تفسير سورة المائدة

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ

سورة المائدة
كلها مدنية وهي مائة وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم قال الفقيه رضي الله عنه حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا السراج، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها، فقالت:
هل تقرأ سورة المائدة؟ فقلت: نعم. قالت: فإنها من آخر ما أنزل الله على نبيه، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه. وقال الشعبي: لم ينسخ من هذه السورة غير قوله وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ [سورة المائدة: ٢] الآية. وقال بعضهم:
نسخ منها قوله أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [سورة: ١٠٦] قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
364
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهذا نداء المدح، والنداء في القرآن على سبع مراتب: نداء المدح، مثل قوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يا أَيُّهَا الرُّسُلُ. ونداء الذم، مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا [سورة الجمعة: ٦]. ونداء التنبيه، مثل قوله يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ. ونداء الإضافة، مثل قوله يا عِبادِيَ
ونداء النسبة، مثل قوله: يا بَنِي آدَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ. ونداء الاسم: مثل قوله يا إِبْراهِيمُ يا داوُدُ. ونداء التعبير، مثل قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ فهاهنا نداء المدح: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وهو من جوامع الكلم، لأنه قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني صدقوا، ولم يقل بأي شيء صدقوا، معناه الذين صدقوا بوحدانية الله تعالى، وصدقوا بمحمد ﷺ وبالقرآن، وصدقوا بجميع الرسل، وبالبعث، والحساب، والجنة، والنار. وقال عبد الله بن مسعود: كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه وإن أدب الله القرآن، فإذا سمعت الله يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرعها سمعك فإنه خير مأمور به أو شر منهي عنه، ويقال: جميع ما في القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نزل بالمدينة، وكل ما يقال في القرآن يا أَيُّهَا النَّاسُ نزل أكثره بمكة، وقد قيل نزل بالمدينة أيضاً. ويقال: كلّ ما في القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ذكر في مقابله في الإنجيل يا أيها المساكين.
ثم قال: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يعني أتموا الفرائض التي ذكر الله تعالى في القرآن، وعقد على عباده ما أحل لهم وحرم عليهم أن يوفوا بها. وقال مقاتل: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يعني بالعهود التي بينكم وبين المشركين. ويقال: جميع العقود التي بينه وبين الناس، والتي بينه وبين الله تعالى.
وهذا من جوامع الكلم، لأنه اجتمع فيه ثلاثة أنواع من العقود أحدها: العقود التي عقد الله تعالى على عبادة من الأوامر والنواهي. والنوع الثاني: العقود التي يعقدها الإنسان بينه وبين الله تعالى من النذور والأيمان، وغير ذلك. والنوع الثالث: العقود التي بينه وبين الناس، مثل البيوع والإجارات وغير ذلك. فوجب الوفاء بهذه العقود كلها. ثم قال: أُحِلَّتْ لَكُمْ يعني رخصت لكم بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ والأنعام تشتمل على الإبل والبقر والغنم والوحش، دليله على قوله تعالى وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً [سورة الأنعام: ١٤٢] ثم قال: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ وأما البهيمة فهي كل حيّ لا يتميز، وإنما قيل لها بهيمة لأنها أبهمت من أن تميز. ثم قال: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ يعني: رخصت لكم الأنعام كلها إلا ما حرم عليكم في هذه السورة، وهي الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وغير ذلك، وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة والبحيرة، فأخبر الله تعالى أنهما حلالان إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ يعني إلا ما بين في هذه السورة. ثم قال: غَيْرَ مُحِلِّي
365
الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ
يعني: أحلت لكم هذه الأشياء من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون.
ثم قال: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ يعني يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء، لأنه أعرف بصلاح خلقه وما يصلحهم وما لا يصلحهم، وليس لأحد أن يدخل في حكمه. وهذا كقوله وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [سورة الكهف: ٢٦] وقال لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [سورة الأنبياء: ٢٣].
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الشعائر ما جعل الله علامات الطاعات، واحدها شعيرة، ومعناه لا تستحلوا شيئاً من ترك المناسك كلها مما أمر الله تعالى من أمر الحج، وهو السعي بين الصفا والمروة، والخروج إلى عرفات، ورمي الجمار، والطواف، واستلام الحجر وغير ذلك. وذلك أن الأنصار كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة، وكان أهل مكة لا يخرجون إلى عرفات، وكان أهل اليمن يرجعون من عرفات، فأمر الله تعالى في هذه السورة بأن لا يتركوا شيئاً من أمور المناسك. ثم قال: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ يعني لا تستحلوا القتل في الشهر الحرام وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ يقول: لا تتعرضوا له ولا تستحلوا. وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا خرجوا إلى مكة، وكانوا إذا قلدوا الهدي أمنوا بذلك، ومن يكن له هدي جعل في عنق راحلته قلادة، ومن لم يكن معه راحلة جعل في عنقه قلادة من شعر أو وبر فيأمن بذلك، فإذا رجع من مكة جعل شيئاً من لحاء شجر مكة في عنق راحلته، فيأمن بذلك ليعرف أنه كان حاجاً، فأمرهم الله تعالى بأن لا يستحلوا ذلك، يعني: من فعل ذلك لا يتعرض له.
ثم قال تعالى وَلَا آمِّينَ يقول: ولا تستحلوا قاصدين الْبَيْتَ الْحَرامَ نزلت في «شُرَيْح بن ضُبَيْعة بن شُرَحْبِيل اليماني» دخل على النبيّ صلّى الله عليه وسلم وكلمه، فلما خرج من عنده مَرَّ بسرح لأهل المدينة فساقها، وانتهى إلى اليمامة ثم خرج من هناك نحو مكة ومعه تجارة عظيمة، فهمَّ أصحاب رسول الله ﷺ بأن يخرجوا إليه ويغيروا على أمواله، فنزل وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ يعني الربح في المال وَرِضْواناً يعني يطلبون بحجهم رضوان ربهم فلا يرضى عنهم حتى يؤمنوا. ثم نسخ بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [سورة التوبة: ٥] ولم ينسخ قوله لاَ تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ولكنه محكم، فوجب إتمام أمور المناسك، ولهذا قال أصحابنا: إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده، فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج، ولا يجوز أن يترك، ثم عليه القضاء في السنة الثانية. ونسخ قوله وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ فيجوز القتال في الشهر الحرام بقوله وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [سورة التوبة: ٣٦] وقوله تعالى وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ فهو محكم أيضاً، ولم ينسخ فكل من قلد الهدي وتوجه إلى مكة ونوى الإحرام صار محرماً، ولا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية. فهذه الأحكام معطوفة بعضها على بعض، بعضها منسوخة وبعضها محكمة، فإن قيل: قد قال: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً فأخبر أنهم يطلبون رضوان ربهم، ولم يذكر أن طلبهم كان باطلاً؟
قيل له: لأنه لم يذكر في لفظ الآية أمر الكفار، وإنما بيّن النهي عن التعرص للذين يقصدون
366
البيت، فإن كان الذي قصد كافراً فقد بيّن في آية أخرى أنه لم يقبل منه، وإن لم يذكر هاهنا وهو قوله وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [سورة المائدة: ٥] وقال: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا يعني إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا إن شئتم، فهذه رخصة بلفظ الأمر كقوله فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [سورة الجمعة: ١٠] وكقوله وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [سورة البقرة: ١٨٧] الآية. وقال الضحاك وَإِذا حَلَلْتُمْ يعني إذا خرجتم من إحرامكم وخرجتم من حرم الله تعالى وأمنه فاصطادوا. ثم قال: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ يقول: ولا يحملنكم عداوة كفار مكة أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني عام الحديبية أَنْ تَعْتَدُوا على حجاج اليمامة من المشركين فتستحلوا منهم. وفي الآية دليل أن المكافأة لا تجوز من غير جنس الذي فعل به، وتكون تلك المكافأة اعتداء لأن الله تعالى قال: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ يعني بغض قوم وعداوتهم أَنْ تَعْتَدُوا يعني تجاوزوا الحد في المكافأة. قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر شَنَآنُ بجزم النون. وقرأ الباقون شَنَآنُ بالنصب. وقال القتبي: لا يقال في المصادر فعلان، وإنما يقال ذلك في الصفات مثل عطشان وسكران، وفي المصادر يقال: فعلان مثل طيران ولهفان وشنآن. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أَنْ صَدُّوكُمْ بكسر الألف على معنى الابتداء. وقرأ الباقون بالنصب على معنى البناء.
ثم قال تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى يعني: تعانوا على أمر الله واعملوا به.
وروى ابن عباس: البرُّ ما أمر الله تعالى به، يعني تحاثُّوا على أمر الله واعملوا به، وانتهوا عما نهى الله تعالى عنه، وامتنعوا عنه. وهذا موافق لما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «الدَّالُّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِهِ». وقد قيل: الدالُّ على الشر كصانعه. ثم قال: وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ قال القتبي: العدوان على وجهين: عدوان في السبيل كقوله فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة البقرة: ١٩٣] وكقوله فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ [سورة القصص: ٢٨] والثاني عدوان في الظلم كقوله فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [سورة المجادلة: ٩] وكقوله وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [سورة المائدة: ٢] يعني به حجاج أهل اليمامة، وصارت الآية عامة في جميع الناس. ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ يقول واخشوا الله وأطيعوه فيما يأمركم به إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ إذا عاقب.
قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ يعني حرم عليكم أكل الميتة، والميتة كل ما مات حتف أنفه بغير ذكاة فهو حرام، إلا الجراد والسمك، فقد أباحهما على لسان رسول الله ﷺ حيث قال: «أُحِلَّتْ لَنَا السَّمَكُ والجَرَادُ وَالكَبِدُ وَالطِّحَالُ» «١» ثم قال وَالدَّمُ يعني حرم عليكم أكل الدم وشربه، وهو الدم المسفوح كما قال في آية أخرى إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم الحديث (٥٧٢٧) ج ٢/ ٤١٥ بلفظ: «أحلت لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال».
367
[الأنعام: ١٤٥] وأما الدم الذي بقي بعد الإنهار فهو مباح، مثل الطحال والكبد والصفرة التي بقيت في اللحم. ثم قال: وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ يعني أكل لحم الخنزير، فذكر اللحم والمراد به اللحم والشحم وغير ذلك، وهذا حرام بإجماع المسلمين. ثم قال: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ يعني حرم عليكم أكل ما ذبح لغير الله، وأصل الإهلال رفع الصوت، ومنه استهلال الصبي، وإهلال الحج، وإنما سمي الذبح إهلالاً لأنهم كانوا يرفعون الصوت عند الذبح بذكر آلهتهم، فحرم الله تعالى ذلك. ثم قال: وَالْمُنْخَنِقَةُ وهي الشاة التي تختنق فتموت، وكان بعض أهل الجاهلية يستحلون ذلك ويأكلونها. ثم قال: وَالْمَوْقُوذَةُ يعني: حرم عليكم أكل الموقوذة وهي التي تضرب بالخشب فتموت، وأصله في اللغة هي الإشراف على الهلاك، فإذا ضرب بالخشب حتى أشرف على الموت ثم يتركه يقال: وقذه ويقال فلان وقيذ وقذته العبادة أي ضعف وأشرف على الهلاك. ثم قال: وَالْمُتَرَدِّيَةُ وهي الشاة التي تخر من الجبل، أو تتردى في بئر فتموت وَالنَّطِيحَةُ وهي الشاة التي تنطح صاحبها فيقتلها. ثم قال: وَما أَكَلَ السَّبُعُ وهي فريسة السبع، فحرم الله تعالى أكل هذه الأشياء كلها على المؤمنين، ثم استثنى فقال: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ يعني إلا ما أدركتم ذكاته فذكيتموه قبل أن يموت فلا بأس بأكله.
قال القتبي: أصل الذكاة من التوقد، يقال ذكيت النار إذا ألقيت عليها شيئاً من الحطب، وإنما سميت الذكية ذكية لأنها صارت بحال ينتفع بها. وقال الزجاج: أصل الذكاة تمام الشيء.
وقوله: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ يعني ما أدركتم ذبحه على التمام. ثم قال: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قال القتبي: النصب هو حجر أو صنم منصوب، كانوا يذبحون عنده وجمعه أنصاب، ويقال:
كانوا يذبحون لأعيادهم باسم آلهتهم. ثم قال: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ والأزلام القداح، واحدها زلم على ميزان قلم وأقلام، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يجتمعون عشرة أنفس ويشترون جزوراً، وجعلوا لحمه على تسعة أجزاء، وأعطى كل واحد منهم سهماً من سهامه، فجمعوا السهام عند واحد منهم أو شيء من الأحجار، ثم يخرج هذا الرجل واحداً واحداً من السهام، فكل من خرج سهمه يأخذ جزءاً من ذلك اللحم، فإذا خرج تسعة من السهام لا يبقى شيء من اللحم، ولا يكون للذي بقي اسمه آخراً شيء من اللحم، وكان ثمن الجزور كله عليه. وكان نوع آخر أنهم كانوا يجعلون عشرة من القداح، وكان لكل واحد منها سهم، ولم يكن لثلاثة منها نصيب من اللحم، وهو السفيح والمنيح والوغد، وكان للسبعة لكل سهم نصيب وهو: القذ، والتوأم، والرقيب، والمعلى، والحلس، والناقس، والمسبل. ويقال: كان إذا أراد واحد منهم السفر أخرج سهمين من القداح، في واحد منها مكتوب أمرني ربي، وفي الآخر نهاني ربي، فيخرج أحدهما، فإن خرج باسمه أمرني ربي وجب عليه الخروج ولم يجز له التخلف، وإن خرج الآخر لا يسعه الخروج، فنهى الله تعالى عن ذلك كله بقوله: ذلِكُمْ فِسْقٌ يعني هذه الأفعال معصية وضلالة واستحلالها كفر.
368
قم قال: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ يعني كفار العرب أن تعودوا كفاراً حين حج النبيّ صلّى الله عليه وسلم حجة الوداع وليس معهم مشرك. وقال الضحاك: نزلت هذه الآية حين فتح مكة، وذلك أن رسول الله ﷺ فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة سبع، ويقال: سنة ثمان.
ودخلها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا من قال لا إله إلا الله فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. فانقادت قريش لأمر الله ورفعوا أيديهم وأسلموا. قال الله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ يقول: فلا تخشوا صولة المشركين فأنا معكم وناصركم وَاخْشَوْنِ في ترك أمري. ثم قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يعني أتممت لكم شرائع دينكم، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم حيث كان بمكة لم يكن إلا فريضة الصلاة وحدها، فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام، فنزلت هذه الآية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يعني دينكم، حلالكم وحرامكم. وروى حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس، أنه قرأ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فقال له يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. فقال ابن عباس فإنها نزلت في يوم عيدين يوم الجمعة، ويوم عرفة.
قال الفقيه: حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا ابن صاعد، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق أن اليهود قالوا لعمر بن الخطاب: إنكم لتقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. فقال عمر: إني لأعلم حيث نزلت، وفي أي يوم نزلت، أنزلت بيوم عرفة ورسول الله ﷺ واقف بعرفة. فإن قيل: في ظاهر هذه الآية دليل أن الدّين يزيد حيث قال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. قيل له: ليس فيها دليل، لأنه أخبر أنه أكمل في ذلك اليوم، وليس فيها دليل أنه لم يكمل قبل ذلك. ألا ترى أنه قال في سياق الآية وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ليس فيه دليل أنه لم يرض قبل ذلك، ولكن معناه أنه قد أظهر وقرر، كما جاء في الخبر أن رجلاً أعتق ستة أعبد له في مرضه، فأعتق رسول الله ﷺ اثنين منهم يعني أظهر عتقهما، وقرر ولم يرد به الابتداء. وقال مجاهد: معناه اليوم أتممت لكم ظهور دينكم وغلبة دينكم ونصرته. وقال قتادة: معناه أخلص لكم دينكم.
ثم قال: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي يعني منتي، فلم يحج معكم مشرك وَرَضِيتُ يعني اخترت لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وروي في الخبر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم عاش بعد نزول هذه الآية إحدى وثمانين ليلة، ثم مضى لسبيله صلوات الله عليه. وقال الزجاج: الْيَوْمَ صار نصباً للظرف، ومعناه اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. وقال معاذ بن جبل: النعمة لا تكون إلا بعد دخول الجنة، فصار كأنه قال: رضيت لكم الجنة لأنه لا تكون النعمة تماماً حتى يضع قدميه فيها. ثم رجع إلى أول الآية فقال: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ وذلك أنه لما بيّن المحرمات علم أن بعض الناس اضطروا إلى أكله، فأباح لهم أكله عند الضرورة فقال: فَمَنِ اضْطُرَّ يعني:
369
أجهد إلى شيء مما حرم الله تعالى عليه فِي مَخْمَصَةٍ يعني مجاعة، وأصل الخمص ضمور البطن ودقته، فإذا جاع فقد خمص بطنه. ثم قال: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ يعني غير متعمد المعصية لأكله فوق الشبع، وأصل الجنف الميل. وقال الزجاج: يعني غير متجاوز للحد، وغير آكل لها على وجه التلذذ فلا إثم عليه في أكله. وقال أهل المدينة: المضطر يأكل حتى يشبع. وقال أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله: يأكل مقدار ما يأمن به الموت، وكذلك قال الشافعي. ثم قال: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني: غفور فيما أكل، رحيم حين رَخَّص له في أكله عند الاضطرار. قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو فَمَنِ اضْطُرَّ بكسر النون لاجتماع الساكنين، وقرأ الباقون بالضم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤ الى ٥]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ نزلت الآية في شأن «عديّ بن حاتم الطائي» قال: قلت: يا رسول الله ﷺ إنا قوم نتصيَّد بهذه الكلاب والبزاة فما يحل لنا منها؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
«مَا عَلَّمْتَ مِنْ كَلْبٍ أَوْ بَازِيٍّ ثُمَّ أَرْسَلْتَهُ وَذَكَرْتَ اسْمَ الله تَعَالَى عَلَيْهِ، فَكُلْ مَا أمْسَكَ عَلَيْكَ».
فقلت: وإن قتله؟ قال: «إنْ قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئاً فَكُلْ، فَإنَّمَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ. وَإنْ أَكَلَ مِنْهُ شَيْئاً فَلاَ تَأْكُلْ، فَإنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ». قال: قلت فإذا خالط كلابنا كلابٌ أخرى حين ترسلها؟ قال: «لا تَأْكُلْ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ كَلْبَكَ هُوَ الَّذِي أَمْسَكَ عَلَيْكَ». ونزلت هذه الآية يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ يعني ماذا رخص لهم من الصيد ويقال لما أنزل قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ قالوا: إن الله تعالى حرم هذه الأشياء، فأي شيء لنا حلال يا رسول الله؟ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ يعني رخص لكم الحلالات من الذبائح وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ يعني وأحلّ لكم صيد ما علمتم من الجوارح من الطير والكلاب الكواسب. ويقال: الجوارح الجارحات.
ثم قال: مُكَلِّبِينَ بكسر اللام، وقرأ بعضهم بالنصب، فمن قرأ بالكسر يعني به أصحاب الكلاب المعلِّمين للكلاب، ومن قرأ بالنصب أراد به الكلاب يعني الكلاب المعلَّمة.
370
مُكَلِّبِينَ يعني معلمين. ثم قال: تُعَلِّمُونَهُنَّ يعني تؤدبونهن في طلب الصيد مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ يقول: كما أدبكم الله تعالى. وروي عن مجاهد أنه سئل عن الصقر والبازي والفهد، قال: هذه كلها جوارح ولا بأس بصيده إذا كان معلماً. ثم قال: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ يعني: حبسن عليكم وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ إذا أرسلتم الكلاب على الصيد. وفي هذه الآية دليل أن الكلب إذا كان أكل لا يؤكل لأنه أمسك لنفسه، وفيها دليل أنه لا يجوز إلا بالتسمية لأنه قد أباح على شرط التسمية، وعلى شرط أن يمسك لصاحبه، وفيها دليل أيضاً أن الكلب إذا كان غير معلَّم لا يجوز أكلُ صيده، وفيها دليل أيضاً أن العالِم له من الفضيلة ما ليس للجاهل، لأن الكلب إذا عُلِّم يكون له فضيلة على سائر الكلاب، وأن الإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس وهذا كما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: لكل شيء قيمة وقيمة المرء ما يُحْسِن.
