاه على ظاهره.
761
قوله تعالى: ﴿الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بالليل والنهار... ﴾.
قال ابن عطية: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما نزلت في علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه كانت له أربعة دراهم تصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية.
قيل لابن عرفة: التصدق بالليل والنهار لايخرج عن كونه سرا (أو) علانية؟
(فقال: لا يصح الاعتراض على السبب وإنما النظر في ذلك عند تطبيق السبب على لفظ الآية، ويفهم هذا بأنه قسمة رباعية فتصدق (بدرهم) بالليل سرا وبدرهم علانية وفي النهار بدرهم سرا وبدرهم علانية).
قال: هو في الآية عندي تفسير «سرا» راجع لليل، «وعلانية» للنهار، بدليل إتيان السرّ غير معطوف.
قال: وعادتهم يقولون لأي شيء قدم السر على العلانية مع أنّ نفقة السرّ أفضل من نفقة العلانية. فهلا بدأ بالعلانية ليكون العطف ترقيا لا تدليا لأن عطف الترقي فيه تأسيس وعطف التدلي فيه ضرب من التأكيد؟
قال: فكانوا يجيبون بقاعدة استصحاب الحال، وذلك لأن نفقة السر أفضل من نفقة العلانية لخلوص النية فيها فإذا أنفق أوّلا سرا بنية خالصة واستصحب تلك النية بعينها في نفقة الجهر (فإنفاق) الجهر بتلك
762
النية الخالصة الغير المشوبة بشيء من الرياء كان في أعلى درجات الطاعة فروعي فيه هذا المعنى فكان ترقيا.
قوله تعالى: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ... ﴾.
ولم يقل: فلهم أجر، لأن المراد أجرهم اللاّئق بهم ولو قيل: فلهم أجر لكان مفهومه أن من فعل دون ذلك لا أجر له مع أنه يؤجر.
قال ابن عطية: ودخلت الفاء لأن الموصول وصل بالفعل ولم يدخل عليه يغير معناه.
قال أبو حيان: وكذلك أيضا إذا كانت الصلة ظرفا أو مجرورا.
وكذا ذكر ابن عصفور في المقرب وشرح الإيضاح.
فإن قلت: إن الظرف المجرور محل والتعليل عند الأصوليين (إنما يكون) بالصفة لا بالمحل.
فالجواب: إنّ المحل هنا ناب مناب متعلقة وهو كائن أو مستقر الذي هو صفة وتقوى هنا حتى صار كأنه هو ولذلك لا يجوز الجمع بينهما.
قال أبو حيان: ومن شروط دخول الفاء أن يكون الخبر مستحقا بالصلة كهذه الآية.
763
ورده ابن عرفة: بأنه ما علم كونه سببا إلا بعد دخول الفاء لا قبلها فكونه مستحقا بالصلة فرع عن دخول الفاء فلا يصح أن يكون شرطا فيها وموجبا لها.
وأجيب بأن هذا بالنسبة إلى السامع وكلامنا في دخول الفاء بالنسبة إلى قصد المتكلم ونيته.
وعادتهم يردّون على كلام أبي حيان بقوله ﴿الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ فإن نفس الخلق غير موجب للهداية وإلا لزم منه مذهب المعتزلة القائلين بمراعاة (الأصلح)، وعادتهم يجيبون بأن المراد: الذي خلقني هذا الخلق الخاص على هذه الصّفة وهي النبوءة فهو يهدين، وتقدم نظيره في قول الله تعالى
﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ وفي سورة قد أفلح ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ قال ابن عرفة: فإن قلت: ما الحكمة في دخول الفاء مع أنه (يجوز) الَّذي يأتيني له درهم. والمعنى فيه وغير ما فيه الفاء واحد، وكذلك (إن قلت) النفقة هنا (مستلزمة) لثبوت الأجر لهم (مع الفاء ومع عدمها).
764
قلت: وعادتهم يجيبون بأن الخبر إذا كان ثابتا وعطف عليه ما يتوهم نفيه وعدم ثبوته فلا بد من الفاء ولا شك أن حزنهم مما يتوهم نفيه فأتي بالفاء الدالة على كمال الارتباط وأنّ ذلك سبب في نفي الحزن والخوف عنهم.
قال: ولفظ الرب هنا دال على أن هذا الثواب محض، تفضّل من الله تعالى كما يقول أهل السّنة خلافا للمعتزلة.
وعادتهم يوردون سؤالا وهو: لأى شيء نفى الحزن عنهم بالفعل والخوف بالاسم مع أن المناسب العكس لأن متعلق الحزن ماض والخوف مستقبل؟
قال: وعادتهم يجيبون بأن النكرة في سياق النّفي تفيد العموم بإجماع، والفعل في سياق النفي مختلف فيه، هل يفيد العموم أم لا؟ والماضي محصور لأنه مشاهد مرئي فمتعلقه غير متعدد، والمستقبل متعلقاته متعددة لأنه غير محصور، فالخوف منه يعظم لكثرة الخواطر التي تخطر (ببال الإنسان)، (فقد) يخاف من كذا ويخاف من كذا ويخاف من شيء هو في نفس الأمر آمن فيه. فلذلك نفي الخوف بلفظ الاسم الدال على العموم بإجماع ونفي الحزن بالفعل المحتمل للعموم وعدمه.
قلت: ورد هذا بمعنى الإجماع لأن النكرة عند النحويين لا تعمّ إلا اذا كانت مبنية مع (لا) مثل: لا رجل في الدار، بالفتح بلا تنوين.
ويجاب بأنها أعمّ من الفعل بلا شك.
765
قوله تعالى: ﴿الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس... ﴾.
765
قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون التشبيه بمن يتخبطه «الشيطان من المس (حال) تخبطه. ويحتمل أن يكون التّشبيه بالمتخبط إثر تخبطه)) والظاهر العموم، لأن الآكلين من الربا متفاوتون في الأكل، فالمكثر منهم شبيه به حال التخبط والمقلل شبيه به أثر التخبط.
قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها أنها تقدمها إنفاق الصدقة، والصدقة (من) غير عوض (والرّبا في ظاهر الأمر زيادة من غير عوض) لأنه يدفع قليلا في كثير. وقدّر الفخر المناسبة بأن الصدقة (نقص من المال) والرّبا زيادة فيه، فالنفوس تحبه وتكره الصدقة فجاءت الآية ردّا عليهم وإشعارا بأن ذلك النقص زيادة وتلك الزيادة نقص.
قال الزمخشري:»
مِنَ المَسّ «متعلّق ب» يقومون « (أو يقوم، فرد عليه أبو حيان تعلقه ب» يقومون «) لأن قيامهم في الآخرة وليس فيه جنون ولا مس.
قال ابن عرفة: وفيه عندي نظر من وجه آخر وهو (أنّك تقول) :
ما أكل زيد إلا كالشيطان يأكل بشماله. أو تقول: ما أكل زيد بشماله إلاّ كالشيطان (يأكل بشماله). فهذه الحالة أخف لأنه
766
في الأولى ذمّ لآكله مطلقا، وفي الثانية ذم له إذا اتّصف بالأكل بالشّمال وقد لا يتصف به، وكذلك هذا يلزم أن يكون التشبيه خاصا بقيامهم من المس فيقال: لعل لهم (حالة) أخرى يقومون (بها) من المس.
قال ابن عرفة: اعلم أن القدماء من المعتزلة ينكرون الجنّ بالأصالة، وهو كفر لا شك فيه فإنه تكذيب للقرآن والحديث، والمتأخرون منهم يثبتونهم وينكرون الصرع.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا... ﴾.
قال الزمخشري: الإشارة للعقاب.
