تفسير سورة المائدة

نيل المرام تفسير آيات الأحكام
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب نيل المرام من تفسير آيات الأحكام المعروف بـنيل المرام تفسير آيات الأحكام .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ

سورة المائدة [مائة وعشرون آية]
قال القرطبي: هي مدنية بالإجماع «١».
فائدة: قال [أبو] «٢» ميسرة: إن الله سبحانه، أنزل في هذه السورة ثمانية عشر حكما، لم ينزلها في غيرها من سور القرآن، وهي قوله تعالى: وَالْمُنْخَنِقَةُ إلى قوله:
إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. انتهى.
[الآية الأولى]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١).
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: هذه الآية التي افتتح الله بها هذه السورة، إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) فيها من البلاغة ما تتقاصر عنده القوى البشرية، مع شمولها لأحكام عدة، منها الوفاء بالعقود، ومنها تحليل بهيمة الأنعام، ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحل، ومنها تحريم الصيد على المحرم، ومنها إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.
وقد حكى النقاش: أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: أيها الحكيم، اعمل لنا مثل هذا القرآن. فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة، ثم خرج فقال:
والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف، فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته، وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا «٣».
(١) انظر في «تفسيره» (٦/ ٣٠).
(٢) ما بين [معقوفين] سقط من المطبوعة.
(٣) انظر: تفسير القرطبي (٦/ ٣١، ٣٢)، فتح القدير للشوكاني (٢/ ٤)، تفسير ابن عطية (٤/ ٢١٩) [.....]
223
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ: يقال: أوفى ووفى، وقد جمع بينهما الشاعر فقال:
أمّا ابن طوف فقد أوفى بذمّته كما وفى بقلاص النّجم حاديها
والعقود: العهود، وأصل العقود الربط، وأحدها عقد، يقال: عقدت الحبل والعهد، فهو يستعمل في الأجسام والمعاني، وإذا استعمل في المعاني- كما هنا- أفاد أنه شديد الإحكام، وقوي التوثيق.
وقيل: المراد بالعقود هي التي عقدها الله على عباده، وألزمهم بها من الأحكام.
وقيل: هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات، والأولى شمول الآية للأمرين جميعا، ولا وجه لتخصيص بعضها دون بعض.
قال الزجاج: أوفوا بعقد الله عليكم، أو بعقدكم بعضكم على بعض. انتهى.
والعقد الذي يجب الوفاء به، ما وافق كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن خالفهما فهو رد، لا يجب الوفاء به، ولا يحل «١».
أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ البهيمة: اسم لكل ذي أربع، سمّيت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها، ومنه باب مبهم، أي مغلق، وليل بهيم، وبهيمة للشجاع الذي لا يدري من أين يؤتى، وحلقة مبهمة لا يدرى أين طرفاها.
والأنعام: اسم للإبل والبقر والغنم، سمّيت بذلك لما في مشيها من اللين.
وقيل: بهيمة الأنعام وحشيّها كالظباء، وبقر الوحش، والحمير الوحشية، وغير ذلك. حكاه ابن جرير الطبري عن قوم، وحكاه غيره عن السدي والربيع وقتادة والضحاك «٢».
فقد ذكروا هذه الحكاية.
(١) قال الضحاك: العقود هنا: حلف الجاهلية، وقال أيضا: هي العهود، وقال: ما أحل الله وحرّم وما أخذ الله من الميثاق على من أقرّ بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام. وانظر الأقوال في هذه الآية في: زاد المسير (٢/ ٢٦٧)، وأحكام القرآن للمعافري (٢/ ٥٢٤)، وتفسير ابن كثير (٢/ ٣)، وتفسير ابن عطية (٤/ ٣١٣، ٣١٥).
(٢) وقال الضحاك أيضا: هي الأنعام مطلقا وانظر أقوالهم في «الطبري» (٦/ ٣٤)، وأحكام ابن العربي (٢/ ٥٢٩)، وابن عطية (٤/ ٣١٦)، والقرطبي (٦/ ٣٧)، ابن كثير (٢/ ٥)، وزاد المسير (٢/ ٢٦٨)، والدر المنثور (٢/ ٢٥٣)، والمغني (١١/ ٥١).
224
قال ابن عطية: وهذا قول حسن! وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وما يضاف إليها من سائر الحيوانات، يقال له: أنعام مجموعة معها، وكأن المفترس- كالأسد وكل ذي ناب- خارج عن حد الأنعام، فبهيمة الأنعام هي الراعي ذوات الأربع.
وقيل: بهيمة الأنعام ما لم يكن صيدا لأن الصيد يسمى وحشيا لا بهيمة.
وقيل: بهيمة الأنعام الأجنّة التي تخرج عند الذبح من بطون الأنعام فهي تؤكل من دون [ذكاة] «١».
وعلى القول الأول- أعني تخصيص الأنعام بالإبل والبقر والغنم- تكون الإضافة بيانية، ويلحق بها ما يحل مما هو خارج عنها بالقياس، بل وبالنصوص التي في الكتاب والسنة، كقوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً... الآية، [الأنعام: ١٤٥].
وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يحرم كل ذي ناب من السبع، ومخلب من الطير» «٢»، فإنه يدل بمفهومه على أن ما عداه حلال وكذلك سائر النصوص الخاصة بنوع، كما في كتب السنة المطهرة.
إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ: استثناء من قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أي إلا مدلول ما يتلى عليكم فإنه ليس بحلال.
والمتلوّ: هو ما نص الله على تحريمه، نحو قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ... الآية [المائدة: ٣]، وذلك عشرة أشياء، أولها الميتة، وآخرها المذبوح على النّصب، ويلحق به ما صرحت السّنة بتحريمه، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون المراد به، إلا ما يتلى عليكم الآن، ويحتمل أن يكون المراد به في مستقبل الزمان، فيدل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ويحتمل الأمرين جميعا.
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ: ذهب البصريون إلى أن قوله هذا استثناء آخر من قوله:
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ والتقدير: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم، إلا الصيد وأنتم
(١) ما بين [معقوفين] صحّف إلى (زكاة) بالزّاي وهو خطأ واضح، والصواب ما أثبتناه.
(٢) حديث صحيح: رواه مسلم (١٣/ ٨٣). عن ابن عباس مرفوعا.
ورواه البخاري (٩/ ٦٥٧)، (١٠/ ٢٤٩)، ومسلم (١٣/ ٨١، ٨٣) عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا، نحوه.
225
محرمون، وقيل الاستثناء الأول من بهيمة الأنعام، والثاني من الاستثناء الأول.
وردّ بأن هذا يستلزم إباحة الصيد في حال الإحرام لأنه مستثنى من المحظور، فيكون مباحا «١».
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ: في محل نصب على الحال، ومعنى هذا التقييد ظاهر عند من يخص بهيمة الأنعام بالحيوانات الوحشية البرية، التي يحل أكلها كأنه قال: أحل لكم صيد البر، إلا في حال الإحرام.
وأما على قول من يجعل الإضافة بيانية فالمعنى: أحلت لكم بهيمة هي الأنعام- حل تحريم الصيد عليكم بدخولكم في الإحرام- لكونكم محتاجين إلى ذلك. فيكون المراد بهذا التقييد الامتنان عليهم بتحليل ما عدا ما هو محرم عليهم في تلك الحال.
والمراد بالحرم من هو محرم بالحج أو العمرة أو بهما، ويسمى محرما لكونه يحرم عليه الصيد والطيب والنساء، وهكذا وجه تسمية الحرام حراما، والإحرام إحراما «٢».
[الآية الثانية] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢).
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ: جمع شعيرة، على وزن فعلية.
قال ابن الفارس: ويقال للواحدة شعارة وهو أحسن، ومنه الإشعار للهدي «٣».
والمشاعر: المعالم، واحدها مشعر، وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات.
(١) انظر: توجيه ابن عطية في «المحرر» (٤/ ٢١٧)، وتعقيب ابن حبان عليه في «البحر المحيط» ومناقشته له مناقشة طويلة.
(٢) انظر: تفسير ابن عطيّة (٤/ ٣١٨).
(٣) انظر: معجم مقاييس اللغة (شعر) ط. بيروت.
226
قيل: المراد بها هنا جميع مناسك الحج، وقيل: الصفا والمروة والهدي والبدن.
والمعنى على هذين القولين لا تحلوا هذه الأمور، بأن يقع الإخلال بشيء منها، أو بأن تحولوا بينها وبين من أراد فعلها. ذكر سبحانه النهي عن أن يحلوا شعائر الله عقب ذكره تحريم صيد المحرم.
وقيل: المراد بالشعائر هنا فرائض الله، ومنه: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ [الحج: ٣٢]، وقيل: هي حرمات الله. ولا مانع من حمل ذلك على الجميع، اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا بما يدل عليه السياق.
وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ المراد به الجنس، فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم، وهي أربعة: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، أي تحلوها بالقتال فيها، وقيل المراد هنا شهر الحج فقط «١».
وَلَا الْهَدْيَ: هو ما يهدى إلى بيت الله، من ناقة، أو بقرة، أو شاة، الواحدة هدية، نهاهم الله سبحانه عن أن يحلوا حرمة الهدي، بأن يأخذوه على صاحبه، أو يحولوا بينه وبين المكان الذي يهدي إليه، وعطف الهدي على الشعائر- مع دخوله تحتها- لقصد التنبيه على مزيد خصوصيته، والتشديد في شأنه.
وَلَا الْقَلائِدَ: جمع قلادة، وهي ما يقلّد به الهدي من نعل أو نحوه، وإحلالها أن تؤخذ غصبا، وفي النهي عن إحلال القلائد تأكيد للنهي عن إحلال الهدي، وقيل:
المراد بالقلائد، المقلدات به، فيكون عطفه على الهدي لزيادة التوصية بالهدي، والأول أولى، وقيل: المراد بالقلائد ما كان الناس يتقلدونه، فهو على حذف مضاف، أي ولا أصحاب القلائد.
وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ: أي قاصديه، من قولهم أممت كذا أي قصدته. وقرأ الأعمش: ولا آمّي البيت الحرام بالإضافة، والمعنى: لا تمنعوا من قصد البيت الحرام، بحج أو عمرة، أو ليسكن فيه. وقيل: إن سبب نزول هذه الآية، أن المشركين كانوا يحتجون ويعتمرون ويهدون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنزل:
(١) قال القاضي أبو محمد: «والأظهر عندي أن الشهر الحرام أريد به رجب ليشتهر أمره، لأنه كان مختصا بقريش، ثم فشا في مضر. اه. وهذا قول الطبري أيضا، وانظر: المحرر الوجيز (٤/ ٣٢١).
227
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ إلى آخر الآية «١»، فيكون ذلك منسوخا بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] وقوله: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة: ٢٨]، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا يحجن بعد العام مشرك» «٢».
وقال قوم الآية محكمة وهي في المسلمين «٣».
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً: جملة حالية من الضمير المستتر في آمِّينَ قال جمهور المفسرين: معناه يبغون الفضل والرزق والأرباح في التجارة، ويبتغون- مع ذلك- رضوان الله، وقيل: كان منهم من يطلب التجارة، ومنهم من يبتغي بالحج رضوان الله، ويكون هذا الابتغاء للرضوان- بحسب اعتقادهم وفي ظنهم- عند من جعل الآية في المشركين، وقيل: المراد بالفضل هنا الثواب، لا الأرباح في التجارة «٤».
وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا: هذا تصريح لما أفاده مفهوم: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، أباح لهم الصيد، بعد أن حظره عليهم لزوال السبب الذي حرّم لأجله، وهو الإحرام «٥».
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ «٦» : قال ابن فارس: جرم وأجرم ولا جرم، بمعنى قولك: ولا بد ولا محالة، وأصلها من جرم أي كسب، وقيل: المعنى ولا يحملنكم.
قاله الكسائي وثعلب. وهو يتعدى إلى مفعولين، يقال: جرمني كذا على بغضك، أي حملني عليه.
وقال أبو عبيدة والفراء: معنى وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ لا يكسبنكم بغض قوم أن
(١) انظر تفسير الطبري.. (٦/ ٣٤)، والدر المنثور (٣/ ٧).
(٢) حديث صحيح: رواه البخاري (١/ ٤٧٧، ٤٧٨)، (٣/ ٤٨٣)، ومسلم (٩/ ١١٥، ١١٦) عن أبي هريرة مرفوعا.
قال ابن عطية: «فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو محكم، وكل ما كان منها في الكفّار فهو منسوخ وقرأ ابن مسعود وأصحابه: [ولا آمّي البيت] بالإضافة إلى البيت» وانظر: المحرر (٤/ ٣٢٥)، والقرطبي (٦/ ٤٣، ٤٤).
(٣) قال ابن عطية: «فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو محكم، وكل ما كان منها في الكفّار فهو منسوخ وقرأ ابن مسعود وأصحابه: [ولا آمّي البيت] بالإضافة إلى البيت» وانظر:
المحرر (٤/ ٣٢٥)، والقرطبي (٦/ ٤٣، ٤٤).
(٤) انظر: تفسير ابن عطية (٥/ ٣٢٥).
(٥) فصل المصنف هذا الموضع عن سابقه، وقد وصلناه لتمام السياق ووضوح اتصاله. [.....]
(٦) انظر: الهداية للمرغيناني (٤/ ١٥٣٩)، وتفسير ابن عطية (٤/ ٣٢٦)، البحر المديد لابن عجيبة (٢/ ٥).
228
تعتدوا الحق إلى الباطل، [والعدل] «١» إلى الجور.
والجريمة والجارم: بمعنى الكاسب، والمعنى: لا يحملنكم يغض قوم على الاعتداء عليهم، أو لا يكسبنكم بغضهم اعتداءكم على الحق إلى الباطل. ويقال: جرم يجرم جرما إذا قطع، قال علي بن عيسى الرماني: وهو الأصل.
فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه، ولا جرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه.
قال الخليل: معنى لا جرم أن لهم النار: لقد حق أن لهم النار.
وقال الكسائي: جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد أي اكتسب.
وقرأ ابن مسعود: ولا يجرمنكم بضم الياء، والمعنى لا يكسبنكم، ولا يعرف البصريون أجرم، وإنما يقولون: جرم لا غير «٢».
والشنآن: البغض، وقريء بفتح النون وإسكانها، يقال شنيت الرجل أشنوه شنا ومشنا وشنآنا، كل ذلك إذا أبغضته. وشنآن هنا مضاف إلى المفعول، أي بغض قوم منكم لا بغض قوم لكم «٣».
أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا بفتح الهمزة مفعول لأجله، أي لأن صدوكم. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة على الشرطية، وهو اختيار أبو عبيد.
وقرأ الأعمش أن يصدّوكم، والمعنى على قراءة الشرطية لا يحملنكم بغضهم أن وقع منهم الصد لكم عن المسجد الحرام على الاعتداء عليهم «٤».
(١) في المطبوع (فالعدل) وهو خطأ واضح، والصواب ما أثبت كما في «فتح القدير» (٢/ ٦).
(٢) انظره في: تفسير ابن عطية (٤/ ٣٣٢) وقال: وهذه تؤيد قراءة أبي عمرو وابن كثير اه.
(٣) قال الفسوي: (شنئان) بفتح النون مصدر لا محالة، والمصدر يكثر على فعلان نحو النزوان والنقران، وقال سيبويه:
هذا الضرب من المصادر تأتي أفعاله لازمة إلا أن يشذّ شيء الموضح (١/ ٤٣٦)، الكتاب (٤/ ١٤)، النشر (٢/ ٢٥٣، ٢٥٤).
(٤) قال الفسوي: إن صدوكم بكسر الألف، قرأها ابن كثير وأبو عمرو على أن إن للشرط، وجوابه قد أغنى عنه ما قبله من قوله وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ والتقدير: إن صدّوكم عن المسجد الحرام، فلا تكتسبوا الاعتداء.
وقرأ الباقون أَنْ صَدُّوكُمْ بفتح الألف.
وهو ظاهر، والمعنى: لا يكسبنّكم بغض قوم الاعتداء لأن صدّوكم عن المسجد الحرام، أي لصدّهم إياكم عن المسجد، فهو مفعول له، فقوله أَنْ تَعْتَدُوا مفعول ثان وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ
229
قال النحاس: وأما: إن صدوكم بكسر (إن) فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان- وكان المشركون صدوا المؤمنين عام الحديبية سنة ست- فالصد كان قبل الآية وإذا قرىء بالكسر لم يجز إلا أن يكون بعده كما تقول: لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك، فهذا لا يكون إلا للمستقبل، وإن فتحت كان للماضي. وما أحسن هذا الكلام.
وقد أنكر أبو حاتم وأبو عبيد شنآن بسكون النون، لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة، وخالفهما غيرهما فقال: ليس هذا مصدر، ولكنه اسم فاعل على وزن كسلان وغضبان «١».
أقول: تأمل هذا النهي، فإن الذين صدوا المسلمين عن دخول مكة، كانوا أنفارا حربيين، فكيف ينهى عن التعرض لهم، وعن مقاتلتهم، فلا يظهر إلا أن هذا النهي منسوخ، أو يقال: إن النهي عن ذلك من حيث عقد الصلح الواقع في الحديبية، فبسببه صاروا مؤمنين مأمونين، ولم أر من نبه على هذين الوجهين. ولما نهاهم عن الاعتداء أمرهم بقوله:
وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى أي ليعن بعضكم بعضا على ذلك، وهو يشمل كل أمر يصدق عليه أنه من البر والتقوى، كائنا ما كان.
قيل إن البر والتقوى لفظان بمعنى واحد، وكرر للتأكيد.
وقال ابن عطية: إن البر يتناول الواجب [والمندوب] «٢»، والتقوى تختص بالواجب «٣». وقال الماوردي: إن في البر رضى الناس، وفي التقوى رضى الله، فمن جمع بينهما، فقد تمت سعادته. ثم نهاهم سبحانه بقوله:
أَنْ صَدُّوكُمْ مفعول به.
وانظر: الموضح (١/ ٤٣٦)، ومعاني الفراء (١/ ٣٠١)، والسبعة لابن مجاهد (٢٤٢)، والنشر (٢/ ٢٥٤)، والحجة لأبي زرعة (٢١٩- ٢٢٠)، ولابن خالويه، ومعاني القراءات، والإقناع، والمفتاح أربعتهم بتحقيقنا- ط دار الكتب العلمية- بيروت.
(١) قال أبو عليّ الفارسي: من زعم أن فعلان إذا سكنّت عينه لم يكن مصدرا فقد أخطأ، وتحتمل القراءة بسكون النون أن تكون وصفا.. (المحرر الوجيز ٤/ ٣٣).