ثم خَوّفهم فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي اخشوا الله ولا تأكلوا الميتة، ولا تأكلوا ما لم يذكر اسم الله عليه إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يعني سريع المجازاة، وقوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ يعني المذبوحات من الحلال، يعني اليوم أظهر وبيّن حله. ثم قال: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني ذبائح أهل الكتاب حِلٌّ لَكُمْ يعني حلال لكم أكله وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ يعني ذبائحكم وطعامكم رخص لهم أكله. وقال الزجاج: تأويله أحل لكم أن تطعموهم لأن الحلال والفرائض إنما تعتمد على أهل الشريعة. ثم قال: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ يعني أحل لكم تزوج العفائف من المؤمنات وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني العفائف مِنْ أَهْلِ الكتاب مِنْ قَبْلِكُمْ يعني: أعطوا الكتاب من قبل كتابكم، وهو التوراة والإنجيل، واختلفوا في نكاح الصابئة، وقد ذكرناه في سورة البقرة. ثم قال: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني أعطيتموهن مهورهن مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ يقول: كونوا متعففين عن الزنى وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ يقول: لا تتخذوا خِدْناً فتزنوا بها سراً، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يعيِّرون من يزني في العلانية ولا يعيرون من يزني سراً، فحرم الله زنى السر والعلانية، فلما نزلت هذه الآية قلن نساء أهل الكتاب: لولا إن الله تعالى قد رضي بديننا لم يبح للمسلمين نكاحنا، فنزل وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ قيل: نزل قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ثم رخص من حالة الاضطرار، فقال بعضهم: لا نأخذ الرخصة من الاضطرار فنزل وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ ويقال هذا ابتداء خطاب، وهو لجميع المسلمين فقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ قال ابن عباس: يعني من يكفر بالتوحيد بشهادة أن لا إله إلا الله فقد حبط عمله.
وقال مجاهد: معناه ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله، يعني بطل ثواب عمله. وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ يعني من المغبونين في العقوبة، ولهذا قال أصحابنا رحمهم الله: إن الرجل إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في وقت تلك الصلاة، وجب عليه إعادة تلك الصلاة، ولو
371
كان حج حجة الإسلام فعليه أن يعيد الحج، لأنه قد بطل ما فعل قبل ارتداده.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مآء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ يعني إذا أردتم أن تقوموا إلى الصلاة وأنتم محدثون، ويقال: إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ
يعني: مع المرافق وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ يعني مع الكعبين. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم، وفي رواية أبي بكر وَأَرْجُلَكُمْ بكسر اللام وقرأ الباقون بالنصب، فمن قرأ بالنصب فإنه جعله نصباً لوقوع الفعل عليه وهو الغسل، يعني واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين. ومن قرأ بالكسر جعله كسراً لدخول حرف الخفض وهو الباء، فكأنه قال: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم، يعني إذا كان عليه خفان، وقد ثبت ذلك بالسنة. ويقال: صار كسراً بالمجاورة كما قال في آية أخرى وَحُورٌ عِينٌ [الواقعة: ٢٢] قرأ بعضهم بالكسر بالمجاورة، فهذه الأربعة التي ذكرت في الآية من فرائض الوضوء، وما سوى
372
ذلك آداب وسنن. فإن قيل: الآية إذا قرئت بقراءتين فالله تعالى قال بهما جميعاً أو بإحداهما؟
قيل له: هذا على وجهين: إن كان لكل قراءة معنى غير المعنى الآخر، فالله تعالى قال بهما جميعاً، وصارت القراءتان بمنزلة الآيتين، وإن كانت القراءتان معناهما واحد، فالله تعالى قال لإحداهما، ولكنه رخص بأن يقرأ بهما جميعاً.
ثم قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا قد يوصف الجمع بصفة الواحد كقوله وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً وكقوله: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ قوله: فَاطَّهَّرُوا معناه فتطهروا إلا أن التاء أدغمت في الطاء لأنهما من مكان واحد فإذا، أدغمت فيها سكن أول الكلمة وزيدت ألف الوصل للابتداء. ثم قال: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مآء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ يعني من الصعيد. ثم قال: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ يقول: لا يكلفكم في دينكم من ضيق وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ يعني: يطهركم من الأحداث والجنابة وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بما أنعم من الرخص لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لكي تشكروا الله لما رخص لكم ولم يضيق عليكم.
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يقول: احفظوا منن الله عليكم بإقراركم بوحدانية الله تعالى وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ يعني يوم الميثاق حين أخرجهم من صلب آدم- عليه السلام- وقال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: ١٧٢] هكذا قال في رواية الكلبي ومقاتل والضحاك. وقال بعضهم: هو الميثاق الجبلة والإدراك، فكل من أدرك فقد أخذ عليه الميثاق، وشهدت له خلقته وجبلته فصار ذلك كالإقرار منه، ثم قال إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا يوم الميثاق، قلتم سمعنا قولك يا ربنا وأطعنا أمرك. ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ في نقض العهد والميثاق إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، يعني: عالم بسرائركم. ثم قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ يعني قوالين بالحق. ثم قال: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا وذلك أن الله تعالى لما فتح على المسلمين مكة، أمر الله المسلمين أن لا يكافئوهم بما سلف، وأن يعدلوا في القول والحكم والنصفة. وذلك قوله اعْدِلُوا يعني قولوا الحق والعدل هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى يعني فإنه أقرب للطاعة. ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ يقول: واخشوا الله بما أمركم به إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الطاعة وغيره.
ثم بيّن ثواب من عمل بطاعته فقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني الطاعات لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ يعني ثواب عظيم في الجنة. ويقال: إن أهل مكة قالوا بعد ما أسلموا: ما لنا في الآخرة وقد أخرجناك وأصحابك. فقالوا: وعد الله الذين آمنوا بالله وبمحمد ﷺ وعملوا الصالحات بعد الإسلام لهم مغفرة لما فعلوا في حال الشرك وأجر عظيم في الآخرة. ثم قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا يعني: جحدوا وكذبوا
373
بمحمد ﷺ والقرآن، وماتوا على ذلك أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ يعني مقيمين فيها أبداً.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وصالح بني قريظة وبني النضير، وهما قبيلتان بقرب المدينة، وأخذ منهم الميثاق بأن لا يكون بينهم القتال، وأن يتعاونوا فيما بينهم على الديات، فدخل مستأمنان على رسول الله ﷺ فخرجا من عنده فقتلهما «عمرو بن أمية الضمري»، ولم يعلم بأنهما مستأمنان، فوداهما رسول الله ﷺ بدية حُرَّين مسلمين، فخرج رسول الله ﷺ مع أبي بكر وعمر وعلي إلى بني النضير ليستعين بهم في ديتهما، فقالوا: مرحباً حتى نستأذن إخواننا من بني قريظة. وقال في رواية الكلبي: خرج إلى بني قريظة فقالوا: حتى نستأذن إخواننا من بني النضير، وأدخلوهم داراً وأجلسوهم في صفّة، وجعلوا يجمعون السلاح، وهموا بقتل رسول الله ﷺ وأصحابه، وكانوا ينتظرون كعب بن الأشرف وكان غائباً، فنزل جبريل وأخبر النبي ﷺ بالقصة وخرج، فلما أبطأ الرجوع قام أبو بكر فخرج، ثم خرج عمر، ثم خرج علي رضي الله عنهم فنزلت هذه الآية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ يقول:
أرادوا وتمنوا أن يمدوا أيديهم إليكم بالقتل فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ بالمنع. قال الفقيه أبو الليث: حدثنا أبو جعفر، قال: حدثنا علي بن أحمد، قال: حدثنا نصير بن يحيى، قال:
حدثنا أبو سليمان، عن محمد بن الحسن، عن محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك أن رسول الله ﷺ خرج إلى بني النضير ليستعين بهم في دية الكافرَيْن اللذيْن قتلهما «عمرو بن أمية الضمري»، فهمّ بنو النضير بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فبلغ النبيّ صلّى الله عليه وسلم فسار إليهم فحاصرهم، وأمر بقطع النخيل وحاصرهم حتى قالوا: أتؤمننا على دمائنا وذرارينا وعلى ما حملت الإبل إلا الحلقة يعني السلاح؟ قال: «نعم» ففتحوا الحصون، وأجلاهم إلى الشام. فهذا الخبر موافق رواية مقاتل أنه خرج إلى بني النضير. وقال الضحاك:
كان سبب نزول هذه الآية أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة إلى البقيع إلى قبور الشهداء وحده، فأتاه رجل من اليهود شديد محارب، فقال: إن كنت نبياً كما تزعم فأعطني سيفك هذا، فإن الأنبياء لا يبخلون، فأعطاه سيفه فشهر اليهودي السيف وهزه ليضربه به. فلم يجترئ للرعب الذي قذفه الله تعالى في قلبه، ثم ردّ عليه السيف فنزل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ففي الآية مضمر، فكأنه قال: فاتقوا الله وتوكلوا على الله، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني على المؤمنين أن يتوكلوا على الله ويثقوا بالنصر لهم.
قوله تعالى:
374

[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٢ الى ١٤]

وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني في التوراة من الإيمان بالله تعالى وبأنبيائه وأن يعملوا بما في التوراة، ثم قال: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً قال مقاتل: يعني شهداء على قومهم، بعث الله تعالى من كل سِبْطٍ منهم رجلاً ليأخذ كل رجل منهم على سبطه الميثاق، يكونوا شهداء على قومهم. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً قال: من كل سبط من بني إسرائيل رجلاً، أرسلهم موسى- عليه السلام- إلى الجبارين، فوجدوهم يدخل في كُمِّ أحدهم اثنان منهم، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة منهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبة منه خمسة أنفس أو أربعة، فرجع النقباء كلهم ينهون سبطهم عن القتال إلا يوشع بن نون، وكالب بن يافن، ويقال كالوب بن يوقنا، أمرا قومهما بالقتال. وقال القتبي: النقيب الكفيل على القوم، والنقابة والنكابة شبه العرافة. ويقال:
نقيباً يعني أميناً. وقال ابن عباس: نقيباً يعني ملكاً، حين بعثهم موسى إلى بيت المقدس جعل موسى- عليه السلام- عليهم اثني عشر ملكاً، على كل سبط منهم ملك قالَ اللَّهُ تعالى للنقباء: إِنِّي مَعَكُمْ ويقال: قال الله لبني إسرائيل حين أخذ عليهم الميثاق في التوراة: إِنِّي مَعَكُمْ أي معينكم وحافظكم وناصركم لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ يعني: ما دمتم أقمتم الصّلاة وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي يعني: صدقتم برسلي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ يعني: أعنتموهم. وقال القتبي: أي عظمتموهم والتعزير التعظيم. وقال السدي: يعني نصرتموهم بالسيف. وقال الأخفش: يعني وقَّرْتموهم وقَوَّيتموهم. وقال الضحاك: شرفتموهم بالنبوة كما شرفهم الله تعالى. ويقال: آمنتم برسلي أي أمرتم قومكم، حتى يؤمنوا برسلي ونصرتموهم وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي تأمرون قومكم بذلك.
375
ثم بيّن جزاءهم وثوابهم إن فعلوا ذلك فقال: لَأُكَفِّرَنَّ أي لأمحونَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يعني ذنوبكم وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثم قال: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ العهد والميثاق مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ يعني أخطأ قصد الطريق. ثم قال عز وجل:
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ يعني لما أخذ عليهم الميثاق نقضوا الميثاق، فبنقضهم ميثاقهم لَعَنَّاهُمْ أي لعنهم الله، يعني طردهم من رحمته. ويقال: لَعَنَّاهُمْ يعني عذبناهم بالمسخ.
ويقال: بالجزية. ثم قال: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يعني يابسة، ويقال: خالية عن حلاوة الإيمان. قرأ حمزة والكسائي قاسِيَةً بغير ألف، وقرأ الباقون قاسِيَةً ومعناهما واحد ويقال: قست فهي قاسية وقسية. ثم قال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ والكلم جمع كلمة، يعني يغيرون صفة محمد ﷺ عَنْ مَواضِعِهِ يعني في كتابهم مما وافق القرآن، يعني عن صفة رسول الله ﷺ في كتابهم، ويقال: استحلوا ما حرم الله تعالى عليهم ولم يعملوا به، فكان ذلك تغيير الكلم عن مواضعه. ثم قال: وَنَسُوا حَظًّا يعني تركوا نصيباً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ يعني مما أمروا به في كتابهم وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ يعني لا يزال يظهر لك منهم الخيانة ونقض العهد.
وقال القتبي عن أبي عبيدة: إن العرب تضع لفظ الفاعل في موضع المصدر، كقولهم للخوان مائدة، وإنما يميد بهم ما في الخوان فيجوز أن يكون الهاء صفة للخائن، كما يقال رجل طاغية وراوية للحديث. ثم قال: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ يعني: مؤمنيهم لم ينقضوا العهد فَاعْفُ عَنْهُمْ يعني اتركهم ولا تعاقبهم وَاصْفَحْ عَنْهُمْ يعني: أعرض عنهم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الذين يعفون عن الناس، وهذا قبل الأمر بقتال أهل الكتابين. قوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى وذلك أن الله تعالى لما ذكر حال اليهود ونقضهم الميثاق، فقال على أثر ذلك إن النصارى لم يكونوا أحسن معاملة من اليهود، ثم بيّن معاملتهم فقال: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ في الإنجيل، بأن يتبعوا قول محمد ﷺ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ يعني تركوا نصيباً مما أمروا به في الإنجيل من اتباع قول محمد صلى الله عليه وسلم، ويقال: نقضوا العهد كما نقض اليهود، ويقال إنما سموا أنفسهم النصارى لأنهم نزلوا قرية يقال لها «ناصرة»، نزل فيها عيسى- عليه السلام- فنزلوا هناك وتواثقوا بينهم، ويقال: إنما سموا النصارى لقول عيسى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمران: ٥٢، والصف: ١٤].
ثم قال: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ يعني ألقينا بينهم العداوة وَالْبَغْضاءَ ويقال: الإغراء في أصل اللغة الإلصاق، يقال: أغريت الرجل إغراءً إذا ألصقت به. ويقال: إن أصل العداوة التي كانت بينهم ألقاها إنسان يقال له «بولس»، كان بينه وبين النصارى قتال، وكان يهودياً فقتل منهم خلقاً كثيراً، فأراد أن يحتال بحيلة يلقي بينهم القتال ليقتل بعضهم بعضاً، فجاء إلى النصارى، وجعل نفسه، أعور وقال لهم: أتعرفوني؟ فقالوا: أنت الذي قتلت منا وفعلت ما
376
فعلت، فقال: قد فعلت ذلك كله وأنا تائب، لأني رأيت عيسى ابن مريم في المنام نزل من السماء، فلطم وجهي لطمة وفقأ عيني. فقال: أي شيء تريد من قومي؟ فتبت على يده، وإنما جئتكم لأكون بين ظهرانيكم، وأعلمكم شرائع دينكم، كما علمني عيسى في المنام فاتخذوا له غرفة، فصعد تلك الغرفة وفتح كوة إلى الناس في الحائط، وكان يتعبد في الغرفة، وربما كانوا يجتمعون إليه ويسألونه ويجيبهم من تلك الكوة، وربما يأمرهم حتى يجتمعوا ويناديهم من تلك الكوة، ويقول لهم بقول كان في الظاهر منكراً وينكرون عليه، فكان يفسر ذلك القول بتفسير يعجبهم ذلك، فانقادوا كلهم له وكانوا يقبلون قوله بما يأمرهم به. فقال لهم يوماً من الأيام:
اجتمعوا قد حضرني علم، فاجتمعوا، فقال لهم: أليس قد خلق الله تعالى هذه الأشياء في الدنيا كلها لمنفعة بني آدم؟ قالوا: نعم، فقال لم تحرمون على أنفسكم هذه الأشياء؟ يعني الخمر والخنزير وقد خلق لكم مَّا فِى الارض جميعاً، فأخذوا بقوله واستحلوا الخمر والخنزير، فلما مضى على ذلك أيام دعاهم وقال: حضرني علم. فاجتمعوا وقال لهم: من أي ناحية تطلع الشمس؟ فقالوا: من قبل المشرق. فقال: ومن أي ناحية يطلع القمر والنجوم؟ فقالوا: من قبل المشرق. فقال: ومن يرسلهم من قبل المشرق؟ قالوا: الله تعالى: فقال: فاعلموا أنه من قبل المشرق فإن صليتم له فصلوا إليه، فحول صلاتهم إلى المشرق، فلما مضى على ذلك أيام دعا طائفةً منهم وأمرهم بأن يدخلوا عليه في الغرفة. وقال لهم: إني أريد أن أجعل نفسي الليلة قرباناً لأجل عيسى، وقد حضرني علم وأريد أن أخبركم في السر لتحفظوا عني وتدعوا الناس إلى ذلك. ويقال أيضاً إنه أصبح يوماً وفتح عينه الأخرى ثم دعاهم وقال لهم: جاءني عيسى الليلة، وقال: قد رضيت عنك، فمسح يده على عيني فبرئت، فالآن أريد أن أجعل نفسي قرباناً. ثم قال لهم: هل يستطيع أحد أن يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص إلا الله تعالى؟
فقالوا: لا. فقال: إن عيسى قد فعل هذه الأشياء، فاعلموا بأنه هو الله. فخرجوا من عنده. ثم دعا طائفة أخرى فأخبرهم بذلك أيضاً، وقال: إنه كان ابنه ثم دعا بطائفة ثالثة وأخبرهم بأنه ثالث ثلاثة، وأخبرهم بأنه يريد أن يجعل نفسه الليلة قرباناً، فلما كان في بعض الليل خرج من بين ظهرانيهم، فأصبحوا وجعلوا كل فريق منهم يقول: قد علمني كذا وكذا. وقال الفريق الآخر: أنت كاذب بل علمني كذا وكذا، فوقع بينهم القتال فاقتتلوا وقتلوا خلقاً كثيراً وبقيت العداوة بينهم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ ثلاث فرق، فرقة بينهم النسطورية قالوا المسيح ابن الله.
وصنف منهم يقال: لهم المار يعقوبية قالوا: إن الله هو المسيح. وصنف يقال لهم: الملكانية، قالوا: إن الله ثالث ثلاثة المسيح وأمه والله. فأغرى بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة.
ويقال: ألقى بينهم العداوة بالجدال والخصومات في الدين، وذلك يحبط الأعمال. وقال معاوية بن قرة: إياكم وهذه الخصومات في الدين، فإنها تحبط الأعمال. ثم قال: وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ يعني: ينبئهم في الآخرة الذي هو على الحق.
377
ثم قال عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٥ الى ١٧]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يعني محمد ﷺ يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ يعني: يكتمون ما بين في التوراة، وذلك أنهم كتموا آية الرجم وتحريم الخمر وأكل الربا ونعت محمد ﷺ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ يعني يتجاوز عن كثير ولا يخبركم به، وذكر أن رجلاً من أحبارهم جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فسأله فقال: ما هذا الذي عفوت عنا؟ فأعرض عنه رسول الله ﷺ ولم يبين، وإنما أراد اليهودي أن يظهر مناقضة كلامه أنه لم يترك شيئاً، وقد بينه كله، فلما لم يبين له رسول الله ﷺ قام من عنده وذهب، وقال لأصحابه: أرى أنه صادق فيما يقول، لأنه كان وجد في كتابه أنه لا يبين له ما سأله.
ثم قال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ يعني ضياء من الضلالة، وهو محمد ﷺ والقرآن، والنور هو الذي يبين الأشياء ويري الأبصار حقيقتها، فيسمى القرآن نوراً لأنه يقع في القلوب مثل النور، لأنه إذا وقع في قلبه يبصر به. ثم قال: وَكِتابٌ مُبِينٌ يعني القرآن يبين لكم الحق من الباطل. قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ يعني بالقرآن مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ يعني مَنْ طلب الحق ورغب فيه سُبُلَ السَّلامِ يعني دين الله الإسلام، والسبل جماعة السبيل وهو الطريق، يعني به طريق الهدى، والسلام اسم من أسماء الله تبارك وتعالى، يعني هو دين الله تعالى. ثم قال وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ يعني يخرج من قلوبهم حلاوة الكفر، ويدخل فيها حلاوة الإيمان ويوفقهم لذلك وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني يوفقهم إلى دين الإسلام.
قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ثم قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً يقول من يقدر أن يمنع من عذاب الله شيئا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعني: لَّوْ أَرَادَ الله أَن يهلك عيسى وأمه وجميع الخلق، ولا يقدر عيسى على ردّ ذلك، فكيف يكون إلهاً وهو لا يقدر على دفع الهلاك عن نفسه. ثم قال: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يعني خزائن السموات والأرض، وجميع الخلق عبيده وإماؤه وحكمه نافذ فيهم. ثم قال: يَخْلُقُ مَا يَشاءُ لأن نصارى أهل نجران كانوا يقولون: لو كان عيسى بشراً كان له أب، فأخبر الله تعالى على أنه قادر على أن يخلق خلقاً بغير أب وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
من خلق عيسى وغيره.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٨ الى ١٩]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ يعني: نحن من الله تعالى بمنزلة الأبناء من الآباء في المنزلة والكرامة، والوالد إذا سخط على ولده في وقت يرضى عنه في وقت آخر.