قال ابن عرفة: أو لأكلهم الربا لأنه سبب في عقوبتهم وسبب السبب مسبب، وهذا قياس تمثيلي ذكروا منه قياس (الشبه) والتسوية
767
وهو قياس أخروي بمعنى أن الحكم في المقيس عليه ثابت في الفرع المقيس من باب أحرى فينعكس فيه التشبيه.
ومثله ابن مالك في المصباح بهذه الآية وبقول الشاعر:
كأن انتظار البدر من تحت غيمه... نجاة من البأساء بعد الوقوع
وبقول الآخر:
وكأن النجوم بين الدّجى... سنن لاح بينهن ابتداع
فجعل أهل السنة بين المبتدعة بمنزلة النجوم في الظلام.
وقال غيره: الاهتداء بالنجوم يحتاج فيه إلى معرفة استدلال واتباع أهل السنة لا يحتاج فيه إلى تكليف دليل فكان أحرى.
قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا... ﴾.
قال الزمخشري: هذا رد على قياسهم.
768
قال ابن عرفة: بل هو عندي تجهيل لهم، ويكون النّص متقدما فهو قياس في معرض النّص فهو فاسد الوضع وعلى ما قال الزمخشري يكون النص غير متقدم.
769
قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ الله الربا... ﴾.
قال ابن عرفة: الأحكام الشرعية منطوية بمصالح الدنيا والآخرة، فلمّا تضمن الكلام السّابق حصول المصلحة الأخروية بالصدقة لقول الله تعالى ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ والعقوبة في الآخرة لفاعل الرّبا تضمّن هذا / أنّه محصل للمصلحة الدنيوية، والربا متضمن للمسفدة الدنيوية لأنّ الربا (ممحقة) للمال والصدقة زيادة فيه.
وحمله ابن عطية على أنه في الدار الآخرة. والظاهر الأول.
وبدأ هنا بالرّبا، وفيما تقدم بالصدقة وطريق المقابلة واللّف والنشر العكس. لكن الجواب لما كان ذكر الصدقة قد يطول الكلام فيه قدّم الكلام (على) الربا ثم عاد إلى الصدقة.
فإن قلت: هلا قيل يمحق الله المال الذي فيه الرّبا فهو أبلغ في التخويف لأن محق المال الذي فيه الرّبا أشد لاستلزامه محق الربا وزيادة؟
فالجواب: أن هذا (أجلى) من محق الربا والمخاطبون عوام.
قوله تعالى: ﴿والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾.
769
قال ابن عطية: يحتمل أن يريد: والله لا يحب توفيق الكفّار الأثيم. قاله ابن فورك.
ابن عطية: وهذا غير صحيح لأن الله تعالى يحب التوفيق على العموم (ويحببه).
قلت: وسمعت القاضي أبا العباس بن حيدرة والمفتي أبا القاسم الغبريني يقولان: هذه نَزْغَةٌ اعتزالية غفل فيها واعتزل من حيث لا يشعر، بل الله يحب الخير والشر تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد والرجل سني لا شك في فضله ودينه.
770
قال ابن عرفة: إن قلنا: إن نقيض المستحب مكروه فالمعنى ظاهر وإن قلنا: إن نقيضه غير مكروه فهلا قيل: والله يكره كل كفار أثيم، لأن نفي المحبة أعم من الكراهة وعدمها.
قال: وعادتهم يجيبون بقول العرب في المدح (التام) حبذا زيد. (وفي الذم التام لا حبذا زيد) فنفي المحبة عندهم يستلزم الكراهة.
فإن قلت: هلا قيل: والله لا يحب كل (كافر) أثيم فهو أبلغ؟
قلت: إنه لما كان النفي أخص كان (المنفي) أعم.
771
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ... ﴾.
قال هنا: «لهُمْ أجْرُهُمْ» وقال فيما سبق: ﴿فَلَهُمْ أجْرُهُمْ﴾ لوجهين:
771
الأول: أن السّابق (أكمل) وأبلغ لقوله: ﴿الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً﴾، فأكّده بالسرّ والعلانية وهنا لم يؤكده كذلك.
قيل لابن عرفة: الأعمال الصالحة تشتمل على النفقة وغيرها؟
فقال: تستلزم مطلق النفقة وتلك نفقة خاصة.
الثاني: إن هذا مؤكد «بإن» فأغنى عن تأكيده بالفاء؟
قلت: لأن الأول موصول مضمن معنى الشّرط فصحّ دخول الفاء في خبره وأن لا تدخل على الشّرط الصريح، فلا يدخل على ما هو مضمّن معناه فدخولها يمنع من تضمين الموصول معناه، وإذا لم يضمن معنى الشّرط فلا يدخل الفاء في خبره.
772
قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله... ﴾.
حلمه ابن عطية على أحد ثلاثة أمور: إما يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد دوموا على إيمانكم، وإما يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ في الظاهر اتقوا الله إن كنتم مؤمنين في الباطن، وإما يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ بموسى وعيسى آمنوا بمحمد.
قوله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ... ﴾.
772
قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: فيها حجة لمن يقول: إن الترك فعل لأن قبلها ﴿وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا﴾ ثُمّ قال: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾.
قال: وعادتهم يجيبون بأنّ هذا كف لا ترك، ونظيره: إذا كان طيب طعام بين يدي رجلين: أحدهما جائع والآخر شابع ولم يأكلا منه منه شيئا. يقال في الجائع: إنه كف (عن الأكل) وفي الشبعان: إنه ترك الأكل.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن قبلها اتّق الله وهو فعل؟
فقال: الأمر بالتقوى ليس هو لذاته والآية إنّما سبقت لتحريم الرّبا بدليل استدلالهم بها في كتاب بيوع الآجال في ربا الجاهلية.
قوله تعالى: ﴿فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ... ﴾.
قال الزمخشري: في التنكير للتعظيم. وتقدم استشكاله بأنّ التنكير إنما هو للتقليل والشيوع في آحاد ذلك الشيء.
وتقدم الجواب: بأن التعظيم الصفة والكيفية لا في الكمية والقدر وانظر سورة الفجر.
قوله تعالى: ﴿فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾.
قال ابن عرفة: مذهبنا أنه يجب ردّ الرّبا وهو الزيادة.
773
قيل لابن عرفة: فكيف يتم مفهوم الآية على مذهبنا فإنّ مفهومها إن لم تتوبوا فليس (لكم رؤوس أموالكم) مع أن مذهبنا بطلان الربا وللمعطي رأس ماله؟
فقال: الجواب إن لم يتوبوا سقط الخطاب لأنه لا يخاطب إلا المؤمن برد الرّبا وأما الكافر فلا (يخاطب برده) حيث كان.
774
قوله تعالى: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ... ﴾.
قال ابن عرفة: تقرر من كلام الإمام عياض في كتاب الوصايا من الإكمال في حديث سعد بن أبي وقاص أن قولك: زيد ذو مال أبلغ من قولك: زيد له مال، ونحوه للزمخشري في أول سورة
774
آل عمران في قوله: ﴿والله عَزِيزٌ ذُو انتقام﴾ وفي سورة غافر: ﴿إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾ ونحوه لابن الخطيب في سورة الروم في قوله ﴿فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ﴾ وخالفهم الشيخ (ابن عطية) فقال في سورة الرعد في قوله ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ﴾ (انها) دالة على تغليب جانب الخوف على جانب الرجاء لأن قولك ذو مغفرة مقتض لتقليل المغفرة.
