سهامه" فالأوّل: هو العالم غير العامل، والثاني: هو العالم العامل الذي يُؤثِّر كلامه في القلوِب، وتُنْتِج كلمته ثمراتِ الحكمَة، والعبرةَ، والفكرةَ.
ومعنى الآية (١): أيْ: إنّه حين جاء النبيُّ - ﷺ - بكتابٍ مصدِّقٍ للتوراة التي بين أيديهم بما فيه من أصول التوحيد، وقواعد التشريع، وروائع الحكم والمواعظ، وأخبار الأمم الغابرة، نبذ فريقٌ من اليهود كتابهم وهو التوراة؛ لأنّهم حين كفروا بالرسول المصدِّق لما معهم، فقد نبذوا التوراة التي فيها أنَّ محمد رسول الله، وأهملوها إهمالًا تامًّا كأنَّهم لا يعلمون أنها من عند الله تعالى، وقد جعل تركهم إيَّاها، وإنكارهم لها إلقاءً لها وراء الظهر؛ لأنَّ من يلقي الشيء وراء ظهره لا يراه فلا يتذكَّره.
فعلى العاقل (٢): أن يسارع إلى الامتثال خوفًا مِنْ بطشِ يدِ ذي الجلال، ويقال: الندامةُ أربعٌ: ندامةُ يومٍ: وهي أنْ يَخْرُج الرجلُ من منزله قبل أن يتغدَّى، وندامةُ سنة: وهي تَرْكُ الزراعة في وقتها، وندامةُ عُمْر: وهو أن يتزوَّج امرأة غير موافقة، وندامةُ الأبَدِ: وهي أن يترك أَمْرَ الله، ومجرَّدُ قراءة الكتاب بِترْياقِ الظاهر لا يدفع سُمَّ الباطن، فلا بدّ من العمل بما علم، كما أنَّ من كان ينظر إلى كُتُب الطبّ، وكان مريضًا، فما دام لم يباشر العلاج لا يفيد نظره بالأدوية، وكان خُلقه - ﷺ -: القرآن؛ يعني: يعملُ بأوامره، وينتهي عن نواهيه. وقال السدي (٣) لمَّا جاءهم محمدٌ - ﷺ - خاصموه بالتوراة، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة لموافقة القرآن لها، وأخذوا بكتابِ آصفِ بن بَرْخِيَا، وسِحْر هاروت وماروت، فلم يوافق ذلك القرآن، كما قال تعالى:
١٠٢ - ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ معطوف على نَبَذ؛ أي: ولمَّا جاءهم كتاب مِنْ عند الله، نبذ فريق من أهل الكتاب كتاب الله وراءَ ظهورهم واتَّبعوا؛ أي: واتبع أولئك الفريق؛ يعني: علماءَهم وأحبارَهم
﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾؛ أي: تَلَتْهُ الشياطين وقرأَتْهُ، والإتيان (٤) بصيغة المضارع في تَتْلُوا؛
137
لحكاية الحال الماضية، والمراد بالاتِّباع: التوغُّل والتمحُّض فيه، والإقبالُ عليه بالكلّية. وقرأ الحسن (١)، والضحَّاك:
﴿الشياطون﴾ بالرفع بالواو وهو شاذٌّ، قاسه على قول - العرب: بستان فلانٍ حوله بساتون، رواه الأصمعي، قالوا: والصحيح: أنَّ هذا لحنٌ فاحشٌ، وقال أبو البقاء: شبَّه فيه الياء قبل النون بياء جمع الصحيح، وهو قريبٌ من الغلط، وقال السَّجَاوَنْدِيُّ: خَطَّأَهُ الخَازَرَبَجِيُّ.
أي: واتَّبعوا ما كانت الشياطين تتلوه وتقرؤه
﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ بن داود عليهما السلام؛ أي: في عهده وزمان ملكه من السحر، وتكذيبه على سليمان، والكلام على حذف مضاف، وعَلَى بمعنى: في، وكانت الشياطين دفنتهُ تحت كرسيه لمَّا نُزِع ملكه، فلم يشعر بذلك سليمان، فلمَّا مات استخرجوه، وقالوا للناس: إنّما مَلككم سليمان بهذا، فتعلَّموه، وأقبلوا على تعلُّمه، ورفضوا كتب أنبيائهم، وفشَتْ الملامةُ على سليمان، فلم تزل هذه حالَهم حتى بعث الله تعالى محمدًا - ﷺ - وأنزل الله عليه براءةَ سليمان، فقال: وما كفر سليمان الخ.
قال السديُّ (٢): كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت، وغيره، ويأتون الكهنة ويُخلِّطون بما سمعوا في كُلِّ كلمة سبعين كذبةً، ويخبرونهم بها، فاكتتبت الناس ذلك، وفشا في بني إسرائيل: أنَّ الجنّ تعلم الغيب، وبعث سليمان في الناس، وجمع تلك الكتب، وجعلها في صندوق، ودفنه تحت كرسيه، وقال: لا أسمع أحدًا يقول: إنّ الشيطان يعلم الغيب إلّا ضرَبْتُ عنقهَ، فلما مات سليمان، وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أَمْرَ سليمان، ودَفْنَه الكُتبَ، وخَلفَ من بعدهم خلفٌ تمثَّل الشيطان على صورة إنسان، فأتى نفرًا من بني إسرائيل، فقال: هل أدلُّكم على كنزٍ تأكلونه أبدًا؟ قالوا: نعم، قال: تحت الكرسي، وذهب معهم، فأراهم المكان، وقام ناحيةً، فقالوا: ادْنُ، قال: لا ولكني ها هنا، فإِنْ لم تجدوه، فاقتلوني، وذلك أنَّه
138
لم يكن أحدٌ من الشياطين يَدْنُو من الكرسي إلّا احترق، فحفروا، وأخرجوا تلك الكتب، قال الشيطان: إنّ سليمان كان يضبط الجنَّ، والإنس، والشياطين، والطير بهذه، ثمّ - طار الشيطان، وفشا في الناس أنَّ سليمان كان ساحرًا، وأخذ بنو إسرائيل تلك الكُتب، فلذا أكثر ما يُوجَدُ السحرُ في اليهود، فلمَّا جاء محمد - ﷺ - بَرَّأَ الله سليمان عليه السلام من ذلك، وأنزل عُذْر سليمان، بقوله واتبعوا ما تتلوا الشياطين في زمن ملك سليمان
﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ بالسحر وعمله؛ يعني: لم يكن ساحرًا؛ لأنَّ الساحر كافرٌ، والتعرُّض لكونه كفرًا؛ للمبالغة في إظهار نزاهته عليه السلام، وكذب باهتيه بذلك.
أي: ما كتب سليمان السحر، وما عمل به؛ لأنّ عمل السحر كفر في شريعته، وأمّا في شريعتنا (١)، فإن اعتقد فاعله حِل استعماله كَفَر، وإلّا فلا، وأمّا تعلّمه، فإن كان ليعمل به فحرام، أو ليتوقّاه فمباح أولًا، ولا، فمكروه، والسحرُ (٢): كُلُّ ما دَقَّ ولَطُفَ، يقال: سحره إذا أبدى له أمرًا يَدِقُّ عليه، ويَخْفَى. وعرَّفه ابنُ العربي (٣): بأنّه كلام مؤلَّف يُعظَّم به غير الله، وتُنْسَب له المقادير، فعليه فهو كفر، حتى في شَرْعِنا
﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ باستعمال السحر، وتعليمِه، وتدوينِه، وِإمّا بتكفيرهم سليمانَ به، ويحتمل كفرهم بغير ذلك، واستعمالُ لكن هنا حَسَنٌ؛ لأنّها بين نفي وإثبات. وقرىء
﴿وَلَكِنَّ﴾ بالتشديد، فيجب إعمالها، وهي قراءة نافع، وعاصم، وابن كثير، وأبي عمرو. وقرىء بتخفيفِ النون، ورفعِ ما بعدها بالابتداء والخبر، وهي قراءة ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وإذا خُففت، فهل يجوز إعمالُها؟ مسألةُ خلافٍ: الجمهورُ على المنع، وقال الكسائي، والفراء: الاختيارُ التشديد إذا كان قبلها واو، والتخفيف إذا لم يكن معها واو؛ ذلك لأنّها مخفّفة تكون عاطفة، ولا تحتاجُ إلى واو كبَلْ، وإذا كانت قبلها واوٌ لم تشبه بل؛ لأنَّ بل لا تدخل عليها الواو،
139
فإذا كانت لكن مشدَّدةً عملت عمل إن، ولم تكن عاطفة. انتهى الكلام. أي: ولكنَّ الشياطين من الإنس والجنِ الذين نسَبَوُا إلى سليمان عليه السلام، ما انتحلوه من السحر، وكتبوه، ودوَّنوه، وعلَّموه الناس، هم الذين كفروا حالة كون الشياطين
﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ إِغواءً لهم، وإِضلالًا؛ أي: يقصدون بتحليمهم إياه إضلالهم عن طريق الحق، فعلَّموهم حتى فشا أمر السحر بين الناس وكَثُر.
واعلم: أَنَّهُ (١) قد جاء ذِكْرُ السحر في القرآن في مواضع كثيرة، ولا سيما في قصَص موسى وفرعون، ووصفه بأنه خداعٌ، وتخييلٌ للأعين، حتى ترى ما ليس بكائنٍ كائنًا، كما قال تعالى:
﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ وقال في آية أخرى:
﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ والآية نصٌّ صريح على أنَّ السحر يُعلَّم، ويُلقَّن، والتاريخ يؤيِّد هذا.
والسحر (٢): إمَّا حيلةٌ وشعوذةٌ، وإما صناعةٌ، وعلمٌ خفيٌّ يعرفه بعض الناس، ويجهله الكثير منهم، ومن ثَمَّ يسمُّون العمل به سحرًا؛ لخفاء سببه عليهم، وقد روى المؤرِّخون: أن سحرة فرعون استعانوا بالزئبق على إظهار الحِبَال والعِصي بصُوَر الحيَّاتِ والثَّعابِين، حتى خُيِّل إلى الناس أنَّها تَسْعى. وقد اعتاد الذين اتخذوه صناعةً للمعاش، أن يتكلَّموا بأسماءٍ غريبةٍ، وألفاظ مبهمةٍ اشتهر بين الناس أنها من أسماءِ الشياطين، وملوكِ الجن، لِيوهموُهم أنَّ الجنَّ يَسْتَجِيبون دُعاءهم، ويُسخرِّون لهم، وهذا هو منشأ اعتقاد العامَّة أنَّ السحر عملٌ يستعان عليه بالشياطينِ، وأرواحِ الكواكب، ولمثل هذا تأثيرٌ في إثارة الوهم دلَّت التجربة على وجوده، وهو يُغْنِي مُنتحِلَ السحر عن توجيهِ هِمتِه، وتأثير إرادته فيمن يُعملُ له السحرُ، وسيأتي بَسْطهُ أواخرَ هذه الآيات
﴿و﴾ حالة كونهم يعلِّمونهم أيضًا
﴿ما أنزل على الملكين﴾ فهو معطوف على السحر؛ أي: (٣) ويُعلِّمُون الناسَ
140
الأمر الذي أنزل على الملكين؛ أي: ما أُلْهِمَ الملكان، وقُذِفَ في قلوبهما من علم التفرقة، وهو رُقيْةٌ وليس بسحر، قال "المراغي": وظاهر الآية يدلُّ - على أنَّ ما أنزل على الملكين غَيْرُ السحر، لكنه من جنسه، وقد أُلهماه، واهتديا إليه بلا أستاذٍ، ولا معلِّمٍ، وقد يُسمَّى مثل هذا وحيًا، كما في قوله تعالى:
﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ وقوله:
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾.
وقيل: معطوفٌ على تتلو الشياطين، والمعنى عليه، وكما اتَّبع رؤساء اليهود السحر، كذلك اتَّبعوا ما أنزل على الملكين، وقرىء في الشواذ المَلِكينِ بكسر اللام، قيل: هما رجلان ساحران كانا ببابل، وقيل: عِلْجَان، والقراءة (١) المشهورة بفتح اللام، وهما ملكان من الملائكة، وقرأ ابن عباس، والحسن، وأبو الأسود الدؤلي، والضحَّاك، وابن أبزي المَلِكين بكسر اللام، فقال ابن عباس: هما رجلان ساحران ببابل، واعلم أنَّ الملكيَنِ أنزلا لتعليم السحر امتحانًا من الله تعالى للناس، هل يتعلَّمونه أم لا؟ كما امتحن قوم طالوت بالشرب من النهر، فمَنْ تعلَّمه منهم وعَمِلَ به كان كافرًا، ومن تَجنَّبه أو تعلَّمه لا يعمل به، ولكن ليتوقَّاه كان مؤمنًا، كما قيل:
عَرَفْتُ الشَرَّ لا للشَّرِّ ولكن لِتوَقِّيه
وهذا كما إذا أتى عرَّافًا فسأله عن شيء؛ لِيَمْتَحِن حالَه؛ ويختبر باطنَ ما عنده، وعنده ما يَميِّزُ بهِ صدقُه من كذبه، فهذا جائزٌ. قال الإِمام فخر الدين الرازيُّ: كانت الحكمة في إنزالهما: أنَّ السَّحرة كانوا يسترقُون السمعَ من الشياطين، ويُلقون ما سمعوا بين الخلق، وكانوا بسببِ ذلك يُثْبِتُون لأنفسهم الوَحْي النازلَ، على الأنبياء، فأَنْزلَهما إلى الأرضِ ليعلِّما الناسَ كيفيةَ السحر، ليظهر بذلك الفَرْقُ بين لام الله، وكلام السحرة؛ لئلا يغترَّ الناس بالسحر؛ لأنَّ السحرةَ كثرُوا في ذلك الزمن، واستنبطوا أبوابًا - غريبةً من السحر، وكانوا يدَّعون النبوة، فبعث الله تعالى هذين الملكين ليعلِّما الناس أبواب السحر، حتّى يتمكنوا
141
من معارضة أولئك الكذَّابين، وإظهار أمرهم على الناس.
﴿بِبَابِلَ﴾ الباء (١) بمعنى في، وهي متعلقةٌ بأنزل، أو بمحذوف وقع حالًا من الملكين، وهي: بابل العراق، أو بابل أرض الكوفة، ومنع الصرف للعجمة والعلمية، وأحسن ما قيل في تسميتها ببابل: أنَّ نوحًا عليه السلام، لمَّا هبط إلى أسفل الجوديِّ، بَنَى قريةً وسمَّاها ثمانين، فأصبح ذات يوم، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها اللسان العربيُّ، وكان لا يفهم بعضهم من بعض. كذا في "تفسير القرطبي"، واختصت بابل بالإنزال؛ لأنّها كانت أكثر البلاد سحرًا
﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ عطف بيان للملكين؛ لأنَّهما علمان لملكين نَزَلا من السماء، كما أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، ومُنع صرفهما للعلمية والعجمية، وما روي في قصتهما من أنَّها شربا الخمر، وسفكا الدم، وزنيا، وقتلا نفسًا، وسجدا للصنم، فَمِمَّا لا تعويل عليه؛ لأنَّ مداره رِوايةُ اليهود مع ما فيه من المخالفة لأدلَّة النقل والعقل.
يقول الفقير: قد تصَفَّحْتُ كتبَ أرباب الخبر والبيان، وأصحاب الشهود والعيان، فوُجدتُ عامَّتَها مشحونةً بذكر ما جرى من قصتهما، وكيف يجوز الاتِّفاق من الجمِّ الغفير على ما مداره - روايةُ اليهود، خُصوصًا في مثل هذا الأمر الهائل، فأقول: وَصْفُ الملائكِةِ بأنَّهم لا يعصون، ولا يستكبرون، يسبِّحون الليل والنهار، لا يفتُرون، ويفعلون ما يؤمرون، دليلُ تصوُّرِ العصيان منهم، ولولا ذلك لما مدحوا به، إذ لا يُمْدَح أحدٌ على الممتنع، لكن طاعتهم طبعٌ، وعصيانهم تكلُّفٌ، على عكس حال البشر، كما في "التيسير"، فهذا يقتضي جوازُ الوقوع مع أنَّ فيما روي في سبب نزولهما ما يزيل الإشكال قطعًا، وهو أنَّهم لمَّا عيَّروا بني آدم بقلّة الأعمال، وكثرة الذنوب في زمن إدريس عليه السلام، قال الله تعالى: (لو أنزلتكم إلى الأرض وركَّبت فيكم ما ركَّبت فيهم لفعلتم مثل ما فعلوا)، فقالوا: سبحانك ربَّنا، ما كان ينبغي لنا أن نعصيك، قال الله تعالى:
142
فاختاروا ملكين من خياركم أَهْبِطْهمُا إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت، وكانا من أصلح الملائكة، وأعبدهم، فأُهِبْطا بالتركيب البشريِّ، فحكما بين الناس، وافتتنا بامرأةٍ تسمَّى بالعربية الزهرة، وبالفارسية: مِيْذَخْتَ، فطَلَباها وامتنعت إلّا أن يعبدا صنمًا، ويَشْرَبا خمرًا، ويقتلا نفسًا، ففعلا ما فعلا، فخافا على أمرهما، فعلَّماها ما تَصْعَدُ به إلى السماء، وما تنزلُ به، فصعدت ونَسِيَتْ ما تنزلُ به، فمُسخت بالكوكب المضيء في السماء الثانية، وأنَّهما تشفعا بإدريس عليه السلام إلى الله تعالى، فخيَّرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا؛ لأنَّه مؤقَّتٌ وعذاب الآخرة مؤبَّدٌ، فهما في بئر بابل مُعلَّقان فيه بشُعورهما إلى يوم القيامة، قال مجاهد: مُلىءَ الجُبُّ نارًا فجُعلا فيه، وقيل: معلَّقان بأرجلهما، ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلّا أربع أصابع، فهما يعذَّبان بالعطش، وهذا الذي رُوي فيهما ليس ببعيدٍ، إذْ ليس مجرَّدُ هُبوط الملك ممَّا يقتضي العِصْيانَ، وذلك ظاهرٌ، وإلَّا لظهر من جبريل، وغيره، ألا ترى أنَّ إبليس له الشهوة والذريَّة مع أنّه كان من الملائكة على أحدِ القولين؛ لأنّها ممَّا حدثَتْ بعد أن مُحي من ديوانهم، فيجوز أن تَحْدُث الشهوة في هاروت وماروت، بعد أن أهبطا إلى الأرضِ؛ لاستلزام التركيب البشريِّ ذلك، وقد قال في "آكام المرجان": إنّ الله تعالى باين بَيْنَ الملائكة، والجنِّ، والإنس في الصورة، والأشكال، فإنْ قلَبَ الله الملك إلى صورة الإنسان ظاهرًا وباطنًا، خرج عن كونه ملكًا، وكذلك لو قلب الشيطان إلى بِنْيةِ الإنسان، خرج بذلك عن كونه شيطانًا.
وفي الحديث: إنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "اتقوا الدُّنيا، فوالذي نفسي بيده، إنَّها لأَسْحَرُ من هاروت وماروت" قال العلماء: إنّما كانت الدنيا أسحر منهما؛ لأنّها تدعوك إلى التَّحارص عليها، والتَّنافس فيها، والجمع لها، والمنع حتى تُفرِّق بينك وبين طاعة الله تعالى، وتُفرِّق بينك وبين رؤية الحق ورعايته، وسحر الدنيا محبتها، وتلذُّذك بشهواتها، وتمنِّيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك، ولهذا قال النبيُّ - ﷺ -: "حُبُّك الشيءَ يُعْمِي ويُصِمُّ" أَرَادَ النبيُّ - ﷺ -: أنَّ من الحُبِّ ما يعمي عن طريق الحقّ والرَّشدِ، ويُصِمُّكَ عن استماع الحق، وإنَّ الرجل إذا غلب الحُبُّ على قلبه، ولم يكن له رادعٌ من عقلٍ، أو ديْنٍ أصمَّهُ حُبُّه عن
143
العدل، وأعماه عن الرشد، أو يعمي العين عن النظر إلى مساويه، ويُصِمُّ الأذن عن استماع العذل فيه، أو يعمي، ويُصِمُّ عن الآخرة، وفائدته: النَّهي عن حُبِّ ما لا ينبغي الإغراق في حُبِّه، ثُمَّ في هذه (١) القصة إشارةٌ إلى أنّه لا يجوز الاعتماد إلّا على فضل الله سبحانه وتعالى ورحمته، فإنَّ العصمة من آثار حفظ الله تعالى.
﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ قرأ الجمهور بالتشديد من علَّم المُضعَّف، وقرأ طلحة بن مصرِّف:
﴿وما يُعْلِمَان﴾ من أعلم، وقالت طائفةٌ: بالتضعيف وبالهمزة بمعنًى واحدٍ ذكره في "البحر"؛ أي: وما يُعلِّم الملَكان أحدًا من الناس السحر، فمن (٢) مزيدةٌ في المفعول به؛ لإفادة تَأْكيد الاستغراقِ الذي يفيده أحدٌ، والمعنى: ولكن الشياطين كفروا يعلِّمون الناس ما أنزل على الملكين، ويحملونهم على العمل به؛ إغواءً وإضلالًا، والحال أنَّ الملكين ما يُعلِّمان ما أنزل عليهما من السحر أحدًا من طالبيه
﴿حَتَّى﴾ يَنْصَحاه أوَّلًا، ويَنْهَيَاه عن العمل به، والكفر بسببه، و
﴿يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ وابتلاءٌ من الله تعالى، فمن عمل بما تعلَّم مِنَّا، واعتقد حقيته كفر، ومن توقَّي عن العمل به، أو اتخذه ذريعةً للاتقاء عن الاغترار بمثله بقي على الإيمان، والفتنةُ: الاختبارُ والامتحانُ، يقال: فتنت الذهب، كالبَليَّةِ، والمعصيةِ، والقتل، والعذاب، وغير ذلك من الأفعال الكريهة، وقد تكون الفتنة في الدين مثل الارتداد والمعاصي، وإكراه الغير على المعاصي، وأُفردت الفتنةُ مع تعدُّد الملكين؛ لكونها مصدرًا، وحَمْلُها عليهما؛ مُوَاطأةٌ للمبالغةِ، كأنَّهما نفس الفتنة، والقَصْرُ؛ لبيان أنّه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأنٌ سِواهُ؛ لينصرف الناس عن تعلُّمه
﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ بتعلُّمِه، واعتقادِ حقيته مع أنّه ليس بباطلٍ شرعًا، وجوازِ العمل به، ويقولان ذلك سَبْع مراتٍ، فإن أبى إلّا التعلُّم علَّماه.
أي: فلا تتعلَّم السحر (٣)، ولا تعمل به؛ لأنَّ عمله كفرٌ باللهِ؛ أي: لا يصفان السحر لأحدٍ حتى يبذلا - النصيحةَ له أوَّلًا، فيقولا لَهُ: هذا الذي نَصِفُه
144
لك، وإن كان الغرض منه أن يتميَّز به الفرقُ بين السحر والمعجزة، ولكنَّه يمكنك أن تتوصَّل به إلى المفاسد والمعاصي. فإيَّاك بعد وقوفك عليه أن تستعمله فيما نُهِيت عنه، أو تتوصَّل به إلى شيء من الأغراض العاجلة.
وفي هذا (١) إيماءٌ إلى أنَّ تعلُّم السحر، وكُلِّ ما لا يجوز اتباعه، والعمل به ليس محظورًا، وإنّما الذي يحظر ويمنع هو العمل به فحَسْبُ. وإنما كانا يقولان ذلك إِبْقاءً على حسن اعتقاد الناس فيهما، إذ كانا يقولان: إنّهما ملكان، كما نسمع الآن من الدجالين يحترفون مثل ذلك، لمن يعلِّمونهم الكتابة للحبِّ، والبغض، نوصيك بأن لا تكتب هذا لجلب امرأةٍ إلى حبِّ غير زوجها، ولا تكتب لأحد زوجين أن يبغض الآخر، بل تجعل ذلك للمصلحة العامَّة، كالحُبِّ بين الزوجين، والتفريق بين عاشقين فاسقين، وهذا منهم إيهامٌ بأنَّ علومهم إلهِيَّةٌ، وقرأ الجمهور
﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ بفتح التاء، وهما بدلٌ من الملكين، وتكون الفتحة علامةً للجر؛ لأنّهما ممنوعان من الصرف لما مرَّ. وقرأ الحسن، والزهريُّ:
﴿هاروتُ وماروتُ﴾ بالرفع، فيجوز أن يكونا خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: هما هاروت وماروت
﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ عطف (٢) على الجملة المنفيَّة، فإنّها في قوَّة المثبتة، كأنّه قيل: يعلِّمانهم بعد قولهما، إنما نحن فتنة... الخ، والضمير لأحد حملًا على المعنى، والمراد به: السحرة؛ أي: فالنَّاس يتعلَّمون
﴿مِنْهُمَا﴾؛ أي: من الملكين، أو من السحرِ، والمنزَّلِ على الملكين، أو من الفتنة والكفر؛ أي: فيأتي السحرة من الناس الملكين، فيتعلَّمون من الملكين
﴿مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ﴾، أي: بسببهِ واستعمالهِ
﴿بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾؛ أي: يتعلَّمون منهما من علم السحر ما يكون سببًا في التفريق بين الزوجين ببغض كل واحدٍ منهما إلى الآخر، فبعد أن كانت المودَّة، والمحبة بينهما، يُصبح الشقاق، والفراق، والخِلاف بينهما، عند ما فعلوا من السحر، كالتَّمويه، والتَّخييل، والنَّفث في العقد، ونحو ذلك ممَّا يُحدث الله عنده البغضاء، والنشوز، والخلافَ بين الزوجين، ابتلاءً من الله تعالى؛ لأنَّ
145
السحر هو المؤثِّر في ذلك، بل بحَسَب جري العادة الإلهية، من خلق المسببَّات عقيب حصول الأسباب العاديَّة ابتلاءً منه تعالى، كما يدل عليه قوله سبحانه الآتي:
﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ تعالى، قوله:
﴿وَزَوْجِهِ﴾ ظاهره أنه يريد امرأة الرجل، وقيل: الزوج هنا: الأقارب والإخوان، وهم الصنف الملائم للإنسان، ومنه:
﴿مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ ذكره في "البحر".
قال السدي (١): كانا يقولان لمن جاءهما: إنّما نحن فتنة فلا تكفر، فإن أبى أن يرجع قالا له: ائت الرَّماد فَبُلْ فيه، فإذا بال فيه خرج نورٌ يَسْطَعُ إلى السماء، وهو الإيمان، والمعرفةُ، وينزل شيءٌ أسود شِبهُ الدُّخان، فيدخل في أذنيه، ومسامعه، وهو الكفر، وغضبُ الله، فإذا أخبرهما بما رآه من ذلك، علَّماه ما يفرِّق به بين المرء وزوجه، ويقدر الساحر على أكثر ممَّا أخبر الله عنه من التفريق؛ لأنَّ ذلك خُرِّج على الأغلب. قيل: يُؤخذ الرجلُ عن المرأة بالسحر لا يقدر على الجماع. قال في نصابِ الاحتساب: إنَّ الرجل إذا لم يَقْدِر على مجامعة أهله، وأطاق ما سواها، فإنّ - المُبْتلى بذلك يأخذ حُزْمَة قصبات، ويطلب فأسًا ذا فقارين، ويضعه في وسط تلك الحزمة، ثم يؤجِّجُ نارًا في تلك الحزمة، حتى إذا أُحمي الفأس استخرجه من النار، وبال على حدّه، يبرأ بإذن الله تعالى. انتهى.
والآية (٢) لا ترشد إلى حقيقة ما يتعلَّمُونه من السحر أمؤثرٌ بطبعه، أو بسببٍ خفيٍّ، أو بخارقٍ من خوارق العادات، أم غير مؤثّر؟ كما أنَّها لم تُبيِّن نوعَ ما يتعلَّمونه، أتمائمٌ وكتابةٌ هو، أم تلاوةُ رُقًى وعزائمَ، أم أسَالِيب سِعَايةٍ، أم دسَائسُ تنفيرٍ ونكايةٍ، أم تأثيرٌ نفسانيٌّ أم وسواسٌ شيطانيٌّ؟ فأيُّ ذلك أثبته العِلْمُ، كان تفِصيلًا لما أَجْملَه القرآن، ولا نتَحكَّم في حَمْله على نوعٍ منها، ولو علم الله الخَيْر في بيَانهِ لبينه، ولكنَّه وَكَل ذلك إلى بُحُوث الناس، وارتقائهم في العلم، فهو الذي يُجلِّي الغوامضَ، ويكشف الحقائق
﴿وَمَا هُمْ﴾؛ أي: ليس السَّاحرون
146
﴿بِضَارِّينَ بِهِ﴾؛ أي: بما تعلَّموه من السحر
﴿مِنْ أَحَدٍ﴾؛ أي: أحدًا
﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: إنَّ هؤلاء لم يُعْطَوا شيئًا من القوى الغيبيَّة فوق ما أعطي سائر الناس، بل هي أسبابٌ ربط بها مسبَّباتها، فإذا أُصيب أحدٌ بضررٍ بعمل من أعمالهم، فإنَّما ذلك بإذنه تعالى، فهو الذي يوجد المسبَّبات عند حصول الأسباب، والاستثناء (١) في قوله:
﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ مفرَّغٌ، والباء متعلِّقةٌ بمحذوف وقع حالًا من ضمير
﴿ضَارِّينَ﴾ أو من مفعوله، وإنْ كان نكرةً؛ لاعتمادها على النَّفي، أو الضمير المجرور في
﴿بِهِ﴾؛ أي: ما يضرُّون به أحدًا إلّا مقرونًا بعلم الله تعالى، وإرادته، وقضائه لا بأمره؛ لأنّه لا يأمر بالكفر، والإضرار، والفحشاء، ويقضي على الخلق بها، فالسَّاحر يسحر، والله يكوِّن، فقد يُحدث عِنْد استعمالِهم السحر فعلًا من أفعاله ابتلاءً، وقد لا يحدثه، وكُلُّ ذلك بإرادته، ولا يُنْكَر أنَّ السحر له تأثيرٌ في القلوب، بالحُبِّ والبغض، وبإلقاءِ الشرور، حتى يَحُولَ بين المرء وقلبه، وذلك بإدخال الآلام، وعظيم الأسقام، وكُلُّ ذلك مُدْرَكٌ بالحس والمشاهدة، وإنكاره معاندةٌ.
وإن أردت التفصيلَ وحقيقةَ الحال (٢)، فاستمع لما نَتْلُو عليك من المقال، وهو أن السحر: إظهار أمرٍ خارقٍ للعادة، من نفسٍ شِرِّيرةٍ خِبَيثةٍ، بمباشرة أعمال مخصوصةٍ، يَجْرِي فيه التعلُّم والتعليم، وبهذين الاعتبارين يُفارق المعجزة، والكرامة؛ وذلك لأنَّ المعجزة: أمرٌ خارق للعادة، يظهر على يد من يدَّعي النبوة والرسالة عند ردِّ الملحدة، والكرامة: أمرٌ خارق للعادة، يظهر على يد عبدٍ من عباد الله الصالحين، والسِّحر: أمرٌ خارقٌ للعادة، يظهر على يد نفسٍ شريرةٍ خبيثةٍ، بمباشرة أعمالٍ مخصوصة.