(٢) في «المطبوعة» «المندب» وهو خطأ واضح والصواب ما أثبت كما في «المحرر الوجيز» (٤/ ٣٣٢).
(٣) وعبارة ابن عطية: والتقوى رعاية الواجب. (٤/ ٣٣٢).
230
وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ: فالإثم كل فعل وقول يوجب إثم فاعله أو قائله، والعدوان التعدي على الناس، بما فيه ظلم، فلا يبقى نوع من أنواع الموجبات للإثم، ولا نوع من أنواع الظلم للناس، إلا وهو داخل تحت هذا النهي، لصدق هذين النوعين على كل ما يوجد فيه معناهما. ثم أمر عباده بالتقوى، وتوعد من خالف ما أمر به، فتركه، أو خالف ما نهى عنه بفعله، بقوله:
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في «تاريخه» عن وابصة أن النبي صلّى الله عليه وآله قال: «البر ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب، وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك!» «١».
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في «الأدب» ومسلم والترمذي والحاكم والبيهقي عن النواس بن سمعان قال: «سألت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن البر والإثم فقال: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطّلع عليه الناس» «٢».
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والطبراني والحاكم- وصححه- والبيهقي عن أبي أمامة: «أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الإثم؟ فقال: «ما حاك في نفسك فدعه قال فما الإيمان؟ قال: من ساءته سيئة، وسرته حسنة، فهو مؤمن» «٣».
(١) حديث صحيح:
رواه أحمد في «المسند» (٤/ ٢٢٨)، والدارمي في «سننه» (٢/ ٢٤٥، ٢٤٦)، والبخاري في «الكبير» (١/ ١٤٤، ١٤٥)، والطبراني (٢٢/ ١٤٨، ١٤٩)، وأبو يعلى في «مسنده» (٣/ ١٦٠، ١٦١، ١٦٢).
ومن طريق آخر رواه أحمد في «المسند» (٤/ ٢٢٧)، والبخاري في «تاريخه» (١/ ١٤٤)، والطبراني (٢٢/ ١٤٨) عن وابصة مرفوعا.
وحسّنه النووي رضي الله عنه في «الأذكار» (٢/ ٩٩٢).
(٢) حديث صحيح: رواه مسلم (١٦/ ١١٠، ١١١)، وأحمد في «المسند» (٤/ ١٨٢)، والترمذي (٢٣٨٩)، والبخاري في «الأدب المفرد» (٢٩٥)، والحاكم في «المستدرك» (٢/ ١٤).
(٣) حديث صحيح: رواه أحمد في «مسنده» (٥/ ٢٥١، ٢٥٢، ٢٥٥، ٢٥٦)، وابن المبارك في «الزهد» (٨٢٥)، والطبراني (٨/ ١١٧)، والحاكم في «المستدرك» (١/ ١٤)، وصححه ووافقه الذهبي.
وله شاهد من حديث أبي موسى عند أحمد (٤/ ٣٩٨)، والبزار (٧٩)، والطبراني كما في «المجمع» (١/ ٨٦).
وقال الهيثمي: «ورجاله رجاله الصحيح ما خلا المطلب بن عبد الله فإنه ثقة، ولكنه يدلّس،
231
[الآية الثالثة] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣).
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ: هذا شروع في تفصيل المحرمات التي أشار إليها سبحانه بقوله:
إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [المائدة: ١].
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ تقدم الكلام على ذلك في البقرة «١»، وما هنا من تحريم مطلق الدم، مقيد بكونه مسفوحا- لما تقدم حملا للمطلق على المقيد «٢».
وقد ورد في السنة تخصيص الميتة بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان: الكبد والطحال».
أخرجه الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي، وفي إسناده مقال «٣».
ولم يسمع من أبي موسى، فهو منقطع.
(١) وذلك عند تفسيره آية (١٧٣). [.....]
(٢) انظر الطبري (٦/ ٤٤)، وابن كثير (٢/ ٨)، وزاد المسير (٢/ ٢٧٩).
(٣) حديث صحيح: رواه الشافعي في «الأم» (٢/ ٢٥٦)، وأحمد في «المسند» (٢/ ٩٧)، وابن ماجة (٤/ ٣٣)، والدارقطني في «سننه» (٤/ ٢٧١، ٢٧٢)، والبيهقي في «الكبرى» (١/ ٢٥٤) وعبد بن حميد في «المنتخب» (٨٢٠)، والبغوي في «شرح السنة» (٢٨٣).
ورواه أيضا العقيلي في «الضعفاء» (٩٢٦)، وابن عديّ في «الكامل» (١١٠٥) عن ابن عمر مرفوعا.
وقال ابن عدي: (٤/ ٢٧١) :«وهذا يدور رفعه على الإخوة الثلاثة: عبد الله بن زيد وعبد الرحمن وأسامة، وأما ابن وهب فإنه يرويه عن سليمان بن بلال موقوفا».
وقال البيهقي (١/ ٢٥٤) بعد روايته له موقوفا: «هذا إسناد صحيح، وهو في معنى المسند، وقد رفعه أولاد زيد عن أبيهم».
232
ويقويه الحديث: «هو الطهور ماؤه، والحل ميتته»، وهو عند أحمد وأهل السنن وغيرهم، وصححه جماعة منهم ابن خزيمة وابن حبان «١».
وقد أطال الشوكاني الكلام عليه في «شرحه للمنتقى» وغيره في غيره «٢».
وَالْمُنْخَنِقَةُ هي التي تموت بالخنق، وهو حبس النّفس، سواء كان ذلك بفعلها كأن تدخل رأسها في حبل، أو بين عودين، أو بفعل آدمي، أو غيره. وقد كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، فإذا ماتت أكلوها «٣».
وَالْمَوْقُوذَةُ هي التي تضرب بحجر أو عصا حتى تموت، من غير تذكية. يقال:
وقذه يقذه وقذا فهو وقيذ.
والوقذ: شدة الضرب. وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك، فيضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى تموت ثم يأكلونها «٤».
قال ابن عبد البر: واختلف العلماء قديما وحديثا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض.
ويعني بالبندق: قوس البندقة.
وبالمعراض: السهم الذي لا ريش له، أو العصا التي رأسها محدد، قال: فمن ذهب إلى أنه وقيذ، لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته، على ما روي عن ابن عمر، وهو قول
(١) حديث صحيح: رواه أبو داود (٨٣)، والترمذي (٦٩)، والنسائي (١/ ٥٠، ١٧٦)، وابن ماجة (٣٨٦، ٣٢٤٦)، ومالك في «موطأه» (١/ ٢٢)، وأحمد في «مسنده» (٢/ ٢٣٧، ٣٦١)، والشافعي في «مسنده» (١/ ١٦)، والبخاري في «التاريخ» (٣/ ٤٧٨)، والدارمي (١/ ١٨٦)، وابن الجارود في «المنتقى» (٤٣)، وابن أبي شيبة في «المنصف» (١/ ١٥٥)، والدارقطني في «سننه» (١/ ٣٦)، والحاكم في «المستدرك» (١/ ١٤٠)، وابن خزيمة في «صحيحه» (١١١)، والبغوي في «شرح السنة» (٢/ ٥٥)، (٢٨١)، والبيهقي في «الكبرى» (١/ ٣)، وابن حبان في «صحيحه» (٤/ ٤٩)، (١٢٤٤) عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال أبو عيسى: حسن صحيح، ومثله البغوي. وصححه ابن خزيمة وابن حبان، والحاكم ووافقه الذهبي.
(٢) راجع نيل الأوطار (١/ ١٧، ١٩)، وكذلك تلخيص الحبير للحافظ (١/ ٩، ١٢). ونصب الرّاية للزيلعي (١/ ٩٥، ٩٩).
(٣) انظر: الطبري (٦/ ٤٥)، ابن كثير (٢/ ٨).
(٤) انظر: الطبري (٦/ ٤٥)، ابن كثير (٢/ ٨)، وابن عطية (٤/ ٣٣٦)، وزاد المسير (٢/ ٢٧٩).
233
مالك وأبي حنيفة وأصحابه، والثوري والشافعي. وخالفهم الشاميون في ذلك، قال الأوزاعي في المعراض: كلّه خرق أو لم يخرق فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأسا.
قال ابن عبد البر: هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن عمر. والمعروف عن ابن عمر ما ذكر مالك عن نافع «١»، قال: والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة حديث عدي بن حاتم وفيه: «ما أصاب بعرضه فلا يأكل فإنه وقيذ» «٢». انتهى.
قلت: والحديث في «الصحيحين» وغيرهما عن عدي قال: «قلت يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ فقال: إذا رميت المعراض فخرق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله» «٣».
فقد اعتبر صلّى الله عليه وآله وسلّم الخرق وعدمه، فالحق أنه لا يحل إلا ما خرق لا ما صدم، فلا بد من التذكية قبل الموت، وإلا كان وقيذا.
قال الشوكاني في «فتح القدير» «٤» : وأما البنادق المعروفة الآن، وهي بنادق
(١) قال مالك في «موطأه» (١/ ٤٢٢) عن نافع أنه قال: «رميت طائرين بحجر وأنا بالجرف، فأصبتهما، فأما أحدهما فمات، فطرحه عبد الله بن عمر، وأما الآخر فذهب عبد الله بن عمر يذكيه بقدم» فمات قبل أن يذكّيه، فطرحه عبد الله أيضا.
(٢) قال القرافي: «وفي الكتاب: المصيد بحجر أو بندق لا يؤكل ولو بلغ مقاتله، لأنه رضّ، وكذلك المعراض إذا أصاب بعرضه، وقال أبو حنيفة والشافعي، وكل ما جرح بحدّه أكل، كان عودا أو عصا أو رمحا، والمعراض: خشبة في رأسها زج، قال صاحب الإكمال: وقيل: سهم دون ريش، وقيل: عود رقيق الطرفين غليظ الوسط، والخذف لا يباح الرّمي به، لأن مصيدة وقيذ كالبندقية.
وعند الجمهور: لا يؤكل ما أصاب المعراض بعرضه خلافا لأهل الشام، ولا مصيد البندقية خلافا للشافعية وجماعة، فظاهر كلامه: تحريم الرّمي بالبندق ابتداء وإن ذكى مرميه، وبه قال الشافعي خلافا لابن حنبل، ولا ينبغي خلاف في إباحة الرّمي به السباع الصوائل والعدو المحارب.. (الذخيرة ٤/ ١٧٤، ١٧٥) ط دار الغرب الإسلامي- بيروت.
وانظر القرطبي (٦/ ٤٩، ٥٠)، والروضة (٣/ ٢٤٣). والقوانين الفقهية (١٨٨)، والهداية (٤/ ١٥٥٠)، تكملة فتح القدير (٩/ ٤٩٥) والوسيط للغزالي (٧/ ١١٢، ١١٣).
والبندقة هي: طينة مدوّرة يرمى بها ويقال لها: الجلامق.
(٣) حديث صحيح: رواه البخاري (٩/ ٥٩٩) (١٣/ ٣٧٩)، ومسلم (١٣/ ٧٦، ٧٧)، والترمذي (١٤٦٥)، والنسائي (٧/ ١٨٠، ١٨١)، وابن ماجة (٥/ ٣٢)، وأحمد في «المسند»
(٤/ ٢٥٨، ٣٧٧، ٣٨٠) عن عدي بن حاتم مرفوعا.
(٤) انظره في (٢/ ٩).
234
الحديد، التي يجعل فيها [البارود] «١» والرصاص، ويرمى بها، فلم يتكلم عليها أهل العلم لتأخر حدوثها، فإنها لم تصل إلى الديار اليمنية، إلا في المائة العاشرة من الهجرة، وقد سألني جماعة من أهل العلم عن الصيد بها إذا مات، ولم يتمكن الصائد من تذكيته حيا؟ والذي يظهر لي أنه حلال، لأنها تخرق وتدخل- في الغالب- من جانب منه، وتخرج من الجانب الآخر.
وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحديث الصحيح السابق: «إذا رميت بالمعراض فخرق فكله» «٢»، فاعتبر الخرق في تحليل الصيد. انتهى.
قلت: وقد سبقه إلى ذلك السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير حيث قال في «سبل السلام شرح بلوغ المرام» «٣» : قلت: وأما البنادق [المعروفة] «٤» الآن فإنها ترمي بالرصاص، فيخرج وقد صهرته نار البارود كالميل، فيقتل بحده لا بصدمه، فالظاهر حل ما قتله. انتهى.
وتعقبه ولده العلامة السيد عبد الله محمد الأمير وقال: هذا وهم من والدي- قدس الله تعالى روحه- فإن الرصاص لا يذوب أصلا، إنما تدفعه نار البارود، فيصيب بصدمة، يعرف هذا كل من يعرف البنادق المذكورة، والله أعلم. انتهى.
أقول: التحقيق أن النار تدفع الرصاص أولا، فيصيب الصيد، ثم يخرق الرصاص الصيد، فيموت الصيد بخرقه. فيكون حلالا كما احتج به الشوكاني. والله أعلم.
وَالْمُتَرَدِّيَةُ: هي التي [تتردى] «٥» من علو إلى أسفل، فتموت من غير فرق، بين أن تتردى من جبل، أو بئر، أو مدفن، أو غيرها.
والتردي مأخوذ من الردى وهو الهلاك، وسواء تردت بنفسها أو ردّاها غيرها «٦».
وَالنَّطِيحَةُ هي فعلية بمعنى مفعولة، وهي التي تنطحها أخرى فتموت من دون تذكية. وقال قوم إنها فعلية بمعنى فاعلة لأن الدابتين تتناطحان فتموتان. وقال:
(١) ما بين [] البارد وهو خطأ والصواب ما أثبت كما في «فتح القدير» (٢/ ٩).
(٢) تقدّم آنفا.
(٣) انظره في (٤/ ٨٥) للصنعاني.
(٤) في «المطبوعة (المعرفة) وهو خطأ والتصويب من سبل السّلام (٤/ ٨٥). [.....]
(٥) ما بين [] حرّف في «المطبوعة»
إلى تردى وهو خطأ والتصويب من فتح القدير (٢/ ٩).
(٦) انظر: الطبري (٦/ ٤٥)، وابن كثير (٢/ ١٠)، وزاد المسير (٢/ ٢٨٠).
235
نطيحة ولم يقل نطيح، مع أنه قياس فعيل لأن لزوم الحذف مختص بما كان من هذا الباب، صفة لموصوف مذكور، فإن لم يذكر ثبتت التاء للنقل من الوصفية إلا الاسمية.
وقرأ أبو ميسرة: والمنطوحة «١».
وَما أَكَلَ السَّبُعُ: أي وحرم ما افترسه ذو ناب، كالأسد والنمر والذئب والضبع ونحوها. والمراد هنا ما أكل منه السبع، لأن ما أكله السبع كله قد فني، ومن العرب من يخص اسم السبع بالأسد، وكانت العرب إذا أكل السبع الشاة، ثم خلصوها منه أكلوها، وإن ماتت ولم يذكوها.
إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ في محل نصب على الاستثناء المتصل عند الجمهور، وهو راجع على ما أدركت ذكاته من المذكورات سابقا وفيه حياة.
وقال المدنيون: وهو المشهور من مذهب مالك، وهو أحد قولي الشافعي: إنه إذا بلغ السّبع منها إلى ما لا حياة معه، فإنها لا تؤكل. وحكاه في «الموطأ» «٢» عن زيد بن ثابت، وإليه ذهب إسماعيل القاضي، فيكون الاستثناء على هذا القول منقطعا أي حرمت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكيتم فهو الذي يحل ولا يحرم. والأول أولى.
والذكاة في كلام العرب: الذبح. قاله قطرب وغيره. وأصل الذكاة في اللغة:
التمام، أي تمام استكمال القوة.
والذكاء: حدة القلب، وسرعة الفطنة.
(١) انظر: الطبري (٦/ ٤٦)، زاد المسير (٢/ ٢٨٠)، ابن كثير (٢/ ١٠)، ابن عطية (٤/ ٣٣٧).
(٢) انظر: الموطأ (١/ ٣٩٩) وما بعدها.
وقال اللخمي: المنخنقة والموقوذة، بالذّال المعجمة، وهي التي تضرب حتى تموت، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، ما مات منها فحام، وما لو ترك لعاش يذكى، وغير المرجو، والذي حدث به في مواضع الذكاة لم تؤكل، وفي غيره يذكى ويؤكل عند مالك.
قال ابن القاسم: ولو انتثرت الحشوة، لأن قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ بعد ذكر هذه الأقسام، استثناء متصل، لأنه الأصل، وقيل: لا يؤكل لأنه منقطع أي من غيرهن، لأنه لولا ذلك لكان قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ يغني عنه.
وفي الجواهر: منع أبو الوليد جريان الخلاف الذي ذكره اللخمي إذا كان المقتل في غير محل الذكاة، وقال: المذهب كله على المنع، وإنما الخلاف إذا بلغت الناس بغير إصابة مقتل...
وانظر: الذخيرة للقرافي (٤/ ١٢٨، ١٢٩)، والوسيط في مذهب الشافعية للغزالي (٧/ ١٠٧، ١٠٨، ١١٣).
236
والذكاة: ما تذكى به النار، ومنه أذكيت الحرب والنار أوقدتهما.
وذكاء: اسم الشمس.
والمراد هنا إلا ما أدركتم ذكاته على التمام.
والتذكية في الشرع: عبارة عن انهمار الدم، وفري الأوداج في المذبوح، والنحر في المنحور، والعقر في غير المقدور، مقرونا بالقصد لله، وذكر اسمه عليه.
وأما الآلة التي تقع بها الذكاة، فذهب الجمهور إلى أن كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج، فهو آلة للذكاة، ما خلا السن والعظم، وبهذا جاءت الأحاديث الصحيحة «١».
وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ: قال ابن فارس: النصب: حجر كان ينصب فيعبد، وتصب عليه دماء الذبائح.
والنصائب: حجارة تنصب حوالي شفير البئر [فتجعل] «٢» عضائد «٣»، وقيل:
النصب جمع واحده نصاب، كحمار وحمر، قرأ طلحة [ابن مصرف] : بضم النون وسكون الصاد. وروي عن أبي عمرو: بفتح النون وسكون الصاد. وقرأ الجحدري:
بفتح النون والصاد، جعله اسما موحدا كالجبل والجمل، والجمع أنصاب كالأجبال والأجمال.
قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة، يذبحون عليها «٤».