قال ابن عرفة: وقال بعضهم قولك: زيد صاحب مال، أبلغ من: ذو مال، لأن ذو مال إنما يقتضي مطلق النسبة سواء اتّصف به / أم لا، بخلاف قولك: صاحب، فإذا بنينا على كلام الجماعة الصحيح فإنما قال «ذُو عُسْرَة» ولم يقل: وإن كان معسرا، إشارة لما (تقرر) في الفقه من أنّ من له دار وخادم وفرس لا فضل في ثمنهن على ما سواهن يجوز له أخذ الزكاة ويسمى فقيرا، مع أنه إذا كان عليه دين يباع عليه داره وخادمه في دينه فليس مجرد الإعسار موجبا لإنظاره (بالدين، فإنّ) الموجب لذلك الإعسار (البين الكثير) فناسب إدخال (ذو).
775
قال ابن عطية: و (كان) هنا عند سيبويه تامة بمعنى وجد وحدث. ومن هنا يظهر أنّ الأصل الغنى لأن إدخال «إن» يدل على أنّ الإعسار لم يكن موجودا.
ورده ابن عرفة بأن ذلك (في) الدّين الذي كان (عن) عوض يقول فيه: الأصل المَلاَء، واستصحاب الحال ببقاء ذلك العوض وذهابه على خلاف الأصل، وأما الدين الذي لا عن عوض كنفقة الزوجات والبنين والأبوين فليس الأصل فيه المَلاَءُ.
ابن عطية: حكى المهدوي عن بعضهم أن الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين.
وحكى مكي: أنّ النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر به في صدر الإسلام.
ابن عطية: فإن (قلنا) : فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو نسخ وإلاّ فليس نسخا.
776
قال ابن عرفة: يريد أنه على الأول يكون نسخا لغويا وعلى الثاني يكون نسخا في اصطلاح الأصوليين.
قال: وهنا أورد القرافي (في قواعده) سؤالا قال: ثواب الواجب أعظم من ثواب المندوب مع أن تأخير الغريم بالدّين واجب والتصدق عليه مندوب والآية نص في أنّ التصدق عليه بن أفضل، ثم أجاب التصدق به يستلزم التأخير وزيادة.
قوله تعالى: ﴿وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ... ﴾.
777
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ... ﴾.
قال ابن عرفة: عام مخصوص لأن المجانين والأطفال لا يدخلون فيها.
فإن قلت: لا كسب لهم؟ قلنا: تقرر مذهبنا أن الطفل الصغير إذا استهلك شيئا فإنه يغرم مثله أو قيمته من ماله، (فنرى) كسبه معتبرا في الدنيا وهو في الآخرة معفو عنه.
777
قوله تعالى: ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾.
778
قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ... ﴾.
قال الفخر: تداين مفاعلة فلا (تكون) إلا من الجانبين، فلا يتناول إلا الدّين بالدّين. أو (فسخ) الدّين (بالدّين) فلا يصح حلمه على ظاهره بل المراد به إذا تعاملتم.
وأجاب ابن عرفة: بأنّه يتناول الدّين (بالدّين) عن معاوضة فإن من اشترى سلعة بنقد أو نسيئة فإذا دفع الثّمن حصل له في ذمّة المشتري فله عليه الرجوع بعهدة العيب أو الاستحقاق.
قال الزّمخشري: وإنما قال بدين ليعيد عليه الضمير.
قال ابن عطية: ليرفع الوهم، إن المراد بتداينتم جزاء بعضكم بعضا.
778
قال ابن عرفة: بلى أتى به ليكون نكرة في سياق الشرط فيفيد العموم.
قوله تعالى: ﴿فاكتبوه وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله... ﴾.
الأمر بالكتب مصلحة دنيوية وهي حفظ المال، ومصلحة دينية وهي السلامة من الخصومة بين المتعاملين.
قيل لابن عرفة: يخرج (الدين) الذي على الحلول؟
فقال: لا يحتاج إلى كتب وثيقة غالبا فإن له طلبه في الحال.
إبن عطية: قوله «بالعدل» متعلق بقوله تعالى «وَلْيَكْتُب» لا ب «كاتب» لئلا يلزم عليه ألاّ يكتب الوثيقة إلاّ العدل في نفسه وقد يكتبها الصبّي والعبد والمسخوط إذا (أقامو فقهها) إلاّ أنّ المنتصبين لكتبها لا يجوز للولاة أن (يولّوهم) إلا عدولا مرضيين.
779
قال ابن عرفة: هذا تخليط لأن الأمر بالكتب ابتداء إنّما هو للعدل في نفسه وإمضاء كتب الصبّي والعبد والمسخوط إنّما هو بعد الوقوع، والآية إنّما جاءت فيمن يؤمر بكتبها وفرّق بين الأمر في كتبها عند العدل في نفسه وبين إمضائها إذا كتبها غير العدل.
780
قوله تعالى: ﴿فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً... ﴾.
قال ابن عطية: السّفيه الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء (منها).
ابن عرفة: هذا هو السفيه عند الفقهاء. قال: ومن كان بهذه الصّفة لا يخلو من حجر أب أو وصي أو قاض.
قوله تعالى: ﴿فَلْيُمْلِلْ... ﴾.
781
قوله تعالى: ﴿بالعدل... ﴾.
كان بعضهم يقول: الذي يظهر أن يكون بالعدل متعلقا بوليه (لا بيملل) لأن إملاء الوصي إذا كان بغير العدل فالمشهور (يجرحونه) ولا يشهدون له فينبغي أن الوصي إذا أتى ليرهن على المحجور ويعمر ذمته ألاّ يشهدوا له إلا إذا تبين لهم في ذلك وجه المصلحة، وأما تعلقه بدين (وكان) أكثر الأوصياء لا يعدلون فلا يقبل إلا إملاء الوصي الدين ولذلك كان ابن الغماز يقول: جميع من رأيت من الأوصياء يتصرفون بغير الصواب إلا فلانا (أو فلانا) ويعيُّنهما.
قوله تعالى: ﴿واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ... ﴾.
قال ابن عرفة: مذهبنا أن العبد لايستشهد (ابتداء) فإن شهد قبلت شهادته.
والآية دالة على أنّه لا يشهد الرّجل والمرأة إلاّ عند عدم الرّجلين مع أنه إذا تعارضت بينتان إحداهما رجل وامرأتان والأخرى رجلان فإنّهما متكافئتان لكن هنا شيء وهو أنّ الأصوليين ذكروا الخلاف فيما إذا تعارض أمران في صورة أو تساويا فيها وثبت لأحدهما الرّجحان على الآخر في غيرها من الصور فهل يرجح الأرجح أم لا؟ فقولان فإن قلنا بالتّساوي فلا سؤال، وإن قلنا بتقديم الأرجح فيرد السؤال، لم جعلهما مالك متكافِئَتين ولم يقدم الأرجح
782
قال ابن العربي: واحتجّ بهذا أبو حنيفة على أنّه لا يقضي بالشاهد واليمين.
ورده ابن عرفة بوجهين:
الأول: أن الآية سيقت لبيان ما يستقل به الحكم في الشهادة لا لبيان كل ما يوجب الحكم.
الثاني: أن هذه حالة التحمل وهو في حالة مأمور بأن يشهد رجلين أو رجلاً وامرأتين وإنما اليمين حالة الأداء والحكم بالحق.
783
قوله تعالى: ﴿مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء... ﴾.
متعلق ب «اسْتَشْهِدُوا».
وأبطل أبو حيان تعلقه ب «امرأتين» أو ب «رجلين» لئلا يلزم عليه المفهوم وهو إطلاق الحكم في الفريق الآخر وهما الرّجلان مرضيان كانا أو غير (مرضيين).
(وأجاب ابن عرفة: بأن قوله: «مِن رِّجَالِكُمْ» «وشَهِيدَينِ» بالإضافة، والمبالغة تفيد كونهما مرضيين).