ويقال: معناه نحن أبناء الله وأحباؤه. قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ يعني يحرقكم لأنهم كانوا مقرِّين بأنه يحرقهم أربعين يوماً أياماً معدودة، قل لهم فهل رأيتم والداً يحرق ولده أو يحرق مُحِبَّه؟ ففي الآية دليل أن الله تعالى إذا أحب عبده يغفر ذنوبه، ولا يعذبه بذنوبه، لأنه احتج عليهم فقال: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ إن كنتم أحباء الله تعالى، وقال في آية أخرى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: ٢٢٢] ففيه دليل على أنه لا يعذب التوابين بذنوبهم، ولا المجاهدين الذين يجاهدون لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا [الصف: ٤] ثم قال: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يعني أنتم لستم بأبناء الله ولا أحبائه، ولكن أنتم خلق كسائر خلق الله تعالى. ثم قال: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أي يتجاوز عمن يشاء فيهديه لدينه وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ فيهينه ويتركه على الكفر وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما من الخلق وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يعني إليه المرجع، فيجزيهم بأعمالهم.
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني يا أهل التوراة والإنجيل، وإنما أضافهم إلى الكتاب والله أعلم على وجه التعبير، يعني أنتم أهل الكتاب فلم لا تعملون بكتابكم؟ كقوله: يا عاقل لم لا تفعل كذا وكذا، وإنما تذكر العقل على معنى التعيير أي إنك لا تعمل عمل العقلاء. ثم قال: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يعني محمدا ﷺ يُبَيِّنُ لَكُمْ الدين والأحكام والشرائع عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ يعني بعد انقطاع من الرسل والوحي. وقال مقاتل: في الآية تقديم وتأخير، معناه قد جاءكم رسولنا على فترة من الرسل يبين لكم، وإنما سمي فترة لأن الدين يفتر ويندرس عند انقطاع الرسل، يعني بين عيسى ومحمد- عليهما السلام- وقال قتادة:
كان بين عيسى ومحمد- عليهما السلام- خمسمائة وستون سنة. وقال الكلبي: خمسمائة وأربعون سنة. وقال الضحاك ومقاتل: كان بينهما ستمائة سنة. وقال وهب: كان بينهما ستمائة وعشرون سنة. ثم قال: أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ يعني لكي لا تقولوا: ما جاءنا من رسول بعد ما درس الدين ليبشرنا وينذرنا فَقَدْ جاءَكُمْ محمد ﷺ بَشِيرٍ بالجنة وَنَذِيرٌ من النار وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من المغفرة والعذاب وبعث الرسل
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٠ الى ٢٦]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَّا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني: احفظوا منة الله عليكم ونعمته إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ قال في رواية الكلبي: يعني السبعين سوى موسى وهارون عليهما السلام، وهم الذين اختارهم موسى فانطلقوا معه إلى الجبل. ويقال: إِذْ
380
جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ
يعني في بني إسرائيل، فكان فيهم أربعة آلاف نبي- عليهم السلام- ثم قال:
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً يعني: بعد العبودية لفرعون. قال ابن عباس: إن الرجل إذا لم يدخل عليه أحد في بيته إلا بإذنه فهو ملك. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً أي جعل لكم أزواجاً وخدماً وبيوتاً وبنين. ويقال: من استغنى عن غيره فهو ملك. وهذا كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ آمِناً فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ وَلَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» ثم قال: وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ يعني أعطاكم ما لم يعط أحداً من الخلق، وهو: المن والسلوى والغمام وغير ذلك.
ثم قال عز وجل: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ يعني المطهرة، والمقدسة في اللغة هو المكان الذي يتطهر فيه، فتأويله البيت الذي يتطهر فيه الإنسان من الذنوب. ثم قال: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني التي أمركم الله أن تدخلوها. ويقال: التي وعد لإبراهيم أن يكون ذلك له ولذريته، وذلك أن الله وعد لإبراهيم أن يكون له مقدار ما يمد بصره فصار ذلك ميراثاً منه حين خرج إبراهيم- عليه السلام- فقال له جبريل: انظر يا إبراهيم. فنظر فقال: يعطي الله تعالى لك ولذريتك مقدار مد بصرك من الملك. وهي أرض فلسطين وأردن وما حولهما. فقال موسى لقومه: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني التي جعل لأبيكم إبراهيم- عليه السلام- ولكم ميراث منه وقال القتبي: أصل الكتاب ما كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ، ثم يتفرع منه المعاني. ويقال: كتب يعني قضى كما قال: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا [التوبة: ٥١] ويقال: كتب أي فرض كما قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ أي فرض ويقال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ أي جعل كما قال: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ ويقال: كتب أي أمر. كما قال: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني أمر الله لكم بدخولها. قال: ويقال كتب هاهنا بمعنى جعل. ثم قال تعالى: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ يعني لا ترجعوا عما أمرتم به من الدخول فَتَنْقَلِبُوا أي فتصيروا خاسِرِينَ بفوات الدرجات ووجوب الدركات، أي مغبونين في العقوبة، فبعث موسى- عليه السلام- اثني عشر رجلاً من كل سبط رجلاً يأتيهم بخبر الجبارين، فلما أتوهم لقيهم بعض أصحاب تلك المدينة جاءوا وأخذوا أصحاب موسى، فجعل كل رجل رجلين من أصحاب موسى- عليه السلام- في كمه، حتى جاءوا بهم إلى الملك. ويقال: لقيهم رجل واحد اسمه «عوج»، فاحتملهم في ثوبه وأتى بهم حتى ألقاهم بين يدي الملك فنظر إليهم وقال: هؤلاء يريدون أن يأخذوا مدينتنا. فأراد قتلهم فقالت امرأته:
أيش تصنع بقتل هؤلاء الضعفاء؟ ويكفيهم ما رأوا من أمر القوم وأمر هذه البلدة. فأنعِم عليهم ودعهم حتى يرجعوا ويذهبوا إلى موسى وقومه بالخبر، فأرسلهم الملك وأعطاهم عنقوداً من العنب فحملوه على عمودين، فرجعوا إلى موسى- عليه السلام- وقالوا فيما بينهم: لا تخبروا
381
قوم موسى بهذا الخبر، فإنهم يجبنون عن القتال، والله تعالى قد وعد لموسى بأن يفتح عليهم هذه البلدة، ولا تخبروا أحداً سوى موسى. فلما رجعوا أخبروا بخبرهم إلا اثنين منهم وهما يوشع بن نون وكالب بن يوقنا.
فلما أمر موسى قومه بدخول البلدة قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ قال مقاتل:
يعني طول كل رجل منهم ستة أذرع ونصف. وقال الكلبي: طول كل رجل منهم ثمانون ذراعاً. وقال الزجاج: الجبار من الآدميين العاتي، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد. ثم قال تعالى: وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها يعني من تلك البلدة، وهي الأرض المقدسة واسمها إيلياء. ويقال مدينة أخرى يقال لها أريحا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ قالَ رَجُلانِ يعني يوشع بن نون وكالب مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ الله تعالى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإسلام، ويقال من الذين يخافون الجبارين أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا فلم يخافا وصدقا في مقالتهما ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ وهي أريحا أو إيلياء فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ يعني أن القوم إذا رأوا كثرتكم انكسرت قلوبهم وانقطعت ظهورهم، فتكونوا غالبين وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا يعني فثقوا بأنه ناصركم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني: مصدقين بوعد الله تعالى، فقال لهم موسى:
ادخلوا عليهم قالُوا يَا مُوسى أتصدق اثنين وتكذب العشرة إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَّا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا يعني: قل لربك أن ينصرك عليهم كما نصرك على فرعون. وقال أبو عبيدة: يعني اذهب فقاتل وليقاتل معك ربك، وليتم أمرك كما أتم قبل ذلك فهو يعينك، فإنا لا نستطيع قتال الجبابرة. ويقال: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ يعني أنت وسيدك هارون، لأن هارون كان أكبر منه بسنتين أو بثلاث سنين فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ فغضب موسى- عليه السلام- مِنَ قولهم قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي هارون. وقال الزجاج: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي يحتمل معنيين، أحدهما: لا أملك إلا نفسى، وأخي لا يملك إلا نفسه. ويحتمل: لا أملك إلا نفسي وأخي، لأن أخاه كان مطيعاً له فهو يملك طاعته. ثم قال:
فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ يعني: اقضِ بيننا وبين القوم العاصين.
ثم قال الله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ يعني الأرض المقدسة، دخولها محرم عليهم أَرْبَعِينَ سَنَةً ثم قال: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ضلالاً يعني: يتحيرون فيها ولا يعرفون وجه الخروج منها ضلالاً في التيه. ويقال: فإنها محرمة عليهم، وتم الكلام. ثم قال أربعين سنة يتيهون في الأرض، فعمي عليهم السبيل، فحبسهم بالنهار وسيّرهم بالليل، يسهرون ليلتهم ويصبحون حيث أمسوا، وكان التيه بين فلسطين وأيلة ست فراسخ في اثني عشر فرسخاً، فمكثوا فيها أربعين سنة لم يقدروا على الخروج منها. قال بعضهم: لم يكن موسى وهارون عليهما السلام في التيه، لأن الأنبياء لا يعذبون وقال بعضهم: كانا فيه وسهل الله تعالى عليهما كما سهل على إبراهيم- عليه السلام- النار، وجعلها برداً وسلاماً. ويقال: إن
382
موسى وهارون قد ماتا في التيه، وهلكت تلك العصابة ولم يبقَ منهم إلا يوشع وكالب، فخرج يوشع بذرياتهم إلى تلك المدينة، وفتحوها عند غروب الشمس. وذكر في الخبر أن يوشع دعا بأن ترد الشمس فردت ثلاث ساعات حتى فتحوا البلدة، فاختلفت النجوم عن مجاريها من ذلك اليوم، فخفي على المنجمين، فلما بقوا في التيه ندم موسى على دعائه، فأوحى الله تعالى إليه فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ يعني لا تحزن على قوم سميتهم فاسقين. وقال بعضهم: هذا الخطاب لمحمد ﷺ لا تحزن على قومك إن لم يؤمنوا. ويقال: أَرْبَعِينَ سَنَةً صار نصباً بمعنى يتيهون لأن في التفسير، إن دخلوها لم يكن محرم عليهم أبداً. كذا قاله ابن عباس رضي الله عنه. وإنما دخلها أولادهم. وقال قوم: حرمت أربعين سنة فكانوا يتيهون أربعين سنة وفتحوا.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٧ الى ٣١]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ يعني اقرأ على قومك نَبَأَ يعني خبر ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ يعني بالصدق إِذْ قَرَّبا قُرْباناً وذلك أن حواء- عليها السلام- ولدت غلاماً وجارية في بطن واحد، قابيل وأخته إقليما، ثم ولدت في بطن آخر هابيل وأخته ليوذا، فلما كبروا أمر الله تعالى بأن يزوج كل واحد منهما أخت صاحبه، وكانت أخت قابيل أحسن، فأبى قابيل وقال: بل زوج كل واحد منا أخته، فقال آدم: إن الله تعالى أمرني بذلك. فقال له قابيل: إن الله تعالى لم يأمرك بهذا، ولكنك تميل إلى هابيل. فأمرهما بأن قربا قرباناً، فأيكما تقبل قربانه كان أحق بها، فعمد قابيل وكان صاحب زرع إلى شر زرعه ووضعه عند الجبل، وعمد قابيل وكان صاحب مواشي إلى خير غنمه فوضعها عند الجبل، وكان قابيل يضمر في قلبه أنه إن تقبل منه أو لم يتقبل لا
383
يسلم إليه أخته، فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل، وكان ذلك علامة القبول، وتركت قربان قابيل فذلك قوله: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً يعني وضعا قربانا. فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما يعني هابيل وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ يعني قابيل ف قالَ قابيل لهابيل لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ ولم؟ قال: لأن الله قد قبل قربانك ورد عليّ قرباني. فقال له هابيل: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ولم يكن الذنب مني، وإنما لم يتقبل منك لخيانتك وسوء نيتك. وقال بعض الحكماء: العاقل من يخاف على حسناته، لأن الله تعالى قال: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ والخاسر من يأمن من عذاب الله لأن الله تعالى قال: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف: ٩٩].
قوله تعالى: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ يعني هابيل قال لقابيل: لئن مددت إليَّ يدك لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ ثم قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ يعني: إني أريد أن ترجع بإثمي، يعني بقتلك إياي وبإثمك الذي عملت قبل قتلي وهي الخيانة في القربان وغيره. ويقال: إني أريد أن ترجع بإثمي، يعني أن لا أبسط يدي إليك لترجع أنت بإثمي وإثمك، ولا يكون عليَّ من الإثم شيء. ويقال: معناه إني أريد أن تؤخذ بإثمي وإثمك. فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ يعني لكي لا يكون من أصحاب النار وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ. قال الله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ يعني تابعت له نفسه على قتل أخيه ويقال: انقادت له طاعة نفسه. وقال: قتادة زينت له نفسه بقتل أخيه فَقَتَلَهُ قال بعضهم: إنه كان لا يدري كيف يقتله، حتى جاء إبليس فتمثل عنده برجلين، فأخذ أحدهما حجراً ولم يزل يضرب الآخر حتى قتله، فتعلم ذلك منه وقال بعضهم: بل كان يعرف ذلك بطبعه، لأن الإنسان وإن لم ير القتل فإنه يعلم بطبعه أن النفس فانية، ويمكن إتلافها فأخذ حجراً وقتله بأرض الهند، فلما رجع إلى آدم قال له: ما فعلت بهابيل؟ فقال له قابيل: أجعلتني رقيباً على هابيل؟ فذهب حيث يشاء فبات آدم تلك الليلة محزوناً، فلما أصبح قابيل رجع إلى الموضع الذي قتله، فرأى غراباً وقال بعضهم: كان يحمله على عاتقه أياماً لا يدري ما يصنع به حتى رأى غراباً ميتاً، فجاء غراب آخر وبحث التراب برجليه ودفن الغراب الميت في التراب، فذلك قوله تعالى فقتله فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ يعني فصار من المغبونين في العقوبة.
قوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ وقابيل ينظر إليه. وقال القتبي: هذا من الاختصار، ومعناه بعث غراباً يبحث التراب على غراب الميت لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ يعني كيف يغطي عورة أخيه قالَ قابيل عند ذلك: يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ يعني أضعفت في الحيلة أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي يعني فأغطي عورة أخي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على حمله حيث لم يدفنه حين قتله. قال ابن عباس: ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه. ويقال: إن آدم وحواء أتيا قبره وبكيا أياماً عليه، ثم إن قابيل كان على ذروة جبل، فنطحه ثور فوقع على السفح فتفرقت عروقه. ويقال: دعا عليه آدم فانخسفت به
384
الأرض. وقال مقاتل: كان قبل ذلك السباع والطيور تستأنس بآدم، فلما قتل قابيل أخاه هربوا فحلقت الطيور بالهواء والوحوش بالبرية والسباع بالغياض، فتزوج شيث- عليه السلام- بإقليما. وروي عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْماً إلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لأنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ». وقال بعضهم: هذه القصة كانت في بني إسرائيل، وهما أخوان قتل أحدهما الآخر، ولكن هذا خلاف قول المفسرين.
قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ يعني من أجل خيانة ابن آدم حين قتل أخاه كَتَبْنا يعني فرضنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ وغلّظنا وشدّدنا في التوراة أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ يعني قتل نفساً بغير أن يقتل نفساً أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ يعني بغير فساد في الأرض، وهو الشرك بالله فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً يعني إذا قتل نفساً بغير جرم واستحل قتله، فكأنه قتل الناس جميعا، يعني إذا قتل نفساً فجزاؤه جهنم خالداً فيها. ثم قال: وَمَنْ أَحْياها يعني نجّاها من غرق أو حرق أو يعفو عن القتل فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً يعني: له من الأجر كأنما أحيا الناس جميعاً، لأن في حياة نفس واحدة يكون منفعة لجميع الناس، لأنه يدعو لجميع الخلق. ثم قال: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ يعني بالبيان في الأمر والنهي ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ
البيان فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ يعني: لمشركون تاركون لأمر الله تعالى.
قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إن للتأكيد، وما صلة يحاربون الله ورسوله، يعني يخالفون الله ورسوله، ويتركون أمر الله وأمر رسوله مجاهرة وعياناً وَيَسْعَوْنَ
385
فِي الْأَرْضِ فَساداً
بالقتل وأخذ المال أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا قال مقاتل: نزلت هذه الآية في سبعة نفر من بني عرينة، قدموا المدينة فاجتووها. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى إِبِلِنَا وَأَصَبْتُمْ مِنْ ألْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا» ففعلوا، فصحوا، ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم، وساروا بالإبل وارتدوا عن الإسلام، فأرسل النبيّ صلّى الله عليه وسلم في آثارهم علياً، فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم بالحرّة حتى ماتوا. وهذا قبل أن تنزل آية الحدود. وروى أسباط عن السدي قال: نزلت في سودان عرينة، فأراد النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يمثل بهم فنهاه الله تعالى عن ذلك، وأمره أن يقيم فيهم الحد الذي أنزل عليه. وقال سعيد بن جبير إنه مثل بهم ثم نزل بعد ذلك:
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ الآية. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: وادع رسول الله ﷺ أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن أتاه من المسلمين فهو آمن، ومن أتى المسلمين منهم فهو آمن، فمر أناس من بني كنانة يريدون الإسلام، فمروا بأصحاب أبي بردة ولم يكن أبو بردة حاضراً يومئذٍ، فخرج أصحابه إليهم فقتلوهم، وأخذوا أموالهم فنزلت هذه الآية: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية.
ثم صارت الآية عامة في جميع الناس.
واختلف العلماء في حكمهم وهم قطاع الطريق وهم ثلاثة أصناف: صنف يأخذ المال ولا يقتل، وصنف يأخذ المال ويقتل، وصنف يقتل ولا يأخذ المال. قال بعضهم: إذا وجد من إنسان صنف من هذه الأصناف، فللإمام أن يقيم عليه أي عقوبات شاء، لأن الله تعالى قال: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا فقد خُيِّر في عقوبتهم، وهو قول الحسن وعطاء. وقال بعضهم:
لكل صنف عقوبة على حدة، والاختيار عند أصحابنا رحمهم الله أنه إن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإن قتل ولم يأخذ المال قتل، وإن قتل وأخذ المال قطع وقتل عند أبي حنيفة. وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يقتل ولا يقطع. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: إن قَتل قُتل، وإن قتل وأخذ المال قطع ثم صلب. وروي عن ابن عباس نحو هذا. ويكون أو بمعنى الواو، فكأنه قال: إن يقتلوا ويصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ وقال بعضهم: يقتل ثم يصلب على وجه النكال والعبرة، وقال بعضهم: يصلب حياً ثم يطعن في ليته، يخضخض حتى يموت.
قوله تعالى: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ يعني يطلب حتى لا يجد قراراً في موضع ويقال:
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ يعني يحبس فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها، فصار كأنه نفي عن الأرض. واحتج هذا القائل بقول بعض أهل السجن في ذلك:
386
ويقال: ينفى إلى دار الحرب. ثم قال تعالى: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا يعني ذلك القتل والقطع لهم عذاب وعقوبة في الدنيا، ولا يكون ذلك كفارة لذنوبهم إن لم يتوبوا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ أي أشد مما كان في الدنيا، وهو عذاب النار. ثم استثنى فقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ يعني رجعوا عن صنيعهم قبل أن يؤخذوا ويردوا المال، فلا يعاقبون في الدنيا ولا فى الآخرة، ويغفر الله تعالى لهم ذنوبهم وذلك قوله:
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور لذنوبهم رحيم حين قبل توبتهم.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ يعني احذروا المعاصي لكي تنجوا من عذاب الله.
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ يعني اطلبوا القرابة والفضيلة بالأعمال الصالحة وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ يعني في طاعته. ويقال: جاهدوا العدو لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تنجوا من العقوبة وتنالوا الثواب. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ يقول: إن الكافر إذا عاين العذاب ثم تكون له الدنيا جميعاً ومثلها معها فيقدر على أن يفتدي بها، من العذاب لافتدى بها يقول الله تعالى: لو كان ذلك لهم ففعلوه مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ذلك النداء وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي وجيع.
ثم قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وذلك أنهم يريدون أن يخرجوا من الأبواب، فتستقبلهم الملائكة فيضربونهم بمقامع من حديد ويردونهم إليها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم أبداً. وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال: إن قوماً يخرجون من النار بعد ما يدخلونها، قيل له: سبحان الله أليس الله يقول: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها؟ فقال جابر: اقرءوا إن شئتم أول الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني هذا للكفار خاصة دون العاصين من المؤمنين.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بدأ بالرجل لأن السرقة في الرجال أكثر، وقال في الزنى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي بدأ بالنساء، لأن الزنى في النساء أكثر، وهنَّ الفاتنات للرجال فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما.
روي عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه كان يقرأ: «فاقطعوا أيمانيهما» وغيره قرأ أيديهما، واتفقوا أن المراد به اليمين من الكرسوع، نزلت الآية في «طعْمَة بن أبَيْرق»، ثم صارت الآية عامة في جميع السُّرَّاق.