قال ابن جرير: كانت العرب تذبح بمكة، وتنضح بالدم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللحم، ويضعونه على الحجارة، فلما جاء الإسلام، قال المسلمون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال فأنزل الله: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ «٥».
والمعنى: والنية بذلك تعظيم النصب لأن الذبح عليها غير جائز. ولهذا قيل: إن
(١) حديث صحيح: رواه البخاري (٩/ ٦٢٣، ٦٢٤، ٦٣٣)، ومسلم (١٣/ ١٢٢، ١٢٥)، عن رافع بن خديج مرفوعا.
(٢) حرف في «المطبوعة» إلى (فتجد) وهو خطأ والتصويب من مجمل اللغة لابن فارس [نصب]، وكذلك فتح القدير (٢/ ١٠).
(٣) جمع عضد وهو الحوض والطريق [اللسان].
(٤) انظر: الطبري (٦/ ٤٦). وابن عطية (٤/ ٣٤٠).
(٥) وهذا قول ابن جرير كما في «جامعه» (٦/ ٤٦، ٤٧).
237
على بمعنى اللام، أي: لأجلها. قاله قطرب، وهو على هذا داخل في غير ما أهلّ به لغير الله، وخص بالذكر لتأكيد تحريمه، ولدفع ما كانوا يظنونه من أن ذلك لتشريف البيت وتعظيمه، وقيل: معناه ما قصد بذبحه تعظيم النصب، وإن لم يذكر اسمها عنده، فليس مكررا مع ما سبق، إذ ذاك فيما ذكر عند ذبحه اسم الصنم مثلا. فتأمل.
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا: معطوف على ما قبله، أي وحرم عليكم الاستقسام.
بِالْأَزْلامِ وهي: قداح الميسر، واحدها زلم.
والأزلام للعرب ثلاثة أنواع:
أحدها: مكتوب فيه أفعل.
والآخر: مكتوب لا تفعل.
والثالث: مهمل لا شيء عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده- وهي متشابهة- فأخرج واحدا منها، فإن خرج الأول فعل ما عزم عليه، وإن خرج الثاني تركه، وإن خرج الثالث، أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين.
قال الزجاج: لا فرق بين هذا وبين قول المنجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا واخرج لطلوع نجم كذا، وإنما قيل لهذا الفعل: استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون فعله، كما يقال استسقى أي استدعى السقيا.
فالاستقسام: طلب القسم والنصيب.
وجملة قداح الميسر عشرة، وكانوا يضربون بها في المقامرة.
وقيل: إن الأزلام: كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها، وقيل: هي الشطرنج.
وإنما حرم الله الاستقسام بالأزلام لأنه تعرض لدعوى علم الغيب، وضرب من الكهانة «١».
ذلِكُمْ فِسْقٌ: إشارة إلى الاستقسام بالأزلام، أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا.
والفسق: الخروج عن الحد، وهذا وعيد شديد لأن الفسق هو أشد الكفر! لا ما
(١) انظر أقوال أهل التفسير في «الطبري» (٦/ ٥٠)، وابن كثير (٢/ ١١)، والقرطبي (٦/ ٦٣)، وابن عطية (٤/ ٣٤٥)، وزاد المسير (٢/ ٢٩١).
238
وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة بين الإيمان والكفر «١».
قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ: هذا متصل بذكر المحرمات، وما بينهما اعتراض وقع بين الكلامين للتأكيد، فإن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل، أي من دعته الضرورة.
فِي مَخْمَصَةٍ: أي مجاعة، إلى أكل الميتة وما بعدها من المحرمات.
والخمص: ضمور البطن، ورجل خميص وخمصان، وامرأة خميصة وخمصانة، ومنه أخمص القدم. ويستعمل كثيرا في الجوع.
غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ الجنف: الميل.
والإثم: الحرام، أي حال كون المضطر في مخمصة غير مائل لإثم، وهو بمعنى غير باغ ولا عاد. وكل مائل فهو متجانف وجنف.
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ له رَحِيمٌ (٣) به، لا يؤاخذه بما ألجأته إليه الضرورة في الجوع، مع عدم ميله بأكل ما حرم عليه إلى الإثم بأن يكون باغيا على غيره، أو متعديا لما دعت إليه الضرورة «٢».
[الآية الرابعة] يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤).
قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ: هي ما يستلذ أكله، ويستطيبه أصحاب الطبائع السليمة، مما أحله الله لعباده، أو لم يرد نصّ بتحريمه. وقيل: هي الحلال، وقيل: الطيبات الذبائح لأنها طابت بالتذكية، وهو تخصيص للعام بغير مخصص، والسبب والسياق لا يصلحان لذلك.
وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ: معطوف على الطيبات، بتقدير مضاف لتصحيح
(١) أرباب هذا القول هم المعتزلة وانظر: «التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع»، للملطي (ص ٥٠) وما بعدها.
(٢) انظر: المحرر الوجيز (٤/ ٣٤٩)، والقرطبي (٦/ ٦٤، ٦٥)، فتح القدير (٢/ ١١).
239
المعنى، أي أحل لكم صيد ما علّمتم من أمر الجوارح والصيد بها.
قال القرطبي «١» : قد ذكر بعض من صنف في أحكام [القرآن] «٢» : أن الآية تدل على أن الإباحة تناولت ما علّمنا من الجوارح، وهو [ينتظم] «٣» الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع، فدل على جواز بيع الكلب، والجوارح، والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع، إلا ما خصه الدليل، وهو الأكل من الجوارح: أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير.
قال «٤» : وأجمعت الأمة، على أن الكلب- إذا لم يكن أسود، وعلّمه مسلم، ولم يأكل من صيده الذي صاده، أو أثّر فيه بجرح، أو تنييب، وصاد به مسلم، وذكر الله عند إرساله- صيده صحيح، يؤكل بلا خلاف. فإن انخرم، شرط من هذه الشروط دخل الخلاف، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه، وكالبازي والصقر ونحوهما في الطير، فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب.
يقال: جرح فلان واجترح، إذا اكتسب، ومنه الجارحة لأنه يكتسب بها، ومنه قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: ٦٠]، وقوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
[الجاثية: ٢١].
مُكَلِّبِينَ: حال، والمكلب: معلّم الكلاب كيفية الاصطياد. وخص معلم الكلاب، وإن كان معلم سائر الجوارح مثله، لأن الاصطياد بالكلاب هو الغالب. ولم يكتف بقوله: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ- مع أن [التكليب] «٥» هو التعليم- لقصد التأكيد لما لا بد منه من التعليم. وقيل إن السبع يسمى كلبا، فيدخل كل سبع يصاد به، وقيل:
إن هذه الآية خاصة بالكلاب.
وقد حكى ابن المنذر عن ابن عمر أنه قال: ما يصاد بالبزاة وغيرها من الطير، فما أدركت ذكاته فهو حلال، وإلا فلا تطعمه «٦».
(١) انظر في «تفسيره» (٦/ ٦٦).
(٢) حرّف إلى بقرآن وهو خطأ واضح. [.....]
(٣) حرّفت إلى «انخرم» والتصويب من القرطبي.
(٤) أي القرطبي كما تقدّم.
(٥) حرّفت إلى (التكليف) وهو خطأ، والتصويب من فتح القدير (٢/ ١٣).
(٦) رواه الطبري في «جامعه» (٦/ ٦٣).
240
قال ابن المنذر: وسئل أبو جعفر عن البازي هل يحل صيده؟ قال: لا! إلا أن تدرك ذكاته.
وقال الضحاك والسدي: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ: هي الكلاب خاصة «١».
فإن كان الكلب الأسود بهيما، كره صيده الحسن وقتادة والنخعي.
وقال أحمد: ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما، وبه قال ابن راهويه «٢».
فأما عامة أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم «٣»، واحتج من منع من صيد الكلب الأسود بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «الكلب الأسود شيطان» أخرجه مسلم وغيره «٤».
والحق أنه يحل صيد كل ما يدخل تحت عموم الجوارح من غير فرق بين الكلب وغيره، وبين الأسود من الكلاب وغيره، وبين الطير وغيره.
ويؤيد هذا أن سبب نزول الآية سؤال عدي بن حاتم عن صيد البازي «٥».
(١) روى هذين القولين الطبري في «تفسيره» (٦/ ٦٣)، والبغوي في «معالم التنزيل (٢/ ١٢)، وذكره ابن كثير نحوه عن ابن عباس (٢/ ١٥) أيضا.
(٢) قال في «المقنع»
: إلا الكلب الأسود البهيم، فلا يباح صيده. وقال ابن قدامة في «الشرح الكبير» والبهيم الذي لا يخالط لونه لون أسود.
قال أحمد: الذي ليس فيه بياض، وقال المرداوي في «الإنصاف» : لو كان بين عينيه نكتتان تخالفان لونه، لم يخرج بهما عن البهيم وأحكامه، وانظر: المقنع، الشرح الكبير، الإنصاف (٢٧/ ٣٨٦، ٣٨٧) ط. دار هجر.
(٣) انظر: الذخيرة للقرافي (٤/ ١٧٢) ط. دار الغرب. والهداية للمرغيناني (٤/ ١٥٣٩)، الوسيط للغزالي (٧/ ١٠٨، ١٠٩).
(٤) حديث صحيح: رواه مسلم (١٠/ ٢٣٦)، وأبو داود (٢٨٤٦). وأحمد في «المسند» (٣/ ٣٣٣) عن جابر مرفوعا.
ورواه مسلم (٤/ ٢٢٦، ٢٢٧)، وأبو داود (٧٠٢) والترمذي (٣٣٨) والنسائي (٢/ ٦٣، ٦٤)، وابن ماجة (٩٥٢)، وأحمد في «المسند» (٥/ ١٤٩، ١٦١) عن عبد الله بن الصامت مرفوعا نحوه.
ورواه البخاري (٦/ ٣٦٠)، ومسلم (١٠/ ٢٣٤، ٢٣٦) بنحوه عن ابن عمر مرفوعا.
(٥) انظر: زاد المسير (٢/ ٢٩٢)، ابن عطية (٤/ ٣٥٤، ٣٥٥).
ولفظ «البازي» لم يرد في هذا الحديث الذي في «الصحيحين» عن عدي بن حاتم.
وإنما ورد عند أبي داود (٢٨٥١)، والترمذي (١٤٦٧) وأحمد في «المسند» (٤/ ٢٥٧)، والبيهقي (٩/ ٢٣٨). وقال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مجالد عن الشعبي.
241
تُعَلِّمُونَهُنَّ: أي تؤدبونهن. والجملة في محل نصب على الحال.
مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ: أي مما أدركتموه بما خلقه فيكم من العقل، الذي تهتدون به إلى تعليمها وتدريبها، حتى تصير قابلة لإمساك الصيد لكم عند إرسالكم له.
فَكُلُوا: الفاء للتفريع، والجملة متفرعة على ما تقدم من تحليل صيد ما علّموه من الجوارح، و (من) في قوله: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ للتبعيض، لأن بعض الصيد لا يؤكل، كالجلد والعظم، وما أكله الكلب ونحوه.
وفيه دليل على أنه لا بد أن يمسكه على صاحبه، فإن أكل منه فإنما أمسكه على نفسه، كما في الحديث الصحيح «١».
وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يحل أكل الصيد الذي يقصده الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال.
وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي- وهو مروي عن سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعبد الله بن عمر، وروي عن علي وابن عباس والحسن البصري والزهري وربيعة ومالك والشافعي في القديم- إنه يؤكل صيده «٢».
ويرد عليهم قوله تعالى: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك»، وهو في الصحيحين وغيرهما «٣».
وفي لفظ لهما: «فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» «٤».
وأما ما أخرجه أبو داود بإسناد جيد من حديث أبي ثعلبة قال: قال رسول
وقال البيهقي: ذكر البازي في هذه الرواية لم يأت به الحفّاظ الذين قدمنا ذكرهم عن الشعبي، وإنما أتى به مجالد. والله أعلم.
ومجالد قال عنه الحافظ: «ليس بالقوي، وقد تغيّر في آخر عمره».
(١) هو حديث عدي المتقدّم ذكره وتخريجه.
(٢) انظر: تفسير الطبري (٦/ ٦٣)، وابن الجوزي (٢/ ٢٩٢)، والمغني (١٣/ ٢٦٣)، والمقنع والشرح الكبير، والإنصاف معا (٢٧/ ٣٨٩، ٣٩١)، والوسيط للغزالي (٧/ ١١٥)، والروضة (٣/ ٢٤٩)، والمنهاج (ص ١٤١).
(٣) سبق تخريجه.
(٤) حديث صحيح: رواه البخاري (٩/ ٦٠٣)، ومسلم (١٣/ ٧٦) عن عدي بن حاتم، وتقدّم. [.....]
242
الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه» «١».
وقد أخرجه أيضا بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأخرجه أيضا النسائي.
فقد جمع بعض الشافعية بين هذه الأحاديث: بأنه إن أكل عقب ما أمسك، فإنه يحرم، لحديث عدي بن حاتم وإن أمسكه ثم انتظر صاحبه، فطال عليه الانتظار، وجاع فأكل من الصيد لجوعه- لا لكونه أمسكه على نفسه- فإنه لا يؤثر ذلك ولا يحرم به الصيد. وهذا جمع حسن «٢».
وقال آخرون: إنه إذا أكل الكلب منه حرم، لحديث عدي، وإن أكل غيره لم يحرم للحديثين الآخرين.
وقيل يحمل حديث [أبي] «٣» ثعلبة على ما إذا أمسكه وخلاه ثم عاد فأكل منه. وقد سلك كثير من أهل العلم طريق الترجيح، ولم يسلكوا طريق الجمع، لما فيها من البعد.
قالوا: وحديث عدي بن حاتم أرجح لكونه في «الصحيحين». وقد قرر الشوكاني هذا المسلك في «شرح المنتقى» «٤» بما يزيد الناظر فيه بصيرة.
وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضمير في عليه يعود إلى وَما عَلَّمْتُمْ، أي سموا عليه عند إرساله أو [لما] «٥» أمسكن عليكم: أي سموا عليه إذا أردتم ذكاته.
وقد ذهب الجمهور إلى وجوب التسمية عند إرسال الجارح، واستدلوا بهذه الآية، ويؤيده حديث عدي بن حاتم الثابت في «الصحيحين» وغيرهما بلفظ: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله» «٦».
وقال بعض أهل العلم: إن المراد التسمية عند الأكل. قال
(١) إسناده ضعيف: رواه أبو داود (٢٨٥٢، ٢٨٥٧)، والبيهقي (٩/ ٢٣٧، ٢٣٨)، والدارقطني (٤/ ٢٩٣، ٢٩٤)، عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا بنحوه.
وضعّفه الألباني في «ضعيف أبي داود» (٦١١). فانظر كلامه فيه.
(٢) يردّ ذلك نكار الأحاديث التي وردت في ذكر أكل من الصيد والله أعلم.
(٣) صحف إلى (ابن) وهو خطأ ظاهر.
(٤) انظر: نيل الأوطار (٩/ ٧٢٦).
(٥) حرفت إلى «لم» والصواب ما أثبت وكما في فتح القدير (٢/ ١٤).
(٦) تقدّم تخريجه.
243
القرطبي «١» : وهو الأظهر.
واستدلوا بالأحاديث التي فيها الإرشاد إلى التسمية، وهذا خطأ فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد وقّت التسمية بإرسال الكلب، وإرسال السهم، ومشروعية التسمية عند الأكل حكم آخر، ومسألة غير هذه المسألة، فلا وجه لحمل ما ورد في الكتاب والسنة هنا، على ما ورد في التسمية عند الأكل، ولا ملجىء إلى ذلك.
وفي لفظ في «الصحيحين» من حديث عدي: «إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فكل» «٢». وقد ذهب جماعة إلى أن التسمية شرط، وذهب آخرون إلى أنها سنة فقط، وذهب جماعة إلى أنها شرط على الذاكر لا الناسي. وهذا أقوى الأقوال وأرجحها «٣».
[الآية الخامسة] الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥).
الْيَوْمَ: المراد بهذا اليوم والمذكورين قبله وقت واحد، وإنما كرّر للتأكيد، ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حسن تكريره، كذا قال أبو السعود. وقيل: أشار بذكر اليوم إلى وقت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
كما تقول: هذه أيام فلان.
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ: هذه الجملة مؤكدة للجملة الأولى وهي قوله: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ، وقد تقدم بيان الطيبات.
(١) انظره في «تفسيره» (٦/ ٧٤).
(٢) البخاري (٩/ ٦١٢)، ومسلم (١٣/ ٧٦).
(٣) انظر: تفسير ابن عطية (٤/ ٣٥٦)، القرطبي (٦/ ٧٤)، الذخيرة للقرافي (٤/ ١٣٤)، والهداية للمرغيناني (٤/ ١٤٤٦، ١٤٤٧)، ونصب الراية للزيلعي (٤/ ١٨٢)، إعلام الموقعين (٢/ ١٥٤، ١٥٥).
244
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ: الطعام اسم لكل ما يؤكل، ومنه الذبائح، وذهب أكثر أهل العلم إلى تخصيصه هنا بالذبائح «١»، وفي هذه الآية دليل على أن جميع طعام أهل الكتاب- من غير فرق بين اللحم وغيره- حلال للمسلمين، وإن كانوا لا يذكرون على ذبائحهم اسم الله، فتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: ١٢١]. وظاهر هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال، وإن ذكر اليهودي على ذبيحته اسم عزيز، وذكر النصراني على ذبيحته اسم المسيح. وإليه ذهب أبو الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس والزهري وربيعة والشعبي ومكحول «٢».
وقال عليّ وعائشة وابن عمر: إذا سمعت الكتابي يسمي على الذبيحة اسم غير الله فلا تأكل.
وهو قول طاووس والحسن «٣»، وتمسكوا بقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: ١٢١]. وقوله تعالى: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ [المائدة: ٣].
وقال مالك: إنه يكره ولا يحرم «٤».
فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله، وأما مع عدم العلم، فقد حكى الطبري وابن كثير الإجماع على حلها لهذه الآية «٥».
ولما ورد في السنة من أكله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية.
وكذلك جراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر وعلم بذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهما في «الصحيح» وغير ذلك.
والمراد بأهل الكتاب هنا: اليهودي والنصارى.
وأما المجوس فذهب الجمهور إلى أنها لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، لأنهم ليسوا بأهل الكتاب على المشهور عند أهل العلم «٦».
(١) انظر: الطبري (٦/ ٦٦)، وابن كثير (٢/ ١٩).