قوله تعالى: ﴿أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى... ﴾.
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إنه تعليل للمجموع (وإرادة) أن تذكر إحداهما الآخرى إذا ضلت.
784
قال ابن عطية: قال بعض المكيين «فَرَجُلٌ وامْرَأَتَانِ» بهمز الألف ساكنة.
قال ابن جني: لا نظير لتسكين الهمزة المتحركة وإنّما خففوا الهمزة فقرب من الساكن ثم بالغوا في التخفيف فصارت الهمزة ألفا ساكنة ثم أدخلوا (الهمزة على الألف) ساكنة (ومنه) قراءة ابن كثير «وكشفت عن سَأْقَيْهَا».
قال ابن عرفة: وقع تسكين (الهمزة) المتحركة (في القرآن) في ثلاثة مواضع: أحدها «وَجِئْتُكَ مِن سَبَأَ بِنَبَإٍ يَقِينٍ». قرأها أبو عمرو والبزي بفتح الهمزة.
وروي عن قنبل إسكان الهمزة إجراء للوصل مجرى الوقف، قوله تعالى: «مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاّ دابَةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ».
785
وقرأها نافع وأبو عمروا بالألف من غير همزة وابن ذكوان بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مفتوحة.
والثالث قوله عَزَّ وَجَلَّ ّ في سورة فاطر: «وَمَكْرُ السَّيّءِ» قرأ حمزة بسكون الهمزة إجراء للوصل مجرى الوقف والباقون بتحريكها.
قلت: وموضع رابع وهو «فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ». روى فيه عن أبي عمرو الاختلاس وروي عنه الإسكان.
قال ابن عطية: وقرأ حمزة «إِن تَضِلّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرُ» جعل (إن) شرطا والشرط وجوابه رفع لأنه صفة للمرأتين، وارتفع «تذكرُ» كما ارتفع قوله تعالى «وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ».
هذا قول سيبويه وفي هذا نظر.
786
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ... ﴾.
قال بن عرفة: قالوا: إن النهي تارة يكون للحاضر، وتارة يكون للغائب، فأمّا بالنسبة إلى القديم فلا فرق بينهما، وأما في المحدثات فقد يكون النهي في الغيبة أقوى وأشد منه في الحضرة، لأنك قد تنهي الشخص الحاضر عن فعل شيء بين يديك وتكون بحيث لو سمعت عنه أنه يفعله في غيبتك لا تزجره ولا تنهاه. فهذا الأمر فيه أخف من شيء تزجره على فعله في الغيبة والحضرة فإن النهي في هذا أشد. ولا يؤخذ من الآية أنّ الأمر بالشيء ليس هو نهيا عن ضده لأن «اسْتَشْهِدُوا» أمرٌ للمتعاقدين «وَلاَ يَأْبَ» نهي للشاهدين.
787
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تسئموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ... ﴾.
السآمة (بمعنى) الكسل، وقدم الصغير خشية التهاون به والتفريط فيه كقول الزّمخشري في ﴿لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾ وقوله ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ﴾ وقوله ﴿فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ مع أن العداوة تنفي أخذ الدية ويوجب (التعارف) بها فلذلك قدمت الدّية.
والضمير في قوله «تَكْتُبُوهُ» (إما عائد على الحق أو على الدّين، أو على الكتب.
788
((قال بعضهم: وإن عاد الضمير على الكتاب ف «أَوْ» للتخيير، وإن عاد على الحق أو الدين ف «أَوْ» (للتفصيل).
قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ... ﴾.
ابن عرفة: هذا دليل على أنّ الأمر المقدم الندب لا للوجوب. والصواب أنّ المراد الإشهاد أقسط عند الله (والكتاب) أقوم للشهادة فيكون لفّا ونشرا، أي أعدل وأقرب لقيام الشهادة.
و «أَقْسَطُ» قيل من الرباعي وهو شذوذ.
قال الزمخشري: من قاسط على النسب أي ذو قسط، أو جار مذهب سيبويه في بنائها من أفعل.
ورده أبو حيان: بأن سيبويه لم ينص بناء أفعل التفضيل من أفعل بل قال: فعل التعجب ينبني من فعل وأفعل. قالوا: وأفعل التفضيل ينبني مما بني به فعل التعجب.
قال ابن عرفة: فظاهره أنه لم يحك بناء وهي من أفعل.
789
وقال ابن خروف: رأيت في النسخ المشرقية أنّه يبنى من فَعَلَ وفَعُلَ وأفْعَلَ زاد في النسخ الرياحية إلا أنّ بناءه من أفعل قليل. وقد نص على صحة بناء التعجب من أفعل مبني منهما.
وقول ابن عطية: انظر هل يكون من قَسُط بالضم غير صحيح لأنه لم يحك فيه (أحد) قسُط.
وقول الزمخشري: إنه يجوز على مذهب سيبويه صحيح على ما قاله ابن خروف، ولا يحتاج إلى جعله على طريق النّسب إلاّ لو لم يثبت فيه الرّباعي.
قوله تعالى: ﴿وأدنى أَلاَّ ترتابوا... ﴾.
ابن عرفة: إن أريد بالرّيبة مطلق الاحتمال فيكون فيه منح الشّهادة بالمفهوم لأنه ظنّي فلا (ينتفي) فيه الاحتمال. وقد قدمنا فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يشهد بها على القطع.
الثاني: أنّه لا يشهد.
الثالث: أنّه يشهد بها بالفهم على نحو ما تحملها.
790
قال ابن عرفة: وإن أريد بالريبة الشك فلا يكون فيه دليل على ما قلنا.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً... ﴾.
قال ابن عرفة: إن أراد بالأول الدّين وبهذا الحاضر / فيكون حينئذ استثناء منقطعا وإن (أراد) بالأول مطلق المعاملة فهو متصل.
فإن قلت: هل في الآية دليل لمن يقول:: إنّ الاستثناء من الإثبات ليس بنفي كالاستدلال بقول الله تعالى ﴿فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى﴾ لقول الله تعالى ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ وإلا لما كان له فائدة.
(فالجواب) أنّ الأول تناول الكتب والإشهاد، فلو لم تذكر هذه الزيادة لأدّى إلى إهمال الإشهاد والكتب. فأفادت
791
هذه الزيادة رفع الجناح عن الكتب في الحاضر وبقاء الأمر في الإشهاد فيها من غير كتب.
أبو حيان: وقيل الاستثناء متصل راجع (لقوله) «وَلا تَسْئَمُوا».
وقَدّر أبو البقاء معنى الاتصال في الاستثناء لأنه أمر بالاستشهاد في كل معاملة، واستثنى منه التجارة الحاضرة. والتقدير: إلاّ في حال الحضور للتجارة.
قال الصفاقسي: وفي هذا التقدير نظر. انتهى.
قوله تعالى: ﴿وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ... ﴾.
هذه تضمنت الإشهاد من غير كتب فلا تناقض ((في قوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا﴾ لأن تلك إنّما اقتضت رفع الجناح عن عدم الكتب و (بقي) الإشهاد مطلوبا)).
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ... ﴾.
يحتمل أن يكون أصله يضارِرُ مبينا للفاعل أو يضارَرُ مبينا للمفعول.
792
قال ابن عرفة: ويصح حمله على الأمرين معا على القول بجواز تعميم اللفظ المشترك في مفهوميه معا، كما قالوا في الجور والقرء ونحوه.
قيل لابن عرفة: هذان لفظان وذلك إنما هو (في) اللّفظ الواحد كذا قال الفخر؟
فقال ابن عرفة: قد قال سيبويه في المشترك إنهما لفظان دالاّن على معنيين. ذكره في باب المستقيم والإحالة في (وجدت).