فَصْل في بيان حقيقة السحر
واختلف العلماء في حقيقة السحر بمعنى ثبوته في الخارج:
147
فذهب الجمهور: إلى ثبوته في الخارج، وقالت المعتزلة: لا ثبوت له، ولا وجود له في الخارج، بل هو تمويهٌ وتخييلٌ، ومجرَّد إراءة ما لا حقيقة له، يرى الحبال حيَّاتٍ بمنزلة الشعوذة التي سببها: خِفَّة حركات اليد، أو إخفاء وجه الحيلة، وتمسّكوا بقوله:
﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ ولنا وجهان: الأوّل: يدل على الجواز، والثاني يدلّ على الوقوع، أمّا الأول: فهو إمكان الأمر في نفسه، وشمول قدرة الله سبحانه وتعالى له، فإنّه الخالق، وإنما الساحر فاعلٌ وكاسبٌ، وأمّا الثاني: فهو قوله تعالى:
﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، وفيه إشعارٌ بأنّه ثابتٌ حقيقة ليس مجرد إراءةٍ وتمويهٍ، وبأنَّ المؤثّر والخالق هو الله تعالى وحده، وأمّا الشَّعوذة، وما يجري مجراها من إظهار الأمور العجيبة بواسطة ترتيب الأدلَّة الهندسية، وخفّة اليد، والاستعانة بخواص الأدوية والأحجار، فإطلاق السحر عليها مجازٌ، أو لما فيها من الدِقَّة؛ لأنّه في الأصل عبارةٌ عن كل ما لطف مأخذه، وخفي سببه، ولذا يقال: سحرٌ حلالٌ، وأكثرُ من يتعاطى السحر النساء، وخاصةً حالَ حيضهنّ، والأرواحُ الخبيثةُ ترى غالبًا للطبائعِ المغلوبةِ، والنفوسِ الرذيلة، وإن لم يكن لهم رياضةٌ، كالنساء، والصبيان، والمُخنثين، والإنسان إذا فَسَد نفسه، أو مزاجه يشتهي ما يضرُّه، ويتلذَّذ به، بل يعشق ذلك عشقًا يفسد عقلَه، ودينَه، وخلقه، وبدنه، وماله، والشياطين خبيثةٌ، فإذا تقرَّب صاحبُ العزائم، والإِقسام، وكَتْبِ الرُّوحانيات السحرية، وأمثال ذلك إليهم، بما يحبُّونه من الكفر، والشرك صار ذلك كالرَّشوة والبَرْطِيْلِ لهم، فيقضون بعض أغراضهم، كمن يعطي رجلًا مالًا - ليقتل من يريد قتله، أو يعينه على فاحشةٍ، أو ينال منه فاحشةً، ولذلك يكتب السحرة، والمُعْزِمُون في كثيرٍ من الأمور، كلامَ الله تعالى بالنَّجاسة، والدماء، ويتقرَّبون بالقرابين، ومن حيوانٍ ناطقٍ، وغير ناطق، والبُخور، وتَركِ الصلاة، والصومِ، وإباحات الدماء، ونكاح ذوات المحارم، وإلقاء المصحف في القاذورات، وغيرِ ذلك مما ليس فيه رضا الله تعالى، فإذا قالوا كفرًا، أو كتبوه، أو فعلوه أعانتهم الشياطين؛ لأغراضهم، أو بعضها، إمَّا بتَغْوِيرِ مَاءٍ، وإمّا بِأَنْ يُحْمَلَ في الهواء إلى بعض الأمكنة، وإمّا بأنْ يأتيه بمالٍ من أموال الناس، كما
148
يسرقه الشياطينُ من أموالِ الخائِنين، وأموال من لم يذكر اسم الله عليه، ويأتي به، وإمّا بغير ذلك، من قتل أعدائهم، أو إمراضهم، أو جَلْبِ من يهوونه وكثيرًا ما يتصوَّر الشيطان بصورة الساحر، ويقف بعرفاتٍ ليظنَّ مَنْ يُحسِن الظنَّ به أنّه وقف بعرفات، وقد زيَّن لهم الشيطان أنَّ هذا كرامات الصالحين، وهو من تلبيس الشيطان، فإنَّ الله تعالى لا يُعبد إلّا بما هو واجبٌ، أو مستحبٌّ، وما فعلوه ليس بواجبٍ، ولا مستحبٍ شرعًا، بل هو منهيٌّ عنه حرامٌ، ونعوذ بالله من اعتقاد ما هو حرامٌ عبادةً، ولأهل الضلال الذين لهم عبادةٌ على غير الوجه الشرعيّ، مكاشفاتٌ أحيانًا، وتأثيراتٌ يأوون كثيرًا إلى مواضع الشياطين التي نهي عن الصلاة فيها، كالحمَّام، والمزبلة، والمقبرة، وأعطان الإبل، وغير ذلك مما هو من مواضع النجاسات؛ لأنَّ الشياطين تنزل عليهم فيها، ويخاطبهم ببعض الأمور، كما يخاطبون الكفار، وكما كانت تدخل في الأصنام وتكلّم عُبَّاد الأصنام.
قال العلماء: إن كان في السحر ما يخل شرطًا من شرائط الإيمان، من قول، وفعل، كان كفرًا، وإلا لم يكن كفرًا، وعامَّة ما بأيدي الناس من العزائم، والطَّلاسم، والرُّقي التي لا تفهم بالعربية، فيها ما هو شِرْكٌ وتعظيمٌ للجن، ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرُّقي التي لا يفهم معناها بالعربية؛ لأنَّها مظنَّة الشرك، وإن لم يعرف الرَّاقي أنّها شركٌ، وفي الصحيح عن النبي - ﷺ -: أنَّه رخّص في الرُّقي ما لم تكن شركًا، وقال "مَن استطاع أن ينفع أخاه فليفعل" ولذا نقول: إنه يجوز أن يكتب للمصاب، وغيره من المرضى شيءٌ من كتاب الله تعالى، وذكره. بالمداد المباح، ويُسقى، أو يعلَّق عليه، وفي أسماء الله تعالى، وذكره خاصَّةً قمع الشياطين، وإذلالهم، ولأنفاس أهل الحق تأثيراتٌ عجيبةٌ؛ لأنّهم تركوا الشهوات، ولزموا العبادات على الوجه الشرعيِّ، وظهر لهم حكم قوله تعالى:
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ولذا يطيعهم الجنُّ والشياطين، ويستعبدونهم، كما استعبدها سليمان عليه السلام، بتسخير من الله تعالى، وإقداره.
واعلم: أنَّ حكم الساحر القتل ذكرًا كان أو أنثى، إذا كان سعيه بالإفساد، والإهلاك في الأرض، وإذا كان سعيه بالكفر، فيقتل الذكر دون الأنثى، فتضرب، وتحبس؛ لأنَّ الساحرة كافرةٌ، والكافرةُ ليست من أهل الحرب، فإذا كان الكفر
149
الأصليُّ يدفع عنها القتل، فكيف الكفر العارض؟ والساحر إن تاب قبل أن يؤخذ تقبل توبته، وإن أُخِذ ثم تاب لا تقبل، كما قال في "الأشباه": كُلُّ كافر تاب فتوبته مقبولةٌ في الدنيا والآخرة، إلّا الكافر بسبِّ نبيٍّ، أو بسبِّ الشيخين، أو أحدهما، وبالسحر ولو امرأةً، وبالزندقة إذا أُخِذَ قبل توبتهِ، والزنديق: هو الذي يقولُ بقدمِ الدهر، وإسنادِ الحوادث إليه مع اعتراف النبوَّةِ، وإظهارِ الشرع. هذا، وأكثر المنقول إلى هنا من كتاب آكام المرجان، وهو الذي ينبغي أن يكتب على الأحداق لا على القراطيس والأوراق.
قوله
﴿بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ قرأ الجمهور (١) بفتح الميم وسكون الراء والهمزة. وقرأ الحسن، والزهري، وقتادة
﴿المَرِ﴾ بغير همز مخففًا. وقرأ ابن أبي إسحاق:
﴿المُرءُ﴾ بضمّ الميم والهمزة. وقرأ الأشهب العقيلي
﴿المِرْءِ﴾ بكسر الميم والهمزة، ورُويت عن الحسين. وقرأ الزهري أيضًا
﴿المَرِّ﴾ بفتح الميم وإسقاط الهمزة وتشديد الراء، فأمَّا فتح الميم وكسرها وضمُّها، فلغاتٌ، وأمَّا المرِ بكسر الراء، فوجهه أنّه نقل حركة الهمزة إلى الراء، وخفَّف الهمزة، وأمّا تشديدها بعد الحذف، فوجهه أنّه نوى الوقف فشدَّد، كما روي عن عاصم مستطرّ بتشديد الراء في الوقف، ثُمَّ أُجري الوصل مجرى الوقف، فأقرَّها على تشديدٍ فيه، قوله:
﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ﴾ قرأ الجمهور بإثبات النون في
﴿بِضَارِّينَ﴾ وقرأ الأعمش بحذفها، وخرج ذلك على وجهين: أحدهما: أنّها حذفت تخفيفًا، والثاني: أنَّ حذفها لأجل الإضافة إلى أحد، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هو
﴿بِهِ﴾ كما قال:
هما أخوا في الحرب من لا أخا لَهُ
وكما قال:
كما خُطَّ الكتابُ بِكَفِّ يَوْمًا يَهُودِيٍّ
وهذا التخريج ليس بجيد؛ لأنَّ الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف
150
والجار والمجرور من ضرائر الشعر، وأقبح من ذلك أن لا يكون ثمَّ مضافٌ إليه؛ لأنّه مشغولٌ بعاملٍ جارٍ، فهو المؤثِّر فيه لا الإضافة، وأمَّا جعل حرف الجر جُزْءًا من المجرور، فهذا ليس بشيءٍ؛ لأنّه مؤثّر فيه، وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء، والأجود التخريج الأوّل؛ لأنَّ له نظيرًا في نظم العرب ونثرها، فمن النثر قول العرب:
قَطَاقطَا بَيْضُكِ ثِنْتَا وَبَيْضِي مائتا
يُريدُون ثِنْتَان ومِائتَانِ
﴿وَيَتَعَلَّمُونَ﴾ منهما
﴿مَا يَضُرُّهُمْ﴾ في الدنيا والآخرة، ولا ينفعهم، صرَّح (١) بذلك؛ إيذانًا بأنّه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضَّرر، بل هو شرٌّ بحتٌ وضررٌ محضٌ، لأنّهم لا يقصدون به التخلُّصَ عن الاغترار بأكاذيب من يدَّعي النبوَّة مثلًا من السحرة، أو تخليصَ النَّاس منه حتى يكون فيه نفعٌ في الجملة. وعبارة أبي حيان: لمَّا ذكر أنّه يحصل به الضرر لمن يفرَّق بينهما، ذكر أيضًا أنَّ الضرر لا يقتصر على من يُفعل به ذلك، بل هو أيضًا يضرُّ مَن تعلَّمه، ولمَّا كان إثبات الضرر بشيء لا ينفي النَّفع؛ لأنّه قد يوجد الشيء فيحصل به الضرر، ويحصل به النفع، نَفَى النفع عنه بالكليَّة وأتى بلفظ لا؛ لأنّها يُنفى بها الحال والمستقبل، والظاهر أنَّ
﴿وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ معطوفٌ على
﴿يَضُرُّهُمْ﴾ وكلا الفعلين صلةٌ لما، فلا يكون لها موضعٌ من الإعراب، وجوَّز بعضهم أن يكون
﴿لا ينفعهم﴾ على إضمار هو؛ أي: وهو لا ينفعهم فيكون في موضع رفعٍ، وتكون الواو للحال، وتكون جملةً حاليَّةً، وهذا الوجه ضعيفٌ، وقد قيل: الضرر وعدم النفع مختصٌّ بالآخرة.
وقيل: هو في الدنيا والآخرة، فإنَّ تعلُّمه إن كان غير مباح، فهو يجرُّ إلى العمل به، وإلى التنكيل به إذا عُثِر عليه، وإلى أنَّ ما يأخذه عليه حرامٌ، هذا في الدنيا، وأمَّا في الآخرة فلِمَا يترتَّب عليه من العقاب. انتهى. قال المراغي: وهذا مِما يعاقبُ الله عليه، ومَنْ عُرِف بإيذاء الناس أبغضوه، واجتنبوه، ولا نفع لهم فيه، فإنَّا نرى منتحلي هذه المِهَنِ مِنْ أفقر الناس وأَحْقِرهم، وذلك حالُهم في
151
الدنيا، فما بالك بهم في الآخرة يوم يُجزى كلُّ عامل بما عمل. انتهى.
وفي الآية: إيماءٌ إلى أنَّ الاجتناب عما لا يؤمن غوَائلِهُ واجب، كتعلُّم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجرَّ إلى الغَواية، وإن قال مَنْ قال:
عرفت الشرَّ لا للشرِّ لكنْ لِتَوَقِّيهِ | ومَنْ لا يعرف الشرَّ مِنَ الناسِ يَقَعْ فيهِ |
وذكَر في "التَّجْنيس": أنَّ تعلُّم النجوم حرام إلّا ما يُحتاج إليه للقبلة، ولمعرفة فصول السنة وحسابها، ومعرفة فيء الزوال من المنازل الثمانية والعشرين، ومِنْ أحاديث "المصابيح": (مَنِ اقتبس - علمًا من النجوم، اقتبس شعبةً من السحر) وإذا لم يكن في تعلُّم مثل هذه العلوم خيرٌ، فكذا إمساكُ الكتب التي اشتملت عليها من كتب الفلاسفة وغيرها، بل لا يجوز النظر إليها، كما في "نصابِ الاحتساب"
﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾؛ أي: لقد علم هؤلاء اليهود في التوراة، واللام فيه للقسم؛ أي: وعزّتي وجلالي، لقد علم اليهود الذين أخذوا السحر، واتَّبعوا الشياطين بدل متابعة رسول الله - ﷺ -، والإيمان به.
وقال أبو حيان (١): الضمير في علموا قيل: عائدٌ على اليهود الذين كانوا في عهد سليمان بن داود عليه السلام، وكانوا حاضرين استخراجَ الشياطين السحرَ ودفنه، أو أَخْذَ سليمان السحر ودفنه تحت كرسيّه، ولمَّا أخرجوه بعد موته، قالوا: والله ما هذا مِن عمل سليمان، ولا من ذخائره، وقيل: عائدٌ على من بحضرة رسول الله - ﷺ - من اليهود، وقيل: يعود على اليهود قاطبةً؛ أي: علموا ذلك في التوراة، وقيل: عائدٌ على علماء اليهود، وقيل: عائدٌ على الشياطين، وقيل: على الملكين؛ لأنَّهما كانا يقولان لمن يتعلَّم السحر فلا تكفر، فقد علموا أنَّه لا خَلاق له في الآخرة وأتى بضمير الجمع على قول: مَنْ يرى ذلك وعَلِم هنا يحتمل أن تكون المتعدية لمفعولين وعُلِّقت عن الجملة، ويحتمل أن تكون المتعدية لمفعول واحد، وعلقت أيضًا كما علقت عرفتُ، والفرق بين هذين التقديرين يظهر في العطف على موضعها. انتهى.
152
واللام في قوله:
﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ هي لام الابتداء، وهي المانعة من عمل علم وأخواتها، وهي أحد الأسباب المُوِجبة للتعليق، وأجازوا حَذْفَها، وهي باقيةٌ على منع العمل، وخرَّجُوا على ذلك قوله:
كَذاكَ أُدِّبْتُ حتَّى صَارَ مِنْ خُلُقِي | إنّي وجدتُ مِلاكُ الشِيمةِ الأَدبُ |
يريد لَمُلاكُ الشيمة، و
﴿مِنْ﴾ هنا موصولة، وهي مرفوعة بالابتداء، والجملة من قوله:
﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ في موضع خبرها؛ أي: لقد (١) علموا أنَّ من اشترى السحر، واختاره، واستبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله تعالى، ما له في الآخرة من خلاق ونصيبٍ من دار الكرَامة؛ لأنّه من أهل النار؛ أي: ليس لذلك المشتري، والآخذ بالسحر في الآخرة خلاقٌ، وحظٌّ، ونصيبٌ من الجنة، بل هو من أهل النار.
والمعنى (٢): أي إنَّهم عالمون بأنَّ من اختار هذا، وقدَّمه على العلم بأصول الدين وأحكام الشريعة التي توصل إلى السعادة في الدارين، فليس له حظٌّ في الآخرة؛ لأنّه خالف حكم التوراة التي حظَرت تعلُّم السحر، وجعلت عقوبة من اتبع الجنَّ، والشياطين، والكهان، كعقوبة عابدي الأصنام والأوثان، واللام في قوله:
﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ موطئةٌ (٣) لقسم محذوف، والشراء هنا بِمَعْنَى: البيعِ؛ لأنَّ الشراء من الأضداد، والمخصوص بالذمّ محذوف.
والمعنى (٤): وعزّتي وجلالي: لبئس وقَبُح الشيء شيئًا باعوا به حظوظ أنفسهم في الآخرة، والمخصوص بالذمّ تعلُّم السحر، أو الكفر حيث اختاروا السحر ونبذوا كتاب الله تعالى؛ يعني: أنَّ اليهود لمَّا نبذوا كتاب الله تعالى وراء ظهورهم، وأقبلوا على التَّمسُّكِ بما تتلو الشياطين، فكأنَّهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله تعالى.
153
﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: مؤلم موجعٌ يخلص وجعه إلى قلوبهم، ونحو الآية قوله:
﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وفي التعبير بالكافرين الذين هم اليهود هنا: (١) إيماءٌ إلى أنَّ ما صدر منهم من سوء الأدب في خطابه - ﷺ -، كُفْرٌ لا شكَّ فيه؛ لأنَّ من يصف النبيَّ - ﷺ -، بأنّه شريرٌ، فقد أنكر نبوّته، وأنه مُوحًى إليه من قبل ربّه، ومتى فعل ذلك فقد كفر واستحقَّ العذاب الأليم.
قال الأستاذ الإمام (٢): إنَّ هذا التأديب ليس خاصًّا بمن كان في عصره - ﷺ - من المؤمنين، بل يعم من جاء بعدهم أيضًا، فهذا كتاب الله الذي كان يتلوه عليهم، وكان يجب عليهم الاستماع له، والإنصات لتدبره، هو الذي يتلى علينا بعينه لم يذهب منه شيءٌ، وهو كلام الله الذي به كان الرسول رسولًا تجب طاعته، والاهتداء بهديه، فما هذا الأدب الذي يقابله به الأكثرون، إنهم يلغطون في مجلس القرآن، فلا يستمعون، ولا ينصتون، ومن أنصت، واستمع؛ فإنَّما ينصت طربًا بالصوت، واستلذاذًا بتوقيع نغمات القارئ، وإنّهم ليقولون في استحسان ذلك، واستجادته ما يقولون في مجلس الغناء، ويهتزُّون للتلاوة، ويصوِّتون بأصواتٍ مخصوصة، كما يفعلون عند سماع الغناء بلا فرق، ولا يلتفتون إلى شيءٍ من معانيه إلّا ما يرونه مدعاةً لسرورهم في مثل قصة يوسف عليه السلام، مع الغفلة عمَّا فيها من العبرة، وإعلاء شأن الفضيلة، ولا سيما العِفَّةُ والأمانة، أليس هذا أقربَ إلى الاستهانة بالقرآن، منه بالأدب اللائق الذي ترشد إليه هذه الآية الكريمة، وأمثالها؟
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ ﴿أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾.
١٠٥ - ﴿مَا يَوَدُّ﴾ ويحبُّ
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وأنكروا بما جاء به محمدٌ - ﷺ -
﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾؛ أي: من اليهود والنصارى، ككعب بن الأشرف
﴿وَلَا﴾ من
160
﴿الْمُشْرِكِينَ﴾؛ أي: مشركي العرب عبدة الأوثان، كأبي جهل وأصحابه، وكان فريقٌ من اليهود يُظهرون للمؤمنين محبَّةً، ويزعمون أنَّهم يودُّون لهم الخير، فنزل تكذيبًا لهم. والودُّ (١): حُبُّ الشيء مع تمنيه، ونفي الودِّ كنايةٌ عن الكراهة؛ أي: ما يحبُّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، ومِن للتبيين؛ لأنَّ الذين كفروا جنسٌ تحته نوعان: أهل الكتاب والمشركون، فكأنَّه قيل: ما يودُّ الذين كفروا وهم أهل الكتاب والمشركون، فبيَّن أنَّ الذين كفروا باقٍ على عمومه، وأنَّ المراد كلا نوعيه جميعًا، والمعنى: أنَّ الكفار جميعًا لم يُحِبُّوا
﴿أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: على نبيكم؛ لأنّ المُنزَّل عليه منزَّلٌ على أُمَّته، وهو في موضع المفعول بيودُّ، وبناؤه للمفعول؛ وحذف للعلم به؛ وللتصريح به في قوله:
﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ولو بني للفاعل لم يظهر في قوله:
﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
فائدةٌ: وقرأ أبو عمرو بالتخفيف.
﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ هو قائم مقام فاعله، و
﴿مِنْ﴾ مزيدةٌ لاستغراق الخير، والخير الوحي، والقرآن، والنصرة كائنٌ
﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾؛ أي: أن ينزَّل عليكم وحيٌ من ربّكم؛ لأنّهم يحسدونكم فيه، و
﴿مِنْ﴾ هنا لابتداء الغاية، كما تقول: هذا الخير من زيد، ويجوز (٢) أن تكون، للتبعيض، والمعنى: من خير كائن من خيوركم، فإذا كانت لابتداء الغاية تعلَّقت بقوله:
﴿يُنَزَّلَ﴾، وإذا كانت للتبعيض تعلَّقت بمحذوف، وكان ذلك على حذف مضافٍ، كما قدَّرناه آنفًا. ذكره في "البحر".
والمعنى (٣): إنّهم يرون أنفسهم أحقَّ بأن يوحى إليهم، فيحسدونكم، ويكرهون أن يُنزَّل عليكم شيءٌ من الوحي، أمَّا اليهود فَبِناءً على أنّهم أهلُ الكتاب وأبناءُ الأنبياء النَّاشِئُون في مَهابِطِ الوحي، وأنتم أميُّون، وأمَّا المشركون فإدْلاَلًا بما كان لهم من الجاه والمال، زعمًا منهم أنَّ رياسة الرسالة كسائر الرياسات
161
الدنيويّة، منوطةٌ بالأسباب الظاهرة، ولذا قالوا:
﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ وهم كانوا يتمنَّون أن تكون النُبوَّة في أحد الرجلين: نعيم بن مسعودٍ الثقفيِّ بالطَّائف، والوليد بن المغيرة بمكّة، ثُمَّ أجاب عن قول من يقول: لِمَ لَمْ يُنزَّل عليهم بقوله:
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى
﴿يَخْتَصُّ﴾؛ أي: يخصُّ
﴿بِرَحْمَتِهِ﴾؛ أي: بوحيه، ونبوّته، وبالهداية
﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ ويختار من عباده؛ أي: من كان أهلًا لذلك وهو محمدٌ - ﷺ - والمؤمنون.
يقال: خصَّه بالشيء. واختصه، إذا أفرده به دون غيره، ومفعول المشيئة محذوفٌ، تقديره: من يشاء تخصيصه بفضله، والرحمة (١) هنا عامَّةٌ بجميع أنواعها، أو النبوة، والوحي، والحكمة، والنصرة، اختصَّ بها محمدٌ - ﷺ - قاله عليٌّ، والباقر، ومجاهدٌ، والزجَّاجُ، أو الإِسلام، قاله ابن عباس، أو القرآن، أو النبيُّ - ﷺ -
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ وهو نبيُّ الرحمة أقوالٌ خمسةٌ أظهرها الأول.
والمعنى: يفرد (٢) سبحانه برحمته من يشاء إفراده بها، ويجعَلها مقصورة عليه؛ لاستحقاقه الذاتيِّ الفائض عليهِ بحُبِّ إرادته عزّ وجلّ، لا تتعدَّاه إلى غيره، لا يجب علِيه شيءٌ، وليس لأحدٍ عليه حقٌّ، وسبب (٣) عدم ودهم ذلك، أمَّا في اليهود، فلِكون النبوة كانت في بني إسماعيل؛ ولخوفهم على رئاستهم، وأمَّا النصارى؛ فلتكذيبهم في ادعائهم ألوهيَّة عيسى، وأنّه ابنُ الله؛ ولخوفهم على رئاستهم، وأمَّا المشركون؛ فلسبِّ آلهتهم، وتسفيه أحلامهم، ولحسدهم أن يكون رجلٌ منهم يختصُّ بالرسالة، واتباع الناس له.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى
﴿ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾؛ أي: صاحب المَنِّ الكبير، والعطاء الكثير بالوحي على محمد - ﷺ -، وبالإِسلام بلا غرض، ولا علَّةٍ؛ يعني (٤): أنَّ الله تعالى يخصُّ بنبوّته ورسالته من يشاء من عباده، ويتفضَّل بالإيمان والهداية على من أحبَّ من خلقه
162
رحمةً منه لهم، فكُلُّ خيرٍ ناله عباده في دينهم ودنياهم، فإنَّه منه ابتداءً، وتفضّلًا عليهم من غير استحقاق أحدٍ منهم لذلك، بل له الفضل والمنَّة على خلقه، وفي الآية تعريضٌ بأهل الكتاب في حسدهم للنبيِّ - ﷺ -، والمؤمنين.
فائدةٌ: قال بعض الحكماء: بارز الحاسد ربَّه من خمسة أوجهٍ:
أولها: أنّه أبغض كُلَّ نعمةٍ ظهرت على غيره.
والثاني: أنّه يتسخَّطُ قسمته تعالى، ويقول لربّه: لِمَ قسمت هكذا.
والثالث: أنَّ فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يبخل بفضله.
والرابع: أنّه خذل وليَّ الله تعالى؛ لأنّه يريد خذلانه، وزوال النعمة عنه.
والخامس: أنّه أعان عدوَّه؛ يعني: إبليس اللعين.
واعلم: أنَّ حسدك لا ينفذ على عدوِّك، بل على نفسك، بل لو كوشفت بحالك في يقظةٍ، أو منام لرأيت نفسك أيها الحاسد في صورة من يرمي حجرًا إلى عدوّه ليصيب به مقلته، فلا يصيبه، بل يرجع إلى حدقته اليُمْنى فيقلعها، فيزيد غضبه ثانيًا، فيعود ويرمي أشدَّ من الأولى، فيرجع على عينه اليسرى فيعميها، فيزداد - غضبه ثالثًا، فيعود ويرميه، فيرجع الحجر على رأسه فيشُجُّه، وعدوُّه سالمٌ في كُل حال، وهو إليه راجعٌ كرَّةً بعد أُخرى، وأعداؤه حواليه يفرحون ويضحكون، وهذا حال الحسود، وسخرية الشياطين.
وقال بكر بن عبد الله: كان رجل يأتي بعض الملوك، فيقوم بحذائه ويقول: أَحْسِنْ إلى المحسنِ بإحسانه، فإنَّ المسيء يكفيه إساءته، فحسده رجلٌ على ذلك المقام والكلام، فسعى به إلى الملك، وقال: إنّ هذا الرجل يَزْعُم أنَّ الملك أبْخَرُ، فقال الملك: وكيف يصحُّ ذلك عندي؟ قال: تدعو به إليك فانظر، فإنّه إذا دنا منك وضع يده على أنفه أن لا يشمّ ريح البخر، فخرج من عند الملك، فدعا الرجل إلى منزله، فأطعمه طعامًا فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده، فقام بحذاء الملك، فقال على عادته مثل ما قال، فقال له الملك: ادن منّي، فدنا منه واضعًا يده على فيه مخافة أن يشمَّ الملك منه ريح الثوم، فصدَّق الملك في نفسه قول
163
الساعي، قال: وكان الملك لا يكتب بخطّه إلّا لجائزة، فكتب له كتابًا بخّطه إلى عامل له، إذا أتاك الرجل فاذبحه واسلخه، واحش جلده تبنًا، وابعث به إليّ، فأخذ الكتاب وخرج، فلقيه الرجل الذي سعى به، فاستوهب منه ذلك الكتاب، فأخذه منه بأنواع التضرّع والامتنان، ومضى إلى العامل، فقال له العامل: إنَّ في كتابك أن أذبحك، وأسلخك، قال: إنَّ الكتاب ليس هو لي، الله الله في أمري حتى أراجع الملك، قال: ليس لكتاب الملك مراجعةٌ، فذبحه، وسلخه، وحشا جلده تبنًا، وبعث به، ثمَّ عاد الرجل كعادته، فتعجب منه الملك، فقال: ما فعلت بالكتاب؟ قال لقيني فلانٌ فاستوهبه منّي، فوهبته، قال الملك: إنّه ذكر لي أنَّك تزعم أنِّي أبخر، فقال كلَّا، قال: فلم وضعت يدك على أنفك؟ قال: كان أطعمني طعامًا فيه ثومٌ، فكرهت أن تشمَّه منّي، قال: ارجع إلى مكانك، فقد كفى المسيءَ إساءتُه، اللهمّ! احفظنا من مساويء الأخلاق، فإنَّها بئس الوثاق، وأكرمنا بمكارم الأخلاق، فإنّها نعم الرفاق. ذكره في "روح البيان".
وخلاصة معنى الآية (١): أي إنَّ الذين عرفتم شأنهم مع أنبيائهم من أهل الكتاب حسدةٌ لكم، لا يودُّون أن ينزل عليكم خيرٌ من ربّكم، والكتاب الكريم أعظم الخيرات، فهو الهداية العظمى، به جمع الله شملكم، ووحَّد شعوبكم، وقبائلكم، وطهَّر عقولكم من زيغ الوثنية، وأقامكم على سنن الفطرة، وكذلك المشركون، إذ يرون في نزول القرآن على طريق التتابع الوقت بعد الوقت قوَّةً للإسلام، ورسوخًا لقواعده، وتثبيتًا لأركانه، وانتشارًا لهديه، وهم يودُّون أن تدور عليكم الدَّوائر، وينتهي أمركم، ويزول دينكم من صفحة الوجود. وحسد الحاسد يدلُّ على أنَّه ساخطٌ على ربّه معترضٌ عليه؛ لأنَّه أنعم على المحسود بما أنعم، والله لا يضيره سخط الساخطين ولا يحول مجاري نعمته حسد الحاسدين، فهو يختص من يشاء برحمته متى شاء، وهو ذو الفضل العظيم على من اختاره للنبوة، وهو صاحب الإحسان والمنَّة، وكُلُّ عباده غارقٌ في بحار نعمته، فلا ينبغي لأحدٍ أن يحسد أحدًا على خيرٍ أصابه، وفضلٍ أوتيه من عند ربه.
164
الإعراب
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو استئنافية
﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب، معطوف على
﴿نِعْمَتِيَ﴾ كما مرّ مرارًا
﴿أَخَذْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ، والتقدير: واذكروا يا بني إسرائيل! نعمتي عليكم، وحين أخذنا ميثاقكم
﴿مِيثَاقَكُمْ﴾ مفعول به ومضاف إليه
﴿وَرَفَعْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة
﴿أَخَذْنَا﴾.
﴿فَوْقَكُمُ﴾ ظرف مكان ومضاف إليه، والظرف متعلق برفعنا
﴿الطُّورَ﴾ مفعول به
﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا﴾ مقول محكي لقول محذوف معطوف على
﴿رفعنا﴾، تقديره: ورفعنا فوقكم الطور فقلنا خذوا ما آتيناكم، وإن شئت قلت:
﴿خُذُوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل النصب مقول لقلنا المحذوف
﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به لخذوا
﴿آتَيْنَاكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول أوّل، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: ما آتيناكموه؛ لأنّ آتى بمعنى: أعطى يتعدى إلى مفعولين، والجملة صلة لما الموصولة، والعائد المفعول الثاني المحذوف
﴿بِقُوَّةٍ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ضمير المخاطبين، تقديره: حال كونكم ملتبسين بقوّة وعزيمة
﴿وَاسْمَعُوا﴾ الواو عاطفة
﴿اسمعوا﴾ فعل أمر وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة
﴿خُذُوا﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة
﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ مقول محكي لقالوا منصوب بفتحة مقدّرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، وإن شئت قلت:
﴿سَمِعْنَا﴾ فعل وفاعل، ومفعوله محذوف، تقديره: سمعنا قولك، والجملة في محل النصب مقول
﴿قَالُوا﴾.
﴿وَعَصَيْنَا﴾ فعل وفاعل معطوف على
﴿سَمِعْنَا﴾، ومفعوله محذوف، تقديره: وعصينا أمرك
﴿وَأُشْرِبُوا﴾ الواو حالية
﴿أشربوا﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعل
﴿في قُلُوبِهِمُ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأُشربوا
﴿الْعِجْلَ﴾ مفعول به ثان لأُشربوا؛ لأن الأول كان نائب فاعل، والجملة
165
من الفعل المغيّر، ونائب فاعله في محل النصب حال من الواو في
﴿قَالُوا﴾، ولكن بتقدير قد لتقرب الماضي إلى الحال، والتقدير: قالوا سمعنا وعصينا حاله كونهم مشْرَبين في قلوبهم حُبَّ عبادة العجل، ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على
﴿قَالُوا﴾ على كونها مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب
﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأُشربوا، والباء فيه سببية، ويجوز أن يكون حالًا من الحبّ المحذوف؛ أي: حال كون ذلك الحبّ مختلطًا بكفرهم، كما ذكَره العكبري
﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة
﴿بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ...﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي لقل منصوب بفتحة مقدّرة، وإن شئت قلت:
﴿بئس﴾ فعل ماض جامد من أفعال الذمّ مبني على الفتح، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا؛ لشبهه بالمثل، تقديره: هو يعود على الشيء المبهم
﴿مَا﴾ نكرة موصوفة بمعنى شيء في محل النصب تمييز لفاعل
﴿بئس﴾.