وقال بعضهم: إذا سرق قليلاً أو كثيراً يجب القطع، واحتج لظاهر الآية. روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لَعَنَ الله السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ». وروي عن ابن الزبير أنه قطع في نعل ثمنه درهم. وقال: لو سرق خيطاً لقطعته، وقال بعضهم: لا يقطع في أقل من ثلاثة دراهم، أو اربع دينار فصاعداً.
والاختيار عند علمائنا رحمهم الله أن اليد لا تقطع في أقلَّ من عشرة دراهم، وبه جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضي الله عنهم. قرأ بعضهم: السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بالنصب، وكذلك قوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي بالنصب، وإنما جعله نصباً لوقوع الفعل عليه، وهو شاذ من القراءة والقراءة المعروفة بالرفع.
وروي عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: رفعه بالابتداء، لأن القصد ليس إلى واحد من السراق بعينه والزناة بعينه، إنما هو كقولك من سرق فاقطعوا يده، ومن زنى فاجلدوه، ثم قال: جَزاءً بِما كَسَبا يعني عقوبة لهما بما سرقا، نَكالًا يعني: عقوبة، مِنَ اللَّهِ جزاء صار نصباً لأنه مفعول له يعني: جزاء بجزاء فعلهما، ثم قال: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حكم على السارق بقطع اليد، ثم قال عز وجل: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ يعني: من بعد سرقته، وَأَصْلَحَ العمل بعد السرقة فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ يعني: يتجاوز عنه، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما سلف من ذنبه، رَحِيمٌ به بعد التوبة، يعني: إذا تاب ورد المال لا تقطع يده.
ثم قال عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)
388
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خزائن السموات والارض، يعني:
خزائن السموات المطر، وخزائن الأرض النبات. ويقال: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يحكم فيها ما يشاء، يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ إذا أصرّ على ذنوبه، وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ إذا تاب ورجع، ومعناه: أن السارق إذا تاب، ورد المال لا يقطع ويتجاوز عنه، وإن لم يتب قطعت يده.
ألا ترى أن الله تعالى قال: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ إذا لم يتب ويتجاوز إذا تاب، فافعلوا أنتم مثل ذلك، لأن الله تعالى مع قدرته يتجاوز عن عباده، وهو قوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من المغفرة والعذاب.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ نزلت في شأن «أبي لبابة بن عبد المنذر»، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما حاصر بني قريظة فأشار إليهم أبو لبابة، وكان حليفاً لهم، إنكم إن نزلتم من حصونكم قتلكم فلا تنزلوا، فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي يبادرون ويقعون في الكفر، مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ يعني ذلك بألسنتهم وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ في السر.
وقال الضحاك: نزلت الآية في شأن المنافقين، كانت علانيتهم تصديقاً، وسرائرهم تكذيباً.
قوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ يعني: قوالون للكذب، وقال القتبي:
تفسير سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي: قابلون للكذب، لأن الرجل يسمع الحق والباطل، ولكن يقال: لا تسمع من فلان قولاً، أي: لا تقبله، ومعنى آخر إنهم يسمعون منك ليكذبوا عليك، لأنهم إنما جالسوه لكي يقولوا: سمعنا منه كذا وكذا، وإنما صار سَمَّاعُونَ رفعاً لأن معناه:
هم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ من سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يعني: أهل خيبر لم يأتوك، وذلك أن
389
رجلاً وامرأة من أهل خيبر زنيا فكرهوا رجمهما، فكتبوا إلى يهود بني قريظة أن يذهبوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن حكم بالجلد رضوا عنه بحكمه وإن حكم بالرجم لم يقبلوا. وروى نافع عن ابن عمر أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا له أن رجلاً وامرأة زنيا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ما تجدون في التوراة فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟». فقالوا: يحممان ويجلدان، يعني: تُسَوَّدُ وجوههما. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة. فأتوا بها فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، وقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم. فقالوا: صدق عبد الله بن سلام، يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله ﷺ فرجما. قال ابن عمر: فرأيت الرجل يحنو على المرأة يقيها الحجارة.
وروى الشعبي عن جابر بن عبد الله أنه قال: زنى رجل من أهل فَدَك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن يسألوا محمداً ﷺ عن ذلك، فإن أمركم بالحد فحدوه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه، فسألوه، فدعا ابن صوريا وكان عالمهم، وكان أعور، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنشُدُكَ الله كَيفَ تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُم» ؟. فقال ابن صوريا: فأما إذ ناشدتني بالله، فإنا نجد في التوراة أن النظر زنية، والاعتناق زنية والقبلة زنية، فإن شهد أربعة بأنهم رأوه كالميل في المكحلة فقد وجب الرجم. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «هُوَ ذلك».
وروي عن أبي هريرة قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجال من اليهود، وقد تشاوروا في صاحب لهم زنى بعد ما أُحْصن، قالوا: فانطلقوا فلنسأل هذا النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فإن أفتانا بفتوى فيها تخفيف، فاحتججنا عند الله تعالى بها، وإن أفتانا بما فرض الله علينا في التوراة من الرجم تركنا ذلك. فقد تركنا ذلك في التوراة وهي أحق أن تطاع، فقالوا: يا أبا القاسم إنه زنى صاحبٌ لنا قد أحصن، فما ترى عليه من العقوبة؟. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقمنا معه، حتى أتى بيت مدراس اليهود، فوجدهم يتدارسون التوراة فقال لهم «يا مَعْشَرَ اليَهُودِ، أَنْشُدُكُمْ بالله الذي أَنْزَلَ التَّورَاة على موسى- عليه السلام- ما تجدون في التوراة مِنَ العُقُوبَةِ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَد أَحْصَنَ» ؟. فقالوا: إنا نجد أن يجلد ويحمم، وسكت حبرهم وهو في جانب البيت فأقبل النبيّ صلّى الله عليه وسلم ينشده، فقال له حبرهم: إذا ناشدتنا فإنا نجد عليه الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«كَانَ أَوَّلَ مَا تَرَخَّصْتُمْ به أمر الله تَعَالَى» ؟، قال: إنه قد زنى رجل قد أحصن، وهو ذو قرابة لملك من ملوكنا فسجنه، وأخر عنه الحد، وزنى رجل آخر، فأراد الملك رجمه، فجاء قومه وقالوا: لا ترجمه حتى ترجم فلاناً، فاصطلحوا بينهم على عقوبة دون الرجم، وتركوا الرجم.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «فَإنِّي أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِمَا في التوراة»، فنزل قوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ. قال الزجاج: يعني: من بعد أن وضعه الله تعالى مواضعه، وأحل حلاله وحرم حرامه.
390
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ يعني: إن أمركم بالجلد فاقبلوه واعملوا به، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا يقولون: إن لم يوافقكم على ما تطلبون، ويأمركم بالرجم فلا تقبلوا منه.
قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ يعني: كفره، وشركه، ويقال: فضيحته، ويقال:
اختباره، فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً يقول: لن تقدر أن تمنعه من عذاب الله شيئا.
ثم قال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من الكفر، ولم يرد أن يدخل حلاوة الإيمان في قلوبهم، وخذلهم مجازاة لكفرهم، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ يعني: القتل، والسبي، والجزية، وهو قتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ أعظم مما كان في الدنيا.
ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٢]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي السحت بضم الحاء، وقرأ الباقون بضمة واحدة، وهما لغتان السُّحُتُ والسُّحْتُ، وهو الاستئصال. يقال:
أسحته وسَحَتَهُ، إذا استأصله، وكانوا يأكلون الرِّشا، وكان عاقبته الاستئصال، فسماه به كما قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: ١٠] «أي:
يأكلون ما عاقبته نار»
. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ بِالسُّحْتِ فَالنَّارُ أوْلَى بِهِ»، قالوا يا رسول الله وما السحت؟ قال: «الرِّشْوَةُ فِي الحُكْمِ». وقال- عليه السلام-: «لَعَنَ الله الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي». وروي عن وهب بن منبه، أنه قيل له: الرشوة حرام في كل شيء؟. فقال: لا، إنما يكره من الرشوة أن ترشو لتعطى ما ليس لك، أو تدفع حقاً قد لزمك. فأما إذا أردت أن ترشو لتدفع عن دينك، ودمك، ومالك، فليس بحرام. قال الفقيه أبو الليث: وبهذا القول نأخذ لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة، وهذا كما روي عن عبد الله بن مسعود، أنه كان بالحبشة فرشى بدينارين، وقال: إنما الإثم على القابض دون الدافع.
ثم قال: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، يعني: أهل الكتاب إذا خاصموا إليك فأنت بالخيار، إن شئت فاحكم بينهم وإن شئت فأعرض عنهم، ولا تحكم بينهم.
ثم قال: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ يعني:
بالعدل، وهو الرجم، ولها وجه آخر، أن الصلح كان بينهم أن تكون جراحات بني قريظة نصفاً من جراحات بني النضير، وفي القتل كذلك، فأمر الله تعالى بأن يحكم بالعدل بينهم، وهو قوله عز وجل: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ يعني العادلين في الحكم. وروي عن عكرمة أنه قال: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ نسختها آية أخرى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: ٤٩] وقال مجاهد: لم ينسخ من المائدة إلا آيتان قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ نسختها وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: ٤٩] وقوله: لاَ تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ نسختها قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥].
وقال الزهري: مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم، ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين حكم الله، فيحكم بينهم بكتاب الله تعالى، وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة: أن لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا.
ثم قال
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وكيف يقرّون بحكمك، وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ يعني:
آية الرجم، وحكم الجراحات فلم يقرُّوا بها، ولا يعملوا بها.
ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعني: يعرضون عن العمل به من بعد ما بيّن الله في كتابهم ثم قال: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ يعني: ليسوا بمصدقين بما عندهم، وهم يقولون: نحن نؤمن بالتوراة وهم كاذبون.
ثم قال: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً من الضلالة، وَنُورٌ يعني: بيان الشرائع والأحكام. يعني: حكم الرجم والجراحات، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يعني: يقضي بها النبيون الذين أسلموا، يعني: صدقوا بالتوراة من لدن موسى إلى عيسى، وبينهما ألف نبي.
ويقال: أربعة آلاف نبي. ويقال: أكثر من ذلك، كانوا يحكمون بما في التوراة. لِلَّذِينَ
هادُوا
يعني: كانوا يحكمون لهم وعليهم. ويقال: يحكم بها الأنبياء من لدن موسى إلى محمد ﷺ ولهذا قضى رسول الله ﷺ بالرجم بحكم التوراة.
ثم قال تعالى: وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ قال بعضهم: الربانيون العلماء والأحبار القراء، ويقال: الربانيون الذين في العمل أكثر، وفي العلم أقل، والأحبار الذين في العلم أكثر وفي العمل أقل، مثل الفقهاء والعباد. ويقال: كالفقهاء والعلماء.
وقال القتبي: كلاهما واحد وهما العلماء، بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ يعني: عُلِّموا واستُودعوا من كتاب الله التوراة، وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ بما في كتاب الله الرجم، وسائر الأحكام.
ثم قال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ يعني: يهود أهل المدينة، لا تخشوا يهود أهل خيبر، وأخبروهم بآية الرجم، وَاخْشَوْنِ في كتمانه، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا يعني: عرضا يسيراً.
ثم قال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني: إذا لم يقر، ولم يبيّن، فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ قال ابن عباس: من يجحد شيئاً من حدود الله فقد كفر، ومن أقر ولم يحكم بها فهو فاسق. روى وكيع عن سفيان قال: قيل لحذيفة: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ نزلت في بني إسرائيل: فقال حذيفة: نعم الأخوة لكم، وبنو إسرائيل كانت لكم كل حلوة، ولهم مرة. لتسلكن طريقهم قدر الشراك. يعني: هذه الآية عامة فمن جحد حكم الله فهو من الكافرين.
ثم بين الحكم الذي في التوراة فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)
393
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها يعني: فرضنا على بني إسرائيل، في التوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ إذا كان القتل عمداً، وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ إذا كان عمداً، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ إذا كان عمداً، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ إذا كان عمداً، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ إذا كان عمداً، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ إذا كان عمداً. وروى عكرمة عن ابن عباس: إن بني النضير كان لهم شرف على بني قريظة، وكانت جراحاتهم على النصف، فحملهم على الحق، وجعل دم القرظي والنضيري سواء. فقال كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف: لا نرضى بحكمك، لأنك تريد أن تصغرنا بعداوتك.
فنزل وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، ثم صارت الآية عامة في جميع الناس في وجوب القصاص في النفس، وفي الجراحات. قرأ عاصم وحمزة ونافع أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ والحروف الست كلها بالنصب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر كلها بالنصب، غير الجروح فإنهم يقرءونها بالضم على معنى الابتداء. وقرأ الكسائي كلها بالضم إلا النفس.
ثم قال: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ يعني: عفا عن مظلمته في الدنيا، وترك القصاص، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ قال القتبي: فهو كفارة للجارح وأجر للمجروح. وقال مجاهد: كفارة للجارح، وأجر للعافي. وقال بعضهم: هو كفارة للعافي، أي يكفر الله تعالى عنه بعفوه بعض ما سلف من ذنوبه. ويقال: كَفَّارَةٌ لَهُ أي للجارح، يعني: إذا ترك الولي حقه سقط القصاص عن الجارح.
وروى محرر، عن أبي هريرة، عن رجل من الأنصار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أُصِيبَ بِشَيْءٍ فِي جَسَدِهِ فَتَرَكَهُ لله تَعَالَى، كَانَتْ كَفَّارَةً لَهُ». وقال الحسن: ينادي منادٍ يوم القيامة: من كان له على الله أجر فليقم، فلا يقوم إلا من قد عفا.
ثم قال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يعني: يظلمون أنفسهم.
والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه. فالذي عرض نفسه للعقوبة، فقد وضع الشيء في غير موضعه. قوله تعالى: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يعني: اتبعنا على أثر الرسل عيسى ابن مريم عليه السلام، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يعني: موافقاً لما قبله، مِنَ التَّوْراةِ يقال: إن عيسى يصدق التوراة.
ثم قال: وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً من الضلالة، وَنُورٌ يعني: بيان الأحكام، وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ، يعني: الإنجيل موافقاً للتوراة في التوحيد، وفي بعض الشرائع، وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ الذين يتقون الشرك، والفواحش.
ثم قال: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ قرأ حمزة وَلْيَحْكُمْ بكسر اللام ونصب الميم، وقرأ الباقون بالجزم، فمن قرأ بالكسر، فمعناه: وآتيناه الإنجيل، لكي يحكم أهل الإنجيل
394
بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ومن قرأ بالجزم فهو على الأمر، والمراد به الخبر عن أمر سبق لهم، يعني:
أمرهم الله تعالى أن يحكموا بما في الإنجيل.
ثم قال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني: في الإنجيل وكان حكمهم العفو، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ يعني: العاصين.
وقوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مآ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ يعني: أنزلنا إليك يا محمد الكتاب بالحق، يعني: بيان الحق. ويقال: بالعرض والحجة، ولم ينزله بغير شيء، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ يعني: موافقاً للتوراة، والإنجيل، والزبور، في التوحيد وفي بعض الشرائع.
ثم قال تعالى: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ يقول شاهداً على سائر الكتب، بأن الكتاب الأول من الله تعالى ويقال: مُهَيْمِناً عَلَيْهِ يعني: قاضياً عليه، ويقال: ناسخاً لسائر الكتب.
وروي عن ابن عباس أنه قال: مؤتمناً على ما قبله. وقال القتبي: أميناً عليه. ويقال:
ومهيمناً عليه، في معنى مؤتمن، إلا أن الهاء أبدلت من الهمزة كما يقال: هَرَقْتُ الماء، وأرَقْتُه، وإياك، وهياك.
ثم قال: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني: فاحكم بين الناس بما أنزل الله تعالى في القرآن، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ يعني: لا تعمل بأهوائهم ومرادهم، عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ يعني: لا تترك الحكم بما بيّن الله تعالى في القرآن من بيان الحق وبيان الأحكام.
ثم قال: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً يقول: جعلنا لكل نبي شريعة، والإيمان
395
واحد، ولم يختلف الرسل في الإيمان، وإنما اختلفوا في الشرائع. قال القتبي: الشرعة والشريعة واحد، يعني: السنة والمنهاج الطريق الواضح. وقال الزجاج: الشرعة الدين، والمنهاج الطريق، وقد قيل: هما شيء واحد، وهو الطريق، ويقال: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً معناه: فرضت على كل أمة ما علمت أن صلاحهم فيه.
ثم قال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً يعني: جعلكم على شريعة واحدة، وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ ليخبركم، فِي ما آتاكُمْ يعني: أمركم من السنن، والشرائع المختلفة، ليتبين من يطيع الله فيما أمره ونهاه، ومن يعصيه.
ثم قال: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ يعني: بادروا بالطاعات، وبالأعمال الصالحة، وإلى الصف المقدم، والتكبيرة الأولى. ثم قال: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الدين والسنن يوم القيامة، فهذا وعيد وتهديد، لتستبقوا الخيرات، ولا تتّبعوا البدعة، ولا تخالفوا الكتاب.
ثم قال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وذلك أن يهود بني النضير قالوا فيما بينهم:
اذهبوا بنا إلى محمد ﷺ لعلنا نفتنه عن دينه. وإنما هو بشر فأتَوْه. فقالوا: يا محمد إنك قد عرفت أنّا أحبار اليهود، وأشرافهم، وسادتهم، وأنّا إن اتبعناك اتبعك اليهود، ولن يخالفونا.
وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، فنؤمن بك، فأبى النبي ﷺ ذلك. فنزلت هذه الآية وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني: اقضِ بينهم بما في القرآن، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ في الحكم، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ يعني: يصرفوك، عَنْ بَعْضِ مآ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ.
وقال في رواية الضحاك: تزوج مجوسي ابنته، فجاءت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم وطلبت نفقتها، فأمر الله تعالى رسوله أن يفرق بينهما بقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. وقال في رواية الكلبي: طلبوا منه بأن يحكم بينهم في الدماء على ما كانوا عليه في الجاهلية فنزل وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ. قال القتبي: أصل الفتنة الاختبار.
ثم يستعمل في أشياء يستعمل في التعذيب كقوله: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [البروج: ١٠]، وكقوله: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: ١٣] وتكون الفتنة الشرك، كقوله: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة: ١٩٣] وتكون الفتنة العبرة، كقوله: لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس: ٨٥] وتكون الفتنة الصد عن السبيل، كقوله: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مآ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ.
ثم قال: فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني: أبَوْا أن يرضوا بحكمك، فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ يعني: يعذبهم في الدنيا. قال الكلبي: يعني: بالجلاء إلى الشام، والإخراج من دورهم. وقال الضحاك: يعني: يريد الله أن يأمر بهم إلى النار بذنوبهم.
396
ثم قال وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعني: رؤساء اليهود، لَفاسِقُونَ يعني: لكافرون.
والفاسق هو الذي يخرج عن الطاعة.
ثم قال: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ يعني: يطلبون منك شيئاً لم ينزله الله إليك في حكم الزنى والقصاص كما يفعل أهل الجاهلية. قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام (تبغون) على معنى المخاطبة، وقرأ الباقون بالياء على معنى المغايبة.
ثم قال: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً يقول: ومن أعدل من الله قضاءً، لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يعني: يصدقون بالقرآن.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ في العون والنصرة، وذلك أنه لما كانت وقعة أحد، خاف أناس من المسلمين أن يظهر عليهم الكفار، فأراد من كانت بينه وبين النصارى واليهود صحبة أن يتولوهم ويعاقدوهم. فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ يعني: معيناً وناصراً، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يعني: بعضهم على دين بعض، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ يعني: من اتخذ منهم أولياء، فَإِنَّهُ مِنْهُمْ يعني على دينهم ومعهم في النار.
ثم قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني: لا يرشدهم إلى الحجة. ويقال لا يرشدهم ما لم يجتهدوا، ويقصدوا الإسلام. ثم بين حال المنافقين. فقال: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني: شرك ونفاق يُسارِعُونَ فِيهِمْ يقول: يبادرون في معاونتهم ومعاقدتهم وولايتهم، يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ يعني: ظهور المشركين. ويقال: شدة وجدوبة فاحتجنا إليهم. ويقال: نخشى الدائرة على المسلمين، فلا ننقطع عنهم.
قال الله تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يعني: نصر محمد ﷺ الذي أيسوا منه أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يعني: من قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير. ويقال:
الفتح أي: فتح مكة أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يعني: الخصب. وقال القتبي: الفتح أن يفتح المغلق.
ثم قال: النصرة فتح، لأن النصرة يفتح الله بها أمراً مغلقاً، كقوله: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ [النساء: ١٤١] وكقوله فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يعني: إظهار نفاقهم، فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من النفاق، نادِمِينَ لأن المنافقين لما رأوا من أمر بني قريظة والنضير ندموا على ما قالوا.
ثم قال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: في ذلك الوقت الذي يظهر نفاقهم، هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يقول: إذا حلفوا بالله فهو جهد اليمين.
إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ على دينكم. قرأ نافع وابن كثير وابن عامر يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بغير واو، ومعناه: أن الله تعالى لما بيّن حال المنافقين، بيّن على أثره حال المؤمنين. فقال تعالى:
يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: قال الذين آمنوا بعضهم لبعض. وقرأ أهل الكوفة حمزة وعاصم والكسائي وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بالواو وضم اللام ومعناه: عسى الله أن يأتي بالفتح، ويندم المنافقون، ويقول الذين آمنوا عند ذلك هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ وقرأ أبو عمرو وَيَقُولُ بالواو ونصب اللام، عطفاً على قوله: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ وعسى أن يقول الذين آمنوا.
ثم قال تعالى: حَبِطَتْ يعني: بطلت أَعْمالُهُمْ يعني: المنافقين الذين كانوا يحلفون أنهم مع المؤمنين وعلى دينهم، ولم يكونوا معهم حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فلا ثواب لهم في الآخرة فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ يعني: صاروا خاسرين في الدنيا وفي الآخرة.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ قرأ نافع وابن عامر، وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ بالدالين، وقرأ الباقون بالدال الواحدة مع التشديد. فأما من قرأ يرتدد، فهو الأصل في اللغة، وروي عن أبي عبيدة أنه قال: رأيت في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه،
398
بالدالين. وأما من قرأ يَرْتَدَّ لأنه أدغم الدال الأولى في الثانية، فأسكن الأولى، ثم حرّك الثانية إلى النصب لالتقاء الساكنين. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في شأن أهل الردة الذين ارتدوا على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أن العرب ارتدوا وقالوا:
نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما أن نعطي من أموالنا بعد رسول الله ﷺ فلا. وخرج مسيلمة الكذاب فغلب على اليمامة، وامتنعوا. فشاور أبو بكر رضي الله عنه أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم في قتالهم، فقال أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم: وكيف نقاتل قوماً، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أُمِرتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حتى يقولوا لا إله إلاَّ الله، فَإذا قَالُوها عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله تَعَالَى»، فقال أبو بكر الصديق: الزكاة من حقها.
ثم قال: والله لو منعوني عقالاً مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم عليه.
فاتفقت الصحابة على قول أبي بكر، وجمعوا العسكر، وجاءهم من قبل اليمن سبعة آلاف رجل، واجتمع ثلاثة آلاف من أفناء الناس، فخرجوا وأميرهم «خالد بن الوليد»، وقاتلهم، وخرج مسيلمة الكذاب مع أهل اليمامة، واجتمع الأعراب معه، وكان بينهم قتال شديد، فقتل يومئذٍ من المسلمين مائة وأربعون رجلاً ومنهم «ثابت بن قيس بن شماس»، «وسالم مولى أبي حذيفة» وغيرهما فكاد المسلمون أن ينهزموا كلهم حتى نصرهم الله، وأظهرهم على أعدائه، وقُتل مسيلمة الكذاب، وأصحابه، وتاب أهل الردة، فذلك قوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ يعني: يحبون الله أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يعني: رحيمة ليّنة على المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يقول: شديدة غليظة عَلَى الْكافِرِينَ يعني: أهل اليمن.
وروى أبو هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «أَتَاكُمْ أَهْلُ اليَمَنِ هُمْ ألْيَنُ قُلُوباً، وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، الإيمانُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» «١». وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يعني: الجند من جنود الله، مرداً وعوناً للخليفة أبي بكر، يحبهم الله كحب الوالد لولده، أذلة على المؤمنين كالعبد لسيده، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ كالسبع على فريسته. ويقال:
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ هو أبو بكر وأصحابه، وقال الحسن: هو والله أبو بكر وأصحابه. وقال الضحاك: هو أبو بكر وأصحابه، لما ارتدت العرب جاهدهم حتى ردهم إلى الإسلام. وهذا من شمائل أبي بكر، حيث اتفقت الصحابة على رأيه، وذكر أنه لما قبض النبيّ صلّى الله عليه وسلم، همَّ المنافقون أن يُظهروا كفرهم، وتحير أصحاب النبي ﷺ عند ذلك، حتى جاء عمر
(١) أخرجه البخاري (٦٤) كتاب المغازي (٧٥) باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن رقم الحديث (٤٣٩٠) ج ٣ صفحة ١٤٣.
399
وصعد المنبر فقال: من قال إن محمداً قد مات فأنا أفعل به كذا وكذا، بل هو حي حتى يخرج إليكم. وقد وعدنا الله تعالى أن يظهره على الدين كله. فجاء أبو بكر، فقال له: انزل يا عمر، فصعد أبو بكر، فقال: من كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم، فقد مات محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كان يعبد الله تعالى فهو حي لا يموت، ومن أراد أن يرجع عن دينه فليس بيننا وبينه إلا السيف. فخاف المنافقون، فكتموا نفاقهم وقرأ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: ٣٠] وقرأ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: ١٤٤] فقال عمر: كأني لم أكن سمعت هذه الآية. ثم اختلاف آخر كان في دفنه، فقال أبو بكر: يدفن حيث مات فاتفقوا على قوله. ثم اختلاف آخر كان في سقيفة بني ساعدة في الخلافة، فاتفقوا على قوله. ثم اختلاف أهل الردة، وكلهم اتفقوا على قوله. فذلك قوله تعالى: يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني: في طاعة الله وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ يعني: لا يخافون ملامة الناس بما يعملون من الطاعات ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يعني: ذلك توفيق الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعني: يوفق من يشاء. ويقال: ذلك دين الله الإسلام يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ يعني: واسع الفضل عليم بمن يصلح للهدى.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وذلك أن عبد الله بن سلام وأصحابه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن اليهود أظهروا لنا العداوة، وحلفوا أن لا يخالطونا في شيء، ومنازلنا فيهم، بعيدة من المسجد، ولا نجد محدثاً دون هذا المسجد، فنزلت هذه الآية إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يقول: حافظكم وناصركم الله ورسوله وَالَّذِينَ آمَنُوا فقال: يا رسول الله رضينا بالله ورسوله، وبالمؤمنين. وقال الضحاك: إن النبي ﷺ لما هاجر إلى المدينة، أتاه بنو أسد بن خزيمة، وهم سبعمائة رجالهم ونساؤهم. فلما قدموا المدينة. فقالوا: يا رسول الله اغتربنا وانقطعنا عن قبائلنا، وعشيرتنا فمن ينصرنا؟ فنزل إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا.
ثم قال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ قال ابن عباس: وذلك أن بلالاً لما أذّن، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس في المسجد يصلون بين قائم وراكع وساجد، فإذا هو بمسكين يسأل الناس، فدعاه رسول الله ﷺ وقال: «هَلْ أَعْطَاكَ أَحَدٌ شيئا؟» قال: نعم.
قال: «مَاذَا» ؟ قال: خاتم فضة. قال: «وَمَنْ أَعْطَاكَ» ؟. قال: ذلك المصلي. قال: «فِي أيِّ حَالٍ أعْطَاكَ» ؟ قال: أعطاني وهو راكع. فنظر، فإذا هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فقرأ رسول الله ﷺ على «عبد الله بن سلام» الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ
راكِعُونَ
يعني: يتصدقون في حال ركوعهم حيث أشار بخاتمه إلى المسكين حتى نزع من أصبعه، وهو في ركوعه. ويقال: يراد به جميع المسلمين أنهم يصلون ويؤدون الزكاة.
ثم قال: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا يعني: يجعل الله ناصره ويجالس النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ يعني: جند الله هُمُ الْغالِبُونَ. قال محمد بن إسحاق:
نزلت هذه الآية في «عبادة بن الصامت»، حين تبرأ من ولاية اليهود يعني: يهود بني فينقاع، وتولى الله ورسوله، فأخبر الله تعالى أن العاقبة لمن يتولى الله ورسوله، فإن الله ينصر أولياءه، ويبطل كيد الكافرين، فذلك قوله تعالى: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ يعني: هم الظاهرون على أعدائه والعاقبة لهم وقوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً يعني: الذين آمنوا بلسانهم، ولم يؤمنوا بقلوبهم. ويقال: أراد به المخلصين نهاهم الله تعالى عن ولاية الكفار.
وروى محمد بن إسحاق بإسناده، عن عبد الله بن عباس قال: كان «رفاعة بن زيد بن تابوت وسويد بن الحارث» قد أظهرا الإسلام، ونافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فأنزل الله تعالى لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ الإسلام هُزُواً وَلَعِباً يعني: سخرية وباطلاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ يعني: مشركي العرب. قرأ أبو عمرو والكسائي وَالْكُفَّارَ بالخفض، وقرأ الباقون بالنصب. فمن قرأ بالخفض فمعناه: من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ومن الكفار أولياء، ومن قرأ بالنصب، فهو معطوف على قوله: لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ... وَلاَ تَتَّخِذُوا الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني: إن كنتم مؤمنين فلا تتخذوا الكفار أولياء. قوله تعالى: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ يعني: إذا أذن المؤذن للصلاة، وإنما أضاف النداء إلى جميع المسلمين، لأن المؤذن يؤذن لهم ويناديهم، فأضاف إليهم فقال: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً يعني: الكفار، إذا سمعوا الأذان استهزءوا به. وإذا رأوهم ركعاً وسجدا ضحكوا واستهزءوا بذلك. ذلِكَ الاستهزاء بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ يعني: لا يعلمون ثوابه. وقال الضحاك: سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلم جبريل، وقال: «من أَتَّخِذُه مؤذّناً؟». قال: يا محمد عليك بالعبد الأسود، فإنه مشهود في الملائكة، وجهير الصوت، وأحبّ المؤذنين إلى الله تعالى. فدعا رسول الله ﷺ بلالاً، وعلمه الأذان،
وأمره أن يصعد سطح المسجد ويؤذن. فلما أذن سخر منه أهل النفاق، وأهل الشرك، وكذلك يوم فتح مكة. أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يؤذن على ظهر الكعبة، فسخر منه كفار الأعراب، وجهالهم، فنزل قوله تعالى: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً يعني: المنافقين، واليهود، ومشركي العرب. وروى أسباط عن السدي قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله قال: حرق الله الكاذب. فدخلت خادمته ليلة من الليالي بنار، وهم نيام فسقطت شرارة في البيت فاحترق البيت، واحترق هو وأهله، واستجيب دعاؤه في نفسه. وروي عن ابن عباس هذه الحكاية نحو هذا إلا أنه ذكر اليهودي.
وقوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٩ الى ٦١]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا يقول: ما تطعنون فينا وتعيبوننا، إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ أي سوى أنا قد آمنا بالله وآمنا ب وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا يعني: من القرآن، وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ القرآن يعني: التوراة والإنجيل، وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ يعني: لم تؤمنوا لفسقكم، وعصيانكم. وقال الزجاج: معنى هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا هل تكرهون منا إلا إيماننا. وبفسقكم إنما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنا على الحق، لأنكم فسقتم، ولم تثبتوا على دينكم، لمحبتكم الرئاسة ومحبتكم المال.
وقوله تعالى قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ قال مقاتل: وذلك أن اليهود، قالوا للمؤمنين: ما نعلم أحداً من أهل هذه الأديان أقلّ حظاً في الدنيا ولا فى الآخرة منكم، فنزل قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ يعني: أخبركم بشر من ذلك مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ يعني: ثواباً عند الله فقالت اليهود: من هم؟ قال: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ فقال المسلمون لليهود: يا إخْوَةَ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ. فنكسوا رؤوسهم، وخجلوا. ومثوبة صار نصباً للتمييز يعني: التفسير.
ثم قال: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ قرأ حمزة وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بنصب العين والدال، وضم الباء، وكسر التاء، من الطاغوت، لم يصح في اللغة أن يقال لجماعة: الأعبد. وإنما يقال:
أعبد، ولا يقال: عبد. وقرأ الباقون: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ يعني: جعل منهم من عبد الطاغوت،
ومعناه: خذلهم حتى عبدوا الشيطان، وروي عن ابن عباس أنه قرأ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بضم العين، ونصب الباء بالتشديد، يعني: جمع عابد. يقال: عابد وعبَّد، مثل راجع وركَّع، وساجد، وسُجَّد. وقرأ ابن مسعود (وعبدوا الطاغوت) يعني: يعبدون الطاغوت، وقرأ بعضهم وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بضم العين والباء، ونصب الدال، وهو جماعة العبيد. ويقال: عبيد وعُبُد، على ميزان رغيف ورُغُف، وسرير وسُرُر.
ثم قال: أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً يعني: شر منزلة عند الله وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ يعني أخطأ عن قصد الطريق وهو الهدى.
ثم قال: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وهم المنافقون من أهل الكتاب. قالوا: صدقنا ووجدنا نعتك. وأرادوا بذلك أن يمدحهم المسلمون، وهذا كقوله وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران: ١٨٨] فأخبر الله تعالى عن حالهم فقال: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ يعني: هم كافرون في الأحوال كلها، ولا ينفعهم ذلك القول: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ يعني: عليم بمجازاتهم وهذا تهديد لهم.
ثم قال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ يعني: المعصية وَالْعُدْوانِ يعني: الظلم، وهو الشرك، وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ يعني: الرشوة في الأحكام، لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ يعني:
لبئس ما كانوا يتزودون من دنياهم لآخرتهم.
ثم قال: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ يعني: هلاّ ينهاهم الربانيون يعني: علماؤهم وعبادهم. وإنما شكا من علماء السوء الذين لا يأمرون بالمعروف، ويجالسونهم، ويؤاكلونهم، وكل عالم لم يأمر بالمعروف، ويجالس أهل الظلم، والمعصية، فإنه يدخل في هذه الآية،
403
فقال: وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ حين لم ينهوهم عن قولهم الإثم، وأكلهم السحت، ورضوا بفعلهم.
قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وذلك أن الله تعالى قد بسط عليهم الرزق، فلما عصوه وجحدوا نعمته، قتر عليهم الرزق، فقالوا عند ذلك: يد الله محبوسة عن البسط، فأمسك عنا الرزق.
قال الله تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ يعني: أمسكت أيديهم عن الخير، ويقال: هذا وعيد لهم، غلت أيديهم في نار جهنم. ويقال: جُعِلوا بخلاء، فلا يعطون الناس شيئاً مما أعطاهم الله تعالى.
ثم قال: وَلُعِنُوا بِما قالُوا يعني: عُذِّبوا وطُرِدوا من رحمة الله، لقولهم ذلك. ثم قال: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يعني: رزقه واسع باسط على خلقه يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ يقول:
يرزق لمن يشاء مقدار ما يشاء، فله خزائن السموات والأرض. وهذا كما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «قَالَ الله تَعَالى: لَوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ، وَآخِرَكُمْ، وَجِنَّكُمْ، وَإِنْسَكُمْ، سَأَلَ كُلُّ رَجُلٍ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَتُهُ فَأَعْطَيْتُهُ، لَمْ يَنْقُصْ ذلك مِنْ خَزَائِنِ مُلْكِي مِقْدَارَ مَا يُغْتَرَفُ مِنَ البَحْرِ بِرَأسِ إبْرَةٍ وَاحِدَةٍ».
ثم قال تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ يعني: من اليهود، مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن، مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً يعني: تمادياً بالمعصية، وَكُفْراً وجحوداً بالقرآن يعني: كل ما نزل عليك شيء من القرآن كفروا به، فيزيد جحودهم في طغيانهم، وإنما نسب ذلك إلى ما أنزله، لأن ذلك سبب لطغيانهم وجحودهم. وهذا كما قال في آية أخرى: وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: ٨٢] يعني: أن ذلك سبب لخسرانهم.
ثم قال تعالى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني: جعلهم الله مختلفين في دينهم، متباغضين كما قال في آية أخرى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر: ١٤].
ثم قال: كُلَّما أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ يقول: كلما أجمعوا أمرهم على المكر بمحمد ﷺ وأصحابه فرقه الله تعالى، وأطفأ نار مكرهم، أي: يسكته الله تعالى، ووهن أمرهم، وهذا على وجه الكناية كما قال: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي، كانَتْ عَلَيْهِمْ ثم قال: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يعني: يعملون فيها بالمعاصي، ويدعون الناس إلى عبادة غير الله تعالى، وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ يعني: لا يرضى بعمل الذين يعملون بالمعاصي، والله لا يحب أهل الفساد، ولا عملهم.
404
وقوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ يعني: اليهود والنصارى، آمَنُوا يعني: صدّقوا بتوحيد الله تعالى وبمحمد ﷺ والقرآن وَاتَّقَوْا الشرك والمعاصي، لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يعني:
غفرنا ذنوبهم، وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ في الآخرة.
ثم قال: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ يعني: أقرّوا بما فيهما، وبيّنوا ما كتموا، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ يعني: بما أنزل إليهم من ربهم، يعني: عملوا بما أنزل إليهم من ربهم في كتابهم ويقال: القرآن. لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ يعني: يرزقهم الله تعالى المطر من فوقهم، في الوقت الذي ينفعهم، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يعني: النبات من الأرض، وقال الزجاج: هذا على وجه التوسعة. يقال: فلان خيره من فوقه إلى قدمه، يعني: لو أنهم فعلوا ما أمروا لأعطاهم الله الخير مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أرجلهم، يعني: صاروا في الخير في الدنيا والآخرة.
وروي أبو موسى الأشعري عن رسول الله ﷺ أنه قال: أيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه، وآمن بمحمد ﷺ فله أجران.
ثم قال: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ يعني عصبة وجماعة عادلة، وهم مؤمنو أهل الكتاب، من أهل التوراة والإنجيل وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ الذين لم يصدقوا ولم يؤمنوا.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨)
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وذلك أن اليهود قالوا للنبي ﷺ حين دعاهم إلى الإسلام فجعلوا يستهزئون به ويقولون: إنك تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النصارى عيسى- عليه السلام-، فلما رأى ذلك سكت عنهم. فأمره الله أن يدعوهم ولا يمنعه
405
عن ذلك تكذيبهم إياه فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني: من القرآن وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ إن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ يعني: كأنك لم تبلغ شيئاً من رسالته، لأنه أمر بتبليغ جميع الرسالة. فإذا ترك البعض صار بمنزلة التارك للكل. كما أن من جحد آية من كتاب الله تعالى صار جاحداً للجميع، ويقال: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ يعني: فما بلغت المبلغ الذي تكون رسولاً وروى «سمرة بن جندب»، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ فَإنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي قَدْ قَصَّرْتُ عَنْ شَيْءٍ مَنْ تَبْلِيغِ رِسَالاتِ رَبِّي فَأَخْبِرُونِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالاتِ رَبِّي كَمَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُبَلَّغَ» فقام الناس، فقالوا: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، وقضيت الذي عليك. وروى مسروق عن عائشة قالت: من حَدّثك أن محمدا ﷺ كتم شيئاً من الوحي، فقد كذب. ثم قرأت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الآية.
ثم قال: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ يعني: اليهود ويقال: كيد الكفار. وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يحرسه أصحابه بالليل، حتى نزلت هذه الآية فخرج إليهم وقال: «لا تَحْرُسُونِي فَإنَّ الله قَدْ عَصَمَنِي من الناس».
ثم قال: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ يعني: لا يرشدهم إلى دينه، ويقال: لما نزلت هذه الآية قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لا أُبَالِي مَنْ خَذَلَنِي مِنَ اليَهُودِ وَمَنْ نَصَرَنِي» قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر. فما بلغت رسالاته بلفظ الجماعة. وقرأ الباقون: رِسالَتَهُ بلفظ الواحد يغني عن الجماعة. ثم علّمه كيف يبلغ الرسالة فقال: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ من الدين ولا ثواب لأعمالكم حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ يعني: تعملوا بما في التوراة، والإنجيل وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعني: حتى تقروا بما أنزل على نبيكم ﷺ من القرآن، وتعملوا به.
ثم قال: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً يعني: تمادياً بالمعصية، وكفراً بالقرآن. يعني: إنما عليك تبليغ الرسالة والموعظة، فإن لم ينفعهم ذلك فليس عليك شيء. فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ يعني: لا تحزن عليهم إن كذبوك.
وروى محمد بن إسحاق بإسناده عن ابن عباس أنه قال: جاء رافع بن حارثة، وسلام بن مشكم، ومالك بن الضيف، وقالوا: يا محمد: ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟
وتؤمن بما عندنا من التوراة؟ وتشهد أنها من الله حق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَلَى ولكنكم أَحْدَثْتُمْ، وَجَحَدْتُمْ ما فِيهَا مِمَّا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ المِيثَاقِ، وَكَتَمْتُمْ مِنْهَا مَا أُمِرْتُمْ أَنْ تُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ فَبَرِئْتُ مِنْ إحْدَاثِكُمْ». فقالوا: فإنّا قد آمنا بما في أيدينا، وإنا على الهدى والحق، ولا نؤمن بك، فنزل يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ.