وقال ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية في المسألة الخامسة من الباب الثالث في قوله ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ إنّه يحتمل أن يكون مضافا للفاعل والمفعول معا، ثم رده بأنه إذا (عمّمنا) في الأمرين يلزم أن يكون مرفوعا ومنصوبا في حالة واحدة وذلك جمع بين النقيضين.
فإن قلت: لم عبر في «شهيد» بلفظ المبالغة دون «كاتب».
قلت: إنّ ذلك فيمن برّز وبلغ إلى درجة العدالة.
واختلف (الناس) في جواز أخذ الأجرة على الشهادة والمعروف المنع.
793
وبعضهم أجازها إذا كان منقطعا عن أسبابه إليها. وقيل: إن كان له من المعرفة (ما) يفتقر بها إليه في النظر في الوثيقة ليصححها فقها وكتابة باعتبار سلامتها من اللّحن المخل فيجوز له أخذ الأجرة وإلاّ فلا.
وقال الحافظ أبو عمرو عثمان بن الصلاح في علوم الحديث ما نصه: من أخذ على التحديث أجرا فقال (إسحاق) بن ابراهيم وأحمد ابن حنبل وأبو حاتم الرازي في ذلك مانع من قبول روايته فلا يؤخذ منه. وترخص أبو نعيم الفضل بن (دكين) وعلي بن عبد العزيز (المكي) وآخرون فأجازوا أخذ العوض عن التحديث وشبهوها بأخذ الأجرة على إقرائهم القرآن على أنّ في هذا من حيث العرف خرما للمروءة والظّن (السّوء) بفاعله إلاّ أنْ يقترن
794
ذلك بما ينفيه كما كان أبو الحسن السّعودي (وأفتى به) الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أنّ أصحاب الحديث كانوا يمنعونه عن الكسب لعياله. انتهى.
ذكره في النوع الثالث والعشرين (في إكمال عياض في كتاب الطب في أحاديث الرقى. أجاز الإمام مالك وأحمد بن حنبل والشافعي وأبو ثور وأبو إسحاق أخذ الأجرة على الرّقية والطب وعلى تعليم القرآن. ومنع الإمام أبو حنيفة وأصحابه الأجرة على تعليم القرآن وأجازوا الأجرة على الرقية).
قال ابن عرفة: (فحاصله) أنه إن كان انقطاعه لذلك يشغله عن معاشه وكان فقيرا محتاجا لما يتعيش به ولم يكن عنده من المال ما يستغني به عن طلب المعاش فيجوز له أخذ الأجرة وإلاّ فلا.
795
وحكى أبو العباس أحمد بن حلولو عن والده أنّ القاضي أبا محمد عبد الله اللّخمي بعث له صهره سيدى أَبَو علي بن قداح بزير لبن فشربه ثم سمع أنه من عند شاهد يأخّذ الأجرة على الشهادة، فتقيأه، ثم لما صار هو شاهدا كان يأخذ في الشهادة قدر الدينار كل يوم، وما ذلك إلا لأنّه كان يأخذ ذلك من وجهه، والشاهد الأول لم يكن يأخذ ذلك من وجهه.
قوله تعالى: ﴿وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ... ﴾.
الفسق في اللّغة مطلق الخروج عن الحدّ وفي الشّرع هو تعدّي الحدود الشرعية.
قوله تعالى: ﴿واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله... ﴾.
قال ابن عرفة: هذا دليل على ثبوت اشتراط العلم في الكاتب والشاهد.
قوله تعالى: ﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
اختلفوا في لفظ (شيء) هل يصدق على المعدوم أو لا؟
وقال الشيخ القرافي في تأليفه على الأربعين لابن الخطيب: إن ذلك الخلاف إنما هو في كونه محكوما به لا في كونه متعلق الحكم كقولك: المعدوم شيء. وأما مثل ﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فهو متعلق الحكم.
796
قال ابن عرفة: إنما الخلاف مطلقا، وما ذكروا هذا إلا في اسم الفاعل المشتق وأما في هذا فقد ذكره الآمدي في أبكار الأفكار مطلقا.
ابن عرفة: والآية حجة بأنّ المعدوم ليس بشيء وهو مذهب أهل السنة.
797
قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ... ﴾.
ابن عرفة: مفهوم الآية ملغى بنصّ السّنة لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رهن درعه في الحضر. وأيضا فهو مفهوم خرج مخرج الغالب لأن السفر مظنة لعدم وجدان الكاتب أو هو شيء من الأدلة غالبا بخلاف الحضر.
قال ابن عطية: أجمع الناس على صحة قبض المرتهن وعلى قبض وكيله. واختلفوا في قبض عدل فجعله الإمام مالك قبضا.
قال ابن عرفة: إذا لم يكن من جهة الراهن.
وقال الحكم بن عيينة وقتادة: ليس بقبض.
قال ابن عرفة: إذا قبض المرتهن الرهن ولم يزل حائزا له كان أحق به لا خلاف. وإن كان قبضه بالشهادة ثم أذن المرتهن للراهن في التصرف فيه فتصرف فيه الراهن بطل الحوز بلا خلاف، وإن أذن المرتهن للراهن في التصرف فيه فلم يتصرف فيه ولم يزل بيد
797
المرتهن فظاهر كتاب الرهن في المدونة أنه مبطل للحوز. وظاهر كتاب حريم البير منها أنه غير مبطل (بناء) على أن الحوز شرط في لزوم الرهن أو في استحقاق الرهن.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ... ﴾.
ظاهره جواز إعطاء الدين وجواز أخذه من غير رهن فتكون ناسخة لما قبلها لأن عمومها يقتضي اشتراط أخذ الرهن فيه.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة... ﴾.
راجع لحالة (الأداء).
798
قوله تعالى: ﴿وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ... ﴾.
قال الزمخشري: لم قال ﴿آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ فخصص الإثم بالقلب وهلا علقه بجميع الجسد؟ وأجاب بأربعة أوجه:
الأول: أنه تحقيق لوقوع الإثم ثم لأن كتمان الشهادة من فعل القلب وإثمها مقترن بالقلب فلذلك أسند إليه.
للثاني: أنّ القلب الأصلُ لحديث «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
الثالث: أنّ القلب أصل واللّسان ترجمان له.
الرابع: أن أفعال القلب أعظم من أفعال الجوارح وإثمه أعظم من إثمها.
قال ابن عرفة: ومنهم من كان يجيب بأن القلب يستوي فيه الفعل والترك وليس بينهما تفاوت إذ لا أثر (للترك) فيه بالنّسبة إلى الفعل بخلاف الجوارح فإنّ الفعل يمتاز عن التّرك (بالبديهة) وكتمان الشهادة ترك فلو أسند للجوارح لما حسن (ترتب) الإثم عليه فلذلك أسند للقلب الذي هما فيه مستويان.
799
قوله تعالى: ﴿لِّلَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض... ﴾.
احتجوا بها على أنّ أعمال العباد مخلوقة لله لأنّها (مما) في السماوات وما في الأرض. واحتجّوا بها على أن السّماء بسيطة إذ لو كانت كروية لكانت الأرض (مما) فيها ولم يكن لقوله: ﴿وَمَا فِي الأرض﴾ فَائِدَة؟
وأجيب: بأن ذكرها بالمطابقة أولى من ذكرها بالتضمّن والالتزام، لأنها مشاهدة مرئية، ومذهب (المتقدمين أنها بسيطة ومذهب) المتأخرين أنها كروية.
قال الغزالي في النّهاية ولا ينبني على ذلك الكفر ولا إيمان.