﴿يَأْمُرُكُمْ﴾ فعل ومفعول به
﴿بِهِ﴾ جار ومجرور متعلق بيأمركم
﴿إِيمَانُكُمْ﴾ فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل النصب صفة لما، ولكنها صفة سببية، والرابط ضمير
﴿بِهِ﴾ وجملة
﴿بئس﴾ في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف يسمى المخصوص بالذمّ، تقديره: عبادة العجل، والجملة الاسمية في محل النصب مقول
﴿قُلْ﴾.
﴿إِنْ﴾ حرف شرط جازم
﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بإنْ على كونه فعل شرط لها
﴿مُؤْمِنِينَ﴾ خبر كان منصوب بالياء، وجواب الشرط معلوم مما قبله، تقديره: إن كنتم مؤمنين بالتوراة، فلم عبدتم العجل، والمعنى: لو كنتم مؤمنين ما عبدتموه.
﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة
﴿إِنْ﴾ حرف شرط جازم
﴿كَانَتْ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم بإن الشرطية، والتاء علامة تأنيث اسمها
﴿لَكُمُ﴾ جار ومجرور خبر لكان، مقدّم على اسمها
﴿الدَّارُ﴾ اسمها مؤخّر،
﴿الْآخِرَةُ﴾ صفة للدار
﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ ظرف مكان ومضاف إليه، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، والتقدير: إن كانت الدار الآخرة كائنة
166
لكم عند الله تعالى،
﴿خَالِصَةً﴾ حال من الدار تقديره حالة كونها خاصة بكم
﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال مؤكّدة للحال المذكور قبلها؛ لأنّ دون تستعمل للاختصاص، يُقال هذا لي دونك؛ أي: من دونك؛ أي: لا حقَّ لك فيه، كما في "الشهاب"، وفي "السمين" في خبر كان هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنّه
﴿خَالِصَةً﴾ فيكون
﴿عِنْدَ﴾ ظرفًا لخالصةً، وللاستقرار الذي في
﴿لَكُمُ﴾.
والثاني: أنَّ الخبر
﴿لَكُمُ﴾ فيتعلَّق بمحذوف، ونصب
﴿خَالِصَةً﴾ حينئذٍ على الحال.
والثالث: أنَّ الخبر هو الظرف و
﴿خَالِصَةً﴾ حال أيضًا. انتهى.
وفي "الكرخي":
﴿خَالِصَةً﴾ مصدرٌ جاء على وزن فاعلة، كالعافية، والعاقبة، وهو بمعنى الخلوص. اهـ.
﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ الفاء رابطةٌ لجواب
﴿إِن﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية
﴿تمنّوا﴾ فعل أمر في محل الجزم بإنْ الشرطية على كونها جوابًا لها مبني على حذف النون، والواو فاعل
﴿الْمَوْتَ﴾ مفعول به، وجملة
﴿إِن﴾ الشرطية مع جوابها في محل النصب مقول
﴿قُلْ﴾.
﴿إن﴾ حرف شرط جازم
﴿كنتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بإنْ الشرطية على كونه فعل شرط لها
﴿صَادِقِينَ﴾ خبر كان منصوب بالياء، وجواب
﴿إن﴾ الشرطية معلومٌ مما قبلها، تقديره: إن كنتم صادقين فتمنَّوا الموت، وجملة
﴿إِن﴾ الشرطية في محلِّ النصب مقول
﴿قُل﴾ أيضًا.
فائدة: ولا تدخل
﴿إِن﴾ الشرطية على فعل ماض في المعنى إلّا على كان؛ لكثرة استعمالها، وأنها لا تدلّ على حدث. ذكره العكبريُّ.
﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥)﴾.
﴿وَلَنْ﴾ الواو استئنافية
﴿لن﴾ حرف نفي ونصب واستقبال
﴿يَتَمَنَّوْهُ﴾ فعل مضارع منصوب بلن، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعل، والهاء مفعول به
﴿أَبَدًا﴾ ظرف زمان متعلق بيتمنوه
﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بيتمنوه أيضًا، والجملة الفعلية مستأنفة
﴿قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ فعل وفاعل صلة لما الموصولة، والعائد
167
محذوف، تقديره: بما قدّمته أيديهم،
﴿وَاللَّهُ﴾ الواو استئنافية (ولفظ الجلالة) مبتدأ
﴿عَلِيمٌ﴾ خبر، والجملة الاسمية مستأنفة
﴿بِالظَّالِمِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بعليم.
﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٩٦)﴾.
﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ﴾ الواو استئنافية، واللام موطئة للقسم
﴿لتجدنّ﴾ فعل مضارع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد حرف لا محل لها من الإعراب، والهاء ضمير الغائبين في محل النصب مفعول أوّل، وفاعله ضمير مستتر وجوبًا تقديره أنت يعود على محمد - ﷺ -، أو على أيِّ مخاطب
﴿أَحْرَصَ النَّاسِ﴾ مفعول ثاني لتجد ومضاف إليه
﴿عَلَى حَيَاةٍ﴾ جار ومجرور متعلقٌ بأحرص، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿وَمِنَ الَّذِينَ﴾ الواو عاطفة
﴿من الذين﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف دل عليه السياق، معطوف ذلك المحذوف على
﴿أَحْرَصَ﴾ لغرض التخصيص بعد التعميم، والتقدير: ولتجدنّهم أحرص من جميع الناس على حياةٍ متطاولة، وأحرص من الذين أشركوا
﴿أَشْرَكُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد واو الفاعل
﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾ فعل وفاعل ومضاف إليه
﴿لَوْ﴾ حرف مصدر
﴿يُعَمَّرُ﴾ فعل مضارع مغيّر الصيغة مرفوع، ونائب فاعله ضمير يعود على
﴿أَحَدُهُمْ﴾.
﴿أَلْفَ﴾ منصوب على الظرفية متعلق بيعمّر، وهو مضاف
﴿سَنَةٍ﴾ مضاف إليه، وجملة
﴿يُعَمَّرَ﴾ صلة
﴿لَوْ﴾ المصدرية و
﴿لَوْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية ليودّ، تقديره: يودّ أحدهم تعميره ألف سنة، وجملة
﴿يَوَدُّ﴾ من الفعل والفاعل في محل النصب حال من ضمير المفعول في
﴿تجدنّهم﴾، تقديره: لتجدن اليهود أحرص الناس على حياة حالة كون أحدهم وادًّا تعميره ألف سنة، أو مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب
﴿وَمَا﴾ الواو حالية
﴿مَا﴾ حجازيّة
﴿هُوَ﴾ ضمير يعود على التعمير المفهوم من السياق، في محل الرفع اسم
﴿مَا﴾ الحجازيّة
﴿بِمُزَحْزِحِهِ﴾ الباء زائدة في خبر
﴿مَا﴾ الحجازيّة
﴿مزحزحه﴾ مجرور لفظًا منصوب محلًا على أنّه خبر
﴿مَا﴾ وهو مضاف،
168
والضمير مضاف إليه
﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾ جار ومجرور متعلق
﴿بِمُزَحْزِحِهِ﴾.
﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر
﴿يُعَمَّرَ﴾ فعل مضارع مغيّر الصيغة منصوب بأن المصدرية، ونائب فاعله ضمير يعود على
﴿أَحَدُهُمْ﴾ والجملة الفعلية صلة
﴿أَن﴾ المصدرية. و
﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على البدليّة من اسم
﴿مَا﴾ الحجازيّة، تقديره: وما هو تعميره بمزحزحه من العذاب، وجملة
﴿مَا﴾ الحجازية في محل النصب حال من مفعول
﴿يَوَدُّ﴾ المؤوّل من
﴿لَوْ﴾ المصدريّة مع فعلها، تقديره: يودّ أحدهم تعميره ألف سنة حالة كون تعميره عادم الزحزحة، والإبعاد له من العذاب، وفي المقام أوجه من الإعراب ضربنا عنها صفحًا؛ خوفًا من الإطالة، فراجع المطوَّلات؛ لأنّ كتابنا مختصرٌ،
﴿وَاللَّهُ﴾ الواو استئنافية
﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ
﴿بَصِيرٌ﴾ خبر، والجملة مستأنفة
﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق ببصير، و
﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة، أو مصدرية
﴿يَعْمَلُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد محذوف، تقديره: يعملونه، أو صلة
﴿مَا﴾ المصدرية، تقديره: بعملهم.
﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧)﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة
﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ...﴾ إلخ مقول محكي لقل، وإن شئت قلت:
﴿مَن﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، وفي خبره ثلاثة أقوال: قيل: فعل الشرط وهو الراجح، كما في "أبي النجا على الأجرومية"، وقيل: جوابه، وقيل: هما معًا
﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم بمن على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على
﴿مَن﴾.
﴿عَدُوًّا﴾ خبرها
﴿لِجِبْرِيلَ﴾ اللام حرف جرّ
﴿جبريل﴾ مجرور بالفتحة للعلمية والعجمية، والجار والمجرور متعلق بعدوًّا؛ لأنّه بمعنى معاديًا، وجواب الشرط محذوف جوازًا، تقديره: فليمت غيظًا، وجملة
﴿مَن﴾ الشرطية في محل النصب مقول
﴿قُل﴾.
﴿فَإِنَّهُ﴾ الفاء تعليلية للجواب المحذوف
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، والهاء اسمها، وهو عائد على جبريل
﴿نَزَّلَهُ﴾ فعل ومفعول، والهاء عائد على القرآن، وفي إضماره على ما لم يسبق ذكره؛ تفخيم لشأن صاحبه، كأنّه يدلُّ على نفسه، وفاعله ضمير مستتر يعود على جبريل،
﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ جار ومجرور
169
ومضاف إليه متعلق بنزّله، والجملة الفعلية خبر
﴿إِنَّ﴾ وجملة
﴿إِنَّ﴾ من اسمها وخبرها في محل الجرّ بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية المتعلقة بمعلول محذوف، تقديره، وإنّما قلنا: فليمت غيظًا لتنزيله إيّاه بإذن الله تعالى
﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من ضمير الفاعل، في
﴿نَزَّلَهُ﴾ العائد على جبريل، تقديره: حالة كونه ملتبسًا بإذن الله، أو مأذونًا
﴿مُصَدِّقًا﴾ حال من الهاء في
﴿نَزَّلَهُ﴾ العائد على القرآن
﴿لِمَا﴾ اللام حرف جرّ
﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الجر باللام، الجار والمجرور متعلق بمصدّقًا
﴿بَيْنَ﴾ منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف صلة لما الموصولة
﴿بَيْنَ﴾ مضاف
﴿يَدَيْهِ﴾ مضاف إليه مجرور بالياء؛ لأنّه مثنّى، أو ملحق به، وهو مضاف، والهاء مضاف إليه
﴿وَهُدًى﴾ معطوف على
﴿مُصَدِّقًا﴾ منصوب على الحالية، ولكنّه في تأويل مشتقّ؛ أي: هاديًا
﴿وَبُشْرَى﴾ معطوف أيضًا على
﴿مُصَدِّقًا﴾ كذلك؛ أي: مبشّرًا
﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ جار ومجرور، تنازع فيه هدى وبشرى.
﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾:
﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، خبره جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، كما مرّ آنفًا.
﴿كاَنَ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم بمن على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على
﴿مَن﴾ ﴿عَدُوًّا﴾ خبرها منصوب
﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق بعدوًّا
﴿وَمَلَائِكَتِهِ﴾ معطوف على الجلالة، وهو مضاف، والضمير مضاف إليه، وكذلك
﴿وَرُسُلِهِ﴾ معطوف على الجلالة، وكذلك
﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ معطوفان على الجلالة مجروران بالفتحة للعلمية والعجمة، وذكرهما من بعد الملائكة من ذكر الخاص بعد العام؛ إظهارًا لمزيّته، كما مرّ
﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ الفاء رابطة لجواب مَن الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية
﴿إنّ الله﴾ ناصب واسمه، وأُظهِر في موضع الإضمار؛ دفعًا لإيهام أنّه يعود إلى جبريل
﴿عَدُوٌّ﴾ خبر
﴿إِنَّ﴾ ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ متعلق به، وجملة
﴿إِنَّ﴾ في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، والرابط موجود، وهو الاسم الظاهر؛ أعني: لفظ الجلالة؛ لقيامه مقام الضمير؛ لأنّ الأصل من كان عدوًّا لله، وملائكته، ورسله، فإنّ الله عدوٌّ له، أو لهم، وقيل: الرابط العموم، وله في القرآن
170
نظائر كثيرة ستمر بك إن شاء الله تعالى، وجملة
﴿مَن﴾ الشرطية وجوابها مستأنفة، أو في محل النصب معطوفة بعاطف مقدّر على جملة قوله:
﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ﴾ على كونها مقولًا لقل.
﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٠)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ الواو استئنافية، واللام موطئة للقسم
﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق
﴿أَنْزَلْنَا﴾ فعل وفاعل
﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق به
﴿آيَاتٍ﴾ مفعول به
﴿بَيِّنَاتٍ﴾ صفة لآيات، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، تقديره: وعزّتي وجلالي، لقد أنزلنا إليك... الخ. وجملة القسم مستأنفة
﴿وَمَا يَكْفُرُ﴾ الواو حالية
﴿مَا﴾ نافية
﴿يَكْفُرُ﴾ فعل مضارع
﴿بِهَا﴾ متعلق بيكفر
﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرّغ
﴿الْفَاسِقُونَ﴾ فاعل مرفوع بالواو، والجملة الفعلية في محل النصب حال من آيات، وسوّغ مجيء الحال من النكرة وصفها بما بعدها
﴿أَوَكُلَّمَا﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب
﴿كلما﴾ اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا؛ لتضمّنه معنى إن الشرطية، والظرف متعلق بالجواب
﴿عَاهَدُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لكلما لا محل لها من الإعراب
﴿عَهْدًا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة، أو منصوب على أنّه مفعول به ثان لعاهدوا، إذا كان
﴿عَاهَدُوا﴾ بمعنى أعطوا، والأوّل محذوف، تقديره: عاهدوا الله عهدًا
﴿نَبَذَهُ﴾ فعل ومفعول
﴿فَرِيقٌ﴾ فاعل
﴿مِنْهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لفريق، والجملة جواب
﴿كلما﴾ لا محل لها من الإعراب، وهذه الجملة هي محل الاستفهام الإنكاري، وجملة
﴿كلما﴾ من فعل شرطها وجوابها معطوفة على الجملة المحذوفة على كونها مستأنفة
﴿بَلْ﴾ حرف عطف وإضراب
﴿أَكْثَرُهُمْ﴾ مبتدأ ومضاف إليه، وجملة
﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة السابقة. أو مستأنفة، إن قلنا: إنّ بَلْ حرف ابتداء.
171
﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ الواو عاطفة
﴿لَمَّا﴾ حرف شرط غير جازم
﴿جَاءَهُمْ﴾ فعل ماض ومفعول به
﴿رَسُولٌ﴾ فاعل، والجملة الفعلية فعل شرط للمَّا لا محل لها من الإعراب
﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، صفة أولى لرسول، تقديره: رسول مرسل من عند الله
﴿مُصَدِّقٌ﴾ صفة ثانية لرسول
﴿لِمَا مَعَهُمْ﴾ اللام حرف جرّ
﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الجر باللام، الجار والمجرور متعلق بمصدّق
﴿مَعَهُمْ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة لما الموصولة، تقديره: مصدّق للذي استقرّ معهم
﴿نَبَذَ فَرِيقٌ﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب
﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة
﴿لَمَّا﴾ معطوفة على جملة
﴿كلما﴾ أو مستأنفة
﴿مِنَ الَّذِينَ﴾ جار ومجرور صفة لفريق
﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، والواو نائب فاعل والكتاب مفعول ثانٍ لأوتوا، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب
﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾ مفعول به لنبذ
﴿وَرَاءَ﴾ منصوب على الظرفية المكانية متعلق بنبذ، وهو مضاف
﴿ظُهُورِهِمْ﴾ مضاف إليه
﴿كَأَنَّهُمْ﴾ كأنّ حرف نصب وتشبيه، والهاء اسمها، وجملة
﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ خبرها، وجملة
﴿كأنّ﴾ في محل النصب حال من فريق؛ لتخصّصه بالوصف، تقديره: حالة كونهم مشبهين بمن لا يعلم.
﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾.
﴿وَاتَّبَعُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على جملة قوله: نَبَذَ فَرِيق على كونها جوابًا للمّا، وفي "الفتوحات": والأولى أن تكون هذه الجملة معطوفة على مجموع الجملة السابقة من قوله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ إلى آخرها؛ لأنّ عطفها على نَبَذَةُ يقتضي كونها جوابًا لقوله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ منْ عِندِ الله. واتِّباعهم لما تتلو الشياطين ليس مترتِّبًا على مجيء الرسول، بل كان اتباعهم لذلك قبله
﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول اتبعوا
﴿تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ فعل مضارع معتلّ
172
بالواو وفاعل، والجملة صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما تتلوه الشياطين
﴿عَلَى﴾ حرف جرّ بمعنى: في
﴿مُلْكِ﴾ مجرور بعلى
﴿سُلَيْمَانَ﴾ مضاف إليه مجرور بالفتحة للعلمية والعجمة، وزيادةُ الألف والنون موقوفةٌ على معرفة الاشتقاق، الجار والمجرور متعلق بتتلوا
﴿وَمَا﴾ الواو استئنافية، أو اعتراضية
﴿مَا﴾ نافية
﴿كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو اعتراضية لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المعطوف الذي هو قوله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وبين المعطوف عليه الذي هو قوله:
﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ إن قلنا: إنّ
﴿ما أنزل على الملكين﴾ معطوف على
﴿تَتْلُو﴾.
﴿وَلَكِنَّ﴾ الواو عاطفة
﴿لَكِنِ﴾ حرف نصب واستدراك
﴿الشَّيَاطِينَ﴾ اسمها منصوب بالفتحة؛ لأنّه جمع تكسير، وجملة
﴿كَفَرُوا﴾ في محل الرفع خبر لَكِنِ وجملة لَكِنِ معطوفة على جملة قوله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ على كونها مستأنفة، أو معترضة
﴿يُعَلِّمُونَ﴾ فعل وفاعل
﴿النَّاسَ﴾ مفعول أوّل
﴿السِّحْرَ﴾ مفعول ثانٍ، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الشَّيْاطِينَ، أو من فاعل كَفَرُوا أو خبر ثان لـ
﴿لكن﴾.
وفي "الفتوحات": واختلفوا في هذه الجملة على خمسة أقوال:
أحدها: أنّها حال من فاعل
﴿كَفَرُوا﴾؛ أي: كفروا معلمين الناس.
الثاني: أنّها حال من
﴿الشَّيَاطِينَ﴾ وردّه أبو البقاء بأن
﴿لَكِنِ﴾ لا تعمل في الحال، وليس بشيء، فإنّ
﴿لَكِنِ﴾ فيها رائحة الفعل.
الثالث: أنها في محل الرفع على أنّها خبر ثان للشياطين.
الرابع: أنها بدل من
﴿كفروا﴾ أبدل الفعل من الفعل.
الخامس: أنّها استئنافية أخبر عنهم بذلك.
هذا إذا أعدنا الضمير من
﴿يُعَلِّمُونَ﴾ على
﴿الشَّيَاطِينَ﴾، أما إذا أعدناه على الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين، فتكون حالًا من فاعل اتبعوا، أو استئنافية فقط. انتهى.
﴿وَمَا﴾ الواو عاطفة
﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب معطوفة على
173
السحر، تقديره: ويعلمونهم ما أنزل عليهما، وسوّغ عطفه عليه مع كون هذا سحرًا أيضًا؛ تغايرهما لفظًا، أو المراد
﴿بما أنزل على الملكين﴾ نوع أقوى من السحر، فالتغاير بالحقيقة لا بالاعتبار. ذكره "الكرخي"
﴿أُنْزِلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على
﴿مَا﴾، والجملة الفعلية صلة لما الموصولة على الملكين متعلق بأنزل
﴿بِبَابِلَ﴾ الباء حرف جر بمعنى في
﴿بابل﴾ مجرور بالباء، وجره بالفتحة للعلمية والعجمية، أو التأنيث المعنوي؛ لأنّه بمعنى: البلدة، الجار والمجرور متعلق بأنزل، أو الباء على معناها متعلقة بمحذوف حال من
﴿الْمَلَكَيْنِ﴾.
﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ بدل من
﴿الْمَلَكَيْنِ﴾ أو عطف بيان لهما، وجرّهما بالفتحة للعلمية والعجمية
﴿وَمَا﴾ الواو استئنافية
﴿مَا﴾ نافيه
﴿يُعَلِّمَانِ﴾ فعل وفاعل مرفوع بثبات النون، والجملة الفعلية مستأنفة، ولا تغترّ بما قال في "الفتوحات" هنا، من أنّ الجملة معطوفة على ما قبلها؛ لأنّ عطفها عليه لا يصحّ، تأمّل
﴿مِنْ﴾ زائدة
﴿أَحَدٍ﴾ مفعول أوّل، والثاني محذوف، تقديره: وما يعلمان أحدًا السحر حتى يقولا
﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية بمعنى إلى
﴿يَقُولَا﴾ فعل وفاعل منصوب بأن المضمرة بعد حتّى، والجملة صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى، تقديره: وما يعلمان أحدًا إلى قولهما له نصيحة
﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ مقول محكي ليقولا منصوب بفتحة مقدرة على الأخير، وإن شئت قلت:
﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر
﴿نَحْنُ﴾ مبتدأ
﴿فِتْنَةٌ﴾ خبر، والجملة في محل النصب مقول ليقولا
﴿فَلَا﴾ الفاء حرف عطف وتفريع
﴿لَا﴾ ناهية جازمة
﴿تَكْفُرْ﴾ فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وفاعله ضمير مستتر يعود على أحد، تقديره: أنت، والجملة الفعلية معطوفة مفرّعة على الجملة الإسمية قبلها على كونها مقولًا ليقولا.
﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾.
﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ الفاء استئنافية، أو فصيحة، مبني على الفتح؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن الملكين لا يعلمان أحدًا حتى
174
يقولا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، وأردت بيان حال الناس هل ينجزون أم لا؟ فأقول لك: يتعلمون
﴿يتعلمون﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة
﴿مِنْهُمَا﴾ جار ومجرور متعلق بيتعلمون
﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به
﴿يُفَرِّقُونَ﴾ فعل وفاعل صلة الموصول،
﴿بِهِ﴾ جار ومجرور متعلق بيفرقون، والعائد ضمير
﴿بِهِ﴾.
﴿بَيْنَ الْمَرْءِ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بيفرقون أيضًا
﴿وَزَوْجِهِ﴾ معطوف على المرء
﴿وَمَا﴾ الواو حالية، أو اعتراضية
﴿مَا﴾ حجازية
﴿هُمْ﴾ اسمها
﴿بِضَارِّينَ﴾ خبرها، والباء زائدة
﴿بِهِ﴾ جار ومجرور متعلق
﴿بِضَارِّينَ﴾.
﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ مفعول ضارين منصوب بفتحة مقدّرة؛ لأنّه اسم فاعل، و
﴿من﴾ زائدة، وجملة
﴿مَا﴾ الحجازية في محل النصب حال من واو
﴿وَيَتَعَلَّمُونَ﴾، تقديره: يتعلمون منهما حالة كونهم غير ضارين به من أحد، أو معترضة؛ لاعتراضها بين المعطوف عليه
﴿إلّا﴾ أداة استثناء مفرّغ
﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الضمير المستتر الفاعل لضارين، أو من المفعول به، الذي هو أحد.
وفي "الفتوحات": وفي صاحب هذه الحال أربعة أوجه:
أحدها: أنّه الفاعل المستكن في
﴿بِضَارِّينَ﴾ والتقدير: وما هم بضارين به أحدًا إلّا حالة كونهم ملتبسين بإذن الله.
والثاني: أنّه المفعول وهو أحد، وسوّغ مجيء الحال من النكرة اعتمادها على النفي، والتقدير: وما هم بضارين به أحدًا إلّا حالة كونه ملتبسًا بإذن الله.
والثالث: أنه الهاء في
﴿بِهِ﴾؛ أي: بالسحر، والتقدير: وما هم بضارين به أحدًا إلّا حالة كون ذلك السحر مقرونًا بإذن الله، وإرادته.
والرابع: أنّه المصدر المعرف وهو الضرر، إلّا أنّه حذف؛ للدلالة عليه، والتقدير: وما هم بضارين به أحدًا الضرر إلّا حالة كون ذلك الضرر واقعًا بإذن الله وقدرته
﴿وَيَتَعَلَّمُونَ﴾ فعل وفاعل معطوف على قوله:
﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا﴾ ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به
﴿يَضُرُّهُمْ﴾ فعل وفاعل مستتر
175
ومفعول به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل
﴿وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ الواو عاطفة
﴿لَا﴾ نافية
﴿يَنْفَعُهُمْ﴾ فعل ومفعول، والفاعل ضمير مستتر يعود على
﴿مَا﴾ والجملة معطوفة على جملة
﴿يَضُرُّهُمْ﴾ على كونها صلة الموصول، قوله:
﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ...﴾ الخ وفي "الفتوحات" هذا الكلام في المعنى راجع لقوله:
﴿وَاتَّبَعُوا﴾ فهو معطوف عليه في المعنى.
﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ الواو استئنافية مسوقة للشروع في بيان حالهم بعد تعلم السحر، واللام موطئة لقسم محذوف
﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق
﴿عَلِمُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة
﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ اللام حرف ابتداء مُعلِّقَةٌ لما قبلها عن العمل فيما بعدها لفظًا
﴿مَنِ﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ
﴿اشْتَرَاهُ﴾ فعل ومفعول، والفاعل ضمير مستتر يعود على
﴿مَنِ﴾ والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل
﴿مَا﴾ نافية
﴿لَهُ﴾ جار ومجرور خبر مقدم
﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ متعلق بمحذوف حال مقدمة على صاحبها الذي هو
﴿خَلَاقٍ﴾.
﴿مِنْ﴾ زائدة
﴿خَلَاقٍ﴾ مبتدأ مؤخّر، والتقدير: ما خلاق كائن له حال كونه في الآخرة، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر
﴿لَمَنِ﴾ الموصولة.
وجملة
﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ من المبتدأ والخبر في محل النصب سادّة مسدّ مفعولَي
﴿عَلِمُوا﴾ إن كان متعديًا لاثنين، ومسد مفعوله إن كان متعديًا لواحد.
﴿وَلَبِئْسَ﴾ الواو استئنافية، أو عاطفة، واللام موطئة لقسم محذوف
﴿بئس﴾ فعل ماض جامد من أفعال الذم وفاعله ضمير مستتر وجوبًا يعود على الشيء المبهم
﴿مَا﴾ نكرة موصوفة بمعنى شيء في محل النصب على التمييز مفسّرة لفاعل
﴿بئس﴾.
﴿شَرَوْا﴾ فعل وفاعل
﴿بِهِ﴾ متعلق بشروا، وهذا الضمير هو الرابط بين جملة الصفة والموصوف
﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ مفعول به لشروا، والتقدير: ولبئس الشيء شيئًا شروا به أنفسهم، وجملة
﴿بئس﴾ من الفعل والفاعل جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، أو معطوفة على جملة
176
قوله:
﴿عَلِمُوا﴾، والمخصوص بالذمّ محذوف، تقديره: السحرُ والكفرُ وهو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو السحر
﴿لَوْ﴾ حرف شرط غير جازم
﴿كَانُوا﴾ فعل ماض ناقص، والواو اسمها، وجملة
﴿يَعْلَمُونَ﴾ في محل النصب خبر كان، تقديره: لو كانوا عالمين عاقبة ما تعلَّموا، وجملة كان فعل شرط للو لا محلَّ لها من الإعراب، وجواب
﴿لَوْ﴾ الشرطية محذوف دَلَّ عليه السياق، تقديره: لو كانوا يعلمون عاقبة ما تعلَّموا، لما أقدموا على ما اجترحوه من عمل السحر، وجملة
﴿لَوْ﴾ الشرطية من فعل شرطها وجوابها مستأنفة.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ الواو استئنافية
﴿لَوْ﴾ حرف شرط غير جازم
﴿أَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه،
﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر
﴿أَنَّ﴾ وجملة
﴿وَاتَّقَوْا﴾ معطوفة على جملة
﴿آمَنُوا﴾ والتقدير: ولو أنّهم مؤمنون بالله ومتّقون إيّاه، وجملة أنّ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف جوازًا؛ لأنَّ لو الشرطية لا يليها إلّا الفعل، والتقدير: ولو ثبت إيمانهم وتقواهم
﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ اللام رابطة لجواب لَّوْ الشرطية، وقيل: هي لام الابتداء مثوبة مبتدأ
﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة
﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ وهذا الوصف سوّغ الابتداء بالنكرة، والتقدير: لمثوبة كائنة من عند الله
﴿خَيْرٌ﴾ لهم خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب لو الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة لو الشرطية مستأنفة
﴿لَوْ﴾ حرف شرط غير جازم،
﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة
﴿يَعْلَمُونَ﴾ خبره، وجملة كان من اسمها وخبرها فعل شرط للو لا محل لها من الإعراب، وجواب لو محذوف دلّ عليه ما قبلها، تقديره: لو كانوا يعلمون خيرية الثواب من عند الله لما اختاروا السحر عليه، وجملة لو الشرطية من فعل شرطها وجوابها مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)﴾.
177
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يَا﴾ حرف نداء؛ أي: منادى نكرة مقصودة مبني على الضمّ، ها حرف تنبيه زائد تعويضًا عمّا فات؛ أي: من الإضافة، كما عوضوا عنها ما الزائدة في نحو: أيًّا تدعوا، وخصّت ها بالنداء؛ لأنّه محل تنبيه، وجملة النداء مستأنفة
﴿الَّذِينَ﴾ بدل من أي، أو عطف بيان له، أو صفة
﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول
﴿لَا﴾ ناهية
﴿تَقُولُوا﴾ فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب
﴿رَاعِنَا﴾ مقول محكي لتقولوا، ولو شئت قلت:
﴿راع﴾ فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وهي الياء، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: أنت يعود على محمد - ﷺ -، ونا ضمير المتكلمين في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لتقولوا
﴿وَقُولُوا﴾ فعل وفاعل مبني على حذف النون، والجملة معطوفة، على جملة
﴿لَا تَقُولُوا﴾ على كونها جواب النداء
﴿انْظُرْنَا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت:
﴿انْظُرْنَا﴾ فعل أمر، ومفعول به، وفاعل مستتر فيه، والجملة في محل النصب مقول
﴿قُولُواْ﴾.
﴿وَاسْمَعُوا﴾ فعل أمر وفاعل معطوف على
﴿قُولُواْ﴾ والمفعول محذوف، تقديره: واسمعوا ما يُكلِّمُكم به الرسول، ويُلْقِي عليكم من المسائِل المُؤدِّيةِ إلى فَلاَ حكُمْ دينا، ودنيا، ومعادًا
﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ الواو استئنافية
﴿للكافرين﴾ جار ومجرور خبر مقدّم
﴿عَذَابٌ﴾ مبتدأ مؤخّر
﴿أَلِيمٌ﴾ صفة لعذاب، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا مسوقة للإجمال بعد التفصيل.
﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)﴾.