(٢) انظر: زاد المسير (٢/ ٢/ ٢٩٥)، الطبري (٦/ ٦٦)، ابن كثير (٢/ ١٩)، المحرر الوجيز لابن عطية (٤/ ٣٥٧، ٣٥٩).
(٣) انظر: الطبري (٦/ ٦٦، ٦٧)، ابن كثير (٢/ ٢١)، ابن عطية (٤/ ٣٥٩) ط. الدّوحة.
(٤) انظر: الذخيرة للقرافي المالكي (٤/ ١٧٠).
(٥) انظر: المصادر السابقة. [.....]
(٦) انظر: الوسيط للغزالي (٧/ ١٠١)، الروضة للنووي (٧/ ١٤٢)، والذخيرة للقرافي (٤/ ١٦٩،
245
وخالف في ذلك أبو ثور، وأنكر عليه الفقهاء ذلك، حتى قال أحمد بن حنبل: أبو ثور كاسمه! يعني في هذه المسألة «١».
وكأنه تمسك بما يروى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مرسلا، أنه قال في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ولم يثبت بهذا اللفظ «٢».
وعلى فرض أن له أصلا ففيه زيادة تدفع ما قاله. وهي قوله: «غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم» «٣» ورواه بهذه الزيادة جماعة، ممن لا خبرة لهم بفن الحديث من المفسرين والفقهاء، ولا يثبت الأصل ولا الزيادة، بل الذي ثبت في «الصحيح» أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذ الجزية من مجوس هجر «٤».
وأما بنو تغلب «٥» فكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينهى عن ذبائحهم لأنهم عرب وكان يقول: إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر «٦» !.
١٧٠)، والملل والنحل للشهرستاني في حديثه عن المجوس (١/ ٢٣٠، ٢٤٤).
(١) انظر ردّ الإمام أحمد عليه في «أحكام أهل الملل» لأبي بكر الخلّال (٤٥١، ٤٥٣). وتلخيص الحبير (٣/ ٣٥٤).
(٢) رواه مالك في «الموطأ» (٢/ ٢٣٢)، والشافعي في «الأم» (٤/ ١٨٣)، وابن أبي شيبة (٧/ ٥٨٤)، وعبد الرزاق (١٠٠٢٥)، وأبو عبيد في «الأموال» (٧٧)، والبيهقي (٩/ ١٨٩، ١٩٠) عن عمر مرفوعا.
وفي إسناده انقطاع محمد بن عليّ بن الحسين أبو جعفر الباقر رضي الله عنهم، لم يلق عبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب.
ولكن له شاهد عند الطبراني (٦٦٦٠) عن عبد الرحمن بن عوف مرفوعا.
قال الحافظ: هو منقطع إلا أن يكون الضمير في جده يعود على محمد، فجده حسين سمع منهما، لكن في سماع محمد من حسين نظر كبير، ورواه ابن أبي عاصم في كتاب النكاح بسند حسن.. عن زيد بن وهب قال: كنت عند عمر فذكر من عنده المجوس، فوثب عبد الرحمن بن عوف فقال: أشهد بالله على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لسمعه يقول: «إنما المجوس طائفة من أهل الكتاب، فاحملوهم على ما تحملون عليه أهل الكتاب». (التلخيص ٣/ ٣٥٣) ط. قرطبة- القاهرة.
وقال الزرقاني عن هذا الحديث: «هو عام أريد به الخصوص» (شرح المنتقى ٢/ ١٣٩).
(٣) إسناده ضعيف: ورواه ابن أبي شيبة (١٢/ ٢٤٢)، (٩١/ ١٢٦)، (١٢/ ٢٤٩)، (١٢٧٠٦) والبيهقي (٩/ ١٩٢، ٢٨٥).
وأورده الحافظ في «التلخيص» (٣/ ٣٥٤) وقال: وهو مرسل، وفي إسناده قيس بن الربيع وهو ضعيف، قال البيهقي: وإجماع أكثر المسلمين عليه يؤكده.
(٤) حديث صحيح: رواه البخاري (٦/ ٢٥٧)، عن عبد الرحمن بن عوف.
(٥) تسكن بلاد تغلب بالجزيرة الفراتية، وتعرف بديار ربيعة (معجم قبائل العرب) لكحالة (١/ ١٢٠).
(٦) حديث صحيح: رواه الشافعي في «الأم» (٢/ ٢٥٤)، (٤/ ٣٠٠)، وعبد الرزاق في «المصنف»
246
وهكذا سائر العرب المتنصرة كتنوخ، وجذام، ولخم، وعاملة، ومن أشبههم «١».
قال ابن كثير «٢» : وهو قول غير واحد من السلف والخلف.
وروي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب «٣».
وقال القرطبي «٤» : قال جمهور الأمة: إن ذبيحة كل نصراني حلال، سواء كان من بني تغلب أو من غيرهم، وكذلك اليهود.
وقال «٥» : ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة، كالطعام يجوز أكله مطلقا.
وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ: أي وطعام المسلمين حلال لأهل الكتاب. وفيه دليل على أنه يجوز للمسلمين أن يطعموا أهل الكتاب من ذبائحهم، وهذا من باب المكافأة والمجازاة، وإخبار للمسلمين بأن ما يأخذونه من أعواض الطعام حلال لهم بطريق الدلالة الالتزامية.
وَالْمُحْصَناتُ: مبتدأ، واختلف في تفسيرهن هنا: فقيل: العفائف، وقيل الحرائر «٦».
وقرأ الشعبي بكسر الصاد، وبه قرأ الكسائي. وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في البقرة والنساء «٧».
(٨٥٧٠)، والبيهقي في «الكبرى» (٩/ ٢٨٤).
وصححه الحافظ في «فتح الباري» (٩/ ٦٣٧).
(١) انظر: أحكام أهل الذمة (١/ ١٣٦).
(٢) انظره في «تفسيره» (٢/ ٢١).
(٣) انظر: الطبري (٦/ ٦٦)، وزاد المسير (٢/ ٢٩٦).
(٤) انظره في «تفسيره» (٦/ ٧٦، ٧٨).
(٥) أي القرطبي (٦/ ٧٨). [.....]
(٦) انظر: الطبري (٦/ ٦٦)، النكت (١/ ٤٤٩).
(٧) انظر: معاني القراءات للأزهري (ص ١٢٣)، وقال: «وأجمع القراء على فتح الصّاد من قوله جل وعز: «والمحصنات من النساء لأن معناهن أنهن أحصنّ بالأزواج».
وقد تقدم الكلام عليه في سورة البقرة (١٧٣)، والنساء (٢٤).
247
وقوله: مِنَ الْمُؤْمِناتِ: وصف له، والخبر محذوف، أي حل لكم، وذكرهن هنا توطئة وتمهيدا لقوله:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ: المراد بهن الحرائر دون الإماء، هكذا قال الجمهور.
وحكى ابن جرير «١» عن طائفة من السلف: أن هذه الآية تعم كل كتابية حرة أو أمة.
وقيل: المراد بأهل الكتاب الإسرائيليات وبه قال الشافعي وهذا تخصيص بغير مخصص.
وقال عبد الله بن عمر: لا تحل النصرانية قال: ولا أعلم شركا أكبر من أن تقول:
ربها عيسى! وقد قال الله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ... الآية [البقرة: ٢٢١].
ويجاب عنه بأن هذه الآية مخصصة للكتابيات من عموم المشركات، فيبنى العام على الخاص، وقد استدل من حرم نكاح الإماء الكتابيات بهذه الآية، لأنه حملها على الحرائر، ولقوله تعالى: فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [النساء: ٢٥].
وقد ذهب إلى هذه كثير من أهل العلم، وخالفهم من قال: إن الآية تعم أو تخص العفائف، كما تقدم.
والحاصل: أنه يدخل تحت هذه الآية الحرة العفيفة من الكتابيات على جميع الأقوال، إلا على قول ابن عمر في النصرانية، ويدخل تحتها الحرة التي ليست بعفيفة، والأمة العفيفة، على قول من يقول إنه يجوز استعمال المشرك في كلا معنييه.
وأما من لم يجوّز ذلك فإن حمل المحصنات هنا على الحرائر، لم يقل بجواز نكاح الأمة عفيفة كانت أو غير عفيفة إلا بدليل آخر، ويقول بجواز نكاح الحرة عفيفة كانت أو غير عفيفة، وإن حمل المحصنات هنا على العفائف، قال بجواز نكاح الحرة العفيفة والأمة العفيفة دون غير العفيفة منها. ومذهب الإمام أبي حنيفة جواز نكاح الأمة الكتابية أخذا بعموم الآية «٢».
(١) انظر: الطبري (٦/ ١٠٥، ١٠٧).
(٢) قال الرازي: «وعلى هذا البحث وقع الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة. فعند الشافعي لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية: قال: لأنه اجتمع في حقها نوعان من النقصان: الكفر والرّق.
248
إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ: أي مهورهن، وجواب إذا محذوف، أي: فهي حلال، أو هي ظرف لخبر المحصنات المقدر، أي: حل لكم.
مُحْصِنِينَ: منصوب على الحال، أي حال كونكم أعفاء بالنكاح.
وكذا قوله: غَيْرَ مُسافِحِينَ: منصوب على الحال من الضمير في محصنين، أو صفة لمحصنين، والمعنى غير مجاهرين بالزنا.
وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ: معطوف على غير مسافحين، أو على مسافحين، ولا مزيدة للتأكيد.
والخدن: الصديق في السر يقع على الذكر والأنثى، أي ولم تتخذوا معشوقات، فقد شرط الله في الرجال العفة، وعدم المجاهرة بالزنا، وعدم اتخاذ أخدان، كما شرط في النساء أن يكن محصنات.
[الآية السادسة] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦).
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ: إذا أردتم القيام تعبيرا بالمسبب عن السبب، كما في قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: ٩٨].
وقد اختلف أهل العلم في هذا الأمر عند إرادة القيام إلى الصلاة، فقالت طائفة:
هو علم في كل قيام إليها، سواء كان القائم متطهرا أو محدثا فإنه ينبغي له إذا قام إلى
وعند أبي حنيفة يجوز، وتمسّك بهذه الآية بناء على أن المراد بالمحصنات العفائف (مفاتيح الغيب ٥/ ٥٧٧)
249
الصلاة أن يتوضأ، وهو مروي عن علي وعكرمة «١» وقال بوجوبه داود الظاهري «٢».
وقال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة «٣».
وقالت طائفة أخرى: إن هذا الأمر خاص بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو ضعيف! فإن الخطاب للمؤمنين والأمر لهم «٤».
وقالت طائفة: الأمر للندب طلبا للفضل.
وقال آخرون: الوضوء لكل صلاة كان فرضا عليهم بهذه الآية، ثم نسخ في فتح مكة «٥».
وقال جماعة: هذا الأمر خاص بمن كان محدثا.
وقال آخرون: المراد إذا قمتم من النوم إلى الصلاة، فيعم الخطاب كل قائم من النوم «٦».
وقد أخرج مسلم وأحمد وأهل «السنن» «٧» عن بريدة. قال: «كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح، توضأ ومسح على خفيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله؟. قال: عمدا فعلته
(١) إسناده ضعيف: رواه الدارمي في «سننه» (١/ ١٦٨)، وابن جرير في «تفسيره» (١١٣٢٣)، من طريق مسعود بن عليّ الشيباني قال: سمعت عكرمة يقول: «كان عليّ رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاة..» فذكر الحديث. وعلته: الانقطاع بين الشيباني وعكرمة.
(٢) قال داود: يجب الوضوء لكل صلاة، وقال أكثر الفقهاء: لا يجب. (مفاتيح الغيب ٥/ ٥٨٠).
(٣) إسناده ضعيف: رواه الطبري (٦/ ١١٣)، وعلته: أن محمد بن سيرين لم يرو عن أحد من الخلفاء الأربعة ولم يدركهم.
(٤) انظر: الطبري (٦/ ١١٣)، والقرطبي (٤/ ٢٠٧٧، ٢٠٧٩) ط دار الشعب.
ومما يدل على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر بالوضوء لكل صلاة، فلما شق الأمر أمر بالسواك عند كل صلاة. رواه أبو داود (٤٨)، وأحمد (٥/ ٢٢٥)، والدارمي (١/ ١٦٨، ١٦٩) والحاكم (١/ ١٥٥، ١٥٦)، عن ابن عمر مرفوعا. وصححه ووافقه الذهبي.
قلت: في إسناده محمد ابن إسحاق، وقد صرّح بالتحديث، فحديثه حينئذ حسن.
(٥) انظر: مفاتيح الغيب (٥/ ٥٨٢)، القرطبي (٤/ ٢٠٧٨) ط دار الشعب، والطبري (٦/ ١١٢).
(٦) انظر: المصادر السابقة.
(٧) حديث صحيح: رواه مسلم (٧٧)، وأبو داود (١٧٢)، والترمذي (٦١)، والنسائي (١/ ١٦)، وابن ماجة (٥١٠)، وأحمد (٥/ ٣٥٠، ٣٥١، ٣٥٨)، والدارمي (١/ ١٦٩)، وابن حبان (١٧٠٦، ١٧٠٧، ١٧٠٨).
250
يا عمر». وهو مروي من طرق كثيرة بألفاظ متفقة في المعنى «١».
وأخرج البخاري وأحمد وأهل «السنن» «٢» عن عمرو بن عامر الأنصاري: سمعت أنس بن مالك يقول: «كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يتوضأ عند كل صلاة. قال: قلت: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث».
فتقرر بما ذكر أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، وبه قال جمهور أهل العلم، وهو الحق.
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الوجه في اللغة: مأخوذة من المواجهة، وهو عضو مشتمل على أعضاء، وله طول وعرض، فحده في الطول: من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين، وفي العرض: من الأذن إلى الأذن.
وقد ورد الدليل بتخليل اللحية «٣».
واختلف العلماء في غسل ما استرسل، والكلام في ذلك مبسوط في مواطنه «٤».
وقد اختلف أهل العلم أيضا هل يعتبر في الغسل الدلك باليد، أم يكفي إمرار الماء؟ والخلاف في ذلك معروف والمرجع اللغة العربية فإن ثبت فيها أن الدلك داخل في مسمى الغسل كان معتبرا، وإلا فلا.
قال في «شمس العلوم» : غسل الشيء غسلا، إذا أجرى عليه الماء ودلكه.
انتهى.
وأما المضمضة والاستنشاق فإذا لم يكن لفظ الوجه يشتمل باطن الفم والأنف،
(١) انظر بعضها عند ابن حبان (١٧٠٦، ١٧٠٧، ١٧٠٨).
(٢) حديث صحيح: رواه البخاري (١/ ٣١٥)، وأبو داود (١٧١)، والترمذي (٦٠)، والنسائي (١/ ٨٥)، وابن ماجة (٥٠٩)، وأحمد في «المسند» (٣/ ١٣٢، ١٣٣، ١٥٤). [.....]
(٣) حديث صحيح: رواه أبو داود (١٤٥)، والبيهقي في «الكبرى» (١/ ٥٤) عن أنس مرفوعا.
وروي نحوه عن عمار بن ياسر في «مسند ابن أبي شيبة- بتحقيقنا- وأحمد في «العلل» (١٠٣٥) والترمذي (٢٩)، وابن ماجة (٤٢٩)، والطيالسي (٦٤٥)، والطبري (٦/ ١٢١)، والحاكم (١/ ١٤٩).
وانظر: المحلى لابن حزم (٢/ ٣٦).
وانظر: ما رواه أبو عبيد في «الطهور» في مسألة تخليل اللحية والمذاهب التي فيها (ص ٣٤٣، ٣٥٢) تحقيق الأستاذ المحقق مشهور حسن سلمان.
(٤) راجع نيل الأوطار (١/ ١٨١).
251
فقد ثبت غسلهما بالسنة الصحيحة «١»، والخلاف في الوجوب وعدمه معروف. وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في مؤلفاته ك «المختصر» و «شرحه» و «نيل الأوطار» «٢».
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ: إلى الغاية. وأما كون ما بعدها يدخل فيما قبلها فمحل خلاف، وقد ذهب سيبويه وجماعة إلى أن ما بعدها إن كان من نوع ما قبلها دخل وإلا فلا. وقيل: إنها هنا بمعنى مع. وذهب قوم إلى أنها تفيد الغاية مطلقا، وأما الدخول وعدمه فأمر يدور مع الدليل.
وقد ذهب الجمهور أن المرافق تغسل، واستدلوا بما أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جده عن جابر بن عبد الله قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه». ولكن القاسم هذا متروك، وجده ضعيف «٣».
وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ: قيل الباء زائدة، والمعنى امسحوا رؤوسكم وذلك يقتضي تعميم المسح لجميع الرأس، وقيل: هي للتبعيض، وذلك يقتضي أنه يجزىء مسح بعضه.
واستدل القائلون بالتبعيض بقوله تعالى في التيمم فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ [النساء: ٤٣] ولا يجزىء مسح بعض الوجه اتفاقا، وقيل: إنها للإلصاق، أي ألصقوا أيديكم برؤوسكم، وعلى كل حال فقد ورد في السنة المطهرة ما يفيد أنه يكفي مسح بعض الرأس، كما أوضح الشوكاني ذلك في مؤلفاته «٤»، فكان هذا دليلا على المطلوب غير محتمل كاحتمال الآية، على فرض أنها محتملة، ولا شك أن من أمر غيره أن يمسح
(١) منها: ما رواه أبو داود (١٤٤)، عن لقيط بن صبرة.
وما رواه البخاري (١/ ٢٦٣) ومسلم، (٢٣٧) عن أبي هريرة مرفوعا.
وانظر: فتح الباري للحافظ (١/ ٢٦٢) فإن فيه فوائد.
(٢) انظره في (١/ ١٧١، ١٨١)، وكذلك السيل الجرّار (١/ ٨١، ٨٢).
(٣) رواه الدارقطني في «سننه» (١/ ٨٣)، والبيهقي في «الكبرى» (١/ ٥٦).
(٤) ذكر الشوكاني الاختلاف في المسألة ثم قال: وبعد هذا فلا شك في أولوية استيعاب المسح لجميع الرأس وصحة أحاديث ولكن دون الجزم بالوجوب مفاوز وعقبات اه. وانظر: نيل الأوطار (١/ ١٥٥، ١٥٧).
وقال المصنف في «الروضة الندية» :«والسنة الصحيحة وردت بالبيان، وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات». (١/ ٣٧، ٣٨).