قوله تعالى: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله... ﴾.
من إقامة المسبب مقام سببه لأن المحاسبة (عليه) متسبّبة عن العلم به أي يعلمه الله فيحاسبكم عليه، وما في النّفس إن كان وسوسة وترددا من غير جزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به (وإن كان على سبيل الجزم والمواطأة عليه فإما أن يكون له أثر في الخارج أو لا. فإن كان قاصرا على نفس الإنسان ولا أثر له في الخارج كالإيمان
800
والكفر خلاف في المؤاخذة، وإن كان له أثر في الخارج فإن تمّ بإثره فلا خلاف في المؤاخذة)، كمن يعزم على السرقة ويسرق أو على القتل ويقتل، وإن عزم عليه في نفسه ورجع عن فعله في الخارج فإن كان اختيارا لغير مانع فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، بل ذكروا أنه يؤجر على ذلك كما في بعض طرق الحديث (إن) تركها (مأجور)، وإن رجع عنه لمانع منه ففي المؤاخذة به قولان.
هذا محصول ما ذكره القاضي أبو الفضل عياض في الإكمال: «إذا هم العبد بسيئة فلم يعملها» الحديث ذكره مسلم في كتاب الإيمان.
قال ابن عرفة: والكفر خارج من هذا لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ﴾
801
وحكى ابن عطية عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وجماعة أنها لما نزلت قال الصحابة: «هلكنا إن حوسبنا بخواطرنا». فأنزل الله ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ فمنهم من جعلها ناسخة.
وضعفه ابن عطية لأنه خبر فلا ينسخ. قال لكن ورد أنهم لما قالوا: هلكنا، قال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قولوا: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» فقالُوا فنزلت ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً﴾ فصح النسخ وتشبه الآية حيئنذ قول الله تعالى في الأنفال: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ﴾ ثم نسخت بصبر المائة للمائتين.
قال ابن عرفة: آية الأنفال ليس فيها إلا النسخ لأنّه رفع كلّ الحكم (وآيَتُنَا) هذه تحتمل النسخ والتخصيص كما قال بعضهم.
802
قال ابن عرفة: ونظير الآية ما خرج مسلم في كتاب الإيمان عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت
﴿الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن﴾ شق ذلك على أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (وقالوا أيّنا لم يظلم نفسه) فقال لهم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: ﴿يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ ».
قال ابن عرفة: وذكر الفقهاء الخلاف إذا شهد شاهدان لرجل بشيء مظروف في شيء وماتا أو غابا هل يكون له الظرف (أم لا) ؟ قالوا: إن كان الظرف من ضرورياته لا يمكن أن يجعل إلا فيه كالزيت والخل فهو له بما / فيه باتفاق. وإن لم يكن من ضرورياته كجبّة في صندوق أو في (صرّ) ففي كون الظرف له خلاف.
وذكره ابن الحاجب في كتاب الإقرار قال فيه ما نصه: وثوب في صندوق أو منديل ففي لزوم ظرفه قولان بخلاف زيت في جرة، وجبة وبطانتها، وخاتم وفصه، أي يقبل قوله.
قال ابن عرفة: والآية حجة لمن يقول شهادتهما بالمظروف يستلزم الظرف لأن كون ﴿لِّلَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ يستلزم أن السماوات نفسها له.
803
قَال ابن عرفة: الآية حجة أيضا لمن يقول: إن الطلاق بالنية (لا) يلزم عندنا وفيه خلاف والمشهور أنه غير لازم.
قوله تعالى: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ... ﴾.
قال الزمخشري: وقرىء فَيَغْفِرْ (بالجزم) في جواب الشرط.
ورده أبو حيان بأن النحويين نصّوا على أن الفاء إنما تنصب في الأجوبة الثمانية ولم يعدوا منها الشرطية. فجعله معطوفا على مصدر مقدر فيكون من عطف الفعل على الاسم الملفوظ به.
ونص الشلوبين على أنّ قول (النحويين) الأجوبة الثمانية ليس على ظاهره بل مرادهم كل ما ليس واجبا أعني ما ليس بخبر فيدخل فيه الشرط.
وتحامل الزمخشري هنا (وأساء الأدب) على السوسى
804
من طريق أبي عمرو وخّطأه كما خطّأ (الصيمري) في تبصرته (والزّجاج) وكذا خطأ ابن عامر في قراءته ﴿وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ﴾ ولكن تخطئته هنا لأبي عمرو من طريق السوسي أشنع.
قال ابن عطية: هنا عن النقاش: فيغفر لمن يشاء (أي) لمن (ينزع) عنه، ويعذب من يشاء أي من أقام عليه.
805
قال ابن عرفة: وهذا نحو ما قال الزمخشري، وفيه إيهام الاعتزال.
قلت: لأنه يوهم أنّ المعاصي لا تغفر إلا بالتوبة ومذهب أهل السنّة أنه يجوز أن يغفر له وإن لم يتب (منها) إلاّ الكفر.
قوله تعالى: ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
قال ابن عرفة: لفظ (شيء) يطلق على المعدوم والموجود فأفاد أنّه على كل شيء مما في السموات والأرض ومما هو خارج (عنهما) قدير. قال (والفضاء الذي بين السماء والأرض تقول إنّه عامر وإنه خارج عنها وهي مسألة الخَلاء والملاء) ونقول: تناولت الآية الأمر الحالي والماضي ونفي المستقبل غير داخل فيها فلذلك قال: ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ليدخل المستقبل.
806
قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ... ﴾.
ذكر ابن عطية سبب نزول الآية أنها لما نزلت ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾.. الآية شق ذلك على المؤمنين ثم قالوا ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾. فَمَدحهم الله وأثنى عليهم ورفع عنهم المشقة بقوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾
806
قال ابن عرفة: وضم الإخبار عنهم بالإيمان في هذه الآية إلى هذا السبب يقتضي استلزام الإيمان للعمل الصالح، قال: وفيها سؤال وهو أن الفاعل مخبر عنه بفعله وتقرر أنه لا يجوز (قام) القائم، ولا ضرب الضارب، إذ لا فائدة فيه، فلو قيل: «آمن الرسول والصحابة لأفاد، فكيف قال (آمَنَ) المؤمنون؟
والجواب: أنّه يفيد إذا (قيد بشيء) كقولك قام: في الدّار القائم، وهنا أفاد تقيده وهو قوله ﴿بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ﴾. انتهى.
فإن قلت: لم ذكر الرسول ومعلوم أنه آمن؟
قلت: إنه ذكر مع المؤمنين تشريفا لهم وتعظيما إذ لا ينظم الجوهر النفيس إلا (مع) نفيس مثله.
قال ابن عرفة: قال ابن عطية: و»
كل «لفظة تصلح للاحاطة والقرينة تبين ذلك. انتهى.
قال ابن عرفة: وظاهر أنّها ليست نصّا في العموم خلافا للأصوليين فإنهم ذكروها في ألفاظ العموم وتقدم للنحويين التفريق بين رفعها ونصبها في قوله:
807
فقالوا: رفعها أعم.
قلت: إنما أراد ابن عطية قولهم: كل الصيد في جوف الفراء. ورأيت رجلا كل (الرجل) وقولهم: أكلت شاة كل شاة.
قوله تعالى: ﴿وملائكته... ﴾.
قال ابن عرفة: لا بد في الإيمان بالملائكة من استحضار أنّهم أجسام متحيزة (منتقلة) كبني آدم.
ولذلك قال أبو عمران الفارسي في المسألة المنقولة عنه في الكفار: إنّهم ما عرفوا (الله) قط ولا آمنوا به خلافا للغزالي من أهل السنة (فإنه) قال في الملائكة إنهم أجسام لطيفة لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز ونحا في هذا منحى الفلاسفة.