﴿مَا﴾ نافية،
﴿يَوَدُّ﴾ فعل مضارع مرفوع
﴿الَّذِينَ﴾ فاعل، والجملة مستأنفة
﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول
﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الواو في كَفَرُوا
﴿وَلَا الْمُشْرِكِينَ﴾ معطوف على أَهْلِ الكِتَاب وزيدت لا هنا؛ لتأكيد النفي السابق، ولو كان في غير القرآن لجاز حذفها
﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر
﴿يُنَزَّلَ﴾ فعل مضارع مغيّر الصيغة منصوب بأن المصدرية
178
﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بينزّل
﴿مِنْ﴾ هو زائدة
﴿خَيْرٍ﴾ نائب فاعل لينزل
﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ صفة لخير، والجملة الفعلية مع أَن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية ليودّ، تقديره. ما يودّ الذين كفروا تنزيل خير كائن من ربّكم عليكم
﴿وَاللَّهُ﴾ الواو استئنافية
﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ
﴿يَخْتَصُّ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة
﴿بِرَحْمَتِهِ﴾ جار ومجرور متعلق بيختّص
﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة
﴿يَشَاءُ﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: من يشاؤه؛ أيْ: يشاء تخصيصه
﴿وَاللَّهُ﴾ الواو استئنافية
﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ
﴿ذُو﴾ خبر مرفوع بالواو المحذوفة؛ لالتقاء الساكنين؛ لأنّه من الأسماء الستة، وهو مضاف
﴿الْفَضْلِ﴾ مضاف إليه
﴿الْعَظِيمِ﴾ صفة للفضل، والجملة الاسمية مستأنفة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ تقدّم أن أصل الميثاق مِوْثاق، قلبت الواو ياءً لمَّا سُكِّنت بعد كسرةٍ
﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ﴾ أمر من أخذ، والقياس أن يسكن فاؤه، ويؤتى بهمزة وصل؛ للتوصل بها إلى النطق بالساكن، كما قالوا: اضرب، اصبر، ولكن قدَّمنا أنَّ هذا الفعل وهو أخذ، وكذلك أكَلَ، وأَمَر، أنَّ الأمر منها دائمًا، هكذا: خُذ، كُل، مُر
﴿مَا آتَيْنَاكُمْ﴾ أصله: أأتيناكم بهمزتين، أبدلت الثانية ألفًا حرف مدِّ للأولى
﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ وبئس فعلٌ، وضع لإنشاء الذمّ، وأصله. فعِلَ، ولكنّهم خفَّفوا بسكون الوسط وله ولنِعْمَ باب معقود في النحو، وأصل إيمانكم: إئمانكم بهمزتين، أبدلت الثانية الساكنة حرف مدّ مجانسًا لحركة الأولى.
﴿إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ الدار فيه إعلال بالقلب، فألفه منقلبة عن واو، وأصله؛ دَوَرٌ تحركت الواو بعد فتح فقلبت ألفًا، ولذلك يصغر على دويرة
﴿خَالِصَةً﴾ الخالص: الذي لا يشوبه شيء، يقال: خلص يخلص خلوصًا، إذا
179
سلم من شائبة الغير، فالخالصة مصدر جاء على وزن فاعلة، كالعافية، والعاقبة، وهو بمعنى الخلوص، كما ذكره "الكرخي"
﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ أصله: تمنّيوا بوزن تفعلوا من التمنّي، يقال: تمنّى يتمنّى تمنيًّا، وأمرُ الجماعة منه تمنّووا، وذلك أنّ المضارع لمّا بني منه الأمر، حذف حرف المضارعة ونون الرفع، فصار تمنّيوا، فتحركت الياء فقلبت ألفًا فالتقى ساكنان الألف وواو الجماعة، فحذفت الألف، ثمّ حركت الواو بالضمّ؛ لالتقائها ساكنة مع لام ال بعده؛ لأنّ همزة الوصل ساقطة في الدرج، ومعنى تمنوا الموت: تشوفوا، واجعلوا نفوسكم ترتاح إليه، وتودُّ المصير إليه
﴿وَأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ والعجل: هو الذي صنعه لهم السامري من حليهم، وجعلوه إلهًا وعبدوه، ويقال: أشرب قلبه كذا؛ أي: حُلَّ محلَّ الشراب، كأنَّ الشيء المحبوب شراب يُساغُ، فهو يسري في قلب المحب، ويمازجه كما يسري الشراب العذب البارد في اللَّهاة، وحقيقة أُشْرِبَه كذا جعله شارِبًا له.
﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ تجدنهم مضارع وجَدَ، وأصله: يَوْجِدُ من فَعَل بفتح العين في الماضي يفعِل بكسرها في المضارع، فهو مثالٌ وقعت الواو بين عدوَّتيها الياء المفتوحة والكسرة فحذفت، ثُمَّ بني الفعل على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد المباشرة، وقس على هذا ما شابهه، ومادَّة. وجد مشتركٌ بين الإصابة، والعلم، والغنى، والحرج، ويختلف بالمصادر، كالوجدان، والوجد، والموجدة، والحرص شدَّة الطلب، وفي "المصباح": وحَرَص عليه حرصًا من باب ضرب إذا اجتهد، والاسم الحِرص بالكسر، وحرص على الدنيا من باب ضرب أيضًا، وحَرِص حرصًا من باب تعب إذا رغب رغبةً مذمومةً. اهـ.
﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾ من الود وهو المحبَّة للشيء والإيثار له، وهو مضارع وَدِدَ بكسر العين في الماضي، يَوْدَدُ بفتحها في المضارع من باب فَعِلَ يَفْعَلَ، نقلت حركة الدال إلى الواو، فسكنت، فأدغمت في الدال الثانية
﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ من عمَّر المضعَّف، والتضعيف فيه للنقل، إذ هو من عَمَّر الرجل إذا طال عمره، وعمَّره الله إذا أطال عمره، والعمر مدَّةُ البقاء
﴿أَلْفَ سَنَةٍ﴾ والألف عشر من المئين، وقد يتجاوز فيه فيدلُّ على الشيء الكثير وهو من الألفة، إذ هو ما لَفَّ أنواعَ الأعداد، إذ العشرات ما لَفَّ الآحاد، والمئون ما لفَّ العشرات، والألف ما لفَّ المِئِين
180
﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ﴾ من الزحزحة: وهي الإزالة والتنحية عن المقرِّ، وزحزح يستعمل متعدِّيًا كما هنا، ولازمًا، كقول الشاعرِ:
خَلِيْلَيَّ ما بَالُ الدُّجَى لا يُزَحْزَحُ | وَمَا بالُ ضَوءِ الصُّبْحِ لا يتَوضَّحُ |
والمعنى: بمنجيه من العذاب، وقيل: من بمعنى عن؛ أي: بمبعده عن العذاب، وتكرار الحروف يشابه تكرار العمل
﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ والعدوُّ ضِدُّ الصديق، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والمثنى والجميع، وأصله: عَدُوْوٌ بوزن فَعولٍ، أدغمت وَاوُ فَعول في لام الكلمة
﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ نَبْذُ الشيءِ طَرَحُهُ وإلقاؤهُ، والفريق: العدد القليل، وأصل أوتوا: أؤتيوا مبنيًّا للمجهول، وفيه همزتان الأولى مضمومة، والثانية ساكنة، فأبدلت الثانية حرف مدٍّ للأولى من جنس حركتها على حدِّ قول ابن مالك:
وَمَدًّا ابْدِل ثَانِيَ الهَمْزَيْنِ مِنْ | كِلْمَةٍ إنْ يَسْكُنْ كَآثِرْ وائتُمِينْ |
ثمّ استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فسكنت، فحذفت لالتقاء الساكنين
﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ ﴿اتبعوا﴾ افتعلوا من الاتباع، أدغمت فاء الفعل في تاء الافتعال، فقيل: اتبعوا بعد أن استجلبت همزة الوصل، للتوصّل إلى النطق بالساكن
﴿تَتْلُو﴾ أصَلْهُ: تَتْلُوُ بوزن تَفعُلُ من تلا يتلو، كسما يسمو ناقصٌ واويٌّ، ولمَّا تطرفت الواو إثر ضمة سكنت، وجعلت حرف مدّ
﴿بضارِّين﴾ أَصْلُه: بضارِرِين، أدغمت الراء الأولى بعد تسكينها في الثانية
﴿مَا يَضُرُّهُمْ﴾ أصله: يَضْرُرْهم بوزن يفعل، نقلت حركة الراء الأولى إلى الضاد، فسكنت، فأُدغمت في الراء الثانية
﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ علمان أعجميان بدليل منع الصرف، ولو كانا من الهَرْتِ والمَرتِ؛ أي: الكُسْرِ كما زعَمَ بعضهم لانَصْرَفَا
﴿بِبَابِلَ﴾ وبابلُ مدينة قديمة مُنع من الصرف للعلمية والعجمة، وتقعُ أنْقاضُها على الفُراتِ قُرْبَ الحُلَّةِ شرقيَّ بغدادَ
﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ أصله: اشتَرَيَ بوزن افتَعَلَ، قُلبت الياءُ لامُ الفعل ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، فهي مِنْ شرَاه يَشْرِيهِ إذا باعه، أو ملَكَه بشراءٍ، ودليلُ ذلك قولُه:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ ﴿مِنْ خَلَاقٍ﴾ بالفتح بمعنى نصيب
﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا﴾ أصل: شروا كما تقدّم قريبًا شَرَيُوا، تحركت الياء وانفتح ما
181
قبلها فقلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، فحذفت الألف.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ أصله؛ أَأْمنُوا، أبدلت الهمزة الثانية ألفًا حرف مَدٍّ للأولى
﴿وَاتَّقَوْا﴾ أصله: أوْتَقَيُوا، أبدلت الواو التي هي فاء الكلمة تاء، وأدغمت في تاء الافتعال، ثم أبدلت الياء ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان الألف والواو، فحذفت الألف، وبقيت الفتحة دالةً عليها
﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ وَزْنهُ مَفْعُلَةً بضمّ العين من الثواب، نقلت حركة الواو إلى الفاء، فسكنت الواو إثر ضمة، فجعلت حرف مدّ. ونقل الواحديُّ: أنَّ المثوبة فيها قولان:
أحدهما: أنّ وزنها مَفْعُولة، والأصلُ: مَثْوُوْبةٌ بواوين، فثقلت الضمةُ على الواو الأولى، فنقلت إلى الساكن قبلها، فالتقى ساكنان، فحذف أوّلهما الذي هو عين الكلمة، فصار مثوبة على وزن مفولة، ومحوزة، ومصونة، ومشوبة، وقد جاءت مصادر على وزن مفعول، كالمعقود، فهي مصدر نقل ذلك الواحديُّ.
والثاني: أنّها مفعُلةٌ بضم العين، وإنما نُقلت الضمة منها إلى الثاء، وكان من حقّها الإعلال، فيقال: مَثابة، كمَقالة، إلّا أنّها صحَّحوها. اهـ. "سمين".
﴿تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ يقال: تلا يتلو إذا تبع، وتلا القرآن؛ قرأه. وتلا عليه؛ كذَب. قاله أبو مسلم، وقال أيضًا: تلا عنه؛ صدف. فإذا لم يذكر الصِلَتَين احتمل الأمرين
﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾؛ أي: في زمنه، وسليمان: اسم أعجمي، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة، ونظيره من الأعجمية في أنَّ آخرُهُ ألفًا ونونًا هامان، وماهان، وسامان، وليس امتناعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون كعثمان؛ لأنَّ زيادة الألف والنون موقوفةٌ على الاشتقاق، والتصريف، والاشتقاق، والتصريف العربيان لا يدخلان الأسماء العجمية
﴿السِّحْرَ﴾ مصدر سَحَر يَسْحَر سِحْرًا على وزن فِعْلٍ، ولا يوجد مصدرٌ على وزن فِعْلٍ إلّا سِحْرٌ وفِعْلٌ، قاله بعض أهل العلم، قال الجوهري: كُلُّ ما لطَفُ ودقَّ فهو سِحر، يقال: سحَرَهَ؛ أَبْدَى، له أمرًا يَدِقُّ عليه ويَخْفَى. انتهى. وقال الشاعر:
أدَاءٌ عرَانِي مِنْ حَيائِكَ أمْ سِحْرُ
ويقال: سحَرَه إذا خدَعه، ومنه قولُ امريء القيس:
182
أَرانَا موضعيَنِ لأمْرِ عيْب | وَنُسْحَرُ بالطَّعَامِ وَبالشرَابِ |
أي نُعَلَّلُ ونُخْدَعُ
﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ اسمان أعجميَّان ممنوعان من الصرف، ومن نظائرهما طالوتُ وجالوتُ، ويجمعان على هواريت، ومواريت.
﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ والفتنة: الابتلاءُ والاختبار، يقال: فتن يفتن فتونًا، وفتنةً
﴿مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ والضُرُّ والنفع معروفان، ويقال: ضرَّ يضُرُّ بضمّ الضاد، وهو قياس المضعَّف المتعدِّي، ومصدره: الضُرُّ والضَرُّ والضرر، ويقال: ضار يضير، قال:
يَقُولُ أُناسٌ لا يَضِيْرُكَ نَابُهَا | بَلَى كُلُّ مَا شَفَّ النُّفُوسَ يضيْرُهَا |
ويقال: نفع ينفع نفعًا، قيل: لا يقال منه اسم مفعول، نحو: منفوع، والقياس النحويُّ يقتضيه
﴿مِنْ خَلَاقٍ﴾ الخلاق في اللغة: النصيب، قاله الزجَّاج، قال لكنه أكثر ما يستعمل في الخير، قال:
يَدْعُوْنَ بالوَيْلِ فِيْهَا لا خَلاَقَ لَهُمْ | إلّا السَّرَابِيْلُ مِنْ قَطْرٍ وأغلاَلُ |
والخلاقُ أيضًا: القَدْرُ، قال الشاعر:فَمَا لَكَ بَيْتٌ لَدَى الشَّامِخَاتِ | وَمالَكَ في غَالِب مِنْ خَلاق |
﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ مفعلة من الثواب كما مرّ، نقلت حركة الواو إلى الثاء، ويقال: مثوبةٌ، وكان قياسه الإعلال، فتقول: مثابةٌ، ولكنهم صحَّحُوه كما صحَّحُوا في الأعلام مَكْوُرة، ونظيرهُما في الوزنِ من الصحيح مَقْبَرة ومَقْبُرة
﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ قال الراغبُ: العداوةُ: التجاوز، ومُنافاة الالتئام. فبالقَلْبِ يقال: العداوة. وبالمَشْي يقال: العَدْوُ. وبالإخلال في العدل يقال: العُدْوان. وبالمكان أو النَّسب، يقالَ: قومٌ عِدَي؛ أي: غُرباء.
﴿كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ وهذا مثلٌ يُضرب لمن أعرض عن الشيء جملةً، تقول العرب: جعل هذا الأمر ورَاءَ ظهرِه ودُبُرَ أُذنه، وقال الفرزدق:
تَمِيمُ بنُ مُرٍّ لا تَكُونَنْ حَاجَتِي | بِظَهْرٍ وَلاَ يَعْيَا عَلَيْكَ جَوَابُهَا |
وقالت العرب ذلك. لأنَّ ما جُعل وراء الظهر لا يمكن النظرُ إليه، ومنه
﴿واتَّخذتُموه ظهريا﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا﴾ راعنا وزنه فاعنا،
183
أُعلّ بحذف لامه؛ لمناسبة باء الأمر؛ لأنّه من الرعاية، يقال: راعى يراعي مراعاة، إذا نظر في مصالح الإنسان، وتدبير أموره.
البلاغة
وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة المكنية في قوله:
﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ حيث شبَّه حبَّ عبادة العجل بمشروب لذيذ سائغ الشراب، وطوى ذكر المشبَّه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو الإشراب على طريق الاستعارة المكنية، قال في "تلخيص البيان"، وهذه استعارةٌ، والمراد: وصف قلوبهم بالمبالغة في حُبِّ العجل، فكأنَّها تشرَّبَتْ حُبَّه، فمازجها ممازجة المشروب، وخالطها مخالطة الشيء الملذوذ، وقال بعضهم فيه: التشبيه البليغ؛ أي: جعلت قلوبهم لتَمَكُّن حب العجل منها، كأنَّها تشرب، ومثله قول زهير:
فصحوتَ عَنْهَا بَعْدَ حُبٍّ داخِلٍ | وَالْحُبُّ يَشْرَبُهُ فُؤَادُكَ دَائِمًا |
وإنما عبَّر عن حُبّ العجل بالشرب دون الأكل؛ لأنَّ شُرْبَ الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعامُ لا يتغلغل فيها.
ومنها: التهكُّم في قوله:
﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ حيث أسند الأمر إلى إيمانهم، وكذلك إضافةُ الإيمان إليهم، أمَّا الثاني فظاهرٌ في قوله تعالى:
﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ تحقيرًا ودلالة على أنَّ مثل هذا لا يليق أن يسمَّى إيمانًا إلّا بالإضافة إليكم، وأمَّا الأوّل؛ فلأنَّ الإيمان إنّما يأمر ويدعو إلى عبادة من هو في غاية العلم والحكمة، فالإخبار بأنَّ إيمانهم يأمر بعبادة ما هو في غاية البلادة، في غاية التهكم والاستهزاء، سواءٌ جعل يأمر به بمعنى يدعو إليه أم لا. انتهى. من "الكرخي".
ومنها: التنكير في قوله:
﴿عَلَى حَيَاةٍ﴾؛ للتنبيه على أنَّ المراد بها حياةٌ مخصوصة، وهي الحياة المتطاولة التي يعمر فيها الشخص ألوفًا من السنين.
184
ومنها: تخصيص هذا العدد في قوله:
﴿أَلْفَ سَنَةٍ﴾؛ لأنّهم يقولون ذلك فيما بينهم عند العطاس والتحيّة عِشْ ألفَ سنة، وألف نَوَّروُزْ، وأَلْفِ مهرجان.
ومنها: الإتيانُ بالجملة الاسمية في جواب الشرط في قوله:
﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾؛ لزيادة التقبيح والتشنيع؛ لأنّها تُفِيدُ الثباتَ والدوامَ.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله:
﴿عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ حيث لم يقل: عدوٌّ لهم؛ لتسجيل صفة الكفر عليهم، وأنّهم بسبب عداوتهم للملائكة أصبحوا من الكافرين.
ومنها: الإظهار في قوله:
﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ حيث لم يقل: فإنه؛ دفعًا لاحتمال أن يعود الضمير إلى جبريل، أو ميكائيل.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله:
﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾، إظهارًا لمزيَّتِهِ وشرفه.
ومها؛ إسناد النبذ إلى فريق منهم في قوله:
﴿نبذ فريق منهم﴾؛ إشعارًا بأنَّ منهم من لم ينبذ.
ومنها: خُروج الأمر عن معناه الأصليِّ إلى معنى التعجيز، في قوله:
﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ هو لأنَّ ذلك ليس من سِماتهم، ولا من ظواهرهم المألوفة، فإنَّ تمني الموت من شأن الأبرار المقرَّبين؛ لأنَّ من أيقن بالشهادة اشتاق إليها، وبكى حنينًا إليها، وقد رُوي عن علي بن أبي طالب (أنّه كان يطوف بين الصفين، في غلالة، فقال ابنه الحسن: ما هذا بزيِّ المحاربين؟ فقال: يا بنيّ! لا يبالي أبوك سقط على الموت أم سقط عليه الموت)، ولمَّا احتضر خالد بن الوليد بكى، فقيل له: ما يبكيك؛ قال: (والله ما أُبالي إشفاقًا من الموت، ولكن لأنّي حضرت كذا وكذا معركةً، ثمّ أموت هكذا، كما تموت العنز، فلا نامت أعين الجبناء) وعن حذيفة أنّه كان يتمنَّى الموت، فلما احتضر قال: (حبيبٌ جاء على فاقةٍ لا أفلح من ندم! يعني: على التمنِّي، وعن النبي - ﷺ -: (لو تمنَّوا الموت لغَصَّ كُلُّ إنسان منهم بريقه فمات مكانه، وما بقي على وجه الأرض يهوديٌّ).
185
ومنها: الإيجاز في قوله:
﴿عَلَى حَيَاةٍ﴾ ففي تنكير حياة فائدةٌ عجيبة، فحواها: أنَّ الحريص لا بُدَّ أن يكون حيًّا، وحرصه لا يكون على الحياة الماضية والراهنة، فإنّهما حاصلتان، بل على الحياة المستقبلة، ولمَّا لم يكن الحرص متعلِّقًا بالحياة على الإطلاق، بل بالحياة في بعض الأحوال، وجب التنكير، وفي الحذف توبيخٌ عظيمٌ لليهود؛ لأنَّ الذين لا يؤمنون بالمعاد، ولا يعرفون إلّا الحياة، لا يستبعد حرصهم عليها، فإذا زاد أهل الكتاب عليهم في الحرص، وهم مُقِرُّون بالبعث والجزاء، كانوا أحرى باللَّوم والتوبيخ.
ومنها: الكناية في قوله:
﴿أَلْفَ سَنَةٍ﴾؛ لأنّه كنايةٌ عن الكثرة، فليس المراد خصوص الألف.
ومنها: التنكير في قوله:
﴿رَسُولٌ﴾؛ للدلالة على التفخيم والتعظيم.
ومنها: وصفه بقوله:
﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾؛ أي: بأنَّه آتٍ من عند الله، إفادةً لمزيد التعظيم.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله:
﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾ كناقة الله وبيت الله.
ومنها: التمثيل في قوله:
﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾؛ لأنّه تمثيل لتركهم وإعراضهم عن كتاب الله بالكلية، حيث رموه بالعناد، ولم يعملوا به بما يرمى به وراء الظهر استغناءً عنه، وقلَّة التفاتٍ إليه.
ومنها: حكاية حالٍ ماضيةٍ في قوله:
﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ حيث لم يقل تلت الشياطين؛ لأنَّ تلاوتهم من الأمور الماضية فعبَّر عنها بالمستقبل حكايةً لها.
ومنها: زيادة مِنْ في المفعول في قوله:
﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾؛ لإفادة تأكيد الاستغراق المستفاد من أحد.
ومنها: القصر في قوله:
﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾؛ لبيان أنّه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأنٌ سواها؛ لِنَصْرِفَ الناسَ عن تعلُّمِه.
186
ومنها: الطباق بين الضرِّ والنفع في قوله:
﴿مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾؛ لأنَّ بينهما طباق السَّلْب.
ومنها: فنٌّ رفيعٌ في فنون البلاغة في قوله:
﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾؛ الخ. وقوله:
﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ وهو تنزيل العلم منزلة الجاهل، فإنَّ صدر الآية يدلُّ على ثبوت العلم في أنّه لا نفع لهم في اشتراء كتب السحر والشعوذة، واختيارها على كتب الله تعالى، وآخر الآية ينفي عنهم العلم، فإنَّ لو تدلُّ على امتناع الثاني لامتناع الأول، إلا أنَّ نفي العلم عنهم لأمرٍ خطابيٍّ، نظرًا إلى أنَّهم لا يعملون على مقتضى العلم، ولكن في ذلك مبالغةٌ من حيث الإشارة، إلى أنَّ علمهم بعدم الثواب كافٍ في الامتناع، فكيف العلم بالذمِّ والرداءة.
ومنها: الإتيان بالجملة الاسمية في جواب لو الشرطية في قوله:
﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ بدل الجملة الفعلية؛ للدلالة على الثبوت والاستمرار.
ومنها: تنكير مثوبة في قوله:
﴿لَمَثُوبَةٌ﴾؛ لإفادة التقليل؛ أي: شيءٌ قليلٌ من الثواب كائنٌ من عند الله خيرٌ.
ومنها: حذف المفضَّل عليه في قوله:
﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾؛ إجلالًا للمفضَّل من أن ينسب إليه، وهو السحر.
ومنها: الكناية في قوله:
﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ لأنَّ نفي الودِّ عنهم كنايةٌ عن الكراهة؛ أي: ما يحب الذين كفروا الخ.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله:
﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
ومنها: تصدير الجملتين بلفظ الجلالة في قوله:
﴿وَاللَّهُ يَخْتَصُّ﴾ وقوله:
﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ﴾ للإيذان بفخامة الأمر.
ومنها: فنُّ التهذيب في قوله:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ وهو ترداد النظر فيما يكتبه الكاتب، وينظمه الشاعر، فقد خلصت هذه الآية من الإيهام، ودلَّتْ على آداب المخاطبة ليكون الكلام بريئًا من المطاعن، بعيدًا عن الملاحن.
187
ومنها: زيادة لا النافية في قوله:
﴿وَلَا الْمُشْرِكِينَ﴾ تأكيدًا للنفي المستفاد ممَّا قبلها؛ لأنَّ المعنى ما يودُّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، بغير زيادة لا. اهـ."سمين".
ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
188
قال الله سبحانه جلّ وعلا:
﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١١١) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
المناسبة
قوله تعالى:
﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه، لمَّا بيَّن حقيقة الوحي (١)، وردَّ كلام الكارهين له جملةً.. بَيَّنَ سرَّ نسخه، وأبطل مقال الطاعنين فيه، بأنّه تعالى يأمر بالشيء لما يعلم فيه من المصلحة، ثمَّ ينهى عنه لما يرى في ذلك من الخير حينئذٍ، فأطيعوا أمره، واتَّبعوا رسله في تصديق ما به أخبروا، وترك ما عنه زجروا.
قوله تعالى:
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لمَّا نهى في الآيات السابقة عن الاستماع لنصح
189
اليهود، وعدم قبول آرائهم في شيء من أمور دينهم، ذكر هنا وجه العلة في ذلك، وهي أنَّ كثيرًا منهم يودون لو ترجعون كفارًا حسدًا لكم ولنبيّكم، فهم لا يكتفون بكفرهم بالنبي - ﷺ -، والكيد له بنقض ما عاهدهم عليه، بل يحسدونكم على نعمة الإِسلام، ويتمنون أن تحرموا منها.
وقد كان لأهل الكتاب حيلٌ في تشكيك المسلمين في دينهم، فقد طلب بعضهم من بعض أن يؤمنوا أوَّل النهار، ويكفروا آخره كي يتأسَّى بهم بعض ضعاف الإيمان من المسلمين، وكانوا يلقون بعض الشبه على المؤمنين، ليشككوهم في دينهم.
قوله تعالى:
﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها من حيث إنَّ هذه الآيات في بيان أباطيل أخر لأهل الكتاب وقبائحهم، حيث ادَّعى كلٌّ من الفريقين اليهود والنصارى أنَّ الجنّة خاصَّةٌ به، وطعن في دين الآخر، فأكذب الله الفريقين، وبيَّن أنّ الجنّة إنّما يفوز بها المؤمن التقيُّ الذي عمل الصالحات.
واعلم: أنّ الله سبحانه ذكر في هذه الآية حالين من أحوال اليهود (١):
أولاهما: تضليل من عداهم، وادعاؤهم أنَّ الحق لا يعدوهم، وأنّ النبوة مقصورةٌ عليهم.
وثانيهما: تضليل اليهود للنصارى، وتضليل النصارى لهم، كذلك مع أنَّ كتاب اليهود أصل لكتاب النصارى، وكتاب النصارى متمِّمٌ لكتاب اليهود.
والعبرة من هذا القصص: أنَّهم قد صاروا إلى حال من اتباع الأهواء، لا يعتدُّ معها بقول أحد منهم، لا في نفسه، ولا في غيره، فطعنهم في النبي - ﷺ -، وإعراضهم عن الإيمان به، لا يثبت دعواهم في أنّه مخالف للحق، فاليهود قد كفروا بعيسى، وقد كانوا ينتظرونه، والنصارى كفروا بموسى ورفضوا التوراة، وهي حجتهم على دينهم، فكيف بعدئذٍ يعتدُّ برأيهم في محمدٍ - ﷺ -؟ وهو من غير
190
شعبهم، وجاء بشريعةٍ نسخت شرائعهم.
قوله تعالى:
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ﴾ سبحانه الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر افتراء اليهود والنصارى وقولهم: إنّ الجنّة لا يدخلها إلّا من كان هودًا أو نصارى، وإنّها خاصة بهم.. أردف ذلك بذكر بعض قبائحهم، وقبائح المشركين في ادّعائهم: أنّ لله ولدًا، حيث زعمت اليهود: أنَّ عزيرًا ابن الله، وزعمت النصارى: أنّ المسيح ابن الله، وزعم المشركون: أنّ الملائكة بنات الله، فأكذبهم الله وردَّ عليهم دعواهم الباطلة.
أسباب النزول
قوله تعالى:
﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: (كان ربما ينزل على النبي - ﷺ - الوحي بالليل وينساه في النهار، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ:
﴿مَا نَنْسَخْ﴾ الآية).
وروي أنَّ هذه الآيات نزلت حين قال المشركون، أو اليهود: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمرٍ، ثُمَّ ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول: اليوم قولا ويرجع عنه غدًا، فقد أمر في حد الزنا بإيذاء الزانيين باللِّسان حيث قال:
﴿فَآذُوهُمَا﴾ ثُمَّ غيَّره وأمر بإمساكهن في البيوت، حيث قال:
﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ ثمَّ غيَّره بقوله:
﴿فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ فما هذا القرآن إلّا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، يناقض بعضه بعضًا، ومقصدهم من ذلك الطعن في الدين؛ ليضعِّفوا عزيمة من يريد الدخول فيه، وينضوي تحت لوائه.
قوله تعالى:
﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ﴾ إلى قوله:
﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رفيع بن خزيمة، ووهب بن زيد لرسول الله - ﷺ -: يا محمد! ائتنا بكتابٍ تنزله علينا من السماء نقرؤه، أو فجر لنا أنهارًا نتَّبعك ونصدِّقك، فأنزل الله في ذلك:
﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ﴾ إلى قوله:
﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾.
191
وما أخرجه ابن جرير، عن مجاهد قال: سألت قريشٌ محمدًا - ﷺ - أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، فقال: "نعم، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم" فأبوا، ورجعوا، فأنزل الله عزّ وجلّ:
﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ...﴾ الآية.
قوله تعالى:
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ...﴾ الآية، سبب نزولها: أنّه كان حُييُّ بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب، من أشدّ اليهود حسدًا، للعرب، إذْ خصّهم الله تعالى برسوله، وكانوا جاهدين في رد الناس عن الإِسلام، فأنزل الله فيهما:
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد أنّه أخبره: أنَّ رسول الله - ﷺ - ركب على حمار، فقال لسعد: "ألم تسمع ما قال أبو الحباب" يريد عبد الله بن أبي؟ قال: "كذا وكذا"، فقال سعد بن عبادة: اعف عنه واصفح، فعفا عنه رسول الله - ﷺ -، وكان رسول الله - ﷺ - يعفو عن أهل الكتاب والمشركين، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ:
﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
قوله تعالى:
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: لمَّا قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله - ﷺ -، أتتهم أحبار اليهود، فتنازعوا عند رسول الله - ﷺ -، فقال رافع بن حرملة من اليهود: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى، وبالإنجيل، وقال: رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوة موسى، وكفر بالتوراة، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ﴾ الآية.
قوله تعالى:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية، ما أخرجه ابن جرير، عن ابن زيد قال: نزلت هذه الآية في المشركين حين صدُّوا رسول الله - ﷺ -، عن مكة يوم الحديبية، وأخرج ابن جرير من طريق سعيد، أو عكرمة عن ابن عباس قال: إنّ قريشًا منعوا النبيَّ - ﷺ - الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله سبحانه
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ...﴾ الآية.
192
﴿يَخْتَلِفُونَ﴾ فيه من أمر الدين، فيقسم لكل فريق منهم من العقاب ما يستحقُّه، ويليق به. وقال الحسن؛ أي: فالله يكذبهم جميعًا، ويدخلهم النار.
وقيل (١): معنى
﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: بين الفرق المذكورة اليهود، والنصارى، ومشركي العرب، ومن أسلم وجهه لله وهو محسن، فيُدْخِل المحقَّ الجنة، والمبطل النار، وهذا المعنى الذي يقتضيه السياق؛ أي: فهو العليم بما عليه كُلُّ فريق من حقٍّ وباطل، فَيُحِقّ الحقَّ، ويجعل أهله في النعيم، ويبطل الباطل، ويُلْقيَ أهلَه في سواء الجحيم. وفِعْلُ الحُكْم يتعدَّى بجارّين، الباء، وفي، كما يقال: حكم الحاكم في هذه القضية بكذا، وفي الآية قد ذكر المحكوم فيه دون المحكوم به. واعلم أنَّ كُلَّ حزب بما لديهم فرحون، وليس ذلك في الفرق الضالة خاصَّةً.