252
رأسه كان ممتثلا بفعل ما يصدق عليه مسمى المسح وليس في لغة العرب ما يقتضي أنه لا بد في مثل هذا الفعل من مسح جميع الرأس، وهكذا سائر الأفعال المتعدية نحو:
اضرب زيدا أو أطعنه. فإنه يؤخذ المعنى العربي بوقوع الضرب أو الطعن على عضو من أعضائه ولا يقول قائل من أهل اللغة ومن هو عالم بها، إنه لا يكون ضاربا إلا بإيقاع الضرب على كل جزء من أجزاء زيد، وكذلك الطعن وسائر الأفعال. فاعرف هذا المعنى يتبين لك ما هو الصواب من الأقوال في مسح الرأس.
فإن قلت: يلزم مثل هذا في غسل الوجه واليدين والرجلين؟ قلت: تلزم لولا البيان من السنة في الوجه، والتحديد بالغاية في اليدين والرجلين، بخلاف الرأس، فإنه ورد في السنة مسح الكل ومسح البعض «١».
وَأَرْجُلَكُمْ: قرأ نافع بنصب الأرجل، وهي قراءة الحسن البصري والأعمش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة بالجر، فقراءة النصب تدل على أنه يجب غسل الرجلين، لأنها معطوفة على الوجوه والأيدي، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، والفصل بالممسوح بين المغسولات يفيد وجوب الترتيب في تطهير هذه الأعضاء، وعليه الشافعي.
وقراءة الجر تدل على أنه يجوز الاقتصار على مسح الأرجل، لأنها معطوفة على الرؤوس، وإليه ذهب ابن جرير الطبري، وهو مروي عن ابن عباس «٢».
(١) حديث صحيح: رواه مسلم (٢٧٤)، عن المغيرة مرفوعا قوله: «أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه».
(٢) قال الأزهري: «من قرأ (وأرجلكم) نصبا عطفه على قوله «اغسلوا وجوهكم وأيديكم» أخر ومعناه التقديم: وقد رويت هذه القراءة عن ابن عباس، وبها قرأ الشافعي، ورويت عن ابن مسعود، وهي أجود القراءتين: لموافقتها الأخبار الصحيحة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في غسل الرجلين».
ومن قرأ (وأرجلكم) عطفها على قوله «وامسحوا برؤوسكم» وبيّنت السنة أن المراد بمسح الأرجل غسلها، وذلك أن المسح في كلام العرب يكون غسلا، ويكون مسحا باليد، والأخبار جاءت بغسل الأرجل ومسح الرؤوس، ومن جعل مسح الأرجل كمسح الرؤوس خطوطا بالأصابع فقد خالف ما صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «ويل للعراقيب من النار» و «ويل للأعقاب من النار». وأخبرني أبو بكر بن عثمان عن أبي حاتم عن أبي زيد الأنصاري أنه قال: المسح عند العرب يكون غسلا، فلا بدّ من غسل الرجلين إلى الكعبين. (معاني القراءات ص ١٣٩، ١٤٠) ومادة مسح من تهذيب اللغة للأزهري.
وانظر: كفاية الأخبار للحصني رضي الله عنه (ص ٢٥) -.
253
قال داود الظاهري: يجب الجمع بين الأمرين على اقتضاء القراءتين.
وقال ابن العربي: اتفقت الأمة على وجوب غسلهما، وما علمت من ردّ ذلك إلا الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم! وتعلق الطبري بقراءة الجر! «١».
قال القرطبي «٢» : قد روي عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان «٣».
قال: وكان عكرمة يمسح رجليه، وقال: ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح «٤».
وقال عامر الشعبيّ: نزل جبرئيل بالمسح «٥».
قال: وقال قتادة: افترض الله مسحتين وغسلتين «٦».
قال «٧» : وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين، وقوّاه النحاس، ولكنه قد ثبت في السنة المطهرة بالأحاديث الصحيحة من فعله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقوله غسل الرجلين فقط «٨».
وثبت عنه أنه قال: «ويل للأعقاب من النار» وهو في «الصحيحين» «٩» وغيرهما، فأفاد وجوب غسل الرجلين، وأنه لا يجزىء مسحهما لأن شأن المسح أن يصيب ما أصاب، ويخطىء ما أخطأ، فلو كان مجزيا لما قال: «ويل للأعقاب من النار».
(١) انظر الطبري (٦/ ١٣٠).
(٢) انظره في تفسيره (٦/ ٩٢).
(٣) إسناده ضعيف: رواه ابن جرير (١١٤٧٤)، عن ابن جريح عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس فذكره، وأورده القرطبي في «تفسيره» (٦/ ٩٢).
(٤) رواه الطبري (١١٤٧٨). وأورده القرطبي (٦/ ٩٢).
(٥) إسناده حسن: رواه الطبري (١١٤٨٥).
(٦) أثر صحيح: رواه الطبري (١١٤٨٧). [.....]
(٧) أي القرطبي (٦/ ٩٢).
(٨) رواه البخاري (١/ ٢٨٩، ٢٩٤، ٢٩٧)، ومسلم (٣/ ١٢١، ١٢٣)، (٢٣٥) عن عبد الله بن زيد مرفوعا.
وفي الباب عن الإمام عليّ وابن عباس.
(٩) رواه البخاري (١/ ٢٦٥)، ومسلم (٣/ ١٢٨)، وأبو داود (٩٧)، والنسائي (١/ ٧٧)، وابن ماجة (٤٥٠)، وأحمد (٢/ ١٩٣) عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا.
254
وقد ثبت أنه قال بعد أن توضأ وغسل رجليه: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» «١».
وقد ثبت في «صحيح مسلم» «٢» وغيره أن رجلا توضأ فترك على قدمه مثل موضع الظفر فقال له: «ارجع فأحسن وضوءك».
وأما المسح على الخفين فهو ثابت بالأحاديث المتواترة «٣».
وقوله: إِلَى الْكَعْبَيْنِ: معناه معهما، كما بينت السنة، والكلام فيه كالكلام في قوله: إِلَى الْمَرافِقِ، وقد قيل في وجه جمع المرافق وتثنية الكعاب إنه لما كان في كل رجل كعبان ولم يكن في كل يد إلّا مرفق واحد لم يتوهم وجود غيره- ذكر معنى هذا ابن عطية.
وقال الكواشي «٤» : ثنى الكعبين وجمع المرافق، لنفي توهم أن في كل واحد من الرجلين كعبين، وإنما في كل واحدة كعب واحد، له طرفان من جانبي الرجل، بخلاف المرافق فهي أبعد عن الوهم. انتهى.
فهذه الفروض الأربعة في الوضوء، وبقي من فرائضه النية والتسمية، ولم يذكرا في هذه الآية، بل وردت بهما السنة «٥».
وقيل: إن في هذه الآية ما يدل على النية لأنه لما قال: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ كان تقدير الكلام فاغسلوا وجوهكم لها، وذلك هو النية المعتبرة، لا ما تعارف اليوم بين الناس، من التلفظ بعبارات مبتدعة! فقد صرح غير واحد بإنكار ذلك، وعدم وروده عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل ولا عن أحد من الصحابة وتابعيهم ومن بعدهم
(١) إسناده ضعيف: رواه ابن ماجة (٤١٩)، والدارقطني كما في «التلخيص» (١/ ٨٢، ٨٣).
(٢) حديث صحيح: رواه مسلم (٣/ ١٣١، ١٣٢)، عن جابر مرفوعا.
(٣) انظر: صحيح البخاري (١/ ٣٠٥)، ومسلم (٣/ ١٧٣).
(٤) في تفسيره وهو مخطوط بدار الكتب المصرية، ومعهد المخطوط العربية بالقاهرة، وهو تفسير جيد عظيم الفوائد البيانية، وكذا مختصره للمنصف أيضا.
(٥) أولا النية: ما رواه البخاري (١/ ٩، ١٣٥)، ومسلم (١٩٠٧) عن عمر مرفوعا.
ثانيا التسمية: رواه أحمد (٢/ ٤١٨)، وأبو داود (١٠١)، وابن ماجة (٣٩٩) عن أبي هريرة مرفوعا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه».
وانظر: فتح القدير (٢/ ١٧، ١٨).
255
من الأئمة المعتبرين رضوان الله عليهم أجمعين «١».
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً: المراد بالجنابة هي الحاصلة بدخول حشفة، أو نزول مني الاحتلام، ونحو ذلك.
فَاطَّهَّرُوا: أي فاغتسلوا بالماء.
وقد ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود إلى أن الجنب لا يتيمم البتة، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء، استدلالا بهذه الآية.
وذهب الجمهور إلى وجوب التيمم للجنابة مع عدم الماء. وهذه الآية هي للواجد، على أن التطهر هم أعمل من الحاصل بالماء، أو بما هو عوض عنه مع عدمه وهو التراب.
[وقد] «٢» صح عن عمر وابن مسعود الرجوع إلى ما قاله الجمهور، للأحاديث الصحيحة الواردة في تيمم الجنب مع عدم الماء «٣».
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ: قد قدم تفسير المرض والسفر والمجيء من الغائط في سورة النساء مستوفى، وكذلك تقدم الكلام على ملامسة النساء، وعلى التيمم وعلى الصعيد.
ومن قوله مِنْكُمْ لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض.
قيل: وجه تكرير هذا هو استيفاء الكلام في أنواع الطهارة.
ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ: أي ما يريد بأمركم بالطهارة بالماء، أو بالتراب التضييق عليكم في الدّين، ومنه قوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ
(١) وانظر في بدعيّة الجهر بالنية: زاد المعاد (١/ ٢١، ٥٧)، والإنصاف للمرداوي (١/ ٤٢١) وفتح القدير (١/ ١٨٦)، والأمر بالاتباع للسيوطي (٢٩٥).
(٢) حرّف في «المطبوعة» إلى (وقال) وهو خطأ واضح والتصويب من فتح القدير (٢/ ١٨).
(٣) منها: ما رواه البخاري (١/ ٤٤٧، ٤٤٨)، ومسلم (٥/ ١٨٩، ١٩٢) عن عمران بن حصين مرفوعا.
وانظر: القرطبي (٤/ ٢١٠٠، ٢١٠١)، ط. دار الشعب- ومفاتيح الغيب (٥/ ٥٩٨، ٥٩٩) ط. دار الغد العربي.
وانظر ما تقدم من تفسير سورة النساء عند الآية (٤٣).
256
من الذنوب والخطايا لأن الوضوء من كفارتها كما في الحديث «١».
وقيل: من الأصغر والأكبر «٢».
[الآية السابعة]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١).
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قيل: إنه لما قتل أخاه لم يدر كيف يواريه، لكونه أول ميت مات من بني آدم، فبعث الله غرابين أخوين، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم [حثا] «٣» عليه، فلما رآه قابيل قال:
يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فواراه «٤».
[الآيتان: الثامنة والتاسعة]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤).
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قد اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية،
(١) حديث صحيح: وهو عن أبي سعيد الخدري عند أحمد في «المسند» (٣/ ٣)، وابن ماجة (٤٢٧)، والدارمي (١/ ١٧٨)، والحاكم في «المستدرك» (١/ ١٩١، ١٩٢)، وصححه ووافقه الذهبي.
وبنحوه عند مسلم (٣/ ١٤١) عن أبي هريرة مرفوعا.
(٢) يقصد بذلك الذنوب منها الصغائر، ومنها الكبائر.
(٣) وقع في «المطبوعة» حتى، وهو خطأ ظاهر، والصواب ما أثبت وكما في «فتح القدير» (٢/ ٣٢). [.....]
(٤) انظر: الطبري (٦/ ١٢٠)، والنكت للماوردي (١/ ٤٥٦)، وزاد المسير (٢/ ٢٣١)، وابن كثير (٢/ ٤١)، والقرطبي (٦/ ١٣٣)، والدر المنثور (٢/ ٢٧٣).
257
فذهب الجمهور: إلى أنها نزلت في [العرنيين] «١».
وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: إنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع الطريق، ويسعى في الأرض بالفساد.
قال ابن المنذر: قول مالك صحيح.
قال أبو ثور محتجا لهذا القول: إن قوله في هذه الآية: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة: ٣٤] يدل على أنها نزلت في غير أهل الشرك، لأنهم قد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وفقوا في الدنيا، فأسلموا فإن دماءهم تحرم، فدلّ ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام. انتهى «٢».
وهكذا يدل على هذا قوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ.
وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «الإسلام يهدم ما قبله» أخرجه مسلم «٣» وغيره.
وحكى ابن جرير الطبري في «تفسيره» «٤» عن بعض أهل العلم: أن هذه الآية- أعني آية المحاربة- نسخت فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في [العرنيين] ووقف الأمر على هذه الحدود.
وروي عن محمد بن سيرين أنه قال: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، يعني فعله صلّى الله عليه وآله وسلّم [العرنيين] «٥».
وبهذا قال جماعة من أهل العلم.
وذهب جماعة آخرون إلى أن فعله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالعرنيين منسوخ فنهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن المثلة. والقائل بهذا مطالب ببيان تأخر الناسخ. والحق أن هذه الآية تعم المشرك وغيره، ممن ارتكب ما تضمنته ولا اعتبار بخصوص السبب، بل الاعتبار بعموم اللفظ «٦».
(١) صحفت في «المطبوعة» إلى (العرينين)، والتصويب من البخاري (٢/ ٣٣٥)، (٨/ ٢٧٣)، ومسلم (١١/ ١٥٣، ١٥٥).
(٢) وانظر: الطبري (٦/ ١٣٢)، النكت (١/ ٤٦١)، وزاد المسير (٢/ ٣٤٥)، القرطبي (٦/ ١٥٠)، ابن كثير (٢/ ٤٨).
(٣) حديث صحيح: رواه مسلم (٢/ ١٣٦، ١٣٩) عن عمرو بن العاص مرفوعا.
(٤) انظره في (٦/ ٢٠٩).
(٥) أثر ضعيف: رواه أبو داود (٤٣٧١)، وضعّفه الألباني كما في «ضعيف أبي داود» (٩٣٩).
(٦) انظر كلام القاضي ابن العربي في هذه المسألة (٢/ ١٨٩، ١٩١).
258
قال القرطبي في «تفسيره» «١» : ولا خلاف بين أهل العلم في أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود. انتهى.
ومعنى قوله مترتب أي ثابت.
وقيل: المراد بمحاربة الله المذكورة في الآية: هي محاربة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومحاربة المسلمين في عصره، ومن بعد عصره بطريق العبارة، دون الدلالة ودون القياس، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص حكمه بالمكلفين عند النزول، فيحتاج في تعميم الخطاب لغيرهم إلى الدليل.
وقيل: إنها جعلت محاربة الله ولرسوله، إكبارا لحربهم وتعظيما لأذيتهم لأن الله سبحانه لا يحارب ولا يغالب.
والأولى: أن تفسر محاربة الله سبحانه بمعاصيه، ومخالفة شرائعه ومحاربة الرسول تحمل على معناها الحقيقي، وحكم أمته حكمه وهم السوية.
والسعي في الأرض فسادا: يطلق على أنواع من الشر كما قدمنا قريبا.
قال ابن كثير في «تفسيره» «٢» : قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب: إن فرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال تعالى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) [البقرة: ٢٠٥]. انتهى.
إذا تقرر لك ما قررناه من عموم الآية، ومن معنى المحاربة، والسعي في الأرض فسادا، فاعلم أن ذلك يصدق على كل من وقع منه ذلك، سواء كان مسلما أو كافرا، في مصر أو غير مصر، في كل قليل وكثير وجليل وحقير، وإن حكم الله في ذلك هو ما ورد في هذه الآية من القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، ولكن لا يكون هذا حكم من فعل أي ذنب من الذنوب، بل من كان ذنبه هو التعدي على دماء العباد وأموالهم فيما عدا ما قد ورد له حكم غير هذا الحكم، من كتاب الله، أو سنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كالسرقة وما يجب فيه القصاص، لأنا نعلم أنه قد كان في زمنه صلّى الله عليه وآله وسلّم من يقع منه ذنوب ومعاصي غير ذلك، ولا يجري عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا الحكم المذكور في هذه الآية، وبهذا يعرف ضعف ما روي عن مجاهد، في تفسير المحاربة
(١) انظره في (٦/ ١٥٠).
(٢) انظره في (٢/ ٥٠).
259
المذكورة، وفي هذه الآية: أنها الزنا والسرقة «١».
ووجه ذلك، أن هذين الذنبين قد ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لهما حكم غير هذا الحكم.
وإذا عرفت ما هو الظاهر من معنى هذه الآية- على مقتضى لغة العرب، التي أمرنا بأن نفسر كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بها- فإياك أن تغترّ بشيء من التفاصيل المروية، والمذاهب المحكية، إلا أن يأتيك الدليل الموجب لتخصيص هذا العموم، أو تقييد هذا المعنى المفهوم من لغة العرب، فأنت وذاك، اعمل به وضعه في موضعه، وأما ما عداه:
فدع عنك نهبا صيح في حجراته وهات حديثا ما حديث الرواحل
على أنا سنذكر من هذه المذاهب ما تسمعه «٢» :
اعلم أنه قد اختلف العلماء في من يستحق اسم المحاربة، فقال ابن عباس وسعيد ابن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وأبو ثور: إن من شهر السلاح في قبة الإسلام وأخاف السبيل، ثم ظفر به، وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله.
وبهذا قال مالك، وصرح: بأن المحارب عنده من حمل على الناس في مصر، أو برية، أو كابرهم على أنفسهم وأموالهم، دون نائرة «٣»، ولا [ذحل] «٤»، ولا عداوة.
قال ابن المنذر: اختلف عن مالك في هذه المسألة، فأثبت المحاربة في المصر مرة، ونفى ذلك مرة.
وروي عن ابن عباس غير ما تقدم، فقال في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال، قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال، قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا
(١) رواه الطبري (١١٨٢٧)، (١١٨٢٨).
(٢) انظر: تفسير الطبري (٦/ ٢٠٦، ٢٠٧)، والقرطبي (٦/ ١٥١)، والشوكاني (٢/ ٣٥)، مفاتيح الغيب (٥/ ٦٦٥).
(٣) أي من غير هائجة.
(٤) صحفت إلى (دخل) في المطبوعة، والتصويب من فتح القدير (٢/ ٣٠)، والذحل: الثأر.
260
مالا، نفوا من الأرض «١».
وروي عن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء على اختلاف في الرواية عن بعضهم البعض، وحكاه ابن كثير عن الجمهور «٢».
وقال أيضا: وهكذا عن غير واحد من السلف والأئمة.