406
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٩ الى ٧١]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لاَ تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قال في رواية الكلبي: هم قوم آمنوا بعيسى، ولم يؤمنوا بغيره، ولم يرجعوا. ويقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بألسنتهم وهم المنافقون. ويقال: في الآية تقديم يعني: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا من آمن من اليهود والنصارى والصابئين، وَعَمِلَ صالِحاً فلهم أجرهم عند ربهم. وقال: في هذه السورة وَالصَّابِئُونَ وقال في موضع آخر: وَالصَّابِئِينَ لأنه معطوف على خبر إن وكل اسم معطوف على خبر إن، كان فيه طريقان، إن شاء رفع، وإن شاء نصب، كقوله: «إن زيداً قادم وعمرو» إن شاء نصب الثاني، وإن شاء رفعه، كقوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة: ٣] وقد قرأ: ورسوله ولكنه شاذ، وكذلك هاهنا جاز أن يقول: (والصابئين) وَالصَّابِئُونَ، إلا أن في هذه السورة كتب بالرفع.
ثم قال: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني: لمن آمن، والذين سبق ذكرهم فلهم ثوابهم عند ربهم الجنة فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. قوله تعالى: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني: عهدهم في التوراة، وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لاَ تَهْوى أَنْفُسُهُمْ يعني: بما لا يوافق هواهم، فَرِيقاً كَذَّبُوا مثال عيسى ومن قبله، وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ مثل يحيى وزكريا، وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام، فالله تعالى أمر النبي بتبليغ الرسالة، وأمره بأن لا يحزن عَلَيْهِمْ إن لم يؤمنوا، لأنهم من أهل السوء الذين فعلوا هذه الأفعال.
ثم قال: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ يعني: ظنوا أن لا يبتلوا بتكذيبهم الرسل، وقتلهم الأنبياء، ويقال: ظنوا أن لا يعاقبوا، ولا يصيبهم البلاء والشدة والقحط. ويقال: ظنوا أن قتل الأنبياء لا يكون كفراً. ويقال: ظنوا أن لا تفسد قلوبهم بالتكذيب وقتل الأنبياء. قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو: أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ بضم النون. وقرأ الباقون بالنصب. فمن قرأ بالنصب، بمعنى أن. ومن قرأ بالضم يعني: حسبوا أنه لا تكون فتنة. معناه: حسبوا أن فعلهم غير فاتن لهم.
ثم قال تعالى: فَعَمُوا وَصَمُّوا يعني: عموا عن الحق، وصمّوا عن الهدى، فلم يسمعوه، ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يقول: تجاوز عنهم، ورفع عنهم البلاء، فلم يتوبوا ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ويقال: معناه تاب الله على كثير منهم، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ويقال: من تاب الله عليهم، يعني: بعث محمدا ﷺ ليدعوهم إلى التوراة ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، ويقال: عَمُوا وَصَمُّوا حين عبدوا العجل، ثم تاب الله عليهم بعد ما قتلوا سبعين ألفاً وهذا على جهة المثل. يعني: لم يعملوا بما سمعوا، ولم يعتبروا بما أبصروا، فصاروا كالعمي والصمي.
ثم قال: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ بقتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل يعني: عليم بمجازاتهم.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٢ الى ٧٤]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وذلك أن نصارى أهل نجران يزعمون أنهم مؤمنون بعيسى، فأخبر الله تعالى أنهم كافرون بعيسى، وأنهم كاذبون في مقالتهم، وأخبر أن المسيح دعاهم إلى توحيد الله، وأنهم كاذبون على المسيح.
وهو قوله وَقالَ الْمَسِيحُ: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ يعني: وحدوا الله وأطيعوه، رَبِّي وَرَبَّكُمْ يعني: خالقي وخالقكم، ورازقي ورازقكم.
ثم قال: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ يعني: ويموت على شركه، فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أن يدخلها، وَمَأْواهُ النَّارُ يعني: مصيره إلى النار، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يعني: ليس للمشركين من مانع يمنعهم من العذاب. ثم أخبر أن الفريق الآخر من النصارى هم كفار أيضاً، فقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ فيه مضمر معناه: ثالث ثلاثة آلهة، ويقال:
ثلث من ثلاثة آلهة، يعني: أباً وأماً وروحاً قدساً، يعني: الله ومريم وعيسى. قال الله تعالى رداً عليهم: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ يعني: هم كاذبون في مقالتهم، ثم أوعدهم الوعيد إن لم
يتوبوا فقال: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ يعني: إن لم يتوبوا، ولم يرجعوا عن مقالتهم، لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ فهذا لام القسم، فكأنه أقسم بأنه ليصيبهم عَذابٌ أَلِيمٌ يعني:
أن أقاموا على كفرهم.
ثم دعاهم إلى التوبة فقال: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ من النصرانية، وَيَسْتَغْفِرُونَهُ عن مقالتهم الشرك، فإن فعلوا فإنَّ وَاللَّهُ غَفُورٌ للذنوب رَحِيمٌ بقبول التوبة، ويقال: قوله:
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ لفظه لفظ الاستفهام والمراد به الأمر فكأنه قال: توبوا إلى الله، وكذلك كل ما يشبه هذا في القرآن، مثل قوله: (أتصبرون) يعني: اصبروا.
ثم بيّن الله تعالى أن المسيح عبده ورسوله، وبيّن الحجة في ذلك، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ يعني: هو رسول كسائر الرسل، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وهو من جماعة الرسل، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ شبه النبيين، وذلك حين صدقت جبريل حين قال لها: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
[مريم: ١٩] والصديق في اللغة هو المبالغ في التصديق. وقال في آية أخرى: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها [التحريم: ١٢] ثم قال: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ يعني:
المسيح وأمه كانا يأكلان ويشربان. ومن أكل وشرب، تكون حياته بالحيلة، والرب: لا يأكل ولا يشرب. ويقال: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ كناية عن قضاء الحاجة. لأن الذي يأكل الطعام.
فله قضاء الحاجة. ومن كان هكذا لا يصلح أن يكون ربّاً.
ثم قال: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ يعني: العلامات في عيسى ومريم أنهما لو كانا إلهين ما أكلا الطعام، ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ يقول: من أين يكذبون بإنكارهم بأني واحد.
وقال القتبي: أَنَّى يُؤْفَكُونَ يعني: أنى يصرفون عن الحق ويعدلون عنه. يقال: أفك الرجل عن كذا، إذا عدل عنه.
ثم أخبر الله تعالى عن جهلهم، وقلة عقلهم، فقال: قُلْ يا محمد، أَتَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ
يعني: عيسى، مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ يقول: ما لا يقدر لكم، ضَرًّا في الدنيا وَلا نَفْعاً في الآخرة: وتركتم عبادة الله، وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لقولكم، الْعَلِيمُ بعقوبتكم.
وقوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ يقول: لا تجاوزوا الحد، والغلو: هو الإفراط والاعتداء. ويقال: لا تتعمقوا.
ثم قال: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ وهم الرؤساء من أهل الكتاب، يعني: لا تتّبعوا شهواتهم، لأنهم آثروا الشهوات على البيان والبرهان، قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وهم رؤساء النصارى ضلوا عن الهدى، وَأَضَلُّوا كَثِيراً من الناس، وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ يعني:
أخطئوا عن قصد الطريق. وقال مقاتل: نزلت في برصيصا العابد، فجاءه الشيطان فقال له: قد فضلك الله على أهل زمانك لكي تحل لهم الحرام، وتحرم عليهم الحلال، وتسن لهم سنة، ففعل فاتبعه الناس بذلك، ثم ندم على فعله. فعمد إلى سلسلة، فجعلها في ترقوته فعلق نفسه فجاءه ملك، فقال له: أنت تتوب فكيف لك من تابعك؟ فذلك قوله: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ وقوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٨ الى ٨١]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لاَ يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني: اليهود، عَلى لِسانِ داوُدَ وذلك أن الله تعالى مسخهم قردة، حيث اصطادوا السمك يوم السبت، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يعني: وعلى لسان عيسى ابن مريم، حيث دعا عليهم، فمسخهم الله تعالى خنازير. ويقال: لعن الذين كفروا، أي: أُبعِدوا من رحمة الله، على لسان داود، وعيسى ابن مريم. وقال الزجاج: يحتمل معنيين: أحدهما أنهم مسخوا بلعنتهما، فجعلوا قردة وخنازير. وجائز أن يكون داود وعيسى لعنا من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، يعني: لعن الكفار الذين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ يعني: الذين أصابهم من اللعنة بما عصوا يعني: بعصيانهم وَكانُوا يَعْتَدُونَ في دينهم، كانُوا لاَ يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ يعني: لم يمتنعوا عن قبيح من الأفعال، ورضوا به لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ حين لم ينهوا عن المنكر.
ثم قال: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ قال مقاتل: يعني: اليهود يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا من مشركي العرب. وقال الكلبي: تَرى كَثِيراً من المنافقين يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني:
اليهود، لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ معناه: لبئس الفعل الذي كانوا يستوجبون به السخط من الله تعالى، ويوجب لهم العقوبة والعذاب وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ يعني: دائمون.
ثم قال تعالى: وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ يعني: المنافقين، لو كانوا يصدقون بتوحيد الله، ونبوة محمد حقيقة وما أنزل إليه من القرآن مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ يعني:
لو كان إيمان المنافقين حقيقة، ما اتخذوا اليهود أولياء في العون والنصرة وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ يعني: ناقضين للعهد. ثم قال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٢ الى ٨٦]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وهم يهود بني قريظة، وبني النضير، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني: مشركي أهل مكة، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى قال بعضهم: إنما أراد الذين هم النصارى في ذلك الوقت، لأنهم كانوا أقل مظاهرة على المؤمنين، وأسرع إجابة للإسلام. وقال أكثر المفسرين: إن المراد به النصارى الذين أسلموا، وفي سياق الآية دليل عليه، وهو قوله: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا [المائدة: ٨٥] وروى
411
أسباط عن السدي، قال: بعث النجاشي إلى رسول الله ﷺ اثني عشر رجلاً من الحبشة، وسبعة قسيسين، وخمسة رهبان ينظرون إليه ويسألونه، فلما لقوه، وقرأ عليهم ما أنزل الله عليه بكوا وآمنوا به ورجعوا إلى النجاشي. فهاجر النجاشي معهم. فمات في الطريق. فصلى عليه رسول الله ﷺ والمسلمون واستغفروا له.
وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أنه سئل عن هذه الآية فقال: هم الوفد الذين قدموا مع جعفر الطيار من أرض الحبشة. وعن الزهري، أنه سئل عن هذه الآية فقال: ما زلنا نسمع أنها نزلت في النجاشي وأصحابه.
ثم قال: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً يعني: المتعبدين، وأصحاب الصوامع، ويقال: قِسِّيسِينَ علماؤهم، وَرُهْباناً يعني: خائفين من الله تعالى، وقال بعض أهل اللغة: القس والقسيس: رؤساء النصارى، والقس بفتح القاف النميمة.
ثم قال: وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يعني: لا يتعظمون على الإيمان بمحمد ﷺ والقرآن.
وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ يعني: تسيل من الدمع، مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يقول: مما عرفوا محمداً ﷺ نعته وصفته، يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بالقرآن بأنه من الله، فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ يعني: المهاجرين والأنصار. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: مَعَ الشَّاهِدِينَ هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يشهدون له بالبلاغ ويشهدون للرسل أنهم قد بلغوا الرسالة.
ثم قال: وَما لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وذلك أنهم لما رجعوا إلى قومهم، قال لهم كفار قومهم: تركتم ملة عيسى ويقال: إن كفار مكة عاتبوهم على إيمانهم. وقالوا: لم تركتم دينكم القديم، وأخذتم الدين الحديث؟. فقالوا: وَما لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ ومعناه: وما لنا لا نصدق بالله أن محمداً رسوله، والقرآن من عنده، وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ يعني: وبما جاءنا من الحق، وَنَطْمَعُ يقول: نرجو، أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ يعني: مع المؤمنين الموحدين في الجنة فمدحهم الله تعالى، وحكى عن مقالتهم، وأخبر عن ثوابهم في الآخرة. فقال: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا من التوحيد، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ يعني: ثواب الموحدين المطيعين.
وقد احتج بعض الناس بهذه الآية، أن الإيمان هو مجرد القول، لأنه قال: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا ولكن لا حجة لهم فيها، لأن قولهم كان مع التصديق، والقول بغير التصديق، لا يكون إيماناً.
ثم بيّن عقوبة من ثبت على كفره، ولم يؤمن، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا
412
يعني: مات على ذلك، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ والجحيم هو النار الشديدة الوقود. يقال:
جحم فلان النار، إذا شدد وقودها. ويقال: لعيْن الأسد جحمة لشدة توقدها.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٧ الى ٨٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ نزلت في جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم سمعوا من النبي ﷺ وصف القيامة يوماً، وخوف النار والحساب، فاجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون، فتواثقوا بأن يخصوا أنفسهم، ويترهبوا فنهاهم الله عن ذلك. فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ.
قال: حدثنا الفقيه أبو جعفر قال: حدثنا أبو القاسم أحمد بن محمد، قال: حدّثنا محمد بن فضيل، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن مدرك بن قزعة، عن سعيد بن المسيب، قال: جاء عثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله غلبني حديث النفس، ولا أحب أن أحدث شيئاً حتى أذكر لك، قال صلى الله عليه وسلم: «وَمَا تُحَدِّثُكَ نَفْسُكَ يَا عُثْمَانُ» ؟ قال: تحدثني أن أخصي نفسي. قال: «مَهْلاً يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّ إِخْصَاءَ أُمَّتِي الصِّيَامُ» قال: يا رسول الله، إن نفسي تحدثني أن أترهب في رؤوس الجبال. فقال: «مَهْلاً يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ تَرْهِيبَ أُمَّتِي، الجُلُوسُ فِي المَسَاجِدِ لانْتِظَارِ الصَّلَوَاتِ». قال: يا رسول الله فإن نفسي تحدثني أن أسيح في الأرض؟. قال: «مَهْلاً يَا عُثْمَانُ: فَإِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الغَزْوُ فِي سَبِيلِ الله، وَالحَجُّ وَالعُمْرَةُ». قال: فإن نفسي تحدثني أن أخرج من مالي كله؟ قال: «مَهْلاً يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ صَدَقَتَكَ يَوْماً بِيَوْمٍ، وَتَكُفُّ نَفْسَكَ وَعِيَالَكَ، وَتَرْحَمُ المَسَاكِينَ، وَاليَتِيمَ، أَفْضَلُ مِنْ ذلك». فقال: يا رسول الله، فإن نفسي تحدثني أن أطلق خَوْلة. فقال: «مَهْلاً يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّ الهِجْرَةَ فِي أُمَّتِي، مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ الله، أَوْ هَاجَرَ إِليَّ فِي حَيَاتِي، أَوْ زَارَ قَبْرِي بَعْدَ وَفَاتِي، أَوْ مَاتَ وَلَهُ امْرَأَةٌ، أَوِ
413
امْرَأَتَانِ، أَوْ ثَلاثٌ، أَوْ أَرْبَعٌ» قال يا رسول الله فإن نهيتني أن أطلقها، فإن نفسي تحدثني بأن لا أغشاها. قال: «مَهْلاً يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ المُسْلِمَ إِذَا غَشِيَ أَهْلَهُ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ وَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدٌ، كَانَ لَهُ وَصِيفاً فِي الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ وَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدٌ، فَمَاتَ قَبْلَهُ كَانَ فَرَطاً وَشَفِيعاً يَوْمَ القِيامَةِ. فَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ نُوراً يَوْم القِيَامَةِ». فقال: يا رسول الله فإن نفسي تحدثني بأن لا آكل اللحم. قال: «مَهْلاً يَا عُثْمَانُ، فَإِنِّي أُحِبُّ اللَّحْمَ، وَآكُلُهُ إِذَا وَجَدْتُهُ، وَلَوْ سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يُطْعِمَنِيهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ لأَطْعَمَنِيهِ». قال: يا رسول الله فإن نفسي تحدثني بأن لا أمسّ الطيب. قال: «مَهْلاً يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي بَالطَّيِّبِ غبّاً غبّاً». وقال: «لا تَتْرُكْهُ يَا عُثْمَانُ، لا تَرْغَبْ عَنْ سُنَّتِي، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ، صَرَفَتِ المَلاَئِكَةُ وَجْهَهُ عَنْ حَوْضِي يَوْمَ القِيَامَةِ». ونزلت هذه الآية لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ.
وَلا تَعْتَدُوا يقول: يعني: لا تحرموا حلاله، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. ويقال:
إن محرم ما أحل الله كمُحِلِّ ما حرم الله.
ثم قال: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً من الطعام والشراب، وَاتَّقُوا اللَّهَ ولا تحرموا ما أحل الله لكم، الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ يعني: إن كنتم مصدقين به، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه. ثم أمرهم الله تعالى بأن يكفروا أيمانهم، لأنه لما حرموا الحلال على أنفسهم، كان ذلك يميناً منهم. ولهذا قال أصحابنا: إذا قال الرجل لشيء حلال: هذا الشيء عليّ حرام يكون ذلك يميناً، فأمرهم الله تعالى بأن يأكلوا، ويحنثوا في أيمانهم، وفي الآية دليل: أن الرجل إذا حلف على شيء، والحنث خير له، ينبغي أن يحنث ويكفر بيمينه. وفيها دليل: أن الكفارة بعد الحنث، لأنه أمرهم بالحنث، بقوله: فكلوا ثم أمرهم بالكفارة وهو قوله تعالى:
لاَّ يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ قال ابن عباس: اللغو أن يحلف الرجل على شيء بالله، وهو يرى أنه صادق، وهو فيه كاذب. وهكذا روي عن أبي هريرة أنه كان يقول: لغو اليمين: أن يحلف الرجل على شيء، يظن أنه الذي حلف عليه هو صادق، فإذا هو غير ذلك.
وقال الحسن: هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك، وليس هو كذلك. وقال سعيد بن جبير: الرجل يحلف باليمين الذي لا ينبغي أن يحلف بها، يحرم شيئاً هو حلال، فلا يؤاخذه الله بتركه، لكن يؤاخذه الله إن فعل. وقال زيد بن أسلم: هو قول الرجل أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا، وأخرجني الله من مالي وولدي، وقالت عائشة: اللغو: هو قول الرجل لا والله، وبلى والله، على شيء لم يعقده قلبه.
ثم قال: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم في رواية حفص عَقَّدْتُمُ بالتشديد، وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية أبي
414
بكر: عَقَّدْتُمُ بالتخفيف، وقرأ ابن عامر: بِما عَقَّدْتُمُ فمن قرأ: عاقدتم فهو من المعاقدة، والمعاقدة تجري بين الاثنين، وهو أن يحلف الرجل لصاحبه بشيء، ومن قرأ بالتشديد فهو للتأكيد. ومن قرأ بالتخفيف لأن اليمين تكون مرة واحدة. والتشديد تجري في التكرار والإعادة.
وروى عبد الرزاق عن بكار بن عبد الله قال: سئل وهب بن منبه عن قوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ قال: الأيمان ثلاثة: لغو وعقد وصبر، فأما اللغو: فلا والله، وبلى والله، لا يعقد عليه القلب، وأما العقد: أن يحلف الرجل لا يفعله فيفعله، فعليه الكفارة، وأما الصبر: بأن يحلف على مال ليقتطعه بيمينه، فلا كفارة له. وروى حسين بن عبد الرحمن عن أبي مالك الغفاري قال: الأيمان ثلاثة: يمين تكفر، ويمين لا تكفر، ويمين لا يؤاخذ الله بها. وذكر إلى آخره ثم بيّن كفارة اليمين فقال تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: الغداء والعشاء.
وسئل شريح عن الكفارة فقال: الخبز والزيت والخل والطيب. فقال السائل: أرأيت إن أطعمت الخبز واللحم؟ قال: ذلك أرفع طعام أهلك وطعام الناس. وروي عن ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنهما قالا: لكل مسكين نصف صاع من حنطة يعني: إذا أراد أن يدفع إليهم، وإن أراد أن يطعمهم، فالغداء والعشاء.
ثم قال: أَوْ كِسْوَتُهُمْ قال مجاهد: أدناه ثوب وأعلاه ما شئت وقال إبراهيم النخعي:
لكل مسكين ثوب وقال الحسن: ثوبان أبيضان ثم قال: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ يعني: يعتق رقبة، ولم يشترط هاهنا المؤمنة، فيجوز الكفارة بالكافرة والمؤمنة، فالرجل بالخيار بين هذه الأشياء الثلاثة، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الطعام ولا الكسوة ولا الرقبة فعليه فَصِيامُ يعني: صيام ثَلاثَةِ أَيَّامٍ.
وروى سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح قال: سئل طاوس عن صيام الكفارة، قال:
يفرق. قال له مجاهد كان عبد الله يقرأ: متتابعات، قال طاوس: فهو أيضاً متتابعات. وروى مالك عن حميد، عن مجاهد قال: كان أبي يقرأ فصيام ثلاثة أيام متتابعات في الكفارة اليمين.