١١٤ - ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ ﴿مَنْ﴾ للاستفهام الإنكاري المضَمَّن للنفي، مبتدأ، و
﴿أظلم﴾ خبره، أي: وأيُّ امرئٍ أشدُّ ظلمًا وتعدِّيًا على الله تعالى
﴿مِمَّنْ مَنَعَ﴾؛ أي: من امرئٍ منع
﴿مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾؟ والمراد بالمساجد: بيت المقدس، والمسجد الحرام، على الخلاف في سبب النزول، كما سيأتي، وصيغة الجمع؛ لكون حكم الآية عامًّا لكل من فعل ذلك في أيِّ مسجد كان، كما تقول: لمن آذى صالحًا واحدًا، ومن أظلم ممَّن آذى الصالحين؛ لأنّه لا عبرة بخصوص السبب، كما هو القاعدة في الأسباب، وقوله:
﴿أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ ثاني مفعولَي مَنَع، فإنَّه يقتضي ممنوعًا وممنوعًا عنه، فتارةً يتعدى إليهما بنفسه، كما في قَوْلِك: مَنَعْتُه الأمر، وتارة يتعدى إلى الأول بنفسه، وإلى الثاني بحرف الجرّ، وهو كلمة عن، أو من مذكورةً كانت كما في قولك: منعته من الأمر، أو محذوفةً، كما في الآية؛ أي: من أن يسبَّح ويقدَّس ويصلَّى له فيها
﴿وَسَعَى﴾؛ أي: عمل واجتهد
﴿فِي خَرَابِهَا﴾ بالهدم، والخراب: اسم مصدرٍ للتخريب، كالسلام للتسليم، وأصله: الثَّلْمُ والتفريقُ؛ أي: لا أحد من المانعين عن الخيرات أشدُّ ظلمًا وتعديًا على الله سبحانه ممن منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه،
212
بالصلاة، والتسبيح، والأذان، ومدارسة العلوم الدينية، وتدريسها من التفسير، والحديث، والفقه، والتوحيد، وما يحتاج إليه فيها من علوم القواعد العربية، كالنحو، والصرف، والبلاغة، فهذا المانع أشدُّ ظلمًا، وأقبح جرمًا، لما فيه من الجراءة على الله، وقطع دينه، ومعاداته، فإنَّ الاشتغال بالعلم من أفضل الطاعات، وأولى ما أنفقت فيه نفائس الأوقات؛ أي: لا أحد أظلم ممن منع الناس أن يعبدوا الله تعالى في المساجد، بالصلاة، والأذكار، وغيرها، بغلقها، وتعطيلها عن العبادة، ومنع الوصول إليها، كما فعل المشركون حين صدُّوا النبيَّ - ﷺ - وأصحابه عام الحديبية عن البيت عام ستٍّ من الهجرة
﴿وَسَعَى﴾؛ أي: عمل واجتهد
﴿فِي خَرَابِهَا﴾ أي: في أسباب تخريبها بالهدم، وإلقاء الجيف، والقاذورات فيها، قال قتادة: أولئك أعداء الله النصارى خرَّبوا بيت المقدس.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: (أن فَلَيْطَيُوسَ الرُّوميّ مَلِكَ النصارى، وأصحابه غزوا بني إسرائيل، فقتلوا مقاتلتهم، وسَبَوْا ذرارِيَّهم، وأحرقوا التوراة، وخرَّبوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف، وذبحوا فيه الخنازير، ولم يزل خرابًا حتى بناه المسلمون في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -) وذلك لمَّا استولى عُمر رضي الله عنه على ولاية كِسرى، وغنم أموالَهم، عَمَّر بها بَيْتَ المقدس، ثم صار في أيدي النصارى من الإفرنج أكثر من مائة سنة، حتى فتحه، واستخلصه من أيديهم، الملك الناصر صلاح الدين من آل أيوب، سنة خمسمائة وخمس وثمانين بعد الهجرة. وقيل: نزلت الآية في مشركي العرب الذين منعوا رسول الله عن الدعاء إلى الله تعالى بمكة، وألجؤوه إلى الهجرة، فصاروا بذلك مانعين له - ﷺ -، ولأصحابه أن يذكروا اسم الله في المسجد الحرام، وأيضًا: أنّهم صدُّوا رسول الله - ﷺ -، وأصحابه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من المدينة عام الحديبية، وهي السنة السادسة من الهجرة، والحديبية: موضعٌ على طريق مكة، فعلى هذا يكون المسجد الذي نزلت الآية فيه المسجد الحرام، فالمراد بالخراب في قوله:
﴿وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ تعطيلهم المسجد الحرام عن الذكر والعبادة، دون تخريبه وهدمه حقيقةً، ويجعل تعطيل المسجد عنهما تخريبًا؛ لأنَّ المقصود من بنائه إنما هو الذكرُ والعبادةُ فيه، فما دام لم يترتَّب عليه هذا
213
المقصود من بنائه صار كأنه هُدِّم وخُرِّب، أو لم يُبْنَ من أصله، فإنَّ عمارة المسجد كما تكون ببنائه، وإصلاحه، تكون أيضًا بحضوره، ولزومه، يقال: فلان يعمر مسجد فلانٍ، إذا كان يحضره ويلزمه، ويقال لسكان السموات من الملائكة: عُمَّارها. وفي الحديث: عن النبي - ﷺ - قال: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان" وذلك لقوله تعالى:
﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ فجعل حضور المساجد عمارةً لها، وعن عليٍّ - رضي الله عنه - (سِتٌّ من المروءة: ثلاثٌ في الحضر، وثلاثٌ في السفر، فأما اللَّاتي في الحضر فتلاوة كتاب الله، وعمارة مساجد الله، واتخاذ الإخوان في الله، وأمَّا اللاتي في السفر فبذل الزاد، وحسن الخلق، والمزاح في غير معاصي الله). وعدَّ من علامات الساعة: تطويل المنارات، وتنقيش المساجد، وتزيينها، وتخريبها عن ذكر الله تعالى، فتعطيل المساجد عن الصلاة والتلاوة، وإظهار شعائر الإِسلام، أقبح سيئةٍ لا سيَّما إذا اقترن بفتح أبواب بيوت الخمر، وإغلاق أبواب المكاتب، وغير ذلك، ولقد شوهد في أكثر البلاد الروميَّة، وغيرها في هذا الزمان، فلنبك على غربة الدين أيها الإخوان، فيا لها مصيبةً، أيَّ مصيبة؟! إنّا لله وإنّا إليه راجعون!
فإن قلت: إنّ هذه الآية تقتضي: أنَّ من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، لا يساويه أحدٌ في الظلم، فهي تعارض مع قوله تعالى:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ ومع قوله
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا﴾ وقوله:
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ﴾ المقتضي كُلُّ آيةٍ منها بأنّه لا أحد أظلم ممن ذكر فيها؟
قلت: إنّ معنى المفاضلة في كل منها يعتبر بالنظر إلى صلته، فكأنَّه قال: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبًا، ولا أحد من الكذابين أظلم ممن كذب على الله سبحانه وتعالى، وهكذا كُلُّ ما جاء من أمثالها، وقد يجاب عنه بأجوبة أخرى، فليرجع إليها في المطولات.
214
فإن قلتَ: إنّ (١) الممنوعَ بَيْتُ المقدس على قول، أو المسجد الحرام على قول آخر، فكيف التعبير بالجمع هنا؟
أجيب عنه: بأنَّ من خرَّب مسجدًا من هذين، فكأنّما خرَّب مساجد كثيرة بالقوَّة؛ لأنَّهما أفضل المساجد، وغيرهما تبعٌ لهما
﴿أُولَئِكَ﴾ المانعون الذين يسعون في تخريب بيوت الله
﴿مَا كَانَ﴾ ينبغي
﴿لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا﴾؛ أي: أن يدخلوا المساجد
﴿إِلَّا خَائِفِينَ﴾ من المسلمين أن يبطشوا بهم فضلًا عن أن يمنعوهم منها، وهذا الحكم عامٌّ لكل من فعل ذلك في أيِّ مسجدٍ كان
﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لهؤلاء المانعين
﴿فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾؛ أي: هوان بالقتل، والسبي، وضرب الجزية عليهم
﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾؛ أي: شديدٌ أشدَّ مما لهم في الدنيا؛ بسبب كفرهم، وظلمهم، وهو عذاب النار.
الإعراب
﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)﴾.
﴿مَا﴾ اسم شرط جازم في محل النصب مفعول مقدّم وجوبًا؛ لأنّه من أسماء الشروط لننسخ
﴿نَنْسَخْ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بما الشرطية
﴿مِنْ آيَةٍ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لاسم الشرط، واسم الشرط ليس معرفة، فلا يجوز أن يكون الجار والمجرور حالًا منه، والتقدير: أي شيء كائنًا من الآيات ننسخه، فهو مفردٌ وقع موقع الجمع، وهذا مطردٌ بعد الشرط؛ لما فيه من معنى العموم، وعلى هذا يخرَّج كُلُّ ما جاء من هذا التركيب، كقوله: ما يفتح الله للناس من رحمة وما بكم من نعمة فمن الله، وأجاز بعضهم أن تكون من آية في موضع نصب على التمييز والمُميَّز
﴿مَا﴾ وليس ببعيدٍ أيضًا، وأعربها ابن هشام في موضع نصب على الحال، وليس ببعيدٍ أيضًا
﴿أَوْ﴾ حرف
215
عطف وتنويع
﴿نُنسِهَا﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به معطوفٌ على نسخ مجزومٌ بما الشرطية على كونه فعل الشرط، وعلامة جزمه سكون الهمزة المحذوفة للتخفيف، والأصل: ننسئها؛ أي: نرجئها، أو سكونٌ ظاهر على الهمزة على قراءة
﴿نَنْسَأها﴾.
﴿نَأْتِ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بما الشرطية على كونه جوابًا لها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهي الياء؛ لأنّه من أتى يأتي، وجملة
﴿مَا﴾ الشرطية من فعل شرطها وجوابها مستأنفة استئنافًا نحويًّا لا محل لها من الإعراب
﴿بِخَيْرٍ﴾ جار ومجرور متعلق بنأت
﴿مِنْهَا﴾ جار ومجرور متعلق بخير؛ لأنّه اسم تفضيل،
﴿أَوْ مِثْلِهَا﴾ أَوْ حرف عطف وتفصيل
﴿مثل﴾ معطوف على خير وهو مضاف، والهاء مضاف إليه.
﴿أَلَمْ﴾ الهمزة للاستفهام التقريري
﴿لم﴾ حرف نفي وجزم
﴿تَعْلَمْ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ - مجزوم بلم، والجملة الاستفهامية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب
﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه
﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بقدير، و
﴿قَدِيرٌ﴾ خبر أنّ المفتوحة، وجملة
﴿أَنَّ﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر سادّ مسدَّ مفعولَي علم؛ أي: ألم تعلم كون الله قادرًا على كلّ شيء.
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٠٧)﴾.
﴿أَلَمْ﴾ الهمزة للاستفهام التقريري
﴿لم تعلم﴾ جازم وفعل مجزوم وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة الاستفهامية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب
﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه
﴿لَهُ﴾ جار ومجرور خبر مقدّم
﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾ مبتدأ مؤخّر ومضاف إليه
﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على السموات، والجملة من المبتدأ والخبر في محل رفع خبر أَنَّ وجملة أَنَّ من اسمها وخبرها سادة مسد مفعولي
﴿تَعْلَمْ﴾.
﴿وَمَا لَكُمْ﴾ الواو عاطفة مَا نافية لَكُم جار ومجرور خبر مقدّم
﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، أو متعلق بمحذوف حال من قوله:
﴿وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾.
﴿مِنْ﴾ زائدة
﴿وَلِيٍّ﴾ مبتدأ مؤخّر
﴿وَلَا نَصِيرٍ﴾ معطوف على
﴿وَلِيٍّ﴾، والتقدير: وما وليّ ولا نصير كائنان لكم من دون الله، أو حالة كونهما كائنين من دون الله، والجملة من المبتدأ والخبر في
216
محل النصب معطوفة على جملة
﴿أَنْ﴾.
﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٠٨)﴾.
﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى بل الإضرابية، والهمزة الاستفهامية أعني: الإضراب الانتقالي؛ أي: الانتقال من قصّة إلى أخرى، ولم تجعل متّصلة؛ لفقد شرطها وهو تقدم همزة الاستفهام، أو التسوية
﴿تُرِيدُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة.
﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر
﴿تَسْأَلُوا﴾ فعل وفاعل منصوب بأن
﴿رَسُولَكُمْ﴾ مفعول أوَّل ومضاف إليه، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: إنزال الكتاب جملةً، أو الإتيان بالله والملائكة قبيلًا، والجملة الفعلية صلة
﴿أَنْ﴾ المصدرية و
﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعوليَّة لتريدون، تقديره: بل أتريدون سؤال رسولكم محمدٍ - ﷺ - إنزال الكتاب جملةً مثلًا
﴿كَمَا سُئِلَ﴾ الكاف حرف جرّ وتشبيه
﴿مَا﴾ مصدرية
﴿سُئِلَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة
﴿مُوسَى﴾ نائب فاعل، وهو المفعول الأول لسئل، والثاني محذوف، تقديره: رؤية الربّ جهرةً
﴿مِنْ قَبْلُ﴾ جار ومجرور متعلِّق بسئل، والجملة الفعلية صلة
﴿مَا﴾ المصدرية، و
﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، تقديره: كسؤال أسلافكم موسى رؤية الربّ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف، تقديره: أم تريدون أن تسألوا رسولكم سؤالًا كائنًا، كسؤال أسلافكم موسى عليه السلام،
﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ﴾ الواو استئنافية
﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، والأول أصحُّ
﴿يَتَبَدَّلِ﴾ فعل مضارع مجزوم بِمَنْ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على
﴿مَنْ﴾ ﴿الْكُفْرَ﴾ مفعول به
﴿بِالْإِيمَانِ﴾ جار ومجرور متعلق بيتبدل، وهو المتروك
﴿فَقَدْ﴾ الفاء رابطة لجواب
﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا؛ لاقترانه بقد
﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق
﴿ضَلَّ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على
﴿مَنْ﴾ ﴿سَوَاءَ﴾ مفعول به على التوسُّع، وهو مضاف
﴿السَّبِيلِ﴾ مضاف إليه وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: السبيل المستوي، والجملة الفعلية في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة
﴿مَنْ﴾ الشرطية من فعل شرطها وجوابها مستأنفة
217
استئنافًا نحويًّا لا محل لها من الإعراب.
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
﴿وَدَّ كَثِيرٌ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة
﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه صفة لكثير
﴿لَوْ﴾ حرف مصدر
﴿يَرُدُّونَكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول أوّل مرفوع بثبات النون
﴿مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بيردّون
﴿كُفَّارًا﴾ مفعول ثان ليردّونكم؛ لأنّه من أفعال التصيير، والجملة الفعلية صلة
﴿لَوْ﴾ المصدرية، و
﴿لَوْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لودَّ؛ تقديره: ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب ردَّكم كفارًا من بعد إيمانكم
﴿حَسَدًا﴾ مفعولٌ لأجله منصوب بودَّ
﴿مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلِّق بمحذوف صفةٍ لحسدًا، تقديره: حسدًا كائنًا من عند أنفسهم
﴿مِنْ بَعْدِ﴾ جار ومجرور متعلّق بودَّ
﴿ما﴾ مصدرية
﴿تَبَيَّنَ﴾ فعل ماض
﴿لَهُمُ﴾ متعلق به
﴿الْحَقُّ﴾ فاعل، والجملة الفعلية صلة
﴿مَا﴾ المصدرية
﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد تبيُّن الحق، وظهوره لهم
﴿فَاعْفُوا﴾ الفاء فاء الفصيحة، مبنيةٌ على الفتح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حسدهم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم، فأقول لكم
﴿اعْفُوا﴾ فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، والجملة في محل النصب مقولٌ لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة
﴿وَاصْفَحُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على
﴿فَاعْفُوا﴾ ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية بمعنى إلى
﴿يَأْتِيَ﴾ فعل مضارع منصوب بأنْ مضمرة بعد حتى (ولفظ الجلالة) فاعل
﴿بِأَمْرِهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلِّق بيأتي، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى، تقديره: إلى إتيان الله بأمره، الجار والمجرور تنازع فيه كُلٌّ من الفعلين، فاعفوا واصفحوا
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه
﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ متعلِّق بقدير، و
﴿قَدِيرٌ﴾ خبر
﴿إِنَّ﴾ وجملة
﴿إن﴾ مستأنفة؛ مسوقة لتعليل ما قبلها
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوف على
﴿فَاعْفُوا﴾.
﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ معطوف على
﴿فَاعْفُوا﴾.
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
218
﴿وَمَا﴾ الواو استئنافية
﴿مَا﴾ اسم شرط جازم في محل النصب مفعول مقدّم وجوبًا
﴿تُقَدِّمُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بها على كونه فعل الشرط
﴿لِأَنْفُسِكُمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتقدّموا
﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لاسم الشرط، تقديره: أيَّ شيء كائنًا من خيرٍ تقدِّموه لأنفسكم، أو حال من اسم الشرط، ولكنَّه ضعيفٌ، كما مرّ في نظيره
﴿تَجِدُوُه﴾ فعل وفاعل ومفعول به مجزوم بما على كونه جواب الشرط
﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من المفعول، ولكنه على تقدير مضاف، تقديره: تجدوا ثوابه حال كونه مدّخرًا عند الله، أو متعلق بتجدوا، وجملة
﴿مَا﴾ الشرطيّة مع معموليها مستأنفة
﴿إنَّ اَللهَ﴾ ناصب واسمه
﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق ببصير
﴿تَعْمَلُونَ﴾ فعل وفاعل صلة لما إن قلنا: إنها موصولة، والعائد محذوف، تقديره: بما تعملونه، ويصحّ كونها مصدرية؛ أي: بعملكم و
﴿بَصِيرٌ﴾ خبر إنّ، وجملة
﴿إنَّ﴾ مع معموليها مستأنفة؛ مسوقة لتعليل ما قبلها، لا محل لها من الإعراب.
﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١١١) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾ الواو عاطفة
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ والضمير لأهل الكتاب
﴿لَنْ يَدْخُلَ﴾ ناصب ومنصوب
﴿الْجَنَّةَ﴾ مفعول به على السعة
﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرَّغ
﴿مَن﴾ اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول
﴿قَالُوا﴾.
﴿كاَنَ﴾ فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر، تقديره: هو يعود على
﴿مَنْ﴾،
﴿هُودًا﴾ خبرها منصوب
﴿أَوْ نَصَارَى﴾ معطوف على
﴿هُودًا﴾، والجملة صلة لِمَنْ الموصولة
﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة الإسمية معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين الدعوى، وهي قوله:
﴿وَقَالُوا﴾، ودليلها وهو قوله:
﴿قُلْ...﴾ إلخ.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة
﴿هَاتُوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل
﴿بُرْهَانَكُمْ﴾ مفعول به، والجملة مقول
﴿قُلْ﴾.
﴿إِنْ﴾ حرف شرط
﴿كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فعل
219
ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم، وجملة الشرط مع جوابه في محل النصب مقول
﴿قُلْ﴾ ﴿بَلَى﴾ حرف جواب لإثبات ما نفوه من دخول غيرهم الجنة
﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، وهو الأصحّ، أو الجواب، أو هما، كما مرّ مرارًا
﴿أَسْلَمَ﴾ فعل ماض في محل الجزم بمن على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على
﴿مَنْ﴾.
﴿وَجْهَهُ﴾ مفعول به ومضاف إليه
﴿لِلَّهِ﴾ متعلق بأسلم،
﴿وَهُوَ﴾ الواو حالية
﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل
﴿أَسْلَمَ﴾.
﴿فَلَهُ﴾ الفاء رابطة لجواب مَنْ الشرطية وجوبًا
﴿له﴾ جار ومجرور خبر مقدّم
﴿أَجْرُهُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الجزم بمن على كونها جوابًا لها، وجملة
﴿مَنْ﴾ الشرطية مع معموليها جملة جوابية لا محل لها من الإعراب
﴿عِنْدَ رَبِّهِ﴾ ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف حال من أجره؛ أي: فله أجره حال كونه مدّخرًا له عند ربّه
﴿وَلَا﴾ الواو عاطفة
﴿لَا﴾ نافية؛ مهملة لتكرّرها
﴿خَوْفٌ﴾ مبتدأ، وسَوَّغَ الابتداء بالنكرة، تقدُّمُ النفي عليه
﴿عَلَيْهِمْ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجزم معطوفة على جملة قوله:
﴿فَلَهُ أَجْرُهُ﴾ على كونها جواب الشرط لمن، تقديره: بلى من أسلم وجهه لله فلا خوف عليهم
﴿وَلَا﴾ الواو عاطفة
﴿لَا﴾ نافية مهملة
﴿هُم﴾ مبتدأ، وجملة
﴿يَحْزَنُونَ﴾ خبره، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)﴾.
﴿وَقَالَتِ﴾ الواو استئنافية
﴿قالت اليهود﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة؛ مسوقة لبيان حالة من حالات جهالتهم المتأصّلة في نفوسهم
﴿لَيْسَتِ النَّصَارَى﴾ فعل ناقص واسمه
﴿عَلَى شَيْءٍ﴾ جار ومجرور خبره، وجملة ليس في محل النصب مقول
﴿قَالَتِ﴾.
﴿وَقَالَتِ النَّصَارَى﴾ فعل وفاعل معطوف على {قالت
220
اليهود}
﴿لَيْسَتِ الْيَهُودُ﴾ فعل ناقص واسمه
﴿عَلَى شَيْءٍ﴾ خبره، وجملة ليس في محل النصب مقول
﴿قَالَتِ﴾ ﴿وَهُمْ﴾ الواو حالية
﴿هُمْ﴾ مبتدأ
﴿يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من اليهود والنصارى
﴿كَذَلِكَ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف منصوب بقال الآتي، مقدّم عليه؛ لإفادة الحصر، تقديره: قولًا كائنًا، كقول اليهود والنصارى
﴿قَالَ الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وجملة
﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، ومفعول العلم محذوف، تقديره: لا يعلمون شيئًا من المعلومات
﴿مِثْلَ﴾ منصوب على كونه بدلًا من
﴿كَذَلِكَ﴾ بدل كل من كل، وهو مضاف
﴿قَوْلِهِمْ﴾ مضاف إليه وهو مضاف، والهاء مضاف إليه
﴿فَاللَّهُ﴾ الفاء استئنافية، أو فصيحة، مبنية على الفتح؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قال كل فريق، وأردت بيان عاقبة أمرهم، فأقول لك:
﴿الله يحكم بينهم﴾ ﴿اللهُ﴾ مبتدأ
﴿يَحْكُمُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على
﴿اللهُ﴾ ﴿بَيْنَهُمْ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بيحكم
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بيحكم أيضًا، وجملة
﴿يَحْكُمُ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة، أو في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة
﴿فِيمَا﴾ ﴿في﴾ حرف جرّ
﴿مَا﴾ اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل الجر بفي، والجار والمجرور متعلق بيحكم
﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه
﴿فِيهِ﴾ متعلق بيختلفون، قدّم عليه؛ لرعاية الفاصلة، وجملة
﴿يَخْتَلِفُونَ﴾ في محل النصب خبر كان، وجملة كان صلة لما الموصولة، أو صفة لما الموصوفة، والعائد أو الرابط ضمير فيه.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١٤)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ الواو استئنافية
﴿مَنْ﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ
﴿أَظْلَمُ﴾ خبره، والجملة مستأنفة
﴿مِمَّنْ﴾ ﴿مِن﴾ حرف جرّ
﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل
221
الجر بمن، والجار والمجرور متعلق بأظلم
﴿مَنَعَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على
﴿مَن﴾ والجملة الفعلية صلة
﴿مَن﴾ الموصولة، والعائد ضمير الفاعل
﴿مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ مفعول به ومضاف إليه
﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر
﴿يُذْكَرَ﴾ فعل مضارع مغيّر الصيغة منصوب بأن
﴿فِيهَا﴾ جار ومجرور متعلق به
﴿اسْمُهُ﴾ نائب فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية من الفعل المغيّر ونائب فاعله صلة
﴿أَن﴾ المصدرية. و
﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لمنع، ولكنه على تقدير
﴿مِن﴾ الجارة؛ لأنّه يتعدى إلى الثاني بواسطة
﴿مِن﴾ الجارة، تقديره: ممن منع مساجد الله من ذكر اسمه فيها، أو منصوب على كونه مفعولًا لأجله، ولكنه على حذف مضاف، تقديره: منع مساجد الله كراهية ذكر اسمه فيها، أو منصوب على كونه بدل اشتمال من مساجد، تقديره: منع مساجد الله ذكر اسمه فيها، والأوّل أرجح، كما أشرنا إليه في مبحث التفسير
﴿وَسَعَى﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على مَن معطوف على
﴿مَنَعَ﴾.
﴿فِي خَرَابِهَا﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بسعى،
﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ
﴿مَا﴾ نافية
﴿كاَنَ﴾ فعل ماض ناقص
﴿لَهُم﴾ خبر
﴿كاَنَ﴾ مقدم
﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر
﴿يَدْخُلُوهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول به على التوسّع، والجملة الفعلية مع
﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم
﴿كَانَ﴾ مؤخّرًا، تقديره: أولئك ما كان دخولهم إيّاها كائنًا لهم، وجملة
﴿كَانَ﴾ من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا
﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال
﴿خَائِفِينَ﴾ حال من فاعل
﴿يَدْخُلُوهَا﴾، أي: ما كان لهم دخولها في جميع الأحوال إلا في حالة الخوف. اهـ. "سمين"
﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدّم
﴿فِي الدُّنْيَا﴾ متعلق بمحذوف حال من
﴿خِزْيٌ﴾؛ لأنّه صفة نكرة قدمت عليها
﴿خِزْيٌ﴾ مبتدأ مؤخّر، والجملة الإسمية مستأنفة
﴿وَلَهُمْ﴾ خبر مقدّم
﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ متعلق بمحذوف حال من عذاب
﴿عَذَابٌ﴾ مبتدأ مؤخرّ
﴿عَظِيمٌ﴾ صفة لعذاب، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله:
﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾ على كونها مستأنفة استئنافًا بيانيًّا.
222
التصريف ومفردات اللغة
﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ النسخ: الإزالة والنقل، يقال: نسخت الريح الأثر، أي: أزالته، ونسختَ الكتاب إذا نقلتَه من كتاب إلى آخر
﴿أَوْ نُنْسِهَا﴾ قرئ بغير همز من أنسى ينسى إنساء، يقال: أنسى الشيء جعله منسيًّا، فهو من النسيان الذي هو ضِدُّ الذكر، وهو ذهاب الشيء من الذاكرة؛ أي: نمحها من القلوب، وقرىء
﴿نَنْسَأها﴾ بفتح النون والسين، وبالهمز من قولهم: نَسَأتُ هذا الأمر إذا أخَّرته، وأنسأ الله أجلك أخَّره وأطاله، والإنساء: تأخير الشيء أو إذهابه عن الذاكرة، والإنساء: إذهاب الآية من ذاكرة النبي - ﷺ - بعد تبليغه إيّاها
﴿مِنْ وَلِيٍّ﴾ الوليّ: القريب والصديق، وأصله: ولِيْيٌ على وزن فعِيْل، أدغمت ياء فعيل في ياء لام الكلمة، والنصير: المعين، وتقدم الفرق بينهما في مبحث التفسير.
﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ﴾ وأصل تريدون: تُرْوِدون بوزن تُفْعِلون؛ لأنّه من راد لي رود، نقلت حركة الواو إلى الراء قبلها، فسكِّنت الواو بعد كسرة، فقلبت ياء حرف مدّ فصار تريدون، والسؤال: الاقتراح المقصود به التعنت
﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ﴾ بدَّل وتبدَّل واستبدل: جعل شيئًا موضع آخر. بعد الإيمان، أصله: إءمان بوزن إفعال، أبدلت الهمزة الساكنة حرف مد مجانسًا لحركة الأولى
﴿فَقَدْ ضَلَّ﴾؛ أي: عَدَلَ وجار، أصله: ضَلَلَ بوزن فعل، أدغمت اللام الأولى في الثانية بعد أن سكنت
﴿سَوَاءَ﴾ تقدم أن الهمزة فيه مبدلة عن ياء
﴿وَدَّ كَثِيرٌ﴾ أصل ودَّ: وَدِدَ بكسر العين في الماضي، ومضارعه ودد، أدغمت الدال الأولى بعد تسكينها في الثانية، أمَّا في المضارع، فنقلت حركة الدال إلى الواو، ثمّ أدغمت الدال في الدال، فقيل: يَودُّ
﴿لَوْ يَرُدُّونَكُمْ﴾ أصله: يَرْدُدُونكم بوزن يفعُلُون، نقلت حركة الدال الأولى إلى الراء، فسكنت فأدغمت في الدال الثانية.
﴿فَاعْفُوا﴾ أمر من عفا يعفو، كصفا يصفو من باب فعل بفتح العين في الماضي، يفعُلُ بضمّها في المضارع، ولام الفعل واوٌ، وإذا أسند المضارع إلى واو الجماعة، صار يفعوون بوزن يفعلون، حذفت منه نون الرفع؛ لبناء الأمر على ما يجزم به مضارعه، ثُمَّ استثقلت الحركة على الواو، فحذفت فسكنت فالتقى ساكنان، لام الكلمة وواو الجماعة، فحذفت الأولى التي هي لام الكلمة، فصار
223
اعْفُوا بوزن أفعوا. والعفو: ترك العقاب على الذنب، كما قال تعالى:
﴿إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً﴾، والصَّفح: الإعراض عن المذنب بصفحة الوجه، وهو يشمل ترك العقاب، وترك اللوم والتثريب. وفي "المصباح": عفا الله عنك؛ أي محا ذنوبك، وعفوت عن الحق: أسقطته، كأنّك محوته عن الذي هو عليه، وعافاه الله: محا عنه الأسقام. اهـ.
وفيه أيضًا: صفحت عن الذنب صفحًا من باب نفع: عفوت عنه، وصفحت عن الأمر: أعرضت عنه وتركته اهـ.
فعلى هذا يكون العطف في الآية للتأكيد، وحسَّنه تغاير اللفظين، وقال بعضهم: العفو: ترك العقوبة على الذنب، والصفح: ترك اللوم والعتاب عليه
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أصله: أَقْوِموا بوزن أَفْعِلوا، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مدّ
﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ أصله: أأتيوا بوزن أفعلوا، أمر من أتى الرباعي، أبدلت الهمزة الثانية حرف مدٍّ مجانسًا لحركة الأولى، ثم استثقلت الضمة على الياء؛ فحذفت للتخفيف، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء كما حذفت نون الرفع، ثمَّ ضُمَّت التاء؛ لمناسبة الواو
﴿الزَّكَاةَ﴾ تقدَّم أنَّ ألفه منقلبة عن واوٍ؛ لأنّه من زكا يزكو زكاءً إذا نما.
﴿كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ والهود: جمع هائد على أظهر القولين فيه، نحو: بازلٍ وبُزْلٍ، وعائذٍ وعوذ، وحائل وحول، وبائر وبور، وهائدٌ من الأوصاف الفارق بين مذكَّرها ومؤنثها تاء التأنيث. اهـ. "سمين" والعوذ بالذال المعجمة، قال الجوهري: الحديثات النتاج من الظباء، والإبل، والخيل واحدها: عائذ. اهـ. زكريا، وفي "المختار": هاد إذا تاب ورجع، وبابه قال، فهو هائد، وقومُ هود. قال أبو عبيدة: التهوُّد: التوبة والعمل الصالح، يقال أيضًا: هاد وتهوَّد؛ أي: صار يهوديًّا، والهود بوزن العود: اليهود. اهـ.
﴿أَوْ نَصَارَى﴾ وفي "المختار": جمع نصران، ونصرانة كالندامى جمع ندمان، وندمانة، ولم يستعمل نصران إلا بياء النسب. اهـ. وفي "المصباح": والنصارى. جمع نصرى، كمهرى ومهارى، فتلخص أنّ نصارى له مفردان: نصرى ونصران
﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ جمع
224
أمنيَّة: وهي ما يُتمنَّى على وزن أفعولة، كأعجوبة، وأضحوكة، وتقدم بسط الكلام عليها في قوله:
﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ هاتوا: أمرٌ للجماعة، أصله: هاتيوا، حذفت الضمة؛ لثقلها، ثمّ حذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار هاتوا؛ لأنّه من هاتى يهاتي على وزن رامي يرامي، وأميت تصريفها إلّا في الأمر، ويقال للمفرد المذكر: هات، والمؤنث: هاتي. وفي "الفتوحات": واختلف في هات على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنّه فعل أمر، وهذا هو الصحيح؛ لاتصاله بالضمائر المرفوعة البارزة، نحو: هاتوا هاتي هاتيا هاتين.
الثاني: أنّه اسم فعل بمعنى أحضروا.
والثالث: وبه قال الزمخشري: أنّه اسم صوت بمعنى ها الَّتي بمعنى احضروا. اهـ. "سمين".
وقيل: الهاء فيه بدل من الهمزة في آتوا. وقيل: تنبيهٌ، وحذفت همزة آتى لزومًا، كذا في "تفسير ابن عطية"
﴿بُرْهَانَكُمْ﴾ واختلف في برهان على قولين:
أحدها: أنّه مشتق من البره وهو القطع، وذلك أنّه دليلٌ يفيد العلم القطعيَّ، ومنه برهة الزمان؛ أي: القطعة منه، فوزنه فعلان.