قيل لابن عرفة: إنّ (المقترح) توقف فيهم؟
فقال: إنما توقف في إثبات الجوهر (الفرد) وهو شيء لا متحيز ولا قائم بالمتحيز ولم يتوقف في الملائكة.
قوله تعالى: ﴿وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ... ﴾.
808
قال الزمخشري: قرأ ابن عباس:» وَكِتَابِهِ «يريد القرآن وعنه الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت: كيف يكون الكتاب أكثر من الكتب؟
قلت: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وحدان (الجنس) كلها لم يخرج منها شيء، وأما الجمع فلا يدخل تحته (الاّ ما فيه الجنسية من المجموع. وقدره الطيبي بأن المفرد إذا أريد به الجنس يدخل تحته) المجموع والأشخاص بخلاف الجمع فإنه لا يتناول إلا المفردات فقط.
قيل لابن عرفة: قد اختلفوا في المفرد المحلى بالألف واللاّم (هل يفيد العموم، واتفقوا على أنّ الجمع يفيد العموم لا سيما المحلى بالألف واللاّم) ؟
فقال: (ما كلامنا) إلا فيما ثبت فيه العموم من مفرد أو جمع، فالمفرد الذي يثبت فيه العموم (أعم من الجمع الذي يثبت فيه العموم).
809
وكلام أبي حيان في هذا الموضع غير صحيح وكذلك كلام الطيبي.
قال: وقد ذكر القرافي في الخلاف في دَلاَلة العام على أفراده هل هي تضمن أو التزام ونص على / أن المفرد الذي أريد به العموم دال على أفراده ومسمياته وذلك كان أعم من الجمع.
قيل لابن عرفة: لعل دلالته على العموم بقرينة حالية؟
فقال: إذا تعارض صرف الدلالة للفظ أو لقرينة فصرفها للفظ أولى. انتهى.
قلت: لأن دلالة الجمع على أفراده من باب دلالة اللفظ على جزء مسماه ودلالة المفرد من باب دلالة اللفظ على تمام مسماه لأنه يدل على هذا المسمى وحده وعلى هذا بدلا عنه.
قال ابن عرفة: ودلالة المطابقة حقيقة ودلالة التضمن والالتزام مجاز.
810
فإن قلت: ليس الكتب في الآية معرفا بالألف واللاّم (بل مضافا) ؟
قلت: الإضافة عاقبة الألف واللاّم.
ولذلك قال ابن التلمساني شارح المعالم في المسألة الثانية من الباب الثالث: إن من ألفاظ العموم صيغ الجموع المعرفة بلام الجنس أو بالإضافة.
ابن عرفة: وفائدة هذا الترتيب في الآية ما يقولونه: وهو التركيب والتحليل لأنّك إن بدأت من أول قلت: الله الأول، والملائكة يتلقون الوحي منه، والوحي في ثالث رتبة، لأنّه ملقى ومتلقى كقولك: أعطيت زيدا درهما، فالدرهم معطى ومأخوذ، فهو مفعول بكل اعتبار، وزيد فاعل ومفعول فالرسل في الرتبة الرابعة. وإن بدأت من أسفل قلت: الرسل المباشرون لنا والقرآن هو الذي يقع به المباشرة وهو منزل عليهم ثم من أنزله من عنده.
قوله تعالى: ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ... ﴾.
فإن قلت: كيف هذا مع قوله ﴿تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ قلت: إذا أسند الحكم إلى الشيء فإنما يسند إليه باعتبار (وصفه) المناسب له وقد قال: «من رسله» فما التفريق بينهم إلا في وصف
811
الرسالة أي لا نؤمن ببعضهم ونترك بعضهم بل نؤمن بالجميع. قال الله تعالى ﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ.﴾
812
قوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا... ﴾.
ابن عرفة: تقدم في الآية السابقة أنّها (إما) منسوخة او مخصوصة بهذا أو مبيّنة بهذا.
زاد ابن الخطيب أنها من كلام الناس.
ورده ابن عرفة: بأنّ هذا خبر فلا يصح أن يكون من كلام الناس إذ لا طريق لهم إلى معرفته إلا أن يكون أنزل قبله ما هو في معناه.
قال ابن عرفة: وتكليف ما لا يطاق فيه ثلاث أقوال:
مذهب أهل السنة جوازه، ومذهب المعتزلة منعه، والثالث الوقف.
وإذا قلنا بالجواز فهل هو واقع أم لا؟ فيه خلاف. وتردد الأشعري في وقوعه، وقسمه ابن التلمساني على خمسة أقسام والخلاف إنما هو في قسمين وهما المستحيل عقلا والمستحيل عادة، وما عداهما فلا خلاف فيه إذ ليس من تكليف ما لايطاق.
قال في (شرح) المحصول: وفائدة التّكليف بالمستحيل عقلا أو عادة أن يكون علامة على (شقاوة) المكلف بذلك لأنه
812
لا يتوصل إلى امتثاله والآية حجة لمن يجيز التكليف (بما) لا يطاق ويبقى وقوعه إذ لا (ينفى إلا) ما هو ممكن الوقوع و (من) قال بوقوع تكليف ما لا يطاق واحتج بقضية أبي لهب فإنه مكلف بأن لا يؤمن لقوله تعالى: ﴿سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ﴾ وهو مكلف بأن يؤمن بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم وبجميع ما جاء به ومن جملته هذا.
وأجاب تاج الدين الأرموي في شرح الحاصل بأنه مكلف بأن يؤمن بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبما جاء به إيمانا جمليا لا تفصيليا.
قال الفخر وابن التلمساني: من تكليف ما لا يطاق التكليف بما علم عدم وقوعه.
فقال ابن عرفة: هذا وهم وليس ذلك من تكليف ما لا يطاق بوجه لأنه ممكن في نفس الأمر فهو (مطيق) فعله كتكليف العصاة بالصلاة في الوقت فيفعلونها بعد الوقت قضاء.
قيل لابن عرفة: ما فائدة الخلاف (بتكليف) ما لا يطاق بالنسبة إلى النائم؟
فقال: قد ذكروا في النائم أنّه إذا ضرب (برجله) إناء فكسره فإنه يضمنه. وكذلك إذا ضرب أحدا فقتله فهل تضمينه ذلك من تكليف ما لا يطاق أم لا؟
813
والظاهر أنه من خطاب الوضع والإجبار.
قوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت... ﴾.
ذكر (الزمخشري) وابن عطية وجه المغايرة بين الفعلين وهما متقاربان.
فتقرير ما قال ابن عطية (والزّمخشري) أنّ المكلّف بفعل الطاعة مستحضر للثواب عليها فيسهل عليه أمرها من غير تكليف
814
طبيعي ولا وازع له عن فعلها، وفاعل المعصية يستحضر العقوبة عليها في الدّار الآخرة فشهوته تحمله عليها وتكلفه على فعلها وتوجب معاندته للوازع الديني.
وتقرير كلام الزمخشري كأنه على عكس هذا لكنه في الحقيقة راجع إلى هذا وهو أنّ الشّر مما تشتهيه النفوس وتأمر به فهي في تحصيله أعمل وأقوى اجتهادا (فجعلت) له مكتسبة ولما لم تكن كذلك في الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الفعل والتكليف.