ثم قال: ذلِكَ يعني: الذي ذكر كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ عن الطعام والكسوة والعتق والصوم، ثم قال: إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ يعني: ليعلم الرجل ما حلف عليه، فليكفر يمينه إذا حنث، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ يعني: أمره ونهيه، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: لكي تشكروا رب هذه النعمة، إذ جعل لكم مخرجاً من أيمانكم بالكفارة، والكفارة في اللغة: هو التغطية يعني: يغطي إثمه.
415
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ نزلت هذه الآية في شأن سعد بن أبي وقاص، لأنهم كانوا يشربونها، وكانت لهم حلالاً. فجرى بين سعد وبين رجل من الأنصار افتخار في الأنساب، فاقتتلا، فشج رأس سعد، فدعا عمر بن الخطاب، فقال: اللهم أرنا رأيك في الخمر، فإنها متلفة للمال، مذهبة للعقل، فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: ٢١٩] فقال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت هذه الآية:
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ يعني: حرام، وهو من تزيين الشيطان، فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يعني: فاتركوا شربها، ولم يقل: فاجتنبوها، لأنه انصرف إلى المعنى، ومعناه: اجتنبوا ما ذكرنا ونهيناكم عن ذلك، قوله: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ [الأنعام: ١٤١] ولم يقل: من ثمرها.
ثم قال: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يعني: عن طاعة الله، وَعَنِ الصَّلاةِ لأنهم مُنِعوا عن الصلاة إذا كانوا سكارى. ولأنه إذا سكر لا يعقل الطاعة وأداء الصلاة.
ثم قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ يعني: انتهوا عن شربها، فقال عمر: قد انتهينا يا رب.
وعن عطاء بن يسار: أن رجلاً قال لكعب الأحبار: أحُرِّمت الخمرة في التوراة؟. قال: نعم هذه الآية إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ مكتوب في التوراة: إنا أنزلنا الحق لنذهب به الباطل، وتبطل به اللعب والدفف والمزامير والخمر مرة لشاربها، أقسم الله تعالى بعزه وجلاله، أن من انتهكها في الدنيا، أعطشته في الآخرة يوم القيامة، ومن تركها بعد ما حرمتها لأسقينها إياه في حظيرة القدس، قيل: وما حظيرة القدس؟ قال: الله هو القدس، وحظيرته الجنة.
ثم قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يعني: في تحريم الخمر، وَاحْذَرُوا
عن شربها، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ يقول: أعرضتم عن طاعة الله وطاعة الرسول فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فهذا تهديد لمن شرب الخمر بعد التحريم، فلما نزلت هذه الآية قال:
حُييُّ بن أخطب: فما حال من مات منهم وهم يشربونها. فعيّر بذلك أصحاب رسول الله ﷺ فسأل رسول الله ﷺ أصحابه عن ذلك، فنزلت هذه الآية: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا يعني: شربوا قبل تحريمها، ولم يعرفوا تحريمها.
ويقال: إن بعض الصحابة كانوا في سَفْرَة فشربوا منها بعد التحريم، ولم يعرفوا تحريمها. فلما رجعوا سألوا عن ذلك رسول الله ﷺ فنزل: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا يعني: شربوا قبل تحريمها، إِذا مَا اتَّقَوْا الشرك، وَآمَنُوا يعني: صدقوا بوحدانية الله تعالى، والقرآن وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا المعاصي وَآمَنُوا يعني: صدقوا بعد تحريمها ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ في أفعالهم ويقال:
معناه ليس عليهم جناح فيما طعموا قبل تحريمها إذا اجتنبوا شربها بعد تحريمها.
وروى عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يومئذٍ معاوية بن أبي سفيان، وقالوا هي لنا حلال وتأولوا قوله لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا فكتب في ذلك إلى عمر فكتب إليه عمر: أن ابعثهم إليّ، قبل أن يفسدوا من قِبَلك. فلما قدموا على عمر، جمع أصحاب رسول الله ﷺ فقال لهم ما ترون؟ فقالوا: إنهم قد افتروا على الله كذباً، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به، فاضرب أعناقهم، وعليّ ساكت فقال: يا عليّ ما ترى؟ قال: أرى أن تستتيبهم، فإن تابوا فاضربهم ثمانين جلدة، وإن لم يتوبوا فاضرب أعناقهم، فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين جلدة وأرسلهم.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ يعني: ليختبرنّكم الله. والاختبار من
417
الله هو إظهار ما علم منهم بشيء من الصيد. يعني: ببعض الصيد. فتبعيضه يحتمل أن يكون معناه: ما داموا في الإحرام، فيكون ذلك بعض الصيد، ويحتمل أن يكون على معنى التخصيص، يحمل ذلك على وجه تبيين جنس من الأجناس كما قال: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: ٣٠] ويحتمل بعض الصيد، يعني صيد البر دون صيد البحر، تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ يعني: تأخذونه بأيديكم بغير سلاح، مثل البيض والفراخ، وَرِماحُكُمْ يعني: تأخذونه بسلاحكم، وهو الكبار من الصيد، لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ يعني: يميز الله من يخاف من الذين لا يخافون.
وبيّن فضل الخائفين: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ يعني: من أخذ الصيد بعد النهي فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني: وجيع يعني الكفارة والتعذيب في الدنيا والآخرة، والعذاب إن مات بغير توبة.
ثم قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يعني: وأنتم محرمون ويقال:
وأنتم محرمون أو في الحرم. ثم بيّن الكفارة فقال: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يعني: عليه الفداء مثل ما قتل. قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي: فَجَزاءٌ مِثْلُ بتنوين الهمزة وبضم اللام. وقرأ الباقون: بالضم بغير تنوين وبكسر اللام. فأما من قرأ:
بالتنوين. فمعناه: فعليه جزاء، ثم صار المثل نعتاً للجزاء. وأما من قرأ: بغير تنوين فعلى معنى الإضافة إلى الجزاء يعني: عليه جزاء ما قتل من النعم، يشتري بقيمته من النعم ويذبحه. يعني:
إذا كان المقتول يوجد النعم.
ثم قال: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ يعني: رجلان مسلمان عدلان ينظران إلى قيمة المقتول، ثم يشتري بقيمته هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ يعني: يبلغ بالهدي مكة ويذبحه هناك ويتصدق بلحمه على الفقراء. أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ يعني: إن شاء يشتري بقيمته طعاماً ويتصدق به على كل مسكين نصف صاع من حنطة أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً يعني: يصوم مكان كل نصف صاع من حنطة يوماً. قال ابن عباس: إنما يقوّم لكي يعرف مقدار الصيام من الطعام فهو بالخيار بين هذه الأشياء الثلاثة إن شاء أطعم، وإن شاء أهدى، وإن شاء صام. قرأ نافع وابن عامر: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ بغير تنوين على معنى الإضافة. وقرأ الباقون كَفَّارَةٌ بالتنوين والطعام نعتاً لها.
ثم قال: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ يعني: عقوبة ذنبه لكي يمتنع عن قتل الصيد. عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ يعني: عما مضى قبل التحريم وَمَنْ عادَ بعد التحريم فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ يعني:
يعاقبه الله تعالى. ومع ذلك يجب عليه الكفارة. وقال بعضهم: لا يجب عليه الكفارة إذا قتل مرة أخرى.
وروى عكرمة عن ابن عباس: أنه سئل عن المحرم يصيب الصيد فيحكم عليه، ثم يصيبه
418
أيضاً قال: لا يحكم عليه، وتلا هذه الآية وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فذلك إلى الله إن شاء عفا وإن شاء عاقبه. وعن شريح: أن رجلاً أتاه فسأله أن يحكم عليه فقال له شريح: هل أصبت صيداً قبله؟ قال: لا. قال: لو كنت أصبته قبل ذلك لم أحكم عليك. وقال بعضهم: سواء قتل قبل ذلك أو لم يقتل فهو سواء. لأنه قاتل في المرة الثانية كما هو قاتل في المرة الأولى.
وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم أنهم حكموا ولم يسألوه أنك أصبت قبل ذلك أم لا. وروى ابن جريج عن عطاء أنه سئل عن قوله:
عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ قال: يعني: ما كان في الجاهلية. ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه، ومع ذلك عليه الكفارة. وروى سعيد بن جبير مثله. وقد قال بعض الناس: إنه إذا قتل خطأ فلا تجب عليه الكفارة. وهذا القول ذكر عن طاوس اليماني.
وقال غيره: تجب عليه الكفارة. وروى ابن جريج عن عطاء قال سألت عن قوله: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فلو قتله خطأ أيغرم؟ قال: نعم يعظم بذلك حرمات الله. ومضت به السنن. وعن الحسن قال: يحكم عليه في الخطأ والعمد. وعن إبراهيم النخعي وعن مجاهد مثله. وبهذا القول نأخذ ونقول: بأن العمد والخطأ سواء، والمرة الأولى والثانية سواء. ثم قال تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ من أهل المعصية آخذ الصيد بعد التحريم. ويقال: وَمَنْ عادَ مستحلاً أو مستخفاً بأمر الله تعالى فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ يعني: يعذبه الله تعالى وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ يعذب من عصاه.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٦]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ يعني: في الإحرام وغير الإحرام وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ يعني: للمقيمين والمسافرين. وهي السمكة المالحة. ويقال: وَطَعامُهُ ما نضب الماء عنه فأخذ بغير صيد ميتاً. ويقال: كل ما سقاه الماء فأنبت من الأرض فهو طعام البحر.
قال الفقيه: حدّثنا الفضل بن أبي حفص. قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي. قال: حدثنا محمد بن خزيمة قال: حدّثنا حجاج بن المنهال قال: حدّثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: كنت في البحرين، فسألني أهل البحرين عما يقذف البحر من السمك، فقلت: كلوه. فلما رجعت إلى المدينة سألت عن ذلك عمر بن الخطاب فقال: ما أمرتهم به؟ فقلت: أمرتهم بأكله فقال: لو أمرتهم بغير ذلك لضربتك بالدرة. ثم قرأ عمر:
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ فصيده ما صيد وطعامه: ما رمي به.
ثم قال: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً يعني: ما دمتم محرمين فلا تأخذوا الصيود وَاتَّقُوا اللَّهَ فلا تأخذوه في إحرامكم الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيجزيكم بأعمالكم.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٧]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ يعني: لجأ إلى الحرم آمناً للناس. كان الرجل إذا أصاب ذنباً أو قتل قتيلاً ثم لجأ إلى الحرم آمناً بذلك. ويقال: قياماً للناس يعني قواماً لمعايشهم. قرأ ابن عامر: قِياماً على جهة المصدر وقرأ الباقون: قِياماً على جهة الاسم والمصدر. وإنما سميت الكعبة كعبة لارتفاعها. ولهذا سمي الكعبان. ويقال للجارية: إذا نهدت ثدياها قد كعبت ثدياها وهي كاعب كما قال: وَكَواعِبَ أَتْراباً [النبأ: ٣٣].
ثم قال: وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ يعني: جعل الشهر الحرام والهديَ والقلائد آمناً للناس وقواماً لمعايشهم، لأنهم كانوا إذا توجهوا إلى مكة، وقلّدوا الهدي، أمنوا. ويقال:
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ يعني: معالم للناس. وقال مقاتل بن حيان:
يعني: علماً لقبلتهم يصلون إليها. وقال سعيد بن جبير: صلاحاً لدينهم. وحرم عليهم الغارة في الشهر الحرام. وأخذ الهدي والقلائد في الشهر الحرام. ذلِكَ الذي جعل الله من الأمن لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني: لتعلموا أن الله يعلم صلاح ما في السموات وما في الارض.
وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول: عليم بكل شيء من صلاح الخلق ويقال: هو مردود إلى ما أنبأ الله تعالى على لسان نبيه في هذه السورة من أخبار المنافقين، وإظهار أسرارهم.
فقال: ذلك الذي ذكر الله تعالى لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الارض وإن الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ من السر والعلانية.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ يعني: إذا عاقب فعقوبته شديدة لمن عصاه وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن أطاعه.
قوله تعالى: مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ يعني: أن الرسول ليس عليه طلب سرائرهم، وإنما عليه بتبليغ الرسالة، والله تعالى هو الذي يعلم سرائرهم.
قوله تعالى: قُلْ لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ يعني: لا يستوي الحلال والحرام. قال في رواية الكلبي: نزلت في شأن حَجَّاج اليمامة شريح بن ضبيعة حين أراد المسلمون أخذ ماله، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأخبرهم أن أخذ ماله حرام.
وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ يعني: كثره مال شريح بن ضبيعة فَاتَّقُوا اللَّهَ لا تستحلوا ما حرم الله عليكم يا أُولِي الْأَلْبابِ يا ذوي العقول لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يعني: تأمنون من عذابه. وروى أسباط عن السدي أنه قال: الْخَبِيثُ هم المشركون وَالطَّيِّبُ هم المؤمنون. وقال الضحاك: لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ يعني: صدقة من حرام لا تصعد إلى الله تعالى، لا توضع في خزائنه. وصدقة من حلال تقع في يد الرحمن يعني: يقبلها.
وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ يعني: مثقال حبة من صدقة الحلال أرجح عند الله من جبال الدنيا من الحرام.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ روي عن أبي هريرة وعبد الله بن عباس وغيرهما أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما قرأ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: ٩٧] وقال: «يا أيها الناس كتب عليكم الحج» فقام رجل فقال: في كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه. ثم عاد فقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ، وَلَوْ وَجَبَ مَا اسْتَطَعْتُمُوهُ، وَلَوْ تَرَكْتُمُوهُ لَكَفَرْتُمْ» ثم قال: «إنَّمَا هِيَ حُجَّةٌ وَاحِدَةٌ- أو قال: مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ».
ونزل:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وعن أبي عوانة أنه قال:
سألت عكرمة عن قوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ قال: ذلك يوم قام فيه رسول الله ﷺ فسألوه، فأكثروا عليه فغضب. وقال: «لا تَسْألُونِي عَنْ شَيْءٍ إلاَّ أَخْبَرْتُكُمْ».
فقام رجل فكره المسلمون يومئذٍ مقامه. فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال: «حُذَافَةُ» يعني:
رجلاً غير أبيه فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله رضينا بالله رباً، وبك نبياً، فنزلت هذه الآية لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.
وروي في خبر آخر أن رجلاً سأله فقال: أين أبي؟ فقال: «فِي النَّارِ».
وروي عن نافع أنه سئل عن هذه الآية فقال: لم تنزل منذ قط كثرة السؤال تكره. ثم قال تعالى: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ يعني: وقت الذي ينزل جبريل تُبْدَ لَكُمْ يعني:
تظهر لكم. ويقال: فيها تقديم يعني: وإن تسألوا عنها تبد لكم حين نزول القرآن. ثم قال:
عَفَا اللَّهُ عَنْها يعني. عن تلك الأشياء حين لم ينزل فيها القرآن ولم يوجبها عليكم وَاللَّهُ غَفُورٌ ذو التجاوز حَلِيمٌ حيث لم يعجل عليكم بالعقوبة. ثم قال: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ يعني: عن هذه الأشياء مِنْ قَبْلِكُمْ حيث سألوا المائدة من عيسى، وغيرهم سألوا أنبيائهم أشياء ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ يعني: صاروا كافرين.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٣]
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ يعني: ما جعل الله حراماً من بحيرة، لقولهم: إن الله أمرهم بتحريمها. ونزلت في مشركي العرب، فكانت الناقة إذا ولدت البطن الخامس، فإن كان الخامس ذكراً ذبحوه للآلهة، وكان لحمه للرجال دون النساء، وإن مات أكله الرجال والنساء.
وإن كان الولد الخامس أنثى شَقُّوا أذنها وهي البحيرة، ثم لا يُجَزّ لها وبر ولا يُذكر عليه اسم الله، وألبانها للرجال دون النساء. فإذا ماتت اشترك فيها الرجال والنساء. وَلا سائِبَةٍ وأما السائبة: فهي الأنثى من الأنعام كلها. إذا قدم الرجل من سفره، أو برأ من مرضه، أو بنى بناءً، سيّب شيئاً من الأنعام للآلهة، وخرجها من ملكه، ويسلمها إلى سدنة البيت لآلهتهم، ولا يركبونها. وكان صوفها وأولادها للرجال دون النساء. وَلا وَصِيلَةٍ وأما الوصيلة: فهي من الغنم إذا ولدت سبعة أبطن. فإن كان الولد السابع جدياً ذبحوه لآلهتهم، وكان لحمه للرجال دون النساء وإن كانت عناقاً، كانوا يستعملونها بمنزلة سائر الغنم. وإن كان جدياً وعناقاً، قالوا: إن الأخت قد وصلت بأخيها، فحرمتا جميعاً، وكانت المنفعة للرجال دون النساء. وإن ماتا تشارك الرجال والنساء.
وَلا حامٍ وأما الحام: فهو الفحل من الإبل إذا ركب ولده. قالوا: قد حمى ظهره فيهمل، ولا يحمل، ولا يركب، ولا يمنع من المياه، ولا عن المراعي، فإذا مات أكله الرجال والنساء. وكانوا يقولون: هذه الأشياء كلها من أحكام الله تعالى.
قال الله تعالى: ما حرّم الله هذه الأشياء وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنِّي أعْرِفُ أوَّلَ مَنْ سَيِّبَ السَّوَائِبِ، وَأَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ عَهْدَ إبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلامُ-». قالوا: من هو يا رسول الله؟
قال: «عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ أخُو بَنِي كَعْبٍ لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَجُرُّ قُصبَهُ فِي النَّارِ يُؤْذِي ريحُهُ أهْلَ النَّارِ، وَإنِّي لأعْرِفُ مَنْ بَحَّرَ البَحَائِرَ». قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: «رَجُلٌ مِنْ بَنِي مدْلِج كَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ، فَجَدَعَ آذَانَهُما، وَحَرَّمَ ألْبَانَهُمَا، ثُمَّ شَرِبَ ألْبَانَهُمَا بَعْدَ ذلك. فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ وَهُوَ وَهُمَا يَعضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا، وَيَخْبِطَانِهِ بِأَخْفَافِهِمَا». ثم قال تعالى: وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ يعني:
ليس لهم عقل يعقلون أن الله هو المحلل والمحرم، وليس لغيره أن يحل ويحرم.
ثم أخبر عن جهلهم فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٥]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ من تحليل ما حرمتم على أنفسكم، وما بيّن رسوله. ويقال: تعالوا إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الدين والسنة.
قال الله تعالى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ يعني: أيتبعون آباءهم وإن كان آباؤهم جهالاً، فنهاهم الله عن التقليد، وأمرهم بالتمسك بالحق وبالحجة.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ معناه: الزموا أنفسكم كما تقول:
عليك زيداً، معناه: الزم زيداً. معناه: الزموا أمر أنفسكم لا يؤاخذكم بذنوب غيركم. لاَ يَضُرُّكُمْ وأصل اللغة: لا يضرركم. فأدغم أحد الراءين في الثاني، وضمت الثانية لالتقاء الساكنين. وهذا جواب الشرط وموضعه الجزم.
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال: إذا رأيتم شُحًّا مطاعاً، وهوًى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليكم بخويصة أنفسكم.
وروى عمر بن جارية اللخمي عن أبي أمية قال: سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال:
لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله ﷺ فقال: «يَا أبَا ثَعْلَبَةَ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ. فَإِذَا رَأَيْتَ دُنْيا مُؤْثَرَةً، وَشُحّاً مُطاعاً، وَإعْجَابَ كل ذي رأي برأيه، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ.
فَإنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ أيَّامَ الصَّبْرِ المُتَمِسِّكُ يَوْمَئِذٍ بِمِثْلِ الَّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ لَهُ كأَجْرِ خَمْسِينَ عَامِلاً»
. قالوا:
يا رسول الله كأجر خمسين عاملاً منهم قال: «لا بَلْ كَأَجْرِ خَمْسِينَ عَامِلاً مِنْكُمْ». وروي عن أبي بكر الصديق أنه قال: يا أيُّها النَّاسُ إنكم تتلون هذه الآية على غير تأويلها. إنه كان رجال طعموا بالإسلام، وذاقوا حلاوته، وكانت لهم قرابة من المشركين. فأرادوا أن يذيقوهم حلاوة الإسلام، وأن يدخلوهم في الإسلام. فنزل عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ.
والذي نفس أبي بكر بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليعمنكم الله بعقاب من عنده.
وروي عن أبي العالية أنه قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود، فوقع بين رجلين ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه فقال بعضهم: ألا أقوم فآمرهما بالمعروف؟
فقال بعضهم: عليك نفسك إن الله تعالى يقول: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ يقول:
لا يضركم ضلالة من ضلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فقال ابن مسعود: مه لم يجىء تأويل هذه الآية، بعد. فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تلبسوا شيعاً، فمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، فإذا اختلفت القلوب والأهواء فعند ذلك جاء تأويلها.