والثاني: أنَّ نونه أصلية؛ لثُبُوتها في برهن يبرهن برهنةً، والبرهنة: البيان، فبرهن من باب فعلل لا من فعلن؛ لأنّ فعلن غير موجود في أبنيتهم، فوزنه فعلان، وعلى هذين القولين يترتَّب الخلاف في صرف برهان وعدمه، إذا سُمِّي به. اهـ. "سمين".
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ﴾ وليس فعل ماض ناقص أبدًا من أخوات كان، ولا يتصرّف، ووزنه على فَعِل بكسر العين. اهـ. "سمين". وهو بناءٌ نادر في الثلاثي اليائي العين
﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ أصله: يتلوون بوزن يفعلون، الواو الأولى لام الكلمة، والثانية واو الجماعة، استثقلت الحركة على الواو، فحذفت، فسكنت فالتقى ساكنان، فحذفت الواو الأولى، فوزنه يفعون {يَوْمَ
225
الْقِيَامَةِ} تقدّم أنَّ الياء فيه منقلبة عن واو؛ لأنّه من قام يقوم قيامًا، أصله: قواما
﴿مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ جمع مسجد: اسم لمكان السجود، وكان قياسه أن يكون على وزن مَفْعَلٍ بالفتح، لانضمام عين مضارعه، نظير مدخل من دخل يدخل، ولكنه شذَّ كسره كما شذَّتْ ألفاظٌ أخر في كتب الصرف، كالمشرق، والمغرب، والمطلع، والمنِسك، والمجزِر، والمنِبت، والمسقِط، ويجوز فيها الفتح والكسر، ولكن السماع أفصح. كما بسطنا الكلام في شرحنا "مناهل الرجال على لاميّة الأفعال" وقد سمع مسجَد بالفتح على الأصل، وقد تبدل جيمه ياءً، ومنه: المَسْيِد في لغةٍ. اهـ. "سمين".
﴿وَسَعَى﴾ أصله: سَعَيَ بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها
﴿خَائِفِينَ﴾ أصله: خاوفين لأن مادته خوفَ واوي العين أعلت عين فعله فقلبت ألفًا. فقيل: خاف، فحمل الوصف على فعله في الإعلال، فأعلّ بإبدال الواو همزةً، إذ القياس أن يقال: خاوفين، وقس عليه ما شابهه، فقالوا: قائل بدل قاول، وقالوا بائع بدل بايع
﴿فِي الدُّنْيَا﴾ تقدّم أنَّ الياء في الدنيا منقلبة عن واوٍ، فأصله: الدنو، وتقدّم علَّةُ هذا القلب.
البلاغة
وقد تضمَّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستفهام التقريريُّ، وهو حمل المخاطب على الإقرار بما عُلِم عنده ثبوته، أو نفيه في قوله:
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾؛ أي: إنّك علمت.
ومنها: تخصيصه - ﷺ - بالخطاب في قوله:
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ مع أنَّ غيره داخلٌ في الخطاب أيضًا، بدليل قوله فيما بعد:
﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ إيذانًا بأنَّ المقصود من الخطاب تقرير علم المخاطب، وهو - ﷺ - أعلم الخلق.
ومنها: تخصيص السموات والأرض بالذكر مع أنّه تعالى له ملك الدنيا
226
والآخرة؛ لكونهما أعظم المصنوعات، وأعجبها شأنًا.
ومنها: وضع الاسم الجليل موضع الضمير في قوله:
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ﴾ وقوله:
﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ومقتضى السياق أن يقال: ألم تعلم أنّه، من دونه؛ لسبق المرجع؛ لتربية الرَّوعة، والمهابة في النفوس.
ومنها: المصدر التشبيهي في قوله:
﴿كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾؛ لتأكيد الكلام؛ أي: سؤالًا مشبهًا بسؤال موسى عليه السلام.
ومنها: الإتيان بقوله:
﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ لتأكيد الكلام؛ لأنّ كون سؤال موسى من قبل محمد - ﷺ - من المعلوم، فالإتيان به؛ لتأكيد الكلام.
ومنها: الطباق في قوله:
﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾.
ومنها: إضافة الصفة إلى الموصوف في قوله:
﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾؛ أي: الطريق المستوي، وفي التعبير به نهاية التَّبكيت والتشنيع لمن ظهر له الحق، فعدل عنه إلى الباطل.
ومنها: الاعتراض بين الدعوى ودليلها في قوله:
﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ فإنّها جملة اعتراض اعترض بها بينهما؛ لغرض بيان بطلان الدعوى، وأنّها دعوى كاذبة.
ومنها: الأمر للتعجيز والتبكيت في قوله:
﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾.
ومنها: التعريض بكذبهم، وبطلان دعواهم في قوله:
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ وفيه أيضًا: الإيجاز بالحذف؛ لأنّه حُذف فيه جواب الشرط؛ لعلمه من السابق؛ أي: إن كنتم صادقين في دعواكم، فهاتوا برهانكم.
ومنها: تخصيص الوجه بالذكر في قوله:
﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾؛ لكونه أشرف أعضاء الإنسان؛ لكونه مركز الحواس، ففيه إمّا استعارة تصريحية؛ لأنّه استعار الوجه للنفس، أو مجاز مرسل من إطلاق الجزء وإرادة الكل.
ومنها: العنديَّة؛ للتشريف في قوله
﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ وفيه أيضًا: وضع
227
اسم الربّ مضافًا إلى ضمير
﴿مَنْ أَسْلَمَ﴾ موضع ضمير الجلالة؛ لإظهار مزيد اللُّطف به.
ومنها: تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر مع كونهما داخلين في قوله:
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾؛ تنبيهًا على عظيم شأنهما، وعلوِّ قدرهما عند الله تعالى؛ لأنّ الصلاة قربةٌ بدنية، والزكاة قربة مالية، كما مرّ في مبحث التفسير.
ومنها: التعبير بلفظ التقديم في قوله:
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾؛ إشارةً إلى أنّ المقصود الأصليَّ، والحكمة الكلية في جميع ما أنعم الله تعالى به على المكلفين في الدنيا، أن يقدِّموه إلى معادهم، ويدّخروه ليومهم الآجل.
ومنها: تقديم المعمول على عامله؛ لإفادة الحصر في قوله:
﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: قال الذين لا يعلمون الكتاب قولًا مثل ذلك القول بعينه، لا قولًا مغايرًا له اهـ. "أبو السعود". وفيه أيضًا: توبيخ عظيم، وتقريع لأهل الكتاب، حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم أصلًا.
ومنها: تقديم المعمول على عامله في قوله:
﴿فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾؛ محافظةً على رؤوس الآي.
ومنها: الاستفهام الإنكاري المضمَّن معنى النفي في قوله:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾؛ أي: لا أحد أظلم منه.
ومنها: التنكير في قوله:
﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾؛ للتهويل؛ أي: خزي هائل فظيع، لا يوصف لهوله.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
228
قال الله سبحانه جلّ وعلا:
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٢١) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)﴾.
المناسبة
قوله تعالى:
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ...﴾ الآية، قال أبو حيان (١): مناسبة هذه الآية لِمَا قبلها: هو أنَّه تعالى لما ذكر منع المساجد من ذكر الله، والسعي في تخريبها.. نبَّه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات، ولا من ذكر الله تعالى، ، إذ المشرق والمغرب كلاهما لله تعالى، فأيُّ جهةٍ أدَّيتم فيها العبادة فهي لله يثيب على ذلك، ولا يختص مكان التأدية بالمسجد، والمعنى:
229
ولله بلاد المشرق والمغرب وما بينهما، فيكون على حذف مضافٍ. انتهى.
قوله تعالى:
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنّه تعالى لمَّا ذكر أنَّه مالكٌ لجميع من في السموات والأرض، وأنَّ كُلَّهم قانتون له، وهم المظروف للسموات والأرض، ذكر الظرفين، وخصَّهما بالبداعة؛ لأنّهما أعظم ما نشاهده من المخلوقات.
قوله تعالى:
﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها (١): أن الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر ما دل على الاختراع، ذكر ما يدلُّ على طواعية المخترع، وسرعة تكوينه.
قوله تعالى:
﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لِمَا قبلها: أنّه تعالى لمَّا ذكر (٢) فيما سلف الردَّ على من أنكر الوحدانية، واتخذ لله ولدًا، ذكر هنا من أنكر نبوَّة محمد - ﷺ -، وطعن في الآيات التي جاء بها، وتجنَّى بطلب آيات أخرى؛ تعنُّتًا وعنادًا؛ كما جاء في نحو قوله حكايةً عنهم:
﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا﴾ وقوله:
﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾.
قوله تعالى:
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر فيما سلف أنَّ اليهود والنصارى لن ترضى عنك حتى تتَّبع ملَّتهم، وحذر رسوله - ﷺ -، من اتباع أهوائهم، وأعلمه بأنّ هدى الله هو الهدى الذي أعطاه، وبعثه به، ذكر هنا أنَّ فريقًا منهم يرجى إيمانهم، وهم الذين يتدبَّرون كتابهم، ويُمَيِّزُونَ بين الحق والباطل، ويفهمون أسرار الدِّين، ويعلمون أنّ ما جئت به هو الحقُّ الذي يتَّفِق مع صالح البشر، فهو الذي يهذِّب نفوسهم، ويصفِّي أرواحهم، ويُنظِّم معايشهم، وبه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
230
وبعد أنَّ أقام عليهم الحجة دعاهم وناداهم بقوله:
﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ...﴾ إلخ. وطلب إليهم أن يتركوا الغرور المانع لهم من الإيمان بمحمد - ﷺ -، إذ لا ينبغي لمن كرَّمه الله تعالى، وفضّله على غيره من الشعوب، أن يكون حظه من كتابه، كحظّ الحمار يحمل أسفارًا.
قوله تعالى:
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أنّه لما جرى ذكر الكعبة والقبلة، وأنَّ اليهود عيَّروا المؤمنين بتوجُّههم إلى الكعبة، وترك بيت المقدس، كما قال:
﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾ ذَكَر حديث إبراهيم، وما ابتلاه الله، واستطرد إلى ذكر البيت، وكيفية بنائه، وأنَّهم لمَّا كانوا من نسل إبراهيم، كان ينبغي أن يكونوا أكثر الناس اتباعًا لشرعه، واقتفاءً لآثاره فكان تعظيم البيت لازمًا لهم، فنبَّه الله بذلك على سوء اعتقادهم، وكثرة مخالفتهم، وخروجهم عن سنن من ينبغي اتباعه من آبائهم، وأنّهم وإن كانوا من نسله لا ينالون لظلمهم شيئًا من عهده.
أسباب النزول
قوله تعالى:
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (٢): ما أخرجه مسلم، والترمذي، والنسائي، وأحمد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (كان رسول الله - ﷺ -، يصلي على راحلته تطوّعًا أينما توجّهت به، وهو مقبل من مكّة إلى المدينة، ثم قرأ ابن عمر
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ وقال: في هذه نزلت هذه الآية). وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: (أنّ رسول الله - ﷺ -، لمّا هاجر إلى المدينة، أمره الله سبحانه أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها بضعة عشر شهرًا، وكان يحبّ قبلة إبراهيم، وكان يدعو الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله تعالى:
﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾
231
يختصُّ بهم، إلّا أن له مزيد اختصاص بهم من حيث إن مجاوزة الميقات لا تجوز لهم إلّا بالإحرام
﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾؛ أي: المصلِّين إليه من سائر البلدان جمع راكعٍ وساجدٍ؛ لأن القيام، والرُّكوع، والسجود من هيئات المصلِّي، ولتقارب الركوع والسجود ذاتًا وزمانًا، ترك العاطف بين موصوفيهما، والجلوس في المسجد الحرام ناظرًا إلى الكعبة من جملة العبادات الشريفة المرضية، كما قال النبيُّ - ﷺ -: "إنّ لله تعالى في كُلِّ يوم مائةً وعشرين رحمةً، تنزل على هذا البيت ستون للطائفين، وأربعون للمصلّين، وعشرون للناظرين".
واعلم: أنّه تعالى لمّا قال:
﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ دخل فيه بالمعنى: جميع بيوته تعالى، فيكون حكمها حكمه في التطهير، والنظافة، وإنّما خصَّ الكعبة بالذكر؛ لأنّه لم يكن هناك غيرها، وفي الآية: إيماء إلى أنَّ إبراهيم كان مأمورًا هو ومن بعده بهذه العبادات، ولكن لا دليل إلى معرفة الطريق التي كانوا يؤدُّونها بها. فالمراد بالطائفين: من يقصد البيت حاجًّا، أو معتمرًا، فيطوف به، وبالعاكفين: من يقوم هناك ويجاور فيه، وبالركع السجود: من يصلّي إليه الصلوات الخمس، وغيرها. وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء: إنّ الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل.
١٢٦ - ﴿و﴾ واذكر يا محمد! لأمّتك قصّة
﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ عليه السلام؛ أي: قصّة إذ دعا إبراهيم ربَّه، فقال: في دعائه يا
﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا﴾ الوادي الأقفر الخالي عن الأنيس، الذي ليس فيه زرعٌ، ولا ماءٌ، ولا بناءٌ
﴿بَلَدًا﴾ مَسْكنًا
﴿آمِنًا﴾ أي: ذا أمنٍ يأمن فيه أهله من القحط، والجدب، والخسف، والمسخ، والزَّلازل، والجذام، والبرص، ونحو ذلك من المَثُلاَتِ التي تَحُلُّ بالبلاد غيرها، فهو من باب النَّسب؛ أي: بلدًا منسوبًا إلى الأمن كلابن، وتامر، فإنّهما لنسبة موصوفهما إلى مأخذهما، كأنّه قيل: لبنيٌّ وتمريٌّ، فالإسناد حقيقيٌّ، أو المعنى: بلدًا آمنًا أهله، فيكون من قبيل الإسناد المجازي؛ لأنَّ الأمن الذي هو صفةٌ لأهل البلد حقيقةً، قَدْ أُسْنِدَ إلى مكانهم للملابسة بينهما. وكان هذا الدعاء في أوَّلِ ما قَدِم إبراهيم عليه السلام مكة؛ لأنّه لما أسكن إسماعيل وهاجر هناك، وعاد مُتوجِّهًا إلى الشام تبعته هاجر، فجعلت تقول: إلى مَنْ تكلنا في هذا البَلْقَعِ؛ أي: المكانِ الخالي من الماء، والنبات،
262
وهو لا يردُّ عليها جوابًا، حتى قالت: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم، قالت: إذًا لا يُضيِّعنا، فرضِيَتْ، ومضَى، حتى إذا استوى على ثنية كداء، أقبل على الوادي، فقال:
﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ...﴾ إلى آخر الآية، وإنما (١) دعا إبراهيم له بالأمن؛ لأنه ليس فيه زرع، ولا ثمرٌ، فإذا لم يكن آمنًا، لم يجلب إليه شيءٌ من النَّواحي، فيتعذَّر المقام فيه، فأجاب الله تعالى دعاء إبراهيم، فجعله بلدًا آمنًا لا يُسْفَك فيه دم إنسان، ولا يظلم أحد، ولا يصاد صيده، ولا يُخْتَلَى خلاه، فما قصده جَبَّارٌ إلّا قصَمَه الله تعالى، كما فعل بأصحاب الفيل، وغيرهم من الجبابرة.
فإن قُلْتَ: ما الفائدة في قول إبراهيم
﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ مع قوله تعالى أوّلًا:
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾؟
قلت: المراد من الأمن المذكور: أوّلًا الأمن من الأعداء، والخسف، والمسخ، ومن المذكور في دعاء إبراهيم: الأمن من القحط، والجوع، وقيل: معنى بلدًا آمنًا؛ أي: كثير الخصب، يؤمن فيه من الجوع، والقحط، فإن الدنيا إذا طلبت ليُتقوَّى على الدين، كان ذلك من أعظم أركان الدين، فإذا كان البلد آمنًا، وحصل فيه الخصب تفرَّغ أهله لطاعة الله، وأيضًا إنَّ الخصب مما يدعو الناس إلى تلك البلدة، فهو سبب اتصاله في الطاعة.
والمعنى (٢): أي قال إبراهيم: ربّ اجعل هذا الوادي من البلاد الآمنة! وهذا دعاء منه أن يكون البيت آمنًا في نفسه من الجبابرة، وغيرهم، أن يسلَّطوا عليه، ومن عقوبة الله أن تناله، كما تنال سائر البلدان من خسف، وزلزال، وغرق، ونحو ذلك ممَّا يُنْبِىءُ عن سخط الله، ومثلاته التي تصيب سائر البلاد، وقد استجاب الله دعاءه، فلم يقصده أحدٌ بسوءٍ إلا قصم ظهره، ومن تعدَّى عليه لم يطل زمن تعدِّيه، بل يكون تعدّيًا عارضًا ثمَّ يزول.
263
﴿وارزق﴾ يا ربّ!
﴿أَهْلَهُ﴾؛ أي: أهل هذا البلد وسُكَّانه مواطنًا كان، أو مقيمًا
﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾؛ أي: من أنواع الثمرات، وحمل الشجر: جمع ثمرة وهي المأكولات مما يخرج من الأرض والشجر، فهو سؤال الطعام والفواكه، وقيل: هي الفواكه، وإنّما خصَّ هذا بالسؤال؛ لأنّ الطعام المعهود مما يكون في كُل موضع، وأمّا الفواكه، فقد تندر، فسأل لأهله الأمن والسعة، مما يطيب العيش، ويدوم، وقد تحصل في مكَّة الفواكه الربيعيَّة، والصيفيَّة، والخريفيَّة في يوم واحد، فاستجاب له في ذلك؛ لما روي أنّه لما دعا هذا الدعاء، أمر الله سبحانه جبريل بنقل قرية من قرى فلسطين كثيرة الثمار إليها، فأتى جبريل فقلعها، وجاء بها، وطاف بها حول البيت سبعًا، ثم وضعها على ثلاث مراحل من مكة وهي الطائف، ولذلك سُمِّيت به، ومنها أكثر ثمرات مكة، ويجيءُ إليها أيضًا من الأقطار الشَّاسِعَة، والبلاد النَّائية، شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، خصوصًا في هذا الزمان بالطائرات، والباخرات، والسيَّارات، وهذا آية من آيات الله، فسبحانه فعالًا لما يريد، وخصّ الثمرات حيث لم يقل من الحبوب؛ لما في تحصيلها من الذلّ الحاصل بالحرث، وغيره، فاقتصاره على الثمرات؛ لتشريفهم، ثم أبدل قوله:
﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ من أهله بدل بعض من كل؛ مراعاة لحسن الأدب، وترغيبًا لقومه في الإيمان؛ أي: وارزق المؤمنين باللهِ وباليوم الآخر من أهله خاصة
﴿قَالَ﴾ سبحانه وتعالى
﴿وَمَن كَفَرَ﴾ معطوف على محذوف، تقديره: أي: ارزق من آمن منهم ومن كفر أيضًا.
قاس إبراهيم عليه السلام الرزق على الإمامة، حيث سأل الرزق لأجل المؤمنين خاصة، كما خصّ الله تعالى الإمامة بهم في قوله تعالى:
﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ فلمّا ردّ سؤال الإمامة في حقّ ذرّيته على الإطلاق، حسب أن يردَّ سؤاله الرزق في حقّ أهل مكة على الإطلاق، فلذلك قيد بالإيمان تأدُّبًا بالسؤال الأول، فنبَّه سبحانه على أنَّ الرزق رحمةٌ دنيويَّةٌ تعمُّ المؤمن والكافر، بخلاف الإمامة والتقدُّم؛ أي: وأَرْزُقُ أيضًا من كفر باللهِ واليوم الآخر
﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾؛ أي: أمدُّ له ليتناول من لذات الدنيا؛ إثباتًا للحجة عليه، وأمتعه تمتيعًا
﴿قَلِيلًا﴾ فإنّ الدنيا بكليتها قليلةٌ، وما يتمتَّع الكافر به منها قليلٌ من القليل، فإنَّ نعمته تعالى في الدنيا
264
وإن كانت كثيرة بإضافة بعضها إلى بعض، فإنّها قليلةٌ بإضافتها إلى نعمة الآخرة، وكيف لا يقلُّ ما يتناهى بالإضافة إلى ما لا يتناهى، فقليلًا: صفة لمصدر محذوف، كما قدَّرنا، ويجوز أن يكون صفة لظرف محذوف؛ أي: أُمتِّعُه زمانًا قليلًا، وهو مدَّة حياته
﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾؛ أي: ثمّ بعد تمتيع ذلك الكافر مدّة حياته أضطرُّه؛ أي: ألجئه، وأرجعه، وأسوقه في الآخرة
﴿إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ فلا يجد عنها محيصًا، والاضطرار في اللُّغة: حمل الإنسان على ما يضرُّه، وهو في المتعارف: حمل الإنسان بكفره على أن يفعل ما أكره عليه باختياره، فلا يكون اضطرارهم إلى عذاب النار مستعملًا في معناه العرفي، فهو مستعارٌ لِلَزِّهِمْ، وإلصاقِهِم به، بحيث يتعذَّر عليهم التخلّصُ منه، كما قال تعالى:
﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ فإنَّه صريحٌ في أن لا مدخل لهم في لحوق عذاب الآخرة بهم، ولا اختيار إلّا أنّهم سُمُّوا مضطرين إليه مختارين إيّاه على كُره، تشبيهًا لهم بالمضطر الذي لا يملك الامتناع عمَّا اضطرّ إليه، فالمعنى: أَلُزُّهُ إليه لَزُّ المضطرِّ لكُفْرِه، وتضييعهِ ما متَّعتُهُ به من النِعَم بحيث لا يمكن الامتناعَ منه
﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾؛ أي: قَبُح المرجع مرجعُه المخصوص بالذمّ محذوف؛ أي: بئس المرجع الذي يرجع إليه للإقامة فيه النارُ، أو عذابها، فللعبد في هذه الدنيا الفانية الإمهالُ أيّامًا لا لإهمالٍ، إذ كُلُّ نفس تُجزى بما كسبت، ولا تغرَّنك الزخارف الدنيوية، فإنَّ للمطيع والعاصِي نصيبًا منها، وليس ذلك من موجبات الرفعة في الآخرة، فعلى العاقل أن لا يغترَّ بالزخارف الدُّنيوية، بل لا يفرح بشيء سوى الله تعالى، فإنَّ ما خلا الله باطلٌ وزائلٌ، والاغترار بالزائل الفاني ليس من قضيّة كمال العقل، والفهم، والعرفان.
وقرأ الجمهور (١) من السبعة
﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ مشدَّدًا على الخبر. وقرأ ابن عامر
﴿فأمتعه﴾ مخفَّفًا على الخبر. وقرأ هؤلاء
﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ خبرًا، وقرأ يحيى بن وثاب:
﴿فأُمْتِعهُ﴾ مخفَّفًا
﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ بكسر الهمزة، وهما خبران. وقرأ ابن محيصن
﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ بإدغام الضاد في الطاء خبرًا. وقرأ يزيد بن أبي حبيب {ثُمَّ
265
أَضْطَرُّهُ} بضمّ الطاء خبرًا. وقرأ أبيُّ بن كعب
﴿فنُمتِّعُه ثمّ نضطرُّه﴾ بالنون فيهما.
وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما:
﴿فأَمْتِعْهُ قليلًا ثم اضْطرُّه﴾ على صيغة الأمر فيهما، فأمَّا على هذه - القراءة، فيتعيَّن أن يكون الضمير في
﴿قَالَ﴾ عائدًا على إبراهيم لمَّا دعا للمؤمنين بالرزق، دعا على الكافرين بالإمتاع القليل، والإلزاز إلى العذاب، ومَنْ على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع بالابتداء على أن تكون موصولة، أو شرطية، وفي موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضًا وأمّا على قراءة الباقين، فيتعيَّن أن يكون الضمير في قال عائدًا على الله تعالى، ومَنْ يحتمل أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل، تقديره: قال الله: وأرزق مَنْ كفر فأمتعه، ويكون
﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ معطوفًا على ذلك الفعلِ المحذوف الناصب لِمَنْ، ويحتمل أن تكون
﴿مَنْ﴾ في موضع رفع على الابتداء إمّا موصولًا، وإمّا شرطًا، والفاء فاءُ جواب الشرط، أو الداخلة في خبر الموصول؛ لشبهه باسم الشرط. انتهى. ملخصًا من "البحر".
وحاصل مَعنى الآية:
﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾. الخ. أي: وارزق (١) أهله من أنواع الثمار، إمّا بزرعها بالقرب منه، وإمّا بأن تجبى إليه من الأقطار الشاسعة، وقد حصل كلاهما استجابةً لدعوة إبراهيم، كما هو مشاهدٌ، وقد جاء في سورة القصص
﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ وخصَّ إبراهيم بدعائه المؤمنين، وإن كان سبحانه لواسع رحمته، جعل رزق الدنيا عامًّا للمؤمنين والكافرين
﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾؛ لأن تمتيع الكافرين قصيرٌ محدودٌ بذلك العمر القصير، ثمَّ إلى النار وبئس المصير، وهذا ما بيَّنه عز اسمه بقوله:
﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ...﴾ إلخ. أي: قال الله سبحانه: يا إبراهيم! قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمن أهل البلد من الثمرات، ورزقت كفارهم أيضًا، وأمتعهم بهذا الرزق أمدًا قليلًا، وهو مدّة وجودهم في الدنيا، ثم أسوقهم إلى عذاب النار سوقًا اضطراريًّا لا اختيار لهم فيه، ولا يعلمون أنَّ عملهم ينتهي بهم إليه.
266
ذاك أنَّ أعمال البشر التي تقع باختيارهم، لها آثارٌ وغاياتٌ اضطراريَّةٌ تنتهي بهم إليها، وتكون نتيجةً لها، بحسب ما وضعه الله سبحانه في نظام الكون، من وجود المسببات عقب وجود أسبابها، فالإسراف في الشهوات يفضي إلى بعض الأمراض في الدنيا، كذلك الكفار، والفساق، مختارون في كفرهم، وفسوقهم، وتكون نتيجة ذلك سوقهم إلى عذاب النار بمقتضى السُّنن الموضوعة. وكُل أعمال الإنسان النفسانية، والبدنية، لها الأثر الذي يفضي بصاحبها إلى السعادة، أو الشقاء، وهي أعمال كسبية اختيارية، فالإنسان متمكّن من اختيار الحق، وترك الباطل، وترك الخبيث، وفعل الطيّب بما أعطاه الله من العقل، وبما نزَّل عليه من الوحي، فإذا حاد عن ذلك يكون قد ظلم نفسه، وعرَّضها للعذاب، والشَّقاء بأعماله التي مبدؤها كسبي، وأثرها اضطراريٌّ، وهذه السُّنن بقضاء الله وتقديره، ومن ثَمّ يصحُّ أن يقال: إن الله قد اضطرّ الكافر إلى العذاب، وأَلْجَأَهُ إليه، وجعل الأرواح المدنَّسة بالأخلاق الذميمة، أو بالعقائد الفاسدة محلَّ سخطه، وموضع انتقامه في الآخرة، كما جعل أصحاب الأمراض القذرة عرضةً للأمراض في الدنيا.
الإعراب
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾ الواو استئنافية
﴿لله﴾ خبر مقدّم
﴿الْمَشْرِقُ﴾ مبتدأ مؤخّر
﴿وَالْمَغْرِبُ﴾ معطوف على
﴿الْمَشْرِقُ﴾ والجملة الاسمية مستأنفة، ولكنّها مرتبطة من حيث المعنى بقوله:
﴿مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ يعني: أنّه إن سعى ساع في المنع من ذكره تعالى، وفي خراب بيوته، فليس ذلك مانعًا من أداء العبادة في غيرها؛ لأنّ المشرق والمغرب وما بينهما له تعالى. ذكره في "الفتوحات"
﴿فَأَيْنَمَا﴾ الفاء فاء الفصيحة، مبنية على الفتح؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن المشرق والمغرب لله تعالى، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم، فأقول لكم:
﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا﴾ ﴿أين﴾ اسم شرط جازم يجزم فعلين في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على الفتح، والظرف متعلق بفعل الشرط؛ أعني:
267
تولّوا
﴿ما﴾ زائدة زيدت، لإفادة العموم
﴿تُوَلُّوا﴾ فعل مضارع مجزوم بأين على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذف النون، والواو ضمير لجماعة المخاطبين في محل الرفع فاعل
﴿فَثَمَّ﴾ الفاء رابطة لجواب أين الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية
﴿ثَمَّ﴾ اسم إشارة يشار به للمكان البعيد في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على الفتح، والظرف متعلق بواجب الحذف؛ لوقوعه خبرًا مقدّمًا
﴿وَجْهُ اللَّهِ﴾ مبتدأ مؤخّر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل الجزم بأين على كونها جوابًا لها، وجملة أين الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه
﴿وَاسِعٌ﴾ خبر أوّل له
﴿عَلِيمٌ﴾ خبر ثان، وجملة
﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما قبلها.
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)﴾:
﴿وَقَالُوا﴾ الواو عاطفة، أو استئنافية
﴿قالوا﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله:
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ﴾.
﴿اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول
﴿قالوا﴾ و
﴿اتَّخَذَ﴾ هنا بمعنى: صنع، يتعدّى إلى مفعول واحد
﴿سُبْحَانَهُ﴾ ﴿سبحان﴾ مفعول مطلق منصوب بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أسبّح سبحانه؛ أي: أنزّه الله تعالى عن اتخاذ الولد تنزيهًا، والهاء ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة في محل البحر مضاف إليه، وجملة التسبيح معترضة، فهو تعالى نزّه نفسه بنفسه
﴿بَل﴾ حرف عطف وإضراب، أو حرف ابتداء وإضراب
﴿لَهُ﴾ جار ومجرور خبر مقدّم
﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخّر
﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾ متعلق بمحذوف صلة الموصول
﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على
﴿السَّمَاوَاتِ﴾ والجملة الإسمية معطوفة على جملة
﴿قالوا﴾ عطف اسمية على فعلية، أو مستأنفة
﴿كُلٌّ﴾ مبتدأ وسوّغ الابتداء بالنكرة؛ ما فيه من العموم، والتنوين عوض عن مضاف إليه محذوف؛ أي: كل فرد من أفراد المخلوقات
﴿لَهُ﴾ متعلق بقانتون، و
﴿قَانِتُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة
268
الإسمية مستأنفة، وجمع الخبر؛ مراعاة لمعنى كل، وجمعه جمع العقلاء؛ تغليبًا لهم على غيرهم
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ﴾ خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو بديع السموات، والجملة مستأنفة
﴿السَّمَاوَاتِ﴾ مضاف إليه
﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على السموات، وهو من باب إضافة الصفة المُشبَّهة إلى فاعلها، والأصل: بديعٌ سمواته
﴿وَإِذَا﴾ الواو استئنافية
﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه متعلِّق بالجواب
﴿قَضَى﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله
﴿أَمْرًا﴾ مفعولٌ به، والجملة الفعلية في محل البحر مضاف إليه لإذا على كونها فعل شرط لها
﴿فَإِنَّمَا﴾ الفاء رابطة لجواب إذا جوازًا
﴿إنما﴾ أداة حصر
﴿يَقُولُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله
﴿لَهُ﴾ جار ومجرور متعلِّق بيقول، والجملة الفعلية جواب
﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة
﴿إذا﴾ مستأنفة
﴿كن﴾ مقولٌ محكي ليقول منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الحكاية، وهو أمر من كان التامة، بمعنى: أُحْدُثْ، وكذلك قوله:
﴿فَيَكُونُ﴾؛ أي: يحدث
﴿فَيَكُونُ﴾ الفاء استئنافية
﴿يكون﴾ فعل مضارع تام، وفاعله ضمير يعود على
﴿أَمْرًا﴾ والجملة الفعلية مستأنفة، أو في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهو يكون، والجملة الإسمية مستأنفة أيضًا، ويعزى هذا القول إلى سيبويه، وقال الزجاج، والطبري: إنّ جملة قوله:
﴿فَيَكُونُ﴾ معطوف على جملة
﴿يَقُولُ﴾ والفاء حينئذٍ عاطفة، وقال الفارسي: معطوفة على
﴿كُنْ﴾ من حيث المعنى. ذكره في "الفتوحات".
﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)﴾:
﴿وَقَالَ الَّذِينَ﴾ هو فعل وفاعل معطوف على جملة قوله:
﴿وقالوا﴾ أو مستأنفة، وجملة
﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل
﴿لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ﴾ مقول محكي، لقال، منصوب بفتحة مقدرة على الأخير، وإن شئت قلت:
﴿لَوْلَا﴾ حرف تحضيض بمعنى: هلّا، والتحضيض: الطلب بحثّ وإزعاج
﴿يُكَلِّمُنَا اللَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب مقول قال
﴿أَوْ﴾
269
حرف عطف وتفصيل،
﴿تَأْتِينَا آيَةٌ﴾ فعل ومفعول وفاعل والجملة في محل النصب معطوفة على جملة
﴿يُكَلِّمُنَا﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾ الكاف اسم بمعنى: مثل، في محل النصب على أنّه صفة لمصدر محذوف قدّم على عامله؛ لإفادة الحصر، تقديره: قولًا مثل قول الذين لا يعلمون،
﴿قَالَ الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة
﴿مِن قَبْلِهِم﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة الموصول، تقديره: قال الذين كانوا من قبلهم
﴿مِثْلَ﴾ بدل من الكاف في
﴿كَذَلِكَ﴾ بدل كل من كل، جيء به؛ لتأكيد معنى المثلية، وهو مضاف
﴿قَوْلِهِمْ﴾ مضاف إليه مجرور
﴿تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة؛ لتقرير ما قبلها
﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق
﴿بَيَّنَّا الْآيَاتِ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة
﴿لِقَوْمٍ﴾ متعلق ببينا، وجملة
﴿يُوقِنُونَ﴾ صفة لقوم.
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾.
﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه
﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر
﴿إن﴾، والجملة الإسمية مستأنفة
﴿بِالْحَقِّ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من المفعول في
﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾؛ أي: حال كونك ملتبسًا بالحق، أو من الفاعل؛ أي: حالة كوننا ملتبسين بالحق، والأوّل أولى؛ لموافقة ما بعده
﴿بَشِيرًا﴾ حال ثانية من الكاف أيضًا، تقديره: حالة كونك مبشرًا بالجنة لمن اتبعك
﴿وَنَذِيرًا﴾ معطوف على
﴿بَشِيرًا﴾؛ أي: وحالة كونك منذرًا لمن خالفك بالعذاب
﴿وَلَا﴾ الواو استئنافية على الأرجح، أو عاطفة
﴿لَا﴾ نافية
﴿تُسْأَلُ﴾ فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع بالضمّة، ونائب فاعله ضمير يعود على محمد - ﷺ -، والجملة الفعلية مستأنفة، أو معطوفة على جملة
﴿إن﴾ ﴿عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتسأل.
﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٢٠)﴾.
﴿وَلَنْ﴾: الواو استئنافية
﴿لن﴾ حرف نصب ونفي
﴿تَرْضَى﴾ فعل مضارع منصوب بلن
﴿عَنْكَ﴾ متعلق بترضى،
﴿الْيَهُودُ﴾ فاعل
﴿وَلَا النَّصَارَى﴾ معطوف على
270
﴿الْيَهُودُ﴾ والجملة مستأنفة
﴿حَتَّى﴾ حرف جرّ وغاية بمعنى: إلى
﴿تَتَّبِعَ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، منصوب بأن مضمرة وجوبًا، بَعْدَ حتى بمعنى: إلى
﴿مِلَّتَهُمْ﴾ مفعول به ومضاف إليه، وجملة أن المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى بمعنى: إلى، تقديره إلى اتباعك ملّتهم، الجار والمجرور متعلق بترضى
﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة
﴿إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ مقول محكي لقل، وإن شئت قلت:
﴿إِنَّ هُدَى اللَّهِ﴾ ناصب واسمه ومضاف إليه
﴿هُوَ﴾ ضمير فصل
﴿الْهُدَى﴾ خبر
﴿إِنَّ﴾، وجملة
﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول
﴿قُلْ﴾.
﴿وَلَئِنِ﴾ الواو استئنافية، واللام موطئة للقسم
﴿إنْ﴾ حرف شرط
﴿اتَّبَعْتَ﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها
﴿أَهْوَاءَهُمْ﴾ مفعول به، وجواب الشرط محذوف دلَّ عليه جواب القسم، تقديره: إن اتبعت أهواءهم فما لك من ولي ولا نصير، وجملة
﴿إنْ﴾ الشرطية معترضة بين القسم وجوابه
﴿بَعْدَ الَّذِي﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق باتبعت
﴿جَاءَكَ﴾ فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل
﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ حال من فاعل
﴿جاءَك﴾ ﴿مَا﴾ نافية
﴿لَكَ﴾ خبر مقدم،
﴿مِنَ اللَّهِ﴾ جار ومجرور تنازع فيه، كل من ولى ونصير
﴿مِنَ﴾ زائدة
﴿وَلِيٍّ﴾ مبتدأ مؤخّر
﴿وَلَا نَصِيرٍ﴾ معطوف على
﴿وَلِيٍّ﴾، والتقدير: ما ولي ولا نصير من عذاب الله كائنان لك، والجملة الإسمية جواب القسم لا محل لها من الإعراب؛ جريًا على القاعدة المشهورة عندهم: من أنّه إذا اجتمع شرط وقسم، يحذف جواب المتأخر منهما، كما قال ابن مالك:
واحذف لدى اجتماع شرط وقَسَمْ | جواب ما أخرّت فهو ملتَزَمْ |
وجملة القسم مع جوابه مستأنفة.
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٢١) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٢٢)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ أول
﴿آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ فعل وفاعل ومفعولان، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير المفعول
﴿يَتْلُونَهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ضمير المفعول في
﴿آتَيْنَاهُمُ﴾ ولكنّها حال
271
مقدّرة؛ لأنّهم لم يكونوا تالين حال إيتائه، تقديره: حالة كونهم تالين إياه
﴿حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ منصوب على المفعولية المطلقة
﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ ثَانٍ
﴿يُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل مرفوع بالنون
﴿بِهِ﴾ متعلق بيؤمنون، والجملة الفعلية خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول، وجملة الأول مستأنفة استئنافًا نحويًّا
﴿وَمَنْ﴾ الواو استئنافية، أو عاطفة
﴿من﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما
﴿يَكْفُرْ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على مَن مجزوم بمَن الشرطية على كونه فعل شرط لها
﴿بِهِ﴾ متعلق بيكفر
﴿فَأُولَئِكَ﴾ الفاء رابطة لجواب الشرط وجوبًا
﴿فَأُولَئِكَ﴾ مبتدأ
﴿هُمُ﴾ ضمير فصل
﴿الْخَاسِرُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة
﴿من﴾ الشرطية مستأنفة، أو معطوفة على ما قبلها
﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ يا حرف نداءه
﴿بني إِسْرَائيلَ﴾ منادى مضاف منصوب بالياء
﴿إِسْرَائِيلَ﴾ مضاف إليه مجرور بالفتحة، وجملة النداء مستأنفة
﴿اذْكُرُوا﴾ فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، والجملة الطلبية جواب النداء لا محل لها من الإعراب
﴿نِعْمَتِيَ﴾ مفعول به ومضاف إليه
﴿الَّتِي﴾ اسم موصول صفة لنعمتي،
﴿أَنْعَمْتُ﴾ فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: التي أنعمتها
﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بأنعمت
﴿وَأَنِّي﴾ الواو عاطفة
﴿أنى﴾ ناصب واسمه
﴿فَضَّلْتُكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به
﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ متعلق بفضّلت، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر أن، وجملة أن في تأويل مصدر معطوف على
﴿نِعْمَتِيَ﴾ تقديره: اذكروا نعمتي التي أنعمتها عليكم، وتفضيلي إياكم على العالمين.
﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)﴾.
﴿وَاتَّقُوا﴾ فعل أمر معطوف على
﴿اذْكُرُوا﴾ على كونها جواب النداء
﴿يَوْمًا﴾ مفعول به
﴿لَا﴾ نافية
﴿تَجْزِي نَفْسٌ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب صفة ليومًا، ولكنّها سببية، والرابط محذوف، تقديره: لا تجزي فيه نفس
﴿عَنْ نَفْسٍ﴾ متعلق بتجزي
﴿شَيْئًا﴾ مفعول به لتجزي
﴿وَلَا﴾ الواو عاطفة
﴿لَا﴾ زائدة زيدت؛ لتأكيد نفي ما قبلها
﴿يُقْبَلُ﴾ فعل مضارع مغيّر الصيغة
﴿مِنْهَا﴾ متعلق بيقبل
272
﴿عَدْلٌ﴾ نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة لا تجزي، والرابط أيضًا محذوف، تقديره: فيه
﴿وَلَا تَنْفَعُهَا﴾ فعل ومفعول به
﴿شَفَاعَةٌ﴾ فاعل، والجملة معطوفة على جملة
﴿لَا تَجْزِي﴾.
﴿وَلَا﴾ الواو عاطفة
﴿لَا﴾ نافية مهملة
﴿هُمْ﴾ مبتدأ، وجملة
﴿يُنْصَرُونَ﴾ من الفعل المغيّر، ونائب فاعله في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة
﴿لَا تَجْزِي﴾.
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)﴾.
﴿وَإِذِ﴾ الواو استئنافية
﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد! لأمتك قصة إذ ابتلى إبراهيم، والجملة المحذوفة مستأنفة
﴿ابْتَلَى﴾ فعل ماض
﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ مفعول مقدّم على فاعله وجوبًا؛ لاتصال الفاعل بضميره، فلو قدم الفاعل عليه لزم عود الضمير على متأخر لفظًا ورتبة، قال ابن مالك:
وشاع نحو خاف ربَّه عمرْ | وشذّ نحو زان نوره الشجر |
﴿رَبُّهُ﴾ فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل البحر مضاف إليه لإذ، وهذا على القراءة المشهورة، وأمّا على القراءة غير المشهورة فـ
﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ فاعل و
﴿رَبَّهُ﴾ مفعول به، والتركيب جار على أصله
﴿بِكَلِمَاتٍ﴾ متعلق بابتلى
﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ الفاء عاطفة
﴿أتمهن﴾ فعل وفاعل مستتر يعود على إبراهيم، ومفعول به معطوف على ابتلى،
﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الربّ، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: فماذا قال ربّه حين أتمّ الكلمات؟ فقيل: قال:
﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه
﴿جَاعِلُكَ﴾ خبره ومضاف إليه، وهو من إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله الأول
﴿لِلنَّاسِ﴾ متعلق بجاعلك، أو بمحذوف حال من
﴿إِمَامًا﴾؛ لأنّه صفة نكرة قدمت عليها، والأصل إمامًا كائنًا للناس
﴿إِمَامًا﴾ مفعول ثانٍ لجاعلك، وجملة إنّ من اسمها وخبرها في محل النصب مقول
﴿قَالَ﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة واقعة
273
في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: فماذا قال إبراهيم بعد قول الربّ: إني جاعلك للناس إمامًا.
﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ الواو عاطفة في المعنى على معنى
﴿جَاعِلُكَ﴾ عطفًا تلقينيًّا
﴿من ذريتي﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف، تقديره: واجعل من ذرّيتي إمامًا للناس، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول
﴿قَالَ﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر أيضًا، كأنّه قيل: ماذا قال ربّه؟ فقيل: قال:
﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي...﴾ الخ؛
﴿لَا﴾ نافية
﴿يَنَالُ﴾ فعل مضارع
﴿عَهْدِي﴾ فاعل ومضاف إليه
﴿الظَّالِمِينَ﴾ مفعول به، والجملة في محل النصب مقول
﴿قال﴾.
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة، أو استئنافية
﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد! قصة
﴿إذ قال ربّك﴾، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله:
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ أو مستأنفة
﴿جَعَلْنَا﴾ فعل وفاعل
﴿الْبَيْتَ﴾ مفعول أول
﴿مَثَابَةً﴾ مفعول ثان
﴿لِلنَّاسِ﴾ متعلق بجعلنا، أو محذوف صفة لـ
﴿مَثَابَةً﴾.
﴿وَأَمْنًا﴾ معطوف على
﴿مَثَابَةً﴾، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ
﴿وَاتَّخِذُوا﴾ الواو عاطفة لقول محذوف، تقديره: وقلنا لهم، قلنا: فعل وفاعل، والجملة في محل البحر معطوفة على جملة
﴿جَعَلْنَا﴾.
﴿اتخذوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف
﴿مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق باتخذوا
﴿مُصَلًّى﴾ مفعول
﴿اتخذوا﴾.
﴿وَعَهِدْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة
﴿جَعَلْنَا﴾.
﴿إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ متعلق بعهدنا
﴿وَإِسْمَاعِيلَ﴾ معطوف على
﴿إِبْرَاهِيمَ﴾.
﴿أَن﴾ مفسرة، بمعنى: أي، مبني على السكون
﴿طَهِّرَا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والألف فاعل
﴿بَيتِيَ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب
﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ متعلق بطهِّرًا
﴿وَالْعَاكِفِينَ﴾ معطوف على
﴿الطائفين﴾ ﴿وَالرُّكَّعِ﴾ معطوف أيضًا على
﴿الطائفين﴾ ﴿السُّجُودِ﴾ معطوف عليه أيضًا، ولما كان الركوع
274
والسجود بمثابة كلمة واحدة؛ لأنّ الركوع والسجود ركنان متّصلان، أسقط حرف العطف من بينهما، ونزّلهما منزلة الكلمة الواحدة، ولو عطف السجود بالواو، ولأوهم أنهما عبادتان منفصلتان.
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة
﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد! قصة
﴿إذ قال إبراهيم﴾، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾.
﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل البحر مضاف إليه لإذ
﴿رَبِّ اجْعَلْ﴾ إلى قوله:
﴿قَالَ﴾ مقول محكي لقال إبراهيم، وإن شئت قلت:
﴿رَبِّ﴾ منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول
﴿قَالَ﴾.
﴿اجْعَلْ﴾ فعل دعاء سلوكًا مسلك الأدب مع الباري سبحانه، وفاعله ضمير يعود على الله
﴿هَذَا﴾ اسم إشارة في محل النصب مفعول أوّل لاجْعل
﴿بَلَدًا﴾ مفعول ثان
﴿آمِنًا﴾ صفة لبلدًا، والجملة الفعلية في محل النصب مقول
﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء
﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ﴾ فعل دعاء وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به معطوف على
﴿اجْعَلْ﴾.
﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ متعلق بارزق
﴿مَن﴾ اسم موصول في محل النصب بدل من
﴿أَهْلَهُ﴾ بدل بعض من كل، والرابط ضمير
﴿مِنْهُمْ﴾ ﴿آمَنَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على
﴿مَنْ﴾ والجملة صلة
﴿مَنْ﴾ الموصولة
﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق بمحذوف حال من فاعل
﴿آمَنَ﴾.
﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق بآمن
﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ معطوف على لفظ الجلالة
﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة
﴿وَمَنْ كَفَرَ...﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لقال، وإن شئت قلت:
﴿وَمَن﴾ الواو استئنافية، أو عاطفة عطفًا تلقينيًّا على محذوف، تقديره: من آمن أرزقه من الثمرات، ومن كفر أمتعه قليلًا، والجملة المحذوفة مع ما عطف عليها في محل النصب مقول
﴿قَالَ﴾.
﴿مَنْ﴾ اسم موصول، أو اسم شرط في محل الرفع مبتدأ
﴿كَفَرَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على
﴿مَنْ﴾ في محل الجزم بمن الشرطية على كونه فعل شرط لها، إن قلنا:
275
﴿مَّنْ﴾ اسم شرط، وجملة الشرط في محل الرفع خبر
﴿مَنْ﴾ الشرطية، أو الخبر جملة الجواب، أو هما. إن قلنا:
﴿مَنْ﴾ شرطية، أو الجملة الفعلية صلة
﴿مَنْ﴾ الموصولة إن قلنا:
﴿مَنْ﴾ موصولة، والعائد ضمير الفاعل في
﴿كَفَرَ﴾ ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ الفاء رابطة لجواب
﴿مَنْ﴾ الشرطية جوازًا. إن قلنا:
﴿مَنْ﴾ شرطية، أو زائدة في خبر المبتدأ، لما في المبتدأ من شبه الشرط إن قلنا
﴿مَنْ﴾ موصولة
﴿أمتّعه﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به
﴿قَلِيلًا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: تمتيعًا قليلًا، أو على الظرفية، أي: زمانًا قليلًا، والجملة الفعلية في محل الجزم بمن الشرطية. إن قلنا: إنّها اسم شرط، أو خبر المبتدأ. إن قلنا: إنها موصولة،
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب مع تراخ
﴿أَضْطَرُّهُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة
﴿أمتّعه﴾ ﴿إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأَضطّره
﴿وَبِئْسَ﴾ الواو استئنافية، ولا يصحّ هنا كونها عاطفة؛ لئلّا يلزم علينا عطف الإنشاء على الإخبار، كما في المغني
﴿بئس﴾ فعل ماض لإنشاء الذمّ
﴿الْمَصِيرُ﴾ فاعل بئس، والجملة مستأنفة لإنشاء الذمّ، والمخصوص بالذمّ محذوف، تقديره: النار أو عذابها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ هما من الألفاظ الشاذة التي انفردت بالكسر على الشذّوذ، لما علم عند الصرفيين أنّه إذا لم تكسر عين المضارع، فحق اسم المصدر، والمكان، والزمان، فتح العين قياسًا لا تلاوة
﴿أينما تولوا﴾ أصل تولّوا: تُولِّيُون، حذفت منه نون الرفع للجازم، ثم استثقلت الضمة على الياء؛ فحذفت تخفيفًا، فسكنت فالتقى ساكنان، الياء، والواو، فحذفت الياء، وصُحِّحت حركة اللام بجعلها ضمة، لتناسب الواو، فصار تولّوا
﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ وثَمَّ: اسم إشارة للمكان البعيد خاصَّة، مثل: هَنَّا وهِنَّا بتشديد النون، وهو مبني؛ لتضمّنه معنى حرف الإشارة، وفي "المختار": الوجه والجهة بمعنًى، والهاء عِوضٌ عن الواو؛ أي: فثمّ جهته التي ارتضاها قبلةً، وأمر بالتوجه نحوها
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ واتخذ افتعَلَ من تَخِذَ بكسر العين يَتْخَذُ، بفتحها، في المضارع،
276
فأدغمت فاءُ الفعلِ التي هي التاء الأولى في تاء الافتعال، والمادةُ معناها بمعنى: أخذ، فتَخِذَ وأخذ بمعنى واحدٍ، خلافًا لابن الأثير القائل: بأنّها مادّة مستقلّة، وليست من الأخذ في شيء محتجًّا بأنّ فاء الأخذ همزة، والهمزة لا تدغم في التاء؛ يعني: أنّ افتعل من أخذ قياسه ائتخذ.
قلت: قول ابن الأثير: إنّ فاء الكلمة إذا كان همزة لا يبدل تاء إن كان يعني قياسًا، فمسلَّمٌ، وإلّا فإبدال الهمزة ياءً، وإبدال الياء تاءً، وإدغامها في تاء الافتعال واردٌ، لكنّه شاذٌّ كما عقد ذلك ابن مالك في باب التصريف بقوله:
ذو اللِّيْنِ فَاتَا في افْتِعالٍ أُبْدِلا | وَشذّ في ذي الهمز نَحْوُ ائْتَكَلا |
يعني: أنَّ فاء الكلمة إذا كان همزةً شذَّ إبدالها تاءً، كما قالوا: اتكل، واتَّزَرَ بإبدال الياء المبدلة من الهمزة تاءً، ولكن الأشمونيَّ وافق ابن الأثير، ونسب الجوهريَّ إلى الوهم في دعواه أنّها من الأخذ، كما نسبه ابن الأثير في النهاية، أمّا صاحب "القاموس": فقد وافق الجوهري في مذهبه مصدِّرًا به كلامه، ثم ذكر كلام ابن الأثير الذي نقَلْتُه، وعلى كل حالٍ اتخذ وزنه افتعل، سواء أكان من الأخذ، أو من تخذ، وذهب بعض المتأخّرين إلى أنَّ اتخذ أصله: وخذ واويُّ الفاء، وعليه يكون إبدالها تاءً جاء على اللغة الفصحى من إبدال فاء الكلمة تاء إذا كان حرف لين، وبني منها افتعالٌ، والله أعلم.
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ من باب الصفة المشبهة التي أضيفت إلى منصوبها الذي كان فاعلًا في الأصل، والأصل: بديعٌ سمواته؛ أي: بدعت لمجيئها على شكلٍ فائق حسنٍ غريب، ثمّ شبّهت هذه الصفة باسم الفاعل، فتنصب ما كان فاعلًا، ثُمَّ أضيفت إليه تخفيفًا، وهكذا كل ما جاء من نظائره بالإضافة لا بدّ، وأن تكون من نصبٍ؛ لئلا يلزم إضافة الصفة إلى فاعلها، وهو لا يجوز، كما لا يجوز في اسم الفاعل الذي هو الأصل. اهـ. "سمين". وفي "القاموس": وبَدُعَ، ككرم بداعةً وبدوعًا. اهـ.
﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ أصله: قَضَيَ بوزن فعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، والقضاء له معانٍ كثيرةٌ، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، فيكون
277
بمعنى خلق، نحو:
﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ وبمعنى: أعلم، نحو:
﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، وبمعنى: أمر، نحو:
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ وبمعنى: وفي، نحو:
﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ﴾ وبمعنى: ألزم، نحو: قضى بكذا، وبمعنى: أراد، نحو:
﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ وبمعنى: قدر وأمضى تقول: قضى يقضي قضاء. اهـ. من "السمين".
﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ﴾ أمرٌ من كان التامة، فأصل كن: يَكْوُن بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى الكاف، فسكنت فالتقى ساكنان، الواو، وآخر الفعل المسكن لبناء الأمر، فحذفت الواو، فصار كن بوزن فل
﴿قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ أصله: ييقنون من اليقين، أبدلت الياء واوًا؛ لسكونها إثر ضمة، كما قال ابن مالك في باب الإبدال من "الخلاصة":
ووجب:إبدالُ واوٍ بَعْدَ ضمٍ مِنْ ألِفْ | وَيا كَمُوقِنٍ بِذَالِها اعْتَرِف |
بمعنى: أنَّ الألف إذا كانت قبلها ضمَّة أبدل واوًا، كوارى إذا بُني للمجهول، يقال: وُوِري، وأنَّ الياء إذا سُكِّنت بعد ضمٍّ أُبدلت واوًا، كما في يوقنون، يُيْقنون من اليقين، وكذلك موسرٌ، أصله: مُيْسِرٌ من اليسار
﴿وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾ وفي "القاموس": الجحيم: النار الشديدة التأجُّج، وكُلُّ نار بعضها فوق بعض، وجحمها كمنعها أوقدها، فجَحُمَت، ككَرُمت جحومًا، وجَحِمت، كفَرِح جحمًا وجحمًا وجحومًا اضطرمت، والجاحم: الجمر الشديد الاشتعال، ومن الحرب معظمها. اهـ.
﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ﴾ أصل ترضى: ترضَي بوزن تفعَل، قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، والرضا ضدُّ الغضب، وهو من ذوات الواو لقولهم: الرضوان، والمصدر رِضًى ورضاءً بالقصر والمدّ، ورضوانٌ بكسر الراء وضمّها، وقد يضمَّن معنى عطف، فيتعدَّى بعلى، كقوله:
إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قشير | لعمر الله أعجبني رضاها |
﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ يتلون مضارع من تلا يتلو واويُّ اللام، وأصل يتلون: يتلوون بواوين الأولى لام الكلمة، والثانية واو الجماعة، فحذفت حركة الواو
278
الأولى لام الكلمة؛ للتخفيف، فسكنت فالتقى ساكنان، فحذفت لام الكلمة، وبقيت واو الجماعة، فوزنه يفعون.
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ أصله: ابتلَيَ بوزن افتعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا
﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ أصله: أتممهنَّ بوزن أفعل، نقلت حركة الميم الأولى إلى التاء، فسكنت فأدغمت في الميم الثانية
﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ جاعلك: اسم فاعل من جعل بمعنى صيَّر، فيتعدَّى لاثنين أحدهما الكاف، وفيها الخلاف المشهور، والإمام: اسمٌ لكل ما يُؤْتمُّ به؛ أي: يقصد ويتَّبع، كالإزار: اسمٌ لما يؤتزر به، ومنه قيل لخيط البناء: إمام. اهـ. "سمين".
﴿يَنَالُ عَهْدِي﴾ أصله: يَنْيَل بوزن يفعل؛ لأنَّ نال أصله نيل بكسر العين في الماضي يائيُّ العين، نقلت حركة الياء إلى النون، ثمّ قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن. فقيل: ينال.
﴿مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ أصله: مَثْوُبةٌ بوزن مفعلة: اسم مكان من ثاب يثوب، نقلت حركة الواو إلى الثاء، فسكنت الواو، وتحركت الثاء بالفتح، لكن الواو قلبت ألفًا؛ نظرًا لتحركها في الأصل، ونظرًا إلى فتح ما قبلها في الحال، ويحتمل أن تكون من الثواب؛ لأنَّ الناس يثابون عند البيت على الطواف به، والصلاة حوله، أمَّا على المعنى الأول، فلأنَّ الناس يثوبون إلى البيت؛ أي: يرجعون إليه لا يقضون وطرهم منه
﴿مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ﴾ اسم مكان من قام يقوم ووزنه مفعلٌ بفتح العين، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت ثمّ أبدلت ألفًا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن
﴿مُصَلًّى﴾ أصله: مصلوٌ؛ لأنّ ألفه منقلبةٌ عن واو؛ لأنّ الصلاة من ذوات الواو
﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ أصله: للطاوفين من طاف يطوف، وأصل طاف: طَوَف، أعِلَّت بقلب الواو في الفعل ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، ولمّا أُعلّ الفعل حمل عليه الوصف، فأُعِلَّ بإبدال الواو همزةً، وهو جمع طائف اسم فاعل من طاف يطوف، ويقال: أطاف رباعيًّا، وهذا من باب فعل وأفعل بمعنًى
﴿وَالْعَاكِفِينَ﴾ جمع عاكف من العكوف، وهو لغة: اللزوم واللُّبْث، يقال: عكف يعكف، ويعكف بالفتح في الماضي، والضمّ والكسر في المضارع
﴿أَضْطَرُّهُ﴾ أصله: اضطرره بوزن افتعل، أبدلت تاء الافتعال طاء، ثمّ أدغمت الراء الأولى في الثانية
﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ مصدرٌ ميميٌّ من صار،
279
أصله: مَصْيِر بوزن مَفْعِل بكسر العين، نقلت حركة الياء إلى الصاد، فسكنت الياء إثر كسرة فصارت حرف مدّ، والله أعلم.
البلاغة
وقد تضمَّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنوعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الجملة الاعتراضية في قوله:
﴿سُبْحَانَهُ﴾، لغرض بيان بطلان دعوى الظالمين الذين زعموا أن لله ولدًا.
ومنها: تغليب العقلاء على غيرهم في قوله:
﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾؛ لأنَّ غيرهم لا يجمع هذا الجمع؛ لأن التغليب من المحسنات البديعيَّة.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله:
﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ بأن شبِّهت الحال التي تتصوَّر من تعلق إرادته تعالى بشيء من المكوَّنات، وسرعة إيجاده إياه بحالة أمر الآمر النافذ تصرُّفه في المطيع، لا يتوقَّف في الامتثال، فأطلق على هذه الحالة ما كان يستعمل في تلك، من غير أن يكون هناك أمر ولا قولٌ.
ومنها: التعبير عن الكافرين والمكذبين بكلمة أصحاب الجحيم في قوله:
﴿وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾؛ إيذانًا بأنَّ أولئك المعاندِيْنَ من المطبوع على قلوبهم، فلا يرجى منهم الرجوع عن الكفر والضلال، إلى الإيمان والإذعان.
ومنها: إيراد الهدى معرَّفًا باللام، مع اقترانه بضمير الفصل في قوله:
﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾؛ لإفادة القصر؛ أي: قصر الهداية على دين الله، فهو من باب قصر الصفة على الموصوف، فالإِسلام هو الهدى كلُّه، وما عداه فهو هوًى وعمًى.
ومنها: التكرير في قوله:
﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ...﴾ إلخ. حيث كرَّره في أوّل السورة وهنا؛ لإفادة التوكيد، وتذكيرًا للنعم.
ومنها: التعرض بعنوان الربوبية في قوله:
﴿إذ ابتلى إبراهيم ربُّه﴾؛ إيذانًا بأنّ ذلك الابتلاء تربيةٌ له، وترشيحٌ لأمرٍ خطيرٍ، إذ المعنى: عامله معاملة
280
المختبر، كلَّفه بأوامر ونواهي يظهر بها استحقاقه للإمامة العظمى.
ومنها: الإضافة في قوله:
﴿رَبُّهُ﴾؛ لتشريف المضاف إليه الذي هو ضمير الخليل عليه السلام.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله:
﴿وَأَمْنًا﴾؛ أي: ذا أمْنٍ، وهو أظهر من جعله بمعنى: اسم الفاعل؛ أي: آمنا على سبيل المجاز.
ومنها: الإضافة لتشريف المضاف في قوله:
﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ نظير ناقة الله.
ومنها: عطف أحد الوصفين على الآخر في قوله:
﴿لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ﴾؛ إفادةً لتباين ما بينهما.
ومنها: ترك عطف إحدى الصفتين على الأخرى في قوله:
﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾؛ إفادة بأنَّ المراد منهما شيءٌ واحدٌ وهو الصلاة، إذ لو عطف لتوهّم أنَّ كلا منهما عبادةٌ مستقلة.
ومنها: جمع الصفتين الأوليين جمع سلامة، والأخريين جمع تكسير؛ لغرض المقابلة، وهو نوع من الفصاحة.
ومنها: تأخير صيغة فُعول عن فعَّلٍ؛ لكونها فاصلةً.
ومنها: المجاز العقلي في قوله:
﴿بَلَدًا آمِنًا﴾ حيث أسند الأمن إلى البلد؛ للمبالغة، مع أنّ المقصود: أمن المتلجىء إليه من إسناد ما للحال إلى المحل.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعيّة في قوله:
﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ حيث شبه حالة الكافر المذكور، بحالة من لا يملك الامتناع مما اضطر إليه، فاستعمل في المشبَّه ما استعمل في المشبه به.
ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
281
قال سبحانه جل وعلا:
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى:
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لمَّا (١) ذكر العرب بما أنعم عليهم من بناء البيت، وجَعْلِهِ مثابةً للناس وأمْنًا، وبدعاء إبراهيم عليه السلام لقاطن هذا البلد الحرام باستجابته تعالى دعاءَه، إذ جعله بلدًا آمنًا تجبى إليه الثمرات من شاسع الأقطار؛ ليتمتَّع بها أهله، وبعهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن طهّرا بيته للطائفين، والعاكفين، والركّع السجود؛ تنبيهًا لهم إلى أنه لا ينبغي أن يعبد فيه غيره، فيجب تنزيهه عن الأصنام، والتماثيل، وعبادتها الفاسدة انتقل بهم إلى التذكير بأنَّ الذي بنى البيت هو أبوهم إبراهيم الخليل، بمعونة ابنه إسماعيل عليهما السلام؛ ليجذبهم بذلك إلى الاقتداء بسلفهم الصالح الذي ينتمون إليه، ويفاخرون به، وقد كانت قريشٌ تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل، وتدِّعي أنها على ملّة إبراهيم، وسائر العرب في ذلك تَبَعٌ لقريش.