قال أبو حنيفة: إذا قتل قتل، وإذا أخذ المال ولم يقتل، قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه إن شاء قطع يديه ورجليه وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه.
وقال أبو يوسف: القتل يأتي على كل شيء، ونحوه قول الأوزاعي.
وقال الشافعي: إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلّي، لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالجزاء به، وإذا قتل قتل، وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب. وروي عنه أنه قال: يصلب ثلاثة أيام.
وقال أحمد: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله، كقول الشافعي «٣».
ولا أعلم لهذه التفاصيل دليلا من كتاب الله، ولا من سنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا ما رواه ابن جرير في «تفسيره»، وتفرّد بروايته فقال:
حدّثنا عليّ بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية؟ فكتب إليه يخبره: أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين- وهم من بجيلة-، قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام. قال أنس:
فسأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جبريل عن القضاء فيمن حارب؟ فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقة، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل
(١) أورده السيوطي في «الدر» (٣/ ٦٨) وعزاه للشافعي في الأم وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي. [.....]
(٢) انظر: القرطبي (٤/ ٢١٤٨، ٢١٤٩) ط. دار الشعب، والأحكام لابن العربي (٢/ ٥٩٠، ٦٠١) وابن كثير (٢/ ٥٣)، مفاتيح الغيب (٥/ ٦٦٧).
(٣) وانظر: كفاية الأخيار (ص ٤٨٨)، وجامع الأمهات (ص ٥٢٣). وغاية المطلب (ص ٤٤٦).
261
الفرج الحرام فاصلبه «١».
وهذا مع ما فيه من النكارة الشديدة لا يدرى كيف صحته.
قال ابن كثير في «تفسيره» «٢» بعد ذكره شيئا من هذه التفاصيل التي ذكرناها ما لفظه: ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في «تفسيره»، إن صحّ سنده، ثم ذكره.
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً: هو إما منتصب على المصدرية، أو على أنه مفعول له، أو على الحال بالتأويل: أي مفسدين.
أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا: ظاهره أنهم يصلبون أحياء حتى يموتوا لأنه أحد الأنواع التي خيّر الله بينها.
وقال قوم: الصلب إنما يكون بعد القتل ولا يجوز أن يصلب قبل القتل، فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب!! ويجاب بأن هذه عقوبة شرعها الله في كتابه لعباده.
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ: ظاهره قطع إحدى اليدين، وإحدى الرجلين من خلاف سواء كانت المقطوعة من اليدين هي اليمنى أو اليسرى، وكذلك الرجلان، ولا يعتبر إلا أن القطع من خلاف، إما يمنى اليدين، مع يسرى الرجلين، أو يسرى اليدين، مع يمنى الرجلين. وقيل: المراد بهذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى فقط.
أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ: اختلف المفسرون في معناه: فقال السدي: هو أن يطلب بالخيل والرجل، حتى يؤخذ ويقام عليه الحد، أو يخرج من دار الإسلام هربا «٣».
وهو محكيّ عن ابن عباس وأنس ومالك والحسن البصري والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري، حكاه [الرماني] «٤» في كتابه عنهم.
(١) إسناده ضعيف: رواه الطبري (١١٨١٦)، (١١٨٥٤) (١١٥٨) بهذا الإسناد فذكره وبنحوه.
وعلته: عبد الله ابن لهيعة، ضعّف لسوء حفظه. وكذلك يزيد بن أبي حبيب لم يسمع من أنس، بل ولا من أحد من الصحابة.
(٢) انظره في (٢/ ٥٣).
(٣) انظر: تفسير القرطبي (٦/ ١٥٢).
(٤) صحّفت إلى (الربّاني) والصحيح ما أثبت، وهو أبو الحسن الرماني المفسّر اللغوي المعتزلي له حاشية على سيبويه، وتفسير الجامع الكبير، يوجد منه جزء بمعهد المخطوطات العربية.
262
وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ويطلبون لتقام عليهم الحدود، وبه قال الليث بن سعد «١».
وروي عن مالك أن ينفى من البلد الذي أحدث فيه إلى غيره، ويحبس فيه كالزاني. ورجحه ابن جرير والقرطبي «٢».
وقال الكوفيون نفيهم سجنهم، فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها.
والظاهر من الآية أنه يطرد من الأرض التي وقع فيها ما وقع، من غير سجن ولا غيره، والنفي قد يقع لمعنى الإهلاك، وليس هو مرادا هنا.
ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا: الإشارة إلى ما سبق ذكره من الأحكام.
والخزي: الذّل والفضيحة.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) استثنى الله سبحانه التائبين، قبل القدرة عليهم، من عموم المعاقبين بالعقوبات السابقة.
والظاهر عدم الفرق بين الدماء والأموال وبين غيرها من الذنوب الموجبة للعقوبات المعينة المحدودة، فلا يطالب التائب قبل القدرة بشيء من ذلك، وعليه عمل الصحابة، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يسقط القصاص وسائر حقوق الآدميين بالتوبة قبل القدرة. والحق الأول.
وأما التوبة بعد القدرة فلا تسقط بها العقوبة المذكورة في الآية، كما يدل عليه ذكر قيد: قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا.
قال القرطبي: وأجمع أهل العلم على أن السلطان وليّ من حارب فإن قتل محارب أخا [امرأ أو أباه في حال] «٣» المحاربة فليس إلى طالب الدم من أمر المحاربة شيء، ولا يجوز عفو وليّ الدم.
(١) انظر: ترشيح المستعيدين (ص ٣٨٨).
(٢) انظر: جامع الأمهات (ص ٥٢٣)، والقرطبي (٦/ ١٥٢، ١٥٣)، والطبري (٦/ ٢١٧، ٢١٨).
(٣) وقع في «المطبوعة» [امرئ وآتاه في حال] وهو خطأ ظاهر، وصوّب من القرطبي (٦/ ١٥٦).
263

[الآية العاشرة]

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨).
لما ذكر الله سبحانه من يأخذ المال جهارا وهو المحارب، عقبه بذكر من يأخذ المال خفية، وهو السارق، فقال: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا وذكر السارقة مع السارق لزيادة البيان، لأن غالب القرآن الاقتصار على الرجال في تشريع الأحكام.
وقد اختلف أئمة النحو في خبر السارق والسارقة: هل هو مقدر أم هو فاقطعوا؟
فذهب إلى الأول سيبويه وقال: تقديره فيما فرض عليكم، أو فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمهما. وذهب المبرد والزجاج إلى الثاني.
ودخول الفاء لتضمين المبتدأ معنى الشرط. إذ المعنى: الذي سرق والتي سرقت «١».
وقرىء وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بالنصب على تقدير اقطعوا، ورجح هذه القراءة سيبويه. قال: الوجه في كلام العرب النصب كما تقول زيدا اضرب لكن العامة أبت إلا الرفع- يعني عامة القراء «٢».
والسرقة بكسر الراء: اسم الشيء المسروق، والمصدر من سرق يسرق سرقا.
قاله الجوهري «٣». وهو: أخذ الشيء في خفية من الأعين، ومنه استرق السمع وسارقه النظر.
والقطع: معناه الإبانة والإزالة. وجمع الأيدي لكراهة الجمع بين اثنتين.
وقد بينت السّنّة المطهرة أن موضع القطع الرسغ «٤».
(١) نقل ذلك القرطبي في «تفسيره» (٤/ ٢١٦٣) ط. دار الشعب، وردّ قول سيبويه بخمسة وجوه الرازي في «مفاتيح الغيب» (٦/ ١٠، ١١، ١٢).
(٢) قراءة النصب لعيسى بن عمر كما في «المصادر السابقة».
(٣) انظر: الصحاح ومختاره واللسان (سرق).
(٤) صحيح: ما ذكره الألباني في «إرواء الغليل» (٨/ ٨١). وذكر البخاري تعليقا عن الإمام علي أنه-
وقال قوم: يقطع من المرفق.
وقال الخوارج: من المنكب.
والسرقة لا بد أن تكون ربع دينار فصاعدا «١»، ولا بد أن تكون من حرز كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة «٢».
وقد ذهب إلى اعتبار ربع الدينار الجمهور، وذهب قوم إلى التقدير بعشرة دراهم، وذهب الجمهور إلى اعتبار الحرز.
وقال الحسن البصري: إذا جمع الثياب في البيت قطع.
وقد أطال الكلام في بحث السرقة أئمة الفقه وشراح الحديث بما لا يأتي التطويل به هاهنا بكثير فائدة «٣».
وقوله: جَزاءً بِما كَسَبا مفعول له، أي فاقطعوا للجزاء، أو مصدر مؤكد لفعل محذوف، أي مجازاة وهما جزاء، والباء سببية، وما مصدرية، أي: بسبب، أو موصولة، أي: جزاء الذي كسباه من السرقة.
[الآية الحادية عشرة]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢).
فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ فيه تخيير لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، بين الحكم بينهم والإعراض عنهم.
قطع من الكفّ (١٢/ ٩٦) وقال الحافظ: وصله الدارقطني. [.....]
(١) رواه البخاري (١٢/ ٩٦)، ومسلم (١١/ ١٨) عن عائشة مرفوعا.
(٢) ما رواه البيهقي في «الكبرى» (٨/ ٢٦٣) بإسناد حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كم تقطع اليدين فقال: «لا تقطع اليد في ثمر معلّق، فإذا ضمّه الجرين قطعت في ثمن المجن، ولا تقطع في حريشة الجبل، فإذا آوى المراح قطعت في ثمن المجن».
(٣) انظر في ذلك: جامع الأمهات (ص ٥١٩، ٥٢٢)، غاية المطلب (ص ٤٤٢، ٤٤٦)، الروضة الندية (٢/ ٢٧٦، ٢٨٠)، ترشيح المستفيدين (ص ٣٨٤، ٣٨٦)، كفاية الأخيار (ص ٤٨٣، ٤٨٧).
وقد استدل به على أن حكّام المسلمين مخيرون بين الأمرين.
وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم.
واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم: فذهب قوم إلى التخيير، وذهب آخرون إلى الوجوب، وقالوا: إن هذه الآية منسوخة بقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: ٤٩]، وبه قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي، وهو الصحيح من قول الشافعي، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء «١».
[الآية الثانية عشرة]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥).
... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧).
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ لفظ (من) من صيغ العموم، وتفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة، بل لكل من ولي الحكم. وقيل: إنها مختصة بأهل الكتاب «٢».
(١) انظر: تفسير الطبري (٦/ ٢٤٢، ٢٤٤)، والقرطبي (٦/ ١٨٤، ١٨٥)، مفاتيح الغيب (٦/ ٢٣، ٢٥)، معاني الزجاج (٢/ ١٩٢)، والنكت (١/ ٤٦٦)، وزاد المسير (٢/ ٣٥٨)، ولباب النقول (٩٢)، والمفردات للرّاغب (سحت ٣٣٠).
واختلف العلماء في هذه الآية أمنسوخة هي أم محكمة؟ ينظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (١٢٨)، والإيضاح لمكي (٢٣٤)، والنكت للماوردي (١/ ٤٦٨). والمصفّى لابن الجوزي (٢٠٤)، وزاد المسير (٢/ ٣٦١)، والقرطبي (٦/ ١٨٥)، والدر المنثور (٢/ ٢٨٤)، والبصائر للفيروزآبادىّ (١/ ١٨٠)، وابن العربي (٢/ ٢٠١).
(٢) انظر: زاد المسير (٢/ ٣٦٦)، وابن كثير (٢/ ٥٩).
266
وقيل: بالكفار مطلقا، لأن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبيرة.
وقيل: هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله وقع استخفافا أو استحلالا أو جحدا. والإشارة بقوله: فَأُولئِكَ إلى مِنْ والجمع باعتبار معناها، وكذلك ضمير الجماعة في قوله: هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤).
وأخرج [الفريابي] وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم- وصححه- والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس في قوله تعالى هذا قال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه وإنه ليس كفرا ينقل من الملة بل كفر دون كفر».
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن [عطاء] بن أبي رباح في قوله تعالى هذا.
وقوله: هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)، هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)، قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق «٢».
[الآية الثالثة عشرة] وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥).
وَكَتَبْنا: معناه فرضنا.
عَلَيْهِمْ فِيها: أي في التوراة.
أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ: بيّن الله سبحانه في هذه الآية فرضه على بني إسرائيل من القصاص، في النفس والعين والأنف والأذن والسن والجروح.
وقد استدلّ أبو حنيفة وجماعة من أهل العلم بهذه الآية فقالوا: إن المسلم يقتل
(١) انظر: السلسلة الصحيحة للألباني (٢٥٥٢) وصحّف الفريابي إلى العرماني وهو خطأ واضح، والفريابي هو أبو جعفر صاحب كتاب الذكر والقدر وفضائل القرآن وجزء أحاديث الطعام.
(٢) انظر أقوال أهل العلم في المسألة وترجيح قول ابن عباس، وهو الصواب والله أعلم.
في فتح القدير (٢/ ٤٥)، الدر المنثور (٣/ ٨٧)، والقرطبي (٤/ ٢١٨٧، ٢١٨٨) ط. الشعب، ومفاتيح الغيب للرازي (٦/ ٣٣، ٣٥).
267
بالذمي لأنه نفس، وقال الشافعي وجماعة من أهل العلم: إن هذه الآية خبر عن شرع من قبلنا وليس بشرع لنا.
وقد قدمنا في البقرة في شرح قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة: ١٧٨] ما فيه كفاية.
وقد اختلف أهل العلم في شرع من قبلنا: هل يلزمنا أم لا؟؟ فذهب الجمهور إلى أنه يلزمنا إذا لم ينسخ وهو الحق.
وقد ذكر ابن الصباغ في «الشامل» إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلّت عليه.
قال ابن كثير في «تفسيره» : وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة لعموم هذه الآية الكريمة. انتهى.
وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في شرحه على «المنتقى» وغيره في غيره «١».
وفي هذه الآية توبيخ لليهود، وتقريع لكونهم يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة- كما حكاه هنا- ويفاضلون بين الأنفس، كما سبق بيانه، وقد كانوا يقيدون بني النضير من بني قريظة، ولا يقيدون بني قريظة من بني النضير.
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ الظاهر من النظم القرآني، أن العين إذا فقئت، حتى لم يبق فيها مجال للإدراك، أنها تفقأ عين الجاني بها.
وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ: أي إذا جدعت جميعها فإنها يجدع أنف الجاني بها.
وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ: إذا قطعت جميعها فإنها تقطع أذن الجاني بها. وكذلك وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ.
فأما لو كانت الجناية ذهبت ببعض إدراك العين، أو ببعض الأنف، أو ببعض الأذن، أو ببعض السن، فليس في هذه الآية ما يدل على ثبوت القصاص.
(١) انظر في تحقيق المسألة: الطبري (٦/ ١٣٣)، النكت والعيون (١/ ٤٦١)، زاد المسير (٢/ ٣٤٥)، القرطبي (٦/ ١٥٠)، والتمهيد للأسنوي (ص ٤٤١)، وابن كثير (٢/ ٤٨)، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (١/ ١٥٣). ونيل الأوطار شرح منتقى الأخيار (٧/ ١٦٠)، وما بعدها، والروضة النّدية (٢/ ٣٠٠، ٣٠٢).
268
وقد اختلف أهل العلم في ذلك إذا كان معلوم القدر يمكن الوقوف على حقيقته وكلامهم مدون في كتب الفروع. والظاهر من قوله: وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ أنه لا فرق بين الثنايا والأنياب والأضراس والرباعيات، وأنه يؤخذ بعضها ببعض، ولا فضل لبعضها على بعض، وإليه ذهب أكثر أهل العلم كما قال ابن المنذر.
وخالف في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن تبعه. وكلامهم مدون في مواطنه ولكنه ينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو المماثل للسن المأخوذة من المجني عليه، فإن كانت ذاهبة فما يليها.
وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ أي ذوات قصاص.
وقد ذكر أهل العلم، أنه لا قصاص في الجروح التي يخاف منها التلف، ولا فيما كان لا يعرف مقداره عمقا أو طولا أو عرضا.
وقد قدّر أئمة الفقه أرش «١» كل جراحة بمقادير معلومة، وليس هذا موضع بيان كلامهم، ولا موضع استيفاء بيان ما ورد له أرش مقدر.
فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ: أي من تصدق من المستحقين للقصاص بالقصاص، بأن عفا عن الجاني، فهو كفارة للمتصدق، يكفر الله عنه به ذنوبه.
وقيل: إن المعنى هو كفارة للجارح، فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة لأن العفو يقوم مقام أخذ الحق منه، والأول أرجح لأن الضمير يعود- على هذا التفسير الآخر- إلى غير مذكور.
[الآية الرابعة عشرة]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨).
(١) الأرش هو: الدّية.
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ: أي بما أنزله إليك في القرآن، لاشتماله على جميع ما شرعه الله لعباده في جميع الكتب السابقة عليه.
وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ: أي أهواء أهل الملل السابقة.
عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ متعلق بلا تتبع، على تضمينه معنى لا تعدل أو لا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا لأهوائهم. وقيل: متعلق بمحذوف، أي لا تتبع أهواءهم عادلا أو منحرفا عن الحق.
وفي النهي له صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أن يتبع أهواء أهل الكتاب، ويعدل عن الحق الذي أنزله الله عليه فإن كل ملة من الملل تهوى أن يكون الأمر على ما هم عليه، وأدركوا عليه سلفهم، وإن كان باطلا منسوخا أو محرفا عن الحكم الذي أنزله الله على الأنبياء، كما وقع في الرجم «١» ونحوه مما حرفوه من كتب الله.
[الآية الخامسة عشرة]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧).
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ: الطيبات: هي المستلذات مما أحله الله لعباده، نهى الله الذين آمنوا عن أن يحرموا على أنفسهم شيئا منها، إما لظنهم أن في ذلك طاعة لله، وتقربا إليه، وأنه من الزهد في الدنيا، وقمع النفس عن شهواتها، أو لقصد أن يحرموا على أنفسهم شيئا مما أحله لهم، كما يقع من كثير من العوام من قولهم: حرام عليّ، وحرمته على نفسي، ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل تحت هذا النهي القرآني.
قال ابن جرير الطبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح. ولذلك رد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم التبتل على عثمان بن مظعون «٢»، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله لعباده، وأن
(١) حديث تحريف اليهود لآية رجم الزاني والزّانية رواه البخاري (٦/ ٦٣١)، (١٢/ ١٦٦)، ومسلم (١١/ ٢٠٨، ٢٠٩) عن عبد الله بن عمر مرفوعا.