وقال ابن الصائغ في باب ما جاء من المعدول على فعال: لما كان الإنسان يثاب على قليل الخير وكثيره استعمل فيه اللّفظ العام للقليل والكثير وهو «كسب»، ولما كانت الصغائر معفوا عنها بفضل الله عَزَّ وَجَلَّ جاء بلفظ الكثير إشعارا بأنها ليس عليها إلا ما فوق الصغائر قال هذا بعد أن ذكر أن: كَسَبَ واكْتَسَبَ إن اجتمعتا في كلام واحد كانت «كَسَبَ» عامة (في الأمرين) و «اكْتَسَبَ» خاصة بالكثير وإن انفردت إحداهما عمت في الأمرين.
وقال القرافي في قواعده: إنها تدل على أن المصائب لا يثاب عليها لأنها ليس للمكلف فيها اعتماد.
قلت: وفي شرح أبيات الجمل لابن هشام / النحوي حكى ابن جني عن الزجاج أنه يقال: جزيته في الخير وجازيته في
815
الشر فيستعمل فعل الزيادة في الشر وفعل النقص في الخير ومنه ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت﴾. وقول الشاعر أيضا:
إنا اقتسمنا خطيئتنا بيننا... فحملت بِرّهُ واحتملت فجار
قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا... ﴾.
قال الزمخشري: فإن قلت: النسيان والخطأ متجاوز عنهما فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة فيهما؟
وأجاب بأن الدعاء راجع لسببهما وهو التفريط والغفلة.
قال ابن عرفة: هذا على مذهبه في منع تكليف ما لا يطاق لأنه دعاء بتحصيل الحاصل ونحن نقول: يجوز الدعاء بتحصيله لأنه ممكن باعتبار الأصالة.
فإن قلت: الأصل تقديم الشّرط نحو أن يقال: إن نسينا أو أخطأنا فلا تؤاخذنا؟
قلت: قدم المدعو به للاهتمام به.
قال ابن عرفة: فالنسيان والخطأ مرفوع عن ابن آدم فيما بينه وبين الله تعالى. قيل له: قد قال الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في العتبية فيمن حلف بالطلاق: ليصومن يوم كذا فأفطر ناسيا: إنّه لا شيء عليه؟
فقال: قال ابن رشد وابن دحون: أي لا حنث له.
816
وقال السيُورِي: واختاره اللخمي أي لا فضل عليه، واحتج بحديث: «حمل (عن) أمتي أخطاؤها ونسيانها.
وأجاب الآخرون: بأن الذي حمل إنما هو إثم الخطإ والنيسان لا نفس الخطإ. وذكرها ابن الحاجب في كتاب الأيمان والنذور، قال: وفيها ما نصه:»
والنسيان في المطلق كالعمد على المعروف، وخرج الفرق من قوله: من حلف بالطلاق لأصومن كذا فأفطر ناسيا فلا شيء عليه «.
قلت: ووقعت هذه المسألة في رسم سلف سمع من سماع عيسى من كتاب الأيمان والنذور بالطلاق.
817
(وقال ابن رشد: أي لا حنث عليه إذا كان ناسيا بخلاف ما لو أصبح مفطرا) ناسيا ليمينه، مراعاة للخلاف في وجوب القضاء على من أفطر في التطوع متعمّدا وفي رمضان ناسيا لما جاء في ذلك.
قيل لابن عرفة: قد قالوا: إذا قتل رجل خطأ: إنّ على قاتله صوم شهرين؟
فقال: النسيان إنما هو في رفع الإثم وليس سببا في صومه والقتل سبب في الصوم والشرع رتب عل ذلك القتل صوما فيجب عليه امتثاله (لا لأنه) كفارة بل الإثم ساقط عنه. انتهى.
قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا... ﴾.
قال أبو حيان: قرىء بالتشديد والتّخفيف. قال: في التشديد إما للتعدية أو للمبالغة.
قال ابن عرفة: فظاهره أنه لهما على (البديلة) ومنهم من قال: يصح كونه لهما على المعية وقال بعضهم: أما المبالغة هنا مع التشديد فظاهرة، وأما مع التخفيف (فمستفادة) من لفظ «على» لاقتضائها الاستعلاء والاستيلاء.
فإن قلت: ما الفائدة في قوله: ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ﴾ ولو أسقط «كما» (احتمل) المعنى، وإسقاطه كان يكون أتمّ وأبلغ لأن نفي «إِصْرا» مطلق أبلغ منه مقيدا؟
818
(قال) ابن عرفة: وعادتهم (يجيبون) بأن الدعاء حالة الخوف مظنة الإجابة فهو فيه أقوى (منها) حالة عدم الخوف لأن الخوف أقرب لمقام التضرع والالتجاء. فذكر عقوبة من مضى في هذا مما يزيد في الخوف ويقوي فيه العبودية والتضرع والالتجاء.
قال ابن عطية: ولا خلاف أن المراد ب ﴿الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا﴾ اليهود.
ابن عرفة: لأن (تكاليفهم) والتشديد الواقع في شريعتهم أكثر من النصارى وغيرهم، قال الضحاك: اليهود والنصارى.
قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ... ﴾.
تقدم إما أنه راجع لأمور الآخرة أو للتكاليف الدنيوية فإن كان للآخرة فهو تأسيس وإن كان للدنيا فهو تأكيد، إن أريد بما لاَ طاقة لنا به الحقيقة وهو ما ليس في قدرة البشر لأن الدعاء لنفي (الإصر) يستلزم الدعاء بنفي ما فوقه، وإن أريد به المجاز كما أشار إليه ابن عطية في أحد التفاسير من أنّه الأمر المستصعب وإن (كانت) تطيقه فيكون تأسيسا.
قوله تعالى: ﴿واعف عَنَّا... ﴾ الآية.
819
قال ابن عرفة: وجه الترتيب هذا أن العفو عبارة عن عدم المؤاخذة بالذّنب، وما يلزم من الدعاء برفع (الأمر) الذي في قدرة البشر بمشقة أو الخارجة عن قدرة (البشر)، عدم المؤاخذة بالذنب. ثم عقبه بالمغفرة لأنه لا يلزم من عدم المؤاخذة ستر ولأنه قد لا يؤاخذه به ويظهره عليه، ثم عقبه بالرّحمة لأنّ العفو والمغفرة من باب دفع المؤلم والرحمة من باب جلب الملائم، فدفع المؤلم آكد وأولى من جلب الملائم ونحوه لابن الخطيب.
قال ابن عطية: وقال سلام بن سابور الذي لا طاقة لنا به الغُلْمةُ.
وروي أَن أبا الدرداء كان يقول في دعائه: وأعوذ بك من غلمة ليس لها عدة.
ابن عرفة: الغلمة (هي) قوله: أنت مولانا فانصرنا.
820
الزمخشري: أي سيدنا وناصرنا ومتولي أمرنا ومالكنا.
ابن عرفة: السيد والناصر إطلاقه عليهما من قبيل المشترك والمتولي والمالك ينبغي أن يحمل على أن المراد الأخص منهما ليدخل تحت الأعم من باب أحرى.
قال الزمخشري: وعنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من قرأ الآيتين من سورة البقرة في كل ليلة كفتاه».
قال ابن عرفة: أولهما «آمَنَ الرّسُول» ومعنى كفتاه أي يرفعان قارئهما عن رتبة من حرم قيام الليّل.
قلت: وفي إكمال القاضي عياض أي في كتاب الطب: أي كفتاه كل هامة وشيطان فلا يضره (وفي سلاح المؤمن معنى كفتاه أجزأتاه عن قيام الليّل. وقيل: كفتاه من كل شيطان لم يضر به ليلته «وقيل: كفتاه مما يكون من تلك اللّيلة من الآفات وقيل: حسبه بهما فضلا وأجرا. ويحتمل الجميع والله سبحانه وتعالى أعلم).
821
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
قد أصبحت أم الخيار تدعي عليّ ذنبا كله لم أصنع