282
منصوبٌ على الاختصاص، كأنّه قيل: نريد ونعني بإله آبائك إلهًا واحدًا، وقوله:
﴿وَنَحْنُ لَهُ﴾ سبحانه وتعالى وحده
﴿مُسْلِمُونَ﴾ حالٌ من فاعل نعبد؛ أي: مقرُّون له بالتوحيد وبالعبادة، منقادون. قال تعالى: مشيرًا إلى تلك الذرية الطيبة
١٣٤ - ﴿تِلْكَ﴾ الجماعة المذكورة التي هي إبراهيم، ويعقوب، وبنوهما المُوحِّدون
﴿أُمَّةٌ﴾؛ أي: جماعةٌ
﴿قَدْ خَلَتْ﴾ ومضت وسلفت بالموت، والأمَّة في الأصل: المقصود، كالعهدة بمعنى: المعهود، وسمّي بها الجماعة؛ لأنَّ فِرَقَ الناس تؤمُّها؛ أي يقصدونها، ويقتدون بها، وهي خبر تلك، وجملة قوله:
﴿قَدْ خَلَتْ﴾ نعتٌ لأمّةٍ؛ تلك الجماعة المذكورة أمّةٌ قد خلت ومضت بالموت، وانفردت عمَّن عداها، وأصله: صارت إلى الخلاء، وهي الأرض التي لا أنيس بها
﴿لَهَا﴾؛ أي: لتلك الأمة
﴿مَا كَسَبَتْ﴾؛ أي: جزاء ما عملت من الخيرات، ودَعُوا يا معشر اليهود والنصارى! ذِكْرهم، ولا تقولوا عليهم ما ليس فيهم، وتقديم المسند؛ لقصره على المسند إليه؛ أي: لها كسبها لا كسب غيرها
﴿وَلَكُمْ﴾ يا معشر اليهود والنصارى
﴿مَا كَسَبْتُمْ﴾ لا كسب غيركم؛ أي: جزاء ما كسبتموه من العمل، أي: إنَّ أحدًا من الناس لا ينفعه كسب غيره متقدِّمًا كان أو متأخرًا، فكما أنَّ أولئك لا ينفعهم إلّا ما اكتسبوا، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلّا ما اكتسبتم، فلا ينفعكم الانتساب إليهم، بل إنّما ينفعكم موافقتهم واتباعهم
﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: لا تؤاخذون بسيئات الأمّة الماضية، كما أنهم لا يؤاخذون بسيئاتكم، بل كُلُّ فريق يسأل عن عمله لا عن عمل غيره، ففي الكلام حذفٌ، تقديره ولا يسألون عما كنتم تعملون، ودلَّ على المحذوف قوله:
﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ وذلك لمَّا ادعى اليهود أنَّ يعقوب عليه السلام مات على اليهودية، وأنه عليه السلام، وصَّى بها بنيه يوم مات، ورُدُّوا بقوله تعالى:
﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ...﴾ الآية، قالوا: هب أنَّ الأمر كذلك، أليسوا آباءنا، وإليهم ينتمي نسبنا؟ فلا جرم ننتفع بصلاحهم، ومنزلتهم عند الله تعالى. قالوا ذلك: مفتخرين بأوائلهم، فرُدُّوا بأنّهم لا ينفعهم انتسابهم إليهم، وإنَّما ينفعهم اتباعهم في الأعمال، فإنَّ أحدًا لا ينفعه كسب غيره، كما روي عن النبي - ﷺ -: "يا صفية عمة محمد! يا فاطمة بنت محمد! ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم، فإنّي لا أغني عنكم من الله
304
شيئًا" وقال - ﷺ - أيضًا: "مَنْ أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" يعني: من أخره في الآخرة عمله السيىء، أو تفريطه في العمل، لم ينفعه شرف نسبه، ولم تنجبر نقيصته به.
قال الشاعر:أَتَفْخَرُ باتّصالِكَ مِنْ عَلِيٍّ | وَأصْلُ البَوْلَةِ الماءُ القَراحُ |
وَلَيْسَ بِنَافِعٍ نسَبٌ زكّي | يُدَنِّسُهُ صَنَائِعُكَ القِبَاحُ |
والأبناء وإن كانوا يتشرَّفون في الدنيا بشرف آبائهم، إلّا أنّه إذا نفخ في الصور فلا أنساب، والافتخار بمثل هذا، كالافتخار بمتاع غيره، وإنّه من المجنون، فلا بُدَّ من كسب العمل والإخلاص فيه، فإنَّه المنجي بفضل الله تعالى، فالقربى لا تغني شيئًا إذا فسد العمل، وأمَّا قول من قال:
إذا طَابَ أصْلُ المَرْءِ طَابَتْ فُرُوعُهُ
فباعتبار الغالب، فمن عادته تعالى أن يخرج الحيَّ من الميت، والميت من الحيّ.
الإعراب
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧)﴾:
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة
﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد! قصّة
﴿إذ يرفع إبراهيم﴾، والجملة معطوفة على جملة:
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾.
﴿يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ
﴿مِنَ الْبَيْتِ﴾ جار ومجرور حال من
﴿الْقَوَاعِدَ﴾.
﴿وَإِسْمَاعِيلُ﴾ معطوف على إبراهيم
﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء وما بعدها في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: يقولان: ربّنا تقبّل منا، وجملة القول المحذوف حال من إبراهيم وإسماعيل، كما أشرنا إليه في الحلّ
﴿تَقَبَّلْ﴾ فعل دعاء وفاعل مستتر يعود على الله سبحانه
﴿مِنَّا﴾ جار
305
ومجرور متعلق بتقبل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول للقول المحذوف
﴿إِنَّكَ﴾ ناصب واسمه
﴿أَنْتَ﴾ ضمير فصل
﴿السَّمِيعُ﴾ خبر أوّل؛ لأنَّ
﴿الْعَلِيمُ﴾ خبر ثانٍ لها، وجملة
﴿إنّ﴾ مسوقة؛ لتعليل ما قبلها على كونها مقولًا للقول المحذوف.
﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨)﴾:
﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول للقول المحذوف
﴿وَاجْعَلْنَا﴾ الواو عاطفة
﴿اجعلنا﴾ فعل ومفعول أوّل، وفاعل مستتر يعود على الله
﴿مُسْلِمَيْنِ﴾ مفعول ثان
﴿لَكَ﴾ جار ومجرور متعلق بمسلمين، والجملة الفعلية معطوفة على جملة
﴿تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على المفعول الأول في قوله:
﴿وَاجْعَلْنَا﴾؛ أي: على كونه متعلقًا بمحذوف، تقديره: واجعل من ذرّيتنا أمّة مسلمة، وإن شئت قلت: الواو عاطفة
﴿مِنْ﴾ اسمٌ بمعنى بعض في محل النصب معطوفٌ على المفعول الأول في قوله:
﴿وَاجْعَلْنَا﴾ ﴿منْ﴾ مضافٌ
﴿ذريّة﴾ مضافٌ إليه
﴿ذرية﴾ مضافٌ (نا) مضاف إليه،
﴿أُمَّةً﴾ مفعول ثانٍ
﴿مُسْلِمَةً﴾ صفةٌ لأمة
﴿لَكَ﴾ متعلِّق بمسلمة
﴿وَأَرِنَا﴾ الواو عاطفة
﴿أرنا﴾ فعل ومفعول أوّل، وفاعله ضمير يعود على الله
﴿مناسكنا﴾ مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة
﴿تقبل﴾ على كونها مقولًا للقول المحذوف،
﴿وَتُبْ﴾ الواو عاطفة
﴿تب﴾ فعل دعاءٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة
﴿تقبل﴾،
﴿عَلَيْنَا﴾ جار ومجرور متعلق بتب
﴿إِنَّكَ﴾ ناصب واسمه
﴿أَنتَ﴾ ضمير فصل
﴿التَّوَّابُ﴾ خبر أول، لـ
﴿إنَّ﴾ ﴿الرَّحِيمُ﴾ خبر ثان لها، وجملة
﴿إنّ﴾ مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما قبلها على كونها مقولًا للقول المحذوف.
﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)﴾.
﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف، والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف،
﴿وَابْعَثْ﴾ الواو عاطفة
﴿بعث﴾ فعل دعاء سُلُوكًا مسلك الأدب مع الباري جلَّ
306
وعلا، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة
﴿تقبل﴾ ﴿فِيهِمْ﴾ متعلق بابعث
﴿رَسُولًا﴾ مفعول به
﴿مِنْهُمْ﴾ صفة أولى لرسولًا
﴿يَتْلُو﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على رسولًا
﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به
﴿آيَاتِكَ﴾ مفعول به ومضاف إليه، وجملة
﴿يَتْلُو﴾ في محل النصب صفة ثانية لرسولًا
﴿وَيُعَلِّمُهُمُ﴾ فعل ومفعول أوّل، وفاعل مستتر يعود على
﴿رَسُولًا﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة
﴿يَتْلُو﴾ ﴿الْكِتَابَ﴾ مفعول ثان،
﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ معطوف على
﴿الْكِتَابَ﴾ ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة
﴿يَتْلُو﴾ ﴿إِنَّكَ﴾ ناصب واسمه
﴿أَنْتَ﴾ ضمير فصل
﴿الْعَزِيزُ﴾ خبر أول؛ لأنَّ
﴿الْحَكِيمُ﴾ خبر ثان له، وجملة
﴿إن﴾ مسوقة؛ لتعليل ما قبلها على كونها مقولًا للقول المحذوف
﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ الواو استئنافية
﴿مَنْ﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ،
﴿يرغب﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على
﴿من﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة
﴿عن ملّة إبراهيم﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بيرغب.
﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾:
﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء
﴿مَن﴾ اسم موصول في محل الرفع بدل من فاعل
﴿يَرْغَبُ﴾، أو في محل النصب على الاستثناء
﴿سَفِهَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على
﴿مَنْ﴾،
﴿نَفْسَهُ﴾ مفعول به ومضاف إليه، والجملة صلة
﴿مَنْ﴾ الموصولة.
﴿وَلَقَدِ﴾ الواو استئنافية، واللام موطئة للقسم،
﴿قد﴾ حرف تحقيق،
﴿اصْطَفَيْنَاهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة
﴿فِي الدُّنْيَا﴾ جار ومجرور متعلق باصطفينا
﴿وَإِنَّهُ﴾ الواو عاطفة، أو استئنافية
﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه
﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ متعلق بالصالحين، أو حال من الضمير المستكن في الظرف الخبري
﴿لَمِنَ﴾ اللام حرف ابتداء
﴿من الصالحين﴾ جار ومجرور خبر
﴿إنّ﴾؛ أي: وإنّه لكائن من الصالحين؛ أي: الفائزين في الآخرة، وجملة
﴿إنّ﴾ مستأنفة، أو معطوفة على جملة القسم المذكور قبلها.
{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ
307
وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)}.
﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: اذكر، والجملة المحذوفة مستأنفة
﴿قَالَ﴾ فعل ماض
﴿لَهُ﴾ متعلق بقال
﴿رَبُّهُ﴾ فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ
﴿أَسْلِمْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر والجملة في محل النصب مقول قال (قال) فعل ماضي وفاعل مستتر يعود على
﴿إِبْرَاهِيمُ﴾، والجملة مستأنفة
﴿أَسْلَمْتُ﴾ فعل وفاعل
﴿لِرَبِّ﴾ متعلق بأسلمت،
﴿الْعَالَمِينَ﴾ مضاف إليه، وجملة
﴿أَسْلَمْتُ﴾ في محل النصب مقول
﴿قَالَ﴾.
﴿وَوَصَّى﴾ الواو استئنافية
﴿وَصَّى﴾ فعل ماض
﴿بِهَا﴾ متعلق بوصى
﴿إِبْرَاهِيمُ﴾ فاعل
﴿بَنِيهِ﴾ مفعول به منصوب بالياء؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم، والهاء ضمير متصل في محل البحر مضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة
﴿وَيَعْقُوبُ﴾ بالرفع معطوف على إبراهيم وهو الأظهر، ومفعوله محذوف، تقديره: ووصّى يعقوب بنيه أيضًا، أو مبتدأ خبره محذوف، تقديره: ويعقوب قال:
﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ ومفعول
﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ﴾ محذوف؛ لعلمه ممَّا بعده، والجملة الإسمية معطوفة على جملة
﴿وصَّى بها إبراهيم﴾، وبالنصب معطوفٌ على
﴿بَنِيهِ﴾ كما سبق في مبحث التفسير في
﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ مقول محكي للقول المحذوف الواقع حالًا من فاعل
﴿وصى﴾ والتقدير: ووصى بها إبراهيم حال كونه قائلًا يا بني إنّ الله. الخ. وإن شئت قلت:
﴿يَا بَنِيَّ﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء،
﴿بني﴾ منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه الياء المدغمة في ياء المتكلم؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم؛ لأنّ أصله يا بنين لي
﴿بني﴾ مضاف، وياء المتكلم في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول لقال المحذوفة
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه،
﴿اصْطَفَى﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على
﴿اللَّهَ﴾ ﴿لَكُمُ﴾ متعلق باصطفى،
﴿الدِّينَ﴾ مفعول به وجملة
﴿اصْطَفَى﴾ خبر
﴿إنَّ﴾، وجملة
﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول لقال المحذوفة
﴿فَلَا تَمُوتُنَّ﴾، الفاء عاطفة تفريعية
﴿لَا﴾ ناهية جازمة
﴿تَمُوتُنَّ﴾ فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، والنون المشددة حرف توكيد، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة مفرعة على جملة
﴿إنَّ﴾ على
308
كونها مقولًا لقال المحذوفة
﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ
﴿وَأَنْتُمْ﴾ الواو حالية
﴿مُسْلِمُونَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل
﴿تَمُوتُنَّ﴾، والرابط ضمير المبتدأ، والتقدير: فلا تموتن في حال من الأحوال إلّا حالة كونكم مسلمين..
﴿أمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)﴾.
﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري
﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه
﴿شُهَدَاءَ﴾ خبره، وجملة كان مستأنفة
﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بشهداء
﴿حَضَرَ﴾ فعل ماض
﴿يَعْقُوبَ﴾ مفعول به
﴿الْمَوْتُ﴾ فاعل، والجملة في محل البحر مضاف إليه لإذ
﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان بدل من
﴿إِذْ﴾ الأولى، فيكون متعلِّقًا بشهداء، أو متعلِّقٌ بحضر
﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير
﴿يَعْقُوبَ﴾، والجملة الفعلية في محل البحر مضاف إليه لإذْ
﴿لِبَنِيهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بقال
﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ مقول محكي لقال، وإن شئت قلت:
﴿مَا﴾ اسم استفهام في محل النصب مفعول مقدّم وجوبًا لتعبدون،
﴿تَعْبُدُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول
﴿قَالَ﴾،
﴿مِنْ بَعْدِي﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلِّق بتعبدون، أو بمحذوف حال من فاعل تعبدون،
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة
﴿نَعْبُدُ إِلَهَكَ﴾ إلى آخر الآية، مقولٌ محكيٌّ لقالوا، وإن شئت قلت:
﴿نَعْبُدُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على أولاد يعقوب، والجملة في محل النصب مقول
﴿قَالُوا﴾.
﴿إِلَهَكَ﴾ مفعول به ومضاف إليه
﴿وَإِلَهَ﴾ الواو عاطفة
﴿إِلَهَ﴾ معطوف على
﴿إِلَهَكَ﴾ ﴿إِلَهَ﴾ مضاف
﴿آبَائِكَ﴾ مضاف إليه
﴿آباء﴾ مضاف، والكاف مضاف إليه
﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ بدل من
﴿آبَائِكَ﴾ بدل تفصيل من مجمل تبعه بالجر، وعلامة جره الفتحة
﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ معطوفان على
﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ وإنّما كرَّر إله؛ ليصحَّ عطف
﴿آبَائِكَ﴾ على ضمير المخاطب المجرور بإضافة
﴿إلهٍ﴾ إليه؛ أعني:
﴿إِلَهَكَ﴾ كما قال ابن مالك:
309
وعَوْدُ خَافضٍ لَدَى عَطْفٍ عَلَى | ضَمِيرِ خَفْضٍ لاَزِمًا قَدْ جُعِلاَ |
ولمَّا كان رُبَّما يتوهَّم من ظاهر هذا العطف تعدُّد الإله أبدل منه، قوله:
﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ لدفع هذا التوهُّم، كما مر في مبحث التفسير
﴿إِلَهًا﴾ بدلٌ من
﴿إلهٍ﴾ الأول بدل كل من كل، ويجوز أن يكون حالًا موطئةً منه، كقولك: رأيت زيدًا رجلًا صالحًا
﴿وَاحِدًا﴾ صفة
﴿إِلَهًا﴾،
﴿وَنَحْنُ﴾ الواو عاطفة
﴿نحن﴾ مبتدأ
﴿له﴾ متعلق بمسلمون
﴿مُسْلِمُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله
﴿نعبد إلهك﴾ على كونها مقولًا لقالوا، أو حال من فاعل
﴿نَعْبُدُ﴾.
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)﴾.
﴿تِلْكَ﴾ تي: اسم إشارة يشار به للمفردة المؤنثة البعيدة في محل الرفع مبتدأ، مبنيٌّ بسكون على الياء المحذوفة، للتخلُّص من التقاء الساكنين، لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا؛ لأنَّ أصله: تِي كذِي، فالياء جزء الكلمة عند البصريين، وقال الكوفيون: التاء وحدها هي اسم الإشارة، والياء زائدةٌ، وعلى كلا المذهبين حذفت الياء؛ لالتقاء الساكنين مع اللام؛ لسكونها وسكون اللام بعدها، واللام لبعد المشار إليه، والكاف حرف قال على الخطاب
﴿أُمَّةٌ﴾ خبر، والجملة مستأنفة
﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق
﴿خَلَتْ﴾ فعل ماض مبني بفتحة مقدّرة على الألف المحذوفة؛ للتخلص من التقاء الساكنين؛ لأنّه فعل معتلٌّ بالألف، والتاء علامة تأنيث الفاعل، وفاعله ضمير مستتر يعود على
﴿أُمَّةٌ﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع صفةٌ أولى لأمَّةٍ
﴿لَهَا﴾ جار ومجرور خبر مقدّم
﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخّر، والجملة الإسمية في محل الرفع صفة ثانية لأمّة، أو في محل النصب حالٌ من الضمير في
﴿خَلَتْ﴾ أو مستأنفة وهو أولى، وجملة
﴿كَسَبَتْ﴾ صلةٌ لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما كسبته
﴿وَلَكُمْ﴾ الواو استئنافية
﴿لكم﴾ خبر مقدّم
﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والجملة مستأنفة، وجملة
﴿كَسَبْتُمْ﴾ صلةٌ لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما كسبتموه
﴿وَلَا﴾ الواو استئنافية
﴿لَا﴾ نافية
﴿تُسْأَلُونَ﴾ فعل
310
مضارع مغيَّر الصيغة مرفوع بثبات النون والواو في محل الرفع نائب فاعله، والجملة مستأنفة
﴿عَمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بتسألون
﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة
﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبر كان، وجملة كان صلةٌ لما الموصولة لا محلَّ لها من الإعراب، والعائد محذوف، تقديره: عمّا كانوا يعملونه.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ قال الكسائي، والفراء: القواعد: الجدر جمع جدار، ككتاب، وكتب: الحائط. وقال أبو عبيدة: القواعد: الأساس، وأساس البناء أصله الثابت في الأرض. وقال بعضهم: القواعد: جمع قاعدةٍ، والقاعدة: هي ما يقعد ويقوم عليه البناء من الأساس، أو من السَّافات (طاقات البناء)، ورفعُها إعلاءُ البناء عليها، قال الشاعر:
في ذِرْوَةٍ مِنْ بِقَاعِ أوَّلِهِم | زَانَتْ عَوالِيهَا قَواعِدُهَا |
والقواعد من النساء: جمع قاعد، وهي التي قعدت عن الولد، وسيأتي الكلام على كون قاعدٍ لم يأت بالتاء في مكانه إن شاء الله تعالى:
﴿تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ تقبل الله العمل: قَبِلَه ورضي به
﴿مُسْلِمَيْنِ﴾ أي: منقادين لك، يقال: أسلم واستسلم إذا خضع وانقاد
﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ والذرِّية: النسل، مشتقَّةٌ من ذروت، أو ذريت، أو ذرأ الله الخلق، أو الذرَّ، ويضم ذالها أو يكسر أو يفتح، فأمَّا الضمُّ فيجوز أن تكون ذُرَيَّة فُعَيلة من ذرأ الله الخلق. وأصله: ذريئةٌ، فخفّفت الهمزة بإبدالها ياءً، كما خفَّفوا همزة النَّسِىءَ، فقالوا: النَّسِيْيَ، ثُمَّ أدغمُوا الياء التي هي لام الفعل في الياء التي هي للمد، ويجوز أن تكون فَعُولةً من ذروت، الأصلُ: ذَرُوْوَةٌ، أبدلت لام الفعل ياءً، اجتمعت فيه واوٌ وياءٌ، واوُ المدّ، والياء المنقلبة عن الواو التي هي لام الفعل، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت واو المدِّ ياءً، وأدغمت الياء في الياء وكُسر ما قبلها؛ لأنَّ الياء تطلب الكسر، وقد أطال الكلام في هذه المادَّة أبو حيان، فراجع "البحر".
﴿وَأَرِنَا﴾ أصلُه: أَرْءِيْنَا، أمرٌ من أرى الرباعيِّ، فالهمزة الثانية عين الكلمة، والياء لامها، فحذفت الياء؛ لأجل بناء الفعل، فصار أرئنا بوزن أَفْعِنا، ثُمَّ نقلت
311
حركة الهمزة إلى الراء الساكنة قبلها، وهي فاءُ الكلمة، ثمّ حذفت الهمزةُ للتخفيف، فصار أرنا بوزن أَفِنَا، فلم يبق من الفعل إلا فاؤُهُ، وهي إمَّا بصريَّةٌ بمعنى: بصِّرنا، أو عرفانيةٌ بمعنى: عرِّفنا، تتعدَّى في أصلها إلى واحد، وتعدَّت هنا للثاني بواسطة همزة النقل
﴿مَنَاسِكَنَا﴾ جمع منسكٍ بفتح السين وكسرها، وقد قرئ بهما، والمفتوح هو المقيس؛ لانضمام عين مضارعه
﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ يقال: تاب العبدُ إلى ربّه إذا رجع إليه؛ لأنّ اقتراف الذنب إعراضٌ عن الله وعن موجبات رضوانه، وتاب الله على العبد رحمه وعطف عليه
﴿وَتُبْ﴾ أمرٌ من تاب يتوب، ووزنه فل، وأصل يتوب: يتوب بوزن يفعل؛ نقلت حركة الواو إلى التاء، فسكنت إثر ضمٍّ، فصارت حرف مدّ، فلمَّا بُنِي منه الأمر حذف حرف المضارعة وسكن آخره، فقيل: تُبْ، فالتقى ساكنان فحذفت الواو، ويقال: رغب في الشيء إذا أحبَّه، ورغب عنه كرهه (وسفه) نَفْسه أذلَّها واحتقرها.
﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ أصله: اصْتَفَوَ بوزن افتَعَلَ من الصفوة لامه واوٌ، لكنَّها أبدلت ياءً؛ لمجيئها خامسةً، ثُمَّ بُنِيَ الفعل على السكون؛ لاتصاله بضمير الرفع (نا) ثُمَّ أبدلت تاء الافتعال طاءً؛ لوقوعها بعد حرفٍ من حروف الإطباق، كما قال ابن مالك:
طاتا افْتِعَالٍ رُدَّ إثر مُطْبَقِ | في ادَّان وازْدَدْ وادَّكِر دالًا بَقي |
وعبارة "العمدة" هنا: واصطفيناه؛ أي: جعلناه صافيًا من الأدناس الظاهرة والباطنة، مشتقٌّ من الصفوة، ومعناه: تخيير الأصفى، فأصله: اصتفيناه، قلبت تاء الافتعال طاء؛ لوقوعها بعد حرف الإطباق، فصار اصطفى، وألف اصطفى بدلٌ من الياء التي هي بدلٌ من الواو؛ لأنَّ أصله: اصْطَفَوَ؛ لأنَّه من الصفوة، يقال: صفا يصفو صفوةً، فقلبت الواو ياءً؛ لأن الواو إذا وقعت رابعةً فصاعدًا قلبت ياءً، فصار اصطفى، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فصار اصطفى
﴿وَوَصَّى﴾ أصله: وَصَّيَ بوزن فَعَّلَ المضعَّف قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وقرىء وأوصى بوزن أفعل وأصله: أَوْصَيَ تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا
﴿يَا بَنِيَّ﴾ أصله: يا بنين لي، حذفت النون واللام للإضافة، ثُمَّ أدغمت ياء الجمع في ياء المتكلم المضاف إليها الجمع، فقيل: يا بنيَّ بفتح الياء المشددة.
﴿فَلَا تَمُوتُنَّ﴾ أصله: تموتونن بثلاث نونات، الأولى علامة الرفع، والثانية
312
المشدَّدة للتوكيد، فحذفت نون الرفع للجازم، فالتقى ساكنان الواو والنون الأولى المدغمة من نوني التوكيد، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين؛ لأنَّ نون التوكيد أولى بالبقاء؛ لدلالتها على معنى مستقلٍّ، وبقيت ضمّةُ التاء لتدلَّ على الواو المحذوفة، فصار تموتُنَّ
﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ والشهداء: جمع شهيد بمعنى حاضر، وحضور الموت حضور أماراته، وأسبابه، وقرب الخروج من الدنيا
﴿وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ﴾ جمع أبٍ على أفعال، أصله: أأباوٌ، أبدلت الهمزة الثانية حرف مدّ مجانسًا لحركة الأولى وهو الألف، ثم أبدلت الواو همزةً؛ لتطرُّفها إثر ألفٍ زائدةٍ
﴿قَدْ خَلَتْ﴾ فعلٌ ماض مؤنّثٌ لإسناده إلى ضمير المؤنَّث، وأصله: خلو بوزن فعل بفتح العين، قلبت الواو ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، فلحقت بالفعل تاء التأنيث الساكنة فالتقى ساكنان، حيث صار اللفظ خَلاْت، فحذفت الألف؛ لالتقاء الساكنين، فصار خلت بوزن فعت.
البلاغة
وقد تضمَّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التعبير بصيغة الاستقبال في قوله:
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾؛ لحكاية الحال الماضية، ومعنى حكاية الحال الماضية: أن يفرض ويقدَّر الواقع الماضي واقعًا وقت التكلم، ويخبر عنه بالمضارع الدال على الحال، وفي ذلك غرضٌ معروفٌ عند أهل المعاني، وهو استحضار الصورة الماضية، كأنّها مشاهدة بالعيان، فكأنَّ السامعُ ينظرُ إلى البُنْيانِ وهو يرتفعُ، والبَنَّاءِ وهو إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله:
﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾؛ لأنه على تقدير القول؛ أي: يقولان: ربَّنا تقبَّل منَّا.
ومنها: الاستفهام الإنكاري الذي يراد به التقريع، والنفي في قوله:
﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾؛ لأنَّ الجملة واردةٌ مورد التوبيخ والتقريع للكافرين، كما
313
مرَّ في مبحث التفسير.
ومنها: التأكيد بإنَّ واللام معًا في قوله:
﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ مع أنَّه أكَّد باللام فقط فيما قبله؛ أعني: قوله:
﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾؛ إشعارًا بأنَّ الجملة الثانية محتاجةٌ لمزيد التأكيد دون الأولى، وذلك أنَّ كونه في الآخرة من الصالحين أمرٌ مغيَّبٌ، فاحتاج الإخبار عنه إلى زيادة تأكيد، وأمَّا اصطفاء الله تعالى له في الدنيا، فأمر مشاهدٌ نقله جيلٌ عن جيل.
ومنها: الالتفات من التكلم في قوله:
﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ﴾ إلى الغيبة في قوله:
﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾؛ لأنَّ الأسماء الظاهرة من قبيل الغيبة، إذ مقتضى السياق أن يقال: إذ قلنا له أسلم، وكذا قوله:
﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إذ مقتضاه أن يقال: أسلمت لك؛ لأنَّ الالتفات من المحسِّنات البديعة، ولهم فيه غرضٌ، والغرض من الالتفات في الأوَّل؛ إظهار مزيد اللُّطف به، والاعتناء بتربيتِهِ بذكر عنوان الربوبية، وفي الثاني: الإيذان بكمال قوّة إسلامه، والإشارة إلى أنَّ من كان ربًّا للعالمين لا يليق به إلّا أن يُتلقَّى أمره بالقبول، والإذعان، والخضوع...
ومنها: التعبير بما الموضوعة لغير العاقل دون مَن الموضوعة للعاقل في قوله:
﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾؛ لأنَّ المعبودات في ذلك الوقت كانت من غير العقلاء، كالأوثان، والأصنام، والشمس، والقمر، فاستفهم بما التي لغير العاقل، فَعرَف بَنوُهُ ما أَرَادَ، فأجابوه بالحق، إذ الجواب على وَفْقِ السؤال، ففيه مطابقة الكلام لمقتضَى الحال.
ومنها: فنُون البلاغة التي تضمَّنها قولُه:
﴿نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ﴾ إلى آخره.
ومنها: الاطراد وهو: أن يذكر المتكلم أسماء آباء المخاطب مرتَّبةً على طبق ترتيبها في الميلاد، فقد تجاوز جدَّهم الأدنى إلى جدِّهم الأعلى؛ لكونه المبتدأ بالملة المتبعة.
314
ومنها: فنُّ المساواة؛ لأنَّ ألفاظ هذه الأسماء لا فضل فيها لبعضٍ على بعض.
ومنها: حسن البيان؛ لأنَّ فيها بيانًا عن الدين بأحسن بيانٍ، لا يتوقَّف أحدٌ في فهمه.
ومنها: الاحتراس؛ لأنّه لو وقف عند آبائك ولم يذكر ما بعده لاختلَّت صحة المعنى؛ لأنَّ مطلق الآباء يتأول من الأب الأدنى إلى آدم، وفي آباء يعقوب عليه السلام من لا يجب اتباع ملّته، فاحترس بذكر البدل عمَّا يرد على المبدل منه، لو كان وقع الاختصار عليه، فتأمَّل واعجب، وفيه أيضًا التغليب؛ لأنّ قوله:
﴿آبَائِكَ﴾ شمل العمَّ الذي هو إسماعيل، والجدَّ الذي هو إبراهيم والأب الذي هو إسحاق، فغلَّب الأب على غيره، فعبَّر عن الكل بالآباء من المجازات المعهودة، في فصيح الكلام.
ومنها: النهي عن الموت في قوله:
﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ مع أنَّ الموت ليس من الأمور التي تدخل تحت إرادة الإنسان؛ إشعارًا بأنَّ الموت على خلاف الإِسلام هو موتٌ لا خير فيه، وأنّه ليس بموت السعداء.
ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
315
قال الله سبحانه جلّ وعلا:
﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى:
﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما (١) ذكر أنَّ ملة إبراهيم هي الملة الحنيفية السمحة، وأنَّ من لم يؤمن بها، أو رغب عنها، فقد بلغ الذروة العليا في الجهالة والسفاهة.. ذكر تعالى ما عليه أهل الكتاب من الدعاوى الباطلة، من زعمهم أنَّ الهداية في اتباع اليهودية والنصرانية، وبيَّن أنَّ تلك الدعاوي لم تكن عن دليلٍ، أو شبهةٍ، بل هي مجرَّد جحود وعناد، ثُمَّ عقَّب ذلك بأنَّ الدين الحق هو التمسك بالإِسلام دين جميع الأنبياء والمرسلين.
قوله تعالى:
﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ...﴾ الآية، قال أبو حيان: وارتبطت (٢) هذه الآية بما قبلها؛ لأنّه لمَّا ذكر في قوله:
﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ جوابًا إلزاميًّا، وهم ما
316
أُمروا باتباع اليهودية والنصرانية، وإنما كان ذلك منهم على سبيل التقليد، وكُلُّ طائفةٍ منهم تكفِّر الأخرى، أجيبوا بأنَّ الأولى في التقليد اتباع إبراهيم؛ لأنّهم أعني: الطائفتين المختلفتين قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم، والأخذُ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، إن كان الدين بالتقليد، فلما ذكر هنا جوابًا إلزاميًّا ذكر بعده برهانًا في هذه الآية، وهو ظهور المعجزة عليهم بإنزال الآيات، وقد ظهرت على يد محمد - ﷺ -، فوجب الإيمان بنبوَّته، فإن تخصيص بعض بالقبول وبعض بالردِّ يوجب التناقض في الدليل، وهو ممتنعٌ نقلًا. انتهى.
قوله تعالى:
﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لمَّا بيَّن (١) سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أنَّ الملَّة الصحيحة هي ملة إبراهيم، وليست هي باليهودية والنصرانية، بل هي صبغة الله التي لا دخل لأحد فيها، وهي بعيدةٌ عن اصطلاحات الناس وأوضاعهم، ولكن نشأت بعد ذلك أوضاعُ الرؤساء، فطمست ما جرى عليه الأنبياء، حتى خفيت أوامرهم فيها إلى أن أرسل الله سبحانه محمدًا - ﷺ -، ودعا الناس إلى الرجوع إليها، وأرشد إلى الحق الذي عليه صلاح المجتمع في دينه ودنياه.. شرع هنا يُبطل الشبهاتِ التي تعترض سبيل الحق، فلقَّن نبيَّه الحجج التي يدفع بها تلك المفتريات.
أسباب النزول
قوله تعالى:
﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (٢): ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما - قال: (قال ابن صُوريا للنبي - ﷺ -: ما الهدى إلّا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد! تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله فيهم
﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى...﴾ الآية.
317