(٢) حديث صحيح: رواه البخاري (٩/ ١١٧)، ومسلم (٩/ ١٧٦، ١٧٧).
الفضل والبر، إنما هو في فعل ما ندب الله عباده إليه، وعمل به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وسنّة لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فإذا كان ذلك كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشّعر والصوف على لباس القطن والكتان، إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء.
قال: فإن ظنّ ظانّ، أن الفضل في غير الذي قلنا، لأن في لباس الخشن وأكله، من المشقة على النفس، وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة طاعة فقد ظن خطأ وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه، وعونه لها على طاعة ربها، فلا شيء أضر للجسم من المطاعم الرديئة، لأنها مفسدة لعقله، ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته.
[الآية السادسة عشرة]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩).
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ: قد تقدم تفسير اللغو والخلاف فيه، في سورة البقرة «١».
فِي أَيْمانِكُمْ صلة يُؤاخِذُكُمُ. قيل: و (في) بمعنى (من).
والأيمان: جمع يمين.
وفي الآية دليل على أن أيمان اللغو لا يؤاخذ الله الحالف بها، ولا تجب فيها الكفارة. وقد ذهب الجمهور من الصحابة، ومن بعدهم إلى أنها قول الرجل: لا والله! وبلى والله في كلامه، غير معتقد لليمين، وبه فسّر الصحابة الآية، وهم أعرف بمعاني القرآن.
(١) انظر ما سبق من تفسير سورة البقرة آية (٢٢٥).
271
قال الشافعي: وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة.
وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ والعقد على ضربين: حسّي كعقد الحبل، وحكمي كعقد البيع واليمين، فاليمين المعقدة من عقد القلب ليفعلن أو لا يفعلن في المستقبل، أي ولكن يؤاخذكم بأيمانكم المعقدة، الموثقة بالقصد والنية، إذا حنثتم فيها.
وأما اليمين الغموس فهي يمين مكر وخديعة وكذب قد باء الحالف بإثمها وليست بمعقودة ولا كفارة فيها كما ذهب إليه الجمهور.
وقال الشافعي: هي يمين معقودة لأنها مكتسبة بالقلب، معقودة غير مقرونة باسم الله، والراجح الأول، وجميع الأحاديث الواردة في تكفير اليمين موجهة إلى المعقودة، ولا يدل شيء منها على الغموس بل ما ورد في الغموس إلا الوعيد والترهيب، وأنها من الكبائر، وفيها نزل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [آل عمران: ٧٧] الآية.
فَكَفَّارَتُهُ: هي مأخوذة من التكفير، وهو التستر وكذلك الكفر: هو الستر، والكافر هو الساتر، لأنها تستر الذنب وتغطيه، والضمير في كفارته راجع إلى ما في قوله: بِما عَقَّدْتُمُ.
إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ: المراد بالوسط هنا: المتوسط بين طرفي الإسراف والتقتير، وليس المراد به الأعلى- كما في غير هذا الموضع- أي أطعموهم من المتوسط مما تعتادون إطعام أهليكم منه، ولا يجب عليكم أن تطعموهم من أعلاه ولا يجوز لكم أن تطعموهم من أدناه، وظاهره أنه يجزىء إطعام عشرة حتى يشبعوا.
وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لا يجزىء إطعام العشرة غداء دون عشاء، حتى يغديهم ويعشيهم.
قال ابن عمر: هو قول أئمة الفتوى بالأمصار.
وقال الحسن البصري وابن سيرين: يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة، خبزا وسمنا، أو خبزا ولحما.
272
وقال عمر بن الخطاب وعائشة ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وميمون بن مهران وأبو مالك والضحاك والحكم ومكحول وأبو قلابة ومقاتل: يدفع إلى كل واحد من العشرة نصف صاع من برّ أو تمر.
وروي ذلك عن عليّ عليه السلام.
وقال أبو حنيفة: نصف صاع بر، وصاع مما عداه.
وقد أخرج ابن ماجه وابن مردويه عن ابن عباس قال: كفّر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بصاع من تمر، [وأمر] «١» الناس به، ومن لم يجد فنصف صاع من بر.
وفي إسناده عمر بن عبد الله الثقفي وهو مجمع على ضعفه.
وقال الدارقطني: متروك «٢».
أَوْ كِسْوَتُهُمْ: عطف على إطعام، قرىء بضم الكاف وكسرها، وهما لغتان مثل أسوة وإسوة.
والكسوة في الرجال: نصف على ما يكسو البدن ولو كان ثوبا واحدا، وهكذا في كسوة النساء، وقيل: الكسوة للنساء درع وخمار، وقيل: المراد بالكسوة ما تجزىء به الصلاة.
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ: أي إعتاق مملوك.
والتحرير: الإخراج من الرّق. ويستعمل التحرير في فك الأسير، وإعفاء المجهود بعمل عن عمله، وترك إنزال الضرر به، ولأهل العلم أبحاث في الرقبة التي تجزىء في الكفارة، وظاهر هذه الآية أنها تجزىء كل رقبة على أي صفة كانت! وذهب جماعة منهم الشافعي، إلى اشتراط الإيمان فيها قياسا على كفارة القتل.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ: أي من لم يجد شيئا من الأمور المذكورة، فكفارته صيام ثلاثة أيام، وقرىء متتابعات، حكي ذلك عن ابن مسعود وأبيّ، فتكون
(١) ما بين [] حرّف إلى (وكفر) والتصويب من سنن ابن ماجة.
والأثر رواه ابن ماجة (٢١١٢)، وقال البوصيري: في إسناده عمر بن عبد الله بن يعلى، ضعيف.
(٢) انظره في «الضعفاء والمتروكين» (٣٧٦) له. [.....]
273
هذه القراءة مقيدة لمطلق الصوم، وبه قال أبو حنيفة [والثوري] «١»، وهو أحد قولي الشافعي.
وقال مالك والشافعي- في قوله الآخر: يجزىء التفريق.
ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ: أي ذلك المذكور كفارة أيمانكم إذا حنثتم.
وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ: أمرهم بحفظ الأيمان، وعدم المسارعة إليها والحنث بها «٢».
[الآية السابعة عشرة] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠).
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: خطاب لجميع المؤمنين.
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ: وقد تقدم الميسر في البقرة.
وَالْأَنْصابُ: هي الأصنام المنصوبة للعبادة.
وَالْأَزْلامُ: قد تقدم تفسيرها في هذه السورة.
رِجْسٌ: يطلق على العذرة والاقذار، وهو خبر الخمر، وخبر المعطوف عليه محذوف.
مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ: صفة لرجس، أي كائن من عمل الشيطان، بسبب تحسينه لذلك وتزيينه له. وقيل: هو الذي كان عمل هذه الأمور بنفسه، فاقتدى به بنو آدم، والضمير في:
فَاجْتَنِبُوهُ، راجع إلى الرجس أو إلى المذكور.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) علة لما قبله.
قال في «الكشاف» «٣» : أكد تحريم الخمر والميسر وجوها من التأكيد، منها تصدر
(١) صحّفت إلى (الصوري) بالصاد وهو خطأ واضح.
(٢) انظر في تحقيق مسألة الأيمان: تفسير الطبري (٦/ ١٧، ٢١)، القرطبي (٦/ ٢٧٧)، وفتح القدير (٢/ ٧٢)، والدر المنثور (٧/ ١٥١)، مفاتيح الغيب (٦/ ١٢٠، ١٢٧)، الرّوضة النّدية (٢/ ١٧٣، ١٧٤).
(٣) للزمخشري (١/ ٦٤١، ٦٤٢).
274
الجملة بإنما، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «شارب الخمر كعابد الوثن» «١»، ومنها أنه جعلهما رجسا كما قال: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: ٣٠] ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان، لا يأتي منه إلا الشر البحت، ومنها أنه أمر بالاجتناب، ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحا كان الارتكاب خيبة ومحقة، ومنها أنه ذكر ما ينتج فيهما من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمر، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلوات. انتهى.
وهذه الآية دليل على تحريم الخمر، لما تضمنه الأمر بالاجتناب من الوجوب وتحريم الصد، ولما تقرر في الشريعة من تحريم قربان الرجس، فضلا عن جعله شرابا يشرب.
قال أهل العلم من المفسرين وغيرهم: كان تحريم الخمر بتدريج ونوازل كثيرة، لأنهم كانوا قد ألفوا شربها وحببها الشيطان إلى قلوبهم، فأول ما نزل في أمرها:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة: ٢١٩]، فترك عند ذلك بعض المسلمين شربها، ولم يتركه آخرون، ثم نزل قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى [النساء: ٤٣]، فتركها البعض أيضا، وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها البعض في غير أوقات الصلاة حتى نزلت هذه الآية إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ... ، فصارت حراما عليهم حتى كان يقول بعضهم: ما حرّم الله شيئا أشدّ من الخمر وذلك لما فهموه من التشديد فيما تضمنته هذه الآية من الزواجر، وفيما جاءت به الأحاديث الصحيحة من الوعيد لشاربها، وأنها من كبائر الذنوب «٢».
وقد أجمع على ذلك المسلمون إجماعا لا شك فيه ولا شبهة.
وأجمعوا أيضا على تحريم بيعها، والانتفاع بها، ما دامت خمرا «٣».
(١) صحيح: رواه أبو عبيد القاسم بن سلّام في «الإيمان» (١١٦).
(٢) انظر بعض الأحاديث الصحيحة الدّالة على ذلك في «الترغيب والترهيب» للمنذري (٣/ ١٩٧، ٢١٢)، وصحيح الجامع للألباني (٦٣٠٩)، (٦٣١٣).
(٣) حديث صحيح: ما رواه الترمذي (١/ ٢٤٣)، وابن ماجة (٣٣٨١) عن أنس مرفوعا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
«لعن رسول الله في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري له».
275
وكما دلت هذه الآية على تحريم الخمر، دلّت أيضا على تحريم الميسر والأنصاب والأزلام.
وقد رويت في سبب النزول روايات كثيرة موافقة لما ذكرناه «١».
وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم الخمر وشاربها، والوعيد الشديد عليه، وأن كل مسكر حرام «٢»، وهي مدونة في كتب الحديث فلا نطول المقام بذكرها، وقد بسطنا الكلام عليها في شرحنا «مسك الختام لبلوغ المرام» فليرجع إليه «٣».
[الآية الثامنة عشرة]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥).
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ: هذا النهي شامل لكل أحد من ذكور المسلمين وإناثهم لأنه يقال: رجل حرام وامرأة حرام، والجمع حرم، وأحرم الرجل:
دخل في الحرم.
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً: المتعمد هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام.
والمخطئ: هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا.
والناسي: هو الذي يعتمد الصيد ولا يذكر إحرامه.
وقد استدل ابن عباس وأحمد- في رواية عنه- وداود باقتصاره سبحانه على العامد بأنه لا كفارة على غيره، بل لا تجب إلا عليه وحده، وبه قال سعيد بن جبير وطاووس وأبو ثور.
(١) رواه ابن جرير (٧/ ٣٤)، والحاكم (٤/ ١٤٢)، والبيهقي (٨/ ٢٨٦)، وقال الهيثمي (٧/ ١٨) :
رواه الطبراني ورجاله رجال صحيح.
(٢) حديث صحيح: رواه مسلم (٦/ ١٠٠، ١٠١)، وأبو داود (٣٦٧٩)، والنسائي (٢/ ٣٢٥)، وأحمد في «المسند» (٢/ ٢٩).
(٣) وانظر: ابن قتيبة (١٤٦)، النكت (١/ ٤٨٥)، وزاد المسير (٢/ ٤٢٠)، والزجاج (٢/ ٢٢٧)، والقرطبي (٦/ ٣٠٠)، ابن كثير (٢/ ٩٧).
276
وقيل: إن الكفارة تلزم المخطئ والناسي كما تلزم المتعمد وجعلوا قيد التعمد خارجا مخرج الغالب، روي عن عمر والحسن والنخعي والزهري، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه، وروي عن ابن عباس.
وقيل: إنه يجب التكفير على العامد والناسي لإحرامه، وبه قال مجاهد. قال: فإن كان ذاكرا لإحرامه فقد حل، ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة، أو أحدث فيها.
فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ: أي فعليه جزاء مماثل لما قتله- ومن النعم: بيان للجزاء المماثل.
قيل: المراد بالمماثلة المماثلة في القيمة، وقيل: في الخلقة. وقد ذهب إلى الأول أبو حنيفة، وذهب إلى الثاني مالك والشافعي وأحمد والجمهور، وهو الحق لأن البيان للمماثل بالنعم يفيد ذلك، وكذلك يفيده هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ.
وروي عن أبي حنيفة أنه يجوز إخراج القيمة، ولو وجد المثل، وأن المحرم مخير، وقرىء: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ، وقرىء: فَجَزاءٌ مِثْلُ على إضافة جزاء إلى مثل «١».
يَحْكُمُ بِهِ: أي بالجزاء أو بمثل ما قتل.
ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ: أي رجلان معروفان بالعدالة بين المسلمين، فإذا حكما بشيء لزم، وإن اختلفا رجع إلى غيرهما.
ولا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين، وقيل: يجوز.
وبالأول قال أبو حنيفة، وبالثاني قال الشافعي- في أحد قوليه- وظاهر الآية يقتضي حكمين غير الجاني.
هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ: نصب هديا على الحال أو البدل من «مثل»، وبالغ الكعبة
(١) قال أبو منصور: «قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «فجزاء مثل ما» مضافا، وقرأ الباقون «فجزاء مثل ما» منونا».
وقال: من قرأ (فجزاء مثل) فعلى الإضافة والمضاف إليه مكسور، وممن قرأ (فجزاء مثل ما) جعل (مثل) نعتا للجزاء والمعنى: فعليه جزاء مثل ما قتل من النّعم. (معاني القراءات ص ١٤٥) بتحقيقنا ط. دار الكتب العلمية- بيروت.
277
صفة لهدي، لأن الإضافة غير حقيقة.
والمعنى أنهما إذا حكما بالجزاء، فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإرسال إلى مكة، والنحر هنالك، والإشعار والتقليد. ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها.
وإنما أراد الحرم، ولا خلاف في هذا.
أَوْ كَفَّارَةٌ: معطوف على محل من النعم، وهو الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف.
طَعامُ مِسْكِينٍ: عطف بيان لكفارة أو بدل منه، أو خبر مبتدأ محذوف.
أَوْ عَدْلُ ذلِكَ: معطوف على طعام، وقيل: هو معطوف على جزاء، وفيه ضعف! والجاني غير مخير بين هذه الأنواع المذكورة، وعدل الشيء: ما عادله من غير جنسه.
صِياماً: منصوب على التمييز.
وقد قدّر العلماء عدل كل صيد من الإطعام والصيام، وقد ذهب إلى أن الجاني مخيّر بين هذه الأنواع المذكورة جمهور العلماء.
وروي عن ابن عباس أنه لا يجزىء المحرم الإطعام والصوم إلا إذا لم يجد الهدي.
والعدل بفتح العين وكسرها، لغتان وهما المثل، قاله الكسائي.
وقال الفرّاء: عدل الشيء، بكسر العين: مثله من جنسه، وبفتح العين: مثله من غير جنسه. ومثل قول الكسائي قال البصريون «١».
[الآية التاسعة عشرة] أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦).
(١) في تفسير وتحقيق الأقوال لهذه الآية انظر: زاد المسير (٢/ ٤٢٢، ٤٢٥)، القرطبي (٦/ ٣٠٥، ٣١٥)، ابن كثير (٢/ ١٠٠) مفاتيح الغيب (٦/ ١٣٧، ١٥١)، وجامع الأمهات (ص ٢١٥، ٢١٦)، وغاية المطالب (ص ١٣١، ١٣٢)، كفاية الأخيار (ص ٢٢٣)، الروضة النّدية للمصنف (١/ ٢٥٥). والناسخ والمنسوخ للقاضي ابن العربي (٢/ ٢٠٤).
278
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ: الخطاب لكل مسلم، أو للمحرمين خاصة.
وصيد البحر: ما يصاد فيه.
والمراد بالبحر هنا: كل ماء يوجد فيه صيد بحري، وإن كان بئرا أو غديرا.
وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ: الطعام اسم لكل ما يطعم، وقد تقدم. وقد اختلف في المراد به هنا، فقيل: هو ما قذف به البحر وطفا عليه، وبه قال كثير من الصحابة والتابعين. وقيل: طعامه ما ملح منه وبقي، وبه قال جماعة، وروي عن ابن عباس.
وقيل: طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه سائر ما فيه من النبات وغيره، وبه قال قوم.
وقيل: المراد به ما يطعم من الصيد، أي ما يحل أكله، وهو السمك فقط، وبه قالت الحنفية.
والمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وأحل لكم المأكول منه وهو السمك فيكون كالتخصيص بعد التعميم، وهو تكلف لا وجه له. ونصب متاعا على أنه مصدر، أي متّعتم به متاعا، وقيل: مفعول به مختص بالطعام، أي أحل لكم طعام البحر متاعا، وهو تكلف جاء به من قال بالقول الأخير بل إذا كان مفعولا له كان من الجميع، أي أحل لكم مصيد البحر وطعامه تمتيعا لكم، أي لمن كان مقيما منكم يأكله طريا. وللسيارة أي المسافرين منكم، يتزودونه، ويجعلونه قديدا. وقيل: السيارة:
هم الذين يركبونه خاصة.
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً أي حرم عليكم ما يصاد في البر ما دمتم محرمين، وظاهره تحريم صيده على المحرم ولو كان المصيد حلالا، وإليه ذهب الجمهور، إن كان الحلال صاده للحرم، لا إذا كان لم يصده لأجله، وهو القول الراجح، وبه يجمع بين الأحاديث، وقيل: إنه يحل مطلقا، وإليه ذهب جماعة، وقيل:
يحرم عليه مطلقا، وإليه ذهب آخرون.
وقد بسط الشوكاني هذا في «شرحه للمنتقى» «١».
(١) انظر: نيل الأوطار (٥/ ٨٦، ٩٣)، باب منع المحرم من أكل لحم الصيد إلا إذا لم يصد لأجله، ولا أعان عليه.
279

[الآية العشرون]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥).
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ: أي ألزموا أنفسكم واحفظوها. كما تقول:
عليك زيدا أي الزمه.
لا يَضُرُّكُمْ: قرىء بالجزم على أنه جواب الأمر الذي يدل عليه اسم الفعل.
وقرأ نافع بالرفع على أنه مستأنف، أو على أن ضم الراء للاتباع. وقرىء بكسر الضاد. وقرىء: لا يضيركم «١».
مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ: يعني لا يضركم ضلال من ضل من الناس إذا اهتديتم للحق أنتم في أنفسكم، وليس في الآية ما يدل على سقوط الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإن من تركه- مع كونه من أعظم الفروض الدينية- فليس بمهتد، وقد قال الله سبحانه: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ.
وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبا مضيقا متحتما فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لا يظن التأثير بحال من الأحوال، أو يخشى على نفسه أن يحل به ما يضره ضررا يسوغ له معه الترك.
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي- وصححه- والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والدارقطني، وأيضا في «المختارة» وغيرهم عن قيس بن أبي حازم قال: قام أبو بكر فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
(١) انظر الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢/ ٢٠٤، ٢٠٧)، والأحكام له (٢/ ٧٠٢)، والطبري (٧/ ٧٥)، القرطبي (٤/ ٢٣٣٩) ط. دار الشعب، مفاتيح الغيب (٦/ ١٦٩، ١٧٢).
280
وإنكم تضعونها في غير مواضعها!! وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب» «١».
وأخرج الترمذي- وصححه- وابن ماجه وابن جرير والبغوي في معجمه وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم- وصححه- وابن مردويه والبيهقي في «الشعب» عن أبي أمية [الشعباني] قال: «أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم» «٢».
وفي رواية عن عامر الأشعري في هذه الآية، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أين ذهبتم؟! إنما هي لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم»، رواه أحمد والطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه «٣».
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
(١) حديث صحيح: رواه أحمد في «المسند» (١/ ١٦، ٢٩، ٣٠، ٥٣)، وأبو داود (٤٣٣٨)، والترمذي (٢١٦٨)، (٣٠٥٧)، وابن ماجة (٤٠٠٥)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (٨/ ٦٦٧، ٦٦٨)، والحميدي (٣) وابن جرير (١٢٨٧٦)، (١٢٨٧٨)، وابن حبان (٣٠٤)، (٣٠٥)، والطحاوي في «المشكل» (٢/ ٦٢، ٦٤)، عن أبي بكر الصديق مرفوعا. [.....]
(٢) إسناده ضعيف: رواه أبو داود (٤٣٤١)، والترمذي (٣٠٥٨)، وابن ماجة (٤٠١٤)، والبغوي في «شرح السنة» (١٤/ ٣٤٧، ٣٤٨)، والطبراني في «الكبير» (٢٢/ ٢٢٠)، (٥٨٧)، وابن جرير (١٢٨٦٢)، (١٢٨٦٣)، وأبو نعيم (٢/ ٣٠)، والطحاوي في «المشكل» (٢/ ٦٤، ٦٥)، والبيهقي في «السنن» (١٠/ ٩٢) وقال أبو عيسى: حسن غريب.
والشعباني: حرّفت إلى الشيباني في «المطبوعة» وهو خطأ.
(٣) حديث صحيح: رواه أحمد (٤/ ١٢٩، ٢٠١، ٢٠٢)، والطبراني في «الكبير» (٢٢/ ٣١٧)، (٧٩٩) عن أبي عامر الأشعري مرفوعا.
وقد قال الهيثمي (٧/ ١٩) :«رجالهما ثقات إلا أني لم أجد لعليّ بن مدرك سماعا من أحد من الصحابة».
قلت: بل سمع من أبي مسعود البدري وعامر ومن غيرهما كما في «ثقات ابن حبان» (٣/ ١٨٠).
281
والطبراني وأبو الشيخ عن الحسن أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ قال: يا أيها الناس إنه ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان، تأمرون بالمعروف، فيصنع بكم كذا وكذا- أو قال: فلا يقبل منكم-، فحينئذ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ... الآية «١».
وفي لفظ عنه قال: «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما لم يكن من دون ذلك السوط والسيف فإذا كان كذلك فعليكم أنفسكم» «٢».
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر أنه قال: في هذه الآية: إنها لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم «٣».
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: ذكرت هذه الآية عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال نبي الله: «لم يجىء تأويلها لا يجىء تأويلها حتى يهبط عيسى ابن مريم عليه السلام» «٤».
والروايات في هذا الباب كثيرة. وفيما ذكرنا كفاية، ففيه ما يرشد إلى ما قدمناه من الجميع بين هذه الآية وبين الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(١) إسناده ضعيف: رواه الطبري في «تفسيره» (١٢٨٤٨)، (١٢٨٤٩)، (١٢٨٥٠)، (١٢٨٥٥)، والطبراني في «الكبير» (٩/ ٢٢١)، (٩٠٧٢).
وقال الهيثمي (٧/ ١٩) :«رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، إلا أن الحسن البصري لم يسمع من ابن مسعود، والله أعلم».
(٢) إسناده ضعيف جدا: رواه سعيد بن منصور في «سننه» (٤/ ١٦٥٦)، عن ابن مسعود. وعلته:
جويبر بن سعد قال ابن حيان فيه: يروي عن الضحاك أشياء مقلوبة، قد رواه عن الضحاك، وهو كثير الإرسال.
(٣) إسناده ضعيف: رواه الطبري (١٢٨٥١). وعلته: الربيع بن صبيح السعدي، ضعّفه النسائي وابن معين والحافظ ابن حجر.
(٤) أورده السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٢١٧) وعزاه لابن مردويه فقط.
282
[الآيات: الحادية والثانية والثالثة والعشرون] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨).
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: قال مكيّ: هذه الآيات الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا، ومعنى، وحكما.
قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها وذلك بين من كتابه- رحمه الله- يعني من كتاب مكي.
قال القرطبي «١» : ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا.
قال السعد في حاشيته على «الكشاف» : واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعرابا، ونظما، وحكما.
شَهادَةُ بَيْنِكُمْ: إضافة الشهادة في البين توسعا لأنها جارية بينهم وقيل: أصله شهادة ما بينكم، فحذفت (ما) أو أضيفت إلى الظرف كقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: ٣٣]، ومنه قوله تعالى: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: ٧٨].
قيل: والشهادة هنا بمعنى الوصية، وقيل: بمعنى الحضور للوصية.
وقال ابن جرير الطبري «٢» : هي هنا بمعنى اليمين، فيكون المعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان. واستدل على ما قاله بأنه لا يعلم لله حكما يجب فيه على الشاهد يمين.
واختار هذا القول القفال، وضعف ذلك ابن عطية، واختار أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود.
(١) انظره في تفسيره (٦/ ٣٤٦).
(٢) انظره في «جامع البيان» له (٧/ ١٠٢).
283
وإِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ: ظرف للشهادة، والمراد إذا حضرت علاماته، لأن من مات لا يمكنه الإشهاد، وتقديم المفعول للاهتمام، ولكمال تمكن الفاعل عند النفس.
حِينَ الْوَصِيَّةِ: ظرف لحضر، أو للموت، أو بدل من الظرف الأول.
اثْنانِ: خبر شهادة على تقدير محذوف، أي شهادة اثنين، أو فاعل للشهادة على أن خبرها محذوف، أي فيما فرض عليكم شهادة بينكم اثنان، على تقدير أن يشهد اثنان. ذكر الوجهين أبو علي الفارسي.
ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ: صفة للاثنين، وكذا منكم، أي كائنان منكم، أي من أقاربكم.
أَوْ آخَرانِ معطوف على اثنان.
ومِنْ غَيْرِكُمْ صفة له، أي كائنان من الأجانب. وقيل: إن الضمير في مِنْكُمْ للمسلمين وفي غَيْرِكُمْ للكفار، وهو الأنسب بسياق الآية وبه قال أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عباس وغيرهما.
فيكون في الآية، دليل على جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر، في خصوص الوصايا، كما يفيده النظم القرآني ويشهد له سبب النزول «١»، فإذا لم يكن مع الموصي من يشهد على وصيته من المسلمين، فليشهد رجلان من أهل الكفر فإذا قدما وأدّيا الشهادة على وصيته، حلفا بعد العصر أنهما ما كذبا ولا بدّلا، وأن ما شهدا به حق، فيحكم به حينئذ بشهادتهما.
فإن [عثر] «٢» بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا، حلف رجلان من أولياء الموصي وغرّم الشاهدان الكافران ما ظهر عليهما من خيانة أو نحوهما، هذا معنى الآية عند من تقدم ذكره، وبه قال سعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبو مجلز والنخعي وشريح وعبيد السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي والثوري وأبو عبيد وأحمد بن حنبل.
(١) صحيح: رواه البخاري (٦/ ٣٣٩)، والترمذي (٤/ ١٠١)، وأبو داود (٣/ ٣٣٧)، وابن جرير (٧/ ١٥)، والبيهقي (١٠/ ١٦٥).
(٢) حرّف في «المطبوعة» إلى (عنته) وهو خطأ واضح، وصوّبنا من «فتح القدير» (٢/ ٨٦).
284
وذهب إلى الأول- أعني تفسير ضمير (منكم) بالقرابة أو العشيرة، وتفسير من (غيركم) بالأجانب- الزهري والحسن وعكرمة.
وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من الفقهاء، إلى أن الآية منسوخة! واحتجوا بقوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ [البقرة: ٢٨٢]، وقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: ٢] والكفار ليسوا بمرضيين ولا عدول.
وخالفهم الجمهور فقالوا: الآية محكمة وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ.
وأما قوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ، وقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فهما عامّان في الأشخاص والأزمان والأحوال، وهذه الآية خاصة بحال الضرب في الأرض، وبالوصية، وبحالة عدم الشهود المسلمين ولا تعارض بين عام وخاص.
إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ: فاعل فعل محذوف يفسره ضَرَبْتُمْ، أو مبتدأ وما بعده خبره. والأول مذهب الجمهور من النحاة، والثاني مذهب الأخفش والكوفيين.
والضرب في الأرض: هو السفر.
فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ: معطوف على ما قبله، وجوابه محذوف، أي إن ضربتم في الأرض، فنزل بكم الموت، وأردتم الوصية، ولم تجدوا شهودا عليها مسلمين، ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم، وبما تركتم، فارتابوا في أمرهم، أو ادّعوا عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما.
ويجوز أن يكون استئنافا لجواب سؤال مقدر، كأنهم قالوا: فكيف نصنع إن ارتبنا في الشهادة؟ فقال:
تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ: إن ارتبتم في شهادتهما. وخص بعد الصلاة، أي صلاة العصر- قاله الأكثر- لكونه الوقت الذي يغضب الله على من حلف فيه فاجرا كما في الحديث الصحيح «١»، وقيل: لكونه وقت اجتماع الناس، وقعود الحكام للحكومة، وقيل: صلاة الظهر، وقيل: أي صلاة كانت.
قال أبو علي الفارسي: يحبسونهما صفة لآخران، واعترض بين الصفة والموصوف
(١) حديث صحيح: رواه البخاري (٥/ ٤٣)، (١٣/ ٤٢٣، ٤٢٤)، ومسلم (٢/ ١١٦، ١١٧).
285
بقوله: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ.
والمراد بالحبس: توقيف الشاهدين في ذلك الوقت لتحليفهما، وفيه دليل على جواز الحبس بالمعنى العام، وعلى جواز التغليظ على الحالف بالزمان والمكان ونحوهما.
فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ: معطوف على يحبسونهما، أي يقسم بالله الشاهدان على الوصية أو الوصيات.
وقد استدل بذلك ابن أبي ليلى على تحليف الشاهدين مطلقا إذا حصلت الريبة في شهادتهما، وفيه نظر لأن تحليف الشاهدين هنا إنما هو بوقوع الدعوى عليهما بالخيانة أو نحوها.
إِنِ ارْتَبْتُمْ: جواب هذا الشرط محذوف، دل عليه ما تقدم كما سبق.
لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً: جواب القسم، والضمير في به راجع إلى الله تعالى، والمعنى لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض النزر فنحلف به كاذبين، لأجل المال الذي ادعيتموه علينا، وقيل: يعود إلى القسم، أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من أعراض الدنيا. وقيل: يعود إلى الشهادة، وإنما ذكر الضمير لأنها بمعنى القول. أي لا نستبدل بشهادتنا ثمنا.
قال الكوفيون: المعنى ذا ثمن، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا مبني على أن العروض لا تسمى ثمنا، وعند الأكثر أنها تسمى ثمنا كما تسمى مبيعا.
وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى: أي ولو كان المقسم له، أو المشهود له قريبا، فإنا نؤثر الحق والصدق، ولا نؤثر العرض الدنيوي ولا القرابة. وجواب (لو) محذوف لدلالة ما قبلها عليه، أي ولو كان ذا قربى لا نشتري به ثمنا.
وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ: معطوف على لا نَشْتَرِي داخل معه في حكم القسم، وأضاف الشهادة إلى الله سبحانه، لكونه الآمر بإقامتها، والناهي عن كتمها.
إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦).
فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً: عثر على كذا: اطلع عليه. يقال: عثرت منه على خيانة، أي اطلعت، وأعثرت غيري عليه. ومنه قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ
286
[الكهف: ٢١]. وأصل العثور: الوقوع والسقوط على الشيء.
والمعنى أنه إذا اطلع، بعد التحليف، على أن الشاهدين أو الوصيين استحقا إثما:
أي استوجبا إثما، إما لكذب في الشهادة، أو اليمين، أو لظهور خيانة.
قال أبو عليّ الفارسي: الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ لأن آخذه يأثم بأخذه.
يسمّى إثما كما سمّي ما يؤخذ بغير حق مظلمة.
وقال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر.
فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما: أي فشاهدان آخران، أو حالفان آخران، فيقومان مقام اللذين عثر على أنهما استحقا إثما، فيشهدان أو يحلفان على ما هو الحق، وليس المراد أنهما يقومان مقامهما في أداء الشهادة التي شهدها المستحقان للإثم.
مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ: استحق مبني للمفعول في قراءة الجمهور.
وقرأ علي وأبيّ وابن عباس وحفص على البناء للفاعل. والأوليان- على القراءة الأولى- مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هما الأوليان. كأنه قيل: من هما؟ فقيل هما الأوليان. وقيل: هو بدل من الضمير في يقومان، أو من آخران.
وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة: الأوّلين جمع أول على أنه بدل من الّذين، أو من الهاء والميم في عليهم.
وقرأ الحسن: الأولان، والمعنى على بناء الفعل للمفعول من الذين استحق عليهم الإثم: أي جنى عليهم، وهم أهل الميت وعشيرته فإنهم أحق بالشهادة أو اليمين من غيرهم. فالأوليان تثنية أولى والمعنى- على قراءة البناء للفاعل- من الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة، ويظهروا بما كذب الكاذبين، لكونهما الأقربين إلى الميت «١».
فالأوليان فاعل استحق، ومفعوله أن تجردوهما للقيام بالشهادة. وقيل: المفعول محذوف، والتقدير: من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها.
(١) انظر توجيه ابن جني للقراءات في هذه الآية من كتابه «المحتسب» (١/ ٢٢٠، ٢٢٢) ط. المجلس الأعلى- القاهرة.
287
فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ: عطف على يقومان، أي فيحلفان بالله.
لَشَهادَتُنا أي يميننا. فالمراد بالشهادة هنا اليمين، كما في قوله: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ [النور: ٦] أي يحلفان: لشهادتنا على أنهما كاذبان خائنان.
أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أي من يمينهما على أنهما صادقان أمينان.
وَمَا اعْتَدَيْنا: أي تجاوزنا الحق في يميننا.
إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) إن كنا حلفنا على باطل.
ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها: أي ذلك البيان الذي قدمه الله سبحانه، في هذه القصة وعرفنا كيف يصنع من أراد الوصية في السفر، ولم يكن عنده أحد من أهله وعشيرته وعنده كفار.
وأَدْنى: أي أقرب إلى أن يؤدي الشهود المتحملون للشهادة على الوصية بالشهادة على وجهها، فلا تحرفوا، ولا تبدلوا، ولا تخونوا، وهذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر المنفعة والفائدة في هذا الحكم الذي شرعه الله في هذا الموضع من كتابه، فالضمير في يأتوا عائد إلى شهود الوصية من الكفار، وقيل: إنه راجع إلى المسلمين المخاطبين بهذا الحكم.
والمراد تحذيرهم من الخيانة، وأمرهم بأن يشهدوا بالحق.
أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ: أي ترد على الورثة فيحلفون على خلاف ما يشهد به شهود الوصية، فيفتضح حينئذ شهود الوصية. وهو معطوف على قوله: أَنْ يَأْتُوا، فتكون الفائدة في شرع الله سبحانه لهذا الحكم في أحد الأمرين:
إما احتراز لشهود الوصية عن الكذب والخيانة، فيأتون بالشهادة على وجهها.
أو يخافوا الافتضاح إذا ردت الأيمان على قرابة الميت، فحلفوا بما يتضمن كذبهم أو خيانتهم فيكون ذلك سببا لتأدية شهادة شهود الوصية على وجهها من غير كذب ولا خيانة. وقيل: أن يخافوا معطوف على مقدر بعد الجملة الأولى، والتقدير: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة بسبب الكذب والخيانة، أو يخافوا الافتضاح برد اليمين، فأيّ الخوفين وقع حصل المقصود.
حاصل ما تضمنه هذا المقام من الكتاب العزيز: أن من حضرته علامات الموت
288
أشهد على وصيته عدلين من عدول المسلمين، فإن لم يجد شهودا مسلمين- وكان في سفره- ووجد كفارا، جاز له أن يشهد رجلين منهم على وصيته، فإن ارتاب بهما ورثة الموصي حلفا بالله على أنهما شهدا بالحق، وما كتما من الشهادة شيئا، ولا أخفيا مما تركه الميت شيئا، فإن تبين بعد ذلك خلاف ما أقسما عليه، من خلل في الشهادة، أو ظهور شيء من تركه الميت، زعما أنه قد صار في ملكهما بوجه من الوجوه، حلف رجلان من الورثة، وعمل بذلك «١». والله أعلم.
(١) انظر في تفسير وتحقيق الأقوال في هذه الآية: التبيان للعكبري (١/ ٢٣١)، الطبري (٧/ ٦٧)، زاد المسير (٢/ ٤٤٣، ٤٥٣)، والزجاج (٢٣٦)، النكت (١/ ٤٩٥)، القرطبي (٦/ ٣٤٦)، وابن كثير (٢/ ١١١)، اللباب (٩٩)، الدر المنثور (٢/ ٣٤١)، مفاتيح الغيب (٦/ ١٧٢، ١٨٢)، الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢/ ٢٠٧، ٢٠٩)، والأحكام له (٢/ ٧٠٥، ٧٢٥).
289
Icon