وقوله تعالى: لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ يقول: لا يضركم ضلالة من ضلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إذا ثبتم على الحق إِلَى اللَّهِ تعالى مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا.
وقال في رواية الكلبي نزلت في «منذر بن عمرو» بعثه رسول الله ﷺ إلى أهل هجر ليدعوهم إلى الإسلام، فأبوا الإسلام، فوضع عليهم الجزية فقال: لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ من أهل هجر، وأقر بالجزية إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إلى الله يعني آمنتم بالله.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)
424
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ شَهادَةُ: رفع بالابتداء وخبره (اثنان) ومعناه:
شهادتكم فيما بينكم اثنان مسلمان عدلان إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فأراد أن يشهد على وصيته، وكان مقيماً. ولم يكن مسافراً فليُشهد على وصيته اثنين مسلمين حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يعني: إذا كنتم في السفر ولم تقدروا على مسلمين، فأشهدوا رجلين من غيركم يعني: من غير أهل دينكم. وروى مغيرة عن إبراهيم قال: إذا كان الرجل في سفر فلم يجد المسلمين يشهدهما على وصيته، فيشهد غير أهل دينه. فإن اتهما حبسا من بعد الصلاة فيغلظ عليهما في اليمين وإن شهد رجلان من الورثة أنهما خانا وكذبا صدقا بما قالا، وأخذ مّنَ الاخرين يعني: من الشاهدين ما ادعي عليهما.
وروي عن مجاهد أنه قال: إذا مات المؤمن في السفر لا يحضره إلا كافران أشهدهما على ذلك. فإن رضي ورثته مما حلفا عليه من تركته فذلك. ويحلف الشاهدان أنهما لصادقان، فإن ظهر أنهما خانا، حلف اثنان من الورثة، وأبطلا أيمان الشاهدين.
وروي عن شريح أنه قال: لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني إلا في السفر، ولا تجوز في السفر إلا على الوصية، وهكذا قال إبراهيم النخعي. وبه قال ابن أبي ليلى. واحتجوا بظاهر هذه الآية. وقال علماؤنا: لا يجوز شهادة الذمي على المسلم في الوصية ولا في غيره.
وروي عن عكرمة أنه قال: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ قال: من غير عشيرتكم. وكذلك قال الحسن: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ يعني: من غير قبيلتكم، كلهم من أهل العدالة. قال: ألا ترى إلى قوله: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ وقال زيد بن أسلم: كان ذلك في رجل توفي، وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك كان في أول الإسلام، والأرض أرض الحرب، والناس كفار، إلا رسول الله ﷺ وأصحابه بالمدينة.
وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ قال: هي منسوخة وقال الضحاك: نسخت هذه الآية بقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: ٢] ورفع اليمين عن الشهود، وأبطل شهادة أهل الذمة إلا بعضهم على بعض. ويقال: لنزول هذه الآية قصة. وذلك أنه ثلاثة نفر خرجوا إلى السفر: تميم الدّاري، وعدي بن زيد، وبديل بن ورقاء مولى العاص بن وائل السهمي أبي عمرو بن العاص، فحضر بديل بن ورقاء الوفاة وكان مسلماً، وأوصى إلى تميم الدّاري وإلى عدي بن زيد وكانا نصرانيين، وأمرهما أن يسلّما أمتعته إلى أهله، وكتب أسماء الأمتعة، وأدرجه في ثيابه. فلما قدما المدينة وسلما المتاع إلى أهله، فوجد أهله الكتاب وفيه أسماء الأمتعة، وفيه جام فضة لم يسلماه إليهم. فخاصمهما المطلب بن أبي وداعة وعمرو بن العاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت الآية: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ بموت بديل بن ورقاء تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ
425
يعني: صلاة العصر. وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقضي بين الناس بعد صلاة العصر. فحلَّف الشاهدين، فحلفا أنهما لم يكتما شيئاً، فذلك قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يعني: سافرتم في الأرض، فأصابتكم في السفر مصيبة الموت يعني: موت بديل بن ورقاء، تَحْبِسُونَهُما يعني: تقيمونهما من بعد الصلاة يعني: صلاة العصر عند منبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ يعني: ظننتم بالشاهدين ريبة أو شككتم في أمرهما لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً يعني:
باليمين. يعني: أن الشاهدين يحلفان بالله أنهما لم يشتريا بأيمانهما ثمناً قليلاً من عرض الدنيا.
وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى يعني: ذا قرابة معنا في الرحم. لأن الميت كان بينه وبينهما قرابة وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إن سألنا عن ذلك. فإن كتمناها يعني: الشهادة: إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ يعني: الفاجرين.
ثم وجد الجام أي الكأس بعد ذلك في أيديهما يبيعانه في السوق. وقالا: إنا كنا اشتريناه منه، فاختصموا إلى رسول الله ﷺ فنزل فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً يعني: خانا وكتما شيئاً من المال فَآخَرانِ من أولياء الميت يَقُومانِ مَقامَهُما يعني: مقام النصرانيين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ يعني: يحلف أولياء الميت أن المتاع متاع صاحبنا لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما يعني: يمين المسلمين وشهادتهما أحق يعني: أولى من شهادة الكافرين.
وَمَا اعْتَدَيْنا في الشهادة والدعوى إِنَّا إِذاً اعتدينا فحينئذٍ لَمِنَ الظَّالِمِينَ. قرأ عاصم في رواية حفص: اسْتَحَقَّ بنصب التاء. وقرأ الباقون: بضم التاء فمن قرأ بالنصب جعل الذين نعتاً للمدعين ومعناه: فآخران من المستحقين يقومان مقامهما. ومن قرأ بالضم:
جعل الذين نعتاً للمدعى عليهم. وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر الاولين. وقرأ الباقون: الْأَوْلَيانِ. فمن قرأ الأولين، يجعله خفضاً لأنه بدل من الذين. فكأنه يقول: من الأولين اللذين استحق عليهم. ومن قرأ: الْأَوْلَيانِ صار رفعاً على البدل مما في يَقُومانِ المعنى: فليقم الْأَوْلَيانِ بالميت. قال القتبي: الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ وهما الوليان. يقال: هذا الأولى بفلان. ثم يحذف من الكلام بفلان فيقال: هذا الأولى وهذان الأوليان، كما يقال: هذا الأكبر وهذان الأكبران وعَلَيْهِمُ هاهنا يعني: منهم يعني: استحق منهم كما قال الله تعالى: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين: ٢] يعني: من الناس يستوفون.
قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ يعني: ذلك أحرى وأجدر. أن يأتوا بالشهادة. يعني: يقيموا الشهادة عَلى وَجْهِها كما كانت. يعني: يقيموا شهادة المدعي مقام شهادة المدعى عليه إذا ظهرت الخيانة، لكي لا يخونا في الشهادة، ويأتيا بالشهادة على وجهها.
426
ثم قال: أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ يعني: إذا خافا أن ترد اليمين إلى غيرهما، امتنعا عن الكذب. وقد احتج بعض الناس بهذه الآية بأن اليمين ترد إلى المدعي، ولا حجة له فيه، لأن ردّ اليمين حادثة أخرى، وهو ظهور الخيانة منهما. لأن دعوى الثاني دعوى الشرى، ودعوى الأول دعوى الكتمان.
ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ ولا تخونوا وَاسْمَعُوا ما تؤمرون به وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ يعني: الخائنين.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٩]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ يَوْمَ صار نصباً لأن معناه: اتقوا يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ يقول: ماذا أجابكم قومكم في التوحيد قالُوا لاَ عِلْمَ لَنا من هول ذلك اليوم، ومن شدة المسألة، وهي في بعض مواطن يوم القيامة قالوا: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما كان وما لم يكن.
وروى أسباط عن السدي قال: نزلوا منزلاً ذهبت فيه العقول فلما سئلوا؟ قالوا: لا علم لنا ثم نزلوا منزلاً آخر، فشهدوا على قومهم. ويقال: هذا عند زفرة جهنم فلا يبقى ملك مقرَّب، ولا نبي مرسل عند ذلك إلا قال: نفسي نفسي فعند ذلك قالوا: لا علم لنا. ويقال:
كان ذلك عند أول البعث، ثم يشهدون بعد ذلك بتبليغ الرسالة.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٠]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠)
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ بالنبوة وهذا في الآخرة وَعَلى والِدَتِكَ ثم بيّن النعمة التي أنعم الله عليه في الدنيا قال: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ يعني:
اعنتُك بجبريل- عليه السلام- وتُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا يعني: بعد ثلاثين سنة حين أوحى الله إليه، قال الكلبي: فمكث في رسالته ثلاثين شهراً، ثم رفعه الله ويقال: أوحي إليه وهو ابن ثلاثين سنة ومكث في الرسالة ثلاث سنين، ورفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
قال: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ يعني: الخط بالقلم والحكمة يعني: الفقه والفهم وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها وقال في موضع آخر:
فَأَنْفُخُ فِيهِ [آل عمران: ٤٩] بلفظ التذكير، لأنه انصرف إلى الطير. وقال هاهنا فَتَنْفُخُ فِيها بلفظ التأنيث، لأنه انصرف إلى الهيئة المتخذة. ويقال: فيها يعني في الطين فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي. قرأ نافع: طائراً بالألف. وقرأ الباقون: طَيْراً.
وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي يعني: تحيي الموتي بإذني.
يعني: أحييته بدعائك. وروي عن وهب بن منبه أنه قال: التقى عيسى ابن مريم- عليه السلام- وإبليس على عقبة من عقبات بيت المقدس. فقال له إبليس: أنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك، أنك تكلم الناس فى المهد صبياً، وأنك أحييت الموتى، وتبرئ الأكمه والأبرص.
فقال عيسى- عليه السلام-: بل العظيم الذي بإذنه أحييت الموتى، وهو الذي أنطقني. فقال إبليس: أنت إله الأرض. فقال عيسى- عليه السلام-: بل إله الأرض والسماء واحد. فكان في ذلك حتى جاءه جبريل وضربه بجناحه وألقاه في لجج البحار.
ثم قال: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إذ هموا بقتلك إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني:
بالعلامات والعجائب فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني: سحر ظاهر. قرأ حمزة والكسائي: ساحر بالألف. وقرأ الباقون: سِحْرٌ بغير ألف. فمن قرأ بالألف يعني: هذا رجل ساحر. ومن قرأ بغير ألف يعني: هذا الفعل سحر. والاختلاف في أربع مواضع: هاهنا، وفي سورة يونس، وفي سورة هود، وفي سورة الصف. قرأ حمزة والكسائي فى هذا كله: بالألف. وقرأ أبو عمرو ونافع وابن عامر في هذا كله: بغير ألف. وقرأ عاصم وابن كثير: بغير ألف إلا في سورة يونس.
وقوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١١ الى ١١٣]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ يعني: ألهمتهم وألقيت في قلوبهم. ويقال: أوحيت إلى عيسى ليبلغ الحواريين: أَنْ آمِنُوا بِي يعني: صدقوا بتوحيدي وَبِرَسُولِي فلما أبلغهم الرسالة قالُوا آمَنَّا يقول: صدقنا بهما وَاشْهَدْ يا عيسى بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ أي: مقرون.
ويقال: هذا معطوف على أول الكلام. إذ قال الله يا عيسى. وقال له أيضاً: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ يعني: ألهمتهم. وقال مقاتل: يقوم عيسى خطيباً يوم القيامة بهذه الآيات، ويقوم إبليس خطيباً لأهل النار بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ [إبراهيم: ٢٢] الآية قوله تعالى:
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قرأ الكسائي: بالتاء هَلُ تَسْتَطِيعَ رَبَّكَ وبنصب الباء. وقرأ الباقون: بالياء وبضم الباء. فمن قرأ: بالتاء هَلُ تَسْتَطِيعَ رَبَّكَ معناه: هل تستطيع أن تدعو ربك؟ ومن قرأ: بالياء معناه: هل يجيبك ربك؟ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ وذلك أن عيسى لما خرج، اتبعه خمسة آلاف أو أقل أو أكثر. بعضهم كانوا أصحابه، وبعضه كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو علة، أو كانوا زمنى، أو عمياناً. وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون، وبعضهم نظارة. فخرج إلى موضع، فوقعوا في مفازة ولم يكن معهم نفقة، فجاعوا. فقالوا للحواريين: قولوا لعيسى حتى يدعو الله تعالى بأن ينزل علينا مائدة من السماء. فجاءه شمعون. فأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء ف قالَ عيسى: قل لهم اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
ويقال: هذا القول للحواريين: قل لهم اتقوا الله إن كنتم مؤمنين فلا تسألوا لأنفسكم البلاء. فأخبر شمعون بذلك القوم ف قالُوا لشمعون قل له: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها يعني المائدة وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا يعني: تسكن قلوبنا إلى ما دعوتنا إليه وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا بأنك نبي وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ لمن غاب عنا، ولمن بعدنا، فقام عيسى وصلى ركعتين.
ثم:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا
429
وَآخِرِنا
وكان يوم الأحد، فصار ذلك اليوم عيداً لهم. ويقال: عِيداً لَنَا يعني: حجة لنا وَآخِرِنا يعني: حجة لمن بعدنا وَآيَةً مِنْكَ يعني: نزولها علامة منك لنبوتك وَارْزُقْنا يعني: وأعطنا المائدة وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ من غيرك.
فأوحى الله تعالى إلى عيسى بقوله: قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ ما سألتم من المائدة فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ يعني: بعد نزول المائدة مِنْكُمْ ويكفر بعيسى بعد أكله من المائدة فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ يعني: أحداً من الخلق. وقال بعضهم: هذه كلمة تهديد ولم ينزل عليهم المائدة.
وروي في بعض التفاسير أنهم قالوا لعيسى: رضينا بما في هذه الآية. فقال عيسى لشمعون وكان أكبر الحواريين: هل معك شيء من الزاد؟ قال: نعم. فجاءه بخمسة أرغفة، وسمكتين صغيرتين، فقطعهما قطعاً صغاراً ثم قال: اجلسوا رفقاء. فقعدوا عشرة عشرة. فألقى عيسى- عليه السلام- بين كل رفقة قدر ما يحمله بإصبعيه، فجعل الطعام يزيد حتى جاوز ركبتهم فشبعوا. وفضل خمسة. ثم عاد من الغد ففعل مثل ما فعل بالأمس.
وروي أن الرغيف والسمكتين نزلت من السماء وهم ينظرون إليها. وقيل: كانت مائدة من در وقيل: من بلور وقفت في الهواء. فاجتمعوا يأكلون منها. وروي أن المائدة كان عليها الفواكه، وكل شيء إلا الخبز واللحم. وروي أن الجميع كانوا خمسة آلاف ونيفاً وروي اثني عشر ألفاً والله أعلم بالصواب.
وقال عامة المفسرين: إن المائدة قد أنزلت عليهم. وروي عن سلمان الفارسي أن عيسى عليه السلام قام ولبس جبة من شعر، وقام ووضع يمينه على يساره، وطأطأ رأسه خاشعاً لله تعالى، وبكى حتى سالت الدموع على لحيته وصدره، وهو يدعو ويتضرع، فنزلت مائدة من السماء فوقها منديل والناس ينظرون إليه، وعيسى عليه السلام ينظر ويبكي ويقول:
اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة. حتى استقرت المائدة بين يدي عيسى والناس حوله.
قال عيسى: بسم الله وكشف المنديل للناس، فإذا فيه سمكة مشوية لا شوك فيها. والوَدَكُ يسيل منها، والخل عند رأسها، والملح عند ذنبها، وعليها أربعة أرغفة وعليها ألوان البقول إلا الكراث. فقال: كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ فأكل منها ألف رجل. ويقال: خمسة آلاف رجل.
ورجعت المائدة كما كانت. وقال بعضهم: نزلت يوماً واحداً ولم تنزل أكثر من ذلك. وقال بعضهم: ثلاثة أيام، وقال بعضهم: سبعة أيام. وقال بعضهم: أكثر من ذلك. فلما رجعوا عن ذلك الموضع شكوا فيه وكفروا، فمسخهم الله خنازير.
وروي عن ابن عمر أنه قال: أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلاثة: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون.
430
وروي عن أبي عبد الرحمن السُّلمي قال: نزلت المائدة خبزاً وسمكة. وعن عطية العوفي قال: كانت سمكة فيها طعم كل شيء.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٦ الى ١١٨]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يعني: يوم القيامة أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي روى أسباط عن السدي قال: لما رفع عيسى، وقالت النصارى ما قالت. وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، سأله عن قولهم. وقال الضحاك: يدعى بعيسى يوم القيامة، ويدعى بالنصارى، فيقفهم، ويسأله ليفضحهم على رؤوس الناس. وقال الزجاج: هو سؤال التوبيخ للذين اعتدوا عليهم، لأنهم مجمعون أنه صادق وأنه لا يكذبهم الصادق عنده. وذلك أوكد في الحجة عليهم وأبلغ في التوبيخ. والتوبيخ ضرب من العقوبة. ويقال: إن الله تعالى لما قال لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أخذته الرّعدة من هيبة ذلك القول حتى سمع صوت عظامه في نفسه قالَ سُبْحانَكَ فنزُّه الرب عن ذلك، أن يكون أمرهم بذلك. فقال:
مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ يقول: ما ينبغي وما يجوز لى أَنْ أَقُولَ مَا ليس لى بحق. يعني: ليس بعدل أن يعبدوا غيرك إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ يعني: إن قلت لهم ذلك القول فَقَدْ عَلِمْتَهُ فإنك تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي يعني: ما كان مني في الدنيا وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ يعني: ولا أطلع على غيبك وما كان منك.
وقال أهل اللغة: نفس الشيء: جملة الشيء، وحقيقته، وذاته فمعناه: تعلم ما في ضميري، وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى حقيقتك وغيبك. إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما كان وما يكون. وقيل:
تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي التي نسبت إلي، وأمرتني بالتسليم إليك. وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ التي سلمت إليك، فأنت مالكها بجميع ما كان وما يكون منها، وأنت علام الغيوب قبل كونها وكون فعلها. قرأ حمزة: الْغُيُوبِ بكسر الغين ومعناهما واحد. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر: إِنِّي مُنَزِّلُها بالتشديد. وقرأ الباقون: بالتخفيف. وهما لغتان نَزَل وأنْزَلَ بمعنى واحد.
ثم قال: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ يعني: في الدنيا بالتوحيد أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعني: وحدوا الله وأطيعوه رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يعني: على بني إسرائيل، أي:
بلغتهم الرسالة. ويقال: شهيداً يعني: حفيظاً بما أمرتهم مَّا دُمْتُ فِيهِمْ يعني: ما دمت مقيماً في الدنيا بين أظهرهم.
فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي يعني: رفعتني إلى السماء كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ يعني: الحفيظ والشاهد عليهم. وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ من مقالتي ومقالتهم. وما أدري ما أحدثوا بعدي إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قرأ ابن مسعود:
فَإِنَّكَ أَنتَ الغفور الرحيم وقرأ غيره: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فإن قيل: وكيف سأل المغفرة للكفار. قيل له: لأن عيسى علم أن بعضهم قد تاب ورجع عن ذلك. فقال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ يعني: الذين ماتوا على الكفر، فإنهم عبادك وأنت القادر عليهم وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ يعني: الذين أسلموا ورجعوا عن ذلك. وقال بعضهم: احتمل أنه لم يكن في كتابه إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: ١١٦] فلهذا المعنى دعا لهم، ولكن التأويل الأول أحسن. ويقال: إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ يعني: لكذبهم الذي قالوا عليّ خاصة، لا لشركهم. وهذا التأويل ليس بسديد، والأول أحسن. وروي عن أبي ذر الغفاري عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية ذات ليلة، فردّدها حتى أصبح: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ الآية وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير ومعناه: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فإنك أنت العزيز الحكيم وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فإنهم عبادك قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٩ الى ١٢٠]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ قرأ نافع: هذا يَوْمُ بالنصب. وقرأ الباقون:
بالرفع. فمن قرأ بالنصب فعلى الظرف. أي: قال الله تعالى: هذا لعيسى في يوم ينفع الصادقين صدقهم ومن قرأ: بالرفع فعلى معنى خبر هذا يعني، هذا يوم ينفع الموحدين توحيدهم. ويقال:
ينفع النبيين صدقهم بتبليغ الرسالة. ويقال: ينفع المؤمنين إيمانهم لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني: ثوابهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بالطاعة وَرَضُوا عَنْهُ بالثواب ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني: المؤمنين فازوا بالجنة.
قوله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خزائن السموات والأرض وَما فِيهِنَّ من الخلق كلهم عبيده وإماؤه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني: من خلق عيسى من غير بشر والله أعلم بالصواب.
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
خَرَجْنَا من الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنَ اهْلِها فَلَسْنَا من الأمواتِ فيها ولاَ الأحْيَا
إذا جاءنَا السَّجَّان يَوْماً لِحَاجَة عَجِبْنَا وقلنا جَاءَ هذا من الدُّنْيَا